الشورى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الشورى


الشورى فقهًا ومفهومًا

الشورى: مصطلح إسلامي خالص وأصيل، وهو اسم - من "المشاورة" - التي تعني، في اصطلاح العربية: استخراج الرأي، فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود "التطوع" بالرأي، بل يزيد على "التطوع" إلى درجة "العمل" على استخراج الرأي استخراجا واستدعائه قصدا!!

وإذا قلنا: أشار فلان على فلان بالرأي، فإن معناه - في اصطلاح العربية -: أمره به!، وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأي فقط؟!..

والشورى، في الفكر السياسي الإسلامي، هي فلسفة نظام الحكم، والاجتماع، والأسرة، لأنها تعني إدارة أمر الاجتماع الإنساني، الخاص والعام، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي الذي هو سبيل الإنسان للمشاركة في تدبير شئون هذا الاجتماع.. فالشورى، أي الائتمار المشترك، هي السبيل إلى الإمارة، أي القيادة والنظام والسلطة والسلطان، إمارة الإنسان في الأسرة وفي المجتمع وفي الدولة، أي في تنظيم المجتمع وحكمه، صغيرا كان المجتمع أو كبيرا.

  • فالشورى مبدأ قرآني، وأصل عام شامل لجميع شئون المجتمع، ولقد تميزت شريعتنا بأنها تربط الشورى بالعقيدة والعبادة إذ قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)﴾ (الشورى)، ولقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبين الممارسة العملية للشورى، فالشورى هي تداول وتقليب الآراء بين مجموعة معينة في موضوع معين للوصول إلى رأي يتم الاجتماع عليه أو يحوز الأغلبية ويصبح ملزمًا للجميع، فأي قرار يتخذ ينبغي أن يكون نتاج الشورى، لعموم قول الله تعالى ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، لما تسمح به الشورى من تنوع في الآراء التي تعرض قبل حسم الأمر واتخاذ القرار ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 159).
  • ويقول صاحب الظلال الشهيدسيد قطب في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾: ".. لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى، تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريًّا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج... وقد كان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى، ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات، لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة وتربية الأمة أكبر من الخسائر الوقتية... ولقد كان من حق القيادة النبوية، أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف، وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة... ولكن الإسلام كان ينشئ أمة ويربيها ويعدّها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربَّى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة مهما يكن الخطأ جسيمًا وذا نتائج مريرة، لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تتحمل تبعات رأيها وتصرفها".
  • إن الشورى في الإسلام مبدأ إنساني أولاً، واجتماعي وأخلاقي ثانيًا، ثم هي قاعدة دستورية لنظام الحكم، والشورى بمعناها الواسع الأعم تشمل جميع صور التشاور والتناصح والحوار الحر، ومبدأ الشورى يركز على أهمية الجهد الفكري الذي يجب على الجماعة أن تبذله قبل اتخاذ قرارها، وضرورة إتاحة الفرصة لجميع الأفراد للمشاركة في هذا الجهد العقلي والحوار الفكري، عن طريق المساهمة في حوار حر يدور بينهم على أساس المساواة والحرية الكاملة، وغاية الشورى هي تحقيق العدل وتنفيذ مقاصد الشريعة ومبادئها، ولذلك فإنها فرع من فروع الشريعة وتابعة لها، كما أن الشورى هي الشريان الذي تجري من خلاله أفكار الأمة وآراء أفرادها في جسم المجتمع، أما الشريعة بما تتضمنه من قيم ومبادئ فهي التي تصنع هذه الأفكار، وهي التي تطهرها وتنقيها وتجعلها صالحة.
  • والشورى بمعنى التشاور الذي يؤدي إلى قرار صادر من الجماعة- بالإجماع أو الأغلبية- في شئونها العامة التي تختص وحدها بإصدار قرار بشأنها، وحكمها أنها ملزمة، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء والعلماء، وهناك رأي آخر بأنها معلمة، والاختيار الفقهي لجماعة الإخوان المسلمين هو أن الشورى ملزمة.


الخليفة عن سيد الكون

ولما كان التصور الفلسفي الإسلامي لوجود الإنسان في هذه الحياة، ولوظيفته ومكانته فيها، ولعلاقته بالآخرين، قائما على حقيقة أن هذا الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى، ومستخلف عنه في عمارة الكون، كانت مكانة الإنسان في العمران هي مكانة الخليفة عن الله، فهو ليس سيد الكون حتى تكون حريته مطلقة، دون حدود، وشوراه وائتماره وإمارته وسلطته دون ضوابط وأطر، وفي ذات الوقت، فإن خلافته عن الله سبحانه تعني وتقتضي أن تكون له سلطة وإرادة وحرية وشورى وإمارة تمكنه من النهوض بتكليف العمران لهذا الوجود، فهو، لهذا، ليس الكائن المجبر المسير المهمش بإطلاق.


إنه في المكانة الوسط، ليس سيد الكون، وليس العبد المجرد من الحرية والإرادة والاستقلال والمسئولية، وإنما هو الخليفة عن سيد الكون، وله في إطار عقد وعهد الاستخلاف السلطات التي تمكنه من النهوض بمهام هذا الاستخلاف.

وانطلاقا من هذه الفلسفة الإسلامية، في مكانة الإنسان في هذا الوجود، يتميز المذهب الإسلامي في "إطار الشورى"، فبنود عقد وعهد الاستخلاف الإلهي، التي هي قضاء الله الحتمي في كونه، وكذلك أحكامه التي جعلها إطارا حاكما لحرية الإنسان وسلطاته، هي "الوضع الإلهي"، الذي تظهر فيه عبودية المخلوق للخالق، وقضاء الله الذي لا شورى فيه ولا خيار ولا اختيار وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا

هنا، وفيما يتعلق بهذا الإطار الحاكم، نحن أمام "سيادة الله، وحاكميته"، المتمثلة في قضائه الحتمي، وشريعته الممثلة لبنود عقد وعهد الاستخلاف، على الخليفة أن يجعلها الإطار الحاكم لحريته وشوراه، والسلطته وإمارته، ولحركته أثناء قيامه بالوكالة والاستخلاف.


موضع الشورى البشرية

أما ما عدا ذلك من الشئون، التي هي مقدورة للقدرة الإنسانية، ولازمة لتنفيذ وتطبيق وتفصيل كليات عقد وعهد وأمانة الاستخلاف، فإنها موضع وموضوع للشورى البشرية، وموضع وموضوع لسلطان الإنسان وسلطاته، فهو حر، ومصدر للسلطة وللسلطان، اللذين يقيم دعائمهما بالشورى، في إطار الحلال والحرام. إنه الوكيل الحر، الذي يدبر شئون الوكالة بالشورى، شريطة ألا يتعدى إطار عقد التوكيل!..


هذا عن إطار الشورى في فكر الإسلام السياسي وفلسفته في الاجتماع الإنساني..

إن قضاء الله وأمره: سيادة، وحاكمية إلهية، أما قضاء الناس وأمرهم فهو شورى بينهم، يقيمون بها إمارتهم وسلطتهم في مختلف دوائر الاجتماع، من الأسرة إلى المؤسسة إلى المجتمع. إلى الدولة، إلى الاجتماع الإنساني ونظامه الدولي!.

ففي مجتمع الأسرة، يعتمد الإسلام الشورى فلسفة للتراضي المؤسسة عليه المودة والنظام والانتظام. والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير


إدارة شئون الناس

وفي شئون الدولة يوجب الإسلام أن تكون الشورى هي الفلسفة التي تدار وفقا لها أمور الناس فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.

فالعزم، أي اتخاذ القرار، هو ثمرة للشورى، أي اشتراك الناس في إنضاج الرأي الذي يتأسس عليه العزم - القرار - وهذا هو الذي جعل مفسري القرآن يقولون، في تفسيرهم لهذه الآية - بلسان واحد من أئمتهم - ابن عطية [481 - 542هـ 1088 - 1148م]، -: "إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا مما لا خلاف فيه.."

فهي من قواعد الشريعة، ومن عزائم الأحكام. أما أهلها، فهم كل من هو أهل لها، بحسب موضوعها، وما يتطلبه الموضوع من خبرات، ولذلك كانت كلمات ابن عطية تتحدث عن استشارة أهل "العلم" و "الدين"، وليس فقط، أهل "الدين"!..

وإذا كانت المشاورة هي استخراج الرأي، الذي يتأسس عليه العزم والقرار، فلقد جعل الإسلام "العصمة" للأمة، فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم: إن أمتي لا تجتمع على ضلالة - رواه ابن ماجة - وذلك لتطمئن القلوب إلى حكمة وصواب القرار إذا كان مؤسسا على شورى الأمة في أمورها، ومن هنا كانت الشورى صفة من صفات المؤمنين!. فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون


إحدى أخص صفات الرسول

بل إنها - الشورى - واحدة من أخص صفات رسول هذه الأمة، عليه الصلاة والسلام، وفيما يرويه أبوهريرة، عن صفات الرسول، يقول: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - رواه الترمذي -.

ولقد كان الصحابة، في دولة الإسلام الأولى، التي قادها النبي والرسول، صلى الله عليه وسلم، دائمي السؤال عن طبيعة القرار: "أهو الوحي؟" - فيكون من وضع الله وقضائه وأمره - "أم الرأي والمشورة؟" - فتكون فيه المراجعة والشورى، التي يتأسس عليها العزم والقرار؟. فكأنهم يسألون عن "طبيعة الاختصاص" في القرار، أهي "السيادة الإلهية"؟، أم "السلطة البشرية"؟. وعندما كان ينبئهم الرسول بأنه "الوحي"، كانوا يلتزمون التزام السمع والطاعة لله ولرسوله. أما إذا كان "الرأي والمشورة"، فإن الالتزام يكون بثمرات الشورى، ليس بالنسبة لهم فقط، بل وبالنسبة للرسول، صلى الله عليه وسلم، لأنه في هذه الأمور "مجتهد" لا "مبلغ".. وفي ضوء هذه الحقيقة الإسلامية نفهم معنى قوله، صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما - رواه الإمام أحمد - وقوله لو كنت مُؤَمِّراً أحدا دون مشورة المؤمنين لأمّرتُ ابن أم عبد- [عبد الله بن مسعود]- ! رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد -.

فجميع أمور الناس وسائر الدنيا، التي لم يقض فيها الله، سبحانه وتعالى، قضاء قطعي الدلالة والثبوت، هي شورى بين أهل الشورى.. وفي مقدمة هذه الأمور دولة الإسلام والمسلمين.. فالرسول المعصوم في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى هو في شئون الدولة حاكم "مجتهد"، وهو لا يولي واليا "دون مشورة المؤمنين"!.. وعمر بن الخطاب هو القائل: من بايع أميرا من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه! فالخلافة "شورى" وولاية الأمر في الإسلام جماعية، ولذلك تحدث القرآن عن [أولي الأمر] - بصيغة الجمع - ولم تذكر آياته "ولاية الأمر" بصيغة المفرد أبدا!.


الشورى تطبيقًا وسلوكًا

وأسلوب تطبيق الشورى يتدرج إلى ثلاث مراحل هي:


مرحلة صنع القرار

وهذه المرحلة يقوم بها أصحاب الرأي والمشورة في الجهة المنوط بها اتخاذ القرار، وفيها يكون على كل من ولي أمرًا من أمور المسلمين أن يتواضع عن موقع الرئاسة فيكون بين مستشاريه كواحد منهم، ويشعروا هم بهذا حتى يقدم كل منهم ما عنده من رأي وفكر واجتهاد.

وفي هذه المرحلة تطرح التصورات، وتمحص البدائل، وتساق الحجج، بما يناسب الموقف وبما يحقق المصلحة الشرعية، وفي هذا المجال تناقش الآراء وحيثياتها دون خشية صاحب الرأي ومقدم المشورة، وهذا يتطلب من أولي الأمر سعة الصدر ولين الجانب وإشاعة الطمأنينة في قلوبهم ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، وكما يتطلب أيضًا نزع الرهبة والخوف من قلوبهم بما يشحذ الهمم والطاقات في طرح الأفكار وإبداء الآراء ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية 159).

فالجو الذي يجب أن يسود هو جو تأليف القلوب وتطييبها، كما يغلب عليه روح العفو والاستغفار الذي يستمر إلى ما بعد انتهاء مجلس التشاور، وهو عفو واستغفار عما يكون قد وقع فيه من لغو في القول أو الحديث دون قصد إساءة أو تجريح ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159).


مرحلة اتخاذ القرار

وهذه المرحلة يقوم بها أولو الأمر وأصحاب الرأي والمشورة في المستويات المختلفة، ويكون لأولي الأمر أحد احتمالين:


- إما أن يكون رأي أولي الأمر موافقًا لرأي أغلبية المشاركين، فيكون هذا هو القرار الذي يجب اتباعه.

- وإما أن تميل الأغلبية إلى رأي يخالف رأي أولي الأمر، فيكون القرار على مقتضى رأي الأغلبية، ولا يجوز الاحتجاج بأن أولي الأمر يملكون رؤية أوسع، إذ كانت لديهم الفرصة لوضع كل الحقائق والمعلومات أمام من يشاورهم.

ولعل هذا هو الذي يوافق السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرة قريش لقتاله، حتى بلغوا مسافة خمسة أميال من المدينة، بعث من تحسس الأخبار، كي لا يتخذ القرار إلا على معلومات مؤكدة، ثم استشار أهل الرأي فانقسموا إلى قسمين:

- البعض أشار بالتحصن بالمدينة وقتال العدو فيها، كعادة أهلها من قبل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى هذا الرأي.

- البعض الآخر أشار بالخروج لملاقاة العدو ردعًا له، وإظهارًا لشوكة المسلمين، وقد تغلب هذا الرأي في النهاية.

فكان أن اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره على مقتضى ما أشارت به الأغلبية، رغم مخالفتها لما كان يراه، ولقد سار الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الشورى على نفس النهج.


مرحلة تنفيذ القرار

- وهي المرحلة التي تلي اتخاذ القرار، وفيها يكون أولو الأمر وأصحاب الرأي والمشورة قد استنفدوا جهودهم، وأخذوا بالأسباب، وأدوا كل ما هو مطلوب منهم، فيتوكلون على الله لأن النتائج والأقدار بيده سبحانه لا شريك له، وليس لنا إلا اتخاذ الأسباب، وقد تم ذلك في المرحلتين السابقتين، فلا يجوز العودة لفتح باب الشورى أو مناقشة أي جانب من جوانب الموضوع، إذ على الجميع أن يتوجهوا مباشرةً إلى وضع القرار موضع التنفيذ مستعينين بالله مطيعين لما يأمر به متخذ القرار ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، ولعل خير مثال على ذلك هو ما حدث بعد اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالخروج لملاقاة الكفار عند جبل أحد، وانصرف بعدها للاستعداد للمعركة دون أن يلتفت إلى قولهم (ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك، والأمر إلى الله ثم إليك)، وكان قوله صلى الله عليه وسلم "وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه"، ولقد سئل صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".

- ولقد أصبحت الشورى أمرًا مستقرًا لدى المسلمين، ففيما رواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: (قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة قال:"اجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد").. ومن أقوال الإمام علي رضي الله عنه: (في الشورى سبع خصال: استنباط الصواب- واكتساب الرأي- والتحصن من السقطة- وحرز من الملامة- ونجاة من الندامة- وألفة القلوب- واتباع الأثر).


إشكاليات في تطبيق الشورى

ومما سبق تتضح لنا معالم الشورى فقهًا وتطبيقًا، وقد يظهر لنا أثناء الممارسة والتطبيق بعض الإشكاليات التي قد يطرحها البعض، وتحتاج منا إلى تذكير وتأكيد لما يجب أن تكون عليه ممارسة الشورى حتى تبقى على أصالتها وعراقتها، ومن هذه الإشكاليات:


هل يجب على جميع الأفراد الالتزام بما انتهت إليه الشورى من قرار؟

الاختيار الفقهي للجماعة بأن الشورى ملزمة، والالتزام بالشورى يعني أنه متى صدر القرار بالشورى فإنه يصبح ملزمًا للكافة، بمن فيهم أولو الأمر الذين يتولون سلطة التنفيذ، إذ إن مهمتهم الأولى تكون تنفيذ قرارات الشورى والالتزام بها، ووجب على جميع الأفراد أن يلزموا قرارات الشورى، ويعمل الجميع على تنفيذها دون تردد أو إبطاء، وكل إخلال من أي فرد بهذا الالتزام يترتب عليه إخلال بمقصد الشورى، ولا يعقل أن تكون الشورى ملزمة لأولي الأمر وغير ملزمة لكافة الأفراد، وكما يقول الإمام حسن البنا: (وأريد بالطاعة إنفاذ الأمر في التو واللحظة، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، في غير معصية)، فالطاعة تكون واجبةً بعد أخذ الشورى.

أليس من حق الأقلية أن تتبنى وجهة نظرها وتعمل على طرحها على عموم الأفراد دون التقييد برأي الأغلبية وما انتهت إليه الشورى من قرارات؟

الشورى تسمح بتعدد الآراء ووجهات النظر في مرحلة دراسة وصناعة القرار، ويتم هذا وفق أسس ونظم ولوائح تنظم ذلك كله، ولكن بعد مرحلة اتخاذ القرار يلتزم الجميع بالقرار سواء من كان يؤيد أو من كان يعارض، ويعمل الجميع على تنفيذ القرار بتجرد كامل دون هوى في النفس أو إعجاب كل ذي رأي برأيه، ويحرص الجميع على وحدة الصف وتماسكه دون تنازع يؤدي إلى الفشل أو الفرقة، والكل يعلم أن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، والاجتماع على المفضول خير من التفرق على الأفضل.


ما المانع أن يكون هناك أجنحة أو تيارات متعددة داخل الجماعة الواحدة؟

عندما تكون هناك جماعة قامت وتسعى لتحقيق غاية وأهداف محددة، وتعمل وفق وسائل ومسارات وآليات محددة، ولديها من السياسات والضوابط والنظم واللوائح التي تعمل بها، مما يجعل الطريق واضحًا أمام كل من ارتضى أن يعمل من خلالها، ولذا وجب على الجميع أن يلتزموا بمنهجها ونظمها دون إخلال بها أو انحراف عنها، وكيف تكون جماعة هدفها نبيل وغايتها سامية وبنيانها متين، وليس متحققًا فيها وحدة التصور، ووحدة الفكر، ووحدة العمل التي تعمل على نجاح أهدافها وتحقيق غايتها، ولا يمنع هذا من وجود تنوع في الآراء ووجهات النظر التي تساهم في دراسة واتخاذ القرارات بشكل فعال، ولكن أثناء تنفيذ القرار يصبح الجميع على قلب ورأي واحد، وهذا هو كمال وتمام الطاعة.


إخواني الأحباب

إن ممارسة الشورى والالتزام بضوابطها وآدابها تحتاج منا إلى فهم ووعي، كما تحتاج منا إلى الشجاعة والقدرة على ضبط النفس، وكما يقول الإمام البنا رحمه الله: (وأعظم الشجاعة الاعتراف بالخطأ والإنصاف من النفس)، وهي أيضًا تحتاج منا إلى الصبر الجميل وسعة الصدر حتى تؤتي الشورى ثمارها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران)، (وما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم) "الإمام النسفي".


تلك هي الشورى الإسلامية

فلسفة الاجتماع الإسلامي، في الأسرة، والمجتمع، والدولة.

وإطارها وميدانها: كل ما لم يقض الله فيه قضاء حتم وإلزام للإنسان، مما ترك له كخليفة عن الله في عمران هذا الوجود.

والأمة فيها وبها هي مصدر السلطة والسلطان في سياسة الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران.

وهذه الأمة تختار ممثليها العارفين "بالواقع" و"بالشريعة" معا، وهم أهل الاختيار، الذين يختارون رأس الدولة الإسلامية، وكذلك أهل الحل والعقد - أي أهل الشوكة والرأي - الذين يحفظون اتساق "الوا قع" مع "الشريعة" بتطوير "القانون - فقه الفروع" ليواكب الواقع الجديد، وبتطويع "الواقع" كي لا يخرج عن الحلال والحرام - اللذين هما حاكمية الله -


المراجع

  • الشرقية أون لاين