د. أبو الفتوح يكتب عن: الإصلاح في فكر الإمام البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

د. أبو الفتوح يكتب عن: الإصلاح في فكر الإمام البنا

كان رضي الله عنه ينطلق في مفهومه للإصلاح من إيمانه العميق بشمولية الإسلام لكل أوضاع الكون.. الإسلام الجامع لكل أطراف الحياة المهيمن على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في شئون البشر.

(هكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذا الظلام وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾).

هذه الكلمات قالها الإمام الشهيد للإخوان خاصةً وللأمة عامة في أحد المؤتمرات.. مبينًا فيها حقيقة دعوة الإخوان المسلمين والدور الذي هيأهم الله سبحانه وتعالى له، والمتتبع لرسائل ومحاضرات الأستاذ الشهيد يجدها في معظمها تتجه نحو هذا المعنى.. ذلك المعنى الذي يشير إلى واقع الأمة بمكوناته (التركة المثقلة) كما سماها مع التأكيد على الدور الإصلاحي الذي هيأهم الله له باعثًا في نفوسهم الأمل الفسيح واليقين الكامل بنصر الله لهم.

كان رضي الله عنه ينطلق في مفهومه للإصلاح من إيمانه العميق بشمولية الإسلام لكل أوضاع الكون.. الإسلام الجامع لكل أطراف الحياة المهيمن على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في شئون البشر.

فهو العقيدة التي تتحدد بها نظرة الإنسان للكون من حوله وموقعه هو من هذا الكون. وهو الشريعة تتحدد بها نظرته للمجتمع وموقعه في هذا المجتمع وميزان الحق والواجب فيه.

وهو السلوك الذي تتحدد به نظرته إلى غيره من الأفراد والجماعات وكيف يتعامل معهم، مفهومًا شاملاً للإصلاح في بعده الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والتعليمي.. كانت دعوته إصلاحية بشمول المعنى كله.

على أنه ونحن بين يدي الحديث عن البعد الإصلاحي للإمام فإنه من المهم بدرجة كبيرة الحديث عن اتجاهين عبقريين حرص عليهما الرجل حرصًا بالغًا وهما يمثلان في حقيقة الأمر الإضافة النوعية الواضحة التي وفق الله لها الإمام الشهيد حين تسلم راية الإصلاح من الشيخ رشيد رضا والذي كان بدوره تسلمها من الشيخ الإمام محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني.

الاتجاه الأول: هو الصياغة الموجزة المحكمة العميقة لأدبيات ومواثيق (الدعوة).. يقرأها المثقف عميق الفكر فيغوص في معانيها مستخرجًا منها أفكارًا تفيض بالمعاني المتجددة.. ويقرأها العوام البسطاء فتملأ قلوبهم إشراقًا وعقولهم إدراكًا.

الاتجاه الثاني: هو التوجه إلى الجماهير البسيطة الطيبة موقظًا فيهم كوامن الإيمان وسلامة الفهم كي يشاركوا بقوة مع العلماء والمفكرين والمثقفين في حمل عبأ.

(التركة الثقيلة) نحو الإصلاح والنهضة وقد كتب الله له من التوفيق في ذلك الكثير والكثير فكان مما لا تزال تغرس وتحرث وتحصد منه الحركة الإسلامية على امتداد الوطن الإسلامي كله حتى يومنا هذا.


الإصلاح في المجال الديني

من المسلم به في فهم وتطبيق الأستاذ البنا للفكرة الإصلاحية التي نهض لها وعاش عمره يستنهض الأمة كلها لها أنه كان حريصًا أشد الحرص على تجنب الخلاف الفقهي والمذهبي.

والتوجه إلى صميم الدين ولبه بغية توحد الهمم والقوى للعمل والإنتاج.. وكان دائمَ التمثل بقول زيد رضي الله عنه بحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلمًا.. فقد فكان يرى أن أعظم كارثة أحاقت بالعالم الإسلامي هي الفرقة والخلاف.. مع تسليمه بحقيقة الخلاف كضرورةٍ من ضروراتِ الوجود الإنساني وكنتيجةٍ طبيعية لاختلاف إدراكهم وبيئاتهم وتنشئتهم.. وعليه فالإجماع على أمرٍ واحدٍ في فرعٍ من فروع الدين مطلب صعب المنال.. وهذا من عظمة الدين وقدرته على التماشي مع العصور المتجددة.. فكان ثقافة (العذر كل العذر) للمخالفين في بعض الفرعيات هي الثقافة التي ظللت نهج الأستاذ البنا في سيره بالحركة بين الناس ونشأ عليها تلاميذه ومريدوه وكان دائم النصح للإخوان أن يكونوا من أوسع الناس صدرًا مع مخالفيهم باعتبار أن في كل دعوة حقًّا وباطلاً وأن يتوسلوا بألطف وسائل اللين والحب درءًا للتعصب والفرقة.

على أنه في الوقت نفسه كان حريصًا على أن تكون للإخوان تربيتهم ومفاهيمهم العقائدية التي تصدق بها قلوبهم وتطمئن إليها نفوسهم وتكون يقينًا نهائيًّا لا يخالطه شك أو ريب. فكتب للإخوان والأمة كلها رسالة (العقائد) موضحًا فيها تأييد العقل في حدوده التي حددها القرآن الكريم مستهديًا بقول الله عز وجل ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء) ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه).. وشرح لهم الأقسام الأساسية للعقيدة الإسلامية (الإلهيات والنبوات والروحانيات والسمعيات) وهي ما يتعلق بالقبر والبعث والحساب.

ولم يتجاهل الأفكار الغربية في ذلك فكان يؤيد قوله بأقوال ديكارت ونيوتن وهربرت سبنسر وغيرهم.. بفهمٍ عميقٍ للأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية.

كان رضي الله عنه حريصًا في دعوته للناس وتربيته لتلاميذه أن يجعلهم دائمًا في حالةِ وضوحٍ كامل لا لبسَ فيه مع دورهم ومهمتهم في الحياة.. فنراه يؤكد على فهم الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾ (الحج).

ذلك أن الإنسان في خضم حياته اليومية المزدحمة قد تغيم عليه الرؤية في إحساسه بالواجب وما تتحتم معرفته وتطبيقه.. فلا يتيه ولا يلتبس. ويظل (المثل الأعلى) حاضرًا في وعي المسلم الصادق حتى تنطبع نفسه بصورة من الجمال الروحي ويعطي نفسه نصيبها من الكمال الإنساني الذي قُدِّر لها.. فكانت التربية على الذكر والدعاء والشكر والتسبيح والتحميد من الخطوط الأساسية في تربية الفرد داخل الجماعة.

وكان واضحًا أشد الوضوح في تحديد الاختلاف الكبير بين المسلمين والغرب في مسألة (رجال الدين) أو الإكليروس كما هو معروف في الغرب؛ ذلك أنه ليس في الإسلام شيء اسمه (رجل دين) فالمسلمون جميعًا من أصغرهم لأكبرهم (رجال دين)، وهذه النقطة تحديدًا كانت هي السبب المباشر لابتعاد الغرب الأوروبي عن الدين بل ومعاداته، وهو ما أدى به إلى إخراج الدين كليةً من الحياة.. وربط البعض بين هذا الموقف من الدين وبين النهضة التي عمَّت أوروبا منذ القرن السادس عشر، وحلى لهم أن يقيموا هذا الفهم في ديارنا وأوطاننا.. مع أن العكس هو الصحيح تمامًا فابتعاد الأمة عن دينها أورثها التخلف والهزيمة.

كان رضي الله عنه دائم التذكير والتنبيه إلى ظاهرة (الغلو).. فيذكر حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق, فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" مع الأخذ من الدنيا بالنصيب الذي لا يضر بالآخرة في غير غلو ولا إسراف ولا تنطع ولا تطرف.. ورغم البُعد الصوفي الواضح الحضور في التركيبة الشخصية والأخلاقية للأستاذ البنا وتربيته لتلاميذه على معاني التزكية ومكارم الأخلاق.. فقد كان حريصًا على ألا يوصف الإخوان بأنهم (جماعة دراويش) لا همَّ لهم إلا الصلاة والصوم والذكر والتسبيح.. لتمام الاعتقاد واليقين أن الإسلام هو نظامٌ كاملٌ يفرض نفسه على كل مظاهر الحياة وينظم أمر الدنيا كما ينظم الآخرة.

كان رفضه للعنصرية الدينية والعصبية الطائفية واضحًا قولاً وعملاً.. فنشأ الإخوان من حوله على حسن الخلق مع الناس كلهم.. وإخوانهم في الوطن في مقدمة هؤلاء الناس.. ومعلوم للجميع حرصه على أن يكون شركاء الوطن أعضاء في المكتب السياسي للجماعة كونهم أصحاب حق أصيل في تحديد السياسات والوسائل التي تصير بها الأمور.. فكان الأستاذان (وهيب دوس ويوسف أخنوخ) عضوين أساسيين مع باقي الإخوان في هذا المكتب.. وأراد الإمام بذلك أن ينفي عن شركاء الوطن صفة (الأقلية) وينفى عن الإخوان صفة (الطائفية) وهم ما يشهد به أقباط مصر على مدار ثمانين عامًا من الحضور الاجتماعي والسياسي للإخوان في الحياة المصرية القديمة والمعاصرة.

كان يعتبر الأزهر الشريف (معقل الدعوة وموئل الإسلام) وأن دعوة الإصلاح التي ينادي بها الإخوان هي دعوة الأزهر وغايته.. فكان وجود علماء الأزهر ومدرسيه ووعاظه وشبابه في صفوف الدعوة له أكبر الأثر في نشرها وتأييدها والمناداة بها في كل مكان.

الإصلاح في المجال الاجتماعي

لعل مجال الإصلاح الاجتماعي كان له النصيب الأوفر في اهتمام الإمام الشهيد.. وقد حدد بوضوح أن هدف الإخوان المسلمين أولاً هو الفرد المسلم في تفكيره وخلقه وعاطفته وعمله وسلوكه ذلك الفرد الذي يتذوق الجمال والقبح ويتصور الصواب والخطأ.. القوى الإرادة الصحيح الجسم ثم الأسرة كذلك ثم المجتمع كذلك.. وحدد أن النهضة في مجالها الاجتماعي تحتاج إلى أربعة عوامل الأول الإرادة والثاني الوفاء والثالث التضحية والرابع المعرفة بالمبدأ على هذه الأسس تقوم القوة الروحية التي تنشأ عليها المجتمعات وتتجدد فيها الحياة.. وعلى هذا النهج كانت خطوات الإصلاح الاجتماعي للإخوان المسلمين فكان الاعتناء بالقوة الروحية والأخلاقية للمجتمع فهذا هو نهج الإسلام العظيم، وهذا هو التاريخ في عظاته.

(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) نفوسًا قوية وقلوبًا خفاقةً ومشاعر غيورة وأرواح طموحة تستند إلى مثل عليا وأهداف سامية.


نقرأ له هذه الكلمات العبقرية فنفهم فهمًا كاملاً محيطًا معنى الإصلاح الاجتماعي في فكره ووعيه "قبل أن نتحدث إلى الناس في هذه الدعوة عن الصلاة والصيام الحكم والعبادات والنظم والمعاملات نتحدث إليهم أولاً عن القلبِ الحي والروح الحية والنفس الشاعرة والوجدان اليقظ والإيمان العميق بهذه الأركان الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة- الاعتزاز باعتناقها- الأمل في تأييد الله إياها) مذكرًا بقول الله عز وجل: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾ (النمل).

وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ البقرة وقوله سبحانه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم).

وهذا الجانب في البعث والإحياء عند الإمام كان عظيمًا وكان يعول عليه كثيرًا في قيام النهضة فالدوافع النفسية والإلهامات الروحية هي في حقيقه الأمر حياة المجتمعات ويتوقف عليها تقدمها وتخلفها وكان يسميه (الروح الدافعة والقوة الباطنة) تلك التي تتحقق بها اليقظة الحقيقية في النفوس والمشاعر والأرواح مستلهمًا قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد).

والإمام الشهيد هنا يتحدث على خلفية فهم عميق لسنن التاريخ في قيام الحضارات وانهيارها، مؤكدًا أنَّ الإخوان المسلمين يتحرون بدعوتهم الإصلاحية نهج الدعوة الأولى محاولين أن تكون دعوتهم صدى حقيقيًّا لها.

في وضعية المرأة في المجتمع رأى الإمام الشهيد ضرورة الارتقاء بها والمحافظة عليها؛ لأن هذه القضية هي أهم القضايا الاجتماعية على الإطلاق فالمرأة هي نصف المجتمع وهي التي تُربي النصف الآخر وترعاه، فغير الدعوة القوية إلى تعليم المرأة تعليمًا كاملاً كان يرى ضرورة تخصيص مناهج تعليمية لها تتعلق بالعلوم الإنسانية كعلوم التربية وعلم النفس والاقتصاد وما إلى ذلك.. كي تستوفي مكونات دورها الأعظم في الحياة وهو (الأمومة المربية) لا الأمومة الغريزية. ومما يجعلنا ننتبه إلى الالتزام بخط (الحكمة) في مسألة المرأة نراه يتحدث عن (الحشمة والوقار) نابذًا أشكال التفلت والخلاعة.. تاركًا إشكالية (الزي الإسلامي) مفتوحة على كل الاختيارات والتصورات الاجتماعية والبيئية.

كانت فكرة (مؤسسات الخدمة العامة) حاضرة بقوة في بُعد الإصلاح الاجتماعي عند الإمام الشهيد من بناء للمساجد وفتح المدارس والإشراف عليها وإنشاء الأندية وتوجيهها والإصلاح بين الناس و(التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين) وبناء المستشفيات والمستوصفات الطبية.. كانت الفكرة تقوم على التنظيم الجيد والجهود التطوعية مع الاستعانة بالخبرات والكفاءات.. وكانت (الشعبة) أشبه ما تكون بنموذج (المدينة الفاضلة) فيها المسجد والملعب والمكتبة وقاعة المحاضرات والتدريب وركن للترفيه والمسامرة يلتقى فيها أبناء الحي أو القرية أو النجع يتعارفون ويتدارسون ويصلون ويتحابون ثم ما تلبث كل هذه الهمم والطاقات أن تنتشر في المجتمع كله باعثة فيه (الروح الجديدة) الذي بشر بها الأمة.

التأكيد القوى على قدره الشريعة على التطور والتقدم وفق مقتضيات كل عصر بمرونة وسعة وسلاسة بفهم مقاصدها ومعرفة قواعدها الكلية ونصوصها القطعية ثم ممارسة الاجتهاد وتقرير الأحكام (الفقهية) بما يوافق متغيرات ومستجدات كل عصر مستلهمًا قول الله عز وجل: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ (المائدة) وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة).. والتأكيد على التدرج والترفق في تغيير القوانين والتشريعات التي تتعارض مع مبادئ الشريعة ومقاصدها.