التدرج التكليفي في الشريعة الإسلامية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
التدرج التكليفي في الشريعة الإسلامية

أ.د/جابر قميحة

مقدمة

القيم الإسلامية هي مجموعة الأخلاق التي تصنع نسيج الشخصية الإسلامية، وتجعلها متكاملة قادرة على التفاعل الحي مع المجتمع، وعلى التوافق مع أعضائه ، وعلى العمل من أجل النفس والأسرة والعقيدة.

والآيات الأولى التي نزلت على سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن دعوة إلى القراءة فحسب.. ولم تكن دعوة إلى تلقي العلم وكفى.. ولكنها كانت إلى ما هو أشمل وأعمق.. كانت دعوة إلى التحرك الدينامي الناشط للبناء والإبداع استجابة للداعي "الذي خلق ... خلق الإنسان من علق" وكانت "العلمية الحركية الناشطة" من أعظم الأسس التي اعتمدت عليها القيم الإنسانية في الإسلام.

والقيم الإسلامية في مجموعها نوعان:

1 ـ القيم السلبية: أو قيم التخلي: وتتجلى في هجر ما نهى الله عنه من شرور وموبقات، كشرب الخمر، والزنى، والكذب، والسرقة... إلخ.

2 ـ القيم الإيجابية: وهي القيم التي كلف المسلم بالتحلي بها، وأخذ نفسه بمقتضياتها مثل: الصدق، والأمانة، والرحمة، وصلة الرحم، والكرم، وحسن الجوار.

ومن فضول القول أن ننبه إلى ان المسلم مطالب بالنوعين معًا.. مطالب بترك ما نهى الله عنه، ومطالب بفعل ما أمر الله به (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...)([1]).

وأغلب القيم الإيجابية يتضمن نهيًا عن نقيضها، والعكس صحيح، فالأمر بالصدق، مثلاً يتضمن نهيًا عن الكذب، والنهي عن السرقة يعد أمرًا ضمنيًا بالأمانة... إلخ.

والقيم الإسلامية اتسمت بسمات وخصائص متعددة: منها ما يتعلق بمنهج التكليف وطريقته، وأغلبها أساس أصيل لا ينفصل عن طبيعتها وجوهرها، وهذه السمات والأبعاد تكاد تتلخص فيما يأتي:ـ

1 ـ التدرج التكليفي.

2 ـ الوسطية العادلة.

3 ـ الهيمنة التشريعية.

ونكتفي ـ في الصفحات الآتية ـ بالسمة الأولى ، وبيان مظاهر العظمة فيها:

التدرج التكليفي:

التدرج سمة من أبرز سمات الوجود الحي: فخلق الأحياء يتكامل تدريجيًا نطفة.. علقة.. مضغة.. عظام تكسى لحمًا ... الخ.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ([2]).

والكائن الحي بعد أن يرى نور الحياة يتدرج به الوجود من رضيع إلى طفل... إلى شاب.. إلى كهل .. إلى شيخ، وهذا ما عرضه القرآن الكريم في قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ([3]).

نعم الأرض هامدة، يحييها الماء.. ويلقي فيها الحب الذي ينفلق عن ساق ضعيفة.. ثم تنمو وتشتد لتحمل الأوراق والأزهار، ثم الثمار ـ وإيتاء الأكل.. ثم تنتهي الدورة لتبدأ دورة إنباتية جديدة، وهكذا.

ودورات التطور الحضاري ابتداء من العصر الحجري. لا مكان للطفرة فيها.. ولكنها اعتمدت على "الجرعات الحضارية المتدرجة" إن صح هذا التعبير، وبين الإنسان في العصر الحجري، والإنسان في عصرنا الحاضر: عصر الفضاء، والذرة والتكنولوجيا .... بين هذا الإنسان الأول، والإنسان الحاضر، ملايين السنين لم ينقطع فيها العمل والتجارب والعذاب والنجاح، والإخفاق.

فالتدرج إذن.. هو سنة جوهرية من سنن الحياة. وكان الإسلام ـ وهو دين الفطرة ـ على حق حين جعل التدرج والتدريج، سمة منهجية من أبرز سماته.. لا في تربية المسلمين على القيم الأخلاقية فحسب ، بل في التشريع كله من عبادات إلى معاملات إلى عقوبات"، وأهم ما حققه الإسلام بهذا "التدرج التشريعي" فائدتان:

1 ـ ضمان تنفيذ العمل (فعلاً أو تركًا): بعد أن تهيأت النفوس لذلك خطوة خطوة: فالتدرج تيسير يوفر على المسلم الإجهاد والمشقة.. لذلك كانت "الاستطاعة" شرطًا من شروط القيام بالتكاليف (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) ([4]). وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا إذا بايعنا رسول الله ـ صلى الله علي وسلم ـ على السمع والطاعة.. يقول لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما استطعتم ([5]).

وعن أميمة بنت رفيقة قالت: "أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نسوة بايعنه على الإسلام، فقلن يا رسول الله: نبايعك على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن وأطقتن" ([6]).

والاستطاعة أو الإطاقة من أهم مظاهر التيسير الإسلامي ، بل هي جوهر هذا التيسير. وهذا التيسير لا يمكن أن يتحقق ـ ومن ثم يكون العجز عن التنفيذ، أو على الأقل يكون الإعنات والحرج ـ إذا ما نزلت التكاليف طفرة بلا تدريج.

2 ـ ترسيخ التكاليف والقيم في نفوس المؤمنين: فتدريج هذه التكاليف وتوزيعها على مدى زمني طويل يثبت جذورها في أعماق المؤمن، ويجعله قديرًا على حفظها والحفاظ عليها، حتى تصبح جزءًا من كيانه ونسيجه النفسي والعقلي، والروحي، ولو نزلت هذه التكاليف مرة واحدة لأنسى بعضها بعضًا.

ولنا في القرآن المثل الأعلى: لقد نزل منجمًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، فحفظه المسلمون وحافظوا عليه والتفوا حوله، وأحبوه واعتزوا به، وأخذوا أنفسهم به أمرًا ونهيًا، وكان منهم من يتعمد ـ على قدرته في الحفظ ـ ألا يحفظ آية جديدة إلا بعد أن يأخذ نفسه بالسابقة عليها، ويعمل بها في حياته وحياة أسرته.

إن التهييء النفسي يجعل النفس تتقبل التكاليف بقبول حسن؛ لأن النفس بهذا التهييء تكون قد قد تفتحت واستعدت للتلقي، فيمضي الأمر يسري في أعماقها في سهولة ويسر سريان الدم في العروق ، والنور في الظلمات.

ولأمر ما. لم ينزل الوحي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بعد سنوات من تحنثه شهرًا كل عام في حراء ، ينقطع فيه عن الناس ، ويعـبد ربه ، ويتأمل عظمة الله في سمائه وأرضه بعيدًا عن شرور الناس وصراعهم، ومشكلاتهم([7]).

وقبل نزول أول آية من آيات القرآن الكريم كان محمد، ذا نفس نقية ، وقلب صاف ، مهيأ لتلقي هذا الكتاب العظيم بعد أن انصقلت هذه النفس العظيمة بهذا التحنث وبمهيئين آخرين:

الأول: صرف الله له عن موبقات الجاهلية ومفاسدها وملاهيها وأصنامها، وما خصه الله ـ سبحانه وتعالى ـ به وحماه حتى في ستره عند بناء الكعبة: إذا أخذ إزاره ليجعله على عاتقه ليحمل عليه الحجارة، وتعرى، فسقط إلى الأرض حتى رد إزاره عليه فقال له عمه: ما بالك؟ فقال: إني نهيت عن التعري([8]).

الثاني: الرؤيا الصادقة: فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن أول ما بدأ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النبوة حين أراد الله كرامته، ورحمة الله به.. الرؤيا الصادقة: لا يرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، قالت "وحبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده"([9]).

وبعد هذه التمهيدات والتهيئات الخلقية، والنفسية، والروحية، كان نزول القرآن ، حيث التربة معدة لتلقي البذرة الخالدة التي صارت شجرة شامخة ، آتت أكلها ثمارًا دانية القطوف.

والقرآن الكريم ـ كما أشرنا ـ لم ينزل في يوم أو يومين، ولم ينزل في عام أو عامين، بل نزل منجمًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا.. في شكل "جرعات" دينية، وخلقية، واجتماعية، ترتبط بالأحداث، والوقائع ، فكان كالدواء الذي يؤتي نتائجه الطيبة على المدى الطويل بجرعات قليلة تبعًا لمقتضيات الأحوال.

وكانت قاعدة التدرج التشريعي من أبرز سمات النهج الإسلامي في التشريع وفرض التكاليف ، مراعيًا في كل أولئك قدرة الناس واستطاعتهم.

وتركزت التكاليف المكية في القرآن على الكليات وأصول العقيدة من توحيد الله، وترك عبادة الأصنام، وإخلاص العبادة له وحده، ويذكر الناس بالبعث والجزاء، ويصف مشاهد القيامة، ويعرض صور النفخ في الصور ، والقيام من القبور، وتوزيع الصحف ، ووزن الأعمال ، والمرور على الصراط، ودخول المتقين الجنة، ودخول الكافرين النار([10]).

فلما انتقل النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ إلى المدينة.. ارتفع منسوب التكاليف لتلبي مقتضيات نشأة الدولة الجديدة، وليتم التشريع الخالد للناس كافة في كل العصور . فجاءت سور القرآن طوالاً بعضها يتكون من مئات الآيات، وهي تفصل قواعد المعاملات والفرائض والحدود، والجهاد، والحقوق، والقوانين المدنية والتجارية([11]). فالزكاة مثلاً لم تفرض في مكة، بل فرضت في المدينة بعد الهجرة بعامين. وصيام رمضان، وكذلك زكاة الفطر لم يفرضا إلا بعد الهجرة بقرابة عام ونصف. والصلاة التي فرضت بمكة في العام الثاني عشر من البعثة ليلة الإسراء والمعراج، أتمت ثنائيتها أربعًا في المدينة: فعن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها، ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر([12]).

ومعنى ذلك أن المسلمين ظلوا قرابة عشر سنوات يصلون ويعبدون الله بغير تحديد إلى أن فرضت الصلاة ثنائية قبل الهجرة بعام تقريبًا، ثم صارت الصلاة رباعية في المدينة([13]).

وكذلك لم يشرع الجهاد إلا بعد هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة، لذلك نجد آيات الجهاد كلها مدنية، واتساقًا مع قاعدة "التدرج التكليفي" بدأت مشروعية الجهاد بالإذن لا "بالفرض" وذلك في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ([14]). أما "فرضية" الجهاد وإلزام المسلمين به لأول مرة فيتمثل في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ([15]).

وفي المدينة كانت زيارة التكاليف أمرًا منطقيًا يتفق مع واقعين:

الأول: هو واقع المسلمين العَـقَـدِي: فقد مضى على إسلام أغلبهم أكثر من عشر سنوات، وهي مدة كافية لصقل نفوسهم، وفتح قلوبهم لتقبل كل جديد من التكاليف.

والثاني: هو واقع المسلمين الاجتماعي والسياسي الجديد: فقد أصبح لهم دولة جديدة لها أسسها وأركانها ودستورها وقيادتها. وقد صور القرآن الكريم الفرق الهائل بين حال المسلمين في مكة وحالهم في المدينة في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ([16]).

ولكن التدرج التشريعي يظهر بأجلى صوره وحكمه في تحريم الخمر، لقد كان المجتمع الجاهلي مريضًا بشرب الخمر، والإقبال عليها، وإدمانها، وكان ذلك من أبرز أمراضه الاجتماعية، يصور ذلك قول السيدة عائشة رضي الله عنها.

".... حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا"([17]).

وقد مرت مسيرة تحريم الخمر بمراحل زمنية تمثلها هذه الآيات الآتية نوردها بترتيب نزولها :

ـ (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)([18])

ـ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)([19]).

ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ([20]).

ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ([21]).

وهذه الآيات الأربع تمثل موقف الإسلام من الخمر ، إلى أن وصل القرار إلى الحاسم بتحريمها تحريمًا قاطعًا ، أي أنها تمثل أربع مراحل تصاعدية في طريق التحريم هي:

1 ـ التوطئة بالتلميح البعيد.

2 ـ التوطئة بالتصريح المباشر.

3 ـ التحريم الموقوت.

4 ـ التحريم النهائي الحاسم.

وسنحاول أن نعرض في إيجاز لكل مرحلة من هذه المراحل حتى نقف على روح الدين الإسلامي وعبقريته في هذه السمة.. سمة التدرج التشريعي:

1 ـ التوطئة بالتلميح البعيد: فالآية 67 من سورة النحل ـ وهي مكية بلا خلاف ـ تشير إلى أن القريشيين يستخرجون من البلح، والأعناب خمرا وألوانًا أخرى من الرزق الحسن. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن في ذلك وجهين:

أحدهما: أن تكون منسوخة، وممن قال بنسخها الشعبي والنخعي.

والثاني: أن يجمع بين العتاب والمنة([22]).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل، ويشرب حلالاً من هاتين الشجرتين.

وقال ابن العربي: أسد هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين: إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل، والأعناب، تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقًا أو قصدًا إلى منفعة أنفسكم([23]).

والأقوال السابقة تضعنا أمام ثلاثة آراء:

الأول: أن الآية منسوخة.

والثاني: أن في الآية لونًا من العتاب الصريح إذ يستخرجون من الأعناب والنخيل شرابًا مسكرًا، زيادة على ما فيها من المن عليهم "بالرزق الحسن".

والثالث: أن في الآية تصويرا لواقع، فلا نسخ إذن ولا عتاب.

والقول بالنسخ لا دليل عليه، ولكن الآية تصوير حقيقي لواقع حقيقي، ووراء هذا التصوير قصد رباني كريم، فهو لم يقصد إلا إلى الموازنة بين السكر والثمرات الأخرى التي يصفها بأنها حسنة، دون أن يصف هذا السكر نفسه، وبذلك صار لدى المؤمنين دافع إلى الإحساس ببعض التحرج والوسوسة تجاه هذا النوع من الشراب"([24]).

والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر، وأن الخمر ليس رزقًا حسنًا. وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل، والأعناب، وليس فيه نص بحلها، بل فيه توطئة لتحريمها([25]).

وقد يؤدي إلى هذا التخريج تذييل الآية بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، فمثل هذا التلميح، البعيد بالموازنة يحتاج إلى إعمال العقل، والحس البياني الرفيع لإدراك المقصد الرباني من وراء هذه الكلمات.

2 ـ التوطئة بالتصريح المباشر: ثم كانت آية البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).

والبقرة هي أول سورة مدينة، ويقال إن سبب نزول هذه الآية.. أن عمر ومعاذًا ونفرًا من الصحابة قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون([26]).

وهذا السؤال يدل على أن المسلمين كانوا بفطرتهم، وبإيحاء آية النحل يشعرون بالحرج في شربها، حتى إنه كان هناك من الجاهليين من حرمها على نفسه.

كما يدل هذا السؤال على أن المسلم كان حريصًا على استكمال مكارم الأخلاق ، والالتزام بما أتى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخمر كانت سلعة تجارية في الجاهلية. والمدينة كانت غاصة بالحانات.. وكثير من المسلمين كانوا يشربون بل يدمنون الشرب، ومن هؤلاء: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب الذي وصف نفسه بأنه "كان رجل خمر في الجاهلية".

وفي الميسر أو القمار كسب.. وهو ـ وإن اشترك مع الخمر في كونه كسبًا ماديًّا ـ فإنه يختلف عنه في أن الكسب الذي يحققه طرف يعني خسارة الطرف الآخر لذلك كان منطق الآية يمثل مرحلة قوية جدًّا لتهييء النفوس للتحريم القاطع:

أ ـ فقدم الإثم على المنافع.

ب ـ ووصف الإثم بأنه كبير، وجعل المنافع غفلاً عن الوصفية.

جـ ـ ثم حسم الموازنة بأن إثمهما أكبر من نفعهما.

ويرى الفخر الرازي أن الآية تحرم الخمر تحريمًا قاطعًا مستدلاً بالأدلة الآتية:

(أ) اشتمال الآية على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى:

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ). فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر.

(ب) أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم.

(جـ) أنه تعالى قال: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم([27]).

ويرفض القرطبي مذهب الفخر الرازي ؛ لأن الله لم يسم الخمر إثما في هذه الآية ، وإنما قال ( قل فيهما إثم كبير ) ، ولم يقل ( قل هما إثم كبير ) . وقد قال قتادة  : إنما في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى، وهي آية المائدة، وعلى هذا أكثر المفسرين([28]). ويمكن أن نؤيد مذهب القرطبي والجمهور بدليلين آخرين هما:

(أ) أن الآية لو كان فيها تحريم قاطع لكان الصحابة، وبخاصة السائلون هم أسبق الناس إلى هذا الفهم، ولما تطلعوا بالدعاء إلى الله أن "يبين لهم في الخمر بيانًا شافيًا".

(ب) كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحد أو يعزر مسلمًا شرب الخمر بعد نزول هذه الآية.

ولكن الآية رجحت جانب الإثم على جانب النفع ـ كما بينا ـ لذلك هجرها كثير من المسلمين: وكانت الآية بذلك تمثل الخطوة الثانية للتهييء النفسي نحو التحريم القاطع الحامس.

3 ـ التحريم الموقوت:

بقوله تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ).

ومناسبة نزول هذه الآية ما روي عن علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون) فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ([29]).

فحرمت الآية ونهت عن أن يأتي المسلم صلاته، وهو سكران، والآية هي آخر تمهيد للتحريم القاطع الحاسم، فإن من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة، وهو سكران يترك الشرب عامة النهار، وأول الليل لانتشار الصلوات الخمس في هذه المدة، فالوقت الذي يبقى للسكر، هو وقت النوم، من بعد العشاء إلى السحر، فيقل الشرب فيه لمزاحمته للنوم الذي لا بد منه، وأما أول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة، فهو وقت العمل والكسب لأكثر الناس،

ويقل أن يسكر فيه غير المترفين الذين لا عمل لهم، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء، فلا يصبحون إلا وقد زال السكر، وصاروا يعلمون ما يقولون([30]).

وأمام هذه الصعوبة العملية في التوفيق بين أوقات الصلاة، وفرصة الشرب والسكر.. هذه الصعوبة التي تكاد ترتفع إلى مرتبة الاستحالة.. أمام العجز أو شبه العجز عن هذا التوفيق.. أقلع أغلب المسلمين عن شرب الخمر؛ لأنهم كانوا حريصين على حضور صلاة الجماعة مع النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصبح التحريم القاطع قاب قوسين أو أدنى...

4 ـ التحريم النهائي القاطع:

بين آية البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...) وآية النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ...) قرابة سبع سنين.

وبعد آية النساء بعام أو بعض عام نزلت آيتا المائدة اللتان تحملان التحريم الحاسم القاطع، وهذا التوالي بعد هذه الفترة الزمنية القصيرة يدل على أن النفوس كانت قد تهيأت تمامًا لتلقى هذا التحريم الحاسم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وكانت إجابات المسلمين "انتهينا .. انتهينا".

قال أنس بن مالك "إني لقائم على الحي على عمومتي أسقيهم من فضيخ لهم، وأنا أصغرهم سنًا، فجاء رجل فقال: لقد حرمت "الخمر"، فقالوا اكفئها يا أنس فكفأتها".

وزيد في رواية أخرى "فما راجعوها وما سألوا عنها بعد خبر الرجل"([31]).

قال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب، فإنه ذكر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها، وقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فنزلت هذه الآيات([32]).

وقال سعد بن أبي وقاص: نزلت فيَّ آيات من القرآن: أتيت على نفر من الأنصار، فقالوا تعال نطعمك ونسقيك خمرًا ـ وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش (بستان)، فإذا رأس جزور مشوي، عندهم وزق من الخمر. قال: فأكلت وشربت معهم.

قال: فتذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم. فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. قال: فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فرج أنفي. فأتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرته فنزلت قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ) ... الخ.

وليس هناك ما يمنع من أن تكون كل هذه الوقائع صحيحة، وأن تكون كلها قد تتابعت وتوالت لتصنع سببًا، أو أسبابًا لنزول آيتي التحريم القاطع، فهي جميعًا متوافقة ولا تعارض بينها إذ تلتقي جميعًا في إبراز الآثار السيئة للخمر نفسيًا، وعقليًا، واجتماعيًا.

وجاءت الأحاديث النبوية مؤيدة لهذا التحريم القاطع، ولعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاصرها ومعتصرها وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها والمشتراة له، كما حرم الإسلام أن تتخذ دواء: فقد روى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداووا، ولا تتداووا بالمحرم.. وقد سئل ـ عليه السلام ـ عن الخمر في الدواء، فقال: إنها داء وليست بالدواء، ويروى عنه أنه قال: من تداوى بالخمر فلا شفاه الله([33])، يقول ابن القيم: المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعًا: أما الشرع فما ذكره في الأحاديث وغيرها، وأما العقل فهو أن الله سبحانه وتعالى إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبًا عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)..

وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه له حماية لهم وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقمًا أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلوب، وأيضًا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه. وأيضًا فإنه داء كما نص صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يتخذ دواء، وأيضًا فإن إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة([34]).

وإذا ما عدنا إلى آيتي المائدة وجدنا أن الله سبحانه وتعالى ـ في مناقشة قضية الخمر وتحريمها ـ قد قطع قطعًا حاسمًا في هذا التحريم مخاطبًا عقول المكلفين وحسهم الإيماني في بيان قوي واضح:

(أ) فوجه الخطاب للذين آمنوا.. والإيمان هو أعلى درجات الاعتقاد: فالمؤمنون أقدر من غيرهم على تقدير أوامر الله ونواهيه.

(ب) قرن الخمر بالأنصاب وهي الأصنام التي تعبد من دون الله، وبالميسر وهو مضيعة للمال، وبالأزلام واتباعها يلغى الرأي والعقل.. وربط الخمر بكل أولئك يشوه صورتها ، ويجعل النفس تصد عنها.

(جـ) وصف الخمر بأنه رجس، والرجس هو النجاسة، والقذر الذي تحرص كل نفس شريفة على أن تتطهر منه.

(د) وجعل هذا الرجس من عمل الشيطان ومكره وتزيينه وتهييئه.

(هـ) ودعا إلى اجتنابه، والاجتناب يعطي معنى ـ الابتعاد والاعتزال([35])، ومادة الاجتناب لم تستخدم في القرآن إلا مع كل محرم خبيث.

(وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)([36]) (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)([37]) (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)([38]) (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)([39]).

ويلاحظ أن الكلمة في الاستعمال القرآني لا تتوقف عند دلالتها الوضعية فحسب، وهي الابتعاد والانصراف، بل إن لها دلالتها النفسية، وانعكاسها الشعوري، كذلك ويتلخص في أن هذا الانصراف والابتعاد يجب أن يكون مصحوبًا بالكراهية والاقتناع.

من هنا كانت الكلمة في مكانها من السياق أقوى، وأعمق تأثيرًا من مادة (الترك) التي لم تستخدم في القرآن أبدًا للنهي عن المحرمات.

(و) وبينت الآية بعد ذلك أن كل أولئك يهيئ الإنسان للفلاح والنجاح.

(ز) وتقدم الآية الثانية حيثيات الأمر بالاجتناب. فمن شرور الخمر والميسر:

ـ غرس العداوة والبغضاء بسبب التشاحن كما حدث فعلاً في الوقائع التي كانت سببًا في نزول الآية..

ـ الصد عن ذكر الله بعامة، وعن الصلاة بخاصة.

(ح) ثم كان الاستفهام التحضيضي أو التهديدي في النهاية (فهل أنتم منتهون)؟

وقد كانت إجابة المسلمين بلسان المقال: انتهينا، وبلسان الحال أيضًا: انتهينا انتهينا: فكسروا الدنان، وأراقوا ما عندهم من خمر، ولم يبك أحد عليها؛ لأن نفوسهم قد هيئت لذلك تمامًا على مدى عشر سنوات من الإعداد النفسي.

مرض عضال استشرى في نفوس المسلمين وأعصابهم حتى المشاهير منهم ـ كما رأينا ـ من أمثال علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص استطاع الإسلام بالترويض التربوي التدريجي أن يستل عن أعماقهم جذور هذا الداء عن رضاء واقتناع وتسليم، والفضل في ذلك لطريقة العلاج المثلى.

وتظهر قيمة الأسلوب الإسلامي في إبطال الخمر وتحريمها، عصرًا وشربًا، وحملاً، وتجارة وعلاجًا. إذا ما نظرنا إلى محاولة مشهورة لتحريم الخمر في أمريكا، وقد أخفقت إخفاقًا ذريعًا، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلتها الدولة في هذا المجال: فقبل أن يدخل التعديل الثامن عشر على الدستور الأمريكي، أقيمت في البلاد دعاية واسعة النطاق ضد الخمر، وبقيت الرابطة المحاربة لوجود الحانات Anti Saloon League.

تسعى وتجتهد في ترغيب الأمريكيين عن الخمر، وتثبيت مضارها بإلقاء الخطب، وتأليف الرسائل، والكتب وعرض المسرحيات، وأفلام السينما، وأفنت في سبيل هذا التبليغ عشرات السنين، وبذلت الأموال، حتى قدر أن نشرات النشر والإذاعة بلغت تكاليفها من لدن بدء الحركة إلى سنة 1925م، مبلغ 65 مليون دولار، وأنه بلغ عدد الصفحات التي سود بياضها لبيان مساوئ الخمر والزجر عنها 9 آلاف مليون صفحة، ذلك قبل بدء التجربة.

وتدل الإحصائيات التي أذاعها ديوان القضاء الأمريكي للفترة الواقعة بين يناير 1920م وأكتوبر 1933.. أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون 200 نسمة، وسجن نصف مليون، وغرم الجناة ما يربو على مليون ونصف مليون جنيه. وصودر من الأملاك ما يساوي 400 مليون جنيه([40]).

وكانت النتيجة ـ بعد هذه الإجراءات القوية المتواصلة .. وبعد هذه المعاناة الطويلة ـ لا شيء.. مما اضطرت معه الدولة إلى إلغاء القانون نهائيًا وإباحة الخمر للناس بلا قيود..

وبالموازنة السريعة بين التشريع الإسلامي والقانون الأمريكي في تحريم الخمر يتبين لنا عبقرية الإسلام التشريعية، إذ راعى حدود القدرة الإنسانية، والطاقة البشرية في تحمل ما تدعى إليه النفس تدريجيًا ، وعجزها عن تحمل ما يفرض عليها طفرة.. ولا عجب. فالله هو خالق الإنسان.. وهو أعلم بطبيعته، لذلك أفلح التشريع الإلهي، وأخفق القانون الأمريكي الوضعي.

المصدر:رابطة أدباء الشام