البنا والهضيبي.. وأخلاقيات النقد والحوار 6

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
البنا والهضيبي.. وأخلاقيات النقد والحوار 6

أ.د/جابر قميحة

مقدمة

الحلقة( 7 )و(الأخيرة)

«التدمير الماحق».

الاستاذ احمد منصور

وقد نقضنا هذا الحكم المنصوري في مقالاتنا السابقة, ولكن أحمد -للحق- أثني علي الإمام الشهيد حسن البنا بما هو به جدير, ولم يدر أحمد أن التشكيك في قدرات المرشد الثاني, بل إنكار هذه القدرات إنكارًا فادحًا, ووصفه بعدد من الصفات السيئة منها: العجرفة, والتكبر, والغرور, وضيق الأفق, والأمية السياسية.. إلخ.. لم يدر أحمد, أو نسي, أو تناسي أن هذه «التجريحات المنصورية» لو صحت لانصرفت كذلك إلي الأستاذ البنا, لأنه كان يثني علي الهضيبي صراحة.. شفاهة وكتابة, وكان دائمًا يلجأ إليه في كل ما يهم الجماعة.. يستشيره, ويأخذ برأيه في وقت كانت الجماعة تمر فيه بأعتي المحن, وأشد الشدائد, وما اختار الإمام الشهيد هذا الرجل لهذه الأمور إلا لسلامة دينه, وحصافة عقله, وسعة أفقه, وتاريخه الوطني, وسلوكه القضائي المشرف. فهل نأخذ برؤية أحمد منصور, أم برؤية الإمام الشهيد حسن البنا في تقييم حسن الهضيبي ؟! وقد كان الأستاذ البنا رحمه الله ذكيًا ثاقب النظر, يعرف معادن الرجال, فكان كما قال الشاعر:

الألمعي الذي يظن بك الظنـ

ـن كأنْ قد رأي وقد سمعا

إحصائية.. كاذبة

وحرصا من أحمد منصور علي الإيهام بأن الأستاذ الهضيبي تولي قيادة الإخوان, وظل في هذه القيادة علي غير قبول منهم يزعم أن ستين في المائة (60%) من أعضاء الهيئة التأسيسية كانوا ضد بقائه مرشدًا, وأن أكثر من نصف أعضاء الجماعة كانوا مع عبد الناصر, ويتعاطفون معه.

إحصائية كاذبة.. «مضروبة» -والله- يا أحمد منصور؛ لأنها لو صحت لحُسم الأمر, وأقيل المرشد, لأن الستين في المائة تمثل أغلبية من ناحية, وهي أغلبية يغذيها, ويقف معها, ويحميها عبد الناصر بكل ما يملك من سلطان.

وهناك واقعة تكشف عن غدر عبد الناصر, واستخدامه لعدد قليل من أعضاء الجمعية التأسيسية لا يزيدون بأية حال علي ثمانية أعضاء, أطلقهم في المدن المصرية لتجميع التوقيعات علي عريضة تطالب بإقالة حسن الهضيبي. والواقعة التي شاهدتها تتلخص في أن الطبيب محمد طلبة زايد -عضو الهيئة التأسيسية- وقد كان يقيم في «ميت عاصم» مركز دكرنس ب الدقهلية حضر إلي المنزلة -بلدنا- وجلس مع الأستاذ عبد الرحمن جبر -رئيس منطقة الإخوان بالمنزلة, وعضو الهيئة التأسيسية- وأخذ يتحدث إليه قرابة نصف ساعة بلطف وهدوء (وكان معروفا بقدرته الكلامية), ورأيت الأستاد عبد الرحمن جبر يوقع على ورقة طويلة (بشكل لافت للنظر) وانصرف الطبيب طلبة زائد.

وبعد يومين نشرت صحيفة «الجمهورية» صورة عريضة إقالة الهضيبي وتحتها عدد من توقيعات أعضاء الهيئة التأسيسية. وحملتُ الصحيفة وذهبت إلي الأستاذ عبد الرحمن جبر, ورأي توقيعه علي المنشور, لم يتكلم الرجل, ولكني رأيت الدموع في عينيه, وأخذ يردد بصوت خفيض: لقد خدعني طلبة زايد.. لقد خدعني. ورأيت شفتي الرجل ترتعشان. فلم أنطق بكلمة..

ثم علمت بحقيقة هذا الخداع في اليوم التالي من الأستاذ محمد قاسم صقر رئيس شعبة الإخوان بالمنزلة, ومسئول الجوالة فالكلام الذي وقع عليه الأستاذ عبد الرحمن جبر مختلف تماما عن المنشور في الصحيفة وتحته توقيعه. كيف تم هذا؟ قال الأستاذ محمد قاسم : كان هناك ورقتان.. الورقة التحتية أطول من الورقة الأولي التي تتضمن دعوة إلي التوحد وتماسك الصف الإخواني, والعفو عما سلف، وعليها عدد من التوقيعات يظهر أنها مخترعة, ووقع الأستاذ جبر علي الورقة التحتية (الثانية) في جزئها الأسفل وهي التي تحمل الدعوة إلي إقالة الهضيبي. هذا وقد قص عليّ الدكتور عبد اللطيف عامر -رئيس قسم الشريعة بجامعة الزقازيق- قصة مشابهة, وهذا يذكرنا بالدجال الذي يخدع الناس بلعبة «التلات ورقات».

أما احتلال المركز العام فقد حدث من قلة, سرعان ما لاذت بالفرار قبل أن يزحف ألوف الإخوان لتجديد البيعة للهضيبي, والقلة التي اقتحمت منزله يطالبونه بالاستقالة تبينوا خطيئتهم, فتابوا, وأنابوا, واعتذروا, وبعضهم بكي بين يدي الأستاذ الهضيبي وعاد أغلبهم لصفوف الجماعة.

رحلة المرشد إلي سوريا

حتي الرحلة التي قام بها الأستاذ الهضيبي إلي سوريا والأردن يري فيها أحمد منصور «هروبا من المعركة, وتخليا عن إخوان مصر في أشد الأوقات حرجًا».

سامحك الله يا سيد أحمد!! كيف يعد هذا هروبا والرجل لم يقم في سوريا والأردن إلا أسبوعين أو ثلاثة, أي أنها كانت مجرد زيارة لوطن شقيق. أليس من حق المرشد الجديد -وهو مرشد كل الإخوان - أن يتعرف علي الإخوان, وأن يتعرف عليه الإخوان خارج مصر ؟ وقد كان موضع حفاوتهم بصورة فاقت الوصف, حتي من غير الإخوان والشخصيات الرسمية.

وقد كان للرجل هدف آخر من هذه الرحلة, لم يعلن عنه علي مستوي الإخوان جميعًا, وهو الحرص علي تخفيف حدة التوتر الذي بلغ أقصي مداه بين الإخوان وحكومة الانقلاب الناصري.

اختفاء المرشد...

المستشار حسن الهضيبى

ويري أحمد أن اختفاء المرشد يعد هروبا من المسئولية, ويقول بالحرف الواحد «حينما اختفي المرشد ضاع الإخوان وإحقاقًا للحق أقول إن من الإخوان المخلصين من رأي في هذا الاختفاء مأخذًا يُسَجل علي المرشد, ومن هؤلاء الأستاذ أحمد عبد الحليم رحمه الله. ولكنه لم ينزل إلي مستوي أحمد منصور الذي قال في سخرية مرفوضة «اختفي مرشد الإخوان, يخاف وينسحب.. هه!! أين إذن الموت في سبيل الله أسمي أمانينا؟».. وفي هذا السياق أسجل النقاط الآتية:

1- لم يختف المرشد إلا بطلب وإلحاح من كثير من الإخوان ، واختفي معه من القياديين حسن عشماوي وصلاح شادي.

2- لم ينقطع الرجل باختفائه عن إدارة الجماعة فيما جدّ من أمور ومسائل ذات أهمية (انظر ريتشارد ميشيل: الإخوان المسلمون ص271).

3- كان الرجل معرضًا للاغتيال في أية لحظة, ولا يستبعد أن ينسب عبد الناصر الجريمة إلي «الخارجين» علي الهضيبي . وهذا مستساغ في نظر عبد الناصر. كتب محمود عبد الحليم في لقائه بعبد الناصر كواحد من لجنة مصالحة «.. رأيت في قسمات وجه عبد الناصر, وفي توقد عينيه ما يكاد يخيل إلينا أن لو كان الأستاذ المرشد أمامه لأطاح برأسه شفاء لما يتأجج في صدره من غضب منه وحقد عليه».

4- كان حسن الهضيبي أحرص علي سلامة الدعوة من سلامته الشخصية.. ولو كان ممن يبغي سلامته بأي حساب لاستقال, أو هادن حكام الدكتاتورية من عبد الناصر ورفاقه.

5- من حق المسلم ألا يعرّض نفسه للبلاء, إذا لم يكن في ذلك تضحية بالدين أو الشرف أو حقوق الآخرين. ومن قبل حاول الإمام البنا -وقد رأي ضراوة الحاكمين- أن يقيم في عزبة أحد الإخوان بعيدًا عن القاهرة وما فيها من فتن واضطهادات, أو أن يرحل إلي بلد عربي يقيم فيه, أو تعتقله الحكومة مع إخوانه, فقوبلت عروضه كلها بالرفض, ولا يتسع المقام للحديث عن الهجرة النبوية, وهجرة موسي عليه السلام, عندما تآمر عليه أعداؤه, وخروج مريم بطفلها إلي مصر توقيًا للأخطار التي تتهددها وطفلها الوليد.

6- والجو العام في القاهرة بالذات كان ينذر بالخطر الفادح, مما يجعل اغتيال المرشد أمرًا لا يُستبعد من عبد الناصر ورجاله..

أخطر ما قاله منصور

ولكن أخطر ما طرحه أحمد منصور, وأدعوه أن يرجع عنه, ويستغفر الله منه كلماته الآتية:

1- الإخلاص وحسن النية والأخلاقيات لا تصلح لقيادة الشعوب, ونهضتها.

2- المهم تحقيق النتائج.. بصرف النظر عن نوعية الوسائل.

3- كنتم تنتظرون الذبح, لأنه ليس عندكم مشروع, أما عبد الناصر فكان عنده مشروع.

قال الأستاذ فريد: مشروع غدر.

رد منصور: المهم كان عنده مشروع.

وأصر أحمد علي طروحاته هذه, وكرر هذه العبارات مرات متعددة. وأنا إذا سايرته جدلا في أن العبرة بالنتائج لا الوسائل لكانت هذه النقطة في مصلحة الإخوان , فالنتيجة النهائية تقول إن الجماعة بلغ عدد رجالها مئات أضعاف ما كانت عليه قبل الهضيبي , وأصبح علماؤها في المقدمة من علماء العالم في العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية. أما عبد الناصر فكانت «نتائجه» هزائم متوالية في السياسة والاقتصاد والعسكرية, ومازلنا نحن الشعب نسدد فواتير هذه الهزائم حتي الآن. هذا علي الرغم من أن عبد الناصر لم يكن يتورع عن اتباع وسائل شيطانية عدوانية لتحقيق أهدافه. وقد كتب عبد اللطيف بغدادي في الجزء الأول من مذكراته ص98 «في اجتماع مشترك بين مجلس الثورة وأعضاء الوزارة في 20 مارس سنة 1954 أبلغ عبد الناصر بوقوع ستة تفجيرات نسف في مبني السكة الحديد والجامعة ومحل جروبي في وقت واحد, وعلل لهم ذلك بسياسة اللين في موقف الحكومة, وأن خطوة العودة إلي الحكم النيابي لا تصلح في هذا الوقت...», ثم يقول البغدادي ص146 «إن عبد الناصر اعترف بأنه هو الذي قام بهذه التفجيرات, وذلك في اليوم التالي لوقوعها. واعترف بذلك للبغدادي وحسن إبراهيم وكمال حسين, لأنه كان يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس, ويجعلهم يشعرون بعدم الطمأنينة حتي يتذكروا الماضي أيام نسف السينمات ويشعروا أنهم في حاجة إلي من يحميهم...».

فما رأيك في هذا المشروع يا منصور?

وأحمد منصور بطرحه هذا يردد مذهب «مكيافيللي» في كتابه «الأمير» وأساس هذا المذهب, ومحوره الرئيسي أن الغاية تبرر الوسيلة, المهم أن يحقق الإنسان غاياته بصرف النظر عن نبل الوسيلة أو خستها. وهو مذهب لو أخذنا به من ديننا الذي ينص علي «نبل الغاية, ونبل الوسيلة», ويري أن ما أدي إلي حرام فهو حرام. وعندما عرض علي رسولنا صلي الله عليه وسلم من أسلم من الأنصار في العقبة الأخيرة أن يميلوا علي كفار قريش بسيوفهم وهم نيام رفض وقال: نحن قوم لا نغدر. والمسلم يثاب علي عمله حتي لو لم يحقق هدفه.. المسلم مثاب علي الجهاد حتي لو لم يحقق النصر أو الشهادة. وفي حصار خيبر رفض رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يقبل قطيعا من الأغنام يملكه يهودي من عبد جاءه مسلما, وأمره أن يرد القطيع لصاحبه أولا, ثم يأتي مسلما. والعقل يقول -يا أحمد- إن الإنسان يقدر علي الوسيلة, أما تحقيق الغاية أو النتيجة فخارج عن إرادته وقدرته وقد قال الشاعر:

وعليّ أن أسعي وليس عليّ إدراك النجاح

وأكرر دعوتي لك أن تستغفر الله من هذه «المكيافيلية» الجديدة. وفقك الله وأنار بصيرتك إنه نعم المولي ونعم النصير..

المصدر:رابطة أدباء الشام