المعاناة الجماعية تغذي المقاومة الفلسطينية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

بقلم / موسى أبو مرزوق

قد يعتقد الأميركيون أن العنف الجاري في غزة بدأ في السابع والعشرين من ديسمبر، ولكن في الحقيقة كان الفلسطينيون يموتون من عمليات القصف الإسرائيلية لأسابيع كثيرة. وفي الرابع من نوفمبر الماضي، وعندما كانت الهدنة الإسرائيلية - الفلسطينية ما زالت سارية المفعول ولكن كان الانتباه والاهتمام العالمي موجها إلى الانتخابات الأميركية، شنت "إسرائيل" ضربة جوية "استباقية" على غزة . زاعمةً وجود معلومات استخباراتية عن عملية وشيكة لأسر جنود إسرائيليين؛ وجرت هجمات واعتداءات أكثر على مدى الشهر.

وتبددت واُنتهكت الهدنة هكذا، وذهب أي حافز من قبل القادة الفلسطينيين لفرض وقف لإطلاق الصورايخ. وأي توسيع للاتفاق أو تحسين لتنفيذه وتطبيقه في تلك المرحلة كان يتطلب من "إسرائيل" أن تُشرك "حماس"، وأن توافق على إجراءات إضافية لبناء الثقة والتفاوض مع حركتنا - وهو مستحيل سياسي بالنسبة ل"إسرائيل"، مع تبقي أسابيع فقط على انتخاباتها.

كما لم تكن الهدنة سهلة على الفلسطينيين. وفي فترة الستة أشهر التي تسبق القصف الحالي، قُتل إسرائيلي واحد، بينما فقد عشرات الفلسطينيين أرواحهم إزاء أعمال من الجيش والشرطة الإسرائيليين، ومات آخرون كثيرون جراء الحاجة إلى رعاية طبية.

إن الحرب على غزة لا ينبغي أن يُخطئ فيها على أنها نصر إسرائيلي. ولكن فشل "إسرائيل" في جعل الهدنة تعمل وتجدي، ولجوئها إلى إراقة الدماء، يُظهر مرة أخرى أنها لا يمكن أن تسمح بمستقبل قائم على تقرير مصير سياسي فلسطيني. وفشلت الهدنة لأن "إسرائيل" لن تفتح حدود غزة، ولأن "إسرائيل" ستكون سجاناً أكثر من أن تكون جارة، ولأن قيادتها المتصلبة المعاندة تحتكر المصير الفلسطيني ولن تصنع سلاماً مع التاريخ.

والحرب ليست هجوماً على وحدات" عز الدين القسام" - جناحنا العسكري في الحركة - ولكنه ببساطة عدوان يستهدف الشعب والبنية التحتية والحياة الاقتصادية في غزة، يهدف إلى زرع الرعب والفوضى؛ ويهدف إلى إرساء" حقائق جديدة على الأرض" - أي أكوام من الركام والحطام مع جثامين محصورة تحتها - في استقبال للإدارة الأميركية القادمة.

وتزعم "إسرائيل" بصوت عالٍ أنها لم يكن لديها خيار آخر إلا بث الموت على اللاجئين في المخيمات، وقتل عشرات النساء والأطفال، بينما يستخدم وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك (رئيس الوزراء السابق في الماضي والمحتمل في المستقبل) - وعينه مُثبتة على انتخابات فبراير - يستخدم القتل الجماعي كأحدث عامل جذب للحصول على الأصوات الانتخابية، وهي استراتيجية انتخابية تناسب خزي وعار العميل السياسي من شيكاغو الأكثر تشدداً وقسوة.

ولكن، بالطبع، ظلت الخيارات قائمة. إن "إسرائيل" كان يمكن أن ترق وتلين من شهور مضت، من أجل الهدنة، في تصميمها الإجرامي على تجويع غزة، وقطع جل الوقود وخنق كل التجارة ومنع منظمات الإغاثة من إيصال الغذاء والدواء. إن المراقب الأكثر سخرية هو الذي سيسمي هذا الاهتراء تمسكاً بالهدنة ينم عن" نية طيبة". إن عمليات الحصار، على أي حال، هي أعمال حرب صريحة.

ويميز الفلسطينيون في كل مكان ختام حقبة بوش بارتياح وانفراجة؛ ومع ذلك، يزداد الشك والريبة في أن أي عدالة لشعبنا يمكن أن تأتي من رئيس أميركي جديد ظل صامتاً على نحو ينذر بشؤم في وجود أحدث مذبحة إسرائيلية، وربط نفسه بشدة مع مصالح "إسرائيل"، طويلاً، قبل تولي السلطة. إن رحلة طائرة باراك أوباما المروحية منذ سنتين مضيتا فوق الأراضي المقدسة لم تكن غير عادية في حوليات البرلمانيين الأميركيين الذين قاموا برحلات " كشف حقائق" على حساب اللوبي الإسرائيلي؛ غير أن تصريحاته الفخورة بما رآه - "من منازل وشوارع مثل المنازل والشوارع التي يمكن أن يجدها المرء في أي ضاحية أميركية " - كانت بارزة في صمتها ( عما يحدث للفلسطينيين ) مثل بروز أي رؤى مزعجة متعبة. فهل فقد أو لم ير الطرق الأمنية والحواجز ونقاط التفتيش التي تشوه الضفة الغربية، أو إنشاء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، أو المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية؟ ربما طارت طائرته المروحية عالياً جداً.

ولكن الآن، وفي خضم الهجوم الإسرائيلي الأخير على شعبنا، وفي الوقت الذي ترتفع فيه حصيلة القتل إلى مئات، وآلاف الجرحى - وكلهم ضحايا سخاء دافعي الضرائب الأميركيين - يتعجب ويتساءل الفلسطينيون كيف ستكون ردة فعل أوباما إزاء الأزمة المتصاعدة. وهم يطلبون من رئيس البيت الأبيض القادم نسقاً جديداً من الاحترام والمساءلة والمحاسبة، لأنه عندما يرى الفلسطينيون طائرة " إف 16 " مرسوم عليها نجمة داود في ذيلها، يرون ـ في ذلك ـ أميركا.

إن الفلسطينيين يتسمون بالحذر على نحو مفهوم من الإدارة الأميركية القادمة، مشيرين إلى تعييناتها في المناصب بخوف وذعر. فوزيرة الخارجية الأميركية الوشيكة لا تُنسى في حثها وحضها من سنوات مضت على الاعتراف الأميركي بالقدس كعاصمة "غير مقسمة" ل"إسرائيل"، بينما كبير الموظفين في الإدارة الأميركية القادمة يحمل لطخة ووصمة خدمة والده في جماعة "إرجون" الإرهابية المحظورة، وهي جماعة صهيونية مسئولة عن فظائع وأعمال وحشية كثيرة.

إن الدعاوى المجددة اليوم لحركتنا بأن " تعترف بحق "إسرائيل" في الوجود"، في وجه المذبحة القاتلة، تأتي جوفاء مثل مزاعم "إسرائيل" المستمرة في التصرف "دفاعاً عن النفس" في الوقت الذي تقتل فيه طائراتها النفاثة المدنيين. وبدون الجدال هنا حول "الحق" الوجودي التخيلي الزائف لدولة "إسرائيل"، فأي "إسرائيل" - بالضبط - التي يريد منا الغرب أن نعترف بها؟ هل هي "إسرائيل" التي تحتل عسكرياً الأرض التي تخص ثلاثة من جيرانها، متجاهلةً القانون الدولي وعشرات القرارات من الأمم المتحدة على مدى عقود؟ وهل هي "إسرائيل" التي توطن مواطنيها بشكل غير قانوني على أرض شعب آخر، وتستولي على موارد المياه وتستأصل أشجار الزيتون؟ وهل هي "إسرائيل" التي لم تعترف قط في غضون 60 عاماً بأن الطرد القسري للفلسطينيين من مزارعهم وقراهم هو عمل مؤسسي لدولتها وتنكر حق اللاجئين في العودة؟ من خلال التجربة المريرة، وعندما نسمع طلبات "الاعتراف" ب"إسرائيل" كشرط مسبق للحوار، فإن ما نسمعه هو دعوة للقبول والإذعان لجرائمها ضدنا، سابغين الشرعية على المظالم التي جُلبت باسمها.

إن روحنا وعزيمتنا للقتال والنضال باستمرار هو تراث المعاناة الجماعية.. مع عشرات الآلاف من القتلى أو الجرحى في عقود ما يُسمى بـ "عملية السلام"، لا يمكنك أن تجد عائلة في فلسطين - مسلمة أو مسيحية أو حمساوية أو فتحاوية أو جهادية أو جبهوية شعبوية - بدون ابن قتيل أو بنت قتيلة أو جريح أو جريحة أو مسجون أو مسجونة أو معذب أو معذبة، أو لا تعد نفسها أو أقرباءها من بين ملايين اللاجئين الذين يعيشون في مخيمات الأمم المتحدة.

و"حماس" ليست حفنة من القادة. و"إسرائيل" يمكن أن تقتل كل القيادة الحالية في جولة من العنف، بمن فيهم أنا (كاتب هذا المقال)، ولكن بنية حماس العضوية والاجتماعية الأساسية لن تموت. نحن -وأقولها ببساطة- حركة مقاومة وتحرير وطنية مترعرعة في الداخل، لها ملايين الناس الذين يدعمون كفاحنا من أجل الحرية والعدالة.

لقد تحدث أوباما بشجاعة في حملته الانتخابية من أجل سياسة للحوار المفتوح، وغياب الشروط المسبقة، مع أولئك الذين يُعتبرون ضارين بالمصالح الأميركية، ونحن كنا نسمع ونصغي. لقد جرؤ رئيس أميركي سابق (جيمي كارتر) - وهو صانع سلام حقيقي - على زيارتنا وسماع وجهة نظرنا في هذا الكفاح، ولم يغفل نقدنا. كان هناك تبادل منعش لوجهات النظر. والآن حان الوقت بالنسبة للرئيس الأميركي القادم لأن يفعل نفس الشيء.

لم يزر أي زعيم أميركي مطلقاً مخيم لاجئين فلسطينيين في أي مكان، ليس أقلها غزة- وهي حقيقة مذهلة، بالأخذ في الاعتبار الدور المحوري الذي لعبته أميركا في قصة شعبنا. ولم يجرؤ أي منهم على النظر إلى لاجئينا في وجوههم والشعور بمعاناهم مباشرة.

وباسم التقليد والعرف التاريخي المتمثل في حسن ضيافة العرب للضيوف، وتوقعاً لذلك اليوم الذي يحقق فيه رئيس أميركي وعده بالتغيير، نوجه الدعوة الآن، وسنعد العدة لاستقبال الضيف. * نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"


المصدر : نافذة مصر