حصاد الأيام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث



حسن العشماوي .. حصاد الأيام .. أو .. مذكرات هارب


تقديم

تعد مذكرات الأستاذ حسن عشماوي من المذكرات الهامة التي تلقي الضوء على حقبة هامة سواء في حياة جماعة الإخوان المسلمين خاصة او الحياة السياسية في مصر عامة، حيث أنها تؤرخ لطبيعة العلاقة بين ثورة يوليو والضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين والتغييرات التي حدثت بين الطرفين بعد نجاح الثورة في 23 يوليو، والصدام بين رجال الثورة بعضهم البعض سواء بين محمد نجيب وباقي رجال الثورة أو بين الإخوان وقادة الثورة أمثالجمال عبدالناصر وجمال سالم وغيرهم.

كما يوضح انقلاب قادة الثورة على الإخوان المسلمين والمعتقلات بعد حادثة المنشية عام 1954م.

ويعرض المؤلف في مذكراته لقصة هروبه بعد الحكم عليه بالسجن من قبل محكمة الشعب.

ويقدم موقع إخوان ويكي (موسوعة الإخوان المسلمين) هذا الكتاب لقرائه الكرام ليتعرف على الحقائق من خلال شاهد على مرحلة تغيير البلاد من الملكية إلى الجمهورية.

مع تحيات موقع إخوان ويكي

هذا الكتاب

في عام 1954 أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين –كما صدر قبل هذا التاريخ قرارا بحل الأحزاب السياسية في مصر –وتم القبض على قادة جماعة الإخوان والمنضمين إليها، وقدموا للمحاكمة وصدرت ضدهم أحكاما بعقوبات متفاوتة من الإعدام شنقا إلى السجن مع الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.

إلا أن كاتبنا المرحوم حسن العشماوي استطاع الهرب، وظل مختفيا داخل مصر لثلاث سنوات، ثم غادرها إلى السعودية متخفيا في سنة 1957، ومنها إلى سويسرا والمغرب والكويت، حيث عمل بها نائبا لرئيس الفتوى والتشريع ومستشارا قانونيا، في وزارة الدفاع الكويتية حتى لقي ربه في عام 1972.

وقد سجل في مذكراته هذه أثناء هربه قصته مع ثورة يوليو، كيف بدأت تنظيمات الضباط الأحرار داخل تنظيمات الإخوان، وكيف استقلت مجموعة الضباط عن تنظيم الإخوان مع استمرار تعاونهم ومدى هذا التعاون وكيفية استثماره في الهجمات على معسكرات الإنجليز في القناة وقصة حريق القاهرة والأسلحة، وكيف كانت تهرب لاستغلالها عند ساعة الصفر إلى ليلة قيام الثورة ودور الإخوان فيها قبل قيامها وعند قيامها وبعد نجاحها حتى وقع الصدام والخلاف إثر أزمة محمد نجيب في مارس 1954، ثم حادث إطلاق الرصاص بالمنشية على جمال عبد الناصر.

ماذا حدث للإخوان؟ علميات القبض والتعذيب والمحاكمات... وما تعرض له صاحب المذكرات من معاناة بالرغم من عدم القبض عليه.

وقد نشرت مجلةروز اليوسف» القاهرة هذه المذكرات على حلقات في عام 1977 ثم قام المكتب المصري الحديث بالقاهرة بنشر هذه المذكرات في كتاب ،ويسرنا اليوم أن نعيد نشر هذه المذكرات لعلها تيسر للمؤرخين رؤية تلك الفترة التي شابها كثير من الغموض، كما نأمل أن نقدم قريبا للعالم العربي القسم الثاني من المذكرات التي تتضمن محاضر اجتماعات قادة الثورة والإخوان قبل وبعد حركة 23 يوليه للعبرة والاعتبار.


الإهداء

إلى زوجتي التي شاركتني طوال الطريق أهدي هذه الكلمات (حسن)

كل ما في هذه الكلمات هو الواقع .. لم أغير فيه غير بعض أسماء الأشخاص، ولم أحذف منه غير بعض أسماء الأماكن.

أن بدرا والصحاب، كانوا علامات الطريق، ومنائر الهداية خلال الحرية الواعية.

فإلى هؤلاء أبعث اعترافي بالجميل...

وإلى تلك الأماكن أبث أشواقي...

(حسن)

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ﴾[يوسف: 111].

﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾[الأنعام: 152]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته وسار على منهجه وسنته إلى يوم الدين.

وبعد، فإن الإسلام دين الصدق والاستقامة، دين الحق والأمانة، دين القسط والعدالة الشاملة والقرآن الكريم طلب من الأمة المسلمة أن تحمل لواء العدل والصدق في جميع الظروف والأحوال، وأن تقف بجانب الحق والاستقامة حتى مع الأعداء، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء: 136]

﴿ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المائدة: 8]، ﴿ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[المائدة: 2].

لذلك طلب الإسلام من المسلمين أن يكونوا في معسكر العدالة دائما، وبجانب المظلوم في مواجهة الظالم: ﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾[النساء: 75] فليس في الإسلام «حياد» بين الحق والباطل، وليس فيه «حياد» بين الظالم والمظلوم في مواجهة الباطل والظلم: ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[الحجرات: 9] ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما» فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا، أرأيت إن كان ظلمًا فكيف أنصره؟ قالك تَحْجُزُهُ- أو تَمْنَعُهُ –من الظلم فإنَّ ذلك مَصْرُهُ» [رواه البخاري].

نعم يجوز «الحياد» بين الظالمين والظالمين، بين المستعمرين الشرقيين والمستعمرين الغربيين، ولا يجوز «الانحياز» إلى جانب أحدهما أو التعاون مع أيَّهما لأنَّ قاعدة القرآن في التعاون: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾[المائدة: 2]

ولا يجوز: «الحياد» بين المتقاتلين المسلمين ولا الوقوف موقف السلبية واللامبالاة, بل لا بدَّ من التحرك والعمل «الإيجابي» لإيقاف القتال بين الطائفتين المتنازعتين، والقرآن الكريم يرسم الطريق لعلاج الفتنة والاقتتال بين المسلمين في سورة الحجرات: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات: 9-10].

ولن ينجي متفرجين من عقاب الله سبحانه يوم القيامة، فهم إلى الهلاك والخسران سائرون وصائرون: ﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر: 1-3].

وقصة «الإخوان والثورة» التي انتهت والحمد لله بعد طول عناء وبعد ليل طويل امتد إلى ربع قرن من الزمان ما كان أن تصل إلى مرحلة الصدام والعذاب لو أن المسلمين فهموا الإسلام فهمًا صحيحًا وحكّموا القرآن الكريم في أعمالهم وتصرفاتهم ونزاعاتهم، ولو أن الوعي الإسلامي تمكن من الأكثرية الكاثرة من شعوبهم، الغافلة عن دينها، الغارقة في لهوها وعبثها، والمشغولة في الشهوات والملذَّات والأنانيات، لما حصل الذي حصل، لأَّن القرآن الكريم يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يأيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ﴾[النساء: 58-59]، ولأننا لم نَرْتَضِ حكم القرآن في تسوية خلافاتنا ونزاعاتنا فما زال العالم الإسلامي يتخبط في دياجير الظلام، والقرآن الكريم يشهد على عدم صحة إيماننا وإسلامنا ما دمنا مصرَّين على استبعاد تحكيمه: ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء: 65].

ولقد انتهت قصة «الإخوان والثورة» بموت الحكام والمحكومين أو بإبعاد من بقي من رجال الثورة عن سدّة الحكم، ومات من مات من الإخوان المسجونين، وخرج من السجن من بقي منهم على قيد الحياة، وعاد يستأنف حياته من جديد، مات الرئيس جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، ومحمد نجيب، وأنور السادات، وصلاح سالم، وجمال سالم، وابتعد عن الحكم زكريا محي الدين، وخالد محي الدين، وكمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، وحسين الشافعي، ومات أو قتل من الإخوان: حسن البنا وحسن الهضيبي، وحسن العشماوي، وصالح عشماوي وعبد الحكيم عابدين وسيد قطب وعبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف وغيرهم من الإخوان أو من رجال الثورة، وآل أمر الجميع إلى رب العالمين ومالك الملك والملكوت ورئيس محكمة يوم الدين حينما يقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[النساء: 16-17].

وبقي العالم العربي والإسلامي أن ينظر إلى قصة الإخوان والثورة نظرة موضوعية، للعبرة والاعتبار: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ﴾[يوسف: 111]، أن يبحث ويقرأ عن الحقَّ والحقيقة، ويعطي: كلَّ ذي حقَّ حقَّه، بعيدًا عن مجاملة الأصدقاء أو عداوة الخصوم: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾[الأنعام: 152]، ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾[المائدة: 8].

ويجب أن يكون ميزان العدالة دقيقًا: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾[الزلزلة: 1-8].

فإذا كان رجال الثورة قد قاموا بأعمال صالحة، فيجب أن يكون ذلك في كفَّة حسناتهم، وإذا كانوا قد تصرفوا بعمل غير صالح فيجب أن يكون ذلك في كفَّة سيئاتهم أيضًا، وكذلك بالنسبة للإخوان؛ أن نحسب جهدهم وعملهم في ميزان الخير والشر، في كفَّة الحسنات والسيئات، أن نذكر ما لهم وما عليهم، وبعد ذلك نضع لهم الدرجة التي يستحقونها كما يفعل ذلك مصحح الامتحانات.

يجب علينا أن نقرأ بحياد. وأن نقرأ ما يقوله رجال الثورة، وما يقوله رجال الإخوان، وما يقوله المحايدون العالمون عن الطرفين، وقد علَّمنا القرآن الكريم ألاَّ نحكم على أحد قبل أن نستمع إلى دفاعه ووجهة نظره: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص:20-23].

هذا ما قاله الخصم الأول، وكان على داود أن يستمع إلى وجهة النظر الأخرى قبل أن يصدر حكمة، ولكنَّه تسرَّع، وَحَكَم قبل أن يستمع إلى الخصم الآخر، وحكم بقول: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾[ص: 25] وكان على داود أن لا يأخذ بظاهر قول أحد، قبل أن يمنح الآخر فرص للإدلاء بقوله وحُجَّته، فقد يتغَّير وجه المسألة كلَّه، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعًا أو كاذبًا أو ناقصًا!

عند هذا تنبَّه داود أنَّه الابتلاء:﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾[ص: 24-25].

وكان التوجيه لداود ولكل حاكم ومسؤول، ولكلَّ من يتصدى للحكم بين الناس: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص: 26].

وكتاب «حصاد الأيام» يتحدث عن العلاقات التي نشأت بين رجال الثورة والإخوان، قبل حركة 23يوليو 1952، وما بعدها، وكيف تعرف المؤلف على الرئيس عبد الناصر في أكتوبر 1915، وكان صلة الوصل بين الإخوان ورجال الثورة، وكيف أن الإخوان ساعدوا الحركة عند قيامها وبعد قيامها، إلى أن يخرجوا عقب اجتماع الهيئة التأسيسية يوم الخميس في 29 أكتوبر 1954 في مظاهرة سلمية تضمّ الإخوان وغيرهم من أفراد الشعب ورجال السياسة ومعهم من يشاء من نسائهم وأطفالهم، يرابطون جميعًا أمام قصر الجمهورية [قصر عابدين] حتى تنزل الحكومة عند رغبة الشعب أو تبيدهم بالرصاص..! ولكن هذا القرار أجهض حين نجحت الثورة في اعتقال مرشد الجماعة في الإسكندرية قبل موعد المظاهرة السلمية بيومين، وقيامها بحملات اعتقالات كبيرة قبل وبعد محاولة الاغتيال الغامضة الفردية التي اتهم بها محمود عبد اللطيف.

وبعد أن انقطعت الاتصالات بين المؤلف وبين إخوانه من أفراد قيادة الجماعة، استقر رأيه على الهرب، واستعان ببعض أصدقائه القدامى من غير الإخوان الذين سهَّلوا له الهرب وتعاونوا معه طوال السنوات الثلاث لهروبه حتى نجح في الخروج من مصر إلى خارجها في صباح يوم من الأيام الأولى من أغسطس عام 1957م.

وكتاب «حصاد الأيام أو مذكرات هارب» سبق أن نشر أولاً في حوالي عشر حلقات متتالية في مجلة روز اليوسف القاهرة الواسعة الانتشار ابتداء من العدد 2574 الصادر في 3 أكتوبر 1977، ثم صدر في كتاب عن المكتب المصري الحديث بعنوان (الإخوان والثورة) وها نحن اليوم نعيد طبع الكتاب بعد تصحيحه وإعادة تنضيده من جديد بالعنوان الذي اختاره المؤلف رحمه الله من قبل، حيث أن للمؤلف كتاب آخر بعنوان (الأيام الحاسمة وحصادها) يحتوي على محاضر جلسات عشرة أيام بين رجال الثورة وجماعة الإخوان، منها ثلاثة أيام سابقة على قيام الثورة، بدأت مساء يوم 18/ 7/ 1952، وكان آخرها يوم 15/ 5/ 1953، وقد اشترك في هذه الجلسات من رجال الثورة جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين وجمال سالم وأنور السادات، واشترك من جماعة الإخوان بعض الشخصيات المدنية والعسكرة، منهم حسن العشماوي وعبد القادر حلمي ومنير الدلَّة، وصلاح شادي، وعبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي، فالكتاب الثاني «الأيام الحاسمة» كان يجب أن يكون الكتاب الأول، والكتاب الأول كان يجب أن يكون الكتاب الثاني، لأنه حصاد تلك الأيام الحاسمة.

وأرجو أن يكون في نشر هذا الكتاب عبرة للحاكمين والمحكومين من المسلمين في المستقبل حتى لا تتكرر المأساة.

(الناشر)


هُنَا سَتُقيم

غدا الركب الصغير –منذ الشروق- يحث السير متعقبًا قرص الشمس نحو الصحراء... كنا خمسة أشخاص، نسير على أقدامنا وقد أنقت الأحمال ظهورنا: فرحات وحسين وعليان وحامد... ثم أنا وكنا نسير صفًا واحدًا بهذا الترتيب.

كان فرحات يتقدمنا جميعًا لأنه دليل الركب، فهو أعرفنا بمسالك الصحراء من بلد إلى آخر، بل وقبل ذلك بكثير منذ كان غلامًا صغير السن يذهب إليها حاملاً الطعام إلى أخيه الأكبر الهارب من السجن، الآوي إلى الصحراء تحميه من عيون الشرطة.

ثم زاد فرحات معرفة بالصحراء ومخابئها حين عمل لصًا يسرق الماشية ليلاً ثم يخفيها بعيدًا عن الناس، وليس أبعد عن الناس من تلك الصحراء التي تراها العين قريبة واضحة، فإذا قصدها قاصد أعياه الوصول إليها ثم ضلَّ في تيهها التشابه...

وكان سائر زملائنا –حسين وعليان وحامد إخوة ثلاثة، وكانوا أمثال فرحات وزملاءه في العمل، اتخذ الجميع السرقة وسلة كسب لهم، وإن كانوا-أقل منه خبرة بالصحراء وأقل ترددًا عليها.... ولذلك ارتضوا أن يكون فرحات لهم قائدًا ودليلاً.

وكان أفراد الركب الصغير يحملون قربتين من الماء، وسلة ملئت خبزًا يابسًا وقليلاً من طعام، وبطانيتين خشنتين من صوف الأغنام، وبعض الملابس والأدوات، وقطعًا من أخشاب يابسة... وكان كل منهم يحمل بندقية وبعض الذخيرة وسكينًا.

وكنت أنا بجسمي الهزيل الذي أرهقه السهر أيامًا فراح يضطرب في الثوب الفضفاض الذي أرتديه –كنت أنا أبطأ الركب سيرًا، وأشدّ أفراده شعورًا بثقل ما أحمل.. مع أني لم أكن أحمل غير ثيابي وسلاحي... وقلقي..!!

وقطع الركب في سيره ساعة وغابت عن ناظرنا مشاهد الوادي الأخضر والبيوت القاتمة المبنية بالطين... ثم بدأنا الصعود إلى جبل أجرد، في درب ضيقة يزل حصاها تحت أقدامنا... وعلى يسانا وادي سحيق يزداد كلما ارتقينا عمقًا، انتصبت صخوره الصماء القاسية تنذر من يسقط إليها بشر موتة...

وتصببنا عرقًا في الشتاء، وانفرجت افواهنا لتفسح المجال للأنفاس اللاهثة، ووهنت ساقاي عن حملي، وغشيني الدوار.

استرحنا في صعودنا مرتين، نلتقط أنفاسنا ونهيئ لأقدامنا المكدودة بعض الراحة عسى أن تواصل الصعود...

وراودتني في كل مرة أستريح فيها فكرة أن أعود من حيث أتيت...

ولكن، إلى أين أعود...؟ لم يصبح لي في الأمر خيار...!!هل أعود إلى السجن أعلم ما فيه من أهوال وصنوف عذاب. ثم إلى محاكمة صورية أعلم ما ينطوي عليه من ظلم .. ثم إلى عدو كان صديقًا يحمل معنا ذات الفكرة فغد ولم أعد منذ زمن آمن غدره...؟!

لا.... لن أعود...ولأواصل السير مهما كانت النتائج.. ولو مت هناك.. هناك بعيدًا.

وحين بلغنا قمة الجبل، وجلسنا نلتمس بعض الراحة, ألقيت نظرة إلى الوادي خلفي حسبتها الأخيرة في حياتي، فإذا به قد انكشف للنظر، وإذا بالنيل الحبيب يلمع في ضوء الشمس الدافئة وهو ينساب وقورًا بين الجبلين، ومن ورائهما صحراء لم أكن أعلم بعد عنها شيئًا، وحول النيل نسج الإنسان –بعون الطبيعة- أبسطه خضراء وصفراء وسوداء وأقام منازل هي أقرب إلى الأكواخ.. وراح يقضي عمره على الأرض التي عشقها قريبًا من النيل الذي أحبه.. النيل الذي عبده قديمًا قبل أن يهتدي إلى من أجراه وسخره له. النيل الذي يجري هواه في دم كل مصري مهما لقي على شاطئه من عنت.. يخيل إلى أن عروس النيل التي يقال أنهم كانوا يهدونها إليه كل عام. كانت تحبه من أعماقها مع أنها ستلقى فيه حتفها...

هل لي إلى هذا الوادي الأخضر من رجعة؟ هل سأرى من خلفت فيه ثانية..؟ أم ستبتلعني تلك الصحراء الفاغرة فاها أمامي ولن ألقى بعد اليوم أحدًا؟

إن ذلك الهمس الذي دار حولي صبيحة مجيئي إلى هذه البلدة لم يزل يرن في أذني منه تلك العبارة الوحيدة التي التقطتا: إن خفتم على أنفسكم منه فاقتلوه والأرض واسعة تبتلع كل أثر...!!

وأيقظني فرحات من تأملاتي حين دعانا إلى السير. .فعاودنا الرحلة على أرض منبسطة تعترضها من جنوب إلى شمال –درب واسعة مهيأة للسير، عليه آثار دواب مرت حديثًا، إنه الدرب الواسع كما يسميه القوم هنا يسلكها من يذهبون إلى الصحراء علانية يلتمسون رزقا حلالاً مما يحلبون من ملح وشيح وروث خفاش..! وعبرنا الدرب الواسع، وسرنا في حذر فوق الصخور والحصى بعيدًا عن الدروب الصغيرة المنتشرة، متجنبين السير على الرمال حتى لا نترك وراءنا لأقدامنا آثاراً تدل علينا وعلى اتجاهنا، ثم بدأنا في الهبوط من القمة إلى الصحراء سالكين دروبًا ضيقة تارة ومجاري لسيول قديمة جافة تارة أخرى.. حتى بلغنا قبيل الظهر –مكانًا ألقينا فيه ما نحمل .. .وجلسنا.

«هنا ستقيم..! قالها لي فرحات ببساطة غير مكترثة، وهو يطوي لفافة تبغ بين أصابعه».

وتلفت حولي أنظر أين أنا.. وارتقيت صخرة قريبة لأتعرف على ذلك المكان الذي قضي علي أن أقيم فيه وأن أتخذه بيتي .. وشغل عني رفاقي الأربعة بلفائف تبغهم وبحديثهم فيما لا يعنيني من أمور.

في مجرى لسيل قديم جدًا، جف ماؤه منذ سنين –وقد يعود يومًا –كان ينساب من القمة غربًا إلى الوادي السحيق شرقًا، حيث يلتقي بغيره في «مجمع السيول» وبين قمتين قاتمتين كئيبتين تقومان شمالا وجنوبا سقط السيل القديماً فأحدث في مجراه فجوة يقوم حولها من صخر الجبل ما يشبها الحائطين، تستوي بينهما مساحة رملية مستطيلة يبلغ طولها أربعة أمتار وعرضها مترين ونصف المتر.

ثم ينساب مجرى السيل جافاً قاحلاً ليتسع حيث ينتشر فيه صخور سوداء صماء أحرقتها الشمس الحامية فهي أشبه ما تكون بجنود سود قاموا حول المكان حراسًا.. وبعد ثلاثين مترًا شرقا –يسقط المجرى رأسا وفجأة إلى قاع مجمع السيول على عمق يزيد عن المائتي متر...! قمم جرداء كستها الشمس حمرة، وسفوح كوالح تعلوها صفرة، وصخور صماء سوداء، وقفار شاسعة على مرمى البصر.. وغرابيب سود تحلق أمنت القمم الشاهقة منها أوكارا بعيدًا عن أعين الناس.

هذا كل ما رأت عينب في المكان الذي كتب علي أن أعيش فيه فترة من الزمن لا أعلمها، وعند العصر ودعني زفاقي جميعا وعادوا إلى الوادي، تركوني وحيدًا,... بغير أنيس من إنسان أو كتاب أو قلم. .. واجتاحني شعور عارم بالوحشة حتى كان الليل فتكاثر حولي عواء الذئاب فأنست به، ورن في سمعي صوت الشيخ الطيب: يا بني إن الذئب هجر الوادي وسكن الصحراء لأن أصحاب الوادي له أعداء، وأنت خاصمت رجال الدولة فكلهم لك عدو، وهم اليوم أصحاب الوادي.. فاتبع جرة الذئب إلى الصحراء فهي مأمنك الوحيد...

وكان ذلك مساء الثلاثاء 30 نوفمبر سنة 1954، والحكومة تعد المشانق لزملائي، والكل ينتظر دوره.

وفي هذا المكان أقمت طويلاً .. أطول مما قدرت وقدر الناس.

ولكن، كيف جئت إلى هنا .. وما القصة من أولها؟


من قناة السويس.... إلى القاهرة

إنها ليست قصة حياتي، لأن حياتي أهون عندي من أن أكتب لها قصة.

وليست قصة الإخوان... فقصتهم أكثر تشعبًا من أن أستقل بكتابتها.

ولست قصة ثورة مصر في 23 يولية سنة 1952، فلقصتا مجال آخر.

ولكن قصة فرد آمن بحريته، ففر من وجه الدولة، وتعاون معه الشعب الحر، فنا ليواصل الطريق..

ولهذا فهي تسمى كل تلك الأمور في ناحية من نواحيها، ولكن معالمها تبدأ منذ اليوم الذي عرفت فيه عبد الناصر، لا منذ عرفني، فقد عرفي لصلتي بالإخوان حين كان يعتبر نفسه واحدا منهم، يدرب شبابهم على إطلاق النار وأعمال النسف في مركز «الصف» ويشترك مع جهازهم السري القديم في تخطيط بعض الحوادث، ولكني لم أكن أعرفه في ذلك الوقت.

عرفت عبد الناصر في أكتوبرسنة 1951 بعد أن ألغت وزارة الرئيس مصطفى النحاس المعاهدة المصرية البريطانية المعقودة عام 1936، وكان الإخوان يشاركون في معارك قناة السويس دون إعلان، وأراد جماعة الضباط الأحرار- الذين يمثلهم عبد الناصر –أن يتعاونوا مع الإخوان في المعركة بعيدا عن الجهاز السري القديم الذي كان عبد الناصر أحد أعضائه، فاتصل بالمرحوم عبد القادر عودة وكيل الإخوان والذي أصبح فيما بعد أحد ضحاياه- فأحاله على الصاغ صلاح شادي أحد زملائنا الذي ترك له مهمة الاتصال بعبد الناصر في هذا الشأن .. واستمر الاتصال بيننا إلى ما تلا المعركة من شؤون وكنت عندئذ استقلت من عملي كوكيل للنائب العام، واشتغلت محاميًا.

دخل علي مكتبي شاب طالت قامته حتى انحنت قليلا إلى الأمام، ونحف جسمه إلى حد الهزال، أسمر اللون، طويل الأنف إلى حد يلفت النظر ... ويبدو للرائي أول نظرة ساهيًا ولكن في عينيه بريق ذكاء يلحظه المراقب عن قرب.

وكان يرتدي أول مرة لباسًا عسكريًا، ثم أقلع عن ارتدائه، وصار يلقاني بقميص رمادي وبنطلون أقرب إلى السواد وكان يبدو لمحدثه بسيطاً واضحًا قليل الكلام، أقرب إلى الحزن منه إلى المرح، ولم أستغرب ذلك حين علمت منه بعض ظروفه الخاصة..

ذكر الشاب لي اسم من أرسله وعرفني بنفسه. كان يحمل وقتذاك اسم «البكباشي أركان الحرب جمال عبد الناصر» ثم أتخذ لنفسه معه فيما بعد اسمًا مستعارا هو «زغلول عبد القادر» يذكره إذا اتصل بي تليفونيا أو أراد أن يلقاني في مكان ما، ولا غرابة في اتخاذه اسمًا مستعارًا، فقد اعتاد ذلك في كل هيئة انتمى إليها أو اتصل بها.

منذ ذلك اليوم بدأت أصبح أحد سبل الاتصال بين الضباط الأحرار والإخوان في أمور معارك قناة السويس، والسبيل الوحيد في غيرها من الأمور.

وكان المفهوم من البداية أنهم جماعة ذات صلة وثيقة قديمة بالإخوان تريد أن تتعاون في القتال فلا محل لأن نرفض.

وعرفت عن عبد الناصر منه ومن زملائي وزملائه الشيء الكثير وتوثقت بيننا العلاقات بسرعة, وشكا لي كثيرا من جهالة زملائه وضيق أفقهم، فهو قد جمعهم –على حد قوله- من مجالس تحضير الأرواح والجان، ولم يستطع بعد أن يرتقي بمداركهم عن مستواهم القديم. ولم نرفض طلبه العون في «تعليم زملائه».

....وقد بدأت جماعة [[الضباط الأحرار[[ أصلاً كمجموعة من مجموعات الإخوان المسلمين في الجيش. ولكنها انفصلت عام 1948 حين استطاع جمال عبد الناصر –الذي كان قد تردد قبل ذلك على أكثر من هيئة سياسية احتفظ بزملاء له فيها- أن يقنع رئيسه المرحوم الضابط المتقاعد محمود لبيب بانفصالها واستقلالها بكثير من أمورها الخاصة على أن يكون اللقاء في الخطوط الرئيسية والأهداف.. وكانت حجة عبد الناصر الرئيسية في الانفصال بجماعة الضباط الأحرار أن الشرط الخلقية التي يتطلبها الانضمام إلى الإخوان كانت تعوق أغلب ضباط الجيش، مما أدى إلى تضييق مجال الانضمام إليها في صفوف الجيش ولما انفصلت جمعية الضباط الأحرار توسع عبد الناصر في ضم الضباط إليها بغير شروط، غير مجرد السخط على نظام الحكم القائم، وهكذا ضمت تلك الجمعية السرية أشخاصًا ينتمون إلى مختلف الهيئات السياسية في مصر، وظل كل منهم يظن أن عبد الناصر يوافقه في مبادئه..ثم ضمت مجموعة من الغارقين في العبث، فاحتاجوا-كما قال عبد الناصر يومًا- إلى تعليمهم.

وبرغم هذا الخليط العجيب المتنافر من الأعضاء، فقد ظلت الأسرار الحقيقية للضباط الأحرار وقفًا على عبد الناصر وقلة من الضباط تختلف في مدى علمها بالأسرار أما البقية الباقية من الأعضاء فإنها كانت تنتظر مجهولا لا تعلمه..

وشغلتنا معارك قناة السويس وما تحتاجه من سلاح وأعمال عن تعليم لضباط الأحرار.

كانت صناديق الذخيرة تأتي من رفح على حدود فلسطين –فنتلقاها- عبد الناصر وأنا- وننقلها إلى بيوتنا لترسل في اليوم التالي مباشرة إلى خطوط القتال أو مراكز التدريب... وكان مفهومًا أن هذه الذخيرة مسروقة من الجيش في القتال، فإن لم يفعل فلا أقل من أن يشارك ببعض ذخيرته، يسرقها ويحضرها لنا بعض أفراده، ولكن هؤلاء الأفراد لم يستطيعوا أن يقدموا لنا غير الذخيرة .. فلا سلاح ولا قنابل ولا مواد ناسفة إلا مقابل الثمن.

عرضوا علينا أن يشتروا لنا سلاحًا، وكان الثمن الذي عرضوه مناسبًا، فقبلنا. وكان آخر ما اشتروه لنا بضع مدافع رشاشة ثمنها مائة وعشرة جنيهات أضيفت إليها خمسة جنيهات للتاجر الذي نقلها.. وخمسة أخرى كأتعاب للصاغصلاح سالم وبقي عند عبد الناصر إلى اليوم ثلاثمائه وثمانون جنيهًا من الخمسمائة جنيه التي سلمتها له كدفعة أخيرة.. ولست أطالبه اليوم بسدادها وإن كان قد اعتبرها يومئذ دينًا في ذمته شخصيا...

حدث أثناء محاكمة الوزير الوفدي فؤاد سراج الدين عام 1954 أن ذكر المتهم أن حكومتة الوفد كانت تعاون في معركة قناة السويس، حتى أنه أذن شخصيًا –حين كان وزيرا للداخلية- بنقل لغم بحري من القاهرة إلى القنطره ليفجره الفدائيون هناك بمعاونة بعض الضباط، ولكن قائد الجناح عبد اللطيف بغدادي –رئيس المحكمة العسكرية- كذبه في قوله، وقال: إن الضباط الأحرار هم الذين نقلوه بالطائرة.. وأنه لم ينقل بالقطار، والصحيح أن ما قاله رئيس المحكمة لم يكن الواقع كاملاً.. فإن الطائرة لم تنقل إلا الأسلاك والمفجر. أما اللغم ذاته فقد نقل بالقطار كما قالفؤاد سراج الدين...

وكان هناك ضابط في قسم الأبحاث بالجيش المصري ينتمي إلى جماعة الضباط الأحرار، هو اليوزباشي صلاح هايت، واستطاع هذا الضابط أن يصمم لغمًا بحريًا بسيطًا يمكن تحضيره داخل ثكنات الجيش بمعاونة بعض الضباط الألمان الذين كانوا يعملون في قسم الأبحاث. ولما تم تركيب اللغم نقلت أسلاكه ومفجره إلى رفح بالطائرة, وعادت من رفح إلى القنطرة على قناة السويس. أما اللغم ذاته –وكان كبير الحجم ملفتًا للنظر –فقد أوصلناه إلى محطة القاهرة، ومنها سافر بالقطار إلى القنطرة بإذن خاص من فؤاد سراج الدين وزير الداخلية لحكومة الوفد في ذلك الوقت.

وكانت الخطة الموضوعة لتفجير هذا اللغم أن يسافر بعض الإخوان إلى القنطرة ومعهم واحد من زملاء عبد الناصر، فيضعون اللغم في القناة ليلاً، ثم يفجرونه من الشاطئ الشرقي في إحدى ناقلات الزيت أو بوارج البحرية البريطانية أثناء عبورها القناة, وستتعطل الملاحة حينًا يزعج القوات البريطانية المحتلة للمنطقة ويحفز الدول المستفيدة من الملاحة بالقناة أن تدفع هيئة الأمم إلى التدخل في النزاع المصري البريطاني...

وقد بقيت المجموعة المكلفة بالعملية هناك ليلتين، لم يسعدها الحظ خلالها بالباخرة المطلوب نسفها.

وأراد مندوب عبد الناصر حين أعياه الانتظار أن يفجر سفينة ركاب هولندية تعبر القناة, فرفض رئيس المجموعة... وقام اضطراب كاد أن يودي بالجميع لولا أن هدد رئيس المجموعة بإطلاق النار على مندوب عبد الناصر إذا تقدم خطوة واحدة نحو المفجر الكهربائي، وعادت المجموعة لم تتم شيئًا، وأجل التنفيذ إلى يوم آخر، حالت دونه أحداث وقعت في القاهرة.

ومن العجيب أن عبد الناصر عتب على المجموعة أن دفعتها الإنسانية إلى رفض تفجير باخرة ركاب تسير آمة بمن تحمل من نساء وأطفال ومدنيين.

وقد أعاد عبد الناصر إلى ذهنبي تلك العملية القديمة، حين نسف أثناء اعتداء القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية على مصر عام 1956- بعض مراكب في القناة, واستطاع أن يهتم القوات المغيرة بضربها.

وفي ديسمبر سنة 1951 طلب مني عبد الناصر أن نقدم له شابًا من الإخوان فدائيًا ميت القلب كما نقول في مصر، ونعني شجاعًا لا يخاف، ثابتا لا يضطرب، وكان يريده ليقوم بعملية خطيرة في بور سعيد، فقدمنا له المرحوم عبد اللطيف الذي كان قد أبدى شجاعة وثباتا فائقين في حرب فلسطين عام 1949، والذي أعدمه عبد الناصر بعد ذلك بثلاثة أعوام بتهمة الشروع في قتله بالإسكندرية.

سافر محمود محمود عبد اللطيف إلى بور سعيد ونحن لا نعلم بعد ما هي العملية الخطيرة التي سيقوم بها هناك، وحين لحقت به مع بعض زملائي تبين أن العملية هي تسميم الجنود البريطانيين في معسكر بور سعيد، وكان ذلك سيتم بأن يلتحق محمود عبد اللطيف كأحد العمال بناء على توصية شخص موثوق فيه ممن يشرفون على المعسكر، ثم يضع كمية من السم في اللحوم المخزونة بالثلاجات وليكن ضحاياها من يكون ممن سيأكل هذا اللحم.

ورفضنا العملية لأن القتل بالسم أمر غير إنساني ولو كان ضد الأعداء.. وعدنا بالمرحوم محمود عبد اللطيف إلى القاهرة على أن نعيد بحث الأمر بعد الرجوع للأستاذ الهضيبي الذي رفض بشدة هذا الأسلوب في المعارك، وبقي اسم عند مندوب عبد الناصر في بور سعيد، واتجهنا نحن إلى القتال الصريح في معارك القناة...

مهما اختلف الناس أخيرًا في سلامة إلغاء المعاهدة البريطانية كتصرف سياسي، فلا شك أن الظروف كانت تهيئ لمعارك قناة السويس أن تستمر وأن تؤثر في موقف جيش الاحتلال، وأن تؤتي ثمارا طيبة وسريعة، فقد كان الشعب كله متحمسًا لها، وكانت حكومة الوفد القائمة تؤيدها ماديًا ومعنويًا، وكان المفروض أن تستغل تطوراتها دولياً. ولا شك أن معركة كهذه يتعاون فيها الشعب والحكومة جديرة بأن تنجح، وإن وقف الجيش سميًا منأى عنها ولكن وزارة الوفد أقيلت إثر حادث حريق القاهرة ذلك الحادث الذي نقل المعركة من قناة السويس إلى العاصمة، ومن معركة خارجية يتفق فيها الجميع إلى معركة داخلية تختلف فيها الاتجاهات والنزعات.

لقد حاول كثيرون تحديد المسؤولية عن حريق القاهرة فـأخطأهم التوفيق لأنهم كانوا يضربون في الظلام فيخطئون الاتهام لأنهم لم يعيشوا مع ذلك الجنين الذي كان يتكون والذي أحرق القاهرة ليهيئ لنفسه الظروف كي يولد... إن أكبر دليل اتخذ في اتهام البعض بإحراق القاهرة أنهم كانوا يقولون في صراحة أنه لا فائدة من معركة خارجية ضد الاحتلال ما دام الوضع الداخلي للبلاد فاسدًا يحتاج إلى معركة حاسمة تصلحه.

ولكن مجرد هذا القول لا يكفي في نظري دليلاً على إحراق القاهرة، فإني طالما سمعته من عبد الناصر شخصيًا ومع ذلك لم يخطر ببالي يومًا أن أتهمه.

أما اتهامه السفارة البريطانية تارة والملك السابق فاروق تارة أخرى فإنه لا يعدو- في نظري- أن يكون نوعًا من الدعاية...!!


من أحرق القاهرة...؟

كان لدي عمل بإحدى محاكم الصعيد يوم 27 يناير سنة 1953م فحاولت أن أنتهي يوم 26 يناير مبكرًا من إرسال ما في منزلي من ذخيرة إلى مركز التدريب وسافرت بالقطار الذي يغادر القاهرة ظهرًا، وكانت المظاهرات تملأ الشوارع، وفوجئت صباح يوم 27 يناير بالجرائد تنقل أنباء حريق القاهرة، وإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول... وكنت قد نمت بالأمس دون أن أسمع عن ذلك الذي أذيع شيئًا. فعدت لفوري إلى القاهرة لأتبين الوضع الجديد الذي سينجم عن الأحداث المفاجئة....

وما أن وصلت منزلي حتى طالعتني في الجاراج صناديق كثيرة بها كميات من الذخائر والقنابل والمواد الناسفة وهالني ما رأيت في بيتي، فالأحكام العرفية مفروضة، والحكومة تبحث عمن أحرق القاهرة، ولكني قدرت أن أجد تفسيرًا لهذه الأشياء عند زملائي في الصباح حين يكون التجول مباحًا. ولما قابلتهم رووا لي ما حدث فهم الذي وضعوا تلك المواد الخطيرة في بيتي.

في يوم 26 يناير سنة 1952 ومعارك قناة السويس تسير سيرها الطبيعي، والمظاهرات تجوب شوارع القاهرة تطالب بمزيد من قتال ضد الإنجليز، والملك فاروق يدعو إلى مائدته جمعًا من ضباط الجيش، وضع مجهولون النار في بعض أماكن بالقاهرة فأثاروا ثائرة الجماهير التي اندفعت تخرب وتسرق وتقتل، وقبض على كثيرين، وأعلنت الأحكام العرفية، ثم أقيلت وزارة الرئيس مصطفى النحاس، وتوقفت تقريبا عمليات القتال بقناة السويس، ومنع التجول في القاهرة ليلاً... ونزلت قوات من الجيش إلى الشوارع.. ومع ذلك ظل من وضع النار في القاهرة مجهولاً.

وبمجرد أن انتشرت النار المشتعلة في القاهرة وبدأ النهب يدور في المتاجر والطرقات، اتصل عبد الناصر بمكتبي تليفونيًا، فقيل له: إني على سفر فذهب لفوره إلى الصاغ صلاح شادي يطلب منه أن يتسلم عني بعض الأسلحة والذخائر والقنابل الموجودة في بيته وبيوت زملائه والمسروقة من الجيش، لأنه يخشى أن تفتش بيوتهم فتضبط فيها تلك الأشياء، وهي كفيلة بأن توقع بهم أشد العقاب.أما بيوت الإخوان فهي في مأمن من تفتيشها، إذ المعلوم لدي الجميع أن الإخوان كانوا يعاونون في إطفاء الحرائق وفي استتباب الأمن ومنع الفوضى أن تنتشر في القاهرة.

وسارت بضع سيارات –منها سيارتي وسيارة عبد الناصر الأوستن السوداء- تنقل قنابل حارقة ومواد ناسفة وسط شوارع القاهرة المشتعلة، جمعت تلك المواد من بيوت عبد الناصر وزملائه الضباط، وكدست في جاراج بيتي دون تنظيم أو صيانة أو وقاية من مخاطرها الشديدة، وها هي ذي الآن أمامي.. على أن أتصرف فيها...!!

لم أسأل نفسي وقتذاك عن سبب وجود تلك المواد في بيوت عبد الناصر وزملائه فقد حرصنا منذ بداية تعاوننا في القتال أن نجنبهم الشبهات، وأن نتسلم أولاً بأول ومن محطة القاهرة أو طريق السويس، وما يصل من ذخيرة لنخرجه فورًا من العاصمة إلى مواقع استعماله.

لم أسأل نفسي ولم أسأل عبد الناصر سبب وجود تلك الأشياء عندهم، فقد كان كل ما يعنيني أن أنقذ رقابهم في ذلك الوقت العصيب.

بدأت أنقل تلك المواد إلى مزرعة يملكها أهل في مديرية الشرقية. وأحضر إلى عبد الناصر تصميمًا هندسيًا لمخزن ذخيرة.. وحفرنا في المزرعة وتحت الجاراج، وأنشأنا المخزن دون أن يعلم أحد من أهلي أو من سكان المزرعة ما يدور وراء سور الحديقة, وخلف باب الكاراج المغلق لم يعلم أحد بوجود تلك الأشياء إلا من وضعوها في المخزن وزوجتي التي كانت تصحبني إلى هناك لتشرف على ما نحتاجه من طعام. لن أنسى تلك الأيام التي كنت أجتاز فيها نقط المرور في القاهرة والأقاليم وأطفالي يجلسون فوق صناديق يخشى كثير من الرجال الاقتراب منها... وهم مع ذلك لأهون يغنون لأنهم لا يعلمون على أي خطر يجلسون..!!

وعندما كنا نرسي تلك المواد في المخزن تأكدت أن فيها كمية كبيرة من القنابل الحارقة والمواد الناسفة وصندوقين من مادة ال ت. ن. ت. الشديدة الاحتراق. وكان عبد الناصر لم يقدم لنا شيئًا من هذه المواد طوال معركة القناة, وعرفت من التحقيق الذي أجرته النيابة عن حريق القاهرة أن مادة ال.ت. ن. ت هي أول ما استعمل في الإحراق.. وهي مادة لا يستطاع الحصول عليها في مصر إلا من مخازن الجيش، وقد أثار كل ذلك شكوكي ولكني لم أرد أجعل الشك سندًا لأحكامي، وحين سألت عبد الناصر عن سبب ضنه علينا بمثل تلك المواد أثناء المعارك كان رده –ببساطة- إنها لم ترد إلا أخيرًا.

كثيرًا ما كان الحديث يجري بيني وبين عبد الناصر عن حاجة البلاد إلى ثورة تصحح أوضاعها وتقيم فيها حكمًا دستوريًا سليمًا ينبع من إرادة الشعب الحقيقة ويحقق للناس ما هم في حاجة إليه من رخاء وكرامة وكان لا خلاف بيننا في أن الملك فاروق وجيشه يقف عقبة في طريق كل إصلاح داخلي جذري.

وفي يوم من الأيام الأولى لشهر مارس سنة 1952م، رأي بعض الضباط- ومنهم جمال عبد الناصر- أن الوقت مناسب لعمل انقلاب عسكري تتخلص فيه البلاد من الملك وتعيد دستورها وتلتفت إلى إصلاحاتها الداخلية وإلى استكمال استقلالها الخارجي، واستشار عبد الناصر بعض زملائه وبعض أصدقائه، ثم جاء إلى مكتبي غير مخف غضبه, جاء يشكو ويأخذ رأيي النهائي أن زميله القائمقام رشاد مهنا الذي أصبح بعد الثورة عضوا لمجلس الوصاية على العرش .. رفض المشاركة في الحركة العسكرية بحجة أن الوقت غير مناسب، ورشاد مهنا له كثيرون يدينون له بالطاعة في صفوف الضباط الأحرار فلا يمكن القيام بالحركة بدونه، ورشاد مهنا، على صلة طيبة بالإخوان، فقد لا يشترك ضباط الإخوان في حركة يرفضها، وقد لا تؤدي الهيئة ذاتها فكرة الحركة.

وبدأت أناقش في هدوء –ودون دفاع عن وجهة نظر معينة- مدى مناسبة الظروف محليا ودوليًا للقيام بثورة عسكرية تكون تمهيدًا لثورة شعب.. فلم يستطع عبد الناصر أن يضبط نفسه وقاطعني قائلا:

- لماذا إذن تكبدنا المتاعب والأخطار في سبيل إنزال قوات الجيش إلى شوارع القاهرة، لقد كاد الأمر أن يفلت من أيدينا ويأتي حريق القاهرة بأخطر النتائج ولكننا كسبنا نزول الجيش إلى الشوارع.... وهو يستطيع اليوم أن يستولي على الحكم في ساعة واحدة من ساعات الليل...

وعرفت يومئذ أن عبد الناصر استفاد كثيرا من تلك الفترة التي يحمل فيها اسم «موريس» كاسم حركي في خلية شيوعية...

ولم أناقش الماضي، فمناقشة الماضي أملاً لا طائل من ورائه.

واستكملنا حديثنا عن الثورة العسكرية المرتقبة ونتائجها، ولكن حركة مارس عدل عنها حين لم يجد عبد الناصر من يعينه عليها –أو من يقوم بها نيابة عنه- وحين أيقن أن التخريب قد يدخل الإنجليز قبل إقناع الأمريكان أمر خطير –أرجئ تاريخ الثورة لتقع في 23يولية سنة 1952م، وظلت الأسلحة والذخائر والمواد الناسفة والحارقة المتبقية من حريق القاهرة في مخزنها الذي اختاره لها عبد الناصر، حتى قام في يناير سنة 1954م بضبطها... ولكن كل مصري عرف من هو صاحبها.

وسارت الأيام ... وتغيرت الوزارات في مصر بسرعة غير عادية. وأسرف رجال القصر الملكي في عبثهم .. وحاولت الحكومات المتعاقبة التفاهم مع الإخوان الذين أبوا أن ينخدعوا، فالأحكام العرفية مفروضة تستغل في اضطهاد بعض الهيئات الشعبية فليس لهيئة أن تثق في الحكومة أو في القصر واستمر الإعداد الجدي في خفاء للثورة العامة التي سيقوم فيها الجيش بالخطوة الأولى، لأن الشعب لا يطمئن إلى الأقدام وحده على عمل ما دام الملك فاروق يرهبه بالجيش.

وأريد –إنصافًا للتاريخ- أن أقول: إن بعض الزملاء –الذين لم نسمع لهم يومئذ، رفضوا إلى آخر لحظة قيام الجيش بحركة عسكرية كخطوة نحو الثورة العامة، لأنهم لا يثقون في حركات الجيوش ولا أستطيع أن أكشف عن أسماء هؤلاء الزملاء، ولكن الأيام كفيلة بأن تكشف عنهم.

أما المتحمسون منا ومن غيرنا المؤملون كثيرًا من مستقبل الحرية فلم يسمعوا إلى الزملاء الذين أشرت إليهم. ورأوا مخاطر مشاركة العسكريين في الثورة أهون من بقاء النظام في مصر، وحسبوا أن الشركاء العسكرين يمكن أن يصدقوا في دعواهم في الحرص على الحرية والدستور وكرامة الإنسان.

واستمر الإعداد للثورة العامة التي تبدأ بتحرك عسكري، فدعي ضباط الإخوان للمشاركة فيها، ودعي عامة الشباب ليكونوا على أهبة الاستعداد لحماية الوضع الجديد... ولكننا اتفقنا على أن يبقى كل ذلك مكتومًا فلم نعلن عنه حتى بعد نجاح الثورة...

ونوقشت الأوضاع التالية للثورة واحتمالات الفشل والنجاح أما الفشل فكان معناه أن تنضم الفئة الثائرة من الجيش إلى الشباب ويكون قتالاً يؤدي إلى ما قد يؤدي إليه من أحداث.. أما النجاح فكان يعقبه إسناد الحكم مؤقتًا إلى الرئيس على ماهر لتطمئن الهيئات المحلية والدول الأجنبية .. ثم تجري انتخابات سريعة يحكم البلد بعدها من يختاره الشعب في ظل الدستور الذي له السيادة وحده.. ويرجأ إلغاء الملكية إلى ما عبد الانتخابات, وقد رأى عبد الناصر –كما قال لي- أن يزيد بعض ما بعد الانتخابات، وقد رأى عبد الناصر- كما قال لي- أن يزيد بعض الدول الأجنبية اطمئنانا إلى الوضع الجديد فإذا ببعض السفارات الأجنبية تعلم بالثورة قبل نشوبها ... وهذا يفسر لنا اطمئنان تلك الدول إلى الناصرية وقتًا طويلاً..

كما أصر عبد الناصر بعد الثورة وكم ردد- في مناسبة وغير مناسبة- أن لا وصاية لأحد على الثورة وفاته أن الأمر لم يكن أمر وصاية هيئة على هيئة أو شخص على شخص بل إقرار أوضاع البلاد على حال يمكن أن تستقيم، كان الاتفاق واضحًا على أن يعاد الدستور ويحمي، وتقف مهمة الجيش عند منع عبث الحكومة المؤقتة بأوضاع البلاد إلى أن يتسلم الحكم من تسفر الانتخابات عن نجاحه... فإذا احتاج الأمر إلى تدخل أكبر أو تعديل في الخطط وجب أن يتفق ثانية على ذلك.

وحدد التوقيت .. ولكن الظروف قدمته أيامًا قائل حين وصلت أنباؤه وأسماء بعض الضباط إلى أسماع الملك فاروق، فكان التنفيذ، وقامت الثورة يوم 23يولية سنة 1952م ولم يعلم بها قبل وقوعها إلا القليلون.

وقعت الثورة، وفرج بها الناس في دهشة، وتهاوى أنصار الملك، واضطربت تصرفاته، وعين لرئيس علي ماهر رئيسًا للوزراء والرئيس نجيب قائدا للجيش، وبعد ثلاثة أيام تنازل الملك عن العرش وغادر البلاد، فأزح بذلك حملاً ثقيلاً عن صدورنا.

لو أن الملك فاروق اتجه إلى معسكرات مصطفى باشا في الإسكندرية بدلاً من التجائه إلى قصر رأس التين لانضمت إليه قوات من الجيش كبيرة.. وربما أمكنه أن يغير تاريخ مصر الحيدثة... ولكن القدر كان قد رسم أن ينهي فاروق –بتصرفاته غير المتزنة- حكم أسرته.. فاستقرت الأحداث إلى غايتها المحتومة. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن البكباشي جمال عبد الناصر كان المحور الذي تدور حوله تنظيمات الضباط الأحرار، وأن صديقه الصاغ عبد الحكيم عامر كان موضع سره فلما كانت ليلة 23يولية سنة 1952 أوحي ذكاء عبد الناصر له أن لا يشارك في التنفيذ خشية الفشل، لقد ظل عبد الناصر وصديقه عامر بلباسهما المدني البسيط، واعتصما بكلية أركان الحرب حتى تم اختلال إدارة الجيشن وقبض على كثير من الضباط، وعند ذلك عثر عليهما القائمقام يوسف صديق فنقلهما إلى مقر القيادة...

إن حقائق الثورة لم تعرف بعد، وسيعرف الناس غدًا تلك الأسماء التي سقطت في القاع كما ترسب الجواهر تحت الماء، وعلى أية حال فإن الثورة قامت ورفعت شعاراتها المعروفة, ومن بينها الشعار الذي آمن به المخلصون «نحن حماة الدستور...!».

في مساء يوم 13يناير سنة 1954 سارت سيارة نقل مكشوفة من مقر البوليس الحربي، وكنت أقف صامتًا في أحد أركانها، يحيط بي كثيرون لم أعرف منهم أحدًا، وكانت قد سبقت هذه السيارة منذ الصباح الباكر- وتليتها سيارات أخرى كثيرة.. سارت السيارة بسرعة حتى وصلت ثكنات الجيش بالعباسية- فأوغلت فيها إلى أن توقفت داخل السجن الحربي، وقابلنا ضابط شاب، ظل يصدر أوامره بسرعة وبصوت عال لا مبرر له... .فساقنا الجنود إلى مبنى كبير، وارتقيت سلمًا، وأحد الجنود يقبض على ذراعي بقوة كأنه يخشى أن أفلت منه، حتى فتح باب زنزانة دفعني داخلها وهو يقول: «ادخل سجن العفاريت... وأغلق الباب خلفي..» وحاولت أن أتبين مكاني في الظلام الدامس فما رأيت شيئًا ولا أحد إلا أنا.

وكنت متعبًا، فجلست على الأرض الباردة، وأحكمت إحاطة المعطف حول جسمي، وأسندت رأسي إلى الحائط ومر الليل الطويل ساكنًا يقطعه بين حين وآخر نداء الحراس: واحد تمام، اثنين تمام، خمسة تمام، إلى آخر الأعداد حتى تبلغ ثلاثة عشر ثم يسكت النداء –ليبدأ بعد قليل..

وفي سكون الليل رحت أسأل نفسي لماذا أنا هنا.. ؟ كل ما أعرفه ولم أندم عليه أني أنا الذي أسلمت نفسي إلى هؤلاء الحكام بعد أن أفلت منهم في الصباح، وهل من خطر أن أسلم نفسي ما دمت لم أفعل إلا أن خالفت الشركاء في الرأي وهب أنهم تنكروا للشركة، وقبلت تنكرهم، فالأمر لا يعدو مخالفة حاكم في رأيه فلماذا أنا هنا وفي السجن...؟

دق جرس التليفون بمنزلي فجر 13يناير سنة 1954، والظلام لا يزال مخيما، ورفعت السماعة جبيًا من يكون المتحدث في ذلك الوقت غير المناسب، وناداني صوت صديق يقول في عجلة: إن أوامر اعتقال بالجملة ستنفذ الآن، واسمي من بين ما ورد في القوائم، وترك لي أن أتصرف.

وارتديت ملابسي بسرعة, ولم أرد إزعاج زوجتي، فأبلغتها أني مسافر إلا الإسكندرية في عمل.. وما أن خطوت نحو الباب حتى دق جرسه فأيقنت أن أوامر الاعتقال ستنفذ قبل أن أغادر البيت.. وفتحت الباب لأجد أمامي زيًا عسكريًا كاكي اللون وغطاء رأس أحمر، إنه الزي الذي يرتديه رجال البوليس الحربي، وسقط الضوء على من بالباب فلم أجد محلا للخشية منه. كان صديقًا آخر جاء ينبهني إلى أمر الاعتقال، ويذكر لي بعض أسماء من يسيعتقلون، ويبلغني أن رجال البوليس لا بد أن يكونوا الآن في بيتي السابق الذي تركته منذ شهرين.

وتركنا المنزل معاً .. وأثرت أن أسافر إلى الإسكندية لغير ما عمل... وأن أعود مع المساء.

لم أستطع إلى السماء أن أعرف أسباب أوامر الاعتقال التي صدرت من غير مقدمات، إلا إذا كان الاضطراب التي حدثت في الجامعة بالأمس تبرر الاعتقالات على هذا النطاق الواسع وظننت أن الاعتقال سيعقبه تحقيق يدور حول كلام كنت أقوله لعبد الناصر كرأي صريح في تصرفاته وآرائه، فقررت أن أسلم نفسي لأنني وحدي الذي يستطيع بيان ما وجهته إلى عبد الناصر من نقد.. ولم أرد أن يتحمل غيري نتائج آرائي وتصرفاتي...

صحيح أن الحركة العسكرية بدأت نتيجة اتجاهًا استبداديًا لا يرضى بوجود اتجاهات تعارضها في البلاد، ولكني لم أكن أظنها قد أوغلت في هذا الاتجاه إلى حد اعتقال كل صاحب رأي مخالف حتى أولئك الذين شاركوا في الثورة وأعانوا إلى وقت قريب. ربما كان عبد الناصر جادًا في تنفيذ ما هدد به في مايو من العام الماضي بأن يتخلص من عشرين أو ثلاثين في المائة من الشعب إذا لزم الأمر ليستقيم حال البقية, ولكني كنت أظن ذلك القول ثورة مناقشة غاضبة سرعان ما تهدأ وتتزن عند التفكير العاقل.. لقد قلت يومئذ: إن فاروق كان أكثر تواضعًا منه فلماذا ثرنا ضده...؟ ولم يزد عن أن ابتسم.

وهكذا سلمت نفسي في المساء إلى رئيس المباحث العامة، وما أن جلست في غرفته بوزارة الداخلية حتى اتصل تلفونيًا بالوزير، ثم سألني عن مكان مزرعتي فأجبته.. ونقلت من وزارة الداخلية إلى مقر البوليس الحربي، حين وجه إلى الضابط الذي تسلمني ذات السؤال: «أين يقع مزرعتك..؟» ولم أفهم سبب السؤال، فمكانها يعرفه عبد الناصر الذي أمر باعتقالي، ويعرف بالتحديد أين مخزن السلاح والذخيرة فيها، ثم حشرنا في سيارة نقل مكشوفة سارت بنا مسرعة إلى السجن الحربي حيث أجلس وحدي في زنزانة «بسجن العفاريت» كما أسماه الجندي الذي دفعني داخلها....

وبدأت خيوط الصباح تتسلل من النافذة ذي القضبان القريبة من السقف العالي، ورحت أسمع بين الحين والآخر أصوات أقدام تسير، وصرير مزلاج حديدي ينفتح في الزنزانات المجاورة، فأملت أن تفتح الباب، وأسلمني الإرهاق لنوم متقطع وأنا جالس على الأرض حتى بدأ الظلام يخيم مع الليل، وعادت نداءات الحراس تتجاوب في جنبات السجن الحربي كل حين.

وأيقنت أن القائمين على أمر هذا السجن لا يعلمون أن السجين إنسان يجوع ويعطش، وعاد مع الليل الأرق.. وعاد مع الأرق التساؤل: لماذا أنا هنا...؟

حين تنازل فاروق عن العرش وغادر مصر، استمر الرئيس على ماهر يحكم البلاد بوزارة هزيلة شكلت على عجلة من ظروف استثنائية وظلت مجموعات الضباط تحاول أن تتدخل في شئون الحكم من مقرها بإدارة الجيش، ولكن الرئيس ماهر لم يكن خاضعًا تمامًا لسيطرة الجيش، بل كان له رأيه المخالف صوابًا أو خطأ، وبينما هو يحاول أن يبني مجدًا أو دولة على طريقته الخاصة كان الضباط يهيئون بناء نظام حكم يتفق مع أفكارهم، وكان عبد الناصر يبني وحدة في الخفاء مجده وإمبراطوريته الواسعة التي بدأت أحلامًا ثم بدت كأنها تتحقق، لتعود أحلام ليلة سابقة طلع عليها النهار فبددها.. ولكنه استطاع أن يسجل اسمه في تاريخ البشرية على أية صورة.

إن المراقب للأحداث التي وقعت منذ ثورة 23يوليو حتى استتباب الحكم لعبد الناصر شخصيًا يحس بالإيحاء إلى إقامة حكم الفرد وتزعم عبد الناصر لهذا الاتجاه .. حكم الزعيم، وهكذا اختفت –شيئا فشيئًا- صورة الهيئات الشعبية التي كانت تنادي بسيادة الدستور، وتؤيدها مجموعة من رجال الجيش وكثرة من أفراد الشعب.

الواقع أن عبد الناصر تنكر منذ نجاح الثورة لاتفاقاته السابقة مع بعض الهيئات الشعبية، وبدأ يصرف الأمور معلجنة الضباط الأحرار-التي أسماها فيما بعد مجلس الثورة- دون أن يحس بالتزامه بأن يرجع إلى من شاركوه أو أعانوه من غير زملائه العسكريين، ولكن تنكره ذلك لم يمنعه من طلب العون، ولم يمنعني من تقديم العون، فاتفاقاتنا لم تكن لمصلحة شخصية أو حزبية، بل كانت لمصلحة أمة وإقامة دستور، فاكتفيت –ومن يرى رأي من زملائي- بما قطعه عبد الناصر وزملاؤه على أنفسهم من عدم إقامة حكم عسكري، ومن احترام حريات الناس وسيادة القانون.

وقد استطاع الضباط أن يثبتوا مهارتهم السياسية حين تخلصوا من وزارة الرئيس على ماهر بحجة أنها تريد تعطيل الدستور فترة أطول من فترة الانتقال التي كان متفقًا عليها من قبل وهي ستة أشهر.. واتبعوا ذلك بإعلام الدستور المؤقت، الذي جعل مجلس الثورة هيئة دستورية لها وضعها في تنظيم الدولة ولكن هذه الخطوة لم تتم إلا بعد تعيين اللواء محمد نجيب رئيسا للوزارة ثم إقصاء رشاد مهنا من مجلس الوصاية على العرش.

ففي منتصف أغسطس سنة 1952م وبعد أقل من شهر على حكم الرئيس على ماهر استقر رأي الضباط الجالسين في إدارة الجيش على أن «علي ماهر» مخرب للحركة.. فقد كانوا إلى ذلك الوقت يسمون ثورتهم العسكرية «حركة» ثم تطوروا بعد ذلك إلى تسميتها ثورة اعتبروا الرئيس ماهر مخربًا للحركة لأنه لا يهدف بسرعة إلى إعادة الدستور وإجراء انتخابات عامة في البلاد، ولأنه يفرض ضرائب غير مباشرة على المواد الاستهلاكية، ولأنه في –عبارة أخرى- يحكم بعقلية العهود الماضية وعلى ذلك قرر الضباط تنحيته عن الحكم ليحل غيره محله.

وكانت أبرز الأسماء المرشحة لتولي الوزارة الدكتور السنهوري رئيس مجلس الدول في ذلك الوقت وكان ترشيحه لعبة ماهرة من عبد الناصر الذي لا يرتضيه رئيسًا للوزارة، إنه يرشحه لأنه يضمن رفضه من الهيئات الشعبية ومن كثير من رجال الجيش، فللدكتور السنهوري ماضي سياسي حزبي لا يرضى عنه بعض الهيئات الشعبية, فإذا رفض –وهو الرجال العالم الفاضل- فليس أمام الناس إلا أن يقبلوا رئاسة محايد ذي روح جديدة تتفق وأغراض الحركة الجديدة ...رجل عسكري يعاونه مدنيون، ولم يكن هناك من يمكن ترشيحه لرئاسة الوزارة –بعد تعيين رشاد مهنا عضوا في مجلس الوصاية- إلا أن الرئيس نجيب، قائد الجيش وممثل حركته إلى ذلك الحين.

وظلت لجنة الضباط العليا واللجان الفرعية من الأسلحة المختلفة وأعضاء الهيئات الشعبية يناقشون اسم الرئيس الجديد للحكومة، ويدورون في حلقة مفرغة، لتصل دائما إلى حل واحد هو تعيين اللواء محمد نجيب رئيسا للوزارة، وهو الحل الذي يرتضيه عبد الناصر، لأنه يريد التعجيل بوضع اللواء نجيب على كرسي الحكم ليواجهه فترة من الزمن وليخلقه بعدها، وانطلت اللعبة الماهرة على الهيئات الشعبية وعلى المؤمنين بالدستور من رجال الجيش وعلى اللواء نجيب نفسه.. فعين رئيسًا للوزراء يوم 7سبتمبر سنة 1952 خلفًا للرئيس ماهر الذي قبلت استقالته قبل أن يقدمها...!

في منتصف ليلة 7 سبتمبر سنة 1952 طلبني عبد الناصر تليفونيا وأبلغني أنه يريد أن يلقاني في إدارة الجيش في الصباح الباكر وفي هذا اللقاء أبلغني اعتقال ثلاثة وسبعين شخصًا من رجال السياسة والقصر الملكي، وعرض على اشتراك الإخوان في الوزارة على أن أكون أنا أحد الوزراء أما الاعتقال فكنت لا أرضاه ولا أقبل له سببًا إلا أن يكون احتياطيًا مؤقتًا. بمناسبة تعيين رئيس وزراء عسكري أو تمهيدًا لتحقيق ومحاكمة أمام المحاكم العادية، وقد أكد لي عبد الناصر أن الاعتقال مؤقت، وسيفرج عنه جميع هؤلاء الذين وضعوا في المدرسة الثانوية العسكرية بعد أيام، إلا من يثبت ضده اتهام يستوجب محاكمته الجنائية. أما دخول الإخوان الوزارة فقد تركته ليقرره مكتب الإرشاد (مجلس إدارة الهيئة) وقد رفض المكتب الاشتراك في الوزارة وحين دخلها أحد الإخوان –الشيخ أحمد الباقوري- استقال من الجماعة حتى لا يتعارض موقفه مع قرارهم رفض الاشتراك في الحكم. وقد أغضب هذا القرار عبد الناصر وظل فترة يظن أنا صاحبه ويحاول أن ينال مني بسببه.

وقد كنت إلى ذلك الوقت أثق في عبد الناصر، وأعتقد أنه يعمل للفكرة لا لمجده الشخصي، ولذلك كان من رأي الموافقة على إسنا الوزارة إلى الرئيس نجيب، وأن يدخل الإخوان الوزارة كي يكونوا على بنية من سير الأمور، وحتى لا نترك الانتهازيين والمنافقين يلتفون حول عبد الناصر وزملائه يوجهونهم إلى السيطرة والاستبداد ولكني لا أستطيع اليوم –وبعد فوات ذلك الوقت الطويل- إلا أن أعترف ببعد نظر الظانين السوء بوزارة الرئيس نجيب، المؤثرين عدم الاشتراك في حكم يسير حتمًا إلى الدكتاتورية إلا أن يكون دخول الوزارة للخروج منها بعد حين عندما يسفر الاتجاه الدكتاتوري عن وجهة.

لقد علمتني الأيام كم كنت مخطئًا في تقدير أهمية وزارة الرئيس نجيب كنقطة تحول لثورة 23يولية سنة 1952م ولو كنت ممن يندمون على الماضي لندمت أني لم أستمع إلى قول الناصحين لي أن نقضي على تلك المجموعة قبل أن تسيطر –وكنا وقتذاك قادرين على ذلك- ولكنني لم أقبل..

كل مصري كان يعمل أن طريق السويس ومناطق القتال كانت مخفورة بمجموعة من الفدائيين.. وكل مصري يعلم أن السفارات الأجنبية والمراكز الحساسة في القاهرة والأقاليم ومنازل عبد الناصر وزملائه وأشخاصهم كانت تحرسهم مجموعات من الإخوان في زي مدني ليدفعوا عنها أي اعتداء من جانب المتطرفين وكل مصري يعلم أن رجلة الرئيس نجيب وزملائه في أقاليم مصر لم تنجح إلا بسبب الإعداد الذي تم لها من جانب الإخوان.

لم أقبل أي محاولة للقضاء على عبد الناصر وزملائه، ووقفت ومن يرى رأي ندفع عنهم أي أذى.. واستمر عبد الناصر في خطته يصفي الجيش من منافسيه ويصفي جبهة الشعب من معارضيه، مستعينًا بكل منهم على الآخر حتى لا يبقى غيره.

وإذا كنت أنا قد أخطأت في تقدير تلك الخطوة فإني أعرف الكثيرين ممن أخطأوا تقديرها ولكنهم تغالوا بعد أن تبينوا الخطأ وهم يدفعون اليوم هم وبلادهم- ثمن تلك المغالاة حتى أولئك الذين يظن الناس أنهم كانوا يحكمون، فما كانوا في الواقع إلا مغمضي عيون يدفعهم في الطريق ركب يسير إلى الهاوية.

وتولت وزارة الرئيس نجيب الحكم، وصدر بعد تأليفها مباشرة قانونان هامان أحدهما خاص بالإصلاح الزراعي حدد الملكية الزراعية وقيمة الإيجار للأراضي، وثانيهما خاص بتنظيم الأحزاب السياسية، وكان القانونان على رضى من أغلب الناس لما صاحبهما من دعاية ولما رجوا من ورائهما من إصلاح، فإن سوء توزيع الثروة الزراعية في مصر وكثرة ما أثير حول الأحزاب السياسية القديمة من مساوئ جعلت الناس يرجون الخير من معالجة القانون لتلك الأمور وقد سبق أن نادى الإخوان بضرورة إصدار مثل هذين القانونين.

ومع ذلك فقد وقع خلاف في الرأي بين الإخوان وبين الضباط حول هذين القانونين. خلاف في التفاصيل لا في الجوهر، ولم ينس عبد الناصر هذا الخلاف وظل طويلا يعلق عليه ويبدي لي استياءه من نشر جانب منه في الصحف.

ولم يخف عني عبد الناصر أن قانون تنظيم الأحزاب ليس إلا خطوة نحو إلغائها، فحرصنا معا على أن لا ينطبق على هيئة الإخوان المسلمين، وقد بذل عبد الناصر في هذا السبيل جهدًا لا أنكره برغم معارضة بعض زملائه له، وبرغم ما وجد في هذا من متاعب من الإخوان أنفسهم الذين لم يكن لزاما على أن أبلغهم واحدا واحدًا بما أسره إلى عبد الناصر من عزم على إلغاء الأحزاب القائمة نهائيًا، وكان المفهوم أن إلغاء الأحزاب سيعقبه بعد الانتخابات الأولى للجمعية التأسيسية إباحة إنشاء أحزاب جديدة تقوم على فكرة محددة لا على مجرد تجمع أشخاص بالذات كما كان الشأن في كثير من الأحزاب القديمة، وقد كان قانون تنظيم الأحزاب السياسية خطوة ذات أثر فعال في زعزعة الأحزاب القائمة حين طمع بعض الأعضاء في كل حزب حتى في الإخوان المسلمين- أن يكونوا هم أصحابه وذوي المكانة فيه، وإن اضطرهم هذا الارتماء في أحضان الضباط الحاكمين. أودى هذا الطمع إلى صورة من الخلاف المشين حطت من قدر الأحزاب ورجالها في نفوس كثير من المصريين، فلم يسخط الناس حين أقدم الجيش على إلغائها.

ولكن الناس بدأوا يسخطون، وبدأ الساخطون يكثرون، حتى عم السخط حين حاول عبد الناصر أن ينشئ حزبا بعد إلغاء الأحزاب حزبًا أسماه «هيئة التحرير» أراد أن يكون قاعدته الشعبية التي يحكم البلاد على أساس تأييدها له بجوار الجيش وقد حاول عبد الناصر جاهدا أن يستعين في تنظيم هذا الحزب وعمل برامجه بالأستاذ سيد قطب أحد كتاب الإخوان وأهل الرأي فيهم، وكانت «هيئة التحرير» منذ إنشائها نقطة خلاف رئيسية بين عبد الناصر والإخوان ....وبينه وبين كل أصدقائه القدامى المؤمنين بالحرية السياسية للشعب... ولكن هذا أمر لم يحدث إلا فيما بعد.

حين شكلت وزارة الرئيس محمد نجيب، كان بعض الإخوان المسلمين الذي سبق أن حكم عليهم في قضايا سياسية في العهد الماضي لا يزالون في السجون، وكانت الحكومة لا تمانع في العفو عن جميع الجرائم السياسية السابقة فيما عدا جرائم القتل والتخريب، وكان من الإخوان من حكم عليه في مقتل المستشار أحمد الخازندار ورئيس الوزراء محمود النقراشي، وطلب مني الإخوان أن أتحدث مع عبد الناصر في شأن العفو عن هؤلاء، وحين قابلته وافق على أن سيتصدر عفوا عن جميع المتهمين فيما عبدا قضيتين، قتل القاضي الخازندار، وحريق القاهرة.. وكان عجيبا من هذا الموقف.. هاتان القضيتان بالذات.؟

ولم يعني إلا أن أقول فيما يشبه التأنيب: إنه كان من الممكن أن يكون هو في السجن في إحدى هاتين القضيتين، وأن يكون مكانه شخص مثلي فهل كان يرضى أن أتخلى عنه..؟

وفهم ما أرمي إليه.. ولم ينقض أسبوع حتى صدر العفو عن جميع القضايا بما فيها قضايا القتل.

وبعد فترة من تشكيل وزارة نجيب، أحس عبد الناصر بحاجته إلى إقصاء القائمقام رشاد مهنا عضو مجلس الوصاية وصاحب الحظوة عند الكثير من الضباط الأحرار، وكان عبد الناصر قد وضعه عضوًا في مجلس الوصاية على العرش الذي كان يشغله رسيماً أحمد فؤاد ابن الملك السابق، وذلك يبعده عن لجنة الضباط التي توجه مجلس الوزراء، وليكون في مكان الملك السابق، فتنقطع صلته بزملائه.. وقد كان له ما أراد، فتركه يصطدم بالرئيس نجيب ذي الحظوة الشعبية والعسكرية, وتطور الصدام حين طالب رشاد مهنا بحقه- كواحد من رؤسائ حركة الضباط الأحرار- في أن تعرض عليه الأمور ليناقشها قبل إقرارها، وفاته أن عبد الناصر إنما عينه عضوا شؤون الحكم، وإلا اعتبر معتديًا على الدستور، وهكذا وقع شاد مهنًا في الفخ، واعتبرته لجنة الضباط العليا- واللجان الفرعية- معتديا على الدستور، وما أكثر المؤمنين بالدستور في ذلك الوقت وإن لم يكن في البلاد دستور، وصدر قرار بإقالة رشاد مهنا من مجلس الوصاية، وقصر المجلس على شخص واحد هو الأميرمحمد عبد المنعم.

ولكن مجرد وجود رشاد مهنا طليقا كان يشكل خطرًا على عبد الناصر في ذلك الوقت، فسارع في يناير سنة 1953 بالقبض عليه وعلى بعض الضباط، وحاكمهم محكمة سرية، وقضي عليه بالسجن المؤبد. وعند القبض على رشاد مهنا كانت الشهور الست المحددة لإعادة الدستور بعدها قد قاربت على الانتهاء واعتذر الضباط عن التأخير بأن وزارة علي ماهر قد ضيعت بعض الوقت، وأن رشاد مهنا أراد أن يجر البلاد إلى الوراء وأن يصبح ملكا غير دستوري، وصدر دستور مؤقت وشكلت لجنة لوضع مشروع دستور كنت أحد أعضائها.

وشعر القائمقام يوسف صديق أحد أعضاء مجلس الثورة أن عبد الناصر يلعب لعبة جديدة فاختلف معه وتشاحنا في المجلس، ولكن عبد الناصر- مدرس علم التكتيك في كلية أركان الحرب- استطاع أن يحاصره وأن يعزله عن زملائه وعن الهيئات الشعبية التي تناصره، وأن يبعده عن اللجنة, ثم عن القاهرة، ثم عن مصر كلها ليعود بعد ذلك سجينًا فشبه سجين، وواحدًا ممن يسيرون في الركب مغمضي العيون، يجترون ما سبق أن أبدوا من بطولات قطف عبد الناصر وحده ثمارها، فيوسف صديق هو الذي احتل إدارة الجيش يوم الثورة... وهو الذي حمل إليها عبد الناصر وصديقه عبد الحكيم عامر بعد أن أتم الثورة.


الثورة تتصل بالكويت

كان الفضيل الورتلاني أحد رجال الثورة الجزائرية القدامى، وكان محكومًا عليه بالإعدام وأوي إلى مصر على عهد الملك فاروق، وبقي بها، وكان على صلة بكثير من الهيئات وعلى الأخص الإخوان المسلمين، وشارك الفضيل في انقلاب اليمن عام 1948 ذلك الانقلاب الذي أطاح بالإمام يحي ونجح شهرًا، ثم أصاح به الإمام أحمد بعون كبير من الملك عبد العزيز آل سعود، وكان الفضيل أحد القلائل الذين استطاعوا الهرب من اليمن بعد سقوط حكومة ابن الوزير، ولكن البلاد العربية أبت إيواءه، فظل في البحر هائمًا فترة من الزمن حتى خجل منه- لسابق الصداقة بينهما المرحوم رياض الصلح رئيس وزراء لبنان آنذاك، فأذن له أن يهبط إلى أرض لبنان ويعيش فيها شبه متخف، ولما قامت ثورة 23يوليو سنة 1952م أذنت له الحكومة المصرية بالعودة إلى مصر، وكان على صلة طيبة بعبد الناصر وزملائه، وكان لا يزال يحمل في رأسه فكرة معاودة قلب نظام الحكم في اليمن، وطالما حدث عبد الناصر بها ولكن الأخير كان يرفضها. وفي يوم من أيام ديسمبر سنة 1952 أبلغني عبد الناصر أن الدول في حاجة ماسة إلى قرض عاجل، إذ أن الأرصدة الاسترلينية المتوفرة لمصر لدى بريطانيا لا تزال مجمدة منذ إلغاء معاهدة 1936م، وأنه فهم من الفضيل الورتلاني أنه من المستطاع الحصول من الكويت على قرض يبلغ عشرين مليون جنيه استرليني بفائدة ضئيلة أو بغير فائدة, وطلب مني أن أسافر مع الفضيل إلى الكويت لبحث الأمر، وأوصاني بالحرص وعدم التورط في طلب قد يرفض وسافرت مع الفضيل، وحملنا رسالة كتبها عبد الناصر ووقعها الرئيس نجيب إلى حاكم الكويت، وحرصنا فيها على عدم ذكر شيء عن السبب الحقيقي للزيارة، وكانت الرسالة تدور حول مشاعر الأخوة التي تربد البلدين، واستعداد مصر أن تيسر جميع حاجات الكويت من الفنيين في مختلف المجالات.

وأمضينا في الكويت ستة أيام في أوائل شهر يناير سنة 1953، وكان حاكم الكويت وشيوخها وأهلها كرامًا معنا وإن لم يخفوا عجبهم من رحلتنا، وحاولوا معرفة ما وراء رسالة الود الصادرة إليهم من القاهرة، وقد أحست أول مرة أن فكرة القرض السخي كانت فرط خيال من الفضيل الورتلاني صادفت هوى في نفس عبد الناصر، فلم أتحدث فيها، وقصرت حديثي على صلات الود بين البلدين، وأن مصر تفتح ذراعيها لأهل الكويت زائرين ودارسين ومستخدمين أموالهم. وأوضحت دواعي القيام بالثورة في مصر، وأنها أمور لا تتصل بصورة الحكم في البلاد الأخرى. وقد صادف أن زار الكويت أثناء وجودنا الدكتورعبد الوهاب عزام سفير مثر في كراتشي آنذاك، فتحدثت إليه في الأمر، فوافقني على ما انتهى إليه رأيي، وعدت من الكويت أحمل رسالة ود من حاكم الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح إلى اللواء محمد نجيب ردا على رسالته.

وحين عدت قدمت تقريرا لعبد الناصر نتيجة الزيارة، ونصحت فيه بفتح أبواب مصر أمام العرب لاستثمار أموالهم، وأعتقد أن هذا الأمر حدث فترة من الزمن كان من الممكن أن تحقق في بلادنا رخاءا ملحوظًا.


ليبيا تطلب العون من مصر

وفي وقت من هذا، اتصل أحد المقربين إلى الملك إدريس السنوسي مندوبًا عن الحكومة الليبية بالإخوان لما يعلمونه من صلتهم بالضباط الحاكمين، وعرض أن تقوم مصر بإعانة ليبيا بمبلغ مليون ونصف مليون جنيه سنويًا على ما أذكر –على أن تفتح ليبيا أمام المصريين أبواب العمل فيها، وأن يقوموا هم بتوجيه شؤون المال والتعليم والإعمار في البلاد. ونوه المندوب بأن قبول مصر دفع هذه الإعانة سيصرف الحكومة الليبية عن التماسها عند الإنجليز أو الأمريكان، واهتم الإخوان بالأمر، وفاحوا عبد الناصر فيه بحضوري، وكان لعبد الناصر عذره في أن يرفض لعدم وجود فائض في ميزانية مصر. ولكنه لم يكتف بهذا بل أفصح عن رأيه في أي تعاون مع العرب، فردد ذلك المثل الذي كان يقوله دائما قبل الثورة: «العرب جرب فلا تقربهم» وفوجئ إخواني بهذا الرد، ولم يقدر واحد منهم أن صاحب هذا الرأي سيصبح يومًا ما رائد القومية العربية وزعيم الوحدة بين بلاد العرب من المحيط إلى الخليج.

وحدث في أواخر عام 1952م أن طلب المستر إيفانز المستشار بالسفارة البريطانية في القاهرة من أحد أصدقائه أن يجمع بينه وبين بعض الإخوان المسلمين، ووقع اختيار المرشد على عضوين من مكتب الإرشاد (مجلس إدارة الهيئة) هما منير دلة المستشار بمجلس الدولة، وصالح أبو رقيق المستشار بالجامعة العربية، وطلب مني إبلاغ الأمر إلى عبد الناصر قبل أن يتم الاجتماع بالمستر إيفانز، وقد قمت بإبلاغه هو وعبد الحكيم عامر، فرحبا بمثل هذا اللقاء ليعلم الإنجليز مدى وقوف أكبر هيئة شعبية وراء مطالب الحكومة في الجلاء واقترح عبد الحكيم عامر أن أكون ثالث من سيحضر هذا اللقاء مع المستر إيفانز، ولكنني اعتذرت لأن من مبدئي أن الإخوان هم الذين يقومون باختيار من يمثلهم في مثل هذه اللقاءات، وقد اختاروا فعلا.

وعاد مستر إيفانز بعد إيفاز بعد لقائه بعضوي مكتب الإرشاد يطلب أن يقابل المرشد العام للإخوان المسلمين، فوافق المرشد على لقائه، ودعاه لتناول الشاي معه في منزله، وقمت بإبلاغ ذلك إلى عبد الناصر، واتفقت على أن يلتقي عبد الناصر وزملاؤه بالمرشد ظهر يوم 25- 2- 1953 ليعلموا منه ما تم في لقاء مستر إيفانز، حضرت هذا الاجتماع الذي كان المرشد يشرح فيه وجهة نظره في وجوب التمسك بانتهاء معاهدة 1936، وأن الأمر لا يحتاج إلى معاهدة جديدة مع بريطانيا لأننا نؤمن بموقف الحياد الذي نود أن نتخذه موقفا لنا في السياسة الدولية. ولكن عبد الناصر- الذي اشتهر فيما بعد بأحد أبطال الحياد- كان يعارض هذه الفكرة، ويؤكد وجوب الانحياز لأحد المعسكرين الغربي أو الشرقي، وأنه شخصيًا يرى السلامة في الانحياز لأحد المعسكر الغربي أو الشرقي، أنه شخصيًا يرى السلامة في الانحياز إلى المعسكر الغربي، وبرغم الخلاف في الرأي بين الإخوان من جهة وبين عبد الناصر وزملائه من جهة أخرى فقد أبدى عبد الناصر ارتياحه إلى موقف المرشد العام، لأن تشدده في الحياد سيعطي الحكومة فرصة التوصل إلى أحسن اتفاق مع بريطانيا في شأن السودان وفي شأن الجلاء عن قاعدة قناة السويس. وعرض المرشد على عبد الناصر ورفاقه في هذه الجلسة فكرة دعاهم إلى محاولتها إذا اضطروا إلى عقد معاهدة مع الانجليز، تقوم على أن يكون تقرير حالة خطر الحرب باتفاق الطرفين، فإن اختلفا فبقرار من مجلس الأمن.. ولما كان مجلس الأمن لا يصدر قرارًا إذا اعترضت إحدى الدول صاحبة حق الفيتو، فإن هذا الوضع سيضمن حياد المنطقة من مظنة القول بخطر قيام حرب. وقد حاول عبد الناصر –كما أبلغني- إقناع الإنجليز بذلك فلم ينجح.

وفي أوائل صيف 1953 تعثرت المفاوضات –بشقيها السودان والجلاء –مع بريطانيا- وحاول عبد الناصر التقارب مع الإخوان عسى أن يعينوه في بعض الأعمال الفدائية في القنال. أملاً أن تدفع هذه الأعمال المفاوضين الإنجليز إلى نوع من التساهل معه، ولم يجد عبد الناصر كبير عون من الإخوان بعد أن أحسوا أنه يبطش بغيرهم، وأنه يبيت لهم وللحياة الحرة في البلاد أمرًا.

وجلست مع عبد الناصر أكثر من مرة، ولم يخف عني أنه يحس من الإخوان جفوة نحو سياسته، وأنه ينوي حل الجماعة ودعاني أكثر من مرة إلى التعاون معه بعيدًا عن نطاقها، فلم يجد مني قبولاً وكانت أحاديث طويلة وقف كل منا فيها موقفه، ولم يبد أي تقارب بيننا في الأفكار هو ينوي استمرار الحكم العسكري، ونحن نصر على عودة الحياة النيابية.

وحين انتهى الصيف كان ذهن العسكريين قد تفتق عن فكرة محاكمات الثورة وقدموا إليها بعض السياسيين وغير السياسيين.

وكان أول من حوكم رئيس الوزراء السابق إبراهيم عبد الهادي الذي كان يعتبر العدو الأول للإخوان المسلمين، وقد قدم بعدد كبير من التهم: منها تعذيبه للإخوان أثناء حكمه عام 1949، وكان هذا الاتهام –الذي يحكم عليه من أجله –هو مجرد دعاية لعبد الناصر ورجاله وسط صفوف الإخوان وانتهت المحاكمة بالحكم بإعدام إبراهيم عبد الهادي.

وسئل المرشد العام يومئذ في الاجتماع الأسبوعي العام للإخوان عن رأيه في الحكم بإعدام إبراهيم عبد الهادي، فأجاب: لا أستطيع أن أطمئن إلى عدالة حكم صدر بعد محاكمة غير عادلة، ومحاكمة إبراهيم عبد الهادي كانت غير عادلة, وأرسلني في اليوم التالي إلى عبد الناصر أطلب منه عدم تنفيذ مثل هذا الحكم، وكانت مفاجأة لعبد الناصر أن أحدثه في هذا، وعجب أن يشفع الإخوان في عدوهم ولكن ردي عليه كان: نحن نطلب العدالة لنا ولخصومنا على السواء «ولم ينفذ الحكم وخفض إلى السجن المؤبد». وقد نجح عبد الناصر في أكثر من مناسة في هذه السنة سنة 1953م، في أن يحدث خلافا خطيرًا بين الإخوان، فاستطاع أن يضم إلى صفة كثيرًا ممن لا أنكر إخلاص بعضهم وفضله، ولكن الظروف كانت مواتية لخروجهم عن وحدة الصف في الإخوان، خاصة وأن من طبيعة المرشد أنه قليل الكلام، وليس على استعداد لأن يبرر موقفه أمام الناس، فلم يستطع بعض الإخوان فهم موقفه إلا حين عالجوا الأمور بأنفسهم. وأقبل يناير سنة 1954 كانت السيارات تقطع شوارع القاهرة تجمع الإخوان من بيوتهم وكانت القطارات قادمة من الأقاليم تحمل المعتقلين من الإخوان.

وها أنذا في السجن أفكر لماذا أنا هنا...؟!

حصاد ما سلف....؟

في ضحي يوم 15 يناير سنة 1954م، وفي الزنزانة رقم 35 مبنى 2 من السجن الحربي الذي دخلته منذ مساء 13 يناير سنة 1954م... كنت أجلس على السرير الذي وضعوه لي صباحًا.. .وفتح الباب ليدخل ضابط شاب يتحدث بأسلوب جاف مترفع ..فيسألني عن اسمي وعلمي، ومركزي في الجماعة... ثم يقذف إلى بصحيفة أقرأ فيها بعد العناوين المثيرة قرار بحل الجماعة ويقول:

أصدر مجلس قيادة الثورة في اجتماعه أمس برئاسة البكباشي جمال عبد الناصر نائب الرئيس ما يلي: «تعتبر جماعة الإخوان المسلمين حزبًا سياسيًا، ويطبق عليها أمر مجلس الثورة الخاص بحل الأحزاب السياسية»

وليس في هذا القرار ما يريب.. .ولا ما يدعو إلى الاعتقال والتحدث عن المؤامرة الكبرى لإقصاء العهد الحاضر، يدبرها الإخوان المسلمين مع رجال السفارة البريطانية.

وأستمر في القراءة: فإذا بيان من مجلس قيادة الثورة يقول:

إذا كانت الثورة قد قامت في 23يوليو 1952م، فقد ظل تنظيم الضباط الأحرار ينتظر من يتقدم الصفوف مخلصًا ليغير الفكر الذي كنا نعيش فيه، ويثبت بعمله جدية صدقه وإخلاصه لدينه ووطنه، وكنا على استعداد أن نتبعه في صف واحد كالبنيان المرصوص حتى نحقق لوطننا العزيز عزة وكرامة وتحررا من الاستعمار والعبودية, ولما طال انتظارنا عقدنا العزم على القيام بالثورة، وكنا جادين ولا هدف لنا إلا حرية الأمة وكرامتها، وأن الله تعالى لن يكتفي بإيمان الناس إذا لم يتبعوا هذا الإيمان بالعمل وبالعمل الصالح فيقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون﴾[فصلت:8]

ومن يوم قيام الثورة ونحن في معركة لن تنته بعد، معركة ضد الاستعمار لا ضد المواطنين، وهذه المعركة لا تحمل المطامع والأهواء التي طالما نفذ الاستعمار من خلالها ليحطم وحدة الأمة وتماسكها فلا تقوى على تحقيق أهدافها. وقد بدأت الثورة فعلاً بتوحيد الصفوف، إلى أن حلت الأحزاب، ولم يحل الإخوان إبقاء عليهم وأملاً فيهم، وانتظارًا لجهودهم وجهادهم في معركة التحرير ولأنهم لم يتلوثوا بمطامع الحكم كما تلوثت الأحزاب السياسية الأخرى، ولأن لهم رسالة دينية تعين على إصلاح الخلق وتهذيب النفوس، ولكن نفرًا من الصفوف الأولى في هيئة الإخوان أرادوا أن يخسروا هذه الهيئة لمنافع شخصية وأطماع ذاتيه، مستغلين سلطان الدين على النفس، وبراءة وحماسة الشباب المسلمين، ولم يكونوا في هذا مخلصين لوطن أو دين.

ولقد أثبت تسلسل الحوادث أن هذا النفر من الطامعين استغلوا هيئة الإخوان والنظم التي تقوم عليها هذه الهيئة لإحداث انقلاب في نظام الحكم القائم تحت ستار الدين، وقد سارت الحوادث بين الثورة وهيئة الإخوان بالتسلسل الآتي:

(1) في صباح الثورة استدعى الأستاذ حسن العشماوي لسان حال المرشد العام إلى مقر القيادة العامة في كوبري القبة، وأبلغ إليه أن يطلب من المرشد العام إصدار بيان لتأييد الثورة ولكن المرشد بقي في مصيفه بالإسكندرية لائذا بالصمت فلم يحضر إلى القاهرة إلا بعد عزل الملك ثم أصدر بيانا مقتضبًا طلب بعده أن يقابل أحد رجال الثورة، فقابله البكباشي جمال عبد الناصر في منزل الأستاذصالح أبو رقيق الموظف بالجامعة العربية، وقد بدأ المرشد حديثة مطالبًا بتطبيق أحكام القرآن في الحال، فرد عليه البكباش جمال أن هذه الثورة قامت حربًا على الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني، وهي بذلك ليست إلا تطبيقًا لتعاليم القرآن الكريم، فانتقل المرشد بالحديث إلى تحديد الملكية وقال: إن رأية أن يكون الحد الأقصى... فدان فرد عليه البكباشي جمال قائلا: إن الثورة رأت التحديد بمائتي فدان فقط، وهي مصممة على ذلك فاتنقل المرشد بالحديث قائلا: إنه يرى لكي تؤيد هيئة الإخوان الثورة أن يعرض عليه أي تصرف للثورة قبل إقراره، فرد عليه البكباشي جمال قائلا: بأن هذه الثورة قامت بدون وصاية أحد عليها، وهي لن تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد، وإن كان هذا لا يمنع القائمين على الثورة من التشاور في السياسة العامة مع كل المخلصين من أهل الرأي دون التقيد بهيئة من الهيئات ولم يلق هذا الحديث قبولاً من نفس المرشد.

(2) سارعت الثورة بعد نجاحها في إعادة الحق إلى نصابه، وكان من أول أعمالها أن أعادت التحقيق في مقتل الشهيد حسن البنا، فقبضت على المتهمين في الوقت الذي كان فيه المرشد لا يزال في مصيفه بالإسكندرية.

(3) طالبت الثورة الرئيس السابق علي ماهر بمجرد تولية الوزارة أن يصدر عفوًا شاملاً عن المعتقلين والمسجونين السياسيين وفي مقدمتهم الإخوان. وقد نفذ هذا فعلا بمجر تولي الرئيس نجيب رئاسة الوزارة.

(4) حينكما تقرر إسناد الوزارة إلى الرئيس نجيب، تقرر أن يشترك فيها الإخوان المسلمين بثلاثة أعضاء، على أن يكون أحدهم الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري، وقد تم اتصال تليفوني بين اللواء عبد الحكيم عامر والمرشد ظهر يوم 7 سبتمبر سنة 1952م فوافق على هذا الرأي قائلاً: إنه سيبلغ القيادة بالاسمين الآخرين ثم حضر الأستاذ حسن العشماوي إلى القيادة في كوبري القبلة وأبلغ البكباشيجمال عبد الناصر أن المرشد يرشح للوزارة الأستاذ منير الدلة الموظف بمجلس الدولة والأستاذ حسن العشماوي المحامي وقد عرض هذا الترشيح علىمجلس الثورة فلم يوافق عليهما، وطلب البكباشي جمال من الأستاذ حسن العشماوي أن يبلغ ذلك إلى المرشد ليرشح عيرهما، وفي نفس الوقت اتصل البكباشي جمال بالمرشد، فقال الأخير إنه سيجمع مكتب الإرشاد في الساعة السادسة ويرد عليه بعد الاجتماع، وقد أعاد البكباشي جمال الاتصال مرة أخرى بالمرشد، فرد عليه إن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة، فلما قال له: لقد أخطرنا الشيخ الباقوري: بموافقتك، وطلبنا منه أن يتقابل مع الوزارة في الساعة السابعة لحلف اليمين، أجاب بأنه يرشح بعض أصدقاء الإخوان للاشتراك في الوزارة، ولا يوافق على ترشيح أحد من الإخوان، وفي اليوم التالي صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل الشيخ الباقوري من هيئة الإخوان.

فاستدعى البكباشي جمال عبد الناصر الأستاذ حسن العشماوي وعاتبه على هذا التصرف الذي يظهر الإخوان بمظهر الممتنع عن تأييد وزارة الرئيس نجيب، وهدد بنشر جميع التفاصيل التي لازمت تشكيل الوزارة, فكان رد الأستاذ حسن العشماوي أن هذا النشر يحدث فرقة في صفوف الإخوان ويسيء لموقف المرشد، ورجاه عدم النشر.

(5) عندما طلب من الأحزاب أن تقدم إخطارات عن تكوينها، قدم الإخوان إخطارًا باعتبارهم حزبًا سياسيًا، وقد نصحت الثورة رجال الإخوان بألا يتردوا في الحزبية، ويكفي أن يمارسوا دعوتهم الإسلامية بادئ الأمر ثم استجابوا، وطلبوا اعتبارهم هيئة، وطلبوا من البكباشي جمال عبد الناصر أن يساعدهم في تصحيح الأخطاء فذهب إلى وزارة الداخلية حيث تقابل مع المرشد في مكتب الأستاذ سليمان حافظ وزير الداخلية يومئذ، وتم الاتفاق على أن تطلب وزارة الداخلية من الإخوان تفسيرًا عما إذا كانت أهدافهم سيعمل على تحقيقها عن طريق أسباب الحكم كالانتخابات وأن يكون رد الإخوان بالنفي حتى لا ينطبق عليهم القانون.

(6) في صبيحة يوم صدور قرار حل الأحزاب في يناير سنة 1953م، حضر إلى مكتب البكباشي جمال عبد الناصر الصاغ صلاح شادي والأستاذ منير الدلة، وقالا له: الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من يؤيد الثورة إلا هيئة الإخوان، ولهذا فإنهم يجب أن يكونوا في وضع يمكنهم من أن يردوا على كل أسباب التساؤل، فلما سألهم: ما هو هذا الوضع المطلوب؟ أجابا بأنهم يريدون الاشتراك في الوزارة، فقال لهما: إننا لسنا في محنة، وإذا كنتم تعتقدون أن هذا الظرف هو ظرف المطالب وفرض الشروط فأنتم مخطئون، فقالوا له: إذا لم يوافق على هذا فإننا نطالب بتكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها، وهذا هو سبيلنا لتأييدكم إن أردتم التأييد، فقال لهم جمال: لقد قلت للمرشد سابقًا: إننا لن نقبل الوصاية: وإنني أكررها اليوم مرة أخرى في عزم وإصرار، وكانت هذه الحادثة هي نقطة التحول في موقف الإخوان من الثورة وحكومة الثورة، إذ دأب المرشد بعد هذا على إعطاء تصريحات صحفية، مهاجمًا فيها الثورة وحكومتها في الصحافة الخارجية والداخلية، كما كانت تصدر الأوامر شفويًا إلى هيئة الإخوان بأن يظهروا دائما في المناسبات التي يعقدها رجال الثورة بمظهر الخصم المتحدي.

(7) لما علم المرشد بتكوين هيئة التحرير، تقابل مع البكباشي جمال في مبنى القيادة بكوبري القبة، وقال: إنه لا لزوم لإنشاء هيئة التحرير ما دام الإخوان قائمين، فرد البكباشي جمال: إن في البلاد من لا يرغب في الانضمام للإخوان، وأن مجال الإصلاح متسع أمام الهيئتين، فقال المرشد: إنني لن أؤيد هذه الهيئة, وبدأ منذ ذلك اليوم في محاربة هيئة التحرير، وإصدار أوامره بإثارة الشغب واختلاف المناسبات لإيجاد جو من الخصومة بين أبناء الوطن الواحد.

(8) وفي شهر مايو سنة 1953م ثبت لرجال الثورة أن هناك اتصالا بين بعض الإخوان المحيطين بالمرشد وبين الإنجليز عن طريق الدكتورمحمد سالم الموظف في شركة النقل والهندسة، وقد عرف البكباشي جمال عبد الناصر في حديثه مع الأستاذ حسن العشماوي في هذا الخصوص أنه حديث اتصال فعلاً بين الأستاذ منير الدلة والأستاذ صالح أبو رقيق ممثلين عن الإخوان وبين المستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية، وأن هذا الحديث سيعرض حينما يتقابل البكباشي جمال والمرشد وعندما ألتقي البكباشي جمال مع المرشد أظهر له استياءه من اتصال الإخوان مع الإنجليز والتحدث معهم في القضية الوطنية، الأمر الذي يدعو إلى التضارب في القول وإظهار البلاد بمظهر الانقسام.

(9) في أوائل شهر يونيو سنة 1953 م ثبت لإدارة المخابرات أن خطة الإخوان قد تحولت لبث نشاطها داخل قوات الجيش والبوليس، وكانت خطتهم في السجن تنقسم إلى قسمين: القسم الأول ينحصر في عمل تنظيم سري تابع للإخوان بين ضباط الجيش، ودعوا فيما دعوا عددا من الضباط وهم لا يعلمون أنهم من الضباط الأحرار، فسايروهم وساروا معهم خططهم، وكانوا يجتمعون بهم اجتماعات أسبوعية، وكانوا يتحدثون في هذه الاجتماعات عن الإعداد لحكم الإخوان المسلمين، والدعوة إلى ضم أكبر عدد من الضباط ليعلموا تحت إمرة الإخوان وكانوا يأخذون عليهم عهدًا وقسمًا أن يطيعوا ما يصدر إليهم من أوامر المرشد.

أما القسم الثاني فكان ينحصر نشاطه في عمل تشكيلات بين ضباط البوليس، وكان الغرض منها هو إخضاع نسبة كبيرة من ضباط البوليس لأوامر المرشد أيضًا. وكانوا يجتمعون في اجتماعات دورية أسبوعية، وينحصر حديثهم في الحقد والكراهية لرجال الثورة ورجال الجيش، وبث الدعوة بين ضباط البوليس بأنهم أحق من رجال الجيش بالحكم نظرًا لاتصالهم بالشعب, وكانوا يمنوهم بالترقيات والمناصب عبد أن يتم لهم هدفهم، وكان يتزعمهم الصاغ صلاح شادي الذي طالما ردد في اجتماعاته فيهم أنه وزير الداخلية المقبل.

وقسم ثالث أطلق عليه قسم الوحدات، وكان الغرض منه هو جمع أكبر عدد من ضباط الصف في الجيش تحت إمرة المرشد أيضًا، وكانوا يجتمعون بهم في اجتماعات شبه أسبوعية، وكان الحديث يشتمل على بث الكراهية للضباط في نفوس ضباط الصف، وإشعارهم أنهم هم القوة الحقيقية في وحدات الجيش، وأنهم إذا ما نجح الإخوان في الوصول إلى الحكم فسيعاملون معاملة كريمة. كما كان هذا القسم يبث الدعوة لجمع أكبر عدد من صف ضباط وجنود البوليس ليكون تحت إمرة المرشد العام للإخوان.

ولما تجمعت المعلومات لإدارة المخابرات اتصل البكباشي جمال عبد الناصر بالأستاذ حسن العشماوي باعتباره ممثلا للمرشد، وصارحه بموقف الإخوان العام، ثم بموقف الإخوان داخل الجيش وما يدبرون في الخفاء بين قوات الجيش والبوليس، وقال له: لقد أمنا لكم، ولكن هذه الحوادث تظهر أنكم تدبرون أمرًا سيجني على مصير البلاد، ولن يستفيد منه إلا المستعمر، وإنني أنذر أننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه التصرفات التي يجب أن توقف إيقافًا كاملاً يجب أن يعلم الإخوان أن الثورة إنما أبقت عليهم بعد أن حلت جميع الأحزاب لاعتقادها أن في بقائهم مصلحة وطنية، فإذا ما ظهر أن في بقائهم ما يعرض البلاد للخطر، فإننا لن نتردد في اتخاذ ما تمليه مصلحة البلاد مهما كانت النتائج، فوعد أن يتصل بالمرشد في هذا الأمر وخرج ولم يعد حتى الآن.

وفي اليوم التالي استدعى البكباشيجمال عبد الناصر الأستاذ حسن حميدة نائب المرشد والشيخسيد سابق، وأبلغها ما قاله لحسن العشماوي في اليوم السابق، فأظهرا الاستياء الشديد، وقالا إنهما لا يعلمان شيئا عن هذا، وإنهما سيبحثان الأمر ويعملان على إيقاف هذا النشاط الضار ورغم هذا التحذير وهذا الإنذار استمر العمل حثيثًا بين صفوف الجيش والبوليس، وأصبح الكلام في الاجتماعات الدورية يأخذ طابع الصراحة وطابع الحقد. فكانوا يقلبون الخطط في هذه الاجتماعات بحثًا عن أسلم الطرق لقلب نظام الحكم, كان الأحرار المنبثون في هذه التشكيلات يبلغون أولا بأول عما يدور في كل اجتماع.

(10) بعد أن تعين الأستاذ الهضيبي مرشدا للإخوان لم يأمن إلى أفراد الجهاز السري الذي كان موجودا في وقت الشهيد حسن البنا برياسة السيد عبد الرحمن السندي، فعمل على إبعاده معلنا أنه لا يوافق على التنظيمات السرية لأنه لا سرية في الدين. ولكنه في نفس الوقت بدأ في تكوين تنظيمات سرية جديدة تدين له بالولاء والطاعة, بل عمد إلى التفرقة بين أفراد النظام السري القديم ليأخذ منهم إلى صفة أكبر عدد ليضمهم إلى جهازه السري الجديد، وفي هذه الظروف المريبة قتل المرحوم المهندس السيد فايز عبد المطلب بواسطة صندوق من الديناميت وصل إلى منزله على أنه هدية من الحلوى لمناسبة عيد المولد النبوي، وقد قتل معه بسبب الحادث شقيقه الصغير البالغ من العمر تسع سنوات، وطفلة صغيرة كانت تسير تحت الشرفة التي انهارت نتيجة الانفجار، وكانت المعلومات ترد إلى المخابرات أن المقربين من المرشد يسيرون سيرًا سريعًا في تكوين جهاز سري قوي، ويسعون في نفس الوقت إلى التخلص من المناوئين لهم من أفراد الجهاز السري القديم.

(11) وكان من نتيجة ذلك أن حدث الانقسام الأخير بين الإخوان، واحتل فريق منهم دار المركز العام. وقد حضر إلى منزل البكباشي جمال عبد الناصر بعد منتصف ليل ذلك اليوم الشيخ محمد فرغلي، والأستاذ السعيد رمضان، مطالبين بالتدخل ضد الفريق الآخر، ومنع نشر الحادث، فقال لهم جمال: إنه لن يستطيع منع النشر حتى لا يؤول الحادث تأويلات ضارة بمصلحة البلاد. أما من جهة التدخل فهو لا يستطيع أن يتدخل بالقوة حتى لا تتضاعف النتائج، وحتى لا يشعر الإخوان أن الثورة تنصر فريقًا على فريق، وأنه يرى أن يتصالح الفريقان وأن يعملا على تصفية ما بينهما فطلب منه الشيخ فرغلي أن يكون واسطة بين الفريقين وأن يجمعه مع الأستاذ صالح عشماوي، فطلب منه جمال أن يعود في اليوم التالي في الساعة العاشرة, وأنه سيعمل على أن يكون الأستاذ صالح موجودًا. وفي الموعد المحدد حضر الشيخ فرغلي ولم يمكن الاتصال بالأستاذ صالح عشماوي، وكان الشيخ فرغلي متلهفا على وجود الأستاذ عشماوي مما دعا البكباشي جمال أن يطلب من البوليس الحربي البحث عن الأستاذ صالح وإحضاره إلى المنزل، وتمكن البوليس الحربي في الساعة الثانية عشرة من العثور على الأستاذ صالح، فحضر هو والشيخ سيد سابق إلى منزل البكباش جمال، وبدأ الطرفان يتعاتبان، وأخيرًا اتفقا على أن تشكل لجنة يوافق على أعضائها الأستاذ صالح عشماوي للبحث فيما نسب إلى الإخوان الأربعة المفصولين، على أن لا يعتبروا مفصولين وأنهم يعتبرون تحت التحقيق، والعمل على أن يسود السلام المؤتمر الذي كان مزمعًا عقده في دار المركز العام في عصر ذلك اليوم، ولكن لم ينفذ هذا الاتفاق.

(12) في يوم الأحد 10يناير سنة 1954 ذهب الأستاذ حسن العشماوي العضو العامل بجماعة الإخوان المسلمين وأخو حرم منير الدلة إلى منزل المستر كروزظيل المفوض بالسفارة البريطانية ببولاق الدكرور الساعة السابعة صباحًا، ثم عاد لزيارته أيضًا في نفس الوقت في مقابلة دامت من الساعة الرابعة بعد الظهر إلى الساعة الحادية عشرة من مساء نفس اليوم، وهذه الحلقة من الاتصالات بالإنجليز تكمل الحلقة الأولى التي روي تفاصيلها الدكتور محمد سالم.

(13) وكان آخر مظهر من مظاهر النشاط المعادي الذي قامت به جماعة الإخوان هو الاتفاق على إقامة احتفال بذكرى المنيسي وشاهين يوم 12 الجاري في جامعتي القاهرة والإسكندرية في وقت واحد، وأن يعملوا جهدهم لكي يظهروا بكل قوتهم في هذا اليوم، وأن يستغلوا هذه المناسبة استغلالا سياسيًا في صالحهم، ويثبتوا للمسؤولين أنهم قوة، وأن زمام الجامعة في أيديهم وحدهم، وفعلا تم الاجتماع لهذا الغرض برئاسة عبد الحكيم عابدين حضرة الأستاذ حسن دوح المحامي ومحمود أبو شلوع ومصطفى البساطي من الطلبة, واتفقوا على أن يطلبوا من الطلبة الإخوان الاستعداد لمواجهة أي احتمال يطرأ على الموقف خلال المؤتمر حتى يظهروا بمظهر القوة، وحتى لا يظهر في الجامعة أي صوت آخر غير صوتهم، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض اتصلوا بالطلبة الشيوعيين رغم قلتهم وتبايهن وجهات النظر وعقدوا معهم اتفاقًا وديًا يعمل به خلال المؤتمر.

وفي صباح 12 الجاري عقد المؤتمر، وتكتل الإخوان في حرم الجامعة، وسيطروا على الميكروفون، ووصل إلى الجامعة أفراد منظمات الشباب من طلبة المدارس الثانوية ومعهم ميكروفون مثبت على عربة للاحتفال بذكرى الشهداء، فتحرش بهم بعض الطلبة الإخوان وطلبوا إخراج ميكروفون منظمات الشباب، وانتظم الحفل ،وألقيت كلمات من مدير الجامعة والطلبة، وفجأة إذا ببعض الطلبة من الإخوان يحضرون إلى الاجتماع ومعهمنواب صفوي زعيم فدائيان إسلام في إيران حاملينه على الأكتاف، وصعد إلى المنصة، وألقى كلمة، وإذا بطلبة الإخوان يقابلونه بهتافهم التقليدي الله أكبر ولله الحمد.. وهنا هتف طلبة منظمات الشباب «الله أكبر والعزة لمصر» فساء طلبة الإخوان أن يظهر صوت في الجامعة مع صوتهم، فهاجموا الهاتفين بالكرابيج والعصي، وقلبوا عربة الميكروفون وأحرقوها، وأصيب البعض بإصابات مختلفة ثم تفرق الجميع إلى منازلهم.

حدث كل هذا في الظلام، وظن المرشد وأعوانه أن المسؤولين غافلون عن أمرهم، لذلك فنحن نعلم باسم هذه الثورة التي تحمل أمانة أهداف هذا الشعب أن مرشد الإخوان ومن حوله قد وجهوا نشاط هذه الهيئة توجيها يضر بكيان الوطن ويعتدي على حرية الدين. ولن تسمح الثورة أن تتكرر في مصر مأساة رجعية باسم الدين، ولن تسمح لأحد أن يتلاعب بمصائر هذا البلد لشهوات خاصة مهما كانت دعواه، ولا أن يستغل الدين في خدمة الأغراض والشهوات، وستكون اجراءات الثورة حاسمة وفي ضوء النهار وأمام المصريين جميعًا والله ولي التوفيق.

مجلس قيادة الثورة

ولم يكن هناك ما أعلق به على هذا البيان، لأن السجن الانفرادي بدون تحقيق لا يسمح للفرد أن يناقش أمرًا يتهم به زورًا... وحين حقق معي في اليوم التالي في شأن الأسلحة التي كنت أحتفظ بها لعبد الناصر، لم أجد ما أرد به إلا الإحاطة عليه، رافضًا أن أفضي بأية معلومات أخرى.

ولقيت صلاح مرة في السجن فسألته أكنت تضع يدك في يد جمال لو أنك تعلم ما سيجري بعد ذلك، فأجاب ببساطة وهدوء: لو أن الأمور عادت اليوم ثانية لوضعت يدي في يده.. .فقد قام وسيقوم بخطوات في مصلحة الحركة الكبرى للأمة وإن أخطأ في بعضها.. وإن كنا نحن المنادين بها من قديم أول ضحاياها، لم أفهم هذا الكلام في البداية ولكن الأحداث كشفت لي عن مضمونه.


أحجزوا لي غرفة في السجن!

لم ينفض يومان على قرائتي قرار حل الإخوان وبيان مجلس الثورة، حتى استدعاني ضابط وقادني تحت الحراسة إلى مكتب مدير السجن حيث وجدت أحد زملائي وكلاء النيابة العامة جالسًا مجلس المحقق، وبدأ بسؤالي عن اسمي وسني ومهنتي، دون توجيه يبين مما يشير إلى كوني متهمًا، ثم وجه إلى أول سؤال في التحقيق:

- هل تملك مزرعة في مديرية الشرقية؟

وتجلى في ذهني بوضوح ما وراء هذا السؤال، وأيقنت أن عبد الناصر الذي أباح لنفسه أن يقول في قرار الحل ما قال –ينوي أن يؤاخذني بالأسلحة الموجودة في مزرعة أهلي، والتي أنقذت بإخفائها رقبته وزملاءه بعد حريق القاهرة، والتي عرضت عليه أكثر من مرة أن يستردها، فكان يبدي اطمئنانه إلى وجودها عندي للحاجة وفهمت عند سماع سؤال المحقق لماذا كان يسألني عن مكان مزرعتي كل من يستلمني من ضباط المباحث والمخابرات العسكرية بعد أن سلمت نفس منذ ثلاثة أيام مضت، ولم أكن أدري بعد أن التمثيلية قد تم إخراجها، وأن الجرائد نشرت في الصباح خبر ضبط ترسانة أسلحة ومتفجرات في مزرعة تكفي لإحراق القاهرة.

وأجبت على السؤال بما معناه:

- لا.. أنا لا أملك مزرعة على الإطلاق، ولكن لعائلتي مزرعة في الإبراهيمية مركز ههيا مديرية الشرقية وبالمناسبة قد خبأت فيها بغير علم من أهلي أو سكانها كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر والمتفجرات مملوكة للبكباشي جمال عبد الناصر، ولست على استعداد لبيان مكانها أو الظروف التي تسلمتها فيها إلا إذا أذن هو شخصيًا بذلك.

ولم يكن بعد ذلك مجال لسؤال أو جواب، وعدت إلى زنزانتي ورجع المحقق بالتحقيق الذي علمت أنه أرسل إلى مجلس الوزراء ثم صدر قرار من النائب العام بحفظه، وأعلن عبد الناصر أن للسلاح الذي ضبط بمزرعتي وضعًا خاصًا فلن تطبق عليه القوانين العقاب، ومع ذلك حوكمت بعد سنة بتهمة إحراز هذه الأسلحة، ولعلها التهمة الوحيدة التي صدر على حكم الإدانة من أجلها.

وكان هذا التحقيق الموجز فرصة للإذن لي بورق وقلم وكتبت بدعوى الاستعانة بها على تحضير دفاعي، واستفدت من الكتب لأقطع بها الساعات الطوال في أيام متعاقبة ولكني لم أحاول أن أحضر أي دفاع، ولا شك أن قصة السلاح وكانت معروفة بين كثير من الضباط جعلت لي بينهم مكانة معينة، فحاولوا معاملتي على أحسن صورة اعتذرا منهم على ما بدر من رئيسهم نحوي.

ومرت الأيام... ولا أحد يسألنا ولا أحد يحقق معنا. ولا يعكر صفونا شيء إلا الشعور بأننا سجناء ولكن أحد ضباط السجن لم يعدم وسلة يوما لإظهار بطشه حين جرت يومًا مناقشة بينه وبين أحد الإخوان فغضب وأصدر أمرة بإغلاق الأبواب علينا، وأوقف حرسًا بالسلاح والذخيرة الحية ليشرف على ذهابنا إلى دورة المياه خمس دقائق كل أربع وعشرين ساعة.. ولكن هذا التكدير (كما يسمونه في السجن) لم يستمر أكثر من يومين.

ورؤي أن ينقل بعضنا إلى السجن رقم 1 بجوار الإدارة، واختبر لذلك مجموعة مع المرشد العام، وكنت أنا منهم، وكانت زنزانتي رقم 13 وكانت فرصة رأيت فيها الكثير من الضباط الساخطين على عبد الناصر ومن حوله، جاءوا لزيارتي والاتفاق معي على عمل ضده، ولم أكن من الغفلة بحيث أعطيتهم اسميا واحدا خارج السجن ليتصلوا به إنني لا أدري إلى الآن إن كان هؤلاء الذين اتصلوا بي مخلصين في خلافهم مع عبد الناصر أم عاملين لحسابه ولكن أعلم أن أغلبهم لا يزال يشغل مناصب حساسة في حكم عبد الناصر، ولذلك حسبت نفسي عن ذكر أسمائهم حماية لهم، ومن يدري لعلهم لا يزالون ينتظرون الفرصة للإحاطة به وبحكمه، أو ربما كانوا من أخلص أعوانه حاولوا استدراجي لحسابه.. وأيا كانوا فقد خرجوا بلا شيء.

وفي فبراير، نحي مجلس الثورة رئيسه اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، ثم إعادته رئيسًا للجمهورية فقط. ولا يستطيع مثلي ممن كان داخل السجن أن يصور ما حدث سخط الضباط وسخط الشعب وحيلة عبد الناصر التي انطلت على خالد محي الدين.. ومظاهرات ميدان عابدين التي لم يهدئها غير عبد القادر عودة وكيل الإخوان الذي كان خارج السجن وقتئذ ذكاء عبد الناصر وسذاجة خصومة المناورة التي انتهت ببيان إطلاق حرية الصحافة وعودة الحياة النيابية قريبا.

ولكننا برغم جدران السجن وحراسه كنا نحس أن شيئًا غير عادي يجري وكان من يلقاني من الضباط يروي لي جانبًا مما يجري من وجهة نظره هو بطبيعة الحال.

وفي هذه الأثناء في مارس سنة 1954م وجه المرشد العام من داخل السجن رسالته إلى الرئيس محمد نجيب قال له فيها:

أما بعد، فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارًا في 12 يناير سنة 1954، بأنه يجري على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية، ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه فقد صدر بيان نسبت إلينا فيه أفحش الوقائع وأكثرها اجتراء على الحق، واعتقلنا ولم نخبر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه، وقيل يومئذ أن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنا فاستبشرنا بهذا القول لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه لنبين أن ما اشتمل عليه كله وعلى الصورة التي جاءت به لا حقيقة له فيعرف كل إنسان قدره ويقف عند حده ولكن ذلك لم يحصل.

وإلى أن تتاح لنا الفرصة إننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلى ما أمر الله تعالى به رسوله عليه الصلاة والسلام حين قال: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[آل عمران: 61].

وقد استمرت حركة الاعتقال طوال شهرين كاملين، حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة آلاف، ولكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد وعن حرياتها، شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس. أما كيفية الاعتقال ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا.

وقد بدت في مصر بوادر حركة –إن صحت- فقد تغير من شؤونها وأنظمتها، وقرار حل الإخوان وإن أنزل اللافتات عن دورهم فإنه لم يغير الحقيقة الواقعة وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الاعتصام بحبل الله المتين، وهي أقوى من كل قوة، ولا زالت هذه الرابطة قائمة، ولن تزال كذلك بإذن الله، ومصر ليست ملكا لفئة معينة، ولا حق لأحد أن يفرض وصايته عليها، ولا أن يتصرف في شؤونها دون الرجوع إليها أو النزول على إرادتها لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت في شؤون البلاد في غيبتهم، وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشيء.

وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال، فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة.

ونسأل الله تعالى أن يقي البلاد كل سوء، وأن يسلك بنا سبيل الصدق في القول والعمل، وأن يهدينا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين.

وسلمت الرسالة بنفسي إلى أركان حرب السجن الحربي، وأبلغني أنه أرسلها في ذات اليوم... وخرجت نسخة من الرسالة إلى جريدة المصري، فصدرت في يوم 16 مارس سنة 1954م تحمل نص الرسالة، وكانت مفاجأة لرجال السجن لم نعدم بسببها حبسًا انفراديًا طويلاً وحرماناً من الخروج حتى إلى دورات المياه، ولكن كفانا أن هذه الرسالة وخروجها إلى الصحافة كان له أثر فعال في كل الإخوان، فقد أعادت إليهم ثقتهم في سلامة موقفهم وصلابة مرشدهم في الحق...


اجتماعات بلا قرارات...!!

لم يمنعني هربي في البداية من التردد على دار الإخوان المسلمين وعلى بيوت بعض أصدقائي، وإن تجنبت بيوت أقاربي، وكنا قد استأجرنا فور خروجنا من السجن الحربي في نهاية مارس سنة 1954 منزلا بمصر الجديدة باسم مستعار، فلجأت إليه مع بعض زملائي الذين اضطرتهم ظروفهم للاختفاء وبعد أيام قلائل لحق بنا الأستاذ حسن الهضيبي حين هوجم بيته ليلا في غيبة، وتأكد له –ولنا- أن أمرا صدر بالقبض عليه هو أيضًا، وكان أمر القبض عليه نتيجة اجتماع عام عقده في المركز العام للإخوان ورد فيه على اتهامات جمال عبد الناصر، مع أن الأستاذ الهضيبي كان رقيقًا في رده إلى حد بعيد أثار بعض النفوس المتحمسة.

وتركنا بيت مصر الجديدة للأستاذ الهضيبي وعائلته التي لحقت به، ونزلنا بيتا مؤقتاً في حي آخر، حتى استأجرنا منزلا قريبا من منزل الأستاذ الهضيبي أقمنا فيه، وتزايد عدد المقبوض عليهم.... وتزايد عدد الهاربين ... واضطربت نفوس زملائنا...

بقيت في القاهرة على صلة بالأستاذ الهضيبي وببعض الزملاء أكثر من عشرين يومًا، وقد اتخذت مسكنًا استأجره لي صديق تحت اسم مستعار.. أو هكذا ظن هو مع أنه كتب العقد باسمي الكامل في دفاتر الدولة وذكر مهنتي ومحل عملي الحقيقيين... كل ما في الأمر حذف اللقب وحده-وحسن جمال الدين محمد المحامي... ومع ذلك لم يكشف البوليس أمر هذا المنزل حتى نهاية مدة العقد.. وفي هذا المنزل كنت أقيم مع عائلتي وزوجتي وأطفالي الذين اضطررت إلى تهريبهم من منزلي ليعيشوا معي هاربين.

وفي الفترة التي قضيناها في القاهرة اجتمع الأستاذ الهضيبي مع زملائه أعضاء مكتب الإرشاد مرتين فضلاً عن اجتماعات تكميلية تمت مع من أراد هذا الاجتماع بهم من الأعضاء، ولن يستطيع أحد أن يتخيل ما في هذه الاجتاعات من مشقة وإرهاق للأعصاب إلا من جرب يوما أن يعمل متخفياً عن عين دولة أشهد هذه المرة أنها ساهرة ليل نهار ترقب كل ما يدور في القاهرة كما كان عسيرًا أن تحضر أشخاصًا لا تثق في كتمانهم أو في حسن تصرفهم وتقديرهم، وعليك أن تخفي عنهم وجهة سيرك دون أن تأمرهم أن يغمضوا عيونهم أو يعصبوها، بل دون أن تثير في نفوسهم أي شك.

كان الأستاذ الهضيبي في المرتبة يحدد لنا الموعد في الليلة السابقة مباشرة على الاجتماع تاركا لنا تحديد مكانه، وعلينا أن لا نخبر أحدا بمكان الاجتماع أو زمانه إلا قبله بدقائق.. والواقع أننا أنفسنا يا من كنا نقوم بتنظيم الاجتماع لم نكن نستطيع أن نعلم مكانه تحديدًا إلا قبله بساعات قلائل، لأننا كنا ننتهز الفرص لنعثر على مكان مناسب يتم فيه الاجتماع ثم نعتبر هذا المكان بعد ذلك منطقة مكشوفة محرمة علينا لا يجوز بعد ذلك أن نرتادها، وكنا نجمع الأعضاء في مكان الاجتماع أولا، ثم ننقل الأستاذ الهضيبي –تحت العيون التي لا تغفل من مكان سكناه إلى مقر الاجتماع ونرجع به قبل أن يغادر المكان غيره.

أعصاب مشدودة ويقظة دائمة... وقلق مستمر، كل هذا يجب أن يطوي عليه قلوبنا لنظهر أمام الناس- وأمام زملائنا المجتمعين- هادئين مطمئنين.. .فإذا فرغ أحدنا من ذلك بعد يوم أو أكثر وعاد إلى مسكنه لعله يهدأ أو يسترخي طارده شعور الهارب الذي لا يعرف هدوءاً ولا أمنًا.

وفي هذين الاجتماعين اللذين عقدهما مكتب الإرشاد تداول المجتمعون في أمور، منها اختفاء رئيسهم، وسياسة الجماعة والمعارضة كلها من الحكومة القائمة، والموقف من جهة الاعتقالات التي استشرت في صفوف الإخوان حتى جاوز عدد المعتقلين في أول سبتمبر سنة 1952 الخمسمائة شخص، والناس لا يعلمون، ثم بحثوا ما يمكن أن يقوموا به من أعمال لإجبار الحكومة على إشراك الشعب في رسم السياسة وتوجيهها، وتسليم مقاليد الأمور إلى من يختاره الشعب من حكام.

وكان موقف الأستاذ الهضيبي من التساؤل عن سبب اختفائه واضحًا لا لف فيه ولا غموض، فهو قد اختفى لأن الحكومة جادة في اعتقاله برغم أنها تنكر ذلك في الجرائد كل صباح، وهو يؤثر أن لا يعتقل الآن خشية أن يثير اعتقاله حماس شباب يرتكب حماقة لا يرضاها.. .هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإنه –حتى لو ظهر- يريد أن يعتزل الموقف لأنه يعلم يقينًا أن الحكومة لا ترغب في التفاهم معه، وهو يريد- برغم رأيه الخاص- أن يترك ميدان التفاهم حتى لا يكون عقبه في تحقيق رغبة قد يتفق زملاؤه عليها في غير وجوده، وقد أقره المكتب على الاختفاء غير عضوين أدليا برأيهما المخالف صراحة وخلاصته أن اختفاء رئيس الجماعة يوحي ولو خطأ بأن وراءه تدبيرًا عنيفا، وهذا ظن فيه خطر لا مبرر له ورأى هذان العضوان أن الأستاذ الهضيبي يجب أن يعود المركز العام للجماعة لو عقب انعقاد الجمعية التأسيسية الجديدة التي يرجى أن تكون أكثر انسجامًا وتوحدًا في الفهم والاتجاه.. وقد كان رأيهما محل اعتبار، ووعد الأستاذ الهضيبي بتنفيذه.. أما موجة الاعتقالات المتزايدة، والتي لم يكن قد نشر عنها شيء إطلاقًا، فقد كانت في الواقع سبب فزع للأعضاء حين ناقشوها، ولكن سبب فزع للأعضاء حين ناقشوها، ولكن سبب الفزع لم يكن واحدًا، فقد كان البعض يخشى ما ينجم عن اتساع نطاق الاعتقالات من سخط قد يدعو بعض الإخوان إلى التصرف منفردًا بما يضر مصالح الأمة ويشوه استقامة فكرة المعارضة, في حين كان يفزع البعض الآخر –للأسف- بصورة أن تعلو موجة الاعتقالات حتى تدركه في مأمنه .. وبعد المناقشة الهادئة، وبعد أن علم المكتب أن أغلب الأفراد يرفضون تسليم أنفسهم والعودة إلى السجون بغير ذنب.. بعد ذلك لم يستطع المكتب أن يتخذ قرارًا، فترك لكل فرد أن يواجه الاعتقال بالتسليم أو الاختفاء، وأبلغ كل من اختار الاختفاء وجوب عدم الإقدام على أي عمل فردي شاذ نعلم سلفا أنه غير مأمون العواقب...

وحين نوقشت مسألة الموقف من الحكومة عمومًا.. وما يمكن أن نقوم به وحدنا ومتعاونين مع غيرنا من أعمال لتغيير الوضع القائم ومنع استمرار الحكم العسكري المفروض على شعب مصر، حين نوقشت هذه المواضيع كان من المحزن حقًا أن ينطوي على نفسه كل من يرى مهادنة الحكومة إيثارًا للسلامة أو عن اقتناع أصحاب هذا الرأي على أنفسهم، فلم يجهروا برأيهم في الاجتماعات الرسمية، وإن قالوه في أحاديثهم مع الأفراد في الخارج.. ولذلك ظلت صورة المقاومة هي وحدها مدار المناقشة.

ومن الإنصاف اليوم أن أقول: إن واحدًا من أعضاء المكتب أو من الإخوان المسؤولين عن التنفيذ لم يقترح القيام بعمل فردي عنيف حتى أن الإجراء العنيف الوحيد الذي عرضه أحدهم هو اختطاف بعض رجال البوليس الحربي والمباحث العامة وأخذهم كرهائن مقابل من اعتقل من الإخوان... فهذا الإجراء يشل حركة الدولة ويسقط هيبتها ويجعل زملاء الرهائن أكرم معاملة للمعتقلين منا وأكثر تحرزًا في تنفيذ أوامر القبض بالجملة، وقد أقر هذا الرأي أول الأمر، وأعدت له وسائل تنفيذه، ثم أرجئ بعض الوقت، ثم منع دوران عجلة الحوادث بعد ذلك العودة إليه.

ولعل أوضح ما عرض في تلك الأيام من آراء، رأى بالقيام «باعتصام سلمي» يضم الإخوان وغيرهم من أفراد الشعب ومن رجال السياسة معهم من ونسائهم وأطفالهم من يشاء... يرابطون جميعاً أمام قصر الجمهورية [قصر عابدين] حتى تنزل الحكومة عند رأيهم أو تبيدهم بالرصاص..! وعندئذ سيعلم الناس، ويعلم العالم أجمع حقيقة الحكم في مصر، وإن كان المؤكد أن الجيش سيعصي أمر إطلاق النار على قوم عزل مسالمين، وعصيان الجيش أول مرحلة الثورة الشعبية الموفقة.. وبهذا ستنطلق الشرارة التي تحرق النظام الظالم القائم..! وبرغم ما بدا على صاحب هذا الاقتراح من حماس في عرض فكرته التي فكر فيها طويلاً فإن حماسه لم يلق من أغلبية زملائه أذنًا صاغية، وإن كان قد أوحى اقتراحه بالفكرة التي استقر عليها الرأي فيها بعد متأخرًا..!

وإني اليوم –في وحدتي مع تأملاتي- أتمنى لو أن المكتب اتفق على هذا الرأي أو على رأي آخر، بدلا من أن يخرج من اجتماعاته دون قرار واضح في هذه المسألة بالذات وهي أخطر المسائل ... كل ما عداها فرع لها، ولكن يبدو أن أعضاء المكتب لم يكن لديهم من الشجاعة ما يواجهون به نقطة الفصل في الأمور، أو لعله ليس لديهم من الثقة في سائر إخوانهم ما يمكنهم من إصدار قرار جريء وعلى أي حال فإن الطاقة الثورة عند أغلبهم كانت لم تزل طاقة صبر على الظالم لا طاقة مبادأة لإنهاء الظالم.

وكان سكوت المجتمعين في المرتين عن إصدار قرار، شيئًا مؤلمًا للنفس حقًا، داعيا إلى الأسف والسخط وسوء الظن. أحسست بذلك ولكني لم أيأس.. ويئس غيري فأسلم نفسي للدولة، فأودع السجن معتقلاً فمتهماً.. .فمحكومًا عليه بالأشغال الشاقة دون أن يرتكب شيئًا وإني لا زلت أذكر أولئك الذين أيأسهم الأسف والسخط وسوء الظن فاستسلموا، فأحزن عليهم أشد الحزن، ولكن الحزن لم يفقدني الأمل في نجاتهم يومًا قريبًا...

وبينما نحن في هذه الدوامة التي لا ترحم أعصابنا، إذ قام شك لدينا بأن المنزل الذي يقيم فيه الأستاذ الهضيبي قد كشف أمره وعرف من جانب الحكومة، أو أنه أصبح على الأقل موضع مراقبة قد تكشف أمره وعند قيام أول بادرة شك يجب علينا أن لا ننتظر لنتحقق..

كان المنزل الذي يقيم فيه رئيس الجماعة هو الدور الأرضي في إحدى العمارات الكبيرة في مصر الجديدة، وبينما كان أحد زملائنا يغادر باب المسكن يوما، إذ لمح ضابطًا من السلم، فرفع نظره ليتبينه فإذا به أحد ضباط المخابرات الحربية وأحد المسؤولين شخصيًا عن القبض علينا. فارتد زميلنا لفوره إلى داخل المسكن كمن نسي شيئاً وعاد ليحضره ... ثم خرج بعد قليل دون أن يشعر أحدًا في المسكن كمن نسي شيئًا وعاد ليحضره.. ثم خرج بعد قليل دون أن يشعر أحدًا في المسكن بما رأى.

وفي حدث عابر مع بواب العمارة عرف صلة الضابط بالمنزل أنه استأجر منذ أول شهر سبتمبر الشقة التي تعلونا مباشرة، وهكذا شاءت الصدف أن يعيش الصائد فوق مخبأ صيده وكلاهما لا يدري..!! وجاء زميلنا يقص علينا ما رأى وما عرف.

ولم يمض وقت حتى جاء آخر.. جاء يروي لنا أنه كان يمر –منذ ساعات قلائل أمام منزل الأستاذ الهضيبي ليراقب الحالة كما يفعل كل يوم فإذا به قد تبين رجل استشعر أنه من رجال البوليس السري فظل يراوغه حتى فر منه وجاءنا وهو لا يدري إن كان يتبعه من عند البيت أم قبل ذلك ولكنه يشك في الأمر ويرجونا أن نضع شكه موضع الاعتبار.

وهكذا اجتمع لدينا موجبان للشك، فلم نضيع وقتاً في أي منهما، بل عزمنا على نقل رئيس الجماعة من مكانه، ولكن إلى أين...؟ هذه هي المشكلة، فإننا أحسننا بغير سبب أن بيوتنا هي الأخرى محل شك والشكوك إن بدأت تراود النفس تضخمت وشملت كل ما حولنا.

وخرجت وحدي أهيم على وجهي مكلفًا بأن أبحث عن منزل أستأجره خلال ساعات، وهنا تدخل القدر ليهيئ لنا – وحده دون اجتهاد منا- مسكنًا آخر...

زرت صديقًا أعرف أن لا أحد أقاربه عمارة قيل لي أن فيها بعض مساكن خيالية, وإذا بالصديق قد حزم حقائبه استعدادًا لسفر بعد ساعة إلى خارج القطر حيث يقضي عدة شهور وصديقي لا يربطه بالسياسة صلة، ولكنه رآني مضطربًا، ولم أخف عنه أنني هارب، فإذا به يترك لي مفتاح مسكنه لأختفي فيه ما شئت من وقت فترة غيابه، ثم أترك له المفتاح في صندوق البريد، وكانت أعجب مصادفة، فبيته أبعد ما يمكن عن الشبهات، ولم أر مبررًا لأن أطلعة على شخصية من سيقيم في منزله بعد سفره.

وما إن غابت الشمس حتى كنا عند الأستاذ الهضيبي نطلب منه أن يغادر معنا المنزل فورًا لأنه موضع شك، وسارت بنا السيارة في شوارع القاهرة من أقصى حي مصر الجديدة إلى حي آخر بعيد... وكلنا تصور له الأوهام أن كل عابر في الطريق ينظر إلينا، حتى دخلنا منزل الصديق، فتنفست الصعداء، وإني لا زلت أتصور فرحة صاحبي حين رأى ما بدا علي وجهي من علامات الارتياح حين أعطاني مفتاح شقته، وأرجو أن يكون قد عاد من سفره ليجد مفتاح الشقة حيث طلب مني أن أضعه.وفي هذا المنزل الصغير المعتم بنوافذه التي لم تفتح عدة أيام بقي الأستاذ الهضيبي ومعه بعض الزملاء حتى غادره بعد أيام إلى الإسكندرية.

وآن لإقامتي في القاهرة أن تنتهي، فسافرت صباح اليوم التالي قبيل منتصف سبتمبر إلى الإسكندرية لأستأجر هناك بيتا أقيم فيه مع عائلتي على أن يكون من الاتساع بحيث يصلح لإقامة الأستاذ الهضيبي وأسرته إذا شاء ذلك.


الدكتور صبري في الإسكندرية

سافرنا إلى الإسكندرية يوم 13 سبتمبر سنة 1954م ثلاثة أشخاص، وانضم إلينا هناك رابع .. ورحنا نبحث نبحث عن منزلين، وجدنا واحدًا بالمندرة لأحد إخواننا، ووجدنا ثانيًا لي في سموحه وفي هذا المنزل الأخير بشارع سانت جيني قابلتنا سيدة أجنبية هي صاحبة البيت وسألتنا: - من المستأجر..؟

فأشار إلى صاحبنا الرابع قائلاً:

- الدكتور حسن.

- وقاطعته خشية أن يذكر اسمي كاملاً، فقدمت نفسي بقولي:

وهكذا استؤجر المنزل باسم «الدكتور حسن صبري» كان «فيلا» من دور واحد، بها ست غرف وصالة وجراج وحديقة.. وبعد يومين كنت أقيم فيه مع عائلتي، ثم لحق بنا الهضيبي ثم أسرته... وقام معنا اثنان من الإخوان، أحدهم كمرافق للمرشد، والآخر كان يقوم بدور البواب، فأحسن أداء دورة إلى حد أن البوليس حين قبض عليه في المنزل أطلق سراحه، ولم يشتبه فيه، وبدأت –في النصف الثاني من شهر سبتمبر- حياتنا الجديدة في الإسكندرية مختبئين عن الدولة وعن أغلب إخواننا... وفي هذا البيت

ظل الأستاذ الهضيبي مقيمًا حتى قبض عليه فيه بعد شهر ونصف شهر .

وقد قلت اجتماعات الأستاذ الهضيبي بالأعضاء إلى حد بعيد أثناء إقامتنا بالإسكندرية، ولكنها لم تنقطع، فقد تم عدد من الاجتماعات مع بعض الأفراد كل على حدة، وفي هذه الأثناء أقرت الهيئة التأسيسية القانون الجديد للإخوان، فأنهت أعمالها ودعت إلى انتخابات جديدة في الجماعة وأجريت الانتخابات، وأبلغت لنا نتيجتها في الإسكندرية يوم السبت 23أكتوبر سنة 1954م، وحدد يوم الخميس التالي 29 أكتوبر لانعقاد الهيئة التأسيسية الجديدة التي سيحضرها الأستاذ الهضيبي شخصيًا، على أن تخرج الهيئة بعد الاجتماع- ومع أفراد الجماعة- في مظاهرة سلمية يحميها بعض الأفراد المسلحين ويسير في المظاهرة بعض كبار الساسة في الأمة، وكنا على اتفاق معهم في ذلك، وكان المفروض أن هذه المظاهرة- بما يحميها من أفراد مسلحين- ستكون نقطة الانطلاق، تسعى لإسقاط الدكتاتورية العسكرية، ولتسليم مقاليد الحكم لحكومة مؤقتة تجري انتخابات عامة... وكان كل منا يعرف دوره في هذا المظاهرة، ولكن الأحداث سبقت هذا التقدير الذي رسمناه.

وكان أخطر ما حصلنا عليه في هذه الفترة هو ذلك التقرير السري الذي أعدته إدارتا المخابرات الحربية والمباحث العام بالاستعانة ببعض الضباط القدامى في البوليس السياسي، ورفعوه إلى رئيس الحكومة ووزير الداخلية، وضمنوه الأسلوب الذي يرون اتباعه مع جماعة الإخوان المسلمين، وقد استطعنا أن نحصل على صورة رسمية لهذا التقرير السري بما عليه من توقيعات، ولكن هل استطعنا أن نستفيد منه في رسم سياستنا وتوجيه تصرفاتنا والتعجيل باتخاذ ما نرى من إجراءات..؟ لا أظن ذلك. يبدأ التقرير –كالمعتاد- في كل تقرير يتحدث عن الإخوان باستعراض الحوادث القديمة التي نسبت إلى بعض أفراد الجماعة وأشهد هذه المرة بأنه يكاد أن يكون التقرير الوحيد الذي لم ينسب إلى الإخوان واقعة لم يفعلوها.

ثم توضح التقرير استنتاجاته من قضايا سيارة الجيب والأوكار [وهي قضايا قديمة اتهم فيها بعض الإخوان بمحاولة قلب نظام الحكم عام 1948]...

وينتهي إلى القول بأن وجهة الخطر في هذه الجماعة –فضلاً عن تنظيماتها –إيمان عدد كبير من أعضائها بأنهم على حق في مقاومة كل حكم لا يقوم على الإسلام كما يفهونه هم الأمر الذي يجعل من العسير التأثير فيهم بوسائل الفصل من الوظائف والسجن والمحدود المدة، لأنهم يعتبرون كل هذه المتاعب إيذاء في سبيل الله سيزول قريبًا –إلى إجراء أكثر صرامة وقسوة لا تراعى فيه القوانين ولا مبادئ العدالة في المحاكمات... ولو احتاج الأمر إلى افتعال الوقائع ونسبتها إلى أفراد من الإخوان...!

ويتقرح أصحاب التقرير –على سبيل التفصيل أن يعتقل عدد كبير جدًا من أعضاء جماعة الإخوان لمدة طويلة جدًا أو أن تقام لهم محاكمات سريعة يقضي عليهم فيها بالسجن مددًا طويلة ومدى الحياة بغض النظر عن حقيقة التهم المنسوبة إليهم وعن ثبوتها أو عدم ثبوتها طبقًا لإجراءات المحاكمات العادية، فيكف للإدانة مثلا أن تقول تحريات البوليس ولو دون دليل أن الفرد المطلوب محاكمته يعتبر خطرًا على الأمن لأنه يؤمن بصلاحية فكرة الإخوان المسلمين. ثم يوضع هؤلاء المعتقلون –أو المحكوم عليهم –في سجون خاصة أو معسكرات دائمة للاعتقال، وتسد أمامهم أبواب الأمل في الإفراج عنهم، مما يترتب عليه ضيق أهلهم ثم ضيقهم بهذه الحال.. وهكذا تنزع من رؤوسهم أفكارهم الخاطئة.. وإلا فهم باقون إلى الموت.. أي –أي بعبارة أخرى- إن الإبادة هي الوسيلة الوحيدة لاتقاء خطر هذه الجماعة وأفرادها....

وتكلم التقرير عن الأسلوب المعنوي، فأوحى بتلقين من سيفرج عنهم قواعد تتلاءم مع الحكم القائم، وبمحاولة تحطيم قيمة القيادة في الجماعة، وتأويل تصرفاتهم مما يفيد في براءة الأعضاء من ضلال أتباعهم، وأوصى بأن من يفرج عنه يجب أن يوضع تحت رقابة شديدة، وأن يمنح بعض الامتيازات التي تحبب له حياة التلاؤم مع الحكومة وتدفع غيرهم على محاكاتهم.

وكان هذا التقرير –الواقع في تسع صفحات- مؤرخاً يوم 11-8-1945أي قبل أن ينسب إلى واحد من الإخوان أي تصرف يمكن أن تعتبره الحكومة مخالفًا للقانون, وفي ذات الوقت الذي كان يؤكد فيه جمال عبد الناصر لنا أن لا ضرر من عودتنا إلى الوطن الذي كنا بعيدين عنه وقتذاك...

ويبدو أن جمال عبد الناصر وزملاءه اقتنعوا بفكرة هذا التقرير وتبنوه كما وضح في عمليات تلفيق التهم ومن تلك المحاكمات الصورية السريعة والأحكام الطويلة الأمد التي صدرت بغض النظر عن حقيقة التهم المنسوبة إلى المتهمين، وهذا التعذيب الذي كان مبعثه الرغبة في الإيذاء لا الحصول على دليل فضلاً عن حرص الحكومة على إثارة الشك حول تصرف كل ذي مسؤولية في الجماعة ورشوة من يخرج عن وحدتها إلى حين، ثم امتهان كرامته بعد ذلك.

وفي يوم من الأيام الأولى من أكتوبر سنة 1954سلمنا المرشد –كالمعتاد- توجيهاته مكتوبة لتوصيلها إلى القاهرة، وكانت خطابًا مغلقاً طلب تسليمه للمرحوم عبد القادر عودة شخصيًا وعلى انفراد، وحين سلم إليه الخطاب وفتحه أمامنا تبين أنه يحوي استقالة الأستاذ الهضيبي من مكتب الإرشاد العام، والاكتفاء ببقائه عضوًا في الهيئة. وكان مع الاستقالة رسالة خاصة منه للأستاذ عودة رحمه الله يطلب منه فيها تقديم الاستقالة إلى مكتب الإرشاد في الوقت الذي يراه مناسبًا رغبة من المرشد في إفساح المجال أمام الهيئة لاختيار من هو أقدر منه على حمل تبعات القيادة، وحتى تتجه الهيئة الاتجاه الذي يراه دون أن يكون لوجوده على رأسها تأثير في ذلك، فهو يعلم يقينًا نظرة الحكومة، وأنها مصرة على العسف والإبادة.. وهو ليس من طبيعته المداهنة، ولا يريد أن يحمل أعضاء الجماعة فوق ما يريدون، ولست أدري إلى متى احتفظ المرحوم عبد القادر عودة بهذه الاستقالة، ولكني أعلم أنه لم يقدمها لأنه لم ير الوقت مناسبًا بعد.

ومن ذلك التاريخ لاحظت أن الأستاذ الهضيبي اعتبر نفسه في حكم المستقيل من الرئاسة فعلا، وترك الأمر نهائيًا لمكتب الإرشاد برئاسة نائبه الجديد يوم 29 أكتوبر ليقدم إليها حسابه عما مضى، وليعلن إليها استقالته مصرًا عليها مهما كانت الظروف، وأنا أعرفه صلباً عنيدًا فيما يراه حقًا ولذلك كنت واثقًا أنه سيفعل ذلك، ولكن كان المفهوم أنه سيسير في المظاهرة السلمية التي ستخرج عقب اجتماع الهيئة لتنادي بحقوق الشعب.

بدأت السحب تتكاثف في سماء العلاقات بين الحكومة والقوى الشعبية المعارضة، منذرة بأوخم العواقب، وبدأت الحكومة –جادة- تنفذ خطوات ذلك التقرير السري الذي سبق أن أشرت إليه، فراحت تفصل الموظفين والطلبة من الإخوان بالجملة وتزج بهم في السجون تحت ستار الاعتقال، وتفتيش البيوت –أي بيوت- بغير حساب، متبعة في التفتيش إجراءات إرهابية لم نشهد لها مثيلاً من قبل، وبدأت تثير الحملات الصحفية على الإخوان كهيئة وكأفراد، ثم بدأ داخل السجن تعذيب المقبوض عليهم بغير مبرر، وردت هذه الإجراءات التعسفية إلى أذهان فكرة اختطاف بعض ضباط المخابرات العسكرية والبوليس على أن يخف الضغط بعض الشيء .. ولكن الفكرة طرحت جانبًا –كما طرحت أي فكرة محددة غير فكرة المظاهرة السلمية يوم 29أكتوبر.

اعتزلت القيادة... واختلف أعضاء مكتب الإرشاد في كل خطوة، وكف المكتب التنفيذي عن الانعقاد، وتستر أعضاء الجهاز السري على أنفسهم وأفكارهم فتبلبلت الخواطر، وكان على كل صاحب رأي واضح أن يعتزل أو يسلم نفسه للاعتقال اعتزل الكثيرون حتى أقرب الناس إلينا، وعشت أنا مع المرشد في بيت واحد، وأبعد ما أكون عن حقيقة المعركة في انتظار يوم المظاهرة فبدأت –لأول مرة- أي أفراد عائلتي حولي وأحس بهم وأعلم من أمرهم ما لم أكن أعلمه.

أما زوجتي فكانت على علم كامل وفهم دقيق لكل آرائي ولما نحن فيه من هرب من وجه الدولة ومن تمسك بمعنى الوفاء وإيمان بالحرية.. وبأننا سنظل كذلك مهما كانت النتائج، ولهذا استقامت تصرفاتها واضحة في هذا العمر الذي اشتركنا فيه بمشاعرنا وأسلوبنا في الحياة، ولكن وجه العيب والأسى أيضًا كان هؤلاء الأطفال الصغار الذين وجدوا أنفسهم فجأة وسط جو غريب، من العسير عليهم إدراكه إلا إذا انطبعت في قلوبهم معان مدمرة من الحقد والبغض للدولة.. وللناس.. الأمر الذي لا أريد بحال أن ينشأ أولادي عليه.

كنت أغيب طويلا في إعمال الأسف والتفكير والعجب في ذات الوقت كلما تأملت وجوههم وما عليها من تعبيرات، وتصرفاتهم وما تشير إليه من انطباعات، جاءتهم من أسلوب حياتنا برغم حرصنا على أن نتجنب الحديث أمامهم عن معاني الاضطهاد والهرب والمخاطر التي نتعرض لها بالقبض علينا، واليقين من أن موقف الحكومة منا موقف خصم وقاض في نفس الوقت.

لا زالت أذكر «أماني» الرقيقة العذبة... «وفاطمة» الطيبة القلب المؤثرة على نفسها دائمًا و «أمال» ذات الذكاء اللامع الذي سبقت به عصرها.. و «محمد» وهو في الثانية من عمره في تصرفاته ونظراته وأحاديثه اللاهية الساهية عن كل شيء إلا حين يعرض الأمر لسلامته وسلامة أبيه وأهله.

لن أنسى أبدا ما كان منه وهو يسافر مع أمه في القطار، فداعبه ضابط يجلس قريبًا منه، واستجاب الطفل للمداعبة حتى ظن كل منهما أنه ابن للآخر.. وسأله الضابط:

- ما اسمك؟

- محمد... قالها ببساطة.

- واسترسل الضابط يسأل:

- محمد إيه..؟

وعندئذ تنبه الطفل، الذي هو في الثانية من عمره إلى حقيقة وضعه كهارب من الدولة، وإلى باب الخطر المفتوح أمامه، فاتسمت على وجهه وفي عينيه نظرة الشك والعتاب وهو يقول لمحدثه:

- أنت بتعلب معي أنا.. مش مع بابا... أنا اسمي محمد ... محمد وبس..!

هذه الواقعة –على بساطتها- لم تغادر ذهني أبدًا... فهي تصور بشاعة الشك الذي سيؤدي حتمًا إلى البغض الذي لا يؤمن عواقبه المدمرة.

هؤلاء الأطفال الأربعة كانوا شغلي الشاغل في أيامنا الأخيرة بالأسكندرية، إنهم كانوا يقيمون معي في ذات البيت منذ استأجرته منزل الدكتور حسن صبري، وكانوا ينادون المرشد بقولهم جدي، مع ما يترتب على هذا النداء من نداءات لسائر أفراد أسرته. وكان هو حفيًا بهم من أول الأمر، رقيقًا معهم حين كنت أنا مشغولاً عنهم تمامًا، لا أكاد أحس بوجودهم، فلما انقضت المشاغل وصرت مجرد معتزل متفرج يرقب الحوادث ولا يتدخل فيها وينتظر يوم 29أكتوبر أصبح هؤلاء الأطفال كل همي .. إلى متى سيظل وضعهم هكذا؟ لقد بدأت الدراسة ولم يذهب منهم أحد إلى المدرسة، فمتي أبعث بهم إليها؟ إلى أي مدى ستعمق في قلوبهم الغضة معاني الشك والحرص في الحركة والحديث والتصرف خشية أن يفتضح أمرهم...؟

هذه المعاني التي تقبل طفولتهم وتجعلهم وأكبرهم في السابعة من عمره شيوخ الروح ينوءون بحمل الهموم.. حاولت بعض الشيء أن أفسح أمامهم مجال الحياة العادية في حدود الممكن .. فكنت أخرج بهم وأأذن لهم بالاستحمام في البحر والتردد على السوق.

كنا نتأهب بعد أيام للسفر إلى القاهرة لحضور الجمعية التأسيسية وتنفيذ فكرة المظاهرة الشعبية، وبعد ظهر يوم 25 أكتوبر اعتقل اثنان منا يقيمان قريبا، وهما على اتصال بنا ويعلمان مقر المرشد.. وصلني نبأ القبض عليهما فورًا، فأصبح على أن أتصرف في تهيئة مكان آخر للمرشد ثم لنا، وأصبح علينا أن نتحرك ثانية لنؤخر اعتقال المرشد حتى يوم اجتماع الهيئة التأسيسية وسير المظاهرة الشعبية.

عرضت عليه إما أن يسافر فوراً إلى القاهرة إذ لا يزال ذلك البيت الصغير المعتم الذي أقام أيامًا قبل سفره إلى الإسكندرية لا يزال هذا البيت معنا مفتاحه ولم ينكشف أمره، وإما البقاء لحين التأكد من أوضاع القاهرة ومراجعة المرحوم عبد القادر عودة الذي أصبح يرأس مكتب الإرشاد نيابة عن المرحوم يوسف طلعت رئيس الجهاز السري..فآثر البقاء على أن أسافر وحدي لبحث الأمور أولا ثم أرجع إليه أنا أو غيري.

وسافرت مساء ذات اليوم بالقطار إلى القاهرة، ودعت أهلي وداع من لا يدري متى سيلتقي بهم ثانية، لا لأني كنت أشك في أي شيء، ولكن لأن يوم 29 أكتوبر كان قد قرب، وكان المفروض أن نشترك جميعيًا في أحداثه. سافرت تاركًا المرشد وأهله في ذلك البيت الذي لا يصلح للهرب منه بحال إذا دوهم، كما حولنا تغييره، ولكن المرشد كان يرفض لأنه لا ينوي الهرب إذا هوجم البيت، كما كان يرفض فكرة الدفاع عنه بالقوة. كان يرفض كل عنف مهما كانت صورته، لذلك لم يكن في البيت سلاح على الإطلاق إلا ذلك المسدس الذي كنت أحمله أنا دون علم أحد... والذي أخذته معي حين سافرت...

وصلت القاهرة، وكان المرحوم عبد القادر عودة قد حددت إقامته في منزله وأحاط به البوليس يمنع الاتصال به.. وكان الكثير ممن يمكنني الاتصال بهم قد اعتقل، وكان المرحوم يوسف طلعت رئيس الجهاز السري في داومة من مشاعره ومشاغله لا يعرف لها قراراً، وكان كل من لم يعتقل في هدوء تام ينتظر يوم 29 أكتوبر وما ينتظرهم فيه.. وكان المفروض أن القوة المسلحة التي ستحمي المظاهرة المحدود لها مساء اليوم –بعد أربعة أيام على أتم استعداد.

قابلت المرحوم يوسف طلعت.. ثم ذهبت لزيارة الأستاذ عبد القادر عودة في منزله تحت سمع البوليس ونظره، فدخل إليه في صورة بائع لبن بجلبابه الأبيض يحمل بعض «سلاطين الزبادي» فما شك فيه أحد، وما اعترضه رجال البوليس، وانتظرته بعيدًا عن البيت حتى خرج وسرنا معًا إلى بيت كنا نتخذه مقرًا للقائنا.

اتفقنا مبدئياً على كيف ينقل المرشد من الإسكندرية، وعلى أن يحضره من هناك صديق لي بعد غد، وأين يقيم في القاهرة انتظارًا لاجتماع الهيئة وسير المظاهرة، واستقر رأينا على أنه لا بأس إذا اعتقل كل باب المركز العام وإن كنا نشك في احتمال حدوث ذلك.

انقضى يوم الثلاثاء 26 أكتوبر بطيئًا كما تمر غيره من الأيام... قضيته في المنزل لم أخرج، وكنت أجلس وحدي في السماء أقرأ كتابًا، وكان في المنزل جهاز راديو لم أفكر في إدارته حتى دخل أحد زملائنا وأدار مفتاح الراديو ليسمع خطاب عبد الناصر في الإسكندرية وإذا بالراديو ينقل إلينا نبأ تلك الرصاصات الثمانية الطائشة التي قيل إنها أطلقت على عبد الناصر، وهو يلقي خطابه في ميدان المنشية.

وكانت مفاجأة ... المرشد في الإسكندرية... ولا أحد يعلم كيف حدث هذا.. ولا كيف ستسير الأمور بعده.....!!

وجاء الصديق الذي سيافر غدا ليحضر المرشد من الإسكندرية... ففتح الباب بمفتاحه الذي يحمله، وكان قد سمع في يته ما سمعت أنا منذ قليل فجلس صامتًا في مواجهتي، وكانت جملة مشاعر قاسية تجتاح نفوسنا، مشاعر من المفاجأة والحيرة والأسى والتصديق والكذب بل والاشمئزاز.... وأخيرًا عبر عنها الصديق بقوله:

- إن أمورًا شاذة- لا أدري مصدرها- تجري وراء ظهورنا في ظلام فتورطنا وتدفعنا إلى أسوار مصير، وتفسد علينا خطط المقاومة الصحيحة..

- لعل الحادث مفتعل للتنكيل بنا؟

- لا أدري وإن كان كذلك فإنه لن ينكشف إلا متأخرًا.

- الكل يدري أن هذا الأسلوب الساذج المجنون ليس أسلوبنا.. ثم إننا متفقون جميعًا على أن لا نفكر في هذا العمل.

- لست أدري قد يكون الحاث مفتعلاً وقد يكون في المسرح مجنون أو أكثر يتصرفون حسن هواهم.. وعلى كل فالأمر قد حدث، وستتحمل جميعًا تبعاته غير معذورين من أحد.

- ولكن الوضع لم يتغير، فأنت توافقني على أن الحكومة كانت مقدمة على التنكيل بنا وإبادتنا، فالأمر لم يختلف في حقيقة وإن اختل مظهر الباعث.

- وللمظهر أكبر الأثر في هذه القضية بالذات، ليت جمال عبد الناصر بدأنا بالتنكيل، أما الآن فسنسمع كيف نتهم بكل عمل عنيف وقع في الماضي حتى تلك الأعمال التي تعلم وأعلم أنا أنها من فعل جمال عبد الناصر ومن معه.. لقد أعطيناهم علينا الحجة وسيحسنون استغلالها.

- فقلت في ضيق: نحن لم نعطهم أي حجة، لقد بدوناهم بالتنكيل وما حدث الليلة غريب الشأن. - إن صح ليس إلا تصرفًا فرديًا من مجنون.

- فقاطعني مجنون منه على كل حال..

- وسكتنا طويلاً، كان كل منا يفكر فيما صارت إليه الأمور، وفيما سنواجه به الوضع الجديد، وفيما يمكن أن يتم بشأن المرشد المقيم حاليًا بالإسكندرية في منزل يمكن أن يعرف مكانه في أي لحظة. وعدنا إلى الحديث في أمورنا العاجلة، فاتنفقنا على أن نعدل عن إحضار المرشد غدًا، وعلى أن يقوم الصديق بتنظيم التجائه إلى إحدى السفارات بعد غد، وأوصاني أن أبقى في المنزل لا أغادره ليلاً ولا نهارًا حتى ننتهي من وضع المرشد أولا ثم ننصرف إلى تحديد أوضاعنا.

وعدنا إلى الصمت ثانية حتى قطعه عينا جرس الباب معلناً في أسلوب رنينه مجيء المرحوم يوسف طلعت، جاء يسألنا الأخبار، فقد سمع هو الآخر ما أذاعه الراديو ففوجئ به، وجاء يطلب مزيدًا من إيضاح، ولم يكن لدينا ما نقوله، وطلبنا منه هو البيان فهو رئيس الجهاز السري المسؤول عنه. ولكنه أكد لنا أن لا علم له بشيء، وأنه لم يصدر أمرًا ولم يأذن بالقتل الفردي، وكيف يعقل أن يقدم على شيء، وأنه لم يصدر أمرًا ولم يأذن بالقتل الفردي، وكيف يعقل أن يقدم على شيء من ذلك وهو يعلم المرشد بالإسكندرية، وأن اجتماع الهيئة التأسيسية بعد غد، وأنه سيعقبه مظاهرة سيقوم الجهاز السري برئاسته بحمايتها أثناء سيرها، هذه هي الخطة الوحيدة الموضوعة موضع التنفيذ. أما محاولة الاغتيال الفردي فهو واثق أن لا صلة للإخوان بها وخرج على أن يعود ظهر الغد بما يجد لديه من أخبار.

ومع الصباح علمنا أن الذي أطلق النار هو المرحوم محمود عبد اللطيف، وأنه اعترف بأن محرضه هو المرحوم هنداوي دوير المحامي بأمبابة، وأنا أعرف محمود عبد اللطيف منذ كان يعلم في معركة قناة السويس عام 1951، وأعلم أنه انضم إلى الجهاز السري أيضًا، وأعرف مهارته في إصابة الهدف بالمسدس على نحو غير طبيعي، ثم أنا أعرف الأستاذ هنداوي دوير، ولكني ما كنت أتصور أنه رئيس مسؤول بالجهاز السري، لأنه رحمه الله عصبي المزاج، سريع الانفعال، بحيث لا يصح وضعه كمسؤول في أي نظام سري.

وجاءنا المرحوم يوسف طلعت مع الظهر والنار تشتعل في قلب القاهرة بالمركز العام للإخوان المسلمين، أشعلتها مظاهرة يقودها ثلاثة ضباط ويحميها البوليس.

جاء يوسف ليؤكد أن الأستاذ إبراهيم الطيب المحامي والمسؤول عن الجهاز السري في القاهرة كلها لم يكلف الأستاذ هنداوي بالإقدام على اغتيالجمال عبد الناصر أو غيره اغتيالا فرديًا.. وأنه يفهم كيف يمكن أن يكون الحادث قد وقع على هذه الصورة، وكانت مفاجأة له حين علم باعتراف محمود عبد اللطيف على هنداوي دوير، واشتدت به المفاجأة حين علم أن المرحوم هنداوي بدأ يتكلم وهكذا انقضى يوم الأربعاء في مفاجأة ترد إلينا أولا بأول عن سير التحقيق.

استقر رأينا على اختيار السفارة التي يلجأ إليها الأستاذ الهضيبي، وسافر صديقنا إلى الإسكندرية صباح الخميس، ولكنه عاد وحده لأن المرشد أبى الحضور، وأصر على مواجهة الموقف والقبض عليه ومحاكمته أيًا كان الحكم الذي سيصدر عليه، إنه لم يرض بما حدث، وهو يعلم أن التنكيل بالجميع سواء أكان الحادث حقيقيًا أو مفتعلاً، ولذلك فهو لا يريد أن يترك التنكيل يصيب غيره دونه.. لقد استقر رأيه على مواجهة الموقف الجديد كما هو مهما كانت النتائج.

عاد صديقنا لينقل إلينا هذا القرار، ولكن يوسف طلعت كان يصر معنا على وجوب أن يلجأ المرشد إلى سفارة من السفارات لنواجه نحن الأوضاع بعد ذلك غير خائفين على وضع القائد فعاد صديقنا إلى الإسكندرية صباح السبت 30 أكتوبر وعاد مع الظهر ليبلغنا نبأ القبض على المرشد في منزل «حسن صبري» أي منزلي صباح ذات اليوم وعلم يوسف بالخبر قبل أن تذيعه الحكومة في إذاعة المساء، وأصبح واجباً علينا أن نتصرف.... وبسرعة.

كان يوسف طلعت –رحمه الله- يؤمن بأن حادث المنشية حادث مفتعل لم يحدث على هذا النحو وإن قام بجانب من أدواره أشخاص في الجهاز السري. وكان يستمد إيمانه هذا كما تصورت من أنه لم يكلف أحدًا بالإقدام عليه، وأن المرحوم إبراهيم الطيب الذي يليه في الرئاسة لم يأمر به أيضًا. وكنت أنا أظن أن الضيق والاضطراب والحماس وعدم الثقة في بعض الأشخاص دفع واحدًا أو أكثر إلى الإقدام على الحادث دون تكليف أو إذن به، فلم يقدروا ما يترتب على ذك من إحباط وتضييع للخطة الموضوعة موضع التنفيذ العام.. إني واثق أن يوسف طلعت غير مسؤول عن الحادث بل كان إيمانه يصل إلى أن الحادث ملفق... إن المسافة بين مطلق النار وموقف عبد الناصر والميل الشديد في الاتجاه، ووقوف المجني عليه وراء حاجز، وذهاب محاول القتل وحده دون شريك يسنده بمسدس أو قنبلة، ثم عدم إصابة الهدف من شخص نعرفه جميعًا ونعرف مهارته الفائقة ونعرف عدم إقدامه على إطلاق النار بغير تأكد من الإصابة، كل ذلك يوحي بأن الحادث غير معقول.. كان يوسف يتساءل دائما عن تفسير لأن يرسل هنداوي دوير شخصًا واحدًا، وهو يستطيع أن يرسل من عنده عشرة أشخاص.. ولأن يرسل مسدسًا واحدا بدلا من عدة مسدسات وعدة قنابل... لقد ظل إيمان يوسف طلعت بأن الحادث ملفق يشغل ذهني منذ ذلك الحين إلى اليوم.. وقد سمعت بعد ذلك من موظفي عاين مكان الحادث رسميًا أن الحائط المواجه لإطلاق النار ليس به أي أثر للرصاص وأنه يعتقد أن المسدس الذي سمعت طلقاته كان محشوا بالبارود فقط دون رصاص.. وأن عبد الناصر كان يعلم سلفا لحظة الإطلاق، وأن قصة الرجل الذي قيل أنه عثر على المسدس وذهب به سيرًا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة هي قصة من تأليف البوليس.

سمعت كل هذا.. وسمعت أكثر منه.. ومع ذلك ظل هذا الحادث كله في ذهني غامضًا أتمنى أن يجلوه المستقبل يومًا.

تركنا –يوسف وأنا الحديث عن حادث الإسكندرية، إذ استوى عندنا يومئذ أكان ملفقًا أم صحيحًا وبدأت أسأله سؤالي التقليدي الذي أردده عليه منذ وقع ذلك الحادث: وماذا تنوون بعد ذلك....؟ كنت أسأله هذا السؤال بوصفه رئيس الجهاز السري المسؤول عنه، وعما يضم من أشخاص، وما يملك من سلاح، ولكني لم أجده عنده جوابًا واضحًا عن ذلك لا بسبب قلة الرجال الاستعداد، ولكن لأنه كان يتخوف من أمرين يعوقانه عن التصرف:

هما التدخل الأجنبي إذا ثارت قلاقل في مصر، والتشفي ممن داخل السجون بقتلهم إذا أقدمنا على أي مقاومة سافرة للوضع العسكري القائم. كان هذا التخوف بشقيه يسيطر على ذهن يوسف طلعت إلى أبعد الحدود حتى أعطاني صورة يائسة عن نية رفاقه....!!

لم أكن أعرف عن رفاقق شيئًا كثيرًا لأني لم أتدرج يومًا ما في تنظيم سري، لا في الإخوان ولا في غيرها من الهيئات، وإن كنت على اتصال بأغلب تلك التنظيمات السرية التي عرفتها مصر في العشر سنوات الأخيرة. كنت مع ذلك شاعرا بمسؤوليتي كواحد من الإخوان، وكمصري يعرف نوايا عبد الناصر وأسلوبه، ويحس بما نحن مقدمون عليه معشر الشعب من إهدار كامل لحريتنا، كل ذلك أوجب علي أن أناقش هذا الأمر، أمر المقاومة مع يوسف، ولو لقيت غيره لناقشته فيه عسى أن يستقر الوضع على صورة واضحة من الاستسلام أو المقاومة ...دون تردد يضيع علينا الفرص ويضعنا في أسوأ الظروف. صحيح أني شخصيًا لم أكن أنوي تسليم نفسي حتى لو قدر الجميع ذلك، إذ كنت أوثر أن لا أسعى بقدمي إلى من كان صديقًا لنا وللشعب فغدر وأصبح أسوأ عدون، وأظلم حاكم كنت –عن نفسي- بين واحد من أمرين:

إما أن يقرر الجهاز السري المقاومة السافرة فأشترك معه فيها، وإن لم أكن أحد أفراده، أو أن يقرر التسليم فأهرب وحدي من وجه الحكومة الظالمة ساعيًا إلى حريتي الفردية.

قلت ليوسف طلعت –رحمه الله- في وضوح: اختطوا خطة من اثنتين: استسلموا.. ولن أكون معكم، أو أعلنوا مقاومة عامة سافرة وليكن ضحاياها في الطرفين ما يكون... وأنا عندئذ معكم أرضي وأتمنى, أن أكون أول الضحايا، ولكني لم أر منه اتجاهًا واضحًا إلا اختيار الاجتماعات، ولعله كان يعبر عن انطباعات زملائه حين تلكم عن استمرار التنظيم وإصدار المنشورات ومواصلة الاجتماعات، دون أن نسلم أنفسنا، ودون أن نلجأ بسفور إلى المقاومة العنيفة العامة.

فقلت له: ثم يقبض علينا في بيوتنا لنقاتل داخل السجون كمجرمين..؟

قال: وماذا بيدنا أن نفعل لنمنع ذلك...؟

قلت: نقاوم ونموت في بيوتنا... وفي الشاعر وفي الحقول إذا شقت عليك المعركة في القاهرة فانقلها إلى الريف وليقبضوا علينا جثثًا هامدة فارقتها الحياة.

قال: لا زلت أخشى هذا الأسلوب العام... وعلى كل حال، سأراجع زملائي ثم ألقاك.

وضرب لي موعدًا بعد أيام في منزل حدده.. وانصرف عنا على أن لا نعود إلى البقاء في هذا المنزل الذي نحن فيه لا زلت أذكر كيف قبض علينا الواحد بعد الآخر ولم يقاوم غير واحد بمن معه، فاستطاع الهرب، ولم يترك للبوليس من يقبض عليه غير جثة هامدة، وأفزع رجال البوليس، وجعلهم يترددون طويلاً قبل تفتيش البيوت. لو وقفنا جميعًا هذه الوقفة وزدنا عليها المواجهة لتغير وجه المعركة في تقديري وإن خالفني في ذلك الكثيرون..!!

انصرف يوسف، وانصرفنا بعده واحدًا تلو الآخر، بحث كل منا عن مكان يأويه لأن صديقنا قرر أن نترك هذا المنزل، إذ يحس –مجرد إحساس- بأنه أوشك أن ينكشف.

ودعني صديقي عند باب البيت وخرجت بعد منتصف الليل وحدي أحمل حقيبتي الصغيرة فسعيت إلى بيت ذلك الرجل الطيب حيث يقيم هو وزوجته فطرقت الباب الذي فتح لتلقاني أذرع مفتوحة وعيون دامعة، إنهم كانوا ينتظرون أي طارق غيري ومع ذلك رحبوا بي وقبلوا إيوائي .. .وفي الصباح صح إحساس صديقي واكتشف رجال المباحث بيتنا الصغير، وجعلوا منه فخًا يتصيدون به الوافدين عليه، وأملوا أن أكون واحدا منهم.. ولكني لم أعد إلى ذلك البيت أبدًا، كنت في منزل ذلك الرجل الطيب وزوجته في قلب القاهرة حيث بقيت أسبوعًا لم أخرج إلا مرة واحدة لعلي التقي بيوسف طلعت وأعلم منه ما أنتوى عليه هو والجهاز السري من وسائل المقاومة لنقف ضد طغيان حاكم.


صرت وحدي... ضد الدولة...!

أغلق دوني باب ذلك البيت الذي أويت إليه بعد منتصف الليل يوم السبت 30 أكتوبر سنة 1954، وأفردت لي غرفة خاصة قبل أن أغادرها، وكان صاحبا البيت يبيتان معي في البيت يومًا، ويبيتان خارجه يومًا آخر، فيغلقان على باب البيت، كأن لا أحد فيه بعد أن يهيآ لي ما يلزمني من طعام.

وقام صاحب البيت بإبلاغ بعض الأصدقاء القدماء بمكاني، فزارني «عطية» وأصحابه، وعرضوا علي ما أشاء من عون... فاكتفيت بأن يكونوا على صلة بي إلى حين، وأن يحضروا لي «بدر» ليكون على بينة بكل جديد ننتظره...

وكان بجوار البيت فرغ من فروع جماعة الإخوان، احتله بعض المرتزقة من أعضاء هيئة التحرير الذين أطلقهم الحكام، يرهبون الشعب بمدافعهم الرشاشة التي يحملونها، ويطلقونها في الشوارع بغير مبرر.. .لو أن هؤلاء الناس وجدوا أمامهم بعض الإخوان يردون عليهم بالمثل لفروا هاربين، ولما بقي لهم ولأمثالهم أثر على المسرح كنت أجلس وحدي، أسمع طلقات النار، وصياح هؤلاء الغوغاء ذلك الصياح الفارغ الذي ملأوا به الجو حين خلا لهم كنت أجلس صابرًا في انتظار لقائي بيوسف وإعلان المقاومة العامة لنلقن هؤلاء المرتزقة الذين جمعهم عبد الناصر حوله درسًا لن ينسوه...!!

وما درى أحد من هؤلاء أني أجلس بجوارهم أراقبهم من وراء النافذة.

وفي تلك الأيام اعتقلت الحكومة أبي الذي يقدر الجميع خدماته للأمة، اعتقلته بغير سبب، رغم أنه قد جاوز الستين من عمره، اعتقلته كوسيلة غير كريمة لجأ إليها عبد الناصر ليرغمني على تسليم نفسي لجلادي، وخاب تدبير عبد الناصر من أساسه فلم ألم بالقبض على أبي لأن صاحب البيت وأصدقائي أخفوا عني الخبر.

ولما كان يوم الخميس 4 نوفمبر قمت بمحاولتي الأخيرة للاتصال بأعضاء الجهاز السري أو بيوسف طلعت بالذات، عسى أن يكونوا قد قرروا أمرا أسير معهم فيه. فخرجت بعد الغروب مودعًا أهل البيت أواني متوجهًا إلى المنزل الذي وصفه لي يوسف طلعت، وحدد لي طريقة الطرق على بابه، وكان المكان شقة في الدور الرابع من عمارة كبيرة وما أن خطوت خطوات قليلة على سلم العمارة حتى قابلني البواب هابطًا ليقول لي في صوت غريب: إلى أين...؟

فعجبت من السؤال ولكني أجبت متصنعًا الهدوء: زيارة..؟!

فقال لي بصوت خفيض كمن يهمس... إذا كنت طالع شقة الإخوان في الدور الرابع فأرجع أحسن لك...مسكوها العصر والبوليس مختبئ فيها..!

ودرت حول نفسي أهبط السلم محاولا الاحتفاظ بهدوئي وأنا أغمغم: متشكر متشكر جدًا، وتصورت ابتسامة البواب النوبي الأسمر خلفي وهو يودعني بقوله: مع السلامة روح ربنا معاك.. وهكذا أنقذني هذا البواب الذي لا أعرفه من خطر كنت على خطوات منه.

لماذا فعل البواب ذلك...؟ لا أعلم .. ولكن الأيام علمتني فيما بعد أن أمثال هذا البواب كثير من ذلك الشعب الطيب.

وبعد ذلك.. ها قد نجوت هذه المرة ولكن، إلى أين أذهب، لقد تركت البيت الذي أواني أهله منذ أيام.. تركتهم الليلة مودعًا إياهم نهائيًا.. إذا تصورت أن ألقي يوسفًا أو أحد زملائه فأبقى معهم لنخوض معركة سافرة، ولكن الخيط الوحيد الذي كان يمكن أن يصلني بهم قد انقطع الليلة. ولم يسعفني عقلي المضطرب بحل وأنا أقف أمام العمارة التي ينتظر فيه البوليس، فاستوقفت أول سارة تاكسي مرت بي وقفزت بها وأنا أقول للسائق دون تدبير أو تفكير «سينما الكرنك من فضلك....» ففي السينما سأبقى ساعتين وحيدا في هدوء يمكنني أن أفكر أثناءهما وأن أرسم لنفسي طريقًا.

وما إن ألقيت جسدي المكدود المضطرب على الكرسي المخصص لي في السينما، وأرحت رأسي لحظة بين كفي غير آبه بتلك الصورة التي تتراءى أمامي على الشاشة إذ كان العرض قد بدأ حتى قدم شخصان جلسا عن يساري.. وأشعل أحدهما عود ثقاب ليدخن سيجارة، والتفت نحوهما عن غير قصد.. فإذا بهما حسن التهامي ضابط المخابرات الحربية الذي أعرفه منذ سنوات، ومعه زميل له أعرفه ولا أتذكر اسمه...!!

لو قلت اليوم –وقد انقضت على تلك اللحظة أعوام –أني لم أفزع ولم أضطرب حين رأيت جاري الثقيلين على النفس، لظن من يسمعني أنني أدعي لنفسي شجاعة خارقة ليست في، ولا محل لها من هارب يترقب الشر من كل جانب... ولكني في الواقع لم أفزع ولم اضطرب لا عن شجاعة أدعيها لنفسي، ولكني في الواقع لم أفزع ولم أضطرب لا عن شجاعة ادعيها لنفسي، ولكن لأنه صاحبني شعور بأن الكيل قد فاضن وأن الفزع لم يعدل له محل، واستقر في ذهني وقلبي معنى قول الله: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ ومن ثم بقيت في مكاني هادئًا –حقيقة لا تصنعًا –وعيناي مسلطتان على شاشة العرض، وإن لم أعي منها شيئًا وذهني مشعول بالتفكير، وكان تفكيرًا هادئًا لم أنعم بمثله منذ وقت ليس بالقصير.

بدأت أحدد أن الظروف وضعتني الآن وحدي.. وحدي تمامًا.. فلا أستطيع أن أعتمد على أحد من الإخوان، فأنا فرد ضاع من الجيش وعليه أن يتصرف وحده.. أنا الآن وحدي ضد الدولة كلها...

والبلد واقع تحت إرهاب قاس لم يسبق له أن شاهد مثله.. وعين الحكومة ساهرة ترقب كل حركة، والإخوان يسقطون في الفخاخ الواحد بعد الآخر دون أن يفعلوا شيئًا، والمحاكمات تعد لهم لتلقي بهم في السجون لآماد طويلة حسب الخطة التي رسمها التقرير السري الذي سبق أن وقع في أيدينا، وأنا لم أعد مكلفًا من قبل الإخوان بأمر محدد كما كنت من قبل، فعي إذا أن أسعى إلى حريتي الفردية إذا كان الجميع قد قرروا عدم المقاومة أو مادام قد بدا منهم ذلك إلى الآن، وأنا لست ملزمًا بأن أجاري أحدًا في تسليم نفسي، وهكذا أحسست كيف أصبحت وحدي ضد الدولة.. إني أحارب الآن وحدي في سبيل حريتي الفردية.

وإذا كانت حريتي الفردية قد أصبحت محور تصرفاتي والغرض من هربي من الدولة القائمة، فعلي أن لا أفكر حاليًا في الاتصال من جديد بأحد من الإخوان إذ يبدو أن أساليب التعذيب الوحشية داخل باستيل القرن العشرين –السجن الحربي بالقاهرة- قد مكنت تلامذة هملر من استنطاق كل من يقبض عليه.. أو أكثر منهم بالحق أو بالباطل، فلا محل من ناحية أن أعرض نفسي لخطر أن يرشد عني من يقبض عليه، ولا من ناحية أخرى أن أكون أنا دالا على غيري أو مقيمًا الحجة على نفسي إذا قبض علي .. وهب أني استطعت أن أصمد للتعذيب فلم أتلكم وأنا لا أدعي هذه القدرة، فإني لن أستطيع أن أسكت أمام هؤلاء الحكام ولا أكشف لهم عن مخازيهم في ماضي|هم وحاضرهم، ولن يصبروا هم على مواجهتهم بهذه المخازي، بل سينتقمون ويسرفون في انتقامهم حتى بوسائلهم الحقيرة.

وجب علي إذا أن أواجه الهرب وحدي دون اعتماد على تنظيمات الإخوان المسلمين، ويكفي أن يكون اتصالي –عند الضرورة- ببعض أصدقائي القدماء من غير الإخوان، فهؤلاء أو أغلبهم لا يعلم عنهم جمال عبد الناصر شيئًا، وقد لا يلتفت هو أو رجاله إلى تعقب آثاري عندهم، وبهذا أضمن قدر المستطاع أن أحتفظ بالقسط الذي حصلته فعلا من حريتي الفردية كإنسان خارج قضبان السجن إلى أن أستطيع مرة أخرى أن أسهم في معركة الحرية .. حرية الجميع.

ولكن حريتي –ومساهمتي في معركة الحرية- لا يمكن استكمالها على صورة مطمئنة ومثمرة إلا خارج حدود مصر في البداية، والخروج من مصر اليوم من أصعب الأمور، بل يكاد –في حدود إمكانياتي- أن يكون مستحيلا، فالمطارات والموانئ والطرق وجميع المنافذ تكاد تكون مسدودة تماماً.. وكل وسيلة سبق أن اتبعناها في الخروج من مصر أو في إخراج غيرنا قد أصبحت موضع رقابة حتى بوغازات الصيد أبلغني «بدر» بالأمس أنها وضعت تحت رقابة شديدة لا تسمح لأحد بالمرور عبرها، فعلي إذا أن أبقى في مصر حتى تخف مع الزمن قبضة الحكومة الحديدية على بعض منافذ الخروج. .فالتراخي بعد وقت ما.. شيمة كل رقابة شديدة مفروضة تقوم عليها أجهزة عن غير اقتناع حقيقي.. فأين أبقى في مصر إلى ذلك الحين...؟

إن القاهرة لم تعد بالمكان الملائم لي.. وكذلك الإسكندرية.. بل كل المدن الكبيرة تقريبا لأن معارفي فيها قلة، يعرف جمال عبد الناصر صلتي بهم .. فضلا عن أن نشاط البوليس زاد في هذه المدن بوصفها المكان التقليدي للإخوان الهاربين، وعلى هذا الأساس قررت الخروج من القاهرة وبدأت –على وجه الترجيح- أحدد مكانا يمكن الالتجاء إليه ولكن كان على قبل ذلك أن أحاول الاتصال بأصحاب هذه الأماكن لأتفق معهم قبل السفر إليهم، وهكذا وجدتني مضطرًا إلى مقابلة أصدقائي الذين ظلوا على صلة بي في الأيام السابقة فعلى أن أعود مرة أخرى إلى منزل ذلك الرجل الكريم وزوجته حين كنت منذ ساعات وودعتهما فمن هناك يمكن أن أتصل بأصدقائي لأنظم أمر سفري من القاهرة، وتنبهت عندئذ فقط أن مفتاح البيت لا يزال في جيبي نسيت أن أعطية لأصحابة حين غادرتهم.

وما أن أشرف الفيلم المعروض على نهايته حتى قمت من مكاني كما يفعل كثير من الناس عندنا، وتوجهت إلى باب الخروج دون أن أعير جاري الثقلين التفاتًا، وركبت الأتوبيس إلى المنزل وكان صاحباه قد ناما ففتحت الباب ودخلت بهدوء إلى حجرتي واستغرقت في نوم هادئ عميق شأن من انتهت متاعبه، وفعلا لقد كنت أحسن أن متاعبي انتهت كلما فكرت في أسلوب حلها بكل هدوء وبكل إخلاص، ولذلك طالما نصحت بدرًا، لما عرضت له مشكلة مرهقة أن يطرحها على نفسه طرحًا محايدًا يسمح له بالتفكير الهادئ المخلص، وعندئذ ستزول المشكلة، ويمكنه الوصول فيها إلى رأي موفق أو رأي مريح للأعصاب على الأقل...

واستيقظت في الصباح على صيحة اختلط فيها الفرح بالمفاجأة صدرت من صاحب البيت حين دخل الغرفة فوجدني نائماً في فراشي كأهدأ ما أكون، وأبلغته رغبتي أن أقابل بدرا وعطية اليوم لأمر هام.. فما سألني مزيد من إيضاح.

وفي عصر ذات اليوم، زارني بدر وعطية وكان بيننا حديث قصير انتهى إلى لاتفاق على أسلوب انتقالي من القاهرة، وعلى نظام للاتصال المستمر بيننا، وعلى اغتنام فرصة الخروج من مصر حين تسنح تم الاتفاق على أن يسافر بدر صباحًا لمقابلة صديق رشحناه للإقامة عنده في بلده وكان «أنيس» قد سبق إلى هناك فعلاً.. وطلبت من بدر أن يعرض الأمر بصراحة تامة على صديقي ذاك، فإذا وافق على إيوائي أبلغنا فوراً لأسافر في ذات اليوم، وإن اعتذر فعلينا أن نطرق باباً آخر يحقق لي الإقامة خارج القاهرة، محافظًا على حريتي الحالية، بعيدًا عن السجن وعما في السجن من عذاب أنباؤه تصلنا بالتفصيل.

وفي مساء الغد، طلب مني عطية أن أسافر في أول قطار يترك القاهرة بعد قليل إلى بلد غير التي قدرت، وأبلغني أني سأجد مختارًا في القطار وأن أنيسًا سيقابلني هناك وأبدى لي دهشته من أن قرار السفر جاء متأخرًا ومن بلد غير الذي سافر إليه بدر.. وقد أقنعه بسفري أن أنيسًا هو الذي أبلغني به شخصيًا وأنيس أعرف منا ومن بدر بأين ألجأ وظننت لفوري أن صاحبي اعتذر عن إيوائي، وأن أنيسًا دبر لي بلدًا آخر وشخصًا آخر.

وودعت عطية وأصحابه... وودعتني صاحبة البيت عند القطار، وما إن ركبت القطار حتى لقيت مختارًا الذي همس في أذني أنه لا يدري ماذا أعد أنيس لنا، ثم جلس غير قريب مني، مدعيًا عدم معرفته بي، وهو يراقبني من بعيد، وهكذا تركت مصر وأنا أحمل لأصحاب بيت القاهرة أجمل الذكرى، أوياني وأعاناني سبعة أيام في أحلك الظروف وأقساها.

وتحرك القطار وأنا لا أعلم إلى أين ذاهب.. كل ما أدريه أني سأهبط في محطة معينة وأني سأجد أنيسًا بها... وهكذا غادرت القاهرة مساء السبت 6نوفمبر سنة 1954إلى وضع مجهول لا أدري طريقي فيه. لص..... أم قط؟

حين غادرت القاهرة بالقطار مساء السبت 6نوفمبر حاولت أن أحدث بعض التغيير البسيط في مظهري أو في أسلوب مظهري بمعنى أدق، لأن الجرائد كانت قد نشرت في الصباح أمرًا بالقبض على وعلى ثلاثة من زملائي بمعنى أدق لأن الجرائد كانت قد نشرت في الصباح أمرًا بالقبض على وعلى ثلاث من زملائي الهاربين، إذ اعتبرتنا من الخطورة بمكان، ونشرت مع أمر القبض صورًا فوتوغرافية لنا لتسهيل مهمة القبض علينا.

صحيح أن الصورة التي نشرت كانت لا يمكن أن تعين شخصًا لا يعرفني من قبل على التعرف على شخصيتي، إذ كانت إحدى الصور «مهزوزة» والثانية قديمة، ترجع إلى أكثر من عشر سنوات مضت ولكني رأيت من الأحوط أن أرتدي معطفًا وطربوشًا، وأضع على عينني نظارتي الطبية التي لا أستعملها إلا في القراءة الطويلة, فلم يسبق لأحد أن رآني بها ثم إني كنت قد اتخذت لنفسي منذ أكثر من شهرين شاربًا يغطي شفتي العليا، وهكذا قنعت نفسي أني قد «تنكرت»، ولكنني فوجئت في القطار- حين نظرت إلى نفسي في مرآة دورة المياة –أني لا أشبه نفسي حقيقة، ولكني أصبحت شديد الشبه بأحد زملائي المطلوب القبض عليهم معي، والمنشورة صورته بجوار صورتي في الجرائد، وهو المرحوم إبراهيم الطيب. وقد أثار هذا الشبه الجديد خشيتي وقلقي حين لاحظت أن أحد الركاب الجالسين أمامي أخذ يطيل النظر إلي وإلى الجريدة التي في يده، وقد فتحها على صورة المطلوب القبض عليهم.

وقدم لي يده بسيجارة تقبلتها شاكرا، ورددت له مثلها من جيبي بعد قليل لأدفع عن نفسي الشبهات، لأن المشهور عن أعضاء هيئتنا أنهم لا يدخنون.

وكنت قد قطعت تذكرتي في القطار إلى محطة تلي البلد الذي أنوي النزول فيه بعدة محطات، وكان الرجل الذي يواجهني ويطيل النظر إلى سينزل –حسب تذكرته- في المحطة التي قطعت تذكرتي إليها... وظللت ضيقًا بجلوسي حتى مر الأمر بسلام ووصلت حيث أريد ولست أدري إلى الآن: هل كان ذلك الشخص ينوي الإبلاغ عني في محطة النزول، أم الخوف والقلب استبدا بي فصورا لي ما آثار شكوكي في الرجل ونظراته، ولكني أحس يقينًا أن الرجل كان يخفي في نفسه أمرًا .. يخفي في نفسه رغبة لا أدري إن كانت رغبة في القبض علي أو رغبة في إبداء شهامة بمساعدتي أو التستر علي...؟

وما أن وقف القطار بالبلدة التي أقصدها حتى غادرته فجأة، فأقترب مني «أنيس» ... ولتتركني مع مختار».. «وسرت مع ثابت صامتًا لا أدري إلى أين.. ولا أدري صلة ثابت بموضوع هربي ولا بهذا البلد الذي أنا فيه.. وبعد عدة منعطفات في شوارع وأزقة أفقدتني القدرة على تصور اتجاهي وصلنا بيتًا فدخلناه، وأغلق ثابت بابه دوننا، وصعدنا غرفة بالطابق الأول ولم يزد ثابت بعد ذلك على أن رجب بي في بيته...

وجاء «أنيس» بعد ساعة، فعلمت منه أن بدرًا حين قابل صاحبي الذي كنت أنوي الالتجاء إليه قبل ذلك، نصح بأن من الأنسب أن نقيم عند «ثابت» الذي كان قد نقل منذ أسابيع قليلة إلى بلد آخر، وسافر الجميع، وإذا به يسألهم عن أخباري ليطمئن مما شجعهم على أن يسألوه إن كان يقبل إيوائي، فرحب بذلك كل الترحيب مهما كانت النتائج، وعجل ثابت بإرسال أهله إلى القاهرة واعدًا إياهم أن يلحق بهم بعد أيام، وجلس ينتظرني وقد خلا بيته للقائي إلا منه.

أنا أعرف «ثابت» منذ زمن طويل، وأقدره، ولكني ما كنت أتصور أن أجد منه كل هذه التضحيات التي قام بها من أجلي، لقد كان كريماً معي، شهمًا في كل تصرفاته، جريئًا في كل خطوة خطاها، ذكي القلب، حاضر البديهة في كل مأزق.

لقد ظل ثابت على اتصال دائم بي طوال إقامتي في مصر، وزارني في كل مكان عشت فيه تقريبا، وكان الصلة بيني وبين بدر وأصحابه حيثما ذهبت.

وحين كنت عند ثابت بلغت جهود الحكومة أقصاها للقبض على لقد كان مما يثير الفزع والاشمئزاز في نفوس الناس ذلك المنظر المتكرر لحملات التفتيش الواسعة التي اتخذت للبحث عني وعن زميلي قائد اللواء الجوي «عبد المنعم عبد الرؤوف» فقد كان قد قبض على كل من اعتبره عبد الناصر بالغ الخطورة، ولم يبق هاربًا غيرنا وكان من العسير على أحد يقتلع من ذهن عبد الناصر أني واللواء عبد المنعم عبد الرؤوف نختبئ معاً في مكان واحد كانت هذه الفكرة تسيطر عليه، إذ كان يخشى اللواء عبد الرؤوف ويخاف منه لأنه يعتبره بالنسبة له عنصرًا منافسًا خطيرًا داخل صفوف الجيش لما يمتاز به من شجاعة في الإقدام على ما يؤمن بسلامته من الأعمال، ولتعلق كثير من الضباط به ولذلك نسب له ما قام به في معركة فلسطين التي يفخر بمجرد أنه خضرها.. ونسب له أنه أحد مؤسسي لجنة الضباط الأحرار، ونسب له أنه هو الذي حاصر قصر رأس التين بالإسكندرية عندما كان في الملك السابق فاروق.. نسب له كل ما قام به من الأعمال في تاريخ خدمته بالجيش، وقبض عليه وقدمه للمحاكمة العسكرية منذ أوائل سنة 1954، ولكنه استطاع الهرب من السجن في مايو في نفس السنة، وظل مختبئًا في القاهرة فترة طويلة أزعجت عبد الناصر وحكومته حتى تمكن من مغادرة القطر.

وما زلت أذكر يوم قابلت جمال عبد الناصر في بيته في يونية سنة 1954م وهي آخر مقابلاتي معه وكان معه اللواء عامر فلم يستطيعا إخفاء انزعاجهما من هرب اللواء عبد الرؤوف أثناء محاكمته العسكرية، ولمحا باتهامي بأن إن لم أكن قد شاركت في تهريبه فإني أعلم مكانه، إذ كنت أحد محاميه في تلك المحاكمة، وكم غاظهما يومئذ أن أقول لهما إن إشاعة تملأ البلد بأن الحكومة هي التي هربته لأنه من غير المعقول أن يهرب شخص أعزل تحرسه سيارتان حربيتان بهما ستة جنود بالمدافع الرشاشة.

وقد كان عبد الناصر مخطئًا في اعتقاده هذا، وربطه بيني وبين اللواء عبد الرؤوف في الاختفاء، وأدى خطؤه هذا إلى إفلات كل منا من قبضة بوليسه ورجال مخابراته.

لقد انقطعت عني أخبار اللواء عبد الرؤوف منذ انقطع الخيط بيني وبين المرحوم يوسف طلعت في القاهرة، واختط كل منا خطة في الهرب وحده، ولكني الدولة ظلت تبحث عنا معًا فأخطأها التوفيق.

كانت تقوم حملة قوامها أكثر من مائة جندي بالسلاح لتفتيش أي بيت تظن الدولة أنني أختبئ به، فتزعج أهله وجيرانه بصورة تشير إلى أي مدى فزع القائمين بالتفتيش، وكانوا يخرجون في كل مرة بلا شيء تاركين وراءهم أثاثًا مكسرا وشمئزازًا واحتقارًا يملأ نفوس أصحاب البيت الذي فتشوه والجيران. لقد كانوا عن خوف أو غيظ يكسرون أثاث البيت، وكأنما البحث عن أشخاص يكون بتحطيم الكراسي والمناضد والدواليب وتمزيق المراتب.

وأشتد الغيظ بالحكومة حين لم يقبض على، فلجأت إلى الضغط على أهلي مرة أخرى، فاعتقلت أخي الأكبر بعد أبي لتغلق بذلك مكتب المحاماة الذي نعمل فيه معًا.

ثم أرسلت كبيرًا من رجالها ليقابل زوجتني التي اضطرت بعد أن تركتها في الإسكندرية أن تذهب إلى أقاربها في الريق لتقيم مع أولادها، قابلها ذلك الشخص لجلادي وأكد لها بلسان الناصرية الكاذبة أن لا ضرر من القبض علي إطلاقًا، لأن الأمر لن يعدو اعتقالا لمدة أيام ثم يفرج عني، كما أقسم لها بأن البوليس سيكف عن مراقبتها فورا لتتمكن في أمام من الاتصال بي، ولكن زوجتي لم تكن تثق في العهود الناصرية بعد أ، جربتها معي ورأت نتائجها، فأجابت رسول الدولة بأنها لا تعرف مكاني، ولو أنها تعرفه لنصحتني أن لا أسلم نفسي أبدًا عندئذ هددها هي بالاعتقال إن لم أستسلم ما دام اعتقال أبي وأخي لم يفيدا في إقناعي. فأجابته في هدوء بأن يعد في السجن قبل اعتقالها أماكن لأطفالها الأربعة أيضًا.

ووضح لزوجتي أن الطيش قد يصل بالدولة إلى اعتقالها فعلاً، فغادرت منزل أهلها وهربت هي الأخرى بطفلها الأصغر.. وطال هربها أيقنت الدولة أني أفلت، وظنت أني تركت مصر، فعادت لتواصل الحياة مع أطفالها لتنتظر الجديد من أخباري والدولة لا تبحث عني إلا عند الأقارب ومن في حكمهم.

وكان اتجاه الدولة هذا سببًا آخر لخطئها في البحث عني لقد كانت تبحث عني في بيوت الإخوان أو بيوت من يمتون لي بصلة قرابة قريبة أو بعيدة، ولذلك فشلوا في بحثهم دائما وكانوا دائما أبعد ما يكونون عن مكاني، بل لعلي لم أدخل بلدًا فتشوا منزلا فيه بحثاً عني، كنت دائمًا بعيدًا عن أقاربي وعن زملائي لأن البعد عنهم هو سبيل الأمان.. ولو تذكر عبد الناصر أحاديثي القديمة معه لعرف أنه يبحث في الطريق الخاطئ، ولكن جمال عبد الناصر ينسى كل شيء إلا العبارة الصريحة التي تمسه شخصيًا، فهو يذكرها ليحاول في المستقبل أن ينتقم من قائلها.

لقد نسي عبد الناصر كل مقومات الحديث الذي دار بيني وبينه في بيتي في أكتوبر سنة 1952بعد الثورة بثلاثة شهور بحضور زميله عبد الحكيم عامر إنه نسي الحديث الذي دار بيننا، ولم يعد يذكر إلا أني اتهمته في نهايته بالنزعة الدكتاتورية.

كان مجلس الضباط الذين ظهروا على المسرح بعد انقلاب يوليو سنة 1952 قد قرروا في سبتمبر أن يتقدموا خطوة أخرى نحو اغتصاب السلطة فرأوا أن يبدأوا بتنحية الرئيس علي ماهر عن الحكم ليضعوا بدلا منه اللواء محمد نجيب الذي كانوا يعتبرونه إلى ذلك الوقت ممثلاً لهم، ولم يفكر واحد منهم أن يدخل الوزارة في تلك الأيام، إذ كان الكثير من الثائرين المخلصين لا يزال في صفوف الجيش، وكلهم يرفض استغلال الثورة لمجد شخصي، ويصر على أن يظل الجيش بعيدًا عن مسرح السياسة والحكم، وأن يعود إلى ثكناته بمجرد اختارها مجلس الضباط ليعلنوها على الشعب والجيش تبريرًا لنقل الحكم من يد الرئيس ماهر إلى يد اللواء نجيب هي أن الأول لم يعجل بإعادة الحياة النيابية للبلاد، وأنه يرهق الشعب بالضرائب غير المباشرة على الدخان... وإذا بالذين حلوا اليوم محله يلغون الحياة النيابية نهائيًا، ويسرقون في الضرائب غير المباشرة على كل المواد الاستهلاكية، بصورة أفراد الشعب إلى أقصى الحدود.

وفي يوم 7سبتمبر سنة 1954 شكلت وزارة اللواء نجيب التي لم يدخلها الإخوان، مما أثار ثائرة عبد الناصر، وجعله يكذب في كل ما نشره من بيانات عن اجتماعاتنا معه في ذلك اليوم، وخشي الضباط أن يواجهوا البلد برئيس وزراء عسكري ولو كان محبوبًا مثل اللواء محمد نجيب، فأرادوا أن يشغلوا الناس بشيء جديد، فألقوا القبض ليلة تأليف الوزارة الجديدة على ثلاثة وسبعين سياسيًا من رجال الأحزاب المختلفة، وجعلوا من مبنى المدرسة الثانوية العسكرية معتقلا لهم.

وجاء البكباشي عبد الناصر يصحبه الصباغ –اللواء فيما بعد- عبد الحكيم عامر والصاغ صلاح سالم والصاغ كمال الدين حسين إلى منزلي في ليلة من أوائل أكتوبر سنة 1954م، ليتناولوا العشاء ويتفاهموا مع بعض زملائي في تشكيل لجنة وضع مشروع الدستور، وفي الوقت المناسب لإعلان الجمهورية، وفي إجراء الانتخابات العامة لبرلمان جديد يصدر الدستور الذي كانت الهيئات الشعبية كلها تصر على وجوب الإسراع بإصداره، وكان يؤيدها في ذلك عدد كبير من رجال الجيش وقتذاك، ولكن البكباشي عبد الناصر استطاع بمهارته في الخداع أن يفرق بين هذه القوى ويضربها بعضها ببعض، ليخلوا له الجو إلا من المنافقين والضعفاء والذين يعينونه في تحقيق ما يريد.

وخطر لي –بمناسبة الحديث عن الدستور الجديد- أن أسأل عبد الناصر: متى سيفرج عن المعتقلين السياسيين في المدرسة العسكرية وبينت له أنه من غير المعقول أن يقوم حكم في وضع مستقر على أساس اعتقال الخصوم وطلبت منه أن يفرج فورًا عمن لا تهمة توجه إليه، وأن يقدم للمحاكمة العادية من قامت ضده اتهامات أما أن يبقى أشخاص من المواطنين معتقلين فحسب دون سند فهو أمر لا نقبله، ونظر إلى عبد الناصر يومئذ متسائلاً:

-ما الذي يعينك من أمرهم، ولكلهم من خصومكم السياسيين (وهو يشير إلى ما بين تلك الأحزاب القديمة وبين الإخوان من منافسة سياسية)

- أنا لا تعنيني الخصومة السياسية هنا، فالاعتقال ليس بسبيل إقناع الخصوم بصحة رأيك.

ولكن أعجب من دفاعك عن أصحاب الآراء المناقضة لرأيك وكأنهم أصدقاؤك.

هم فعلا أصدقائي، لأنه يكفيني في أصدقائي أن يخدم كل منا حرية الآخر في الاعتقاد المخالف والتعبير عن اعتقاده، فما دام صاحبي يؤمن بحقي في حرية الرأي وحرية الدفاع عن رأيي فهو عندي بمنزلة تجعلني أدافع عنه كما أدافع عن نفسي.

- هل أفهم من ذلك أن لك أصدقاء من كل الاتجاهات السياسية؟

- نعم حتى من بين رجالك المقربين.

- فأنت خطر على أمن الدولة.

- اعتقلني إن شئت في الثانوية العسكرية.

- أنت تستكثر ثلاثة وسبعين سريرًا في الثانوية العسكرية، ليت لي فيها اثنين وعشرين مليون سرير لهذا الشعب كله..!!

- ولم أستطع احتمال هذا القول ولا كدعابة، فهاجمته هجومًا شديدًا، وأفهمته بأنه أن يصبح مشروعًا فاشلاً لدكتاتور صغير .. وتحمل مني هو كل هذا الهجوم، ولم يجد ما يدافع به عن نفسه إلا أن استعان بعبد الحكيم عامر لإقناعي بأنه ما كان يقصد غير المزاح، ولكني لم أخف منه أن مجرد المزاح في هذه النظرة إلى الشعب ينذر بخطر شديد وقبلت يومئذ اعتذاره بأنه يمزح، قبلته على مضض، وإذا بالأيام تؤكد أنه كان يهيئ نفسه ليمثل دورًا من أدوار الطغاة الذين وضعوا شعوبهم في معسكر اعتقال كبير يقاتل له الوطن ليبقوا في الحكم وليكتبوا لأنفسهم تاريخًا ولو في صفحات الشر والعار ونكسات البشرية إلى الوراء.

لم ينتبه عبد الناصر وأعوانه لما قلته له قديما –بحق- من أن لي أصدقاء من كل اتجاه سياسي وفكري وديني لأنه أؤمن بحقهم في حرية الاعتقاد المخالف وأدافع عن حقهم هذا بمثل الحماس الذي أدافع به عن حقي أنا.

ولعل ميع من أعانوني في تلك الأيام قبلوا التعرض لأشد الأخطار من أجلي، كانوا من هذا الصنف من الأصدقاء، كانوا يخالفونني في الرأي وكانوا يختلفون فيما بينهم كذلك.

كان «بدر» وحده هو الذي يتفق معي في بعض رأيي وبتحفظات، أما عطية وأصحابه وأنيس ومختار وثابت وغيرهم ممن تعاونوا معًا لتيسير نجاتي، فقد كان لكل منهم اتجاه آخر ورأي آخر. كنا نختلف في كل شيء إذا تناقشنا، لأن خلافنا يصل إلى أعماق ما نعتقده من آراء، ولكن قسطًا معينًا كان يربطنا بأوثق رباط، هو إيماننا جميعًا بحقنا في أن نختلف في الرأي، متفقين في حقنا على أن نعيش أحرارًا، كنا كرامة الإنسان ونكره سلطان الظلام.

كان يربطنا بأوثق رباط، هو إيماننا جميعًا بحقنا في أن نختلف في الرأي، ومتفقين في حقنا على أن نعيش أحرارًا، كنا نحب كرامة الإنسان ونكره سلطان الظلام.

كان هذا الإيمان بالحرية يزيدنا تماسكًا، وسيزداد دائما كلما تصورنا بشاعة ما قاله عبد الناصر لبعضنا يومًا من أنه يريد بعد عامين أن يجلس على مكتب به زران كهربائيان إذا ضغط على أحدهما قام الشعب كله، وإذا ضغط على الآخر جلس الشعب كله، دون أن يخرج على هذا الإجماع أحد.... وأنه لذلك يريد أن يخلي البلد خلال هذين العامين من كل العصاة، وقال له صديق يومئذ على مسمع مني في ثورة: إن هذا حال الأراجوزات لا الشعوب، إنك لن تخلي البد من العصاة، بل ستخليه من الأحرار، لتحكم قطيعًا من أغنام أو عبيد ولكن ثق يا جمال أن عهد العبودية لن يعود... سيعجب عبد الناصر وأعوانه وسيذكرون كلامنا القديم حين يعلمون أني كنت أقيم في منزل ثابت، وكان هو يشترك مع البوليس بإرشادهم عن الأماكن المحتمل أن أكون فيها، كان يدفعهم دائما مستغلاً معرفته بما في أذهانهم إلى بيوت بعض المتصلين بالإخوان المسلمين وباللواء عبد الرؤوف أو الأقارب ولو بعدت صلة قرابتهم بي وتسير أجهزة المخابرات الحربية والمباحث العامة وراء إرشاداته فتفتش وتفتش ثم لا يجدني لأني قريب منها، أجلس في بيت «ثابت» انتظر منه أبناء ما قدمت به الدولة من حملات التفتيش.

كان ثابت يحيا في بيته حياته العادية، له ضيوفه وسهراته ومواعيده غير الطبيعية في الخروج والعودة، وله مشاغله العديدة وكنت أنا أرابط طوالا الوقت في حجرة واحدة أغلقتها على نفسي من الداخل، وكثيرًا ما أغلقها ثابت من الخارج أيضا بقفل يحمل مفتاحه في جيبه، ولكني كنت أجلس معه بعض الأوقات حين لا يكون عنده ضيوف بالمرة، وهو أمر نادر، أو حين يأتي إلي بدر أو مختار أو أنيس من القاهرة لزيارتي.

وشاءت ظروف ثابت وأعماله أن يسافر من البلدة مرتين، واستمرت إحداهما أسبوعًا كاملا على غير انتظار أمضيته في البيت وحدي حريصًا على أن لا أحدث حركة في ليل أو نهار، وأن لا أشعل عود ثقاب إذا أظلمت الدنيا حتى لا يرى الضوء أحد الجيران، وهكذا انقطعت عن التدخين رغم أنفي من غروب الشمس إلى شروقها.

كنت أقضي نهاري أقرأ أي شيء يقع في يدي حتى أتيت على كل ما يمكن أن يقرأ في بيت ثابت، وهو قليل بالنسبة لمن لا عمل له إلا أن يقرأ، فإن غابت الشمس وصليت، استلقيت على فراشي ألتمس النوم، فإذا تأخر شغلت نفسي بالتسبيح لأطرد التفكير حتى يجيء النوم، وكان جاري النشيط غبريال كفيلاً بأن يوقظني مع الفجر حين يعلو صوته يسب زوجته، فإذا ردت على سبابه استعان بالجيران جميعًا-عداي طبعًا- ليشهدهم على كسلها وإهمالها ووقاحتها ... وتمني لو كان مسلمًا ليطلقها من فوره ويتزوج غيرها غدًا.

وحين أنهيت كل ما في البيت من كتب، أصبح هذا الجار النشيط وزوجته وجاراته وسيلة تسليتي الوحيدة، أستمع إلى أحاديثهم من الصباح إلى السماء، وهم لا يكفون عن الجدل والشجار، إلا ليذكروا الماضي القريب والبعيد والأيام البيض والسود، ثم إذا بهم يغنون ويصفقون ليعود بعد ذلك الجدل والشجار وقد أوحي إلة هؤلاء القوم الظرفاء الذين لم يعلموا أني عشت لهم جارًا- بأكثر من مسرحية قصيرة كتبتها وتركتها عند ثابت لا أدري ماذا فعل بها أغلب الظن أنها لم تعجبه فمزقها.

وكان عندي من الطعام الأصيل والخبز والجبن والزبد، لا أزيد عليه إلا حين يأكل معي صاحب البيت، أو حين يذكرني بعض أصدقائي بهدية من طعام، وجاء يوم فرغ فيه الخبز من البيت في سفرة لثابت لم يكن ينتظر أن تطول، فأكلت الجبن وحده وهو لا يشبع، ثم عرفت مكان الكشك وهو طعام يصنع على هيئة أقراص جافة من معجون القمح غير الناضج واللبن، ولم أكن قد جربته نيئًا من قبل، ولكن اتخذته غذاء، وكان القليل جدًا منه يشبع، فإذا أضفت إليه في جوفي شربة ماء انتفش وتخمر وملأ بطني غازا فلا أستطيع أن أكف عن البيت الساكن جشائي.

وحدث ذات ليلة أن ثار كل الجيران في الزقاق الضيق وتجمعوا أمام البيت، واختلفوا فريقين: كل منهما يقسم أنه محق فيما يرى، فالبعض يرى أن لصًا دخل بيت ثابت ليسرق مما فيه، والبعض الآخر يرى أن قطًا ولج البيت وراح يعبث بمحتوياته... وراح الفريقان يبحثان عن مفتاح يفتحون به البيت لاقتحامه، وأحاطوا المنزل من كل جانب حتى لا يفلت اللص من أيديهم، ثم أرسلوا إلى جار يعمل شاويشًا في المباحث ليقضي بينهم في خلافهم، وليعمل ما يراه صوابًا، فهذا الأمر من اختصاصه الرسمي.

وكان كل هذا الهرج لأني شعرت بالجوع بعد الغروب، وقمت أفتح دولابًا لأحضر شيئًا من طعام كان ثابت قد وضعه فيه قبل خروجه عصر ذلك اليوم وما أن فتحت باب الدولاب حتى انبعص صوت من احتكاك مفاصله الصدئة عاليًا طويلاً...ي...ي... ي.. فأعدت الباب للفوز... فانبعث ذات الصوت ثانية مسرعًا قصيرًا ..زي وعجب من سمع الصوت من الجيران في هدأة الليل، فالبيت لا أحد فيه خرج ثابت أمام الجيران، وأهله مسافرون منذ أيام، كما يعلم الجميع، وكثر الصخب حول البيت، وعلا الدق على الباب، وكتمت أنا أنفاسي وجلست على الأرض حيث كنت بجوار الدولاب لا أستطيع حراكًا، خشية أن صوتًا جديدًا ستسمعه الآذان الصاغية مهما خفت.

وتصورت جاويش المباحث في الشارع وسط الجميع وقد راح يحك رأسه ويفتل شاربه ويفكر في اقتحام البيت ليقبض على اللص الذي لم يرع حرمة جواره، ورحت أتخيل في أسى بالغ منظري أمامه إذا دخل البيت فوجدني فيه.... ماذا أقول له وما مصير ثابت؟ ماذا أفعل؟ هل أحاول الهرب بالقفز من السطوح؟ وما سيكون الأمر لو قبض على المرابطون حول البيت من كل مكان؟

ولكن تصوراتي لم تطل إذ سمعت صوت الجاويش أو كنت قد سمعته من قبل بين المترددين على منزل ثابت فينضم إلى رأي القائلين بأن في البيت قطًا لا خطر منه، فيحسم بذلك الخلاف، ويذهب كل إلى حال سبيله، ورضيت هذه المرة سعيدًا أن أوصف بمجرد قط لا خطر فيه، وبدأت أتنفس وأسعى إلى فراشي لأنام بغير عشاء.

ومرت الأيام بطيئة، وكان أصدقائي يبحثون في تدبير مكان آخر لي أكون فيه أكثر أمنًا وأكثر حرية، فالإقامة في غرفة واحدة مغلقة مهما اتسعت حال لا يمكن أن يستمر طويلاً، ثم إن أهل ثابت لا يمكن أن يتركوا لي المنزل طويلاً، فالأنباء عن إمكان سفري إلى الخارج لم يكن مشجعة كان أصدقائي يزورونني بين حين وآخر، ولكني لم أسمع منهم جديدًا عن المكان المفروض أن أنتقل إليه.

وزارني مختار الصامت الهادئ يومًا ..فسألته:

-هل تعلم أين يختبئ المجرم العاديون...؟

- نعم

- اعتبرني مجرما عاديًا وأبحث لي عن مخبأ على هذا الأساس ..وإلا فلن تجد لموقفي مخرجًا.

- هذا ما فعلنا، ولكننا نجد حرجا في مفاتحتك في هذا الأمر .. لأننا لم نستطع اعتبارك مجرما عاديًا، ولكن ما دمت أنت تقر ذلك فاعلم أني قد تفاهمت فعلا مع «فلان» الذي طالما آوي بعض المجرمين العاديين، فتصح بأن تسافر مع شخص من أعوانه إلى مكان بعيد جدًا لتعيش هناك كمجرم عادي هارب، وعلى الوضع الذي سيقدمك به إلى القوم الذين ستلجأ إليهم هناك فهل لديك مانع من ذلك إلى أن تتيسر ظروف السفر إلى الخارج...؟

ولم يكن لدي أي مانع من ذلك.. فأنا في نظر الدولة مجرم، وعلى أن أسعى إلى بقائي هاربًا أو كما يفعل أي مجرم عادي.


اتبع جرة الذئب...!

جاء اليوم المحدد لسفري إلى مكان آخر أعيش فيه كمجرم عادي هارب، لا يعرف من أعيش معهم حقيقة شخصيتي، وكان ثابت-الذي أصر على أن يصحبني في هذه النقلة الجديدة متغيبًا- عن البلدة في بعض أعماله، وعاد مع الغروب، فطلب مني الاستعداد للسفر فورًا.

وبعد قليل كنا في سيارة مع «مختار» الذي سلمني رسالة من «بدر» وصرة أرسلها إلي لم أعرف وقتئذ ما بها، ثم تركنا لأسافر مع «ثابت» و «محمود» الذي سيقدمني إلى قوم آخرين في بلد لم أعرفها بعد.

وأدار «ثابت» راديو سيارته، وكان يذاع تسجيل من تلك التسجيلات التي قيل أنها تمثل محاكمات الإخوان أمام محكمة رأسها جمال سالم الذي كان نائبا لعبد الناصر إلى ذلك الوقت، ولم أكن قد تتبعت بعض هذه المحاكمات، إذ يبدو أن أصحابي حرصوا على حرماني من معرفتها لأظل في حالة معنوية قوية، وانبعث من الراديو حين أداره ثابت صوت أعرفه، أجل إنه صوته، ولكن كيف ذلك...؟ هل يمكن؟ هل قبض عليه...؟ وبقيت بين الشك واليقين حين قال المذيع صارحة إنه هو إنه المرحوم يوسف طلعت رئيس الجهاز السري، قبض عليه وعلى أعوانه.. قبض عليهم دون أي مقاومة حقيقية.

وأحسست أن عيني غامتا، وأن الليل يزداد أمامي ظلامًا، وغرقت في التفكير الحزين على هؤلاء الزملاء الذين سيقدمون إلى المشانق دون ما جريمة ارتكبوها إن يوسف طلعت الذي أشفق على البلاد من احتلال أجنبي جديد قد يأتي ليفض نزاعاً مسلحًا بيننا وبين عبد الناصر، أدى به هذا الإشفاق إلى عدم المقاومة العنيفة، كان يستطيعها، إنه يحاكم اليوم وتكال له التهم، ويحاول مثل جمال سالم أن يشهر به، وأن يسقط هيبته في نفوس الناس ولكن الجميع اعترفوا أن تلك المهزلة التي كانت تمثل على صورة محاكمة لم يستطع أن تحطم كبرياء أمثال يوسف طلعت وإبراهيم الطيب وعبد القادر عودة وغيرهم منذ كانوا شجعانًا في مواجهة خصومهم الجالسين أمامهم مجلس القضاء، وظلوا شجعانًا حتى حين خطوا على سلم المشنقة لقد أعطوا وزملاءهم العالم درسًا في الشجاعة لن ينساه، وستخلده الأيام كما خلدت من قبل مواقف الشهداء.

كان كل مستمع إلى صوتيوسف طلعت وأمثاله يستشعر مدى قوتهم وإيمانهم ويحس أن المحكمة كانت أمامهم مجرد أقزام يتطاولون على عمالقة ولو علم المستمعون كيف عملت هذه التسجيلات وأين تمت، خلال ذلك التنزيف الذي عرض على أسماعهم إن تلك الميكروفونات التي نصبت في قاعة المحكمة كانت مجرد مظهر لا يمثل حقيقة أما التسجيلات التي أذيعت على الناس فقد كانت تتم في السجن الحربي تحت عذاب السياط والكي بالنار ونهش الكلاب والضغط على الرؤوس بالسلاسل، وغير ذلك من أساليب العذاب التي تنكرها حتى محاكم التفتيش التي وصمها التاريخ بالإجرام والوحشية في السجن الحربي كانت تتم هذه التسجيلات ثم يدخل فيها المونتاج كل تعديل وحذف ممكنين لتظهر أمام الناس شخصية المتهمين ضعيفة متخاذلة، وقد لاحظ البعض منذ سمعوا التسجيلات لأول مرة أن الجلسة كما يقال كانت تستغرق ساعتين لنسمعها كأنها كاملة في التسجيل في نصف ساعة، وبرغم هذا التزييف برزت شخصية البعض قوية واضحة وشخصية القضاة الذين لوثوا اسم القضاء ضعيفة متخاذلة تلجأ إلى الصياح والكلام الفارغ لتغطي عجزها.

منذ علمت ممن ساهم في تلك المهازل ثم عذبه ضميره بتزييف التسجيلات الإذاعية وبما وقع من تعذيب داخل السجن حرمت على نفسي أن أتهم واحدا ممن بدا ضعيفًا أمام المحاكمة بالتخاذل، فنحن لا ندري ظروفه ولا حقيقة ما قاله، ولكن ذلك سيتضح للعالم يومًا.

إذا وقع في يد خصوم جبناء، هذا الجيل المؤمن الذي دوخ الجيوش في فلسطين وفي أرض قناة السويس، والذي حمي الانقلاب العسكري المصري في بدايته أيام كان ضعيفًا أحوج ما يكون إلى من يحيمه، وقع هذا الجيل في يد خصوم جبناء لو واجهوه في معركة سافرة لعرف كل طرف قدره.

وربما بدا على ما اجتاحني من ألم وأسف وتفكير، فساد الجميع صمت طويل بعد أن أسكت ثابت الراديو، وطال الصمت حتى قطعه ثابت بصوته المرح ودعاباته التي لم يتخل عنها في أي وقت منذ عرفته، ولما كنت لا أدري إلى تلك اللحظة أي بلد يراد لي أن أعيش فيه، سألت: إلى أين؟ فأجاب محمود: إلى بلدة (كذا) إذ توجد بجوارها قرية صغيرة على حافة الوادي يسكنها بعض البدو طالما أووا مجريمن هاربين من الحكومة بشرط الاطمئنان إلى حسن سلوكهم...!!

ولم أفهم معنى اشتراط حسن السلوك في مجرم هارب، حتى علمت فيما بعد أن للمجرمين قواعدهم في السلوك التي لا تخلو من معاني الشرف والرجولية والنصرة، وإن انحرفت عن غاياتها السلمية، عرفت ذلك فيما بعد، وكان على بسبب تلك القواعد تبعات أعفتني ظروفي من بعضها.

واقترح من معنا أن أغير اسمي، وأن أختار من الآن اسمًا جديدًا نتفق عليه وأقدم به إلى من أنا ذاهب إليهم، لأن ذلك أأمن وأضمن في نجاتي، فأجاب ثابت دون أن يقصد إسباغ اسم جديد علي فقال: ناجي إن شاء الله...

وهكذا صار اسمي «ناجي»... والشيخ ناجي.. وعم ناجي عرفت بذلك بين الناس منذ تلك الليلة إلى أن تركت مصر كلها.

وخلعت بدلتي أثناء الرحلة، وفتح «ثابت» الصرة التي أرسلها إلى «بدر» وسلمني من بين محتوياتها جلبابًا أرتديه حتى يتمشى مظهري مع من سأعيش معهم ومع شخصيتي الجديدة. كم كان هذا الجلباب طويلاً، وكم تعثرت فيه أثناء سيري، فأعارني «حامد» غيره إلى أن اشتريت جلبابين فيما بعد، ولكن جلابيب «بدر» لم تكن غير ذي فائدة فإني واجهت بها الموقف الأول، وبقيت أرتديها في الصحراء لأنها أجلب للدفء من تلك التي اشتريتها أنا فيما بعد.

ووصلنا بلدة.. حيث تقف معلومات من معنا عن الطريق إلى القرية التي نقصدها، فوقفنا، وجلسنا في مقهى صغير نشرب الشاي إلى أن ذهب السير بعد ساعة, وكان الليل قد قارب أ، ينتصف، فتحسس رفيقنا الجديد صرة الملابس ثم ارتفع صوته في سكون الليل بعد أن صلى على النبي، ودعانا أن نصلي عليه: - اسمعوا يا جماعة.. أنتم طبعا أقارب أو أصحاب ... وأنا الغريب الوحيد فيكم، ولكن أسألوا عني تعرفوني، أنا لا أطمع في مكسب، ولكن يكفي أن آخذ تمويني بسعر الجملة.

- فأجاب محمد:

- دا شيء مؤكد، إذا وصلت البضاعة هنا فلك نصيبك هدية وإذا نزلت المحطة التالية فحقك محفوظ في مرة أخرى.

- ولم أفهم شيئًا من هذا الحوار.. وآثرت أن أسكت فلا أسأل أحدا إيضاحًا.

- وضاق الطريق بالسيارة عند كوبري محكم فوقنا.. وهبط محمود وزميلنا الجديد وبقينا.

- ثابت وأنا في السيارة ننظر، وضحك ثابت ضحكته الحلوة الرنانة وهو يقول:

- أفهمت ما قال الرجل..؟

- لا...

- إنه يظنا تجار مخدرات، ويطالب بنصيبه من الصفقة آه لو علم الحقيقة إذا لولى هاربا منا رعبا.

وعلا نباح كلاب حتى كاد أن يغطي على صوت رفاقنا وهو يصيحون في جوف الليل: يا شيخ أحمد .. يا حامد.. يا شيخ أحمد.. ثم انقطع النداء، وهدأت الكلاب وظهر بعد قليل على الدرب شرق الكوبري المحطم ذبالة سراج يتراقص نورها وقدم محمود ومعه شابان آخران عرفتهما فيما بعد أنهما حامد وعليان أولاد الشيخ أحمد –فصحبونا في طريق موحل إلى بناء قاتم قام أمامه عش صغير من البوص، وجلسنا وبدأوا يوقدون النار ويغلون الشاي، ودار حديث قصير حول حرص الحكومة على القبض على الأفراد الهاربين، وأوضح الشيخ ما تلقاه اليوم من تعليمات في المركز بالإبلاغ فورا عن أي غريب يقدم القرية خشية أن يكون أحد الهاربين، وسألني الشيخ رأيي فبلعت رقي بصعوبة وأنا أتمتم: طبعًا طبعًا... هذا واجب..

وانصرف «ثابت»، وترك معي «محمودًا» ودعانا صاحب البيت حين أوغل الليل –إلى القدوم داخل البيت، وسار أمامنا ولم أر شيئًا على ضوء الذبالة الخافت، الذي انطفأ لفراغ الزيت بمجرد أن عرفت مكاني في الفراش، وكانت ليلة لن أنساها، نمنا ثلاثة على ما يشبه سرير، ونام الشيخ أحمد- صاحب الدار- والشيخ حسين المطالب بنصيبه من المخدرات على الأرض بجوارنا.

ولم يغمض لي جفن حتى الصباح وظل صاحب البيت ساهرًا هو الآخر، فقد كنت أسمع سعاله وحركاته بين السيجارة والأخرى يشعلها، أما أنا فما سعلت وما تحركت وما أشعلت سيجارة، ظللت ساكنًا أراقب الصباح وما يأتي به من جديد، إن الرجل لم يسأل بعد من أنا لأني لم آكل عنده طعامًا كما علمت عن سلوك هؤلاء الناس، فماذا سيكون الوضع غدًا حين آكل ثم يسأل؟ لعل الشيخ حسين نقل إليه ما فهمه من أننا تجار مخدرات ولكنه سيعلم قطعًا أننا لسنا كذلك.

وسيسمع القصة المخترعة التي سيرويها له محمود. ولكن هل سيصدق أم سيستنتج الحقيقة؟ وطفقت أفكر فيما قاله الشيخ عن الاجتماع الذي عقد في المركز وضم كل شيوخ القرى التابعة، وحضره ضابط من المخابرات الحربية أوصاهم بالإبلاغ عن كل غريب يطرق القرية، بغض النظر عن شخصيته، وإلا تعرضوا لأشد العقاب، وبهذا يمكن للدولة أن تقبض على كل من يأوي إلى الريف وظل الضابط يسيء إلى سمعة الإخوان وسمعة كل هيئة شعبية معارضة للحكومة، ويمجد لهم في شخصية عبد الناصر، ويصور قوة الحكومة وحزمها، ولا شك عندي أن هذا الاجتماع تكرر في كل المراكز إذ وصلت أنباؤنا واتخذت إجراءات مطاردتنا حتى إلى تلك القرية النائية التي الم أكن أعلم لها وجودا على خريطة القطر المصري هب أن الرجل رفض إيوائي، أو لم يصدق الأكذوبة التي سيقصها عليه محمود غدًا.. ماذا سيكون عليه الوضع؟ ليس في القطر أبعد من هنا عن عين الدولة التي تطاردني إن مشكلة الخارجين على الحكومة في حدها ضيق الوادي وانبساط أرضه وانعدام أماكن التجمع والاختفاء فيه.. أما الصحاري فلا أظن أن فيها –وهي قاحلة- من مقومات الحياة ما يمكن لقوم أن يعيشوا فيها طويلاً، ولعل هذا العنصر الجغرافي له صلة بقلة الثورات في مصر باضطرار المصريين وهم محصورون في الوادي لقبول الظلم فترة طويلة تمكنهم من التجمع بين الناس حين تغفل عنهم عين الدولة.

وبعد ليل طال حتى كاد أن يخمد أنفاسي أخرجنا من الغرفة المظلمة التي نمنا فيها فطالعنا الصباح بفجر بارد وتحلقنا حول نار أوقدت في العشة القائمة أمام البيت وعلى ضوء المصباح بدأت أتبين بعض ما حولي.

يفتح باب البيت المبني من اللبن (الطوب الأخضر) إلى جهة الشرق، حين يمر الداخل إليه على يساره مباشرة الغرفة التي قضينا الليل فيها بغير نوافذ ولا أبواب إلا فتحة صغيرة ندخل منها وأمام البيت في الركن الجنوبي من واجهته تقوم تلك العشة الصغيرة من بوص الذرة لا تسع لأكثر من أربعة أشخاص يحيطون بالنار، وحول المكان أرض زراعية لا يزال أغلبها أسود اللون محروثًا في انتظار زراعة لم تتم وعلى بعد خطوات منا تبدأ الصحراء الصفراء حيث يقوم غير بعيد- في تقدير النظر- جبل قاتم لا يزال يحجب عنا الشمس التي ربما قاربت الشروق وتلفت حولي أبحث عن مساكن القرية، فما وجدت غير كوخ صغير علمت أنه لأرملة توفى عنها زوجها فآنست جوار الشيخ أملا في نصرته وعطفه، أما البلدة ذاتها فعلمت أنها تبعد عنا أكثر من كيلو متر على الجنوب الشرق، وآثر الشيخ أحمد صاحب الدار- أن يسكن بعائلته بعيدا عنها لأمور لم أكتشفها إلا بعد حين.

وأخرجت البهائم من البيت –كما أخرجنا نحن من قبل- فربطت غير بعيد عنا أمام كومة صغيرة من البرسيم الأخضر وأكوام كبيرة من البوص اليابس.. وراحت تأكل منها مطمئنة، وجيء لنا بالطعام، وكنت جائعًا فلم أستطع أن آكل منه ما يكفي إذ كان ملتهبًا فأحرق فمي وحلقي ومعدتي أيضًا ثم جيء بالشاي، وانتحى صاحب البيت لحظات بمحمود الذي جاء بي إلى هنا ليقص عليه قصتي المخترعة: ناجي «الذي هو أنا» رجل من أبناء جيرتنا حدث خلاف بين عائلته وعائلة أخرى على زراعة وفي الليل قتل رجل من العائلة الأخرى في الحقل بمقذوف ناري واتهم بقتله ناجي واثنان من أقاربه فآثر أهل ناجي أن ينزل البلدة مؤقتًا إلى أن ينتهي التحقيق ويتضح تصرف النيابة فيه. والقتيل به إصابة واحدة، والمتهمون ثلاثة، والقتل وقع ليلاً، ولا شهود عليه فدليل الاتهام مزعزع.

إذا، لا مخدرات في الموضوع، فانصرف الشيخ حسين الذي يطمع في نصيبه مما نجلب من مخدرات، وجاء صاحب البيت يطمئنني أن مثل هذه القضايا التي اتهمت فيها لا تثبت عادة على المتهمين، وأن مصيرها البراءة، وروي لي أنه هو كثيرًا ما اتهم في أمثالها ثم برأته المحكمة برغم كثرة الشهود فما بالي أنا ولا شهود علي وراح يقص علي قصصا مفصلة كنت أسمع أثناءها أسماء بعض زملاء السابقين في النيابة مشفوعة بأقذع سباب لأنهم حبسوه احتياطيًا وقدموه للمحاكمة .. ولكن المحكمة كانت تبرئه دائما... وبدا لي أن الرجل مقتنع بالقصة التي اخترعناها له وكنت قلقا من هذه الناحية إذ كان قد فاجأنا في الصباح بعد الفطور بقوله: أنا مستعد أن آوي القاتل والسارق وشيخ المنصر وتاجر المخدرات... المهم أننا لا نقبل واحدًأ من طائفة الإخوان... وخفق قلبي وصدري، وانبعث صوتي مضطربًا: طبعاً دول أعداء الحكومة..» فصدق الرجل علي قولي وأضاف: صحيح ... وغير هذا فنحن رجال عبد الناصر بدون استثناء... «قلت في سري يا رب استر...»

أما الآن فالرجل يطمئني على مصير قضية قتل الرجل ليلاً في الحقل، فهو مقتنع وهو يقرر قبوله إيوائي ما دمت سارقًا أو قاتلاً أو قاطع طريق أو تاجر مخدرات، وأنا الآن في نظره لا أخرج عن ذلك وهمست لنفسي كادت أن تسد الأبواب أمامي ثم سترها الله... وصدق الرجل قصة قتيل الليل بالحقل... »

ثم عرض محمود وأبناء الشيخ أن نذهب إلى القرية لنقضي بعض الوقت مع شبابها، ولكن الشيخ رفض في إصرار مشيرًا علينا بالذهاب إلى بلدة أخرى بعيدة، وكان في صوته من العزم ما ألزمنا أن نستجيب لأمره، ولم أفهم ساعتئذ مقصده، علمت بعد حين أن الرجل لا يريد أن ندخل القرية التي فيها قومه، لأنه لم تنطل عليه خدعتنا، وإنما جارانا فيها مؤقتا على نية أن يصرفنا عنه بالحسنى.

ولما عدنا من نزهتنا ظهرًا وجدنا الشيخ أحمد قد أحضر أكبر أبنائه «حسان» الذي يقيم مع زوجته في القرية وأعدا لنا حجرة في أعلى البيت نصعد إليها بسلم متهدم ضيق يتعرض الصاعد فيه والهابط منه للسقوط في كل خطوة، وهناك بأعلى البيت في تلك الغرفة المنعزلة تناولنا غداءنا وردد الشيخ أثناء الغداء على مسامعنا أنه يقبل إيواء القاتل والسارق وقاطع الطريق وتاجر المخدرات، ولكنه لا يقبل بحال إيواء واحد من الإخوان الذين هم أعداء عبد الناصر الرجل القوي الحاكم، والذي يعتبره الشيخ وأهله وبلدتهم أنفسهم من أتباعه المخلصين.

وأفقدني حديث الشيخ المعاد شهيتي للطعام، وأنا أشد ما أكون جوعًا، وانتهزت فرصت عرضت لأهمس في أذن محمود الذي أحضرني واخترع قصة القتيل ليلاً:

- إما أن نخبر الرجل بالحقيقة، وإما أن ننصرف، فأسلوب الرجل واضح في أنه يقصد صرفنا عنه.

ولكن محمود أمهلني قليلا، وطلب مني أن أعتمد عليه وأترك له التصرف في هذا الأمر بالأسلوب المناسب، فعزمت في نفسي، على مخالفته والتصرف وحدي بوضوح عند أول فرصة تعرض وتبين لي أن محمودًا نفسه لا يعرف من أمري شيئًا كثيرًا وأنه يمتثل لأمر رئيسه الذي بعثه بي في هذه المهمة، وانتحى محمود والشيخ مرة أخرى ودار بينهما همس اشترك فيه أحيانًا بعض أولاد الشيخ: وحاولت جهدي أن أنصت إلى ما يقولون، فالأمر ولا شك يعنيني ويحدد مصيري ولكني لم أسمع إلا غمغمة غير واضحة حتى ندت من محمود عبارة استطعت أن أتبينها بوضوح وإن لم أحدد مقصودها وعلى من تقال: سمعت محمودًا يقول: إن خفتم على أنفسكم منه فاقتلوه.... والأرض واسعة تبتلع كل أثر..»

وبعد قليل صرف الشيخ كل من كان معنا في الغرفة بلباقة أشهد له بها ظننت معها أنهم على اتفاق سابق أن يتركونا وحدنا. وجلس الشيخ وصب لي ولنفسه كوب شاي أسود ونظر إلى في ثبات وهو يقول:

- اسمع يا بني .. أنت لست من جيرة محمود .. ولست من سكان الريف إطلاقًا، ولم تتم في حادث قتل في الحقل ... ولا مظهرك، ولا لغتك ولا أسلوبك في الحديث والطعام ولا تعثرك في جلبابك الواسع الذي ترتديه لأول مرة على ما أظن ولا الصرة المزخرفة التي تحملها وما فيها من أدوية وملابس.. لا شيء من هذا كله يسندك في زعمك أغلب الظن أنك واحد من الإخوان، فإن كنت كذلك فأبلغني من أول الأمر، ولا تحرجني أكثر من ذلك، فالدولة أقوى من أن نقف في طريقها.

- وكان في صوت الرجل صدق وإخلاص فوجدتني أقول له ببساطة وفي صدق وإخلاص أيضًا.

- يا عم أحمد.. أسمعت عن اسم «حسن العشماوي».

- نعم سمعت .. وأنه مجرم... مجرم خطيرة ذكروه لنا بالاسم في اجتماع المركز أمس.

- أنا حسن العشماوي نفسه... وأنا متهم في القضايا الحالية.

ومطلوب القبض علي ليحكم بإعدامي وإعدام كل من يأويني أو يساعدني على الهرب.... هذه هي الحقيقة كاملة والتي لا يعلمها محمود الذي جاء بي إليك ... أصارحك بها الآن لترى رأيك وتتصرف على نور، قبل أن تتورط في شيء ثم يظن أحدنا أن الآخر يخدعه، فإذا قبلت إيوائي على هذا الوضع فأجرك عند الله ولن أستطيع لجميلك وفاء.. وإذا رددتني فأنت مشكور ويكفي أنك لم تسلمني للحكومة.

ووضع الرجل كوب الشاي على الأرض التي نجلس عليها، وترك الغرفة صامتًا مقطب الجبين، انصرف عني دون كلمة... انصرف لا أدري إلى أين...

ومر الزمن بطيئًا كاد أن يتوقف، كنت أستنبئ الساعة عن الدقائق عسى أن تمر فتماطلني ولا تأذن إلا للثواني أن تخطر متثاقلة لا تريد أن تمضي كذبت الساعة أكثر من مرة ولكن أذني أكدت لي أنها تدور... وجال بخاطري كل سوء، ولم أستطع أن أفسر شيئًا مما أسمع تفسيره المعقول، فهبوب الريح وصفعة الباب ونباح الكلب وهمس المارين في الطريق أو الجالسين أسفل الدار. كل ذلك كان يعني عندي شيئًا واحدًا... هو السبيل إلى ظلمة السجن وأيقنت أن الأمر قد انتهى وأن القضاء قد حم ولم يعد لي من مواجهة عذاب السجن مهرب.

وعدت الساعة في حساب الزمن عشر دقائق.... عشر دقائق فقط لست أدري في كم من الساعات مرت... وانبعث أنين السلم المتداعي تحت أقدام لعلها عشرات الأقدام أو مئات... إذ قدم تم كل شيء وبهذه السرعة، ونسيت أني كنت من لحظة أستثقل بطء الزمن.

ودخل الرجل الغرفة... دخل وحده.. فتعلقت عيناي بوجهه فإذا به مستبشر مبتسم، ما رأيته كذلك منذ قدمت، ولم يمهلني حتى أستوضحه إذ قال جذلان الصوت مع النبرات:

- أهلاً بك وسهلاً يا بني أنت نزيلنا وضيفنا ما شئت من وقت وأقسم بالله أن لن أسلمك حتى أموت أنا وأولادي الثلاثة دونك.

- وجلس على الأرض بجواري يرشف الشاي الذي كان قد برد من طول انتظاره...

- لن أستطيع أن أصور شعوري عندئذ، لم يزد لساني عن أن قال: الحمد لله، أما عيناي فقد حجبتهما بشال عمامتي لأخفي ما أنساب منهما من دموع، أهي دموع فرح أم دموع شكر أم دموع إعجاب أم دموع فرج بعد ضيق..؟ لا أدري، واحترم الشيخ دمعي الصامت، فشاركني بدمعة واحدة ندت برغمه من جفنيه الجامدين فأزالها بظهر كفه في صمت.

وعلمت فيما بعد أن الرجل تركني ليستشير زوجته وأولاده لأنهم هم الذين سيحملون العبء كما يقول إذ قد كبر سنة وكان سؤاله لهم في صورة عنيفة قاسية:

- هذا الرجل الذي بأعلى البيت نار تحرق.. فهل أنتم على استعداد أن تمسكوه ولو أحرقكم؟ وما أنا، فقد كبرت سني، وسأمسك الرجل إن خشيتم على شبابكم منه، وسأتصرف به بعيدًا عنكم حتى يقضي الله فينا أمره.. فأنا به معجب هذا يكفيني.

- وقبل الأنباء الثلاثة أن يشاركوا أباهم العبء، وكم كان الشيخ سعيدا وهو يردد لي في إعجاب ما قلته زوجته- وهي أول من أجاب- حين استشارهم: لقد جربنا الضيق وخبرناه، والله ما جاء بمثل هذا الرجل إلى مثلنا إلا الضيق الشديد، فلا تسد بابك في وجهة، فما كان لك أن تترك رجلا قصدك في ضيق أبدًا. لقد جربنا اللص والقاتل فلنجرب مرة أن نأوي رجلاً شريفًا يصلي.

ولما سمع الشيخ منا هذا الكلام أحس أنها تشاركه مشاعره وآراءه في شجاعة سعد كل السعادة، فدخل علي الغرفة والبشر يطفح من وجهه.

ولم يعد بعد ذلك محل لبقاء «محمود» الذي قادني إلى هذا المكان أو هكذا رأى الشيخ أحمد- فصرفه في صبيحة اليوم التالي. ثم تركني مع أولاده في البيت يومًا، وسافر لحضور مجلس عرفي لفض نزاع عائلي في بلد قريب، بعد أن أوصاني أن لا أبرح البيت ولا أقابل أحدًا من أهل البلدة، ولما عاد من سفره جلس ينصحني أن لا أقيم في الريف، فاحتمال التفتيش فيه قائم دائمًا، وأنه أصبح على أن أواجه المشقة القادمة مهما بلغت وإن لم أعتدها من قبل، فللحرية ثمنها الغالي، وأكد وجوب شعوري بأني لست مجرمًا عاديًا وإن اتبعت أسلوب المجرم العادي في الهرب، بل أنا خصم دولة .. دولة قوية يرهبا الناس، وتبحث عني وعن أمثالي في كل مكان لتستأصلنا وتطرق من ذلك إلى الصحراء، وذكر مشقة الإقامة فيها حيث اتخذها بعض المجرمين العاديين ملجأ، فهناك في الصحراء حين الأرض فرشنا وحيث الصخر وسادتنا والسماء المكشوفة بيتنا هناك في الصحراء حيث لا أناس ولا ماء ولا طعام ولا خضرة ذلك اللون الذي أصبح جزءًا من أعصابنا معشر سكن الوادي، وختم الرجل حديثه الطويل متسائلاً:

- هل تعلم لماذا يقيم الذئب في الصحراء..؟

- لا

- يا بني .. إن الذئب هجر الوادي وخيره وخضرته، وسكن الصحراء لأن أصحاب الوادي له أعداء وأنت يا بني خاصمت رجال الدولة فكلهم لك عدو.. وهم اليوم أصحاب الوادي.. فاتبع جرة الذئب إلى الصحراء فهي مأمنك الوحيد.

وكان ما أراد الشيخ... قبلته رضي النفس هادئًا لعلمي أنه يريد الخير والأمن والسلامة لنفسه ولأهله ولي، ولو أني ما رضيته لفعلته، فليس لي في هذا الأمر خيار، وقد صرت وحدي عند هؤلاء القوم بعيدًا عن كل من أعرف من الناس.

ولما أصبح يوم 30 نوفمبر سنة 1954 غدا الركب الصغير منذ الشروق يحث السير متعقبًا قرص الشمس في الصحراء.. حتى حللت هذه البقعة لأقيم فيها مع الذئاب زمنًا كان أضعاف ما قدرت... وما قدر غيري.


سلوك المجرمين...وفلسفة الذئاب...!!

الشيخ أحمد –الرجل الذي أواني- رجل يزيد عمره عن الستين عامًا، ولكن بكم من السنوات بعشرة؟ بعشرين...؟ هذا ما لا يدريه هو ولا يدريه غيره، فهو من قوم لا يقيدون في سجلات المواليد ولا في سجلات الوفيات، ولا يعنيهم من أمر سنهم إلا أنهم قادرون على الحياة والكفاح في سبيلها، وهو طويل القامة، عريض المنكبين، مفتول العضلات، وجهه القريب إلى البياض من وجوه كل من رأيت في هذه البلاد، تطالعك فوق حاجبه الأيسر ندبة عميقة لجرح قديم قدم حياته نفسها، ولم يحدثني يوما عن تلك الندبة، ومن أين جاءته، ولعلها أثر من آثار الشباب البعيد وما فيه من عراك بالعصي والسكاكين، وللشيخ لحية بيضاء مستديرة تتسق مع وجهه كل الاتساق، قد اتخذها أخيرًا لنفسه كدليل براءة في آخر قضية مثل فيها أمام محكمة الجنايات بتهمة القتل.

وللشيخ ماض عريق في الإجرام لا ينكره، ولكنه تاب عن الجريمة منذ سنوات، والتوبة عن الجريمة تعني التوبة عن البدء بها لا عن اللجوء إليها أيًا كان نوعها للانتقام، وقد قدم الشيخ إلى محكمة الجنايات أربع مرات في جرائم لا تقل خطورة عن القتل والسطو المسلح وخطف الأشخاص، واتهم في عشرات الجنايات الأخرى، ولكن الاتهام وقف عند التحقيق، ولم تبلغ فيه الأدلة مبلغ الكفاية للمحاكمة، وهو لم يحكم عليه في جريمة أبدًا، ولكنه دخل السجن متهمًا وبقي فيه شهورًا على ذمة التحقيق أو المحاكمة، وهو يكره السجن لا لأن الحياة فيه أسوأ من الحياة خارجه، ولكن لأنه يعشق الحرية لذاتها، فهو كالطير يحب حريته مهما كثر حوله الصائدون، ويكره القفص وإن أمن فيه على حياته وضمن قوته. أو هو كما يقول كالذئب يعشق حريته وإن كان كل الناس له أعداء... وكان للشيخ كثير من الأعداء يتمنى كل منهم أن يصرعه ليثأر لنفسه من قتيل قديم أرداه رصاص الشيخ أيام إجرامه أو أيام قوته، ولهذا لم يأمن الرجل سكناه في القرية، واتخذ لمنزله مكانًا بعيدًا على الحافة بين الزراعة والصحراء.

وللشيخ ماض وحاضر في إيواء المجرمين من كل نوع وبهذا الماضي والحاضر ذكرته زوجته حين تحمست لإيوائي، فليس إيوائي بأشق عليه من إيواء رؤساء العصابات الذين كانت تطاردهم الدولة شهورًا بحشود من رجال أمنها، ثم إن إيواء رجل شريف يصلي (كما تقول زوجته) فيه نوع من التجديد أحب الشيخ أن يختم به حياته وعلى هذا الأساس من تجربة نوع جديد من الإيواء –في اعتقادي- بدأ إيوائي وإن تطورت النظرة إلى بعد ذلك والشيخ لا يعتبر إيواء المجرمين –أيا كانوا- جريمة أو خروجًا على القوانين، بل يعتبره شهامة ونخوة تلزمه بها مجرد إعجابه بمن يلجأ إليه وهو يفخر دائمًا بأنه لم يسقط في يد الحكومة شخص آواه- ما دام عنده- وإنما سقط حين غادره بإرادته أو مطرودًا لأنه أخل بحسن السلوك الواجب عليه.

والشيخ يدخن كثيرًا، ويحب من أنواع المخدرات الأفيون، ويكره غيره، ويأكل قليلاً، ولا ينام الليل أبدًا، وإن عينه لا تستطيع أن تغمض ما دامت الشمس غائبة عن السماء كما قال لي: فإن أشرقت استطاع أن ينام الليل أبدًا، وإن عينه لا تستطيع أن تغمض ما دامت الشمس غائبة عن السماء كما قال لي: فإن أشرقت استطاع أن ينام قليلاً وقد علمته ذلك مهنته القديمة حين كان يعمل لصًا يسطو على الناس ويقطع الطريق ليلاً، وظل كذلك بعد توبته يحمي نفسه وبيته حين ظل خصومة يطاردونه عسى أن يأخذوا منه بثأر قتيل من ذويهم.

وللشيخ زوجة لا يمكن أن تعرف سنها فهي في الثلاثين أو الأربعين أو أكثر من ذلك أو أقل كثيرًا. وإن كان لها ابن جاوز الثلاثين بعدة سنين، وهي عنيفة عنيدة عنف زوجها، ولكنها –رغم قساوتها- تكره السرقة كمورد للرزق، فهي متدينة في حدود فهمها المتواضع للدين، تؤمن بالخرافات وبحقها في قتل من يحاول سرقة شيء منها.

كم أطلقت النار على من حال السرقة من البيت ليلاً حين يغيب زوجها وأولادها، وكانت لا تغفل عن إخفاء السلاح إذا طلع النهار وإخراجه من مخبئه إذا أقبل الليل ... وكان الناظر إليها يحس حبها للسلاح وهي تحمله كما تحمل أم طفلها، وكانت الزوجة تطيع زوجها وتخشاه، ولكنها لا تخف رأيها المخالف لرأيه إذا استشارها، ومن الغريب أن تجد في مثل هذا الأوساط بمصر رجلاً يستشير زوجته كثيرًا ما يأخذ برأيها وكانت تلك المرأة كثيرة الأحلام، على نحو غير طبيعي فهي لا تكاد تغمض عينها في ليل أو نهار حتى ترى أحلامًا، وهي تهتم بأحلامها وبتفسيرها اهتمامًا بالغًا، وتحدد الكثير من تصرفاتها على ضوء ما تفهم من الأحلام التي رأتها.

وللزوجة من الأولاد الذكور ستة أبناء –ثلاثة رجال وثلاثة أطفال، ولها من الإناث خمس بنات بقي في البيت منهن طفلتان، وتزوجت الباقيات، وبرغم هذا العدد الوافر لم يستطيع الشيخ الجامد المشاعر كما يبدو أن يمنع أساه بل دموعه كلما تذكر طفله الذي مات منذ سنوات بمقذوف ناري أطلقه على نفسه لأن أخاه ضربه أمام الناس، فشعر الطفل أن كرامته مست وأن لا رد لها إلا بالقتل ولم يرد أن يقتل أخاه فقتل نفسه وقد ورث الابن الأكبر من أبيه المقدرة على الحديث والمرح، وأخذ الثاني كل ما في أبيه من قسوة وإقدام، ولم يأخذ الثالث إلا خفة الحركة في المسروقات ليلا.

وبدأت تتكون في الصغار ملامح الشبه بأبيهم، ولكنها لم تحدد بعد، وقد ظل هؤلاء الأبناء والبنات أولاد عمي طوال إقامتي في مصر. وظل الأطفال الصغار منهم في حكم أولادي، على أن أرعاهم وأن أزورهم كل حين، حتى بعد أن تركت الصحراء وتركت البلد نهائيًا وعشت وحدي بعيدًا عنهم.

وللشيخ أب لعله جاوز المائة من عمره ولا يزال يعيش في أحسن صحة وله إخوة كثيرون لم أرهم إلا مصادفة فيما بعد، وكنت قد تركت الصحراء وتركت الريف فلم يعرفوا عني إلا أني صديق لأحد أولاد الشيخ فقد ظل الشيخ في حياته وبعد موته وبعد موته نموذجًا فريدًا لم ألق في محيطه من يدانيه.

وللشيخ من أولاد عمومته الكثيرين، ابن عم اسمه فرحات كان أحد أفراد عصابته منذ كان غلامًا صغيرًا واعتزل الشيخ السرقة واشتد ساعد فرحات وظل يعمل لصًا أغلب إقامتي عندهم، وفرحات موضع ثقة الشيخ، ولذلك اختاره دليلاً لركبنا الصغير يوم سرنا إلى الصحراء، وترك له اختيار المكان الذي سأقيم فيه وإن لم يرض هو عن المكان كل الرضى حين جاء لزيارتي يومًا.

وكان لهذه العائلة قديمًا مورد هام هو السرقات وكانت السرقات تدر عليهم ربحًا طائلاً، يمثل نصيب الشيخ وهو رئيس العصابة في المسروقات وفي «الحلوان» الذي يقبضه إذا رد بعض المسروقات لأصحابها وفي الإتاوة التي يفرضونها على الناس ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم من الاعتداء ولكن الشيخ ترك السطو وملحقاته ولم يعد مورد رزق للعائلة, بل صار الأبناء يدبرون منه ما يواجهون به مصروفاتهم الشخصية, والأم تعلم ذلك فتثور، والأب يعلم فيبتسم، ثقة منه أن هذه سنة الحياة, وأنهم سيقلعون عن السطو يومًا كما أقلع هو بقي لهذه العائلة الكبيرة موردان للرزق بعد انقطاع الأب عن السطو أما المورد الأول فهو الزراعة، وهو زراعة لا تكفي للقيام بأود عائلة، فدان ونصف استأجرها الشيخ وأضافها إلى فدان يملكه ولا يدري أحد بسند ملكيته له ولكن أحدًا من الناس لا يستطيع أن ينازعه في ملكيته ولا الملك الأصيل، وهذه الأرض كلها لا تكفي الأسرة خبزًا والبهائم علفًا، أما المورد الثاني فهو «الحراسات»، وهي تكاد أن تكون تطورًا من الإتاوة القديم فالشيخ يقوم بمجرد اسمه وخشية الناس منه بحراسة ما يقرب من مائة فدان، ويتقاضى على هذه الحراسة أجرًا مجزيًا، ولكنه لا يترك بيته يومًا ليعرف حدود تلك الأراضي التي يحرسها، إنه لا يخرج إلى الأرض إلا عند المحصول ليقبض أجر حراسته، لأن اسمه وحده هو الذي يحرس الأرض... وغيره من المجرمين يراعون ذلك.

ويعتبرون من قواعد حسن السلوك عندهم أن لا يعتدوا بالسرقة على أرض يحرسها الشيخ أحمد.

كان الشيخ أحمد يحدثني عن حياة الجريمة وسلوك المجرمين، ويذكر زملاء ماضيه وأساليبهم وأسماء من آوي من الناس وأشهد أنه يذكر في بعض الأحيان أسماء معروفة لكل مصري إذ شغلت الرأي العام طويلاً، وشغلت أجهزة الحكومة أشهرًا في طلب القبض على أصحابها، إنهم رؤساء العصابات المشهورة التي أخلت بالأمن وفرضت سلطانها على مناطق واسعة، لجأوا في وقت من الأوقات إلى هذا الشيخ الذي ألجأ إليه الآن وقد اتبع أكثر هؤلاء الذين آواهم الشيخ قواعد حسن السلوك فظلوا عنده حتى أرادوا السفر عنه فأذن لهم أما من خالف منهم تلك القواعد فقد لقي جزاءه المقرر دون رحمة والعقوبة عندهم تتراوح بين التوبيخ العام والطرد والقتل أما تسليم الآوي إلى البوليس أو الوشاية به لديه، فليسا من الهفوات المسموح بها عندهم لأنها خسة يرفضها حتى أشد الناس إجرامًا وإذا طرد اللاجئ من عند مجيره، صار أجنبيًا عنده، لا يلتزم أحدهما قبل الآخر بأي التزام، ولكن يظل الالتزام الأدبي قائمًا بأن لا يشي أحدهما بالآخر، ولا يعاون في القبض عليه إما إذا تقرر قتل المجرم اللاجئ، فلا بد أن يكون ذلك بعد إخطاره وإتاحة الفرصة له أن يدافع عن نفسه، ولايجوز القتل إلا ي حالات الضرورة القصوى أما التوبيخ العام فقليلاً ما يلجأون إليه إذ يغلب أن يرفضه المجرم الآوي فيصبح جزاءه القتل أو الطرد، وإذا قتل المجرم الهارب عند من أواه فإن جثته لا يعثر عليها أحد، إذ لا يلتزم قاتله في هذه الحالة بتسليم جثته إلى أهله أو في وضعها في مكان مطروق كما يجب على القاتل في الظروف العادية أن يفعل، فالقاتل في الظروف العادية لا يجوز له أن يخفي الجثة ويمثل بها أو يمنع وصولها إلى أهل القتيل أن يقتلوا من أهل القاتل شخصين، وكم حاولت أن أقارن بين هذه القواعد التي يلتزم بها مجرد مجرمين عاديين لم ينالوا قسطًا من ثقافة ولا تربية ولا مدنية، وبين الضباط الذين يحكمون مصر ويتصدون لقيادة البلاد العربية اليوم إن أكثر من ثلاثين شخصًا قتلوا أثناء تعذيبهم في السجن الحربي، فلم يزد الحكام عن أن ألقوا بهم تحت رمال الصحراء في العباسية وأبلغوا أهلهم أنهم هاربون....!!

هل هربوا من السجن الحربي بزنزاناته المغلقة وأسواره العالية والمعسكرات المحيطة به.. أم أ،هم هاربون منذ البداية مع أن أنباء القبض عليهم نشرت؟ هذا ما لا يجيبون عليه، لأنهم حكام لم يبلغوا بعد مراتب المجرمين...!

ومن أهم ما يلتزم به المجرم الآوي أن لا يسرق في البلدة التي يأوي إليها، ولا في القرى المجاورة لها وليس له أن يصحب واحدا من أهل البلدة معه في سرقة إلا إذا أذن له بذلك من آواه، وهو بعد الإذن مسؤول عن سلامة من اصطحبه، فيؤخذ الثأر منه إن قتل أو قبض عليه ولمن آوى مجرما نصيب مما يسرق ما دام على علم بالسرقة وإن لم يشترك فيها، وإذا أراد من آوى هاربًا أو أراد حد أقاربه المقربين أن يسرق أو يقتل أو ينتقم على أية صورة، وجب على المجرم الذي يأويه أن يشاركه عمله هذا إذا طلب منه المشاركة...وإلا اعتبر منكرًا للجميل قد يكون القتل له عقابًا.

وكم حيرتني قواعد السلوك هذه لدى المجرمين الهاربين وأوقعتني في المآزق، إذ حدث ما خشيته وطلب مني أولاد الشيخ وابن عمه أن أشاركهم في سرقاتهم أو غيرها من الجرائم، ولكن الشيخ كان قد أعفاني من بعض قواعد السلوك الوضعي الخاص. فأعفاني على الأخص من التزام المشاركة في أي عمل أرى أنه لا يتفق ونشأتي ومبادئي.

وكم من مرة جاءني بعض القوم بسلاحهم في مكمني بالصحراء يطلبون مني أن أصحبهم إلى سرقة ينوون القيام بها، أو أن أخفي لهم عندي شيئًا سرقوه حتى يعودوا بعد أيام لاسترداده، وكان الطلب يؤذيني فلم أتردد مرة في أن أجابهم بقرار الشيخ أحمد بإعفائي من مثل هذه الأعمال فكانوا يصدعون بالأمر خشية من الشيخ في حياته ووفاء لذكراه بعد موته، بل استقر الإعفاء بعد وفاة الشيخ، وأصبح أولاده لا يطلبون مني المشاركة في أمر لا أرضاه حتى أنهم بدأوا يستمعون إلي ويتجهون نحو الامتناع عن احتراف السرقة.

ولم يخف الشيخ أحمد عني رغبته في أن أخرج مرة للسرقة، وأبدي استعداده أن يخرج معي على أن لا ننال –هو وأنا- نصيًا، وبذلك لا نكون قد ارتكبنا إثمًا... ولكن اعتذرت واستعنت عليه بزوجته، فقبل عذري وترك لي أن أقدم على ذلك مرة أخرى إذا شئت، ونبهني إلى قاعدة عامة يتبعها السارقون إن خرجوا في جماعة، هي أنه لا يجوز لأحدهم أن يذكر اسم زميل من زملائه في مكان الجريمة، بل ولا أي اسم على الإطلاق، فإن أراد أحدهم أن يطلب من الآخر شيئًا ناداه باسم رمزي موحد في كل الأحوال هو «مرزوق» ولذلك لا يسمع أحد في مكان الجريمة غير هذا الاسم يتردد في كل متحدث:

«اضرب يا مرزوق... احذر يا مرزوق... اهرب يا مرزوق... وهكذا وعقاب مخالفة هذه القاعدة هو القتل حتما لمن يذكر اسم واحد من زملائه أو اسمًا له وجود في البلدة كلها وبهذه الجريمة –ذكر اسم أحد الزملاء –قتل فرحات بعد وصولي بأيام مجرمًا عاتيا كان يلجأ عند أخيه وقد لاحظت أن اسم «مرزوق» لا يحمله أحد في هذه الأقاليم كلها.!

كان الشيخ أحمد لا يكره الجريمة بل يحبها وإن أقلع عنها، وكانت قسوته وصرامته في شؤون الجريمة وسلوك رجالها لا تحدها حدود وكنت إذا نظرت إليه حين يصمت أو يمزح –لا أصدق أن الرجل يخفي وراء مظهره البسيط- الجامد في ذات الوقت – نفسًا قديرة على القسوة والإسراف فيها ولكن لم لا، أليس مظهر الذئب أنه كلب أنيس ولكنه في جوهره وحش ضار لا يؤمن.

كان الشيخ أحمد مولعًا بالذئب يتخذه لنفسه مثلاً، يواجهني في كل أمر بمنطق الذئاب لينهي أي مناقشة أخالفه فيها كان الذئب ومنطق الذئب هو القول الفصل في كل الأمور، حتى ضقت بالذئاب ومنطقا ذرعًا. كم جرت بيننا مناقشات قصيرة كانت نتيجتها دائماً أن أسلم برأيه وبمنطق الذئب دون اقتناع، فإني لا أملك معه غير التسليم فقد علمت منه يومًا- في سقطة لسان –أن من الشروط التي ارتضاها من ذهب بي إليهم أن يقتلوني رميًا بالرصاص، ويتركوا جثتي طعاماً لجوارح الطير، إذا صرت يوما ما مصدر خطر عليهم في أي صورة دونما حاجة إلى إخطاري قبل القتل وهكذا فسرت لي الأيام تلك العبارة التي فاه بها محمود في همسه مع الشيخ صبيحة حضوري فسمعتها وخشيتها، صحيح أن الشيخ ألغى تمسكه بهذا الشرط كما قال وقبلني –بعيوبي كلها- لاجئًا في وضع خاص ولكني كنت أخشى دائمًا تنفيذ هذا الشرط يومًا وإن حرصت على إخفاء هذه الخشية، خاصة بعد موت الشيخ وانفراد أولاده بأمري، وكان ثباتي في مواجهة الأبناء بما يخالف آراءهم مبعث أمن لي. وموجب تسليم من جانبهم بما أريد ما دمت لا أؤذيهم في شيء أما الشيخ نفسه فاعترف أني لم أجرؤ على مخالفته، وكنت أعجز أمام منطق ذئابه.

كنت أبيت ليلة بمنزل الشيخ، فمرضت مرضًا اشتد بي حتى رأيت الموت يكاد أن يختطفني من بين القوم ونقل النبأ إلى الشيخ فقال ببساطة: أعطوه قطعة أفيون مذابة في قليل من الشاي ... وقيل لي ما أمر به الشيخ فرفضت وجاءني الشيخ بنفسه ليقول لي:

- اسمع يا ابني.... إذا كنت فيما مضى تتردد على الطبيب حين تشكو ألمًا فإنك اليوم لن ترى الطبيب أبداً فقد قلت لك مرارا ولا أدري متى تفهم أنك كالذئب تماما والذئب مرض لا يذهب إلى الطبيب إنه يبرأ من مرضه بما يأكل أو يموت بعلته.

- ولكن لا يأكل أفيونًا ليبرأ من مرضه.

- لو عرف الذئب الأفيون لاستعمله.... ولكنه لايعرفه.

- ولو عرف الذئب الطبيب لذهب إليه.

- لا... فالذئب لا يأمن إنسانًا ولو كان طبيبًا.

وتجمعت على الخشبية من المناقشة، وشدة الألم واليأس من الشفاء، فأخذت قطعة أفيون كما أشار فسكن ألمي ثم تكفلت حياة الصحراء بذهاب هذا المرض عني بقسوتها وجفافها وقلة الطعام فيها.

وأردت يومًا أن أذهب مع أولاده إلى السوق لأشتري ثوبًا يناسبني مقاسه، فانفجر ضاحكًا وهو يقول: منذ متى يذهب الذئب إلى السوق....؟

إنها علامة من علامات القيامة عندنا.. ولم يفت زوجته أو أرملته أن تردد على هذا القول بعد عام حين استطعت أن أذهب إلى السوق، وأن أعمل فيه لأكسب قوتي.

وطلبت ذات يوم ورقًا وقلمًا مما كان «بدر» قد أرسله لي وحبسه الشيخ عني فقال لي:

- ما حاجتك إلى القلم والورق.. هل ستذهب ثانية إلى المدرسة؟

- لا... ولكني أضيق بالوقت والوحدة في الصحراء.. فلا أقل من أن أشغل نفسي بالكتابة.

- اشغل نفسك بالتعرف على ما حولك، وبتنظيف سلاحك وإعداده دائمًا لتدفع عن نفسك الأذى.

- أنا أفعل كل هذا ... ولكن الأيام أطول من أن أقضيها في هذه الأمور وحدها.

- إن الكتابة وما يصاحبها من التفكير وتركيز النظر مشغلة تلهيك عن الحذر، أما رأيت الذئب لا يأبه بورق ولا قلم؟

- حرام يا شيخ أحمد أن تحسبني ذئبًا في يوم وليلة.. أنا إنسان لا أستطيع أن ألتزم دائما بمنطق وحش.

- لقد اخترت حريتك يا بني ولا حرية اليوم إلا للذئاب...

وهكذا ظل منطق الذئب يطاردني ما عاش الشيخ، فبقيت طوال حياته خلقًا مسموخًا، لا أنا إنسان يعيش حياة الإنسان ولا أنا مستطيع أن أنقلب ذئبا، ولكني مع ذلك اتبعت من منطق الذئاب ما استطعت اتباعه، فأنا لا أقضي يومين في مكان واحد، وأنا لا أستغرق في نوم... وأنا لا أأمن على نفسي في مكان أحس فيه أمناً لقد ظل الشيخ يرن في أذني دومًا«منين ما تأمن خاف» أي حيث تشعر بالأمن لا تبقى، واعلم أن الأمن أول مراحل الخطر لمثلك، لأن الأمن موجب للغفلة فعليك الخوف دائمًا لأنه موجب للحذر، والحذر سلاحك الوحيد كالذئب تماما لولا حذره لبالغ، لا نقرضت سلالته من زمن بعيد، فالإنسان والحيوان كلاهما حريص على قتله، ولكن الحذر في الصحراء الواسعة المجهولة لي كان أمراً شاقًا.

زارني الشيخ مرة واحدة في مكمني بالصحراء زارني ليطمئن على مقامي وعلى صلاحية المكان الذي أقيم فيه، وعلى أسلوب حياتي، وليزودني من علمه الوافر عن حياة الصحراء وسلوك المجرمين الهاربين، وليلقنني مزيدا من فلسفة الذئاب التي يصر أن أكون لها قريبا ما دمت للدولة خصمًا وما دمت حريصًا على حريتي.

كان ذلك عصر يوم، كنت أجلس وحدي غارقًا في تأملات، لا انتظر زيارة أحد حين ناداني من القمة القائمة جنوب مكمني صوت عرفت فيه صوت الشيخ أحمد فقمت إليه مرحبًا فعاتبني أن ألقاه بغير سلاحي في يدي، سلاحي هو روحي على حد قوله، ولا يجوز لأحد أن يغفل عن روحه لحظة على أن أ؛مل السلاح دائماً في سيري وجلوسي وطعامي وصلاتي بل وفي نومي أنام والسلاح بين يدي ولا أغفل عنه، فإذا كان النوم في ذاته غفلة فلأترك النوم نهائيًا إن لم أستطع أن أصحو منه كل بضع دقائق، لأطمئن إلى ما حولي وإلة وجود سلاحي بين يدي...

وقد جاء الشيخ إلى مكمني دون دليل يرشده، اكتفى بأن ذكر له فرحات أين أنا... تماما كما تذكر لواحد منا عنوانًا في مدينة فتحدده باسم الشارع ورقم المبنى، فهم هكذا يتصورون الصحراء ودروبها ووديانها وهضابها، إنهم يحددون سيرهم فيها تبعا لأسماء أطلقوها على كل درب ومنعطف وواد وجبل، وهي في عيني كلها سواء لو تركت بينها لما استطعت أن أحدد أين أنا، وقد جربت ذلك مرة إذ كنت بالوادي في زيارة الشيخ وأهله وعدت مع الغروب إلى الصحراء ولاحظت منذ أول الطريق أن فرحات وكان رفيقي في الرحلة يشكو ألما بساقه لا أدري إن كان ألمًا حقيقًا أم عذرًا ادعاه لأنه على موعد مع زملائه ليذهبوا إلى سرقة، وأعفيت رفيقي من مواصلة الرحلة معي، واكتفيت منه بأن يرشدني إلى أول درب أسلكه لصعود الجبل فإن صعدت فأنا كفيل أن أتم الطريق وحدي، وحملت عنه ما كان يحمل لي من طعام وسرت صاعدا القمة وما أن بلغتها حتى عرفت أني صعدت من غير الدرب الذي أسلكه عادة وكانت السحب المتكاثفة تحجب القمر والنجوم فلم أر أمامي غير ظلام وصخور ودروب بيضاء عديدة كل منها يؤدي إلى مكان ولا أدري أنا أيها أسلك ورحت أستجمع ما في ذهني عن معالم الطريق، وأضرب في كل درب مرة ثم أعود حتى انتصف الليل وأنا في الصحراء تائه لا أدري كيف أعود إلى مكاني وأعياني البحث، فألقيت ما أحمله ونمت حيث أنا أو رقدت إعياء ولم يغمض جفني حتى كان الصباح وما إن ظهر نور الصباح حتى وجدتني غير بعيد عن مكمني، ولكن تشابه المناظر أمامي أفقدني القدرة على الاهتداء.

إن الصحراء كالمحيط يحتاج مرتادها إلى «بوصلة» يحدد بها وجهته، ومع ذلك فإن هؤلاء القوم يسيرون فيها كما نسير نن في الطرقات ذات العلامات المحددة للاتجاه.

والشيخ حريصًا على أن يجعلني خبيرًا بالصحراء خبرته هو بها وهي منبته ومسرح شبابه وأنا عنها غريب أقف أمامها خائفًا خوف من لا يعرف السباحة أمام المحيط، مساحات شاسعة من الصحراء القاحلة الصفراء تحرك الرياح رمالها فتغير معالمها كل بضعة أيام وجبال راسخة متشابهة لا أميز بينها فكلها قاتم ثابت أسمع منه ترجيع الصوت وصفير الريح، ونعيق الغراب، فإن أقبل الليل تصيح البوم أحيانًا وتعوي الذئاب دائمًا.

ولكن الرجل حريص على أن يلقنني عن الصحراء دروسًا.

لقد قضي معي ليلتين لم ينم خلالهما لحظة ونام في النهار ساعة وبقيت أنا الليلتين ساهرًا في صمت أرقبه فأعيتني مراقبته وما أعيته هو مراقبة المكان كله.

فهذا خطو ذئب على بعد مائة متر.. وهذا عدو ضبع بعيد.. وهذا ثعلب يخطو قريبًا منا، وهذا جناح طائر اسمه كذا وذلك مقذوف ناري يطلق في بلدة تبعد عنا كثيرًا... ذاك مقذوف أصاب، وذاك مقذوف أطلق في الهواء، كل هذا وأنا أسمع معه، ولا ترى عيني شيئًا، ولا أدري كيف استطاع أن يحدد هذه الأصوات ومبعثها ومكانها وطبيعتها.

ورحنا في النهار نجوس خلال الوديان ونصعد الجبال لأعرف كل ما ولي على مسيرة ساعتين بخطوه السريع الواسع في كل اتجاه، هذا ما أرادة الشيخ وليس لي أن أعصي، وكانت دروسًا عملية قاسية في الحذر وفي قص الأثر ومعرفة آثار الحيوان والإنسان، كيف يكون أثر قدم رجل يحمل أثقالاً، وكيف يكون إذا سار متخففًا لا يحمل شيئًا... إذا كان يعدو، وإذا سار متمهلاً وهذا انطباع قدم ذئب وهذا لثعلب وهذا لكلب، أما هذا فلضبع يهجم على فريسته، وهنا كان ثعبان يسير ولعل جحره غير بعيد، وهذا أثر حية سامة من النوع الذي يدفن نفسه في الرمال فعلينا أن نحذرها ... كم كان عسيرًا علي أن أميز بني ما أسماه أثر فأر وما أسماه أثر عقرب، فقد خيل إلي أن الخطوط التي أمامي على الرمل سواء ومع ذلك فعلي أن أبحث عن فارق بينهما لأحذر واحد ولا أهتم بالآخر، وجاء دور الدروس في البراز وفي الفارق بين براز الإنسان والحيوان، بل وكل حيوان على حدة من أنواع الحيوانات المختلفة يجب أن نحدده من شكل برازه الجاف، وكان كل ما لقينا في نظري غير الخبير- شيئًا متشابها جافا –لا يمكن أن يدل على أصله.

ووقف الشيخ فجأة لأنه رأى على الأرض ما لم ألاحظه أنا لقد رأى ما وصفة بأنه خطو ضبع قد شبع فهو يسير آمنًا إلى مخبئه، واستدل من ذلك الأمر الذي لم أفهمه أن بالقرب من مضبعه أي مكمن ضبع يعيش فيه مع صغاره، وأصر إلا أن نتعقب الأثر لنصل إلى المضبعة نكشف عن أبنائها، وعبثا حاولت أن أثنيه عن عزمه فمالنا نحن واللضباع الضاربة في الصحراء ما دامت بعيدة عن مأواي بعد الريف عني، ولكن الرجل يصر، وأنا أسير خلفهن وقد أرهقني طول السير، وتجمدت ساقاي من ضرب ريح الشتاء البارد فيها إذ كشفت عنهما حين شمرت جلبابي كي لا أتعثر فيه أثناء سيري، والبندقية وما معها من ذخيرة وافرة قد خلعت كتفي.

وسرنا ساعة أخرى، نستقيم في سيرنا إذا استقام الأثر الذي نقصه، وننعطف معه إذا انعطف، والرجل ينظر في الأرض حتى لا يضل عن الأثر الذي يتبعه، ولم يعفه حرصه على الأثر من الالتفات حوله حتى لا يتعرض لخطر آخر.

وسرت أنا وراءه أجر ساقي جرا ولا أتبين أثر ولا ألتفت إلى خطر .. وأخيرًا وقد كاد حذائي أن يتمزق وما تمزقت قدم الشيخ العارية، وقد كدت أسقط منه إعياءا وأنا في سن أولاده وصلنا المضبعة، واقترب منها الشيخ حذرًا وسلاحه في يده، وأوصاني أن أقف غير بعيد على استعداد أن أطلق النار وحمدت الله فقد كانت المضبعة خالية هجرها الضبع وصغاره ولم نجد بداخلها غير آثارهم التي تدل عليهم.

وعدنا إلى مأوي بعد هذه الرحلة الطويلة التي استغرقت نهارًا بأكمله، عدنا منهوكي القوى أو أنا الذي عدت كذلك أما هو فقد عاد نشيطًا أكثر مما كان دائمًا، وكأن هذه الرحلة التي أرهقتني جددت شبابه بما كان فيها من مشقة فردت إليه نشاطه وحيويته، وبعد العشاء كنت في حالة لا علاج لها إلا أن أنام ولكن الرجل عنده بقية من حديث يريد أن يقولها قبل أن يغادرني في الصباح إلى بيته أو قبل أن يغادر الدنيا كلها ويتركني وحدي... فقد مات بعد ذلك ولم أره ير مرة واحدة كان مشغولا فيها بأن أترك القطر عن طريق حاول أن ينظمه.

صدرت أحكام الإعدام بالجملة على زملائي، وتوالت عينا أنباء من قتلوا أثناء القبض عليهم أو بالتعذيب داخل السجن ... والكثير يخشى أن يجييء دوري لم يخف على الشيخ أحمد شيئًا من الأحكام التي صدرت أو الأنباء التي جاءت، بل إنها حفزته إلى التفكير الجدي في محاولة إخراجي من مصر بعد أن تعلق كل منا بالأخر وتغيرت نظرته إلي .. خرجت نظرته إلي عن كوني مجرد هارب لجأ إليه يأويه ويحميه إلى رمز لفكرة.. فكرة الحرية ومقاومة الطغيان، فشعر أن عليه واجباً أن يحافظ على هذا التطور في التفكير حدث أسرع مما كان يمكن لخيال أن يتصوره لو تصورت حصوله يومًا...

كان للشيخ صديق قديم يعيش بالقرب من حدود السودان، وكان يعمل في تهريب الناس والبضائع والماشية عبر الحدود، وبرغم انقطاع الصلة بين ذلك المهرب وبين الشيخ منذ وقت طويل فقد رأى أن نسافر إليه لعله مستطيع تهريبي إلى السودان، وكانت الخطة المتفق عليها أن يتولى المهرب إخراجنا –الشيخ أحمد وأنا- إلى السودان بحجة أننا سنعود ببعض الجمال يتولى هو إدخالها لنا في العودة، ثم أتخلف أنا هناك بالسودان ويعود الشيخ أحمد إلى مصر.

وفي مقهى صغير يطل على النيل جلسنا نتفاهم مع المهرب النوبي الطويل القامة المتوثب النظرات الذي يكسو جسمه الأبنوسي ويحيط شعره الأكرت بأقمشة ناصعة البياض، وكان رجل هادئًا يتكلم همسا فقد علمته مهنة التهريب خفض الصوت وهدوء الطبع.

وقبل الرجل بترحيب أن يقوم بالتهريب هابًا وإيابًا فهذه مهنته التي يعيش منها وانتقل بنا فورًا إلى الحديث عن أتعابه، فقال إنه يتقاضى عشرة جنيهات عن تهريب الشخص العادي عن طريق النيل فإذا كان المراد تهريبه من الإخوان الذين يبحث عنهم الحكومة فإنه يتقاضى مائه لينقل الشخص عبر الصحراء، هذا سعر عام بالنسبة للإخوان، إلا أن يكونا أحد شخصين خطرين فإن الأتعاب المقررة للواحد منهما ألف جنيه، وذكر اسم الشخصين ذوي السعر الغالي فإذا أنا واحد منهما والآخر هو زميلي اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف، وختم النوبي الهادئ حديثه موجهًا الكلام إلى الشيخ وهو يرقبني بنظرته المتوثبة المرتابة:

- أما عنك يا شيخ أحمد فإني أعرفك... أما عن زميلك الآخر، فأنت المسؤول عنه، ولن تخدعني فيه لتنال سعرًا مخفضًا، أنا لا أعرف شخصية واحد من أصحاب السعر الغالي ولكنك لن تخدعني، فلكل شخص أتعابه وطرق حمايته أثناء النقل.

- وجاهدت لأمنع اضطرابي، أما الشيخ أحمد فأجاب هادئًا:

- لك العهد مني أن لا أخدعك، وسنقابلك في المساء لندبر الأمر كله.

ودفع النوبي الهادئ ثمن ما شربنا من شاي، وانصرف عنا، فقمنا لنجلس في مقهى آخر، حصينا كل ما أملك من مال وما يملك الشيخ فإذا بالمبلغ المطلوب لتهريبي يبلغ أضعاف ما معنا، وحرت كيف نفعل، فالهرب النوبي سيفهم أننا عدلنا عن الصفقة، ولكن الشيخ أحمد لم يعر هذا الأمر اهتمامًا.

ولم نقابل النوبي في المساء، بل عندنا إلى بيت الشيخ، وقد سد أمامي الباب الأخير للهرب من مصر.

وبدأ الشيخ الذي لا يضيع وقتا يفكر أن أترك الصحراء لأني في غفلتي الزائدة –لا أصلح لحياتها في رأيه فقرر أن نسير في الريف معًا هائمين على وجوهنا، أمثل أنا دور الدرويش، ويمثل هو دور تابعي وخادمي حتى يأذن الله لنا بفرج جديد.. وكان السير في البلاد يقتضينا دابة تحمل عليها أنفسنا وزادنا فعدت أنا إلى الصحراء لأرجع بعد أسبوع، وسافر الشيخ ليشتري جملا وجاء الجمل وحده، ومات الشيخ في الطريق .. مات دون مرض أو شكوى.

لقد بقيت طويلا أعجب لهذا المهرب النوبي الذي يتاجر في الناس وأسرار الناس ومع ذلك لم يبلغ أن لدي الشيخ أحمد شخص يشتبه فيه وكان مستطيعًا بذلك أن يكسب على الأقل المكافأة المقررة لمن يقبض علي ومع ذلك لم يفعل بل الأعجب من ذلك أنه ظل يعلم أين أنا، ويسأل أولاد الشيخ كلما لقيهم بعد وفاة أبيهم عن أخبار «ضيفهم» والأولاد يجيبون أني بخير، حتى ضاقوا بسؤاله، وكنت قد تركت بلدهم إلى بلد آخر فأبلغوا أني رجلت إلى حيث لا يعلمون، ما الذي عاق هذا المهرب عن الإبلاغ عني...؟

إن الاستناد إلى الشرف وسر المهنة وما إليهما أمر عسير الهضم في مثل هذه المهنة، ترى هل صدق الشيخ أحمد –حين أبديت له خشيتي من الرجل لما عدلنا عن السفر معه –قال: «لن يبلغ عنا.. فالذئاب لا تأكل بعضها بعضًا..»

مات الشيخ أحمد فجأة وأنا بالصحراء، ولم يترك عند أهله غير وصية واحدة: أن لا يفرطوا في ضيفه أبدا وورثني أولاد الشيخ دينًا على التركة، وكنت دينًا ثقيلاً أول الأمر.. أرهقني وأرهقهم فاضطررت للبقاء في مأواي بالصحراء عامًا.. عامًا كاملا... عاما ... في حراسة عزرائيل..!!

أنا لم يسبق لي أن رأيت عزرائيل، ولا أصدق أن واحدًا غيري رآه، ولكن صورته في أعصابنا منذ الطفولة أنه خلق قبيح، يحمل منجلة ويطوحه ليحصد أرواح الناس، لم يغير من قبحه في أعماقنا ما قالته لنا الأديان من أنه ملك كريم، فظل قبيحا لأنه يمثل الموت وخطره الداهم والمجهول الذي وراءه. وقد ظل عزرائيل –أو خطر الموت- محيطًا بي طوال إقامتي في الصحراء، كنت أراه في كل شيء كان كل ما حولي يعبر عنه، ويمكن أن ينقله إلي، فأنا في مكان لا حياة فيه... فإذا سعي فيه ذو حياة فإنما سعي حاملا الموت أو مصورًا إياه، فالوحوش والأفاعي والعقارب هي الأحياء في مثل هذا المكان المقفر، وكلها تحمل الموت في طياتها، والبوم والغراب وإن لم يكونا ذوي خطر، فإن نعيقها الكريه ينقل إلى نفسي المرهفة شعور الموت.

عشت مع عزرائيل عامًا كاملا، فكنت أول الأمر أشفق منه على نفسي، ويملأ الشعور به قلبي رعبًا، ثم أنست روحي به حين ألفته بطول الصحبة، حتى شعرت أني في حراسته، لا خوف على منه، بل الخوف والخطر على من يحاول أن يفزعني من هذا المكان الذي طال فيه مقامي، والموت واقف دوني لا يغادر مكانه، كأنه جبل من تلك الجبال أو واد من تلك الوديان.

لم يترك الموت شخصًا يحاول أن يزحزحني عن هذا المكان... حتى الشيخ أحمد، ذلك الرجل الطيب القاسي الذي أواني –أيقنت أن الموت الذي يحرسني هو الذي اختطف روحه لأنه أراد أن يخرجني من هذا المكان لأهيم علي وجهي معه في البلاد... والموت لا يرضي بانتقالي، فأماته....

كان ذلك في يوم من أيام الإثنين، وهو يوم السوق في البلد المجاور، وكان الرجل قد سافر منذ أمس ليشتري جملاً وكنت على موعد معه بأسفل الجبل عند الغروب لنذهب معًا إلى بيته فنقضي ليلة نسير بعدها في البلاد، وكنت ضيقًا بهذا السير في البلاد وبما يعرضني له من لقيا الناس.

ولكن لم يكن لي أن أصر على اعتراضي أو أن أبدي شديد ضيقي، وقبل الغروب بساعة غسلت وجهي ... بما بقي عندي من ماء، وحملت ملابسي وسلاحي، ويممت نحو الوادي لألقي الشيخ وما أن خطوت خطوات قليلة على حذر حتى بدا لي في الأفق شبح شخص يسعى نحوي، فاختبأت وراء صخرة، وجلست صامتًا أرقبه وسلاحي في يدي على استعداد.

واقترب القادم حتى تنبه، إنه فرحات ابن عم الشيخ، يحمل قربة ماء وبعض الخبز وسلاحه، وقمت ألقاه وأعجب من زيارته، وهو لا شك يعلم أني هابط إلى الوادي الآن أما ما معه من ماء وخبز يدل على عدول الشيخ عن نزولي، واستفسرت منه ما الخبر؟ فلم يزد أول الأمر عن أن قال لي: لا داعي للنزول إلى الريف اليوم ولم يدر بخاطري إلا أن حملات التفتيش التي تقوم بها الحكومة قد امتدت إلى هذه القرية النائية, ولكنه أكد لي عدم صحة ظني ... فلم أصدقه.

وجلس قليلاً ثم أبلغني أن الشيخ أحمد قد مات...

سمعت الخبر من فرحات، فما تكلمت بل قمت من مكاني وانتحيت جانبا فصليت لذلك الشيخ الطيب صلاة قصيرة مخلصة, ثم عدت إلى جليسي وقد أيقنت أن الشيخ مات قتيلاً، وأحسست لأول مرة في حياتي أني على استعداد لأن أشارك في الأخذ بثأره، مع أني لا أؤمن بالثأر أسلوبًا، فلعلها دفقة شعور قامت في نفسي ثم هدأت.

- من قتله؟

- لم يقتله أحد... إنما مات ميتة طبيعية.

- أصدقني القول يا فرحات.. فإني تركته منذ سبعة أيام معافى، لا يشكو مرضًا. - أقسم بالله أنه مات ميتة طبيعية، لقد كان عائدًا من سفره اليوم، وإذا به يحس في البلدة المجاورة ألمًا مفاجئًا، فجلس في مقهى كنت أجلس فيه... ومات بيننا بعد دقائق... أقسم لك أن أحدا لم يقتله.

وأراحني أن لا ثأر، ولا مشاركة فيه مني، وبدأت أفكر أين سأذهب أنا، فلا بد لي من ترك العائلة التي مات كبيرها الذي أواني، وعاد فرحات إلى الريف، وتركني ليلاً طويلاً أفكر في مصيري حتى الصباح صحيح أنه وجب على أن أرحل، ولكن إلى أين؟ من يبلغ أصدقائي الذين أطمأنوا إلى الشيخ بهذا النبأ الجديد ليدبروا لي مقامًا آخر؟ صحيح أن موت الشيخ أراحني من السير في البلاد ومخاطره، ولكنه أسلمني إلى حيرة أخرى لا أدري كيف أخرج منها.

وكان الصباح فجاء طفل من أطفال الشيخ يحمل مزيدًا ن الخبز وينقل إلي رسالة من أمه، لم يفهم هو معناها ولم أستطع أنا أن أحدد كل ما هو مقصود منها إنما تقول إنها تعرف من أنا، وهي تستحلفني أن لا أفكر في تركهم حتى ألقاها بعد خمسة عشر يومًا هي أيام الحداد وتقبل العزاء.

وساق القدر مختارًا وثابتًا في اليوم التالي، جاءا يستفسران عما تم في موضوع السفر عن طريق السودان، فوجدوا في بيت الشيخ وضعًا غير عادي، وعلما الخبر وادعيا أنهما جاءا للعزاء، وما دري أحد غير أولاد الشيخ ما وراءهما، وطلبا لقائي، فقابلتهما على حافة الصحراء، واتفقنا على أن أبقي حتى نهاية أيام الحداد والعزاء، كما طلبت أرملة الشيخ، على أن يدبرا لي أثناء ذلك مقامًا آخر. وانقضت أيام الحداد، وهبطت الريف أزور بيت الشيخ وأدخله لأول مرة وقد خلا منه، وقابلتني الزوجة وإذا بها تعلم حقيقة من أنا، إذ أنبأها زوجها قبل سفره الأخير الذي اشترى فيه جملاً، وكأنه يحس أنه يودع الدنيا.

وأصرت المرأة على بقائي، واستأذنني أن تبلغ أبنها حامد بشخصيتي لأنها اختارته بتوجيه أحلامها ليتولى أمري بعد أبيه، وجاء ثابت لينقلني وقد نظم لي مكانًا، مؤقتًا، ولكنه عدل حين رأى إصرار المرأة وصدقها في طلب بقائي، فالوضع الحالي آمن لي من الوضع الذي نظمه لأنتقل إليه، وكنت قد بدأت أألف حياة الوحدة في الصحراء فعدت إليها لأبقي فيها وما علمت أن الموت اختطف الشيخ أحمد كي لا ينقلني من هذا المكان بالصحراء الذي ربطني به القدر وأصر أن أرتبط به شهورًا أخرى.

بقيت في الصحراء الجرداء القاحلة التي لا حياة فيها –رزق يعرفه بعض الناس، ويسعون إليه، ويجدون مشقته أهون على نفوسهم من السرقة وهؤلاء من القلة في البلدة الذين لا يتخذون السرقة مهنة يكسبون منها ففي الصحراء ملح وشيح وروث خفاش يتخذونه سمادا وفيها نوع من المخدرات يزرع حول العيون القليلة الموغلة في البعد فتكون بمأمن عن عيون البوليس التي تبحث عن المخدرات في الوادي.

والذاهبون لجلب هذا الرزق يسمونهم «الرحل» لأنهم يرحلون بداوبهم في الصحراء أيامًا ذاهبين ومعهم زادهم وماؤهم، وكان الدرب الذي اختبئ في أحد مخابئه خاليًا من كل رزق من هذا النوع, ولذلك اختاره لي فرحات على يسر الوصول إليه لأكون بمأمن من ارتياد الناس إياه.

و «سليمان» وابنه من رواد الصحراء الباحثين عن الرزق فيها. إذ كبر سن سليمان فهجر السرقة وكان قد لقي فيها من العناء ما جعله حريصًا على أن يجنب ابنه اتخاذها عملاً فدربه على ارتياد الصحراء وحببها إليه حتى أصبح من بين شباب القرية لا تخفى عليه في الصحراء خافية، يعرف فيها كل درب وكل منحنى وكل موطن رزق، وكل واد ينبت فيه الشيح، وكل قمة تخفي الملحن وكل مغارة يأوي إليها الخفاش، وكل عين بعيدة يسير إليها طالبها أيامًا ليقتطف من جوارها ما سبق أن زرع من مخدرات.

وكان سليمان لا يعتبر الصحراء مجرد مكان لعمله، بل كان يعشقها، فاتخذها متنزهًا يتنزه فيه ليروح عن نفسه إذا ضاق بالريف، فإذا كان غير يجد في الحدائق والحقول راحة نفس تبعثها صورها الحية الخضراء، فإنه كان يجد في القفار الصامته الميتة نفس الراحة وأكثر كان إذا تحدث عن الصحراء طفح البشر من وجهه، ولذلك فإن الناس لا تعجب إذا رأته حاملاً سلاحه متوجهًا إلى الصحراء مع قليل من ماء وزاد ليقضي يومًا أو أيامًا.... يعود بعدها بغزال اصطاده أو بلا شيء إن هي إلا نزهة قام بها فروح عن نفسه ثم عاد وقد يعرض له في هذه النزهة أن يكتشف عينا جديدة أو مغارة لم يكتشفها أحد قبله، وفي هذا له رزق مضمون أن يعود إليها بعد ذلك مع ابنه وشركائهم ليأخذوا ما فيها.

وخرج سليمان يومًا يتنزه في الصحراء كعادته، ولعله كان ساهيًا حين ساقته قدماه إلى ذلك الدرب الذي لا رزق فيه، والذي أختبئ في أحد مخابئه، وكان يسير حذرا لا يسمع له خطو كما علمته الأيام أن يفعل، فلم أفطن له ولم أشعر به... ولم يسر طويلاً حتى رأي مغارة ورأي الخفاش راقدًا فيها .. وجس المدخل بعصا فتساقط روث الخفاش غزيرًا، وأيقن الرجل أنه وقع على كنز ادخرته له الأيام حين كبر سنه إذا ها هو يجد في أيسر الدروب وأقربها رزقا هينًا سهلاً، وقطع سليمان نزهته وعاد فرحًا وجد، فأسر إلى ابنه بما اكتشف من ثروة، وتواعدا مع شركائهما ليذهبوا صبيحة اليوم التالي بزادهم ومائهم ليبقوا بجوار المغارة أيام يستخرجون ما فيها.

وكانت هذه المغارة التي عثر عليها سليمان لا تبعد عن مكمني إلا مائتي متر، تفصل بيني وبينها ربوة صغيرة لو اعتلاها لرآني، لكنه لم يعتلها إذ عاد فرحًا بما وجد وكم علوتها أنا وكم ذهبت إلى تلك المغارة أجلس بجوارها وما تصورت يوما أن ستكون مبعث خطر علي إذ قد يعرف الناس بسببها مكاني.

وفي اليوم التالي كنت أسمع حين تهب الريح من ناحية الربوة الصغيرة غرب مكمني أصوات قوم يتحدثون ويتنادون ويضحكون، وكان هذا جديرا أن يزعجني ويدفعني إلأى البحث عن مصدر الصوت.. ولكني لم أفعل فقد ألفت أسمع أصواتًا لا أعرف مصدرها حتى كدت أؤمن بأن للأرواح صوتًا تشاركنا به حيث تعيش، وإذا كانت المدينة بضوضائها تحجب عنا أصوات تلك الأرواح فإن الصحراء بسكونها الشامل جديرة بأن تترك لنا فرصة سماعها.

وانقضى يوم وجاء آخر، وزادت الأصوات وعلت واختلطب بها أصوات حيوانات، وكثر التنادي وانقلب الضحك عويلاً، أصوات نساء ورجال وحيوانات تنبعث بوضوح من وراء هذه الربوة الصغيرة التي لم أعلها منذ أيام بعد أن ألفت المكان وصرت قليل التجوال، وحملت سلاحي في يدي وارتقيت الربوة بحذر كي لا أزعج الأرواح بخطو قدمي.. وما أن أشرفت على أعلاها حتى رأيت عجبًا، رأيت عشرات الرجال والنساء وعشرات الدواب تحمل قرب الماء وعشرات الأطفال والكل محيط بتلك المغارة التي أعرفها والنساء تبكي وكذبت نظري وفركت عيني، ولكني صاح وما أرى أمامي حقيقة لا مجال للشك فيها.. وعدت برقق إلى مكمني فجمعت أوراقي المتناثرة أخفيتها في أماكن أمينة لا تراها عين من يرتقي الربوة القريبة, وذهبت بسلاحي شرق مأواي ودرت حول القمة الجنوبية, واختبأت أنتظر ما ستأتي به الساعات القادمة والدقائق... فأنا لا أفهم سبب هذا الجمع ... وهذا البكاء وتلك الدواب وما تحمل من قرب الماء.

وظهر بعد حين شبح إنسان يدور حول القمة الجنوبية ويتلفت .. واقترب إنه فرحات مرة أخرى، فقمت ألقاه وأعلم منه الأخبار وأهبط إلى الريف يومين إلى أن ينفض هذا الجمع ثم أعود إلى الصحراء. حين انتهى سليمان وزملائه من استخراج ما استخرجوه في اليوم الأول من جوف المغارة من روث الخفاش، باتوا ليلتهم عند بابها غير بعيدين مني، ولما أصبح الصباح عاودوا عملهم، ودخول هذه المغارات له طريقة خاصة إذ يبقى واحدا على الأقل خارجها، ويدخل الباقون يحمل كل واحد منهم مصباحًا وقضيب حديد وجوالا، وينتشرون في طرقها المختلفة، فيضيء الواحد منهم لنفسه المصباح ويكسر أكوام الروث بقضيب الحديد، ويملأ الجوال .. ثم يخرج وهو لا يدخل المغارة طليقًا، بل لا بد أن يربط من وسطه بحبل طويل، يبقى طرفه خارج المغارة في يد الجالس هناك ينتظر حتى إذا انتهى من في المغارة من ملء جواله تعقب الحبل المربوط في وسط ليدله على طريق الخروج وإلا ظل في متاهات المغارة التي تمتد في جوف الجبل مسافات طويلة يتوه الخبير في منحنياتها وظلمتها.

ودخل خمسة رجال، وبقي خارج المغارة الرجل الكبير –سليمان وطفل صغير –أبو عليه الدخول لكثرة الآبار في الدروب المظلمة, فخافوا عليه أن تنزلق قدمه في إحداها، بقي الرجل والطفل صباح اليوم الثاني يمسكان أطراف الحبال وينتظرون أوبة الرجال بالرزق الوفير...

وفجأة سمعا صوت سقوط وضوضاء بالداخل، وعلا غبار كثيف كريه الرائحة يخرج من فوهة المغارة, وانقضت دقائق.. ثم هدأ الغبار .. ونادى الرجل والطفل رفقهم فلم سمعا جوابا وجذبا أطراف الحبال فلم تنجذب، وأيقن الرجل أن شيئًا غير عادي قد حدث، فأرسل الطفل ينبئ أهل القرية ويطلب عونًا، فجاؤوا عشرات الرجال والنساء والأطفال بدوابهم وقرب الماء يحاولون أن يخرجوا من جوف المغارة من كانوا منذ حين أحياء يضربون فيها ولكن المغارة سدت طرقاتها على بعد بضعة أمتار من بابها ولا سبيل إلى العثور على الرجال الخمسة الذين دخلوا في الصباح... ولا على جثثهم.

وفهمت أنا، أن جانبًا من المغارة قد انهار، فسد على من فيها منافذ الخروج وبقوا بداخلها ليموتوا.. إن لم يكن قد ماتوا تحت الجرف المنهار.

أما الناس في القرية فقد راحوا يقصون الأساطير عما حدث داخل المغارة وخارجها وانطلق الخيال الخصب الساذج يصور صورا عن جن تسكن المغارة وشياطين تهيم في الدروب المؤدي إليها.. وهكذا خشي الناس ذلك الدرب الذي يؤدي إلى الموت وأزداد أمني نتيجة لهذا الخوف ولكن أمني هذا كلف الموت أن يحصد خمسة رجال.

كان للشيخ أحمد ابن عم آخر اسمه إبراهيم، ولم يكونا على وفاق، ولكن الأمور كانت تسير بينهما دون خلاف ظاهر، لأن الكل يرهب الشيخ ولا يجسر على معالنته العداء، كان إبراهيم قصير القامة نحيل الجسم، واسع العينين حاد الطبع. وكان طامعًا أن يرتفع اسمه فوق كل اسم في البلدة وكان يعمل لصًا وليس هذا العمل بمستغرب فقد قمت يوما بإحصاء في البلدة فأسفر على أن ثلاثة وتسعين في المائة من أفرادها القادرين على العمل يتخذون من السرقة عملهم الأصيل الذي يكسبون منه رزقهم.

ومات الشيخ أحمد، وزال من القرية اسم من أسمائها التي عجز إبراهيم عن الارتفاع إلى مرتبته، وورث أولاد الشيخ –فيما ورثوا- حراسة أبيهم الواسعة، ولم يكن لهم اسمه المرهوب، فاضطروا أن يسيروا خلال الأرض المكلفين بحراستها أكثر الليل، يحرسونها حقيقة لا حكما وطمع إبراهيم في أن يكون له نصيب في هذه الحراسة العريضة المربحة، إذ ليس اليوم أقدر منه على حمايتها فتحدث إلى أولاد الشيخ عسى أن يشاركهم فيها –تواضعا منه فأبوا، وطلب من أصحاب الأرض وهم أصل بلاد مجاورة أن يحلوه في بعض الأرض حارسًا محل أولاد الشيخ فطلبوا منه أن يثبت أحقيته لذلك وكانت أول مراحل الإثبات أن يمر في هذه الأرض ليلا حاملا سلاحه، غير آبه بحراسها، وأن يسرق بعض محصولها لقيم الحجة على أولئك الحراس أنهم أضعف منه وأقل خطرًا.

ولم تطق أرملة الشيخ وأولاده صبرًا على ذلك فخرج حامد وعليان إلى الرجل المعتدي على حراستهم، فجردوه من سلاحه، وأوسعوه ضربًا شديدًا أقعده في المستشفى أيامًا وكانت أزمة، وكان تحقيق البوليس لا قيمة له لأن المجني عليه لم يتهم أحدا، فهو يحتفظ بحقه في الثأر، وكان تحقيق عائلي لم يسفر عن شيء، فقد أيقن الجميع أن حامد ابن الشيخ أحمد ينوي أن يرث أباه في اسمه ومكانته وإن كان لا يزال يافعًا، فترك الناس الأمر معلقًا لكل من حامد وإبراهيم أن يتنافسا ليثبت أحدهما أحقيته في المكانة والحراسة والغلبة بع ذلك لمن تخلص من منافسه، وكنت أنا أول المعرضين ليكونوا ضحية هذه المنافسة. كانت قد شاعت في القرية شائعة –لم أعلم كيف شاعت- بأن الشيخ أحمد يأوي واحدًا من أعداء الحكومة السياسيين وكانت الشائعة تسري همسًا، فالكل يخشى جانب الرجل ومات الرجل القوي المرهوب فسكنت الشائعة حينا رفقًا بأولاده الذين فقدوا ركنا كانوا يستندون إليه ثم شعر الناس بأن حامدا ابنه يحاول أن يرث أباه في اسمه ومكانته، فأثار ذلك غيرة البعض، فعادت الشائعة تدور همسًا.. ثم علانية.

وفي جلسة من جلسات الدكان وهو مقهى القرية ومنتداها سأل سائل من الجالسين حامدًا.

-هل صحيح أنكم تخفون هاربًا من أعداء الحكومة وعبد الناصر ولماذا لم تقل ذلك لنعينك في ذلك بعد وفاة أبيك؟

ولم يلتفت حامد إلى عدوه وقريبه إبراهيم الذي كان يجلس غير بعيد، يلعق آثار جراحه، بل أجاب السائل في هدوء وثبات:

- نعم.... لقد كان أبي رحمه الله يأوي هاربًا من أعداء عبد الناصر أما نحن فلا قدرة لنا على احتمال ذلك وقد أخذه أصحابه بعد موت أبي مباشرة.

- وسكت السائل والمجيب ... وانصرف الجميع إلى حديث آخر فقد كان جواب حامد واضحًا يبدو معقولاً، فهو لم ينكر الواقعة, ولكنه أوقف موجبات استمرارها، وبينما كان القوم يتحدثون في حديث آخر كان إبراهيم يستعيد لنفسه ما سمع، ويبحث في ثناياه عن تدبير يقضي به على حامد وأهله جميعًا.. ليخلوا له الجو.

أحس اللص العريق بحاسته السادسة –وللصوص حاسة أخرى- أن حامد يكذب وأن الطريد الهارب من الدولة لا يزال في حمايتهم فإن مثل حامد بطموحه يأب على نفسه العار الناجم عن رد طريد أواه أبوه، وعلى هذا أيقن إبراهيم أن الطريد لا يزال موجودا، فقرر أن يبحث عنه ويسلمه للحكومة حيًا أو ميتًا، فيلقى بحامد وأهله جميعًا في السجن، ويخلو له بادية في وجهه ويديه، يراها الناس فيرون فيها امتهان كرامته التي لا يردها إلا أشد انتقام، وأنا أول ضحايا هذا الانتقام.

أيقن إبراهيم أن أهل الشيخ لا يمكن أن يبقوني عندهم في البيت فالبيت زواره كثيرون، وفرص تفتيشه كبيرة، وأنهم لا يمكن أن يخفوني في الناس ليلاً ونهاراً إذا لا بد أن يكون هذا الطريد عدو الحكومة الذي هو أنا في الصحراء، فلتكن هذه وجهته في البحث عني وإبراهيم لص عريق، ويدوي من الجيل القديم فهو خبير بالصحراء خبرة الشيخ أحمد، عالم بدروبها ووديانها وهضابها أو مخابئ الناس والحيوان فيها وإبراهيم بطل في إطلاق النار لا يجاري... إنه لا يخطئ الهدف أبدأ، كان الفائز «برأس العجل» دائما في كل عرس يقام في البلدة أو فيما يجاورها من البلاد ذلك أن من أهم ما يقام في الأفراح بتلك البلاد من المباريات هو مباراة الرماية، يضعون هدفًا صغيرًا «طلقة رصاص فارغة» على بعد معين، ويقف المتبارون صفًا، ويحاول كل منهم أن يصيب الهدف برصاصة واحدة من بندقيته، فمن أصابه فله رأس العجل الذي يذبح في العرس وكان يندر أن يصيب الهدف إحدى عشرة مرة بإحدى عشرة رصاصة، وهي كل ما تحويه بندقية، فكان إذا حضر عرسًا ترك له الناس رأس العجل إلا أن يتخلى هو عن المباراة ليفسح المجال للناشئين.

وفي الصحراء القريبة من البلدة ثلاث دروب مشهورة، يفضي كل منها إلى عشرات الدروب الصغيرة ومئات المخابئ لا يخفى واحد منها على إبراهيم وأمثاله، وكنت أختبئ في مخبأ من اليسير الوصول إليه، يفضي إليه أسهل الدروب منالا، ولهذا لم يكن الشيخ أحمد راضيًا عن مقامي فيه قبل موته.

وأقسم إبراهيم لأهل البلدة ليحضرن الطريد الهارب من الصحراء وإن أدى ذلك إلى تعليق أسرة الشيخ أحمد كلها على المشانق.. وعلم حامد بهذا القسم، فجاءني لفوره يقول:

- إن إبراهيم أقسم ليأتين بك.. وإنه على ذلك لقادر، فاحذر لنفسك ولنا.

- كيف أحذر إبراهيم ..وأنا أعلم من هو؟

- أقتله إن بدا علي القمة .. ولا تدعه حتى يمسك سلاحه بيده أو يقترب منك، فإنك لن تستطيع أمامه وقوفا.

- أقتله أنا... لا ..إني ما هربت بحريتي لأقتل الناس، فأنا أبغض القتل أسلوبًا.

- إن لم تقتله فسيقتلك ويقتلنا .. ولعل مثلك ومثلنا أبغض إليك من قتله.

- ابق معي أنت إذا لتقتله بنفسك إن شئت.

- لو بقيت معك فستقل أهلي جميعًا ثم يقتلنا معًا.

- محاولا التهرب ..أخشى أن أقتله فتطالبني بثأره ..فهو ابن عم أبيك.

- لا ... لقد وهبتك دمه!

- وكففت عن المناقشة، وضحكت في أعماقي وأنا أتصور شخصًا يهبني دم إنسان آخر.. كأنما هو يهديني دجاجة أذبحها.

- عاد حامد إلى الريف وقضيت أيامًا لا أستطيع نومًا، ولا أستقر في مكان أكثر من ساعة في ليل ونهار إن خصمًا عنيدًا يطاردني هو أخطر على من الدولة ومن الوحوش، وحسبت أن عزرائيل بدأ يخطئ تطويح منجله، وأنه سيحصد اليوم أو غدًا روحي فيما يحصد من أرواح لقد بدأ إبراهيم حملته للقبض علي حيًا أو ميتًا، وحامد جالس في بيته مكتوف اليد، لا أستطيع أن يفعل شيئًا وإلا اعتبر معتديًا في نظر البلدة، فقد أكد له على مسمع من الناس أنه لا يأوي أحدًا فليس له أن يحتج على البحث عني أو يقوم دونه... ووقفت البلدة تنظر منتظرة النتيجة.

- خرج إبراهيم –علانية- يحمل سلاحه ودخانًا وماء، فسار في أول الدروب وأوعرها نهارًا كاملاً ... وبحث في جميع مخابئها فما وجد أحدًا، وعاد كما بدأ عازمًا أن يعاود البحث غدًا وكان الغد، فسار في الدرب الثاني إلى نهايته، ولم يبق أمامه غير الدرب الثالث الذي أقيم في أسهل مخابئه كشفًا...إنه الدرب الذي تسكنه الجن التي قتلت ابن سليمان وزملائه كما يقول أهل البلدة، ولكن منذ متى يخشى إبراهيم جنا.. غ، موعده مع الجن ..ومعي غدًا.

- عاد إبراهيم في يوم الثاني ليجد في بيته زملاء العمل أفراد عصابة من مديرية أخرى، جاءوا ليشركوا معهم إبراهيم في رحلة سطو لعدة أيام في مديريتهم، وشغل الكسب المرتقب من السرقة إبراهيم عني، فأرجأ الدرب الثالث بضعة أيام، وقرر الذهاب أولاً مع صحابته في رحلة سطوهم، وفي هذه الرحلة أخفى إبراهيم عن زملائه شيئًا، سرقه، فخالف بذلك قواعد السلوك بين المجرمين، فلقي جزاءه المعروف، قتله أحد زملائه وألقى جثته في ترعة.

علمت أرملة الشيخ أحمد بالخبر، فأقسمت أني قديس من أولياء الله وقبلت يدي منذ ذلك اليوم، وعلم حامد بالخبر، فذهب مع أحد أعمامه يبحثون عن جثة قريبهم، وأعانهم مختار وثابت في إحضار الجثة إلى البلدة... فشعر حامد أن أصدقائي قد ردوا جميل إيوائي، وأنه لم يعد له فضل في الإبقاء على عنده، وعلمت بالخبر فشعرت أني مسؤول عن أطفال إبراهيم الذي قتله عزرائيل ليحميني منه، فبذلت كل ما في أستطيع من جهد لأقوم بهذه المسؤولية، ولأرى أطفال إبراهيم وأرملته وإن لم يروني أبدا وكان لإبراهيم ثأر يطالب به حامد الذي سبق أن وهبني دمه مع أولاد عمه الآخرين، وكم تمنى حامد أن يشركني في الأخذ بهذا الثأر لولا إعفاء الشيخ لي من هذا الشرط في سلوك المجرمين.

وتملكني بعد حادث إبراهيم شعور بالأنس إلى عزرائيل، فكنت أقضي نهاري أقرأ وأفكر وأكتب وأرقب الأحداث حولي.. وأركن آخر النهار إلى عزرائيل، ألقي رأسي المكدود على صدره، وأشعر أنه يحنو علي كأخ أو صديق، وبدأت أشعر بشيء من الرضى على مقامي في هذا المكان من الصحراء، فكنت لا أتعجل أيام الذهب إلى الريف كما كنت أفعل سابقًا لقد أقلعت عن الذهاب إلى الريف إلا نادرا، فقضيت في مرة من المرات ستة أشهر لا أغادر الصحراء أبدًا.

وحياة الصحراء جافة جفافها، قاسية قسوة الموت المحلق فيها، ولكني ألفتها بعد أن كنت منها أول الأمر نافرًا ألفتها وألفت مكاني وما جد فيه وما حوله، ألفتها بطول المقام، وبانصرافي عن حياتي العادية، وعن حذري إلى حياة تأمل وذكرى.

كنت أول أمري أعيش متنقلا حذرًا ثم آوي إلى ذلك المستطيل الرملي المنبسط في مجرى السيل الجاف –الذي كنت أسميه بيتي- لأبيت في العراء وبعد وفاة الشيخ كانت لي خيمة صغيرة تقيني بعض برد الليل وبعض ريح العام، وأغلب ما تقذفه تلك الريح علي من عقار وأفاعي وإن لم يكن في بيتي أول الأمر غير قربة ماء وسلة خبز ألقيت بجانب منه ثم ألزمني الحرص عليها وعلى ما فيها أن أعلقها بحبل في فجوة الجبل فلما استقر المقام وجاءتني الخيمة الصغيرة زادت الأيام عليها سلة آخرى وصفيحتين أحفظ فيهما الماء كي أعيد القرب إلى الري فور وصولها، وصندوقا من ورق أضع فيه دخاني ولملابسي وقلمي وأوراقي، وراديو صغير أسمع به القاهرة ليلا بصعوبة، ولا أسرف في استعماله لأكثر من سبب أولها طرف البيت وأحطته بالأحجار حتى لا تعبث بلهبه الريح، وقدرة فول وحلة وزير ماء من الفخار.

ولا أذكر أني وجدت ماء في هذا الزير إلا نادرا صحيح أن الماء فيه يبرد ولكنه يفقد تسعة أعشاره قبل أن يبرد، وأنا أحق من الهواء بهذا القدر الذي يتبخر أرضي أن أشربه ساخنًا، فهذا خير لي من أن يضيع وأموت أنا من العطش، ولذلك لم أكن أضع في الزير ماء إلا إذا فاض من قرب الماء التي تجيء شيئًا بعد ملء الصفائح، فكنت ألقي بالفائض ف الزير، ولا أنال منه إلا شربة أو شربتين وقد يفوز بكل ما فيه دوني فأر أو ثعبان، أجده داخل الزير، فيحرم علي ذلك الماء البارد الذي يعتبر أغلى ما في الصحراء.

كان الماء يأتيني كل أسبوعين، يملأ صفيحتين وقد يفيض منه قليل يذهب في زير الفخار مع الريح وكان علي أن أدبر أمري بهذا القدر أسبوعين، فاغتنيت عن استعمال الماء في أي شيء يستعمل فيه عادة غير الشرب والطهي وعمل الشاي وكان الطعام يأتي من سوق البلدة المجاورة في الغالب، وكان يحضره أحد أطفال الشيخ الصغار بعد أن عرف الطريق ولذ له أن يخاطر ليقضي بضع ساعات ينال فيها أجرًا على ما يشتري لي من أوراق، دون علم أحد من إخوته الكبار، الذين حاولوا أول الأمر منعي من الكتابة كما كان يفعل أبوهم كان جالبو الماء وجالب الطعام هم الأشخاص الوحيدون الذين أتحادث إليهم طوال الشهر، وأي موضوع يمكن أن يكون مدار حديث بيننا..؟

لا شيء إلا السؤال عن الصحة وذكر ما أحتاج من طلبات يحضرونها في المرة القادمة، ثم صمت يؤثرون معه أن ينصرفوا عني إلى الريف عائدين، وهكذا قيل لي بعد وقت أني كدت أفقد المقدرة على النطق، وإن قد زادت مقدرتي على الشعور والاستغراق في التأمل الطويل.

لقد بقيت في الصحراء عامًا كاملاً هيأ لي أن أشاهد تطور الجو على مدار العام وفصول السنة في تلك البقعة من الصحراء بسيطة التقسيم، فهناك الصيف وهو كل نهار طوال العام عدا شهرًا واحدًا... وهناك الشتاء وهو كل ليل طوال العام عدا شهرًا واحدًا.. وهناك الخريف وهو ليل هذا الشهر الذي ليس شتاء، ونهار ذلك الشهر الذي ليس صيفًا. أما الربيع فليس له وجود، فالربيع يعني أزهار تتفتح وأغصانًا تورق وأطيارًا تغرد، وليس في هذه الصحراء أزهار ولا أغصان ولا أطيار إلا إذا اعتبرنا صيح البوم ونعيق الغراب وفحيح الأفاعي تغريدًا وهي أبعد ما تكون عن ذلك.

والصيف في الصحراء صيف حق، فالشمس لا تحتمل بمجرد شروقها، فإذا قربت الظهيرة أصبح الجو كله نارًا تلفح لا يرد أذاه عن الجسم شيء غير الماء يتبرد به الإنسان، والماء غير موجود، فاستغنيت عنه بالظل، وظل الجيل وحده هو الذي يصلح، فظل الخيمة لا غناء فيه، ظل الجبل نادر كأن الشمس كانت تتعقب كل ظل تحدثه فجوة في الجبل لتقضي عليه أسرع وقت.

والشتاء في الصحراء شتاء حق، لا يدفع برده الذي ينفذ إلى العظام غطاء ولا ثوب مهما ثقلا لا علاج له إلا النار نوقدها لتجلب الدفء، وما لي مع النار حيلة، فالشيخ أوصاني أن لا أجلس إلى جوارها لأنها تكشفني للقادم وتعميني عن رؤيته، ولكن البرد حين يشتد كان ينسيني هذه الوصية، فالموت برصاصة قادم هو أمر مشكوك فيه أيسر من الموت متجمدًا في برد الصحراء وهو أمر قائم لا شك فيه.

وإذا كان الحر يدفع بالظل، والبرد يدفع بالنار، فالريح لا سبيل إلى دفعها، إذا جاء شهر مارس وتلاه إبريل وهما أشهر الربيع الحلو المرغوب في الوادي هبت الريح لا تني ولا ترحم، وإذا بالمعالم حولي تغيرت، وبخيمتي البائسة طارت فأعدوا خلفها، وإذا أحكمت تثبيتها في الصخر مزقتها الريح وليت الريح تقلب الأوضاع فحسب ولا تأتيني كل حين بما لا أستطيع له اتقاء من العقارب والثعابين, لقد أصبح مألوفًا أن أسعى إلى ألتمس منها ماء فأجد عليها أو تحتها عقربًا أو أكثر، جاءت تلتمس المكان الرطب حول الماء. أو أن أنقلب في التل الضيق الذي أعرف مكانه ومواعيده فأجد بجواري ثعبانًا جاء هو الآخر يتفيأ الظل كما أفعل أنا، أو أن أصحو من نومي في الصباح فأجد تحت غطائي ثعبانًا آخر جاء يشاركني دفء الغطاء، ولم تكن الثعابين ذات خطر كبير، فحجمها يسمح برؤيتها واتقاء شرها، أما العقارب فلم ينقذني من لدغتها إلى القدر والواقع أني بدأت أسرف في الثقة بالقدر، حتى صرت في آخر أيامي لا أقتل عقربًا ولا ثعبانًا...بل انصرف إلى القراءة القليلة والكتابة أحيانًا والتأمل دائمًا لم أكن في يوم من الأيام ناسكًا معتزلا، ولكني بدأت أفهم بماذا يشعر النساك المعتزلون، وكيف يصبح كل ما في الوجود لا يؤذيهم.

لم تكن حياة الصحراء كلها موتًا محيطًا ومشقة تضيق بها النفس وحرمانًا من كل شيء، بل كان فيها من المتعة الحقة العميقة الشيء الكثير... كان فيها التأمل الطويل وصفاء النفس، وكان فيها أنس الأرواح والأشباح تنادي وتغني وتظهر وتختفي، فيشيع الشعور بها في نفسي رضا عن المكان، ويسلمني إلى ما أحتاج إليه من تأمل لأكتب كم كتبت في هذا المكان من الصحراء.. وقد أحرقت أغلب ما كتبت وأخفيت الباقي هناك..... وأعتقد أن بدرًا أخرج ما أخفيت من مخبئه.

وحديث الأرواح والأشباح حديث جهدت طويلاً أن أخفيه عن الناس حتى لا يظنوا بعقلي الظنون وأنا شخصيًا لا أعرف عن نفسي شفافية الروح كما يقول المتصوفة، ولا أكاد أصدق شيئًا مما سمعت ورأيت ... ولكنه حدث فإن ذكر اليوم هذا الحديث فإنما أروي بعضه كما وقع دون تفسير لأني لا أملك له تفسيرًا.

بدأ دور الأرواح والأشباح في حياتي بعد وصولي الصحراء بأيام قلائل، كان الليل في ديسمبر طويلاً شاقًا بارداً موحشًا، وكنت لا أنام خلاله إلا قليلا، فأنا لم أعتد المكان، ولم أستطع أن آنس إليه بعد، وكري مشغول بوضعي وأهلي وزملائي، كانت ليلة قارسة البرد، كثيرة الريح، تهب ريحها من جهة الوادي إلى الصحراء، وكان الليل لم يتصف بعد، وفي المساء لا أمل أن تمطرني ماء، والظلام محيط لا أكاد أرى يدي إن أخرجتها من تحت الغطاء، وفجأة انبعث صوت يتنادى، وخيل إلى أن أقوامًا تتجمع، ثم أنبعث صوت يتنادى، وخيل إلي أن أقوامًا تتجمع، يجيب أحيانًا، ثم هدأ الصوت وانقطع الترتيل، كل هذا الذي سمعت أمر طبيعي له تفسيره المعقول، فالريح قد نقلت من الوادي حفلا يقام، ولا يحول دون وصول الصوت إلي إن، بيني وبين الريف مسرة ثلاث ساعات ونصف، فالليل في سكونه والريح في هبوبها يمكن أن ينقلا إلى ذلك الصوت البعيد.

ومرت ليلتان، وكانت الريح تهب منذ أول الليل من جهة الصحراء، فبعث صفيرًا في الوديان، وإذا بالصوت يعود، التنادي والتجمع والترتيل وجواب الكورس ثم يهدأ الصوت وينقطع, وحرت أول الأمر ثم قلت لنفسي إن الريح مع السكون والخشية تصور لي نداء وغناء وترتيلاً، وما هو إلا صفير الريح في الوديان وبين الهضاب، تموه على النفس الموحشة أن تسمعها على الصورة التي تدخل إليها الأنس والطمأنينة.

ومرت ليال.. كانت الريح ساكنة لا تهب من شرق ولا غرب، فإذا بالصوت يعود ثالثة، التنادي والتجمع فالترتيل وجواب الكورس ..ثم يضطرب بها عقلي من أثر الوحدة والوحشة والقلق ولكن أصحيح أن عقلي اضطرب..؟ لقد ظل هذا الصوت يزور المكان مرة على الأقل كل أسبوع ويستمر إلى قرب الفجر، ما تخلى عني يومًا، وكنت أجد فيه أنسًا وأترقب أيامه... لقد حفظت عنه كلاما لم أسمعه ولم أقرأه في حياتي إنه حقيقة سمعتها ولا أدري مصدرها.

وهمست بما سمعت للشيخ أحمد قبل وفاته، فقال لي إنها أرواح تهيم في المكان لو طال بي المقام وأفتها فقد أرها أشباحًا تموج.

فلم أناقشه ولم أصدقه ولم أكذبه، وأخفيت ما سمعت عن غيره من الناس وطال بي المقام وألفت أصوات الأرواح وآن لي أن أراها، لقد كنت أرى آخر عهدي بالصحراء أشباحًا تموج عند التنادي، ولكن ملامحها لم تتحدد لي.

في الجبل طير نادر، صغير الجسم، أسمر الريش، نافر الطبع، يحذر الإنسان والحيوان والطير جميعًا، فلا تراه العين إلا وحده بعد، وما أن يظهر كائن ما حتى يطير، ويسميه القوم هناك «ديك الجبل» وقد عرض لي أن رأيت «ديك الجبل» أول مرة وأنا أصعد الجبل حين لجأت إلى الصحراء لكنه طار عنا من بعد بعيد، ومرت شهور على مقامي بالصحراء وإذا بهذا الطير النافر يحوم حول مكمني.. وإذا به يقترب فيلتقط فتات الخبز اليابس ثم يقترب أكثر فيشرب من جردل الماء القريب مني.. ثم يقترب أكثر وأكثر فيقف على كتفي فلم أحرك ساكنًا حتى طار عني، واعتاد هذا الطائر الصغير أن يزورني قبل شروق كل صباح في كل صباح فينقر أذني لأقوم من نومي، فآتيه بالماء وفتات الخبز، فيأكل ويشرب ويقفز قليلاً حولي ثم ينصرف ليعود إلي قبل الغروب، وظل على هذه الحال أكثر من شهر وإنه لمن الطبيعي أن يأنس طائر نافر لإنسان، ولكن لا إلى هذا الحد وبهذه السرعة دون مقدمات، وكانت آنس إليه، ويطيل كل منا النظر إلى الآخر حتى أحس أن الطائر الأبكم يحدثني.

وزارني حامد يومًا، فقلت له: إن ديكًا من ديكة الجبل يحوم حول مكاني ويلتقط فتات الخبز مني، فلم يصدق مع أني لم أقل له كل الحقيقة من أنه يقف على كتفي ويوقظني من نومي، لم يصدق حامد لأن هذا الطائر لا يأمن إنسانًا ولا يركن إليه أبدًا وإذا بديك الجبل يأتي وإذا به يحط على كتفي فأقوم وأحضر له الطعام يأكله من يدي وحامد ينظر إلينا عجبًا أقسم حامد أن ما معنا ليس بطائر، بل هو روح من الأرواح، ولعلها روح أبيه تبدت لي في هيئة طير، ونقل حامد الخبر إلى أمه فزادت اعتقادا أني من القديسين والأولياء، وبدأت عدوي اقتناعها تنتقل إلى أبنائها، فكان من اليسير على بعد ذلك أن أكفهم عن السرقة واتخاذهم موردًا للرزق.

وزادت ثقتي في مشاركة الأرواح والأشباح لي في ذلك المكان حين زارني صوت أخي حسني ذات صباح –الذي توفي بعد ذلك بأعوام- زارني نائما وزارني صاحيًا، ونقل إلي أخبارا وحذرني أمورا، فحرت في أمره ولكن هذا قد حدث وأعجب ما رأيته منه حين خاطبني في يقظتي.

كان ذلك ذات صباح، كان لي في المحيط الذي أقيم فيه مصيفان، أو هكذا أسميتهما، لأني آوي إليهما في الصيف الذي هو كل العام إلا شهرًا فالمصيف الأول وكنت آوي إليه في الصباح بعد أن ينحسر الظل في بيتي، يقوم دون أعلى القمة الجنوبية في فجوة من الجبل، أعددتها ونظفتها لأني لاحظت أن الشمس تحجب عنها ساعتين من نهار، فتحدث شريطًا صغيرًا من ظل يكفيني أن أستظل به وقد يشاركني فيه ثعبان أو أكثر أما المصيف الثاني فكان يبدأ الظل فيه ظهرًا، وكان يبدأ شريطًا ضيقًا ثم يتسع رويدا رويدًا حتى أستطيع أن أتناول فيه غدائي وأشرب شاي العصر، وأبقى إلى قرب الغروب ثم أعود إلى بيتي، ذلك المستطيل الرملي في مجرى السيل أستقبل الغروب وأقضي الليل إلى طلوع الشمس، وكنت على هذا النظام مواظبًا، فالشيخ قد مات، وتركت الذئاب وفلسفتها جانبًا، وعشت حياة عادية رتيبة، لا يشغلني الحذر ومستلزماته عن حياة التأمل التي أحبتها.

كان يوما من أيام شهر يوليو الشديد الحرارة، وكان الماء قد جاء لي منذ أسبوع قربتين من ماء، ففرغت واحدة، وبقيت الأخرى لأستعملها أسبوعًا كاملاً ورأيت القربة أحفظ لبرودة الماء من الصفيحة التي تجعله يغلي فتركت الماء في القربة لعلي أشربه باردًا، وعلقت القربة بفجوة في السيل حتى لا تصل إليها الفئران فتقرضها وتضيع على ماءها هباء.

وقمت من بيتي في الضحى، ونقلت إلى المصيف الثاني أدوات الشاي وطعام الغداء أبقيها هناك كي لا أعود إلى بيتي إلا قبيل الغروب كما أفعل كل يوم ثم حملت سلاحي ومصحفي، وسعيت إلى المصيف الأول في أعلى القمة الجنوبية, واستلقيت هناك على ظهري وسلاحي بين يدي، ورحت أقرأ القرآن كما اعتدت كل صباح وما أن قرأت قليلا من الكثير الذي تعودت أن أقرأه حتى غلبني النعاس فنمت مكاني.. وسقط المصحف على صدري... وتهاوت البندقية بين ذارعي، ورأيت فيما يرى النائم، كأن أخي حسني رحمه الله جاء يزورني وهو واقف أمامي يناديني باسمي ويدعوني أن أقوم من نومي.. واستجبت له، فقمت من نومي ألتمس مصحفي وسلاحي، ولكن الصوت ظل بعد يقظتي يتردد في آذني واضحًا يناديني باسمي الحقيقي الذي كدت أنساه، ويدعوني أن أقوم وعجبت للأمر وظننت أني لا أزال نائماً ونهضت من مرقدي واطمأنت أن لا ثعبان يشاركني مكاني.

نهضت والصوت لا يزال يتردد في سمعي الصاحي هاتفًا «حسن... حسن... قم يا حسن.. قم وانزل قبل أن تنتهي...»كان الصوت ينبعث من القمة فوقي، فأيقنت أن شبحًا يخدعني... وقد يكون عدوا فمن يدري، وارتقيت القمة من جانب من جوانبها ملتزمًا الحذر وسلاحي في يدي مستعدًا للإطلاق وصلت القمة فلم أجد هناك شيئًا إلا الصحراء المترامية والريح تصفر فيها... لا إنسان ولا حيوان ولا طائر يبدو في الأفق، ولكن الصوت ظل يتردد فينادي نفس النداء... ويدعوني نفس الدعوى.. أن اهبط يا حسن قبل أن تنتهي.

لم يعد عندي شك في أني فقدت عقلي فالصوت لا يزال يتردد في سمعي واضحًا وضوح النهار يتردد وأنا واقف على القمة ولكنه يأتي من أسفل حيث كنت منذ لحظات، لقد فقدت عقلي إذا وصار الوهم يصور لي خيالات من أصوات وقد يصور لي قريبا خيالات من مرئيات وجلست مكاني أبكي حالي .. ليتني مت بضربة من منجل عزرائيل التي يضربها حولي .. ليته لم يتركني حتى أفقد عقلي، وظلت دوامة الأسى تدور بنفسي ورأسي حتى تملكني صداع.. والصوت لا يكف فهو يلح في النداء.

هبطت إلى بيتي آسفا حزينًا، ألتمس مسكنا أسكن به صداع رأسي، وما إن وصت بيتي حتى كف الصوت عن النداء، والتفت حولي فإذا قربة الماء المعلقة تتساقط منها قطرات الماء، إن بها ثقبًا، ولو أني بقيت بعيدا عن بيتي كما أفعل كل نهار حتى الغروب لنفذ ما فيها من ماء ولا ماء يأتي قبل أسبوع وهكذا فهمت قول المنادي أن اهبط قبل أن ينتهي.

هل لهذا الأمر تفسيرًا في دنيا المعقولات...؟ لست أدري، ولكنه كان ذا وجود في أيامي في الصحراء .. مع عزرائيل والأشباح والأرواح، وانقضت السنوات وعلمت أن أخي حسني –رحمه الله- كان إلى يوم وفاته يؤكد أني بخير وفي أمن دون دليل عنده على ذلك.

يقولون إن سكان الصحراء والبحار أكثر الناس إيمانا بالغيب والقدر والخوارق، إنهم لذلك كانوا أشد الناس تمسكًا بالتعويذات لتحميهم من قوى الشر. ولعل حياتهم وسط الخطر المحدق من كل جانب هي سبب ذلك وإني لا أصدق هذا القول فأنا ما خاطبت طول حياتي روحا ولا اتخذت تعويذة، ولكني اتخذت لنفسي في الصحراء تعويذة، ما نسيت يوما أن أرددها قبل نومي. فإن حدث ونسيت جافاني النوم حتى أذكرها، وبقيت هذه التعويذة تلازمني بعد أن تركت الصحراء وغيرها.. وهاجرت معي خارج مصر حين هاجرت.

وتوالت الأيام علي في الصحراء حتى كدت أنسى لون الخضرة وجريان الماء وشاقتني رؤية اللون الأخضر وإنبات الحي فزرعت عود نعناع وسقيته بعض ما أشرب حتى نبت وأينع ثم جاءت جرادة فأكلته وجاءت حرباء فأكلت الجرادة.. وحلق صقر في السماء ثم انقض فاختطف الحرباء بل أكلها، وأطلقت أول رصاصة من بندقيتي فأصابت الصقرفسقط ميتًا بين يدي.

وأحسست أني سيد الموقف وأن لا خشية على هنا أبدا ما دام سلاحي في يدي والموت يحميني، فلو أن الجبال ذاتها أرادت أن تنطبق علي لدفعتها بيدي... ولو جردت الدولة على جيوشها لولت هربا أمامي ودخل قلبي الأمن الحقيقي، وامتلأت نفسي اطمئناناً .. فكنت أنام ملئ جفوني، وأترك سلاحي وأسير في الصحراء أنشد شعرًا وأستغرق في التفكير ما شئت لأكتب سطوراً عندئذ تحركت في غريزة الذئب التي غرسها الشيخ في ولا أدرين ورن في سمع أعماقي صوته الهادئ: احذر يا بني حيث تأمن..! فلأقض الصوت مضجعين وحرمت النوم، وإذا غلبني النعاس من الإعياء روعتني الأحلام، وأيقنت أن لا مقام لي هناك، فحملت ما أستطيع من أمتعتي وأدواتي ونزحت عن المكان نزحت إلى الريف أتخذه بعد الصحراء مقامًا لأعيد إلى نفسي الشعور بالخطر وما يوجبه من حذر.

سرت إلى الريف لأواجه حياة أخرى، لها أخطارها، ولكنها أخطار غير تلك التي ألفتها في الصحراء والتي قام الموت فيها دوني يحميني ممن يحاول أن يقترب من مكاني أو يفزعني منه.


سعال مسلول يأخذ بي إلى المدينة

لم يطل مقامي في الصحراء حين لجأت إلهيا في 1 مارس سنة 1956م غير شهرا واحدا، قضيته منقطعًا إلى الكتابة انقطاعاً كاملاً كنت أكتب طوال نهاري.. حتى في الليل، كنت أكتب على ضوء مصباح بترولي صغير (سهراية) ولكن النار كانت مصير أغلب ما كتبت في تلك الأيام ووصلت البقية إلى «بدر» ليقرأها ثم أعادها إلي ليكون بعضها أغلب هذه الكلمات.

عدت إلى المدينة بعد شهر، فوزعت أيامي بين مقام عادي في البلدة التي أعمل بها فلاحًا يزرع أرضًا وبين مقام حبيس في بيت أولاد الشيخ أحمد في بلدتهم لا أغادر داخل الدار أبدا إلا مسافرًا.

وكان يشاركني الغرفة عليان ابن الشيخ وكان يشكو سعالا طوال الشتاء المنصرم، يعالجه بالشاي تارة بعشب جبلي وصفوة له تارة أخرى، وبتعويذة كتبها له درويش غيري تارة ثالثة، ولكن السعال استمر. وأقبل الربيع وبدأ الجو يشيع دفئًا يجدر به أن يزيل ما أصاب «عليان» من برد الشتاء ولكن السعال يشتد مع الدفء، وهزال الشاب يتزيدن ويذبل لونه، ويعجز عما كان يقوم به من أعمال الحقل وأخشى أن يكون وراء هذا السعال والهزال مرض فأقرر أن أبعث به إلى الطبيب في مدينة غير بعيدة عنا، وأذهب معه. وفي يوم من أيام إبريل سنة 1956 تطأ قدماي المدينة لأول مرة منذ أكثر من عام ينزل من القطار ريفيان، يلبس كل منهما جلبابا فضفاضا من الصوف فوق جلباب آخر من القطن فإن اشتد بهما الحر خلعا الجلباب الصوف ويحملاه فوق كتفيهما وكان كل منهما يحمل في يده عصاة ظاهرة ويخف بين ثيابه الواسعة سلاحًا كان زميلي يخفي سكينًا، وكنت أخفي مسدسًا اعتدت أن أحمله منذ هجرت الصحراء أول مرة، ولم أستطع أن أحمل في الريف بندقيتي وكانت معنا ورقة كتب عليها بخط يشبه خط المبتدئين في كبر حروفه عنوان فندق صغير، وعنوان طبيب لأمراض الصدر.

وتلفت الريفيان حولهما منذ وطئت أقدامهما أرض المدينة، كما يفعل كل ريفي تماما وخشيا السؤال .. ثم سألا في رفق واضطراب يوحي لابن المدينة أن يسخر منهما وإن حاول أن يعينهما وكنت في الواقع قلقا خائفًا فأضفى علي قلقي وخوفي نوعًا من الاضطراب الحقيقي يزيل الشك في شخصيتي من أذهان الناس.

ونسير في طرق المدينة، وأنا أتلفت لأشاهد مبانيها العالية وشوارعها المرصوفة وواجهات محلاتها التجارية وسياراتها المزدحمة، وكأني أراها لأول مرة ..و أنا من عشت في المدينة طول حياتي .... ونسأل عن عنوان الطبيب أكثر من مرة حتى نصل إلى عيادته.. ويكشف الطبيب على زميلي فيشتبه في أمره.. .ويأخذ له صورة بالأشعة نضطر أن نبقى في المدينة يوما لنعلم أن في الغد قرار الطبيب.

ونأوي إلى الفندق الصغير الذي معنا عنوانه، فنحجز سريرين ونأكل غذاءنا البسيط الذي أحضرناه معنا في منديل، فأتجنب بذلك الخروج إلى الشارع لقد كنت أخشى الشارع في المدينة وأحس اضطرابا وأنا أسر فيه إذ يخيل إلي أن كل الناس تنظر إلى كأنها تشتبه في وتوشك أن تعرف شخصيتي.

ولما كان الليل، وجدت فيه مجالا أن أغادر الفندق لأسير قليلاً وأتناول عشائي، ثم أجلس على مقهى متواضع أرشف فنجان قهوة، وأجذب أنفاسي الدخان من الجوت، ثم أنفثها في الهواء إلى أعلى كما يفعل أمثالي من الريفيين إذا دخلوا المدن الكبيرة.

وفي الصباح يقرر الطبيب أن الشاب مسلول.

وأسأل الطبيب عن أتعاب علاجه، فإذا بها ليست بالشيء القليل، فسأله عن إمكان العلاج في المستشفى الحكومي الذي هو مسؤول عنه، فيؤكد أن لا أمل في خلو مكان به قبل عام حين يكون الشاب حطامًا لا أمل في علاجه، فأعود بالشاب بصريع السل، ليعيش معي في بيته في غرفة واحدة يسعل نهاره ويئن ليله.. فلا أحتمل سعاله ولا أنينه... ويجذبني سعاله المتزايد إلى المدينة مرة أخرى عسى أن نجد له من علته علاجًا أذهب به إلى المدينة وفاء لأبيه، وأملا في أألف حياة المدينة لأسعى منها إلى الخروج من مصر إن استطعت بعد أن تبين أن لا أمل لي في ذلك من الريف.

ونبيع محصول الشتاء في أواخر إبريل عام 1956 قبل أن نحصده وأبيع شتلتين كنت قد اشتريتهما وأذهب بالشاب إلى المدينة ونتفق مع الطبيب على العلاج وندفع له الأجر ويقول الطبيب، إن العلاج يستدعي بقاء الشاب قريبا منه شهرًا كاملاً، فنفعل ذلك ونبقى في المدينة بغرفة استأجرناها معا في الفندق الصغير المتواضع نزلنا الفندق كأبناء عم أمام الناس من أهل المدينة ... وكنزيلين جمع بينهما المرض أمام من يزور الشاب من أقاربه الذين لا يعرفونني.

وعشت في مركز العدوي بذات الرئة شهرًا، عشت مع مرض السل أرى تطوره، وأرقب خطواته وتحسنه وانتكاسه لقد عشت مع الشاب في غرفة واحدة قبل ذلك كثيرًا، وكان يفزعني سعاله.. ولكنني ما كنت أدري أن هذا السعال وراءه مرض قتال يفتك برئتيه وقد يفتك برئتي أنا أيضا كنت أرعى الشاب المريض ليله ونهاره.. أوقطه، وأطعمه، وأسقيه، وأعطيه دواءه، وأساعده حتى أضعه في فراشه ثم أقضي الليل أعد أناته وسعاله وأرثى لحاله، ولحالي إذا أصابتني منه العدوى ولم أحاول أن أفعل شيئاً يدفع السل عن صدري، ولكني كنت واثقا أن وفاتي سيدفع عني كل مرض ولكنها ثقة لا يكتفي بها العقلاء عادة.

كان أجر الطبيب وثمن الدواء وأجر الفندق كبيرًا، فلم يبق معنا إلا القليل من المال، فكنت أطعم الشاب المريض عشاءه مبكرًا، وأأخر عشائي حتى ينام، كي لا أشعر أني خصصته بالغذاء فالطبيب أوصاني أن ينال من الغذاء المقوي قسطا وافرًا وفي الليل أعطيه دواءه، ومسكنا للعسال ليتمكن من النوم فالنوم الطويل مع الغذاء المقوي أهم وسائل العلاج كما قال لي الطبيب، لقد خصني الطبيب دونه بالوصايا، لأن المريض لا يوصى عادة، أو لأنه رأى أني أسرع من زميلي فهما وأدق أسئلة عن العلة وأسبابها وتطورها.

يبدأ الشاب ليله بأن ينام نومًا هادئًا، يعينه عليه المسكن القريب العهد به وآكل أنا لقمة يسيرة، ثم ألزم فراشي صامتًا في الظلام حتى لا أزعجه ... ويقترب الليل من منتصفه، ويقترب النوم من جفوني، ويبدأ سعال الشاب مبحوحًا.. ثم يعلو ويشتد، فيتقلب إلى حشرجة أحس أن روحه تخرج معها ويئن ويشتد أنينه حتى كأنه يستغيث من الآم تمزق صدره، وتصدع رأسه .. وتغشى كل جسمه وأقوم من فراشي لأقلبه على الجانب الذي نصح به الطبيب ينتفض من نومه.. ويبقى ساعة يشكو .. ثم يعاود تعاطي المسكن، فينام وأحاول بعده أن أنام إلى أن تكون النوبة قد عاودته.. فتعاود القصة من أولها.

وكان في النهار لا يغادر فراشه إلا لعيادة الطبيب ساعة ثم يعود وكنت أستطيع أن أنام قسطا من نوم أثناء النهار لا يعوض إلا بعض ما ألقى من عناء الليل. فلم أستطع أن أحول دون الهزال يدب إلى جسمي، وكاد ما معي من مال أن ينفذ، فكنت قليلا ما آكل كفايتي.. حتى زارني مختار وثابت حين علموا بمقامي،فهالهم ما عليه حالي.. وأشفقوا أن أكون قد هربت من عذاب السجن لألقى عذاب العدوى بذات الرئة وكانت زيارتهم لي فرجًا، فقد أعانوني بما احتجت إليه من مال، وأصروا أن أذهب إلى الطبيب يفحصني وأكد لي الطبيب أني لم أنل العدوى بعد، وأن لا خوفي علي منها إذا نلت قسطا عاديا من غذاء أو نوم.

ومرت أيام، وكاد الشهر أن ينقضي، وأحس «عليان» مع العلاج والراحة الغذاء المنتظم أن علته كادت تزول، وأنه استرد بعض صحته فعاد يحدثني عن غرامه إنه يحب فتاة سمراء من بلدته، ويتمنى أن يتخذها لنفسه زوجة إنه ينتظر نهاية العام، حين تسد الترع فتخلو من الماء ولا يجد الريفي علما يقوم به فيتزوج أو يشارك غيره أفراح زواجه إن الشاب يحصي نصيبه من أجر الحراسة ومن محصول القطن في زراعته، يضيف إليهما ما يفترض أني سأعطيه إياه.

ومن مجموع هذا كله يدبر المهر ومصاريف الزواج وهو لا ينوي انتظار زواج أخيه حامد الذي يكبره، والذي يبدونا أنه لا يفكر هذه الأيام في الزواج لقد كان هذا الحديث فيما مضى يسرني فأشارك فيهن وأراه نوعًا من الحب البريء الساذج والأماني البسيطة لهؤلاء الناس ولكني اليوم لا أستطيع لهذا الحديث سماعًا، فأنا لا أشارك فيه، وأتمنى أن يقلع محدثي وينصرف إلى حديث آخر فالشاب مسلول وهو لا يدري.. والطبيب يؤكد أنه لا يجوز له أن يتزوج قبل خمسة أعوام .. خمسة أعوام تكفي لأن تتزوج تلك الفتاة السمراء وتنجب أربعة أطفال، وهي لا تدري أن في هذا الصدر الممزق قلبا خفق بحبها يومًا وأنا لا أريد أن أصدم الشاب بهذا النبأ الآن، وهو لا يفكر منذ بدأ يشعر بتحسن صحته إلا في زواجه المنتظر وانقضى الشهر، وجاء «حامد» ليعود بأخيه «عليان» إلى بلدته على أن يتردد على المدينة كل أسبوع ليواصل علاجه وأسررت لحامد برأي الطبيب في زواج عليان، وأوصيته أن يحفظ السر حتى نهاية العام.. ولكن حامد لم يستطع أن يحفظ السر أكثر من أسبوع واحد.

سافر من المدينة ذلك الشاب الذي جذبني سعاله إليها، وتركني بها لأواجه حياة جديدة لا أدري إلى أين تذهب بي.. لقد أصبح لي في المدينة –خلال هذا الشهر- معارف يحبون «ناجي» ويرضون أن يشاركوه عملا جديدًا يكسب به قوته، ويستثمر رأس ماله الصغير.

بدأت حياة جديدة بالمدينة هيأت لها في تلك الأيام التي قضيتها مع «عليان» أرعاه في مرضه، فإني منذ تلك الأيام بدأت أتعرف على بعض الناس.. وكان أكثرهم تجاوبًا معي صاحب مقهى قريب من الفندق يزورني في الفندق وأزوره في المقهى، وأنس كل منا للآخر وقبل أن يشاركني في عمل بالمدينة.

وكنت قد اخترعت قصة أعيش تحت ستارها مع هؤلاء الناس، وأتجنب بها لقاء من يأتي من البلد الذي انتسب إليه. وكانت القصة تصورني في صورة ريفي مهاجر إلى المدينة لا طلبا للكسب فحسب، بل فرارا من ثأر قديم كان المسؤول الحقيقي عنه أخ لي مات منذ سنوات والثأر في تلك البلاد التي أنا منها لا ينسى ولا يترك، وإن انقضت سنون، ومات المسؤول الحقيقي عنه، وتبادلنا «عليان» وأنا رواية تلك القصة نصدق كلي منا الآخر حتى صارت في أذهان الناس حقيقة لا مجال للشك فيها .. هكذا تصورنا وأيدت كل الظواهر صدق تصورنا.

كنت أتخذ سيما الجد أمام الناس حين يروي «عليا» قصتي المخترعة فيقول أنه كان لناجي الذي هو أنا –أخ كبير، قتل رجلا من عائلة أخرى بالبلد فيما مضى من الأعوام، وكان «ناجي» وقتذاك غلامًا صغيرًا وتصالحت عائةل عليان فخرجت من طلب الثأر.. ومات القاتل، وشب ناجي فصار رجلاً وظل أهل القتيل يطالبونه بذلك الدم القديم الذي أرقه أخ له منذ أعوام.. ويكست علينان، وأتم أنا الحديث قائلاً: إني ضقت ذرعا بحياة الريف الذي يخفق تحت علم الثأر دائمًا وآثرت أمن المدينة بعيداً عن ذلك الخطر الذي يهددني عقابا عن جرم لم ترتكبه يداي.. وأذكر السامعين كيف أني أتجنب لقاء من يقدم المدينة من أهل بلدتي والبلاد المجاورة, خشية أن يكون القادم طالب ذلك الثأر القديم،أو دالا أصحاب الثأر عن مكاني.

ويؤمن معارفي على قولي أن لا ذنب لي فيما أرتكب أخي قديما ويعينوني على أن لا أقابل أحدا من أهل بلدي، ويشجعونني على أن اتخذ من المدينة مقاماً لي وأبحث عن عمل فيها: فأنا في نظرهم جدير بأن أنجح لما أنا عليه من الفهم وحب المسالمة... هذه صفات أهل المدن لا أهل الريف.

وأما هؤلاء المعارف يعينوني في البحث عن عمل يشاركني فيه صاحب ذلك المقهى الذي كنت أجلس فيه، والذي صار لي صديقًا وشجع على اختياره شريكا لي ما رواه من عزمه على التخفف من أعباء العمل بالمقهى لينصرف إلى زراعة أرض اشتراها ببلدته أخيرًا وما أن عاد «عليان» إلى الريف حتى كنا قد اتفقنا –صاحب المقهى وأنا- على الاشتراك معًا في المقهى الذي يستأجره ويديره، والذي من ربحه اشترى تلك الأرض ببلده اتفقنا على أن أبدأ فترة اختبار، يجرب كل منا فيها الآخر فأعمل عاملا بسيطًا في المقهى مقابل أجر، لأتدرب على هذا النوع الجديد من العمل الذي لم يسبق لي أن مارسته ومن شأن تلك الفترة أن تهيئ لي معرفة حقيقة ما يدر المقهى من أرباح وما تحتاجه من نفقات وكان المتفق عليه بعد فترة الاختبار هذه –أن أشارك صاحب هذا المقهى عقده إيجاره لها وإدارتها، فأبيع ما أملك من خراف في بلدي وأدفع نصيبي .. ولم تكن لي خراف، بل كنت سآخذ هذا المبلغ من «بدر» لأدفعه كنصيبي في المقهى وإدارتها.

بدأت العمل كقهوجي، فاشتريت جلبابين من قماش شعبي بكم ضيق، ووضعت فوطة بيضاء على صدري، واستبقيت غطاء رأسي التقليدي وإن أعفيته من لفة العمامة وصار مألوفًا أن يراني المارة منذ الصباح مشمرًا جلبابي عن ساقي أمسح بلاط الأرض، وأكنس أمام المقهى، وأنضم الكراسي والمناضد.. ثم أغدو وأروح أغلب نهاري وشقًا من ليلي ألبي للزبائن طلباتهم من شاي وقهوة وكوكاكولا وتعميرة وكان الحال لا يخلو من عميل كريم يتحفني بقرش أو نصف قرش كبقيشيش، أتقبله شاكرًا داعيًا له بالخير.... وفرض لي صاحب المقهى أجرا عادلا أناله بعد عمل مضني متواصل، مائتين وخمسة وسبعين قرشًا في الشهر لق كان أجري أقل الأجور في المقهى على الإطلاق ولكن لا غرابة في ذلك فأنا عامل مبتدئ غير ذي خبرة، وأنا أنام في المقهى إذ وضعت لي حشية من قش في ركن بالدور الأعلى من المقهى أنام عليها إذا انصرف الزبائن جميعًا وأغلق المقهى فلا بأس هناك من أنال أول الأمر أجرًا بسيطاً ما دمت سأشارك بعد ذلك الربح الوفير.

وكان هذا المقهى ملتقي كثير من الطلبة والموظفين والأعيان..وكان رجل البوليس يرتادونه أيضًا وقد عرفني هؤلاء الزبائن كعامل في المقهى سيصبح بعد حين أحد أصحابه... ووجدوا في شيئًا لم يجدوه في غيري من عمال المقهى ..شيئًا يرجع إلى ظروفي الخاصة في الماضي والحاضر، وتلك الظروف التي لا يعملون عنها شيئاً لقد سمعت بعض هؤلاء يتمنى لو أني تعلمت ليكون لي شأن آخر غير الذي أنا عليه وتوثقت الصلات بين هؤلاء العملاء وبينين وبادلوني احترامًا باحترامي إياهم، وإن كان هذا الاحترام منهم قد حرمني ما كان يمكن أن يعطوني إياه من بقشيش وكان بعضهم يناديني بالسيد «ناجي» تواضعًا ومراعاة لما سأكون عليه وبلغت صلة بعضهم بي أن كانوا يعرضون على الإفيون، لأن المفروض أن أمثالي يتعاطونه، فإن اعتذرت ألحوا، فآخذه منهم لأعطيه لزميلي رمضان ما كنت أحسب إلى ذلك الوقت أن المخدرات منتشرة في مصر بين كافة الطبقات برغم قسوة العقوبات المفروضة عليها حتى شاهدت ذلك بنفسي، وشاهدت من المسؤولين عن ضبطها أكثر الناس إقبالا عليها.

ورمضان –زميلي في المقهى- عامل قديم فيه، يتقاضى أكثر من ضعف أجري، فهو يتقاضى ستة جنيهات في الشهر الواحد، ويبلغ ما يحصل بقشيشا من كرام الزبائن جنيها ونصف جنيه ولكنه كان يتعاطى من المخدرات ما لا يقل ثمنه عن نصف جنيه يوميًا... وعجبت كيف يوازن رمضان ميزانيته، وكيف ينفق على عائلته الكبيرة... حتى علمت –بعد عام- أن إدارة المخابرات العسكرية في مصر وصلت إلى حدود من الإسراف في سبيل التجسس ما كنت أتصورها من قبل، واستغل أناس غلوها في الإسراف فنظموا حياتهم على الاعتماد عليها كمورد مكمل لعجز ميزانيتهم.

أوجس رمضان مني خيفة أول الأمر كعامل جديد نشيط قد ينافسه بقشيش الزبائن، ولكنه بدأ يتقرب إلى حين على أن مآلي في القريب أن أكون أحد أرباب العمل وظل صديقًا لي بعد تركي المقهى، وأعانني في البحث عن سكن بجوار منزله ... وكانت زوجته تطهو لي طعامي بعض الأيام ... وظلت علاقتنا بعد ذلك طويلا،وأنا لا أدري أنه أحد عملاء إدارة المخابرات العسكرية، وهو لا يدري أنني طريد المخابرات العسكرية، تبحث عني في كل مكان.

وكان مفهومًا أني أعرف القراءة والكتابة وبعض قواعد الحساب فاستعان بي صاحب المقهى في عمل الحسابات أجمع الإيراد والمنصرف وأقيد ما يسحبه العمال تحت حساب أجورهم وكانت هذه فرصتي في التعرف على المركز الحقيقي لربح المؤسسة التي سأشارك فيها برأس مالي.. أو رأس مال صديقي «بدر» وإن أغضبه هذا التمييز.

وكان مساء ...

كان المقهى قليل الرواد هادئ الحركة، وأنا أجلس قريبًا من الباب على مكتب مدير المقهى الغائب، وأمامي دفتر أكتب فيه بعض الأرقام أو أجمعها.. ورمضان متكئ على المكتب بمرفقيه يقطع علي عمليات الحساب بين الحين والحين بقصة يقصها، أو نادرة يرويها، أو سؤال يطرحه ولا يعنيه أن أجيب عليه.. كان المقهى قليل الرواد هادئ الحركة, وأنا أجلس قريبًا من الباب على مكتب مدير المقهى الغائب، وأمامي دفتر أكتب فيه بعض الأرقام أو أجمعها ورمضان متكئ على المكتب بمرفقيه يقطع علي عمليات الحساب بين الحين والحين بقصة يقصها، أو نادرة يرويها، أو سؤال يطرحه ولا يعينه أن أجيب عليه... وأقبل ثلاثة رجال، وألقي أحدهم تحية المساء بصوت آمر جاف.. ورفعت بصري من دفتري فوجدت أمامي أحد ضباط البوليس ممن عملوا معي قديمًا في النيابة العامة... فأنا أعرفه وهو يعرفني

وطلب الضابط أن يدخل دورة المياه في الطابق الأعلى من المقهى فقاده رمضان إلهيا ثم عاد... بينما جذب الرجلان اللذان كانا معه كرسيين وجلسا غير بعيد عن مجلسي وألقيت نظرة على الشارع فلم تخطئ عيني أشكال المخبرين يسدون منافذ القهوة إلى الشارع... هبط رمضان من أعلي، وانحنى على يقول:

- هل تعرف من هؤلاء؟

- لا... (وخرجت من حلقي بعد جهد شاق).

- إنهم ضباط المباحث وهذا الذي صعد رئيسهم كم هو داهية ماكر، قاس لا يرحم.. إنه جاد فيعمله لأنه لم يذق المخدر أبدًا لقد صعد المقهى بتلك الحجة التي انتحلها ليتأكد إن كان أحد يدخن الحشيش بأعلى المقهى أم لا ...أنظر ... هؤلاء هم المخبرون يسدون علينا الأبواب.. ولكن اطمئن فلا أحد بالطابق الأعلى أبدًا...

وراح رمضان يثرثر ويعلق على كل ما يدور، وهو لا يدري أني في دوامة لا قرار لها... أنا لا أخشى البحث عن المخدرات، ولكني أخشى البحث عني وأيقنت أني أنا المقصود بهذه الحملة ... لا شيء غيري وانكببت على دفتري فوق المكتب مدعيًا الانهماك في العمل، وأنا لا أستطيع أن أرى الأرقام أمامي، ولا أن أجمع شتات أعصابي التي تناثرت وأفلتت من يدي تمامًا ليت الأمر سيقف عند ضياعي أنا لقد كان هناك بالركن الذي أنام فيه بأعلى المقهى سلة بها بعض ما أكتب من أوراق.. وبها «مذكرات هارب من نفسه» كما كنت أعتبر نفسي في تلك الأيام بعد أن تركت الصحراء فأصبحت أهرب من كل شيء حتى نفسي.

وكانت تلك المذكرات لا تشير إلى شخصيتي فحسب بل وتشير إلى صلتي ببدر وغيره ممن أعانوني طوال هربي... وتشير إليهم وتذكر أسمائهم صراحة وهم أبعد الناس عن الشك فيهم .. وأحسست أني ضيعت نفسي، وضيعت معي كل من أدى لي فضلا لا ينسى.. ومن يمكن أن يواصل الطريق.

ومرت دقائق لا أعلم كم هي.. وهبط ضابط البوليس من أعلى أحسسن به حين انتصبت قامة رمضان بجواري، وهم الجالسان على الكراسي غير بعيد مني وقوفًا وسعل الضابط سعالا مصطنعًا لينبهني إلى وقفته أمامي .. .فرفعت نظري متوجسًا... ورفع الضابط يده إلى رأسه وهو يقول

- متشك ... متشكر جدًا .. مساء الخير...

- وانصرف مسرعا ومعه أعوانه.. ولم أتسطع لتحيته وشكره ردا، فقد كنت قد فقدت صوتي تقريبًا... ولم أقم من مكاني كما فعل غيري، لأني ساقي عجزتا عن حملي...

- وبقيت على مكتبي وقتا لا أدريه، كالغائب عن الشعور وتركت رمضان لينصرف إلى الزبائن الذين بدأوا يتوافدون على المقهى وأرسلنا إلى صاحب المقهى ليحل محلي، واعتذرت عن العمل ليلتي تلك بأني متعب وصعدت فجمعت أوراقي من سلة ملابسي فمزقتها وخرجت أختبئ في دار للسينما حتى منتصف الليل وعدت واثقًا أن هذه آخر ليالي مع حريتي، ولكنني كنت أهدأ بالا ما دمتن قد جنبت غيري ذلك المصير الذي ينتظرني.

عدت إلى المقهى مع منتصف الليل خائفا أترقب فلم أجد حول المقهى ما يريب. فقلت: لعل الأمر مؤجل إلى قرب الفجر حين تقدم القوة حين تقدم القوة لتعتقلني وأيقنت أنه ليس لي من هذا المصير مفر فقررت أن أبقى، وأن أموت مكاني.. كنت لم أترك سلاحي بعد، كنت أحتفظ بمسدس أحمله حول وسطي دائمًا، يعينني ثوبي الفضفاض على إخفائه عن أعين الناس فقررت أن أقاوم به القادمين لاعتقالي حين يقتلونني.

دخلت المقهى وكان على وشك الإغلاق، فلم أسلم من سخرية رب العمل أن كنت مريضًا، وها أنذا أعود بعد منتصف الليل من نزهتي وخرج الجميع إلى بيوتهم، وأغلقت خلفهم الأبواب ووضعت المفتاح في جيبي وصعدت إلى أعلى المقهى لأنام حيث اعتدت أن أنام كل ليلة ولكني لم أنم راحت تدور في ذهني صور ما ينتظرني في السجن حين يقبض علي وكنت أسائل نفسي: ما مصلحة هذا الضابط في أن يرشد عني ويقبض علي؟ صحيح أنه سينال مكافأته وقد يرقى ولكن، هل يكفيه هذا لينضم بكليته إلى معسكر أعداء الحرية، وكنت أعرفه فيما مضى ذا خلق يؤمن بحرية الناس في عصر كنا ننظر إلى ضباط البوليس فيه كأعداء للأحرار.

كنت واثقا من أنه سيعود، ومعه قوة كبيرة، وأني سأقاومهم وأموت برصاصهم، كم هو عسير على الإنسان أن يموت مكانه وأحسست برغبة أن أنجو بحياتي مرة أخرى... فقمت أفتح الشباك، وأنظر هل من طريق للهرب إذا داهمتني القوة بعد ساعات؟ فوجدت الطريق ممهدة يسيرة، توصل إلى حديقة بيت لا يسكنه أصحابه... ومنها إلى شارع بعيد أسير بعده إلى الحقول خارج المدينة طريدا بكل معنى الكلمة أو درويشا مرة أخرى فالدرويش يحق له أن يسير في الحقول ليلا، لا يخشى أحدا إلا رجال الأمن وراقتني الفكرة وارتديتها ولكني لم أجد في نفسي دافعا للهرب الآن .. بل آثرت أن أبقى هكذا مستعدا للطوارئ حين يعود الضابط بالقوة ومن يدرين لعله لا يعود...

ودق الباب أسفل المقهى دقا عنيفا، اعرف فيه عنف البوليس حين يأتي باحثًا عن بريء أو جان.. ونظرت في ساعتي، فكانت الواحدة.. إن الوقت مبكر لأمثال هذه الحملات، ولكن لعل الضابط يتعجل ترقيته ووضعت قدمي على حافة النافذة .. والباب يواصل الطرق.. وصوت ينادي عاليًا: «افتح يا عم ناجي» إنه صوت رمضان.. ما الذي جاء به مع البوليس الآن....؟ هل سيكون دليلهم علي؟ أم هو مخلب القط الذي اختاره لأفتح له الباب دون مقاومة...؟ وخيل إلي أن الوفاء انعدم من هذه البلاد إذ ما الذي يدعو رمضان لأن يعاون البوليس ضدي، وهو لم ير مني إلا كل خير... وما الذي يدعو الضابط الذي كان حرا إلى محاربة الأحرار....؟ وساء ظني في الشعب وكدت أنسى ما قدمه لي أفراده من قبل.

وترددت فوق حافة النافذة لحظة.. هل أهرب..؟ هل أقاتل، بعد أن لم يعد للحياة قيمة بين جمع من غير الأوفياء...؟ وهبني هربت، أين أذهب؟ إن رمضان وصاحب المقهى يعرفان أين أولاد عمي..ومنهم ستتبع الدولة خيطًا يوصل إلي حتما ويقضي على من أعانوني فخير لي والحال هكذا أن أموت مكاني.... وخرجت إلى الشرفة المطلة على الباب والشارع والصوت ينادي والدق مستمر.. ومسدسي في يدي أنوي أن أبدأ بإطلاق النار.. وألقيت نظري في حذر فإذا الشارع خال من كل عابر أو واقف، إلا رمضان لا يكف عن دق الباب ولا يكف صوته عن النداء: «افتح يا عم ناجي».

وصحت به من أعلى المقهى في عصبية ظاهرة:

- ماذا جاء بك.. وما الخبر..؟

- افتح يا سي ناجي.. .لقد نسيت هنا تموين الصباح..

وفهمت ما هو تموين الصباح، فلعنت الرجل، ولعنت تموين صباحه وهبطت ففتحت له الباب فدخل مسرعا إلى ركن في المقهى ليخرج من شق بالحائط لفافة صغيرة فيها تموين صباحه، قطعة من أفيون إذا أصبح الصباح ولم يبتلعها قبل أن يغادر فراشه، فلن يغادره أبدا.. وانصرف رمضان بتموين الصباح وبقيت أنا ساهرا أرقب الصباح وقد فقدت البقية الباقية من أعصابي.

وقررت العودة إلى الريف أبقى فيه وقتا أجمع شتات أعصابي التي بددتها تلك الليلة، وأفكر فيما سيكون بيني وبين الضابط الذي لم يزرني بعد بقوة ليعتقلني وكان لي في السفر إلى بلدي عذر مقبول فالستفتاء على الدستور واختيار رئيس الجمهورية سيقع بعد أيام، وطبيعي أن أؤدي هذا الواجب السياسي العام في بلدي بدلا من أن أؤديه في المدينة وإن كان هذا مصرحا به وأذن لي صاحب المقهى في السفر، وفي أن أتغيب أسبوعا جمعت سلة ملابسي وخرجت أسعى إلى القطار لينقلني إلى تلك البلدة التي أعيش فيها فلاحًا مع ابن عمي حامد، واليت قيدت فيها كناخب له حق التصويت في استفتاء الرئاسة والدستور. وفي طريقي إلى القطار وأنا أسر مرهق الأعصاب تحت عمامة على رأسي وسلة على كتفي وثوبين فضفاضين يخفيان انتفاض جسدي.. قابلني نفس الضابط الذي كان بالمقهى بالأمس نظر إلى وابتسم ورفع يده محييا وهو يقول:

- صباح الخير كيف حالك.؟ أرجو أن تكون بخير.

وسار في طريقه، وسرت في طريقي .. وأنا أجيب بهمهمة غير واضحة لقد عرفني كما عرفته ما في ذلك شك، وحال وفاؤه دون الإفشاء بسري.. ورفض أن يبيعني بمكافأة أو ترقية، مساهم في ذلك في معركة الحرية في صفوف المؤمنين بها.. فبقي كما كان دائمًا وإن اضطرته ظروف عمله أن يخدم دولة تحارب الأحرار، كان وفيا للفكرة لا لشخصي ولا لسابق معرفته بي .. ورد هذا الوفاء منه إلى ثقتي في الشعب وقضيته فواصلت سفري إلى الريف عازما أن أرجع إلى المدينة بعد أيام، وأن أواصل حياتي بها حتى أمهد السبيل لنفسي كي أترك مصر، وانضم إلى ركب الدعاة لحرية ذلك الشعب.


ذهب مع الريح

في يونيه سنة 1956 كان اسم عبد الناصر قد بدأ يرتفع حقيقة لا وهما ففي ذلك الشهر جلت القوات البريطانية من القنال، وكانت مصر تتعامل مع الكتلتين الغربية والشرقية دون أن تتورط بربط اقتصادها بإحدى الكتلتين ربطا يعجزها عن مواجهتهما بالحقائق وكان العرب في كل قطر قد بدأوا يجدون في عبد الناصر رمزا للقومية العربية وممثلا لنظرية الحياد في الشرق الأوسط، تلك النظرية التي كان كافرا بها من قبل، والذي اعتبرنا واهمين حين طالبناه بها، ولم تكن مؤامرات عبد الناصر على سلامة القومية العربية وأمنها قد اكتشفت –وهكذا كانت أسهم عبد الناصر في ارتفاع ولكن الدكتاتورية مقامرة بطبيعتها، فهي لا ترضى بالكسب التدريجي والتطور الطبيعي نحو الارتقاء بل هي تقامر دائما لتكسب كل شيء، أو تخسر كل شيء، في ذلك الشهر بالذات جرى الاستفتاء على رئاسة الجمهورية وعلى الدستور الجديد الذي أعلنه عبد الناصر بعد أن نحى مشروع الدستور الذي كانت قد وضعته اللجنة محاولة أن ترى الحريات وأن تحقق مطالب الأمة المصرية وكان الاستفتاء نوعًا آخر من مقامرة الدكتاتورية ولكن كان مقامرة غير شريفة، غش فيها المقامر ففقد فيها احترام الناس ولو أن عبد الناصر المقامر لعب لعبًا شريفًا لربح .. كان مقامرا غشاشًا، فكسب المظهر وخسر نظرة الشعب إليه.

لو أن عبد الناصر اعترف للشعب في يونيه سنة 1956م، بحقه الطبيعي في حريته واختبار حكامه، والمشاركة في توجيه سياسة البلاد، ما كان قد فاته الأوان، ولا ستطاع أن يستمر هو نفسه في الحكم، ولكن على صورة ديمقراطية سليمة توفر للشعب رقابة حكامه والثقة فيهم وفي سياستهم.

لو أن عبد الناصر ورجاله تركوا استفتاء يونيه سنة 1956م، حرا يأتي بنتيجة الحقيقية دون اصطناع لنجح عبد الناصر كرئيس جمهورية، ولوافق أغلب الشعب على دستوره المشوه الذي أصدره صحيح أن أغلب الموافقين على عبد الناصر رئيسا كانت ستدفعهم إلى الموافقة الرهبة من الحكام أو الخداع بالدعاية الكاذبة.. ولكن كان سيبقى الأمل في أن تصلح الحال، وتسير البلاد تدريجيًا نحو الديمقراطية الحقة ولكن الدكتاتوية لا تعرف إلا المظهر الكاذب والتشبث بالاستبداد إلى أن تقتلعه ثورة يدفع الدكتاتور وأعوانه حياته ثمنًا لها، وما أهونه من ثمن إذا قيس بعنف الثورات.

وهكذا أي عبد الناصر ورجاله إلا أن يزوروا ذلك الاستفتاء المضمون النتيجة... وكانوا في غنى عن ذلك لقد اصطنعوا لنجاح عبد الناصر نتيجة كانت مثار سخرية العالم وتندر الناس كم قال الناس فيما بينهم من أحاديث: إن الله لو كان محل الاستفتاء بدلا من عبد الناصر ما فاز بذلك الاجماع الغريب المريب.

ولست أستدل على تزيف الانتخابات بعدم معقولية النتيجة التي حصل عليها عبد الناصر حين بلغت أكثر من تسعة وتسعين في المائة.. وهو استدلال يكفي بذاته، ولكني أستدل أولا بواقع شهدته بنفسي لم أستخبر فيه أحدًا ثم جاءتني الأخبار تؤكده.

كان أهل البلدة التي تعرف «ناجي» مزارعا صغيرا بها، يثقون فيه ويظنونه أكثر معرفة منم في أمور القراءة والكتابة والأخبار والسياسة, وكانوا كثيرا ما يستوضحونه الجديد من هذه الأمور أو يسأل رأيه فيها ونقل العمدة إلى هيئة التحرير في المركز رأيه ورأي الناس في وصحبني لزيارتها .. وما استطعت أن أعتذر ومرت الزيارة بسلام، ثم سعت هيئة التحرير إلى ضمي لعضويتها، وإسناد عمل فيها لي أما الانضمام فما كان لي أن أرفضه إلا أثرت شكوكا أنا في غنى عنها وأما الاشتراك فيها فقد خشيت نتائجه حين يأتي ضباط الجيش من القاهرة ليشرفوا على أعمال الهيئة في المركز.. واعتذرت بأني قليل الإقامة في البلدة.. ولكن أهلها وعمدتها ظل رأيهم في حسنا.

وفي ليلة من الليالي قبيل الاستفتاء، تحلق أهل القرية حول الشاي والجوزة في الدكان، يتساءلون ماذا نفعل في الاستفتاء القريب موعده...؟ وكان مفهومًا أن السؤال موجه إلى شخصين عمدة البلدة وأنا فالعمدة ممثل الحكومة، ولعله قد وصلت تعليمات رسمية لا تجوز مخالفتها وأنا لأن أهل القرية ومنهم العمدة ورجال هيئة التحرير يثقون في رأيي وفهمي للأمور، ولم يكن العمدة يحجم عن إجابته التقليدية أبدًا فهو يقول إن الخانة الحمراء التي هي دليل الموافقة على عبد الناصر ودستوره أأمن من أختها السمراء، التي تبعدك عن القرية وأهلها فالخانة السمراء سيلقى صاحبها حياة سوداء في المعتقلات والسجون فإذا قلت له إن الدولة تؤكد أن الناس أحرار، وأن عهد الذل قد انقضى ابتسم وهو يقول:

-أنا لا شأن لي بما يقوله الراديو والجرائد.. فالعبرة بما يقوله المأمور يا سيد ناجي .. فهو أعلم منك ومن الراديو والجرائد بأوامر الحكومة.

وأسكت أنا فلا أبدي رأيها أمام الجمع المحتشد في الدكان ويسألني الناس على انفراد، فأميز لهم بين الدستور والرئيس، أما الدستور فكنت أدعو للموافقة عليه، لأن دستورًا مشوهًا خير من لا دستور أما.. الرئيس فكل منا حرا أن يوافق عليه أو يرفضه.. ويسألني أحد الفلاحين في مكر: «لماذا لم يأذن عبد الناصر بترشيح غيره ضده.. هل يخشى أن نختار غيره..؟» وأكتفي بأن أقول: «لا أدري .. على كل حال، فهو يحكم فعلا قبل أن نختاره...»

واتفقنا فيما بيننا –خمسة أشخاص- على أن نرفض رئاسة عبد الناصر عند الاستفتاء والدستور المنتظر... ودخلنا صفا الواحد إثر الآخر.. وكنا جميعًا أعضاء بهيئة التحرير في المركز ومحل ثقة العمدة ولن أنسى تلك النظرة الساخرة المستريبة التي وجهها إلي رئيس اللجنة حين طلبت أن أدلي بصوتي سرا لأني أعرف القراءة والكتابة ولولا شهادة مندوب هيئة التحرير والعمدة لي ما سمح لي بهذا الحق في دولة ضاعت فيها حقوق الناس لست أدري أي جرأة بلغت الحماقة تلك التي دفعتني إلى دخول لجنة الاستفتاء وإلى الاقتراع ضد عبد الناصر إن الأمر الذي أقطع به ولا أتشكك فيه أني أنا –على الأقل- اقترعت ضد عبد الناصر، وقد أكد لي زملائي الأربعة أنهم فعلوا ما فعلت وإن لم يعلم غير واحد منهم أني طريد عبد الناصر وسياسته.

وجلسنا في المساء نستمع إلى النتائج تذاع بالراديو، فإذا نتيجة تلك البلدة التي اقترعت فيها تكون إجماعًا في اختياره ونظر كل منا –نحن الخمسة- إلى صاحبه ولم نعجب أين ذهبت أوراقنا السوداء، فقد فهمنا أن الاقتراع شيء والنتيجة التي تريدها الدولة شيء آخر وحتى هذا القدر اليسير من الناس الذي لم يوافق على عبد الناصر واقترع ضده، والذي لا يضره أن يوجد ... هذا القدر لم يؤذن له بأن يسمع صوته فكان شبه الإجماع الذي حصل عليه رئيس الجمهورية الأول أكبر دليل على اصطناع النتيجة وليت الأمر عند الإجماع في اختياره ونظر كل منا –نحن الخمسة- إلى صاحبه، ولم نعجب أين ذهبت أوراقنا السوداء، فقد فهمنا أن الاقتراع شيء والنتيجة التي يريدها الدولة شيء آخر وحتى هذا القدر اليسير من الناس الذي لم يوافق على عبد الناصر واقترع ضده، والذي لا يضيره أن يوجد هذا القدر لم يؤذن له بأن يسمع صوته فكان شبه الإجماع الذي حصل عليه رئيس الجمهورية الأول أكبر دليل على اصطناع النتيجة وليت الأمر وقف عند الإجماع أو شبه الإجماع لقد جاوز ذلك، فقد علمت فيما بعد أن مسؤولا كبيرا من حصر نتائج الاستفتاء تفصيلا أن إحصاء الأوراق التي اختارت عبد الناصر زاد عددها في الصناديق من عدد الناخبين جميعًا والسبب في ذلك أن كل لجنة من لجان الاستفتاء تسلمت عددا من أوراق إعطاء الرأي تزيد عن عدد المقيدين أمامها لتواجه بهذه الأوراق حالات من يريد الإدلاء برأيه في غير دائرته المقيد بها اسمه وسولت الرغبة في ضمان إرضاء الدولة إلى بعض اللجان أن تطمس الخانات الحمراء في الأوراق التي تبقت لديها ثم تقذف بها في الصندوق وهكذا زاد الموافقون في مجموعهم عن المقيدين فعلا في جداول الانتخابات أما بعض اللجان –كلجنة بلدتي- فقد اكتفت بتمزيق كل ورقة لم تختر عبد الناصر رئيسا لتضع بدلا منا ورقة أخرى من الاحتياطي الذي لديها..!

إن كان عبد الناصر قد ظن أنه حقق بهذه النتيجة إلا أن يكون موضع السخرية تجري همسًا، ففقد ما يمكن أن يتبقى له من ثقة الشعب فيه.. وثقة زملائه أيضا .. أو بعضهم بمعنى أصح.

انقضت مهزلة الاستفتاء وأقيمت الأفراح الرسمية في كل مكان وقرب موعد عودتي إلى المدينة، وإذا بهيئة التحرير في المركز تعاود طلبها في أن أعمل سكرتيرًا لها، وهو منصب لا يحلم به مثلي في حقيقتي التي أخفيها، وفي مظهري الذي أعيش عليه بين الناس كم راودتني نفسي أن أقبل هذا المنصب كي أضحك في أعماقي من الظروف التي جعلت أنصار الناصرية يضعونني في حزبهم, وأنا عدوهم وعدو حزبهم وما ينطوي عليه من تضليل للناس واستبداد بهم، ولكني كنت أطرد هذا الخاطر دائماً، فانا حريص على سلامتي أكثر من حرصي على السخرية بالناصرية... وهي سخرية مؤقتة قد يتبعا سقوطي في يدها ولم أملك أمام طلب هيئة التحرير التي لا يرد لها طلب- أن أرفض، فوعدتهم بالاستجابة حين أستقر في البلد، وأنهي أعمالي في غيرها من البلاد.. وعزمت أن أتشبث بعملي الآخر في المدينة كي لا أعرض نفسي لمخاطر هيئة التحرير في المركز.

عدت إلى المدينة أحمل تلك السلة التي بها ملابسي، وذلك الأمل الذي يملأ قلبي أن أحصل على البقية الباقية من الأوراق التي تؤهل مثلي في ذلك الوقت أن يسافر إلى الخارج دون أن يثير في نفوس أحد ريبة لقد نجحت جدًا فعلا في أن أجعل «ناجي» حقيقة لا محل لإنكارها وبهذا وجدت كمواطن معترف به من الدولة وأصبح في مقدوري إن قبض علي من لا يعرف حقيقتي يوما أن أنتسب إلى تلك البلدة التي فيها زراعتي والتي يحبني عمدتها لقد حصلت على شهادة بأني ساقط القيد في دفتر المواليد وعلى شهادة بتسنيني من طبيب المركز.... وبقيت إجراءات قيدي في دفاتر وزارة الصحة فعلا ثم إني قيدت في جداول الانتخاب وحصلت على تلك الورقة الخضراء التي تشهد لصاحبها بأنه مواطن صالح وتعطيه الحق السياسي في مصر ولكن ليس كل من له وجود في مصر يمكن أن يسافر إلى الخارج دون أن يثير شكا من سيقبل من ريفي يزرع بضعة أفدنه يشاركه فيها آخر أن يسافر إلى خارج القطر..؟ لابد أن يكون لي وضع آخر يؤهلني للسفر دون أن أثير شك أحد وهكذا ركزت جهدي كله في المشاركة في المقهى بالمدينة سأصبح بعد ذلك صاحب مقهى، وسأقيد في السجل التجاري وعندئذ يمكن أن أطلب جواز سفر وأسافر وخاصة وأنه سيدفع عني الشك تماماً أني شريك لمسيحي يمتاز بما يمتاز به المسيحيون في ريف مصر من مسالمة وانصراف إلى إتقان العمل...

وبهذا الأمل عاودت العمل في المقهى وتفاهمت مع شريك المستقبل «المعلم غبريال» أن نكتب العقد: فقد جرب كل منا الآخر وارتضاه شريكًا وسملني «بدر» المال المطلوب، فقلت لشريكي إني بعت خرافي ومعي ثمنها ولم يعد هناك داع لتأخير العقد ذلك العقد الذي أتعجله لأني أريد أن أهيئ نفسي للسفر، ويتعجله شريكي –كما قال لي- لأنه يريد أن يترك لي إدارة المقهى كاملة، فأن محل ثقته، ومحل تقدير الزبائن، وهو يريد أن ينصرف بعض الشيء إلى زراعة أرضه بالبلد.

وكان وجيه أفندي يقيم في نفس المدينة التي أقيم فيها.. .التي بها مقهى أخيه... وكان يذهب إلى البلدة التي بها عمله كل صباح ويعود بعد الظهر ولا يعدم أن يتردد أحيانًا على المقهى، فإن جاء فهو الأخ الأكبر لرب العمل، فكنا نحتفي به ويتبسط معنا في الحديث شأن كبار القوم تمامًا وكان يعرف أني لا أتعاطى أي نوع من أنواع المخدرات فيتكرم على بسيجارة أدخنها شاركا إذ كنت قد كففت عن شراء الدخان تقريبا حين أصبح موردي لا يكفي للتدخين، وأصبحت حريصا على رأس مالي لأتم عقد الشركة في المقهى.

دعاني وجيه ذات يوم للغداء في منزله إنه يعيش في منزل لا يحلم أمثالنا في ذلك الوقت أن يعيش فيه: فهو يجلس على الكراسي ذات المساند ويأكل على منضدة كبيرة عالية، وعنده بالمنزل ملاعق كبيرة، وشوك وسكاكين، وأطباق من الصنف المتواضع المنفوش برسم أزهار فاقعة اللون.

دخلت بيت الرجل، ومعي شريكي وجلسنا قليلا حتى دعينا للطعام، فقمنا إلى الصالة التي وضعت فيا مائدة الطعام.. وكان أمام كل واحد منا صحن وشوكة وسكين وملعقة .. ولست أدري أي شيء أصابني فنسيت نفسي، وأنا الريفي الذي لا يعرف هذه الأدوات ومددت يدي إلى الشوكة والسكين، وبدأت آكل بهما .. ونظر إلي وجيه أفندي نظرة التشكك وهو يقول:

- أراك تحسن الأكل بهذه الأدوات..؟

- ولم اضطرب، إذ علمتني الأيام أن أخترع القصص سريعًا، وأجبت بهدوء:

- ألا ترى ذلك؟ فقد علمت خادما بمنزل أحد الإنجليز بأسوان قرابة عام.. فتعلمت منهم كيف آكل بهذه الأدوات.. ولكني لا أجد لذة الطعام إلا إذا أكلت بيدي.

- وانتهينا من الطعام، والرجل لا يكف عن نظراته المرتابة وجلسنا نتحدث ونحن نشرب القهوة، فكان يدير الحديث بأسلوب أكثر ريبة، ملأ نفسي يقينًا أن الرجل يبحث عما وراء مظهري الريفي البسيط من حقائق وانقطع وجيه أفندي منذ ذلك اليوم عن ارتياد المقهى ولكني لم أقم لذلك وزنًا، وظننت أن شاغلا شغله.

وألححت على صاحب المقهى أن نكتب عقد الشركة، وسلمته نصيبي من رأس المال، واتفقنا أ، يمر على في الصباح الباكر في غد لنذهب إلى من يكتب لنا العقد.

وكان الغد... وانتظرت المعلم غبريال فلم يحضر، بل جاء أحد أقاربه رسولا من وجيه أفندي يدعوني لزيارته في مقر عمله.. ويقول: إن العقد بيني وبين أخيه لن يوقع إلا بعد تلك الزيارة وألجأتني الحاجة إلى العقد أن ألبي الدعوة، فسافرت ذلك السفر الصغير إلى حيث يعمل وجيه أفندي، فوجدته بمكتبه المتواضع ينتظر قدومي.

وما أن دخلت وسلمت وجلست.. حتى نادى وجيه أفندي قريبه ذلك الذي صحبني إليه، وطلب منه أن يحضر لنا «كوشري».. وأزعجني الطلب .. فالكوشري خليط قاس مسكر من الدخان والحشيش، يعرفه المدمنون في مصر، وقد عرفت اسمه، ولكني لم أذقه..

كان على وجه وجيه أفندي، وهو يصدر هذا الأمر ابتسامة خبيثة خشيتها، وملأت نفسي اضطرابا وريبة، فالرجل يعلم أني لا أدخن الحشيش ومثل هذا الطلب لا يكون إلا بين قوم اعتادوه، أو حين يريد شخص أن يكشف عما في صدر جليسه من أسرار يظن أنه يخفيها عنه عامدا.

ودارت في خاطري ذكرى حديث قديم للشيخ أحمد حين كان يلقنني دروسا في فلسفة الذئاب، فدعوت له بالخير، وحمدت ذاكرتي التي لم تنس وصاياه رغم بعد العهد بها.

جلس الشيخ أحمد بجواري على رمال الصحراء ذات مساء يسألني:

- هل تشرب الخمر؟

- لا

- هل تدخن الحشيش؟

- لا ..فهما يستويان في التحريم ديناً.

- أنا لا أسألك عن رأيك فيهما دينا.. ولكني أسألك هل تتعاطاهما؟

- لا

- إن كنت تتعاطاهما من قبل، فتجنبهما هذه الأيام فليس أفشى لما في صدر الإنسان منهما المخمور، يقول ما في صدرهن وهو لا يدري، والمغيب بالحشيش يقول ما ي صدره وهو يدري ولا يستطيع للسانه رداً.

- شكرا لك على هذه المعلومات.. أما النصيحة، فأنا أتبعها من قبل سماعها منك.

- وأنت اليوم إلى اتباعها أحوج من ذي قبل ولكن، هب إنك جلست مجلسا فيه شراب، وعرض عليك الجالسون أن تشاركهم كأسا فماذا أنت قائل؟.

- أقول إني لا أشرب الخمر.

- هذا كلام معقول، فهذا عذر مقبول،فعادة أهل الريف أن لا تشرب الخمر.

- ولكن ماذا تفعل إذا جلست في مجلس يدخن حشيشا، وعرض عليك الجلوس أن تشاركهم.

- أقول أيضا إني لا أدخن الحشيش

- لا.. هذا يغير مقبول منك، فمن هو في مثل مظهرك الذي أنت عليه الآن يقبل منه المدخنون الحشيش هذا القول عذرًا.. إنهم سيطنون أنك تخفي في صدرك عنهم سراً.

- إذا ماذا أفعل...؟

- تقول إنك تأكل الحشيش لا تدخنه... وآكل الحشيش أعرق في الإدمان من مدخنه .. وبهذا ترى نفسك عليهم السبق في الضمان، وتأخذ نصيبك من الحشيش جافًا، فلقه بعد ذلك حيث شئت.

- شكرا على هذا الأسلوب فقد كنت أجهل المخرج من هذه الحالة

- ولكن بقي أمر..

- أي أمر بعد أن آخذ نصيبي وألقيه، فأريح وأستريح؟

- بقي أن يخبرك المجلس على التدخين فيسمحون لك بنصيبك جافا لتأكله، على أن تشاركهم التدخين علاوة على ذلك وهذا حق من حقوقهم في عرف مدخني الحشيش، فالكيف مشاركة، ولمهم أن يطلبوا منك أن تشاركهم فماذا تفعل...؟

- والله لا أدري ...

- يمكنك أن تلجأ «للقطقطة» ولكن إياك وأن تفعلها إذا كان جليسك حاضر الذهب منبها، فإن ذلك يدعوه إلى اليقين أنك عدو تريد به شرًا، أو جاسوس تخفي ما في نفسك وتريد أن تعرف دخيلة نفسه ولذلك ..

- (مقاطعًا) ولكن قل لي ما هي القطقطه أولا لألجأ إليها أو لا ألجأ..؟

- هي أن تجذب النفس جذبًا ضعيفًا، فلا يتجاوز فمك إلى حلقك، ثم تخرجه فورا، إما إذا خشيت القطقطة، أو اعترض عليها جلساؤك فافسد أثر الحشيش مقدما وذلك بأن تبتلع قبل التدخين قطعة أفيون...

- وهل تريد أن تخرجني من الحشيش لتوقعني في الأفيون.

- الأفيون لا ينسي الأسرار كما يفعل الحشيش وعلى كل ، فلك بدلا من الحشيش أن تأكل ليمونة كاملة قبل أن تدخن.. وثق أ،ك ستواصل مع جلسائك التدخين والسهر ما شاءوا دون أن تتأثر بشيء على الإطلاق.

- وفي ذلك اليوم البعيد، لم أنس يومًا أن تكون في جيبي ليمونة أينما ذهبت منذ وطئت قدماي أرض الريف والمدن، فصرت معرضًا لأن ألق الناس، وأن أجلس في مجالس الحشيش ولكني كنت قليلا ما أتعرض لتلك المجالس وكان الجلوس يكتفون بإعطائي نصيبي جافًا إذا سألوني أن أشاركهم ومع ذلك بقيت الليمونة في جيبي، أغيرها كلما ذبلت .. لقد بقيت آخر ليمونة في جيبي حتى تركت الوطن كله بعد سنين...

ودارت في ذهني تلك الذكرى سريعا واضحة حين أمر وجيه أفندي قريبه بإعداد ذلك الخليط المسكر من الحشيش والدخان الجاف.. فتلمست جيبي، ووجدت الليمونة قابعة فيه.. فاحتججت بدخول دورة المياه حيث أكلت الليمونة بقشرها، ثم عدت إلى مجلسي بمكتب وجيه أفندي ..ولكن ثقتي في وصية الشيخ وفي أثر الليمونة لم تكن كاملة، فما أعدت حتى طلبت نصيبي من الحشيش جافاً لأكله فأخرج الموظف من درج مكتبه الحكومي قطعة حشيش وسلمني إياها وهو يبتسم قائلاً.

-ولكنك ستدخن معي أيضًا.. فأنت ترى ليس جليس معي سواك.. وقرب غابة الجوزة من فمي فارتعدت، وأقسمت أن يبدأ هو . فبدأ ثم أعاد الغابة إلى فلجأت إلى «القطقطة» كما أوصاني الشيخ أن أفعل خشية أن لا تسعف الليمونة في رد سكرة مخدر لم أجربه من قبل.. ولمن نظرة جليسي إزدادت ريبة وهو يقول لي:

- عيب يا سيد ناجي، هل أنا عدو فتخشاني، أم أنت العدو تخشى أن أخدرك .. دخن كما يدهن الرجال إذا اجتمعوا..

ولم يعد من الأمر المكروه بد، فأغمضت عيني ورحت أجذب أنفاسي المخدر كمحموم.. وأناوله الغاب فيجذب في إثري حتى فاقني جذبا وأعيد المخدر مرة وأخرى وثالثة.. وبدأ صاحبي يثرثر.. وأنا جالس أمامه في هدوء لم أتأثر بعد.. وغفل عني مجالسي، فلجأت إلى القطقطة, المغالطة أيضًا فصار هو يدخن، وأنا أجلس قبالته حاضر الذهن تماماً وعند ذاك أحسسن بشي من الاستعلاء عليه وخيل إلي أنه لا خطر من جليسي ,أني كنت واهما فيما ظننت.

وفجأة أوقف وجيه أفندي دروات الحشيش، وأمر قريبه أن يغادر الغرفة ويغلق بابها.. ثم فتح درج مكتبه، وأخرج التوراة والإنجيل والقرآن ووضعها الواحد فوق الآخر، وقربها مني وقال:

- أنا لا أدري من أنت، ولا ما أسمك الحقيقي، ولا بأي دين تدين وهذه الكتب الثلاثة يؤمن بها أصحاب الأديان .. أقسم عليها مجتمعة أن تقول لي الصدق فيما أسألك عنه..

وأحسست أني هبط من استعلائي الذي كنت عليه.. وأكدت لي ابتسامة الرجل أني وقعت في فخ لا مخرج منه ولكني حاولت أن أتماسك، وأن لا أفقد أعصابي من أول هجمة تواجهني آثرت أن أفل ما يفعله الناس العاديون في هذه المواقف.. أن أخرج عن موقف المتهم إلى موقف المهاجم.. وبدأت ألتمس صوتي لأتكلم، فخرج ضعيفًا، ثم ارتفع وامتلأ غضبًا ناتجا عما أنا فيه من خوف:

- هل الرجال في حاجة إلى قسم ليصدق أحدهم الآخر. ألا ترى أنك تهينني في مكتبك، وهو بيتك، بطلبك مني الحلف قبل أن تسأل..؟

- هل طلبت أنا منك أن تقسم على أن تسألني حقيقة ما في نفسك...؟

وسول الإحراج والحشيش والاضطراب للرجل أن يجذب الكتب المقدسة الثلاثة من أمامي ويضع يده عليها، ويقسم بها وبخالقها أن يسألني كل ما في نفسه بصراحة وأن لا يخفي عني شيئًا ثم أعاد الكتب الثلاثة أمامي، وسألني أن أقسم على الصدق في الجواب.

كانت عينا الرجل تشع غضبًا وشكًا لقد سكر حقا بما أسرف في جذبه من أنفاس الحشيش وطمأنني سكره إلى أني لم أفقد الموقف بعد، فأردت أن أزيده اضطرابا وإحراجا عسى أن يكون لي بذلك من بين يديه مخرج لقد كان في مقدوري أن أقسم وأكذب، ولكني أيقنت أن كذبي سيكون واضحا أمام شخص يشك في ويسعى ليعرف الحقيقة فحاولت أن أتصنع الهدوء الذي لم تعد لي منه بقية، وقلت وكأني غاضب:

- أسأل ما شئت، وأنا أقسم لك أن أجيبك. .فإن لم أجبك فأنت وشأنك فيما تظن.

- ونحيت بيدي الكتب الثلاثة من بيننا، وبدأ الرجل يسأل وبدأت أجيب.. وجري الحوار بيننا مضطربًا يوحي إلي تارة أني نجوت،وتارة أني ضعت .. قال.

- ما اسمك..؟

- أنت تعرفه...

- من أي بلد أنت..؟

- لقد ذكرت لك مرارا..

- ما الذي دعاك إلى ترك بلدك والسكنى في هذه المدينة.؟

- سبق أن رويت لك قصة الثأر الذي يطاردني به بعض الناس.

- أين تعلمت القراءة والكتابة..؟

- في كتاب القرية، وأتممت التعلم بجهدي.

- هل سبق أن جندت...؟

- لا... فقد كان عندي أكثر من سبب للإعفاء..

- لماذا تريد أن تشارك أخي في المقهى..؟

- هو الذي أراد .. وأنا قبلت.. فإن ضايقكم هذا، فأنا على استعداد لأن أعدل عنه..

- هل الشابان اللذان يحضران إليك أحيانًا أولاد عمك حقيقة..؟

- إن لم تصدقني فاسألهما...

- لقد دعوناك إلى بيوتنا ...وذهبنا بك إلى بلدتنا ..فلماذا لم تأخذنا إلى بلدك أبدًا..؟

- إن شئت أن نذهب اليوم فهيا... ولكنك قلت لي أن ننتظر تمام القمر.حين يحلو السهر والسمر والحشيش أيضًا أليس هذا رأيك الذي تأخذ اليوم على اتباعي إياه..؟

- وضرب الرجل كفا على كف، وصاح بصوت مبحوح من أثر الغيظ والحشيش:

لقد حرت فيك... وما زدت لك اليوم فهما عما كنت .. لا الضابط نفعني ولا الحشيش اليوم أفادني.. أريد أن أعرف من أنت..؟ وبعير هذا لن أرتاح.

وأحسسن أني نجوت من يد الرجل ولكن الفضول دفعني إلى معرفة ماذا يدور في هذا الرأس المغيب بالحشيش الجالس أمامي، فقلت له:

-هل تسمح لي أن أسألك سؤالا لأريحك .. ولكن اذكر جيدا أنك أقسمت أن تصارحني...

- أسأل ماشئت.. وسأجيبك بصراحة.. وإن شئت أقسمت لك ثانية.

- لا ويكفيني القسم الأول. قل لي ما جال بخاطرك عني، وماذا ظننت حتى رحت الآن تسألني عن كل ما تعرف من أموري..؟

وأخرج هذا السؤال الرجل عن طورة.. وندمت أن سألته قد كان يكفيني أن أٌف عندما سبق من حديث، وأن أبتعد عن طرقه دون أن أواجه الجرح الدامي في صدره، والذي طالما حاول أن يخفيه عني. ندمت أن سعيت بفضولي إلى معرفة حقيقة رأيه في فقد أجاب منفعلاً:

- أنت لست من أهل الريف .. وليس اسمك ناجي .. وليس من يزورك أولاد عمك... أنا أعلم أنك رجل ذكي ومثقف بل لعلك ذو قلب طيب.. أليس لك أولاد كما لنا أولاد... فلماذا تفعل بنا هذا .. حرام عليك ... يا سيدي حرام والله... لماذا تريد أن تجرنا إلى مشاركتك .. حرام هذا الذي تفعله بنا... واختنق صوت الرجل ما يشبه البكاء فسكت وارتفعت دقات قلبي حتى خلت أن محدثي يسمعها وتصلبت كل عضلات جسمي، وفقدت توازني تماما خلت أن رائحة الحشيش التي ملأت جو الغرفة أفقدتني السيطرة على لساني وفكري وخشيت أن أندفع محدثا إياه بحقيقة أمري.. ولكن صوتي كان أضعف من أن يستمر في حديث طويل، فلم يزيد على أن صدر مبحوحًا هامسًا وأنا أقول:

-فمن أنا إذا..؟

أنت .. أنت يا سيدي ضابط في الجيش أو البوليس.. ضابط في المخابرات العسكرية أو المباحث .. وهؤلاء الذين يزورونك مرؤوسيك أنا أعلم أنك جئت لتتجسس علينا، لماذا؟ حرام عليكم هذا هل نعتبر أعداء لعبد الناصر لمجرد أننا مسيحيون..؟

وارتخت عضلاتي فجأة حين أفصح عن ظنه.. وتصبب وجهي وجسمي عرقا باردا.. وبلعت ريقي مرتين بصعوبة لأجمع ما بقي لدي من قدرة على الحركة والكلام ثم جذبت الكتب المقدسة الثلاثة أمامي ووضعت يدي عليها وقلت صارخًا.

- أقسم لك بالله، وبالقرآن والإنجيل والتوراة وبمحمد وعيسى وموسى أنني لست ضابط مخابرات ولا مباحث، ولم أعمل يوما في المخابرات ولا المباحث ولا أمقت في مصر شيئًا مقتي للمخابرات والمباحث.. ولا يعنيني رأيك في جمال عبد الناصر، وهل أنت عدو له أو صديق، هل ارتاح خاطرك بعد هذا.؟ وتهالكت على مقعدي مبهور الأنفاس، يكاد شهيقي وزفير يعلو على ضوضاء القطار الذي مر في تلك اللحظة بجوار نافذة الغرفة.

لم أدري كيف أنهي الجلسة وإن أحسست بوجوب إنهائها كان المفروض أن أخرج فورًا ولكني أحسست أني منهوك القوى من طول ما شددت أعصابي أثناء الحديث حول معنى في ذهن محدثي، لا أدريه ولكنني أخشاه، كنت أفسر كل ما يقول على أنه عرف حقيقتي وكان هو يخفي في ذهنه ظنا أبعد ما يكون عما أخشى عن الحقيقة العسكرية أو المباحث من أعوان عبد الناصر، وكان يخشى عن الحقيقة ذاتها كان كل منا يخشى الآخر كنت أخشى أن يسلمني لرجال المخابرات العسكرية أو المباحث من أعوان عبد الناصر، وكان يخشى تجسسي عليه وعدي ما قد يزل به لسانه من نقد لعبد الناصر أو هجوم عليه.. لقد كانت مفارقة حري بها أن تضحك... ولكنها كانت في وقتها أشق شيء على ذهني وأعصابي...

جلست صامتًا في مكاني على كره مني، لأني لا أقدر على الكلام والثرثرة وقد طمأنه قسمي الذي أقسمت وشعر أنه في مأمن ممن يتجسس عليه وأباح له التخدير أن يتحدث بصراحة ويكشف عما في قلبه.

بدأ وجيه أفندي يعتذر عن ظنه –وظن أخيه- في شخصيتي، فإن انتشار التجسس، ورهبة الحكم البوليسي القائم، تفرض على الناس حذرا يبلغ سوء الظن بالناس وأكد لي أنهم يشكون في شخصيتي منذ عرفوني .... وأنه لاحظ فارقا واضحا بيني وبين أولاد عمي في أسلوب الكلام والتفكير ومعاملة الناس وقال إنه طالما أثار معي المناقشات ليكشف عما أخفي وراء لباسي الريفي من حقيقة وأنه دعاني إلى بلدته ليسهل لصديقه ضابط النقطة الذي شاركه الشك في شخصيتي أن يتعرف على حقيقة أمري...ثم ألح علي الرجل أن أعذر سوء ظنه وأن أسامحه، فعذرته وسامحته، ولكنني أكدت له أني لن أشارك أخاه في المقهى، ولن أواصل العمل فيه ولن أبيت به ليلتي وحاول الرجل استرضائي ولكن استرضاني كان بعيد المنال، فإن من تطرق الشك في ذهنه على هذه الصورة المخطئة مرة فاستمهل في البحث، قد يتطرق إلى ذهنه الشك مرة أخرى على النحو الصحيح .. وخاصة أنه يستعين في ذلك بصديق من ضباط البوليس وعادت إلى مخيلتي صورة تلك الزيارة لضابط البوليس في بلدة وجيه أفندي، وكيف كنت يومئذ بسيطًا لم أتنبه إلى ما يدبره الناس بشأني....

كان ذلك في ليلة من الليالي، وكنت أقوم بعملي في المقهى كالمعتاد، والمعلم غبريال جالس على مكتبه بجوار الباب، حين جاءنا كعادته وجيه أفندي ومعه صديق بسيارة فجلسا قليلا ثم هما بالانصراف وعرض علي وجيه أن أذهب معه إلى بلدتهم لنزور أهله، ونزور ضابط النقطة التي طالما جلس على المقهى فخدمته كلما قدم للمدينة في عمل رسمي أو في راحته الأسبوعية, وحاولت أن أعتذر ولكني وجدت من وجيه أفندي إصرارا وإلحاح وحملته على أنه حب وزيادة ود... وانضم إليه في إلحاحه أخوه الذي أذن لي بصفته رب العمل –في الانصراف واعدًا أن يقوم الليلة بعملي وبإغلاق الباب حتى أعود في الصباح، وركبنا السيارة، وانطلقت بنا إلى البلدة.

وفي منزل ضابط النقطة –الكائن فوق مقر علمه الرسمي جلسنا وكنا قد أحضرنا للضابط زجاجة كونياك كهدية منا ورد الضابط الهدية بأن أرسل إلى أحد تجار المخدرات في البلدة, فجاءنا بكمية كبيرة من الأفيون والحشيش ليتخير كل منا ما يروقه من أصناف «الكيوف» ولبعض الضباط بتجار المخدرات صلات قوية تمنعهم عادة من ضبطهم إلا إذا اختلفوا فيما بينهم وهذه الصلات تمكن الضباط من انتقاء ما يشاءون من أصناف المخدرات الممتازة بنصف ثمنها أو بغير ثمن على الإطلاق وجاء في إثرنا أهل وجيه أفندي من بيوتهم المنتشرة في البلدة، يحمل كل واحد منهم زجاجة أو أكثر من الخمر المحلى النافذ الرائحة.

ودارت كؤوس الشراب فاعتذرت، وأحرق الحشيش، فأخذت نصيبي جافا دون أن يعترض أحد، ووزع الأفيون... فرحبت به وأخذت منه كل ما قدم إلي ولست أدري هل عثر خدم الضابط بعد انصرافنا على ما ألقيت بجوار الكراسي، أم أن الأقدام حملت تلك القطع الصغيرة الحجم الغالية الثمن ضمن ما حملت من أتربة وأوساخ.

وسكر الضباط .. وبتعه في السكر أغلب الجلساء، وأنا بينهم صاح أشهد ما يدور متعجبًا وللناس في سكرتهم مذاهب شتى وكان صاحبنا ومضيفنا ضابط النقطة ذا مذهب غريب في سكره ما أن يقترب من حد السكرة حتى تتجمع في ذهنه وتطفو على نفسه كل ما في حياته من آلام ومتاعب وأحزان..فيتولاه حزن عميق، يحاول أن يذهبه بالشراب فيكثر منه.. وتزيد مع الشراب أحزانه.. .فيجهش بالبكاء، لا يمنعه من ذلك أن المجلس مجلس أنس، ولا أن كل ما حوله هم من محكوميه.

قضينا آخر الليل نرفه عن الضابط الباكي، ونهدئ من خواطره الحزينة الجياشة ففاته يومئذ –وفات من معه- أن يرقبوني ليدرسوا حالي ويتعرفوا على حقيقتي التي أمعنت في إخفائها عنهم صحوتي وسكرتهم وعدنا مع الصباح وما أفاق من يقود سيارتنا بعد من سكره وكانت تلك الزيارة – كما علمت أخيرًا- إحدى اختبارات القوم لي.. فما أوصلتهم إلى ما يريدون من كشف حقيقتي...

كنت قد تمالكت قواي بعض الشيء أثناء اعترافات وجيه أفندي وثرثرته واعتذاره... فاستأذنت منه، وعجلت بالعودة إلى المدينة تاركا إياه في مكتبه الحكومي، لا أدري كيف سيصرف أعماله وهو في هذه الحال وما أن وصلت إلى المقهى، حتى أبلغت صاحبها عدولي عن مشاركته، فما بدت عليه دهشة، وما سألني سبب العدول، وما ألح على أن أبقى... وسألت رمضان –زميل العمل- أن يبحث لي عن مسكن، وحللت محله في العمل ساعة وسرعان ما وجد لي غرفة بجوار بيته، استأجرتها لفوري، ونقلت إليها سلة ملابسي وأدواتي البسيطة وتركت المقهى ونمت ليلتي في غرفتي على البلاط وفي الصباح اشتريت حشية ومنضدة صغيرة وكرسيين خشبيين..

وهكذا صرت صاحب بيت في المدينة, لا يقلل من أهميته أنه من غرفة واحدة شبه خاليه من الأثاث. وجلست في بيتي الصغير الخالي أغلب اليوم أفكر، وأدبر..

لقد فهمت الآن كل شيء لقد كنت واهمًا في تقدير صلتي بهؤلاء المعارف منذ البداية كنت أظنهم راغبين حقا في صداقتي، وإذا بودهم لي مجرد مداراة لجاسوس الحاكم عليهم.. لا لشخصيتي بوصفي أهلا لأن أكون شريكهم في عملهم لقد كان مديح وجيه أفندي –وأخيه وأصدقائه- في عبد الناصر وحكمة خداعًا لي، ورغبة في أن أسجل لهم ذلك في تقاريري السرية، وأن أكف عن رقابتهم وأرحل عنهم.. لقد كنت أبني من الوهم آمالا، أن أصبح صاحب مقهى، وأن أقيد في السجل التجاري، وأن أحصل على جواز سفر، وأن أسافر إلى الخارج كل هذه كانت أوهامًا ابنيها في ذهني بينما شركائي يدارونني فليس هناك عزم على شراكتي وليس هناك تقدير خاص لناجي ابن الريف ولأهليته أن يعيش في المدينة، ويستثمر رأس ماله الصغير...

لقد أحسست أني وحيد وأني أسقط من أعلى قمة آمالي إنها آمال عقدتها على وهم، ثم ذهبت مع الريح كما تذهب كل الأوهام ... وعلى أن أواجه الحقائق سأقطع صلتي بأسرة صاحب المقهى كلها .. وبصديقهم صاحب الفندق الصغير، فهو ولا شك قد تداول معهم في شكوكهم ومع ذلك سأبقى في المدينة لأهرب من هيئة التحرير بالمركز, ولأن المدينة سبيلي الوحيد نحو النجاة من مصر، إنها خطوة خطوتها لا أريد أن أعجل بالتراجع عنها على أن أطرق مشروعًا جديدًا، أكسب به قوتي وأستثمر رأس مالي الصغير الناتج عن بيع ما أملك من خراف كما أ,هم الناس وأقرر به مظهر بقائي، وأسلوب خروجي من مصر كلها.

وبعد أيام، عرف الناس في تلك المدينة –وفي ركن قصي منها- شخصية «ناجي البقال» هكذا كانوا ينادونني، مع أني بدأت أبعد ما أكون عن مهنة البقال...


ناجي البقال...ومعارف الماضي البعيد

حين قررت أن لا أشارك صاحب المقهى في مقهاه –ولكن هذا القرار وافق هواه- صرت مضطرا إلى أن أبحث عن عمل آخر، أتستر به في حياتي في المدينة، وأستند إليه فيما أحتاج من نفقات في حاضرين وأستنير به في طريق الخروج من البلاد في مستقبلي.. فوجدتني أبدا من جديد لا عمل، ولا بيت، ولا شخصية يمكن أن أدعيها...

ووجدت في مرضان –عامل المقهى وعميل المخابرات المصرية- نعم العون في ذلك... عدت إليه من عند وجيه فما أن لقيته حتى قال له:

- رمضان.. إني أريد حجرة أسكن فيها، فهل تعرف لي حجرة خالية للإيجار.

- ولماذا .. وأين مبيتك في مقهاك؟

- لم تعد مقهاي، ولن تكون..فإن أصحابها يحاولون التخلص من شركتي لهم بالمعاذير...

- وكان رمضان يحبني أكثر مما يحب مخدوميه الحاليين، فساءه أن يتخلصوا من شركتي إياهم بعد ما رأى مني في عملي من إخلاص أدي إلأى زيادة عدد الزبائن عن ذي قبل.. فقمت بعمله في المقهى ساعة، غابها حين وجد لي حجرة .. ذهبت فاستأجرتها قبل أن أراها.. ثم رأيتها..

وكانت غرفة صغيرة ذات شباك عال قريب من سقفها وباب يحدث جلبة إذا فتح أو أغلق، ومفتاح أسود يزن كيلو جراماً.. وكانت مرصوفة بالأسمنت، ملحقًا بها شيئًا يسمى دورة مياه.. ولكن دون مياه.

وأحضر لي رمضان من بيته في أول ليلة حصيرة أنام عليها، ولم تكن حرارة الجو لتحوجني إلى غطاء، ونمت ليلتي الأولى استلقيت على الحصيرة، أفكر في مصيري.

كنت أتصور نفسي كمن صعد سلمًا نحو نجاته حتى بلغ أقصاه، وفجأة انهار السلم، فوجد نفسه في القاع حيث كان وزاد أن أصيب بما أصيب به من جراح ومن دوار يحدثه السقوط عادة كنت أأمل أن أصبح صاحب مقهى يدفع الضرائب ويتعامل مع الدولة،فيسهل لي هذا يوما أن أسافر كما يسافر الناس.. وبهذا أتم ما بدأته من تأمين لحريتي .. ولكن القوم يشكون في وألزمني شكهم أن أتركهم وأنا لا أعرف غيرهم يمكن أن أستعين بهم على ما أريد إلا صاحب ذلك الفندق الصغير الذي نزلت به مرات، وساعدت صاحبه في عمله، ولكن أغلب الظن أن رأي صاحب الفندق في لا يختلف كثيرًا عن رأي أصحاب المقهى فهم أقارب، ولعل كل منهما أفضى للآخر بما في نفسه...

والآن .. ماذا أنا صانع، هل أعود إلى بيت الشيخ أحمد وسط زوجته وعياله، حين لا أستطيع أن أغادر الغرفة العليا إلا إذا قررت العودة إلى الصحراء من جديد، فألغي من طريقي إلى النجاة شوطًا كبيرًا ظننت أني قطعته؟

هل أعود إلى مكاني كناجي الفلاح في تلك القرية التي استأجرت فيها أرضًا فأعود إلى ضغط هيئة التحرير لكي أشترك فيها وأساهم في أعمالها، وقد يترتب على ذلك أن يعرضوني كما يعرضوا شيئًا غريبًا في المعارضة على مندوب الهيئة في مصر وضباطها، وقد يعرفني من هؤلاء بعضهم فأضيع...لا لن.. أفعل ولا ذاك، لن أعرض نفسي لعضوية هيئة التحرير، ولن أعود إلى الصحراء من جديد... لقد قطعت شوطًا على أن أتمه ...إن كنت قد سقطت من عال وفقدت ما ففدت فقد بقيت لي ثقتي بنفسي.. وبقي لي ما يدفعني إلى المتدينة دون خطر.. فلا أبدأ عملا جديدًا، ولا بدأه وحدي، فمعي رأس المال الذي كنت سأضعه في المقهى فلأضعه في عمل آخر.

وما إن انتهيت في الصباح من شراء الحشية والكرسيين والمنضدة لأشغل بها فراغ مسكني، حتى كنت أجوب المدينة، وخاصة أطرافها أبحث عن دكان أستأجره وأشتري أي بضاعة أضعها فيه، وأصبح صاحب دكان.

ولم تمض أيام –جبت فيها المدينة كلها حتى عثرت في أحد أطرافها وعلى منفذ من منافذ البيت إلهيا على دكان أو كشك صغير، معتدل الإيجار يشاع عنه أنه مشئوم لا يطول مقام مستأجره فيه حتى يفلس أو يهجر البلد.. وتفاءلت بهذا الذي تشاءم به الناس، فأنا أحوج ما أكون إلى ما يسهل لي سبيل الهجرة من البلد..واستأجرت الدكان، وكتبت عقد استئجاره يوم 25 أغسطس سنة 1956م، وبدأت أ:نس أرضه وامسحها، وأبحث عمن يعيد طلاء جدرانه التي أذهبت القذارة لونها...

وجاءني صاحب الدكان، وهو رجل بلغ الثمانين من عمره، فاستعرت له كرسيًا من جارين وجلس يسألني وينصحني بخبرة من أفنى عمره في التجارة وصنوفها، فقال:

- في أي تجارة تنوي أن تعمل؟

- الكازوزة وبعض الخردوات البسيطة

- عليك بالبقالة فليس بجوارك بقال

- أنا لا أعرف في البقالة شيئًا

- ستتعلم وهي تجارة مربحة.. ولكن عليك بتجنب ثلاثة أمور: الغش والعشق، والتفريط.. فالغش يطرد العملاء، والعشق يؤدي إلى الإفلاس والتفريط يأكل الربح.. فالتجارة ربحها بسيط في كل صفقة، فإن ضيعته ضيعت ربحك....

- وبعد أسبوع، بدأت العمل في الدكان .. بعض السجائر، والحلوى، ولعب الأطفال.. وتدرج الأمر إلى الجبن والزيتون والعسل ثم السكر والشاي.. وبدأ الدكان يتطور شيئًا فشيئًا ليكون شبه بقالة، وإن لم أستطع لقلة الخبرة وضعف رأس المال أن يتم تطوره.

وامتنعت عن بيع الكوكاكولا وغيرها من صنوف المشروبات الغازية، لأن جاري الذي كان يتخذها تجارته الأصلية طلب مني أن أكف عن بيعها ويمتنع هو عن بيع السجائر، ووسط في ذلك أحد أعيان الشارع فقبلت، وإن لم يرضى قبولي كثيرين، واعتبره صاحب الدكان أول تفريط وظللت ممتنعاً عن بيع الكازوزة تمسكا باتفاقنا حتى انتهى الأجل المضروب لجاري أن يكف بعده عن الإتجار في السجائر ولكنه استمر، وكلما حدثته في ذلك أمهلني إلى أجل آخر، فأشهدت عليه الوسيط، وبدأت أتاجر في السجائر أيضًا، وأدخن منها كفايتي بطبيعة الحال...

وكان عمل البقالة شاقًا فعلا فقد كان لزاما على أن أبكر في الصباح لأواجه التلاميذ في ذهابهم إلى المدرسة فأبيع هذا بعض الحلوى، وذاك ساندويتش جبنه ثم أواجه بعد ذلك فوج العمال الذاهبين إلى عملهم، فيشتري بعضهم سيجارتين وبعضهم باكو دخان ثم يأتي دور الموظفين الذين يبكرون بالذهاب إلى العمل فيشتري الواحد منهم سيجارتين أو ثلاثة.. ولا يشتري العلب كاملة إلا الذين يذهبون إلى عمهم متأخرًا لأنهم وحدهم الرؤساء الذين يستطيعون شراء العلبة وكان لزاما على أن أبقى فاتحًا الدكان ظهرا إذ قد يحتاج آكل إلى شراء شيء، وأسهر في الليل لأواجه العائدين من سهراتهم إلى بيوتهم فقد يشترون شيئًا.

وكان عندي بالنسبة للأطفال ضعف خاص، يتنافى م صنعة التاجر طالب الربح، إذ كان كل طفل وطفله يذكراني بأولادي، فلا يشتري مني أحدهم شيئًا إلا خصصته ببعض الحلوى وزدت لهم فيها فإن اشترى الطفل حلوى زدتها له كثيرًا .. ويثور مالك الدكان علي إنه يرى ذلك تفريطًا شديدا في الاحتفاظ بحقي في الربح ولا يعذرني لأنه لا يدري ما يدفعني، وأعذره لأني أعلم أنه بحرصه على ما أدى به كبر سنه من امتناع عن العمل.. ثم هو حريص أن يدفع عن دكانه هذا شائعة التشاؤم منه....

واشتريت عجلة مستعملة (بسكلته) وأصبح منظرًا مألوفا أن أرى راكبها لأذهب إلى قلب المدينة حيث السوق الكبير وتجار الجملة، وأرجع حاملا ورائي صندوقًا أو شوالا أو كليهما فإن توفير أجرة الحمال من السوق إلى الدكان نصيب من الربح لا يستهان به...

وفي يوم سوق المدينة العام، وهو يوم في الأسبوع تمتلئ فيه الطريق المؤدية إلى المدينة بأهل الريف رجالا ونساء جاء كل منهم يبيع ما وفره من قوت عياله طول الأسبوع من بيض وزبد، ليشتري به ما هو في حاجة إليه من بضاعة المدينة من صابون وسكر وشاي وفول سوداني وبعض المسلى النباتي ليغش به الزبد الذي سيبيعه في الأسبوع القادم، ودكاني كان يقف الناس ليشترون من هؤلاء الريفيين ما جاءوا به قبل أن يصلوا به إلى السوق فيكثر المشترون .. ويوزن الزبد في دكاني وعلى ميزاني لقاء أجر معلوم وقد أكون أنا المشتري ولي مع ذلك أجر الميزان ربحا خالصًا يضاف إلى ما سأحصله من ربح البيع بعد ذلك بسعر أعلا...

إن الموظف والمحامي وهما العملان اللذان قمت بهما في حياتي العادية لا تتفق عقليتهما في فهم الربح مع عمل تاجر التجزئة الصغير بحال من الأحوال فالموظف يفهم أن أجره الذي يكفيه شهرا يتقاضاه كل شهر عن عمله، وهذا دخله.. والمحامي يتقاضى مبلغا كبيرًا يشعر به عن العمل الواحد وإن طال .. هو يقدر بعد ذلك مصاريفه الشهرية أو السنوية فيعرف دخله .. أما تاجر التجزئه الصغير فهو غير ذلك .. إنه يبيع يومه وأغلب ليله بالقرش والقرشين ونصف القرش.. ليربح في كل صفقة مليماً أو جزء من مليم فهو لا يحس بحقيقة دخله، ولكن مع توالي عمليات البيع والشراء ينتج الدخل ينتج زيادة في بضاعة الدكان أي في رأس ماله وينتج مواجهة لمصاريفه...

وهكذا بدأت استقر وأحس أني أربح، أو أني صاحب دخل إن لم يكن ثابتًا واضحا فهو موجود لا شك في ذلك فالبضاعة كما وكيفًا تزيد في الدكان وأنا أعيش آكلا كاسيًا دافعا أجر مسكني ثم أنا لا أنسى أن أعين أولاد عمي أي أولاد الشيخ أولاد الشيخ أحمد في معاشهم عونا يزيد عما كنت أستطيعه من قبل.. وهكذا اعتبرت تاجرا ناجحا في حدود النجاح البسيط المقصود من صاحب دكان صغير في طرف من أطراف مدينة في أقاليم مصر..

وصرت صديقا للخدم والبوابين، حتى خدم وبوابين وزملاء كنت أعرفهم من قبل ولكنهم اليوم في بيوتهم لا يعرفون عني شيئًا فليس دكاني الصغير بالدكان للائق بأمثال هؤلاء أن يقفوا أمامه ليشتروا منه ما يريدون ..بل الخادم أو البواب هو الذي يفعل عنهم ذلك...

وكان صباح ..

بعد أن مرت فترة العمل المبكر، وأكلت صحن فول اشتريته من جاري، وجلست أدخن وأنا أتمم حسابات يومية الأمس وإذا بعميل محترم يقف أمامي ليطلب علبة سجائر من نوع غال... ورفعت عيني وأنا انتصب واقفا في احترام فالاحترام أقصر الطرق إلى قلب العميل وجيبه وألتقت عيوننا فعرفته،ولكني أسرعت إلى السجائر أقدمها له، وأعطيته باقي نقوده لينصرف .. وانصرف وهو يعيد النظر إلى وقد لوي رقبته إلى خلفه ليتحقق مني..

كان زميلا قديما جمعتني وإياه أيام الدراسة المبكرة جمعنا في الفصل في درجين متجاورين وفي الحوش نلعب الكرة في فريق واحد ومع ذلك لم تنشأ بيننا صداقة بالمعنى المفهوم وفرقت بيننا الدراسة الجامعية ثم التقينا في العمل المنفصل تماما حين عرضت قضايا أستعين به على النواحي الفنية فيها، وكنت أنا المسؤول عنا قضائيًا وما ظننت بعد ذلك أن أراه.

أما أنا فعرفته لأنه هو أما هو فأغلب الظن عندي أنه ما عرفني ولكن استلفت نظره في شبه ذكره بماضي بعيد لم يستطع ذهنه له تحديدا وانقضى اليوم بتعبه وكسبه وخسارته، وأغلقت دكاني قبل منتصف الليل بساعة, وعدت إلى بيتي.

وكنت حين استقر بي الحال بقالا اتخذت بيتا آخر، أرحب، وأكثر غرفا وأغلى أجرًا، وآخر في المدينة قرب دكاني واشتريت سريرا ودولاباً، وكرسيين آخرين فجعلت غرفة للجلوس ولقاء زواري من الخدم والبوابين، وجعلت الأخرى لنومي فلا يدخلها أحد لأن فيها ما أكتب من أوراق وفيها سلاحي الذي لم أستطع التخلي عنه بعد...

عدت إلى بيتي فخلعت ثياب العمل وجلست مع أوراقي أكتب في غرفة نومي عدت إلى نفسي وشخصيتي بعد أن هرت منها يوما كاملا عدت إليها لأتأمل وأكتب في هدوء بعيدا عن الرقابة وما أخشاه من تطلعهم. وقطع علي الاستغراق طرق بسيط .. فأنصت .. وعاد الطرق خفيفا كما بدأ ... إنه على بابي.. من الطارق الآن، وقد انتصف الليل ليس لي زائر أرقبه في ذلك الوقت فأولاد عمي لا يزورونني ليلا إذا تنقطع المواصلات بين بلدتهم والمدينة منذ الغروب.. وعملائي من الخدم والبوابين لا يزورونني ليلا وأعدت الإنصات وعاد الطرق وقد زاد شدة عن ذي قبل...

ولم أدر ما أفعل .. فخرجت من غرفة نومي، ووقفت خلف الباب منصتا لعل همسا يجري بالباب أفهم منه من الطارق وتوالى الطرق واشتد بل عنف...

وليس لمن في حالي أن يفكر إلا أن وراء كل أمر غريب خطرا ولذلك لم أتردد في الظن أن البوليس و القادم .. هو الطارق .. وفكرت في الهرب.

وكنت قد حرصت في بيتي هذه المرة أن يكون طريق الهرب منه مأمونًا فهو ذو منور من خلف الشارع يسهل أن يقفز منه الإنسان إلى المزارع الواسعة حيث يختفي ويسير إلى حيث يريد.. وفتحت باب المنور ولم أنس أن آخذ معي سلاحي...

ولكن يا للأس لقد كان جيراني يقضون سهرتهم في منورهم الملاصق لمنوري.. فاليوم خميس وهم موظفون، وغدا عطلة الأسبوع، فحلا لهم السهر مع زملائهم وفي المنور.. ولو حاولت هربا لرابهم أمري، ولساهموا في القبض علي..

والطرق بالباب يتوالى.. ولا مفر.. واقتربت من الباب سائلا في همس:

-من..؟

- أنا........... وفتحت الباب وأنا لا أستطيع منع نفسي من سبه إنه ذلك الزميل عرفني، وراقبني وتعقبني حتى عرف مسكني وجاء ليلا يزورني ويعرض أن يؤدي لي أي خدمة أريدها .. ولم تكن لي خدمة أطلبها إلا أن يصبر على إزاء ما سببه لي من إزعاج وقد أدى لي الخدمة راضيًا فسببته... وجلست وفي غرفة نومي وعلى ضوء مصباح الغاز نذكر الماضي ونضحك والحاضر ونواصل الضحك, وأحس الصديق القديم أني سعيد حقا، غير آبه بما آله إليه حالي، فأراحه ذلك وكانت بيننا بعدها مغامرات كثيرة.

وحقيق بمن يعرف «سيف الدين» أن يقطع بأنه من أنصار الحكم القائم في مصر الملائمين له كل الملاءمة فهو موظف حكومي يؤدي علمه بإخلاص لحساب حكم عبد الناصر، وهو يرقب الأحداث في صمت ويقرأ الجرائد بانتظام، ولا يفكر في السياسة ولم يكن يوما ما في الماضي رجعيًا ولا استغلاليا ولا إقطاعياً وإذا سمع حديثا فيه نقد للأوضاع لم يشترك فيه، فإذا سئل رأيه التمس لأخطاء الحكم ما يسعفه به ذهنه من معاذير وهو على كل حال في السياسة مشغول بعمله ورياضته ونزهاته، ومشروعات زواجه المستقبلة... هكذا عرفته من قبل وعرفه الناس.. حتى التقيت به وأنا في هذه الظروف، طريد الدولة التي هو من أنصارها ومكافحًا في معركة الحرية الفردية التي لم يشغل هو نفسه بها من قبل..فإذا به يحمل في صدره قلبا ينبض بحب الحرية وكراهية الدكتاتورية والطغيان العسكري ،ولكنه ساكن سكون غيره من الناس، يرقب فرصته..

وسألته يوما: لم يبدو هكذا غير آبه بحقوق الناس وحرياتهم فقال اسمع مني هذه النكتة:

طلب شاب للتجنيد، وهو يكره أن يجند في هذا العصر، فادعى ضعف النظر، فإذا سأله طبيب العيون عن علامة ما هي، سأله: أي علامة .. أين هي العلامة ..فيقول الطبيب تلك التي على اللوحة.. فيجيب أي لوحة ..أين هي اللوحة فيقول الطبيب: تلك اللوحة التي على الحائط أمامك فيجيب: أي حائط أين هو الحائط...؟ فيكتفي الطبيب بهذا القدر، ويقرر عدم لياقته الطبية للخدمة العسكرية ويخرج الشاب فرحًا فيحتفل بما نال من إعفاء بأن يذهب إلى دار للسينما وإذا بجلسته تكون بجوار ذات الطبيب الذي امتحنه ويعجب الطبيب من أمره ويسأله: كنت لا ترى الحائط فكيف ترى الآن ما على الشاشة فيجيب الشاب بنفس البلاهة: شاشة.. أي شاشة.. أليس هذا أتوبيس رقم ستة.

ويضحك «سيف الدين» من أعماقه الصافية مقهقها، ويقول هكذا حال الناس الآن.

ويحاول سيف الدين أن يخدمني فيوصي كل من يعرف أن يشتري سجائره مني.. وفاته أن بعض هؤلاء مثله معارف الماضي...

ويكثر من عندي المشترون المحترمون –بأنفسهم أو خدمهم- ويعرفني منهم كثير.. ويكثر معارفي على حقيقتي وهذا أمر يثير الاضطراب وفي نفس الوجلة المترقبه الشر دائما .. ثم يظهر في الأفق شخص جديد، يكون شبحا يثير نفسي اشمئزاز لا رعبا.

بجوار دكاني مصلحة حكومية تصبح يوما فتجد أنه قد ألحق للعمل بها شاويش في الجيش وأحاول أن أفهم الصلة بين شاويش في المدفعية وبين أعمال هذه الإدارة الحكومية، فلا أستطيع.. ولكن لم لا وكثر من الضباط يلحقون بالأعمال المدنية قد بدأ. وديري لعلهم غدا يلحقون الجنود أيضا.. ويمر الشاويش الذي لا يزال يحتفظ بزيه العسكري بالحوانيت الأربعة التي في المكان يشتري منها على التوالي، فيجدني أدمث أصحابها خلقا وأهدأهم طبعًا.. ولو لم أكن كذلك لوجب علي أن أصطنعه الآن فيأتي لي، ويجعل دكاني محله المختار، فيه يفطر وقد يتغدى ويقضي فترة العصر ويشتري مني السجائر ولوازم بيته من البقالة في الحدود التي أبيعها...

والشاويش عميل جدير بالتاجر الصغير مثلي أن يحتفظ به.. فهو يشتري علبتين من السجائر على الأقل يوميًا فضلا عن الطعام وأصناف البقالة ولذلك وحاولت أن أحتفظ به، بالاحترام، وحسن المعاملة، وتقديم زجاجة كوكاكولا مجانا له كل عدة أيام.


وصار الشاويش صديقا حميما لناجي

وأسر إلي يوما أنه يريدني في أمر من الأمور الخاصة، وأنه سيزورني في بيتي بعد انتهاء علمي في المساء ليتحدث إلي على انفراد وأبلغت سيف الدين كلي لا يفاجئني بزيارة والشاويش عندي...

وجاء الشاويش، وجلس في الغرفة التي أستقبل فيها الناس، وسألني إن كان أهلي معي فقلت له لا وقدمت له كوب شاي وبدأ يتحدث

وبعد مقدمات طويلة في شرح نظام الحكم وأهداف الثورة وشخصية جمال عبد الناصر مقدمات أحسست أنها محفوظة يلقيها كما يعيد أي ببغاء حديثا سمعه، تطرق إلى ما يحال من مؤامرات ضد الدولة وسلامتها، وأن مدينتنا هذه التي نحن فيها مركز من مراكز المؤامرات وأنه واجب على كل وطني مثلي أن يدفع عن الدولة شر هذه المؤامرات بالإرشاد عنها، ومراقبة الناس ليعلم حقيقة شعورهم نحو الثورة وبطل البلاد وزعيمها جمال عبد الناصر..

إذا، لهذا ألحق الشاويش بالعمل المدني...

إذا هذه هي الصلة بين المدفعية وأعمال الإدارة الفنية.

إذا، لهذا آنس لي الشاويش وقرر صداقتي..

ووصل الشاويش في حديثه إلى نهايته، وأبلغني أنه على استعداد أن يعطيني أجرا مقابل ملاحظة الجو حولي وحديث الناس عن الثورة، لأن هذه يفيده...إنه يريدني جاسوسا وعميلا للمخابرات. ومنه عرفت أ، القهوجي رمضان وكان قد رآه عندي مرة يعمل في المخابرات وينال عن ذلك أجرا كبيرًا ففهمت كيف يوازن رمضان ميزانيته الكبيرة بأجره المحدود...

ولم أرفض عرض الشاويش ولم أقبله... ولكني وعدته أن أرقب الحالة، وأبلغه بكل مؤامرة أعرفها، أما الأجر فهذا أمر لا محل للمدنيين فيه الآن .. وهكذا حاول أعوان جمال عبد الناصر أن يستعينوا بي في القضاء على مثلي.. أليس هذه من مهازل القدر ومفارقاته..؟

وظل الشاويش يتردد لعي ليعرف نتيجة مراقباتي وأنا لا جديد عندي أبدا أقول له...وأحسست بالحرج أحسست بأن قدرا يطاردني ويلزمني أن اهجر هذه المدينة أيضا بعدما وصلت إليه بها من أمن واستقرار.. وقررت النزوح ولكن إلى أين .. ومتى....؟

وأيا كان الأمر فقد كنت قد حصلت في المدينة ربحا كبيرا لا في التجارة ولكن في الاستقرار وضعي ورسم أسلوب خروجي من مصر كنت قد أصبحت صاحب محل مرخص له من جانب الدولة وصرت تاجرًا مقيدا اسمه في السجل التجاري، وصرت أحمل رخصة عمل باسمي، وشهادة ميلاد كساقط قيد.. .صرت إنسانا آخر معترفا به من جانب السلطات وكانت هذه خطوة كبيرة ما قدرت أن أحققها في ذلك الوقت القصير...


ثأر..... وهجرة

لم يكف حامد منذ قتل إبراهيم ابن عم أبيه عن الحديث معي عن ثأره.. وهو الذي وهبني دمه منذ كان يبحث عني في الصحراء ليسلمني إلى المشنقة ويسلم معي أي عدد كان من أهل الشيخ أحمد، وعلى رأسهم حامد نفسه بطبيعة الحال ولكن إبراهيم منذ قتل، وقتله آخر غيري وغير حامد، وحامد أحد أصحاب الدم...

وهو يفكر في الأمر، هل يترك دم قتيله فيثأر له غيره، أم يسبق هو إلى هذا الثأر فيضمن بذلك المكانة في العشيرة، وفي البلد كلها وهو يحاول أن يقنعني أن من حقه الأخذ بثأر ابن عم أبيه، ولعله كان يضمر أن أعينه على ذلك ويمنعه من الإفصاح أن أباه أوصى بإعفائي من هذا الشرط وشروط جوار المجرمين..

وتذهب بعثة من ستة أشخاص ليس فيهم أحد من أولاد الشيخ أحمد لتثأر للقتيل.. وتعود دون أن تريق دما.. فيشتد حنق حامد، وتسول له نفسه أن ينال وحده الفخر الذي عجزت عنه بعثة من ستة أشخاص مسلحين.

ويأتي إلي يوم زائرًا، ويفضي إلي أنه قرر الثأر لقتيلهن وهو لا يعرف من قاتلهن ولذلك يجب أن يذهب إلى البلد التي قتل فيها فيطلق النار على رجلين يرديهما صريعين ثم يعود أي رجلين، لا يهم صلتهما بالحادث من قريب أو بعيد.. وهو يحدد رجلين، لأن الثأر في شريعتهم يتكرر إذا حاول القاتل إخفاء جثة قتله.. وقاتل إبراهيم ألقى بجثته في الترعة, وهذه محاولة لإخفائها.

ويشت الجدل بيننا فأنا أرى أن هذا أسلوب من الثأر لا يقره عرف ولا قانون.. فيقتنع الشاب بعد مشقة، وتذهب بعثة تحقق من القاتل..

ويستدلون عليه.. إنه كان شريكاً لإبراهيم في العصابة، أغضبه أن أخفى إبراهيم بعض ما سرق، فأطلق عليه النار، ولم ينكر الحادث في حديثه مع الناس، بل اعترف به أو جعله أحدوثة يتحدث بها ليفخر.. وجاء حامد ينقل لي الخبر ويسألني رأيي فيه أن يثأر من القاتل نفسه.. وحاولت جداله، فأجأني بعض الوقت ولكنه لم ينتظر كنت أجلس في دكاني ذات صباح حين قدم علي «حامد» ووجهه قد اكتسى بابتسامة المنتصر الذي أزاح عن كاهله عبئًا ثقيلا، وكتب اسمه بأحرف ن نور في لوح الكرامة والشرف وأيقنت أن الشاب فعلها وبادرته بالسؤال قبل أن يجلس:

-أو فعلتها..؟

- نعم، والحمد لله.. أنا وحدي أخذت بثأر إبراهيم..

لقد ذهب إلى قاتله في بلده وظل يرقبه أربعة أيام بلياليها لا يغفل عنه، حتى كان آخر الليل في حفل مولد، فانقض عليه ومسدسه في يده، فأطلق عليه رصاصتين، والثالثة عبد أن سقط ثم صاح في الناس أ، ابتعدوا أخلوا له الطريق ليهرب... وعاد إلي من مكان الجريمة وأنا أحس أن يديه لا زالتا تقطران دمًا...

وارتفعت أسهم «حامد» في بلده ولكنه أصبح هو الآخر مطاردا، مطلوبا ليثأر أهل القتيل الجديد.. والكل يعرف بيته، ويعرف الأرض التي استأجرها معي.. فكان لزاما على أن أفكر في مكان آخر ينتقل إليه ولم تكن المدينة بالنسبة له مكانًا مناسبا فهو يضيق بالمدن ذرعا..

وأنهيت إيجار تلك الأرض التي استأجرناها معا.. واستأجرنا –شركاء أرضا أخرى في إقليم يبعد كثيرا عن الإقليم الذي كان يعيش فيه.. وهناك، جلس حامد فرح، ويعبث بسلاحه، وأنا في المدينة أعمل.. ويزورني بعض الوقت ليرى من ترف المدينة ما لا يراه في الريف عادة.. ولم يكن الترف في تصورهم يزيد عن الأكل في مطعم أحيانًا، والذهاب إلى دار السينما مرة...

وكثر حولي معارف الماضي العارفون بحقيقتي وطاردني الشاويش مطالبا إياي أن أعمل معه في المخابرات.

وأنا أشهد أن معارف الماضي ما كان منهم خطر، فقد كان كل مهم نبيلا شهمًا يعنني على قدر استطاعته في معركتي ولكني أخشى العارفون لأمري مهما كانت الظروف.. ثم قد يراني ذلك الشاويش زائراً أحدهم مرة، أو مزورا منه، أو متحدثا معه في غير كلفة، فماذا سيظن وتكاثرت حولي الأوهام وآن أن أهجر المدينة..

كم كان شاقا علي ذلك الذي فعلت لأحصل على ما حصلت من أوراق شهد العمدة المشايخ أني ابن فلان، ومن مواليد بلدة كذا سنة كذا وأني ساقط القيد... وقدر الطبيب سني.. وأعلن عن ذلك في الجرائد .. وقيدت في دفتر المواليد...

وحصلت –مترددا أكثر من مرة على دواوين الحكومة ومراكز البوليس- على رخصة لمحلي المتواضع فصرت صاحب متجر لا أخشى بعده أن أرسل إلى بلدي إذا قبض علي البوليس في مشتبها....

وحملت رخصة عمل في البقالة ألزمتنني أن يكشف على طبيب في أكث من مستشفى وأن تلصق صورتي بالرخصة، وأن تختم بخاتم الدولة.

وقرب أمام تصوري- موعد خروجي من مصر, ولكن ليس لي مقام في المدينة بعد ذلك فجرتها، وآويت إلى حيث يأوي حامد في مديرية بعيدة، يسكن قرية على حدود الصحراء الغربية وهو طريد ثأر وأنا طريد دولة.

وبعت نصف دكاني المزدهر لجار وجلس هو فه مقابل أجر فضلا عن حصته ولم يدفع لي من ثمنه إلا القليل وضعته في مصاريف الزراعة الجديدة..

وحاولت هناك في تلك القرية على حدود الصحراء أن أعيش عيشتي السابقة في الصحراء معه.. ولكن كان هناك أرق، فالخضرة قريبة, الناس كثيرون...

وبدأت أبحث إمكانيات الهرب من الصحراء الغربية وأحسست أنها ممكنة برغم ما فيها من مشقة .. وخطت في ذلك خطوات.

ولكن.. هناك شيء آخر يربطني بتلك المدينة، شيء غير الدكان إنه أمل أو خيط بسيط من أمل –رأيته في حديث مع عزيز- أحد أصدقائي فتعلقت به.. وقررت أن أسير معه، لعله يوصلني إلى حيث أريد..

فكنت أتردد على المدينة أحيانًا، وأغيب عنها في الزراعة أحيانًا وعرف الشيخ ناجي في المكانين والقطارات بينهما كتاجر ومزارع معا..

وفي جلسة .. توسمت ذلك الخيط البسيط من أمل لاح أمامي عن صورة واضحة لا يجوز أن أتركها .. فسرت فيها إلى النهاية...


نهاية الطريق

لم يكن «عزيز» زميلا لأحد أولئك الذين عرفوني .. وأوصاه من عرفني أن يشتري مني، ففعل.. ثم أبلغه أني فلان... فما اطرب وما أهتم، وأخذ الأمر أخذًا هينا.. وأرسل في دعوتي.. وكانت بيننا لقاءات... وفي ليلة من الليالي، كان يذاع بالراديو حفلا يري عزيز أن يسمعه، ولم يكن عنده راديو فبعث إلى يطلب أن أرسل له الراديو، وأن أحضر لأقضي معه السهرة بعد أن أنتهي من عملي.. وفي تلك الجلسة شعرت أن عزيزا يوافقني على وجوب خروجي من مصر، وقد خيل إلى أنه يبسط الأمر ويراه ميسورا رغم ما على السفر من قيود للشخص العادي، فما بالنا بشخص في مثل وضعي..

وبهذا الخيط من الأمل تشبثت فكنت أجذبه كلما زرت المدينة ولقيت غزيزًا، وفي كل مرة ألقى عزيزًا، عند رأيه وفي حماسة للتنفيذ.. بل إن حماسه يزداد.. حتى وضع لي خطة..

ووضعت الخطة موضع التنفيذ.. وقام هو بكل ما فيها من أعمال.. وما كان علي إلا أن أسير على الخطة لا أطالب بأكثر من أن أحفظ أعصابي وأدعو الله أن ينقذني...

وزارني بدر ومختار وثابت.. ورأيت عبد الله وأنيس.. حدد موعد السفر .. وعشت بعد ذلك شهرين كاملين حياتي العادية لا يعلم أحد ممن حولي غير هؤلاء الذين ذكرت أخيرًا شيئا عن سفري.. وكتبت تنازلا عما أملك عنه لأولاد الشيخ أحمد رحمه الله.

وكانت عهود ومواثيق.. وفي صباح يوم من الأيام الأولى من أغسطس سنة 1957 بعد ثلاثة أعوام كاملة قضيتها بمصر كنت على الحدود أودع الوطن..

وظهر فجأة أحد ضباط الجيش، وكان يعرفني من قبل، جاء ومعه ثلاثة من جنود يتأكدون من شخصية عابري الحدود من مصر إلى خارجها ونظر إلى الرجل فعرفني فما زاد عن أن نظر إلى وابتسم، ثم أذن لنا بالمسير وظل يلوح لنا حتى غبنا عن ناظره.

ولم يفهم صحابي –ولا جنوده- لم حرص الضابط على التلويح لذلك الراكب وفاتهم أنه يثبت بذلك سخط الجميع على كل طغيان من الحكم ومحاربة لحرية الناس..

وبعد... (لحديثي إيضاح وبقية يا أحمد.. واعذرني.. فأنت لا تعلم ماذا أنوي، فإن عدت أتممت لك الحديث وأوضحته .. فقد كان آخر ما نطق به لساني وأنا أغادر الوطن أن أحاول إنقاذ بدر، وكل بدر في مصر فكل من في مصر من عشاق الحرية عندي بدر)

وإلى اللقاء


ترجمة الكاتب : الأستاذ /حسن العشماوي

  • أتم دراسته القانون عام 1942، وتخصص بعد ذلك في القانون الخاص والشريعة الإسلامية.
  • اشتغل بالإصلاح الاجتماعي والحركة العمالية والنشاط السياسي خلال الحركة الإسلامية التي انتهى إليها في أوائل الأربعينات.
  • اشتغل بالقانون تدريسا وتطبيقًا وتشريعًا في البلاد العربية خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة من حياته.

من ترائه المنشور:

ومن تراثه المخطوط: