الطاغيةُ بين اللبن والدم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الطاغيةُ بين اللبن والدم

أ.د/جابر قميحة

مقدمة

إنه واحد ممن يشار إليهم بالبنان, بل ممن يشار إليهم بالأيدي كلها.. واحد ممن يتحكمون في المقدرات والمعطيات الثقافية لأمتنا المكروبة – مصر الكنانة - رأيته, وسمعته في إحدي المحطات التلفازية, يقول بالحرف الواحد:

- إنني سأظل أدعو إلي حرية التعبير باطلاق...

سأله مقدم البرنامج:

- والضوابط??!!

- ليس هناك ما يسمي ضوابط, إنها خرافة من صنع المتخلفين, وقصار النظر. إن الإبداع إبداع, وحينما أشعر الأديب أن هناك ضوابط مسلطة عليه, لابد أن يراعيها وهو يبدع. إذا حدث ذلك ترتب عليه ما يأتي: 1- إشعاره بالإحباط الذي قد يدفعه إلي التراجع, أو - علي الأقل - ضعف العملية الإبداعية. 2- حرمان الإبداع من جمالياته, وإيحاءاته الآسرة» لتحوله إلي مواعظ, وتوجيهات, ووصايا. وبتعبير أخر: القضاء علي الإبداع الجميل, لحساب الفكر الديني والمعطيات العقلية» لأن «الإبداع الجميل» لأ ينشأ إلا في جو الحرية المطلقة.

سأله مقدم البرنامج: لكن هذا يعني أن الإبداع لا يؤدي رسالة لخدمة المجتمع والإنسان? أجاب «السيد المهم»: عملية الإبداع في ذاتها رسالة, مجرد إبداع الشاعر قصيدة جميلة يعني أنه أدي رسالته, بصرف النظر عن مضمون القصيدة, حتي لو تعارض هذا المضمون مع عقائد «الآخرين» وعاداتهم 0 وختم «الرجل المهم» حديثه بقوله: إنني أخشي علي جماليات الأدب من محاولة «تشٍييخه» أي جعله مواعظ ودينيات كالتي يكتبها كثير من المشايخ الذين لا يعرفون من الأدب إلا اسمه , وذلك لحساب المضمون الوعظي , والفكر الجاف .

تهافت.. وسقوط..

وواضح ما في منطق هذا الرجل المهم من تهافت وهشاشة, بل سقوط, لأنه بهذا المنطق يدعو إلي حرية «التدمير», لا حرية «التعبير». فمن البدهيات الواقعية الميدانية أن الحياة لا تستقر ولا تنهض في كل مظاهرها إلا إذا كانت محكومة بقوانين وضوابط لا تحقق النتائج المنشودة إلا بها. وبدونها لا يكون إلا الإخفاق والسقوط. وهي قاعدة ممتدة شاملة في نطاق الفرد والجماعة, والتعامل, والسياسة, والاجتماع, والحرب, والسلم, والفنون, والعلوم. ومن البدهي كذلك أن الإبداع لا يمثل نبض الأديب فحسب, بل نبض المجتمع والأمة التي تمثل خلية تتأثر بالبيئة والجو الذي تعيش فيه.

وشعورالمبدع بأنه ذو رسالة إنسانية يرفع من قيمة إبداعه من ناحية, ويرفع من «قيمته الذاتية» من ناحية أخري, فهو - في هذه الحال - مبدع سوي, يعبر عن قيم الحق والحرية والجمال والإنسان, بريئاً من الإسفاف والسقوط والابتذال.

وهذا يعني أن المبدع يأخذ نفسه «بالتزام ذاتي» استجابة لفطرة سوية, حتي ليصبح هذا الالتزام جزءًا لا يتجزأ من عملية الإلهام الفني, وليس خاضعاً لعنصر الاختيار الواعي المتعمد. ويغدو الخروج عليه شذوذاً مرفوضا في عالم العقل والشعور, فهو ليس التزاماً «أيديولوجيا» كالالتزام الشيوعي أو الوجودي. ولكنه - كما أشرت - التزام نابع من ذات مبدع سوي مرتبط ارتباطاً عضوياً بالقيم الإنسانية بمفهومها الواسع الجليل.

المبدع- وهو ينطلق في إبداعه من الشعور القوي بهذه الالتزامية, أو هذه الرسالية, وحرصا منه علي إيصال إبداعه إلي المتلقي - يحرص علي أن يستوفي عمله الإبداعي كل العناصر الموضوعية والفنية الجمالية تصويراً وتعبيراً. والقاعدة هنا يبرزها قول رسول الله صلي الله عليه وسلم «إن من البيان لسحرا, وإن من الشعر لحكمة»: فالسحر يعني التأثير الجمالي العاطفي, والحكمة تعني المضمون الجليل الرفيع.

فمن السذاجة إذن القول بأن المبدع «الرسالي الملتزم» يجني بهذا الالتزام علي الجانب الفني الجمالي للإبداع بفكره الوعظي الجاف .

إليكم مطران مثالاً..

وأجدني في هذا السياق ذاكرا الشاعر اللبناني خليل مطران (1872 - 1949) رائد القصة الشعرية, وأري في ديوانه – بمجلداته الأربعة - قرابة خمسين قصة شعرية, يطول بعضها, فيبلغ مئات الأبيات, وقد استوفت كل العناصر القصصية, ومظاهر الجمال الفني, مع أن هدفه الأول منها هو الانتصار للقيم الإنسانية العليا كالعدل والوفاء, والشجاعة, والتعاون, وكذلك يحمل علي الظلم والاستبداد والغدر, والخيانة. وقد تقع عينه علي خبر في صحيفة, فيجعله أساساً لقصة شعرية جميلة تطل منها القيم الخلقية والإنسانية الشريفة كقصته (فاجعة في هزل)

ومن أروع أقاصيصه أقصوصة «اللبن والدم», وخلاصتها : أن أميراً ظالماً استمرأ الظلم والفجور والطغيان, وأذل شعبه, وفتح صدره وموائده للفساق والمنافقين, وكان في الشعب فقيه إمام يحبه الناس, ويلتفون حوله, يقول عنه مطران:

كان الإمام علي أسيً لبلاده من سوء سيرٍ أميرها المتحكًم أبدا يوالي نصٍحَه بتلطف فيفوز منه بنفٍرة وتجهًم واراد الطاغية ان يذل هذا الإمام التقي النقي الملتزم , فاقام فى قصره وليمة ضخمة , ضمت كل ما لذ وطاب . ودعا إليها أحبابه وحوارييه, وأصر أن يحضرها الإمام الذي رفض أن يمد يده إلي هذه المائدة الجامعة , لأنه يؤمن أن ما ضمت إنما هو سحت وحرام من مال الشعب وقوته.وغضب الأمير, فتخلص بقوله:«إن الطبيب- حرصاً علي صحته - لا يسمحله إلا بتناول اللبن». وبأمر الأمير أحضر الخدم للإمام كوباً من اللبن, مد الإمام إليه يده فإذا به يتحول إلي دم, فارتجت القاعة, وانخلع قلب الطاغية, وفزع إلي الإمام يسأله عن تأويل ما يري فانطلق الإمام يقول كأنه يقرأ من كتاب مفتوح:

اسمعٍ من الغيب الذي أنا قائل

بلسانه للجائر المتنعم

هذا نذير لا شفاعة بعدَه

عند المهيمن إن تصرّ وتظلم

هدَّمت في طول البلاد وعرضها

أعلامها الحكماءَ كلَّ مُهدم

أسرفت فى هذي الديار مهانة

لكريمها, ومعزّة للمجرم

اوف البلاد بمثل أجرك حقّها

من خدمة, ومحبة وتكرم

اردد إلي هذا الحمي استقلاله
يَخلص طعامك يا أمير من الدًم

إنه نذير متجدد . .

لقد قدم «مطران» - على لسان «الإمام» نذيراً في «صحيفة اتهام» دامغ, ينتهي بتوجيه قوي: أن يعطي الطغاة شعوبهم حقوقها وحريتها, وأن يتبعوا في حكمهم شرعة الحق والعدل والإنصاف, لا شرعة الظلم والبغي والدم والعدوان , حتى يستريحوا ويريحوا .

المصدر:رابطة أدباء الشام