عبد القادر عودة.. القاضي الذي تقرر إعدامه قبل أن يُحاكم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


عبد القادر عودة.. القاضي الذي تقرر إعدامه قبل أن يُحاكم

بقلم الأستاذ: عمر التلمساني- المرشد العام الأسبق للإخوان المسلمين

الأستاذ عبدالقادر عودة

"تمضي الأيام وئيدة الخطا أو لاهثة.. وتضرب أستار النسيان على البلايين والبلايين من البشر في بطون الحقب والقرون؛ لأنهم عاشوا ولم يوجدوا.

كما تمضي القرون والحقب على أعلام من البشر لا تطوى ذكراهم، ولا تخفى معالم حياتهم ولا تدع للنسيان سبيلاً يزحف منه على جلائل مواقفهم من أجل الحق وفي سبيل الخير، رجال انفردوا بسجايا وخصال وعاشوا على مستوى المثل والقيم، وشقوا في الحياة طريقًا على مبادىء وأصولٍ لقوا الموت في سبيلها أو تحملوا صنوف العذاب من أجلها؟!

أرأيت إلى الرجل من آل فرعون يوم أن التقى القومُ على الفتك بموسى, وتلمس كل طريقة إلى رضا فرعون بالوشاية بموسى وذكره بكل سوء ومفسدة، فيقف فريدًا وحيدًا وسط الكفر والفساد, ومن خلال الظلم والظلام, لا يبالي ولا ينافق؛ بل يقذف بالحق من أعماقه.. ناصعًا كالنور قويًّا كجيوش يحركها الإيمان: "أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ" (غافر: من الآية 28)، ويمضي إلى موسى محذرًا ناصحًا: "إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ" (القصص: من الآية 20).

ترى كم من الآلاف أو مئات الآلاف ممن انحنوا لفرعون وسجدوا له وتقربوا إليه وساروا في ركابه، وأعلنوا إيمانهم به إلهًا من دون الرحمن، والتمسوا الرزق والخير والقصور ومتاع الدنيا في رضاه ظنًا منهم أنه المانح والمانع والمحيي والمميت!! ترى كم من هؤلاء مضى كما مضى فرعون وراحوا في طي النسيان، وإنْ حلت ذكراهم يومًا في الأذهان انهالت عليهم اللعنات ولحق بهم كل خزي وعار!! ويبقى الرجل المؤمن ذكرى على الدرب الطويل تحتل مكانها في التاريخ.. صفحات كلها مجدٌ وفخار، قدوةً ومثلاً، وعطرًا ونورًا؟!.

وعبد القادر عودة، من هذا الصنف من الرجال، الذين ساروا وما زالوا يسيرون على الطريق.. وقف على حبل المشنقة فازداد على الحق إصرارًا, ورأى الموت بعينيه فأسرع إلى لقياه، ولم تكن جريمته إلا أنه قال كما قال الذين سبقوه على الطريق: ربى الله!! ولم تكن فعلته إلا أنه أنكر على الظالم ظلمه للناس، وأبت عليه نفسه أن يسكت على صنوف الذل والهوان يُراد للأمةِ أن تحيا خلالها وتعيش في ظلها، فمضى شهيدًا بعد أن سطَّر على صفحات التاريخ سطورًا لا تُبلى ولا تُمحى، وحفر في القلوب والأذهان ذكرى على مرِّ الأيام تنمو وتزدهر!!.

سنون منذ أن قُتل الشهيد عبد القادر عودة وإخوانه الأبرار انقضت، ونقول قُتل لأنه لو صحَّ- وهذا غير صحيح- أنه اشترك في شروع في قتل فما من قانون وضعي ولا سماوي يُعاقب على الشروع في القتل بقتل، ولكنه الظلم والبغي بغير حق!!

ولي عبد القادر عودة أعمال القضاء فكان المنارة الزاهية بين القضاء, لأنه أبى إلا أن يطبق قانون السماء ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ورفض أن يقيد نفسه بقوانين الأرض التي عجزت عن أن تُوفر لبني البشر أمنًا يفتقدونه وهدوءًا يبحثون عنه وحبًا يتوقون إليه, كان جريئًا في الحق ولو خالفته الدنيا بأسرها؛ لأنه كان يحرص على مرضاة ربه قبل أن يُفكر في إرضاء الناس.

وقف إلى جوار حركة 23 يوليو سنة 1952 م ظنًّا منه أن رئيسها سيحقق الخير الذي أعلنه على الناس, وأغضب في ذلك الكثيرين من إخوانه ومحبيه، ولكنه لما تكشَّفت أمامه النيات، وبدأت تظهر الحقائق، سلك الطريق الذي ألزم به نفسه في حياته- طريق الحق والصدق- قال له رئيس الجمهورية السابق إنه سيقضي على كل مَن يعترض طريقه فأجابه الشهيد في صراحة المؤمنين: "ولكن مَن يبقون منهم سيقضون بدورهم على الطغاة الظالمين!!".

خرجت جموع الأمة في 28 فبراير سنة 1954 م تُطالب الحكام بالإقلاع عن الظلم وتنحية الظالمين وزحفت الآلاف إلى ميدان عابدين تُطالب رئيس الجمهورية وقتذاك السيد محمد نجيب بالإفراج عن عن المعتقلين وتنحية الباطش، ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبرى قصر النيل وتطبيق شرع رب العالمين، وأدرك القائمون على الأمر يومئذٍ خطورةَ الموقف وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا ولكن بلا مجيب، فاستعان محمد نجيب بالشهيد عبد القادر عودة على تهدئة الموقف، متعهدًا بإجابة الأمة إلى مطالبها.

ومن شرفة قصر عابدين وقف الشهيدُ يطلب من الجماهير الثائرة أن تنصرف في هدوء وقد وعد رئيس الجمهورية بإجابة مطالبها، فإذا بهذا البحر الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة, وبمنطق الحكم الديكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك كان لا بد أن يصدر قرار في عبد القادر عودة فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموعَ الحاشدة- التي جاءت محتجة تُطالب بإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستورية السليمة الأصيلة والوفاء بالعهود وتأدية الأمانات- فهو يمثل خطورةً على هذا الحكم الذي كان مفهومه لدى الحاكم أن يضغط على الأجراس فيلبى نداؤه، وعلى "الزرار" فتتحرك الأمة قيامًا وقعودًا، ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد عبد القادر عودة- بعد ذلك- بالإعدام؟!!.

لذلك لم يكن غريبًا أن اعتُقل هو والكثيرون من أصحابه في مساء اليوم نفسه, وقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحًا حتى السابعة صباحًا يضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة.. شأنهم شأن الذين إذا خلا الميدان أمامهم طلبوا الطعان لوحدهم والنزالا!!

وقدم عبد القادر عودة في تهمة لا صلةَ له بها ولا علم، حكموا على الشهيد بالإعدام ظنًّا منهم أنَّ قتْل عبد القادر عودة سيمضي كحدثٍ هين لا يهتم به أحد, ولكن حاكم هذا العهد لما رُفعت إليه تقارير جواسيسه بأثر ذلك الاغتيال قال في حديثٍ نشرته الصحف ما معناه : "عجبتُ لأمر هذا الشعب لا يرضى بالجريمة، ولكن إذا عُوقِب المجرم ثار عطفه على المجرمين".. ولكن ثورة العواطف عند الشعب لم تكن من أجل المجرمين، فما كان في الموقف واحد منهم, ولكن الشعب ثار عاطفيًّا كرهًا منه للظلم ووفاءً منه للأبرياء، وسيق الشهيد إلى غرفة الإعدام فكان الرجل الذي لا يبالي ولا يهلع.. كان عبد القادر عودة الشهيد الذي جاد بالروح, في سبيل المبدأ واليقين!! رحمك الله يا عبد القادر وأسكنك الفردوس الأعلى وتلقاك بالروح والرياحين".