كتمان السر (في ديوان العرب)
أ.د/ جابر قميحة
من الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا .
وقد حفظ الشعر تاريخ العرب ، وعاداتهم وتقاليدهم : في أفراحهم وأحزانهم ، في منشطهم ومكرههم ، في سرائهم وضرائهمْ . فلا عجب أن يجعلوا الشعر مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا .
ومما يُرْوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة".
ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق " .
ويقول أبو فراس الحمداني :
الـشـعـرُ ديوانُ iiالعربْ
- لـمْ أعْـدُ فـيه iiمفاخري
ومُـقـطـعات .. iiرُبما..
- لا فـي المديح ولا iiالهجا
أبـدا ، وعُـنوانُ iiالأدبْ
- ومـديـحَ آبـائي iiالنُّجُب
حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ..
- ءِ ، ولا المجون ولا اللعب
حقا – يا عزيزي القارئ– الشعر " ديوان العرب " . وقبل أن نصحبك إلى رحلة في ديوان العرب , نذكر هذه الطُّرفة اللطيفة : فقد روى أن رجلا أسرَّ إلى صديقه حديثا , وطلب منه كتمانه , وشدد عليه في ذلك . ثم سأله : أفهمت ؟ قال " بل جهلت " . ثم سأله " أحفظت ؟ قال "بل نسيت " .
والرجل يعني بإجابته هذه أنه على سر صاحبه حفيظ أمين .
إن هذه الطرفة اللطيفة تبرز لنا قيمة خلقية عظيمة , نفعها عميم , وفقدها أليم , ألا وهي كتمان السر . فلنصاحب" ديوان الشعر العربي " ؛ لنرى فيه مكان هذه الفضيلة ومنزلتها عند الشعراء .
إننا نلتقي – أول ما نلتقي – بالشاعر كعب بن سعد الغنوي فنراه لا يفخر بكتمانه لأسرار غيره فحسب , بل يفخر كذلك بأنه لا يسأل عن أسرار الآخرين :
ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتي = ولا أنا عن أسرارهم بسئول
ويقول قيس بن الخطيم :
أجـود بمكنون التلادِ iiوإنني
- وإن ضيَّع الأقوام سرِّي فإنني
بـسرِّي عمن سائلي iiلضنينُ
- كـتوم لأسرار العشير iiأمين
ويبالغ شاعر ثالث في كتمان السر مبالغة طريفة , في تصوير آسر , فيقول :
ومـسـتـودعي سرا كتمتُ مكانه
- وخفت عليه من هوى النفس iiشهوة
عن الحِسِّ , خوفا أن ينُم به الحس
- فـأودعته من حيث لا يبلغ iiالحس
وفي فلك الجو نفسه , يدور الشاعر جعفر بن عثمان , فيطرح الفكرة نفسها في صورة أطرف , ومبالغة أشد وأقوى , فيخاطب من أودعه سره قائلا :
يا ذا الذي أودعني سرهُ
- لا ترجُ أن تسمعه مني
لم أُجره قط على فِكرتي
- كأنه لم يَجرِ في أذني
والمعروف أن الخمر تذهب بالعقل , وتطلق اللسان ليبوح بما سكن الأعماق من الأسرار , ولكن المتنبي ينفي عن نفسه أن يكون واحدا من هؤلاء , فيقول :
وللسر مني موضع لا يناله
- نديم , ولا يفضي إليه شرابُ
هذا وقد جاء في الأثر " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " . وإذا كان كتمان السر مطلوبا في كل حال , فهو في شئون الحرب ضرورة الضرورات , وذلك في وضع خطط القتال , وتجييش الجيوش , وإعداد العدد , وتحديد لحظة الهجوم , أو ما يسمى بساعة الصفر . وإن إفشاء سر واحد قد يقود إلى هزيمة نكراء . أما العمل في تكتم وسرية , فهو ولا شك يقود إلى النصر المؤزر المبين , وخصوصا إذا صاحب هذا التخطيط المستمر عزم قاطع , وحزم لا يعرف التهاون .
إن أبا مسلم الخرساني قضى قضاء مبرما على الدولة الأموية في موقعة : " الزَّاب الأكبر " سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (132) , وهو يكشف عن سر نصره الحاسم في قوله :
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزَت
- مـا زلت أسعى عليهم في ديارهم
حـتـى ضربتهمُ بالسيف iiفانتبهوا
- ومن رعى غنما في أرض iiمَسْبَعَةٍ
عـنه ملوك بني مروان إذ iiجهروا
- والـقوم في غفلة بالشام قد iiرقدوا
مـن نـومـة لم ينمها قبلهم iiأحدُ
- ونـام عـنـها تولى رعيها iiالأسدُ
عزيزي القارئ:
يقول مثل هندي قديم " إن السر يمكن أن يكتم بين ثلاثة , بشرط أن يموت منهم اثنان " . ومعنى المثل : أن السر إذا باح به صاحبه لغيره , لم يعد سرا . وقد ألح " ديوان العرب " على هذا
المعنى عشرات المرات : يقول الشاعر :
إذا الـمـرء أفـشـى سره iiبلسانه
- إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
ولام عـلـيـه غـيره فهْو iiأحمق
- فـصدر الذي يُستودع السر iiأضيق
ويقول آخر :
إذا ما ضاق صدرك عن حديث
- وإن عـاتبتُ من أفشى iiحديثي
وأفـشـته الرجال فمن تلوم ii؟
- وسـري عـنـده فـأنا iiالملوم
ومن جانب آخر , نجد ديوان العرب قد حفل بذم من يفشون أسرار غيرهم الذين ائتمنُوهم عليها :
يقول إسحق الموصلي :
أناس أمِنَّاهم فنمُّوا حديثنا
- فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا
ويقول لآخر :
وإنك كلما استُودِعت سرا
- أنَمُّ من النسيم على الرياض
ونمضي في تقليب صفحات ديوان العرب , فنعثر في تضاعيفه على بعض الشعراء الذين يعلنون صراحة أنهم لن يكتموا السر , وأنهم يرفضون أن تكون صدورهم مستودعا لأسرار الآخرين . بل إن منهم من يتهم كاتمى الأسرار بنقص العقل والحماقة . يقول واحد من هؤلاء :
ولا تُودِع الأسرارأذني فإنما
- تصبَّن ماء في إناء مُثَلَّمِ
وقال آخر :
ولا أكـتم الأسرار , لكن أُذيعها
- وإنَّ قـليلَ العقل من بات iiليلة
ولا أدع الأسرار تعلو على قلبي
- تـقلبه الأسرار جنبا إلى iiجنب
وبوح الشاعر بالسرهنا , ليس عن غدر أو خيانة أمانة, بل لأنه قدَّرَ أن حفظ السر عبء ثقيل على النفس والقلب , لا يُخلف إلا القلق والحيرة والسهاد , وهو لا يقوي على ذلك . إنها - على أية حال صراحة قد تكون محمودة عند كثيرين .
عزيزي القارئ.. بعد هذه الرحلة القصيرة في " ديوان العرب " مع السر وكتمان السر , أعتقد أنك معنا : في أن حياة كل منا لها جانبان : جانب مكشوف معروف , يتمثل في مظاهر التعامل الاجتماعي , في مجالات العمل والعلم والدراسة والبيع والشراء .
وجانب خفي مستور , يتمثل في العلائق الأسرية والزوجية , وما تعلق بالصلح الخاص, وما كان في كتمانه حفظ أمانة , وإحقاق حق , وجلب نفع , دون إضرار بالآخرين .
وهذا الجانب الأخير يقتضينا أن نذكرك , ونذكر أنفسنا بقول عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – :
" القلوب أوعية , والشفاه أقفالها , والألسن مفاتيحها , فليحفظ كل إنسان مفتاح سره" .
والآن نتركك يا عزيزي االقارئ , على وعد باللقاء , في الأسبوع القادم – إن شاء الله – في حلقة جديدة من " ديوان العرب " .