مذبحة ليمان طرة عام 1957م

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذبحة ليمان طرة
فى الذكرى العشرين للمذبحة التى تعرض لها الإخوان المسلمون بليمان طره يوم السبت 1/6/1957



بسم الله الرحمن الرحيم
[من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومن من ينتظر وما بدلوا تبديلا. ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما. ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا].


أسماء الشهداء

الرقم اسم الشهيد عمله موطنه
1 أحمد حامد على قرقر ترزى كفر وهب- قويسنا
2 عبد الفتاح محمود عطا الله قمصنجى حلوان
3 علي إبراهيم حمزة مطبعى عزبة ناسف – منوف
4 محمد أبو الفتوح قوارة طالب بكلية دار العلوم قلعة الكبش – القاهرة
5 عثمان حسن عيد طالب بالمعاهد الأزهرية باب الوزير – القاهرة
6 خيري إبراهيم عيطه موظف بجمرك السويس السويس
7 عثمان عزت عثمان (عصمت) عامل بالسكة الحديد شبرا – القاهرة
8 عبد الله عبد العزيز الجندي مدرس اسكندرية
9 إبراهيم محمود أبو الدهب طالب ثانوى امبابة – جيزة
10 مصطفى حامد علي ترزى اسكندرية
11 محمود عبد الجواد العطار تاجر نحاس اسكندرية
12 السيد علي محمد موظف بشركة الغزل المحلة الكبرى
13 السيد العزب صوان بكالوريس زراعة أبو الشكوك – شرقية
14 الأحمدي عبده متولي مزارع كفر المرازقة – كفر الشيخ
15 الحاج/ رزق حسن إسماعيل موظف امبابة
16 سعد الدين محمود شوقي طالب ثانوى بهواش –منوفية
17 فهمي إبراهيم نصر دباغ مصر القديمة – القاهرة
18 أنور مصطفى أحمد عامل براده عباسية –القاهرة
19 أحمد محمود الشناوي مهندس بالسكة الحديد العباسية – القاهرة
20 محمود محمد سليمان الطماوي موظف دنديط- ميت غمر بين السرايات - الجيزة
21 محمد السيد عفيفي محاسب

المقدمة

- قال الإمام الشهيد حسن البنا عن الإخوان المسلمين ( أنهم جيل جديد يتكون كالجيل الذى كونه محمد صلى الله عليه وسلم).

- فاتخدت قوى كثيرة متنافرة على واحد هو إطفاء هذا النور.

- وتعرض الإخوان المسلمون لأبشع أنواع التشريد والتعذيب والاعتقال والإعدام والقتل على مدى ربع قرن من الزمان

بسم الله الرحمن الرحيم

فى نهاية العشرينات من هذا القرن, ظهر حسن البنا. واستطاع أن يجمع القلوب حوله على طاعة الله بإيمان عميق , وفهم دقيق وحي وثيق... وكون جماعة ( الإخوان المسلمون). وعرف الإمام الشهيد نفسه وإخوانه بأنهم:-

- ليسوا جمعية خيرية لإعطاء الفقراء صدقات.

- وليسوا حزبا سياسيا.

- وليسوا طريقة صوفية كل أمرها أن تذكر طوال الليل منطوية على نفسها فى خلوتها بعيدة عن الجماهير.

- وليسوا عملا عسكريا فيه فتوة, وفيه جبروت يبعث إلى الغرور.

- إنما هم جيل جديد يكونونه كالجيل الذى كونه محمد صلى الله عليه وسلم.

ودعوة هذا فكرها, كان طبيعيا أن تحاربها كل القوى التى ترى أنه سيقضى عليها القضاء التام إذا أصبح الأمر بيد هذا الجيل الجديد.

- حاربها الاستعمار الغربى ممثلا فى سلطة الاحتلال البريطانى فى مصر, فيرسل السكرتير السياسى للقائد العام للقوات البرية البريطانية فى الشرق الأوسط ومقره فى فايد – يرسل خطابا إلى إدارة المخابرات التابع للقيادة العامة للقوات البريطانية فى مصر وشرق حوض البحر الأبيض المتوسط, بما دار فى اجتماع السفراء , ويكتب بالحرف الواحد تحت رقم 1843/ أى 48 بتاريخ 23/ 11/1948 (فيما يختص بالاجتماع الذى عقد فى فايد فى 10 الجارى بحضور سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا. أخطركم أنه ستتخذ الإجراءات اللازمة بواسطة السفارة البريطانية فى القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين التى فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة فى القاهرة قام بها أعضاؤها).

- وأسرعت الحكومة المصرية المتخاذلة بالتنفيذ. وبدأت موجة الاعتقالات عام 1948

- وحاربتها الصهونية العالمية لأن المؤمنين بها ممثلون دعوة الدين إلى الجهاد, وقد شهدت فلسطين أبطالا منهم وقفوا وقفة العمالقة, ولا يستطيع ضابط ممن اشتركوا فى حملة فلسطين , أو مراقب ممن راقبوا معاركها أن ينكر فضل متطوعى الإخوان المسلمين فيها. أو ينكر بطولتهم وجسارتهم على الموت, والعبْ الكبير الذى تحملوه منها راضيين فخورين مستشهدين فى سبيله. وهذا مما حدا بين جوريون أن يعلن معقبا على اشتراك الإخوان فى معارك 1948( أنه لا سبيل إلى استقرار إسرائيل إلا بالقضاء على الرجعيين فى العالم العربى والمتعصبين من رجال الدين والإخوان المسلمين)

- وحاربها الملك فاروق لأن وجودها كان خطرا على عرشه وقام ( الأميرالاى) محمود عبد المجيد,و ( البكباشى) محمد الجزار, والمخبر أحمد حسين جاد, والسائق محمد محفوظ باغتيال المرشد العام الشهيد حسن البنا فى ليلة 12/ 2/ 1949 لتكون رأسه الطاهرة هدية هيد ميلاد الملك.

- وحاربتها أمريكا باعتبارها وريثة بريطانيا فى المنطقة وحامية إسرائيل .

- وحاربتها الحركة الشيوعية الإلحادية العالمية, لأنها تعتبر ( الإخوان المسلمين) هم العقبة القوية أمام انتشارهم وفرض زيفهم وسيطرتهم تحت ستار الشعارات البراقة... وقد ثبت أن جمال عبد الناصر بعد أن أوقع نفسه وبلده بين فكى الشيوعية وسيطرة الشيوعيين – واجتاح اليهم لدرجة الاستجداء – كان شرطا للاستجابة له أنه أعلن من موسكو فى بيان 6 سبتمبر 1965 حرب الإبادة على الإخوان المسلمين, فتم اعتقال الآلاف منهم فى ليلة واحدة ليذوقوا العذاب حتى الموت بليمان أبى زعبل والسجن الحربى بما عرف بمذبحة 1965.

- وحاربتها الدكتاتورية العسكرية فى مصر منذ عام 1954. وقال اللواء محمد نجيب الذى كان أول من اكتوى بنارها ان السلطة العسكرية أو الدكتاتورية العسكرية لا تطيق تنظيما آخر ولا تتسع الأرض لها وأى هيئة آخرى. وكان خزنى شديدا على عبد القادر عودة الذى صعد درجات المشنقة شجاعا. وتذكرت يوم استدعيته قبل ذلك بشهور إلى شرفة قصر الجمهورية بعابدين ليطل معى على أنصاره فى الميدان ويطلب منهم الانصراف بهدوء بعد أن قلت لهم أن عودتى هى عودة للحياة البرلمانية.. وأن المسئولين عن جنحاهم سوف يحاسبون).


وإذا كان الإمام الشهيد حسن البنا قال : ( إن الإخوان المسلمين ليسوا عملا عسكريا فيه جبروت يبعث إلى الغرور).

فإن الدكتاتورية العسكرية التى عبر اللواء محمد نجيب وصلت فى جبروتها – ليس فقط إلى حد الغرور – ولكن إلى حد الهوس.

وقال توفيق الحكيم فى كتابه عودة الوعى: ( كلمة الحرية وعهد الحرية) تجرى على اللسنة فى الخطب والأغانى والأناشيد. وما من كلمة واحدة لا يريدها الحاكم يمكن أن تخرج من الصدور إلا دخل صاحبها السجون. وقد نجح الحاكم أن يدمج مصر كلها فيها, وأن يقنع مصر البالغة من العمر اكثر من خمسة آلاف سنة ان عمرها هم الثورة ونظامها, وأن لا عمر لها قبل ذلك ولا بعد ذلك يستحق الذكر, هذه العملية البارعة لضغط مصر العملاقة ووضعها فى علبة الثورة ونظامها. خنق مصر وأفقدها الوعى بحقيقة حجمها الهائل عبر التاريخ)

ونتيجة لكل هذا انحدر الحال بمصر إلى وضع غريب:

- القوة العسكرية ممثلة فى الجيش بيد الحاكم.

- أجهزة الإعلام بيد الحاكم.

- باستيل مصر ( السجن الحربى( وباقى السجون والمعتقلات تحت تصرف الحاكم وإشرافه الفعلى بواسطة زبانيته.

- السلطة القضائية بما فيها النيابة تحت سيطرة الحاكم.

- المحاكم الاستثنائية العسكرية فى خدمة الحاكم للإطاحة بكل رأس ترتفع لمواجهته.

- المحققون وحملة السياط أدوات حقيرة فى يد الحاكم.

- القضاة العسكريون مرسوم طريقهم, وأحكامهم معدة مسبقا حسب هوى الحاكم.

وتفرقت الجماعات والحزاب, وخرست الألسن, وصمت الكتاب ولم يبق بالميدان سوى ( الإخوان المسلمون) لأن دعوتهم أساسها تكوين جيل كالجيل الذى كونه محمد صلى الله عليه وسلم, فهى دعوة تحمل فى طياتها سر بقائها. فلا التهديدات, ولا الإغراء, والا الاعتقال ولا السجن, ولا التعذيب, لا الإعدام, ولا الاغتيال , ولا حركات الإبادة – تؤثر فى هذه الدعوة.

ربع قرن من الزمان وأعضاء هذه الجماعة يواجهون أحط وأخس وأشنع انواع الحروب دون أن تتزعزع عقيدتهم. لقد كانوا يمثلون ضمير هذه الأمة خلال فترة الحكم العسكرى الديكتاتورى. وقدموا لدينهم ووطنهم شهداء:

- مذبحة مجلس قيادة الثورة والسجن الحربى عام 54/1955

- ومذبحة ليمان طره يوم 1/6/1957

- ومذبحة السجن الحربى وليمان أبى زعبل 1965.

وقد شاهدت المذابح الثلاث. ولكن أبشعها كانت مذبحة الإخوان المسلمين بليمان طرو يوم السبت 1/6/1957. حيث دبرت مؤامرة وفتحت النيران على الإخوان داخل الزنزانات فوقع صريعا واحد وعشرون شهيدا.

وإذا قارنا بين هذه المذبحة وبين مذبحة دنشواى, لهالنا أن ما فعلته قوات الاحتلال الإنجليزية لمصر كان تافها بالنسبة لما فعلته قوات حرس السجون بليمان طره. ويكفى أن مصطفى كامل أثار العالم ضد الإمبراطورية بسبب مذبحة دنشواى.

اما مذبحة ليمان طره فإن مصطفى أمين يذكر فى كتابه ( سنة ثانية سجن):( فى أحد أيام شهر يونية 1957 كنت جالسا فى مكتبى فى أحبار اليوم عندما اتصل بى قسم الاستماع بأخبار اليوم وأخبرنى أن اذاعات العالم تذيع انه حدثت مذبحة فى سجن ليمان طره, وأن أكثر من عشرين مسجونا من الإخوان قتلوا فى زنزاناتهم وأن أكثر من خمسين منهم جرحوا! واتصلت على الفور بوزارة الداخلية وسألت عن حقيقة الخبر, فأكد مسئول كبير فى الوزارة أن الخبر كاذب ولا أساس له من الصحة. واتصلت برياسة الجمهورية وسألتهم عن حقيقة النبأ, فأكدت لى الرياسة أنها أكذوبة استعمارية أصطلقها اذاعات الاستعمار, ومقصود بها تشويه سمعة مصر فى عيون العالم). وانتهى الأمر ببساطة أو هكذا ظن المجرمون. وقد أصبت بجرح عميق برأسى سيظل أثره باقيا حتى آخر العمر وكلما رأيت هذا الجرح أو تحسسسته تذكرت على الفور هذه المذبحة.

وفى 19771/6/ يكون هذا الجرح فى راسى – ومعه الجرح العميق فى قلبى – قد لازمنى عشرين عاما. وقد استخرت الله أن أطلق بعض زفرات القلب بهذا الكتيب بمناسبة ذكرى مرور عشرين عاما على مذبحة ليمان طرة.

وأدعوا الله أن تكون أفكارنا وأعمالنا وحياتنا ومماتنا لله رب العالمين.


شاهدت المذابح التى تعرض لها الإخوان المسلمون:

- مذبحة السجن الحربى عامى[[]] 54/1955

- مذبحة ليمان طره يوم 1/ 6/1957

- مذبحة ليمان أبى زعبل والسجن الحربى عام 1965

وكانت مذبحة ليمان طرة هى أبشع هذه المبذابح لأنها فاقت كل تصور عاقل.


السبت 3 ذو القعدة 1376 هـ - أول يونيه 1957م

استيقظنا قبل الفجر كالمعتاد. وبدأنا فى الاستعداد لصلاة الفجر داخل الحجرات... وبدأ قرآنالفجر يسمع أثناء الصلاة... وكانت جميع الدلائل تشير إلى أن هناك مؤامرة تدبر للتنكيل بنا, وكأنهم قرروا تغيير أسلوب الموت البطىء الذى كنا نعانيه بأسلوب التصفية الجسدية السريعة.

والمعروف بالليمان أن أنسب ظروف تستغلها الإدارة للتنكيل بالسجون حتى القتل بطريقة قانونية, هى أن تكون الواقعة بالجبل خارج اليمان, فما أيسر القتل وتقرير أنه تم أثناء محاولة الهروب. وكان هذا هو ما يزعجنا غاية الإزعاج...

التهديدات التى نسمعها من الضباط... والتلميحات التى نسمعها من الشاويشية والسجانين... والتحذيرات التى يتطوع بها المسجونون العاديون الذين يعملون نوبتجية نظافة بالمكاتب... كلها كانت تشير إلى نقطة واحدة... أن هناك مؤامرة تدبر لإبادة اكبر عدد من الإخوان بالجبل.

وأكد هذا لنا القسوة البالغة التى كما نعامل بها والتى وصلت إلى الذروة منذ أسابيع أثناء العمل بالجبل... الألفاظ القاسية... التفتيش المستمر... إهانة الأهالى أثناء الزيارة... معاقبة كل مقصر فى مقطوعية تكسير الصخور بالجبل وحمله على الظهر إلأى حيث يشون, فى الوقت الذى نرى فيه التسامح الكامل فى قضية اختطاف البابا, والمسجونين العاديين القتلة ومعتادى الإجرام كما كانوا يطلقون عليهم.

إذا كانت المؤامرة تهدف إلى ازهاق أرواحنا بسبب قانونى بالجبل فقد اهتدينا إلى أن أبلغ رد هو محاولة المحافظة على أرواحنا بالاعتصام بالزنزانات وطلب النيابة لتأمين حياتنا, وهذا إجراء قانونى معترف به ومعمول به بكل السجون العالم...

وإلا فما الوسيلة إذا شعر مسجون مقيد الحرية أن حياته فى خطر سوى التزامه زنزانته وطلب النيابة؟ ولكن يبدو أن هذا الإجراء كان مفاجأة لمدبرى الحادث من القادة ومن صغار الضباط الذين كانوا يريدون أن تتم المؤامرة بالجبل للإنتقام الشخصى من هؤلاء الأفراد المعتزين بكرامتهم والظهور بمظهر الناقم على أعداء الثورة لينالوا رضاها وترقياتها...

وفتح السجانون الزنزانات وصاحوا:( انزل الجبل). فلم ينزل أحد وقلنا لضابط العنبر الملازم أول عبد العال سلومة البرى أننا نشعر بخطر على حياتنا إذا ما خرجنا إلى الجبل, ولذلك فإننا سنبقى بالزنزانات بكل هدوء وأننا نطلب النيابة لأخذ أقوالنا ولتأمين حياتنا..

وأصرت إدارة الليمان على نزولنا الجبل ولكن بأسلوب أكثر وحشية.. ذلك أن السجانين والشاويشية والضباط تجمعوا وحاولوا إنزالنا اثنين اثنين إلى الحوش الداخلى للعنبر, وهنالك يقيد كل اثنين بقيد حديدى واحد متصل بسلسة واحدة طويلة, أى أنه فى النهاية يكون الكل مقيدا كل اثنين بقيد واحد والجميع مربوطين بسلسلة واحدة...

وعندما شعر أول أخوين بهذا أفلتا من السجانين وصعدا جريا إلى الدور الثالث ووضحت الحقيقة لنا. وأذكر أن هذا الأخ هو مرسي صادق وأخ لا أذكره... وازاء هذا زاد إصرارنا على هدم مبارحة الحجرات ...

حضر مدير الليمان اللواء/ السيد والي وحوله الضباط , وبدأ يناقشنا وشرحنا له وجهة نظرنا نحن نعرف أننا مسجونون, وأننا مغلبون على أمرنا, وأننا صبرنا ولا زلنا نصبر منذ سنوات امتثالا لقول الحق تبارك وتعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين)... غير أننا لا نطلب امرا غير معقول. أننا متظلمون ونخشى على حيانا ونريد النيابة وهذا مطلب قانونى)... وقدم الأخ سليمان حجر هذا الطلب كتابة إلى إدارة الليمان.

وكان بين الضباط الملازم أول / مجيد البهي الخولي وكان زميلى بالدراسة بمدرسة طنطا الثانوية , ووالده من زعماء الرعيل الأول من الإخوان المسلمين, وله أسلوب معروف فى تربية النفوس وشحنها بالمعانى الإسلامية الرائعة, وقد تتلمذت على يديه بطنطا أثناء أن كان يعمل بمعهد طنطا الدينى – وكتابه( تذكرة الدعاة) من المؤلفات التى كان يدرسها الإخوان المسلمون..ز ثم ابتعد بنفسه.

فقلت له : أنا أكلمك باعتبارى زميله بالدراسة. وباعتباري تتلمذت على والدك الذى أسهم فى غرس المعانى الإسلامية التى أعتز بها فى نفسى. والتى بسببها أنا موجود هنا. أننا هنا فى خطر ونشعر أن حياتنا ليس لها أى قيمة... ونحن موجودون بعنبر واحد وله بوابة ضخمة, ويحيط بالعنبر سور ضخم له بوابة متينة, والعنبر مع باقى العنابر الأخرى داخل سور واحد وعال وعليه الحراس... أذن. ماذا يضير لو اقفلتم علينا باب العنبر الداخلى وابتعد السجانون والشاويشية والضباط لحين حضور النيابة أو لحين ان تهدأ نفوسنا المذعورة مما نرى ونسمع؟!.

فظهر عليه التأثر البالغ والاقتناع. وذهب إلى مدير الليمان وبعد فترة عاد إلىّ وقال مفيش فايدة).. وكنت أحس أنه يتمزق فلا شك أنه كان يحس بالكارثة من رد مدير الليمان عليه.

ويبدو أن مناقشة مدير الليمان لنا كانت نوعا من كسب الوقت لنقل الموقف إلى الحكومة وتدبير الخطوة التالية.

وكانت الخطوة فى منتهى البشاعة. كتيبة الحراسة بأكملها وبأسلحتها السريعة الطلقات صعدت إلى الدور الثانى الذى تحتنا والدور الرابع الذى فوقنا وبدأ حصارنا. ووقف عشرة من الجنود بفناء الدور الأرضى وبنادقهم موجهة إلى أعلى. وفجأة صدر الأمر من اللواء/ إسماعيل همت وكيل مصلحة السجون( اضرب ) فأطلق سيل الرصاص من كل جانب.

ورأيت اثنين من الإخوان يسقطان فى لحظات الشهيد / السيد العزب صوان, والشهيد / عصمت عزت عثمان. ودخل جميع الإخوان الزنزانات للإحتماء بها ودخلت إلى أول زنزانة بجانبى وأغلقنا الباب, وانزويت مع من دخل معى بركن, وكان بجوارى الشهيد الحاج/ رزق حسن إسماعيل, وفجأة ارتمى على صدرى فقد أصيب بطلق نارى مصوب الينا من الدور الرباع خلال الفتحة التى توجد باعلى باب الزنزانة. واستقرت الرصاصة بقلبه ولم يستغرق الأر أكثر من الوقت الذى نطق فيها الشهادتين , ثم صعدت روحه إلى الملأ الأعلى تشكو الظلم والوحشية. وسوف يبقى هذا المنظر عالقا بفكرى مدى الحياة. وكان معى بالحجرة الشهيد / محمود عبد الجواد العطار, والأخ/ مصطفى عارف وثلاثة آخرين لا اذكرهم الآن.

وصدر أمر بإيقاف ضرب النار.وساد صمت رهيب وكنا بين لحظة وأخرى نسمع باب زنزانة يفتح ثم صراخ وبعض طلقات...

وجاء الدور علينا وفتح باب الزنزانة, ورأيت النقيب / عبد اللطيف رشدي وبيده مسدسه, معه عدد من السجانة وبعض جنود الكتيبة ولم اشعر بنفسى إلا وأنا أخرج من الزنزانة منفلتا من جواره وأجرى فى الممر نحو السلم الموصل إلى الدور الأرضى.. وسمعت صوت طلقة وأحسست بدماء تسيل على وجهى واعتضنى بالممر السجان(متى) وبيده( شومة غليظة) وبدأ يهوى بها على رأسى بالمكان الذى اصابتنى فيه رصاصة طائشة. لم يغير مكان الضرب... خبطات قاسية متتالية على رأسى بمكان واحد... وهويت إلى الأرض وأحسست بأننى أهوى بسرعة مذهلة فى بئر لا قرار له لونه أحمر بلون الدم القانى وتذكرت أبى وأمى وأخوتى وإخوانى وجميع أقاربى وأصدقائى شريط سريع شامل ونطقت بالشهادتين ثم غبت عن الوعى...

ثم أفقت. وسمعت صوتا ينادى على الجرحى الذين بين القتلى أن يرفع الجريح يده لنقله إلى المستشفى. فرفعت يدى فحضر إلىّ ممرض وحاول رفعى فلم يستطع. فأطلق لسانه بالسب, وجعل يجرنى من قدمى حتى وصل إلى نهاية الممر, وبدأ ينزل السلم بنفس الطريقة. وشعرت بألم شديد براسى نتيجة لارتطامه بدرجات السلم. ووهبنى الله قوة فوقفت... وكانت وقفتى بجوار ضابط العنبر الملازم أول / عبد العال سلومة فنظر إلىّ. وفى هذه اللحظة تقدم نحوى أحد جنود الكتيبة وصوب إلى صدرى بندقيته. وقال لى أنت الشيخ محمود؟؟ ولم أفهم ماذا يقصد. واستعد لإطلاق الرصاص. غير أن الله سخر الملازم أول عبد العال سلومة فمنعه.. وقد علمت فيما بعد أنه كان يقصد الشهيد / محمود عبد الجواد العطار الذى كان معى بالحجرة.. وكان كلانا قد أطلق لحيته فتقاربنا فى الشكل, وأن هذا الجندى كان مع النقيب/ عبد اللطيف رشدي وهو يبحث عن الشيخ / محمود ليقتله, وقد علمت أنه نفذ غرضه حيث خرجت من الحجرة ولم يستطع الشهيد/ محمود ,واغتاله عبد اللطيف رشدي... وظن الجندى انه أفلت من الموت واعتقد أننى هو وأراد أن يكمل المهمة.

ونزلت مع الممرض إلى فناء العنبر. ثم وقعت فأحضر نقالة وتعاون مع زميل له وخرجا بى إلى مستشفى الليمان... والمستشفى محاطة بسور له بوابة يقف عليها سجان وبيده ( شومة) وعند وصولنا إليه سمعته يقول( وانت عايش لسة ليه يا ابن ال...) وأشفع القول بضربة قاسية خلف أذنى جعلت الدم يندفع كالنافورة إلى أعلى...

ووصلنا إلى حجرة العمليات, ورأيت جثثا كثيرة ملقاة على الأرض والدماء تغطيها تماما. هؤلاء جرحى المذبحة فى انتظار الدور لإدخالهم إلى غرفة العمليات حيث يوجد طبيب واحد وأظنه الدكتور/ عبد القادر الحسيني.   ويشاء الله أن يخرج الدكتور من غرفة العمليات ليأخذ أقرب جريح له, فرآنى محمولا على النقالة ونافورة الدماء منفعة, وأشار على الممرضين بإدخالى إلى غرفة العمليات دون انتظار الدور. وقد مكثت زمنا طويلا – وربما لا أزال – أحس أن ادخالى إلى غرفة العمليات قبل دورى ربما يكون قد أنقذني من الموت, وفى الوقت نفسه ربما يكون قد تسبب فى استشهاد أحد الإخوان الذى كان عليه الدور. ولكن هذا قدر الله ولا حول ولا قوة إلا به.

وبذل الطبيب أقصى جهده لإنقاذ من يمكن إنقاذه من ضحايا المذبحة البربرية... وكانت العمليات تجرى بدون ( بنج) وبأقل الإمكانيات. وكنت أنظر إليه وقد استلم رأسي ولم أكن أحس بأى ألم أثناء العملية ولا أدرى لماذا... ثم نقلت إلى عنبر جرحى المستشفى, وكنت مغشيا على أفيق لحظات فأتقيأ دما وأحس بجميع فرش السرير كأنه مغسولا بالدم... وبجوارى الأخ/ عباس فتح الله يواسينى أو يناولنى بعض الماء... وقد علمت فيما بعد أن أصابته كانت بسيطة وكذا الأخ / صلاح عبد الخالق أنور فكان وجودهما بعنبر الجرحى رحمة ساقها الله إلينا... كما علمت فيما بعد أن إدارة الليمان أخذتهما إلى حيث أخوانهم الشهداء للتعرف عليهم,فيا له من موقف تحملاه.(م2 – مذبحة)

وحضر فى اليوم الثانى الطبيب وبعض الضباط. وانصرفوا وقد علمت من الأخ/ محيي الدين عطية أن الطبيب اندهش لوجودى حيا وكان يتوقع موتى خلال اليل ولكنها إرادة الله.

وبدأ تحقيق النيابة مع الجرحى. غير أن حالتى لم تسمح بأخذ أقوالي إلا بعد عدة أيام... أخذت إلى احدي حجرات المستشفى ووجدت وكيل النيابة واحد ضباط المباحث العامة وأحد ضباط السجن وكاتب التحقيق... وانتهى التحقيق معى بد ان ذكرت له الحقيقة الناطقة بمدى الظلم ومدى الوحشية, وكانوا يسمعون كلامى بكل هدوء وهم يشربون المثلجات, كأنهم فى نزهة من نزهات آخر الأسبوع. وليس لديهم أدنى فكرة انه بقتلنا فكأنما قتل هذا الشعب بأسره.

وبعد تحسن حالتي اختارني إخواني جرحى المذبحة ( أمير لهم) تنفيذا لتوجيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( ان كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم) ومن هذه اللحظة بدأت اتصالاتي مع الشهيد / سيد قطب وكان رحمه الله موجودا منذ سنوات بمستشفى الليمان ومعه الشهيد / محمد هواش , والأخ هارون. وكنا نسعد بزيارته بالمستشفى. وكان رقيق القلب قوى الإيمان.. وكان بينه وبين بعض الإخوان مساجلات إسلامية أدبية وأحيانا شعرية لطيفة. اذكر منها ما كان بينه وبين الأخ/ محيي الدين عطية و إذا اشتركا فى نظم الوزو والقافية. وياليت محيى يكون محتفظا بها إلى الآن.

كتبت تقريرا إلى الشهيد بما حدث... وكتبت الشهداء وعددهم 23 شهيدا. وعن هذا الطريق أعلنت إذاعات العالم المذبحة وأسماء الشهداء ال23... وقد ظهر فيما بعد أنهم 21 شهيدا. وقد أثرت هذه المذبحة فيه – رحمه الله - فبدأ ينزف دما من فمه, وكنا نخشى عليه ان يكون الشهيد الثانى والعشرين. أنى أكاد أجزم أن هذا المذبحة لم تؤثر فى صحته فحسب بل أثرت فى كتاباته وانفعالاته ومشى فى طريق حدده لنفسه عن إيمان, حتى لقى الله شهيدا فى مذبحة عام 1965.

وأكاد أحس به وهو يكتب أنه يرى كل شهيد من شهداء المذبحة.. ( أن الداعية المسلم ينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا. ويستيقن أنها فترة وتمضى , وأن للإيمان كره لا مفر منها, وهبها كانت القاضية, فإنه لا يحنى لها رأسا. وأن الناس كلهم يموتون, أما هو فيستشهد, وهو بغادر هذه الأرض على الجنة, وغالبه يغادرها إلى النار وشتان شتان وهو يسمع نداء ربه: لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها نزلا من عند الله, وما عند الله خير للأبرار).

علمت أن الشهداء دفنوا إعلان, ومنع أهالى الشهداء من إظهار مشاعرهم ومن تلقى العزاء... لقد اعتقلوا حتى المشاعر الإنسانية فى الإنسان !!!

وعلمنا من نزلاء السجن ان إدارة الليمان قامت يوم المذبحة باخراج القتلى من الزنزانات ووضعوهم بصورة توحى للنيابة أن الإخوان كانوا يهاجمون السجانة, ووضعوا بجوار كل شهيد( جردل أو آله حادة.

وبعد المذبحة تقرر نقل الإخوان الذين نجوا إلى سجن القناطر. ولم يبق بالليمان سوانا نحن الجرحى وكان عددنا اثنين وعشرين جريحا وكذا الشهيد سيد قطب والشهيد محمد هواش والأخ هارون.

وبعد ما يقرب من شهر تقرر ترحيلنا إلى القناطر الخيرية وكان قائد الحرس النقيب محمد صبحي, وفور وصولنا إلى باب السجن فوجئنا باستقبال رهيب شبيه باستقبالات السجن الحربى. وكان الفارس بسجن القناطر هو الصول/ علي الشلقامي: جثة ضخمة, صوت مخيف, وسوط طويل-... وأثناء التفتيش قال النقيب / صبحى مشيرا إلى ( خدوا بالكم من ده هو الزعيم.) ولم يكد ينطق بهذا العبارة حتى انهالت علىّ الضربات من كل جانب... وأخذونا جريا إلى عنبر واحد حيث باقى الإخوان.واستقبلنى الملازم أول / سامى دويدار بالسباب وقال لى أنا معنديش هنا زعماء, وأخذ السوط من الصول الشلقامى وجعل يهوى على ظهرى وهو يصرخ بالسباب وقد علمت فيما بعد انه كان يرفع صوته وسوطه ليسمعه باقى الإخوان بالزنزانات – كوسيلة من وسائل الإرهاب والتهديد.

ولكن شيئا من هذا لم يحدث..!! وشعرنا بأسف شديد على هذا الشعب. ذلك أن التجارب قد أثبتت أن الشعوب إذا تكاسلت عن القيام بواجبها فى الدفاع عن مبدأ الحرية والشرعية ظنا منها أن ما ارتكب قصد به فرد واحد أو طائفة معينة أو فئة محدودة, فإنها بذلك ترتكب إثما جسيما, جريمة لا تقل عن الجريمة التى ارتكبها الحاكم المستبد. وأنها تجنى من وراء هذا التقصير أن يستمرىء الحاكم المستبد خطة الاستبداد والطغيان حتى يستذل الجميع, ويقضى على حريات الشعب بجميع طوائفه وأفراده, وتتحول الأمة إلى قطيع من الأذلاء يسوقهم الحاكم المستبد نحو الهزائم والكوارث والمآسى وها هناك من ينكر أن هذا ما حدث فعلا؟؟؟

هذا صورة لمذبحة الإخوان بليمان طره فى يوم السبت 1/6/ 1957 حسبما وقع لى فيها من أحداث. وأعتقد أنه حتى تكتمل الصورة تماما.. فيجب على كل أخ من الإخوان أن يكتب ما حدث له بالفعل.

وقد تناول البعض هذه المذبحة فى كتاباتهم. ومنهم غير المسلمين ومنهم الصحفى ومنهم المحامى والكاتب ويكاد يكونون جميعا لا تربطهم أية صلة بالإخوان المسلمين:-

- الصحفى اللبنانى (روكس معكرون) وقد كان نزيل ليمان طره يوم المذبحة وألف كتابا تحت عنوان – ( أقسمت أن أروي) نشره فى لبنان عام 1960 تناول فيه المذبحة.

- أحد الإخوان الذين تعرضوا للمذبحة والذى نشرته مجلة الصياد البيروتية الأسبوعية بالعدد 1580 فى 26/12/1974.

- الأستاذ / مصطفى أمين بكتابه ( سنة ثانية سجن)

- الأستاذ / كمال الفرماوي المحامى بكتابه ( يوميات سجين فى السجن الحربي).

- الكاتب / سامي جوهر بكتابه ( الموتى يتكلمون)

ماذا كتب الصحفى المارونى اللبنانى ( روكس معكرون) فى كتابه ( اقسمت أن أروي) الذى نشره بلبنان عام 1960؟؟

شاهد لا يربطه بالإخوان ولا بالإسلام أدنى صلة

... وجاء الصباح المنتظر وجاوزت الساعة السابعة,ولم تفتح البواب.. وذلك على غير العادة. قفزت من غرفتى إلى الفتحة الصغيرة بباب الزنزانة استطلع الخبر.. لم أر شيئا... إلا أننى سمعت وقع أقدام كثيرة... ثم رأيت ضباطا أعرفهم وكلهم من ضباط السجن, وكلهم مدججون بالسلاح ومعهم عدد وافر من الزبانية يشكلون حلقة ويتشاورون. ولم تمض دقائق معدودات على هذا الوضع حتى توجه السجانون إلى الدور الثالث وفتحوا أبواب الزنزانات بكاملها وأخرجوا الأصحاء من الإخوان إلى شرفة الدور وتركوا بقية الأدوار مغلقة.. وبعد دقائق دوت طلقات نارية كثيرة... ولم اسمع سوى صوت واحد ردده الجميع – جميع الإخوان – الله أكبر الله أكبر... وبقى الرصاص يدوى إلى أن اطمأن الطغاة إلى استشهاد المجموعة البريئة...

وظننت أن الأبواب لن تفتح قبل أن ينقلوا الجثث من العنبر.. إلا أن آدمية خيبت ظنى وفتحت الزنزانات – كل الزنزانات – وآمرنا بالخروج من الغرف لقضاء حاجاتنا.. وما بالك أيها القارئ العزيز إذا علمت أننا كنا نتخطى الجثث وكأننا فى ميدان حرب... جثث فى كل مكان.. أمام غرفتي وفى الفناء وعلى سلم العنبر..

وأطلقت صفارة السجان.. ونودي على جميع سكان العنبر بالنزول إلى الفناء..وامتثل السجناء للأمر... أمر سجانهم صاحب الحول والطول يفعل بهما ما يسعده من ألوان العذاب والحرمان.. فهو فى قانون الليمان حاكم مطلق الصلاحية.

واجتمعنا نحن السجناء فى فناء العنبر.. وأجلسونا القرفصاء وجلست هذه المرة دون مجرد التفكير فى الاعتراض على هذا الوضع وكانت إدارة السجن قد استدعيت بقية الإخوان الذين كانوا فى غرفة التأديب ومنهم الدكتور حمدى... ووقف الملازم أول عبد العال سلومة ليقول لنا جميعا: ايها النزلاء.. يسر إدارة الليمان أن تسعكم بمشاهدة الإخوان المسلمين يقومون بالألعاب بهلوانية للترفيه عنكم!

وحضرتنى فى تلك اللحظة صورة (نيرون)... يقهقهه وروما تحترق وأعطى الضابط الخليع أوامره للإخوان المسلمين ليدوروا سريعا حول العنبر وراءهم شرزمة من الزبانية تلهب ظهورهم بالسياط..ز أن وحشية (هولاكو) لتبدو معدومة إذا ما قورنت بوحشية القائمين على السجن الذين يستمدون أوامرهم من وزارة الداخلية فينفذونها بدقة وإخلاص.

ثم نودى على الإخوان مرة أخرى ليوزع عليهم الضباط الهمام أسماء جديدة.. ولكنها أسماء لنساء. صورة من المهانة والتحقير لم تعرفها الإنسانية من قبل.

نص الرسالة التى تلقاها الصحفى جلال كشك من أحد الإخوان الذين شاهدوا المذبحة – والتى نشرت بمجلة الصياد البيروتية الأسبوعية بالعدد 1580 بتاريخ 26/ 12 / 1974

(أكتب اليك قصة وقعت أحداثها سنة 1957. كنا مائة وثمانين ما بين شاب فى مقتبل عامه الخامس عشر وشيخ تجاوز الخامسة والخمسين, وكان قد مر علينا سنوات فى ليمان طره نعمل لتحطيم الصخور ونقلها, إلى أن كل ذلك النهار القائظ من صيف 1957, وبالرغم من أننا بذلنا كل ما تسمح به طاقتنا البدنية الكليلة فى محاولة للتعايش مع أوضاع الليمان أطول فترة ممكنة, فإننا وصلنا إلى مرحلة من التداعى والخور – وما أقل حيلة المسجون – أدت بنا إلى التوقف الكامل عن مواصلة السير.

وقررنا فى اليوم التالى أن نكتب إلى وزير الداخلية... كن مطلبنا الوحيد هو أن نعفى من الخروج إلى الجبل باعتبارنا مسجونين سياسيين, وأن نقضى أحكامنا فى العمل بإحدى الورش الصناعية الموجودة داخل الليمان لصناعة الأحذية او الملابس أو أعمال النجارة والحدادة أو عمل الملابس والطبخ وتنظيف المرافق وزراعة الأرض الجرداء .وصممنا أن يصل صوتنا إلى وزير الداخلية. ولم يكن هذا من حقنا فحسب, ولكنه أيضا واجب إدارة السجن الذى فرضته عليها اللوائح والأنظمة أن تبلغ الشكاوى إلأى المرسل إليه ما دامت مرفوعة بالطريق الرسمى السليم.

وجاءنا مدير الليمان اللواء, ومساعده القائمقام إسماعيل طلعت إلى العنبر , وصعدا الينا فى الطابق الثالث وهو مالم يكن يحدث الا نادرا.وتحلقنا حولهما محاولين شرح الأوضاع التى ضاقت بنا وجعلتنا نقترب من قبورنا مع كل خطوة نخطوها فى طريق الجبل اليومى.. وتحدثا ألينا بلطف شديد. ويحاولان إفهامنا أن الامتناع عن الخروج إلى الجبل معناه فى العرف العسكرى تمرد, والتمرد غير مقبول وسيقابل بالشدة اللازمة... وأجبناهما بأننا على استعداد لتحمل الجوع والحبس الإنفرادى فى التأديب فى سبيل ان ينظر المسئولون إلى شكوانا نظرة جادة.

كانت إدارة الليمان تجرى معنا حوارا مهذبا مستفيضا فى الوقت الذى أعطت فيه تعليماتها إلى كتيبة الحراسة الخارجية وقوة السجانين الداخلية بالتسلح الكامل ومحاصرة العنبر تمهيدا لاقتحامه وهذا ما حدث تماما.

ثلاثمائة جندى مسلح هاجموا مائة وثمانين مسجونا لا يحملون فى أيديهم سوى ملابسهم يحمون بها صدورهم من الرصاص..ز تمت المذبحة على هذا الوجه... جماعة من حاملى العصى الغليظة تقدمت الصفوف فأحاطت بمن أمامها وفرقت الجموع التى كانت تقف فى ممرات الطابق الثالث من عنبر رقم 1 الذى كنا نسكنه. ثم تلتها جماعة من حاملى البنادق صعدوا إلى شرفات الطابق الرابع وصوبوا بنادقهم الينا فى الطابق الثالث فكانوا أقدر على الإصابات القاتلة.


سيدى المحرر

لم أعي الحقيقة الكاملة إلا لحظة نظرت إلى زميل واقف بجانبى فرأيته هوى إلى لأرض وفى عنقه رصاصة قضت عليه فى الحال, كان عاملا فى مصانع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى, واسمه العزب صوان كان طويلا فارعا له صوت رخيم طالما أشجانا به فى ليالينا الطويلة, وكان باسم الثغر رحب الصدر. ولا أدرى حتى كتابة هذه السطور ماذا فعل الله بزوجه وأولاده الخمسة... فقد كان سؤالى عن أحوالهم بعد ذلك كفيلا بتقديمي إلى محاكمة جديدة...

وقبل أن أرفع نظري على مصدر الرصاصة التى أصابت زميلى هويت بجانبه دون أن أشعر بأية إصابة. ومددت يدى إليه أجره جرا إلى باب مفتوح لزنزانة قريبة... ووجدت داخلها زميلين يكاد الفزع يقتلهما, وقد ساعداني فى دخول الزنزانة , وفى جر الجثة اليها... ثم أغلق الباب ... وانتظرنا. أن الجنود الذين كانوا يصوبون بنادقهم إلينا حتى بعد انزوائنا داخل الزنزانات لم يكن لديهم أى مبرر للحقد أو الانتقام. ولم نفهم ما الذى كان يدعوهم إلى قتلنا... ولئن أمروا بادخالنا الزنزانات وإغلاقها خلفنا لكفاهم فى ذلك بعض العصى الخفيفة كالتى يحملها رجال البوليس يفرقون بها المظاهرات العزلاء. وهذا ما جعل بعضنا يفترض انهم لم يؤمروا بإدخالنا زنزاناتنا فحسب ولكنهم أمروا بالقتل أيضا.. وذكر بعض آخر أنه سمع الجنود يتبادلون حديثا فيما بينهم أبان المذبحة فهم منه أن إشاعة سرت بينهم مؤداها أن الإخوان قتلوا واحد من الجنود فى الزنزانة الكبيرة وهو ما لم يحدث على الإطلاق... ولما كانت هذه الإشاعة الذكية من شأنها أن تملأ قلوب الجنود غلظة, فلم يكن من المستغرب أن يندفع عدد كبير منهم إلى الزنزانة المذكورة, وأن نعرف فيما بعد أن عدد القتلى داخل هذه الزنزانة وحدها بلغ السبعة.. ولم تطلق عليهم رصاصة واحدة أما كيف ماتوا بغير رصاص البنادق... فهذا مالا يمكننى معرفته لأننى لم أكن داخل هذه الزنزانة... ولكننى رأيت اثنين منهم فى مستشفى السجن بعد ساعة واحدة من انتهاء المذبحة ولم أتعرف عليهما.

كان الدم المنبثق من فم الشاب الصغير علي حمزة يغطى وجهه المشوه من اثر ضربات الأحذية... أما جسمه الممزق بطعنات السنكى فقد كان دليلا صارخا على أن إحضاره إلى المستشفى ما هو إلا سخرية جديدة بنا... فقد كان يلفظ أنفاسه الأخيرة .

أما خيرى عيطة وهو شاب أزهرى فارع الطول كان يرأس فريق كرة السلة فى معهده, فقد كان ممددا بأرض المستشفى بعد أن أسلم الروح, ولم أميزه إلا بقامته الطويلة الفارعة. أما وجهه المشوه فقد ارتسمت صورته الرهيبة فى مخيلتى ولن أنساها ما حييت .

تلك كانت قصة الزنزانة الكبيرة التى كانوا يطلقون عليها ( المخزن) لنتركها ونعود لنربط الأحداث بعد أن ضمتني زنزانة صغيرة مع زميلين يقرآن بصوت مرتعش متهدج على جثة زميل ثالث. وكنا قد غطينا الجثة واحتمينا بها من الرصاص الذى كان ولا يزال يصوب إلينا من الطابق الرابع خلال قضبان النافذة التى تعلو الباب والتى لا يمكن إغلاقها. ولم تستغرق المذبحة ساعة من الزمن... سكنت بعدها الحركة وخمدت الأنفاس حتى لا تكاد تميز الزنزانة المسكونة من الزنزانة الخالية... وارتفعت أصوات أخرى تعلن للجنود أن مهمتهم قد انتهت وأن عليهم أن يتجمعوا ليعودوا إلى ثكناتهم. مر فريق آخر على الزنزانات يسأل عن الجثث,أعلمناه أن لدينا جثة ففتحوا الباب وشدوها بسرعة وأغلقوه. ثم مر فريق آخر يسأل عن الجرحى وكنت قد أدركت من الدم الدافئ الذى تدفق من فخذى أننى أصبت برصاصة لم اشعر بها فى وقتها, ولكننى عندما فتح الباب واقتادوني إلى الخارج لم أتمكن من السير منفردا, واكتشفت أن ساقى توقف تماما عن الحركة

وتعثرت فى طريقى إلى مستشفى السجن بجثة زميلى الذى أعزه وأحترمه, المحاسب أحمد قرقر, كان منكفئا على وجهه فى الممر الضيق أمام الزنزانات, لم تكن جثته قد رفعت بعد فكان على كل الجرحى الذين يخرجون إلى المستشفى أن يعبروا فوق جثته.

وعلى الرغم من أن عدد الجرحى كان أكثر من ضعفى عدد الأسرة حتى أن معظمنا كان يرتمى إلى الأرض بمجرد وصوله , فإن أحدا لم يفكر فى استدعاء عدد كاف من الأطباء لمعاونة الطبيب الوحيد الذى كان موجودا فى ذلك الوقت.

بل الأكثر من ذلك مدعاة للعجب, أننا شاهدنا موكبا ضباط السجن يدخلون علينا المستشفى بعد ذلك مستفسرين عن أحوالنا ولما دنا منى أحدهم – وكان ملازما مسيحيا صغير السن دمث الخلق استحلفته بالله وبحق زمالتنا القديمة – فقد كانت تجمعنا مدرسة ثانوية واحدة قبل سبع سنوات – أن ينقل جريحا فى السرير المجاور لى إلى مستشفى القصر العينى لإدراكه قبل فوات الأوان واعتذر الضابط بأنه لا يستطيع, وبادرته:

- أعلم أنك لا تستطيع بطبيعة الحال.. ولكن ألا يمكنك أن تتحدث إلى مدير الليمان فى ذلك؟ وأجاب: لا أستطيع فى هذه الظروف أن أقدم أى مساعدة.

- قلت: ليس من المعقول أن يشك إنسان فى وجود علاقة بينك وبين واحد منا, فماذا يخيفك؟ وكنا نعتبر الضباط المسيحيين - وهو واحد منهم – رحمة يسوقها الله إلينا فى الليمان, لأن لديهم حصانة طبيعية تمكنهم من مساعدتنا دون خشية الرقباء.

وغادر الملازم لطفى سريرى قبل أن يزداد انفعالي ويرتفع صوتى فيكشف ما بيننا من معرفة, ولمحت دمعه منحدرة من عينه لم يجرؤ رفع يده إلى وجهه لمسحها إلا بعد أن غادر باب المستشفى خلف موكب الضباط.

أما جارى الذى كان يتفق الدم من فمه, واسمه أحمد عبد العزيز وهو شاب نحيل يملك مصنعا للحلوى بالقاهرة, فقد شاءت عناية الله أن تمد من أجله , وعلمنا بعد ذلك أن الدم لم يكن يتفجر من جوفه, وإنما هو جرح داخلى نتيجة رصاصة أصابت أحد الفكين وخرجت من الفم. وكان عدد القتلى ثلاثة وعشرين.

- أذاعت جميع إذاعات العالم – ما عدا مصر - نبأ المذبحة

- وعلقت وزارة الداخلية أن الخبر كاذب ولا أساس له من الصحة

- وأكدت رئاسة الجمهورية أنها أكذوبة استعمارية لتشويه سمعة مصر

- وصدق مصطفى أمين هذا التكذيب حتى دخل الليمان وتحقق بنفسه –ونشر تحقيقه بكتابه سنة ثانية سجن.

فى أحد أيام شهر يونيو سنة 1957 كنت جالسا فى مكتبى فى أخبار اليوم عندما اتصل بى قسم الاستماع بأخبار اليوم واخبرني أن إذاعات العالم تذيع أنه حدثت مذبحة فى سجن ليمان طره, وأن أكثر من عشرين مسجونا من الإخوان قتلوا فى زنزاناتهم, وأن أكثر من خمسين منهم جرحوا, واتصلت على الفور بوزارة الداخلية وسألت عن حقيقة الخبر, فأكد لى مسئول كبير فى الوزارة أن الخبر كاذب ولا – أساس له من الصحة. واتصلت برئاسة الجمهورية وسألتهم عن حقيقة النبأ, وأكدت لى الرياسة أنها أكذوبة استعمارية أطلقتها إذاعات الاستعمار ومقصود بها تشويه سمعة مصر فى عيون العالم!!.

وصدقت هذا التكذيب الرسمى إلى أن دخلت سجن الاستئناف ولذا بأحد الحراس يعترف بأنه اشترك فى المذبحة, وأن الأوامر التى كانت لديه قضت بقتل جميع المسجونين السياسيين الموجودين فى الطابق الثالث فى العنبر رقم 1 بليمان طره! وفى سجن القناطر قابلت عددا من الحراس الذين حملوا القتلى بعد المذبحة من العنبر إلى مستشفى السجن كان عشرين قتيلا, والبعض الآخر قال أن عددهم كان واحدا وعشرين قتيلا!!

وعندما نقلت إلى ليمان طره لاحظت, وأنا أتفحص زنزانتى فى الطابق الرابع فى عنبر واحد – أن جدران الزنزانة فيها عدد من الحروق وسألت عن هذه الحروق فقيل لى أنها رصاص مذبحة طره!!

وبدأت أحقق بنفسى فى هذه المذبحة الخطيرة, وسمعت شهودها الذين بقوا على قيد الحياة أن القصة بدأت قبل أول يونيو سنة 1957 وهو يوم المذبحة بزمن طويل, بدأت هذه الفترة فى أكتوبر 1955واستمرت حتى أول يونيه سنة 1957, وكانت التعليمات سبقت وصول المسجونين السياسيين من الإخوان إلى ليمان طره باستعمال أقسى طرق العنف معهم. ونفذت إدارة السجن أوامر الإرهاب بدقة تامة.

ولم يذق المسجونون السياسيون فى تلك الفترة يوما واحدا من الراحة والهدوء. التفتيش المستمر... يدخل الضباط الزنزانة ويرمى محتوياتها بالخارج. يدوس بقدميه على الطعام. يتعمد إثارة المسجونين وإهانتهم ومحاولة إذلالهم. أوامر بالاحتكاك المستمر بالإخوان المسجونين الذين يعملون فى تكسير الأحجار فى الجبل. كانوا يأمرونهم بالخروج إلى الجبل بعد فتح الزنزانات مباشرة, يمنعونهم أحيانا من دخول دورات المياه. أو يؤنبونهم ويحطمون معنوياتهم ويسخو رن منهم قبل أن يسمحوا لهم بدخول دورات المياه. وكان مطلوبا من كل مسجون سياسى أن يكسر كمية معينة من الأحجار, ويكومها ثم يفرغها فى عربات السكة الحديدية, وأى نقص فى الكمية يعرض المسجون السياسى لدخول التأديب وارتداء الملابس الحمراء, وفى هذه الحالة يطالبون بضعف المقطوعة المقررة من الأحجار! ومن يعجز عن تكسير الكمية المقررة يتعرض للجلد!!

فى الجبل الشكوى ممنوعة. لا مراعاة لظروف سجين ضعيف أو سجين مريض أو كبي السن. وفى وقت من الأوقات بلغ عدد الإخوان الذين وضعوا فى سجن التأديب أكثر من خمسين مسجونا, كانوا يخرجون إلى الجبل فى الملابس الحمراء,ويطالبون بمضاعفة كمية تكسير الأحجار!!

وتعرض بعض المسجونين السياسيين لضربات الشمس فى الحر الشديد. سقط عدد منهم مغمى عليه. رفض المسئولون احضار سيارة إسعاف . قالوا أن سيارات الإسعاف لا تحمل الكلاب! تذمر المسجونون. نفخ الضباط البوق يعلن ( كبسة على الجبل) ونزل المسجونون السياسيون محاصرين بالجند المسلح وفى جو من التهديد والإرهاب إلى أن وصلوا إلى الليمان. وفى اليوم التالى قامت حملة من الحراس وهاجمت الزنزانات وفتشتها, وجردت المسجونين السياسيين من كل ما يملكون, وصدر قرار يمنع المسجونين من الإخوان من تأدية صلاة الجمعة الجامعة , وحدث مرة أن ضبط المدير عددا من الإخوان يصلون العصر, فى الدور الثالث, فأمر بعقاب جميع المسجونين فى الدور الثالث. الذين يصلون... والذين لا يصلون! وكان المسئولون فى السجن يتلقون أوامر بالاعتداء المستمر على المسجونين من الإخوان, وكانوا يفتعلون معهم المعارك, وفى سنة 1956 اتهموهم بأنهم تأخروا قليلا فى الخروج إلى الجبل, وقامت فرقة من الحراس بضربهم أمام العنبر, وكادت تحدث مجزرة, لولا أن اللواء/ حسن سيد أحمد مدير الليمان وصل فى هذه اللحظة وأمر بسحب جنود الكتيبة والحراس وأقفل العنبر, وأودع 12 من المسجونين السياسيين الذين أصيبوا فى الحادث فى سجن التأديب واستصدر أمرا بجلد بعضهم 36 جلدة وضرب الآخرين 12 جلدة.

وفى أوائل عام 1956 اشتدت المعاملة سوءا, وصدرت أوامر بالاحتكاك بالمسجونين السياسيين من الإخوان أثناء الصلاة, وفى أثناء زيارة أهلهم, وكانوا المسجونون السياسيين يضعون على رؤوسهم فى الجبل أثناء العمل أغطية للرأس, شأنهم شأن باقى المسجونين فصدرت الأوامر بأن يستثنى المسجونون السياسيون من ارتداء أغطية الرأس, حتى لا يقوا رؤوسهم من الشمس!! وفى أيام الجمع كان الحراس يفتحون أبواب الزنزانات لكل المسجونين السياسيين, وعندما ذهب عدد من الإخوان إلى الضابط المسئول قال لهم( أنا حا أخلى حجراتكم برك دم ).

وبلغ تعنت المسئولين مع المسجونين السياسيين حدا يؤسف جدا له . كانوا يحرمون عليهم استلام أى طعام أو مأكولات من أهلهم أثناء الزيارة. كانت التعليمات أن لا تزيد مدة الزيارة عن دقائق معدودة وكان المسجونين اليهود المحكوم عليهم فى قضية فضيحة لافون يقيمون معهم فى نفس العنبر . وكان يكسر قلب المسجون السياسى المصرى أن يرى الدولة تعامله معاملة المنبوذ, بينما كان المسجون السياسى اليهودى يعامل فى الليمان باحترام وإجلال! وكان المضحك أن هؤلاء اليهود كان مباحا لهم الانتقال كما يشاءون فى أنحاء السجن أما المسجون السياسى المصرى فكانت تقفل عليه الأبواب , كانت الأدوية تصل إلى اليهود من الخارج. أما المسجون السياسى المصرى فكان إذا وجد العلاج لا يجد الدواء! وفى أوائل عام 1957 كانت ورش الليمان فى حاجة إلى أيدى عاملة. وفى هذه الحالة تخفض مدة تكسير الأحجار فى الجبل من 26 شهرا إلى 24 شهرا لتوفير الأيدى العاملة . ويمكن لكل مسجون أمضى 24 شهرا فى الشغال الشاقة فى الجبل أن يطلب ( التخزين) أى النزول من الجبل. وتقدم عدد من المسجونين السياسيين الإخوان الذين أمضوا المدة يطلبون انهاء عملهم فى الجبل. وإذا بخطاب رسمى يجىء برفض أن يستمتع المسجون السياسى من الإخوان بالحق الذى يتمتع به سائر المسجونين, وأن يستمر عملهم فى كسر الأحجار فى الجبل حتى لو انتهت المدة.

وفجأة يجىء أمر بحلق شعور جميع المسجونين السياسيين ويجتثون شعرهم إلى زيرو).

وجرت عادة السجون والليمانات منذ عشرات السنين أن تحترم إدارتها شهر رمضان فتوقف تفتيش الزنزانات خلال شهر رمضان!.. وإذا بالأوامر تجىء بوقف تفتيش جميع المساجين ما عدا الإخوان!! وفى يوم 29 مايو 1957 حضر أهالى المسجونين السياسيين من أهالى شبرا فى مجموعة واحدة لزيارة أولادهم. الزيارة فى السلك كأقفاص القرود, بمعنى أنه يفصل بين الأهالي والمسجونين ستار من السلك السميك, حتى لا يتصافحون ولا يقبلون بعضهم بعضا. هذه هى حقوق الآدميين. أما المسجون السياسى فى مصر فهو حيوان يجب أن يعامل معاملة الحيوانات : لا يصافح زوجته لا يقبل أولاده, يفصله حاجز مزدوج نصف متر , حتى لا يهمس وحتى تناقش المسائل العائلية علنا! المسجون لا ينفرد بأسرته. كل عشرين مسجونا يدخلون معا إلى القفص. تختلط الأصوات. تضيع الكلمات . يستمر اللقاء دقائق معدودة. فى هذه اللحظات المكهربة التعسة. دخل احد الضباط وأمسك بالمسجون السياسى / عبد القادر السيد, واتهمه بانه استلم من أسرته بعض المأكولات من خلال ثقب مفتوح فى السلك يا للجريمة العظمى. القاتل مسموح له أن يتسلم من أهله طعاما أثناء الزيارة, أما السمجون السياسى فمحرم عليه أن يستمتع بالحق الذى يستمتع به القاتل أو السفاح! وذعرت النساء, وبكى الأطفال من صراخ الضباط فى المسجون السياسى الذى خالف التعليمات. وطلب المسجونون السياسيون من الضباط أن يؤجل شخطه ونطره وتوبيخه وتأنيبه حتى تنصرف الزوجات والأطفال! وإذا بالضابط يقرر معاقبة جميع المسجونين السياسيين بقطع الزيارة. وحرمانهم منها لأن مسجونا سياسيا خالف التعليمات وتسلم طعاما من أهله! وصاح الضابط فى المسجونين السياسيين أمام أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم – والله العظيم لأحرقكم بجاز!

ودفع الحراس الأطفال والنساء بأيديهم إلى خارج السجن وهم يبكون ويصرخون حزنا على أولادهم وآبائهم وإخوانهم الذين أقسم الضابط أمامهم أن يسكب عليهم البترول ويحرقهم أحياء بجاز!!

وأجلسوا المسجونين السياسيين على الأرض أما عنبر التأديب وجاء ضابط كبير يقول لهم كل من تسلم من أهله لقمة عيش يجب أن يسلمها!.

وسلم المسجون السياسيون ما معهم من لحم أو فاكهة أو حلوى للحراس! ومن سخرية القدر أن الحشيش و الأفيون وزجاجات الخمر كانت تهرب إلى دخل السجن للمسجونين العاديين, ويحرم الطعام البسيط على المسجونين السياسيين!

وصدر أمر بإدخال 14 مسجونا من الإخوان فى غرف التأديب وقيدت أيديهم بالقيود الحديدية خلف ظهورهم... وصدر الأمر بالقبض على الأهالي... نعم القبض على النساء والأطفال. وجروهم مقبوضا عليهم إلى قسم المعادى. وحررت لهم محاضر بأنهم خالفوا التعليمات وهربوا طعاما إلى ذويهم المسجونين السياسيين!!.

وأبقوهم مقبوضا عليهم حتى المساء, ثم أفرجوا عنهم بعد أن هددوهم بالسجن إذا عادوا وأعطوا ذويهم من المسجونين السياسيين لقمة عيش.

وفى صباح اليوم التالى صدرت الأوامر بتجريد الإخوان المسجونين فى التأديب من ملابسهم, وحلق شعورهم ثم دخل عليهم مأمور أول الليمان وقال لهم:-

( إحنا مبتين لم دقة ! ح تخليكم تمشوا على العجين ماتلخبطوهوش). وفى نفس اليوم 30 مايو 1957 استدعى مدير الليمان أطباء السجن وأمرهم بإخراج جميع المرضى من المسجونين السياسيين الإخوان من الملاحظة الطبية..

والملاحظة الطبية هى أن يعامل المسجون معاملة المريض, ويبقى تحت العلاج خارج مستشفى السجن فى هذه الحالة لا يخرج إلى الجبل يكسر الأحجار, ويتناول طعاما صحيا.

واعترض الأطباء هذا الأمر, وقالوا أن المسجونين السياسيين الموضوعين تحت الملاحظة مرضى فعلا, وخروجهم من الملاحظة الطبية خطرا على حياتهم! وقال لهم مدير الليمان أن هذه أوامر ( من فوق ..! وأن أى طبيب لا ينفذ هذه التعليمات سيجد نفسه مسجونا فى إحدى الزنزانات )..

وقال الأطباء( أن بعض المسجونيين السياسيين قدموا من سجون اخرى للعلاج)..

وقال المدير ( أن الأمر يشمل الجميع.. المرضى وانصاف الموتى! وأن الجميع يجب أن يكسر أحجارا فى الجبل).

وشاع بين المسجونين السياسيين أن الغرض من ارغام المسجونين السياسيين على العمل فى الجبل على الرغم من مرضهم وسوء حالتهم الصحية, أن الأوامر صدرت بقتلهم واتهامهم بأنهم حاولوا الهرب! وقال لى بعض الحراس أنه حدث فى اثناء القبض على أهالى المسجونين السياسيين أن حاول أحد الضباط أن يضع يده فى صدر إحدى السيدات من أهالى المسجونين, فثارت السيدة وأن هذا الحادث هو القشة التى قصمت ظهر البعير! ولكن المسجونين السياسيين الذين كانوا موجودين فى ذلك اليوم قالوا أنهم لم يروا شيئا كهذا وأنه إذا كان وقع فيكون قد وقع أثناء نقل الأهالى المقبوض عليهم فى قسم المعادى.

ولكن هذا الجو المشجون المكهرب الملىْ بالإرهاب والإستفزاز والرغبة فى إذلال المسجونين السياسيين جعل أعصابهم متوترة ينتظرون بين لحظة وآخرى أن تنقض مطارق الانتقام فوق رؤوسهم! وجوه الضباط عابسة مكشرة . عيونهم مليئة بالشرر. الحراس يؤكدون للمسجونين السياسيين أن النية متجه للخلاص منهم ؟ لماذا؟ لأن واحدا منهم تسلم طعاما من أهله أثناء الزيارة؟ هذا غير معقول .. لابد أن هناك جريمة لا يعرفونها جعلت الأوامر تصدر بالتنكيل بهم! كل شىء فى السجن يكشر فى وجوههم . حتى القضبان! لقد قيل لهم صراحة( أعداء الدولة.. وذبحهم حلال)!! ولم يصدقوا هذا التهديد. تصورا أن أحد الضباط يهز أعصابهم... ولكنهم فى اليوم التالى فوجئوا بأنه لم يكن تهديدا, وانما كان أحد أخبار الغد.

وفى صباح يوم السبت أول يونيه سنة 1957 فتح الحراس أبواب الزنزانات, وطلبوا من المسجونين أن يذهبوا إلى طابور الجبل وهو الطابور الذى يسيرون فيه كل صباح فى حراسة الجنود المسلحين والكلاب البوليسية ليعملوا فى تكسير الأحجار.

ورفض الإخوان الخروج. وأبلغوا إدارة الليمان أنهم يطلبون وكيل النيابة, ليسجلوا أمامه أ،هم يشعرون ان الخطر يهدد حياتهم, وأنه قيل لهم أن أوامر صدرت بذبحهم,وأنهم غير ممتنعين عن العمل ويطلبون تحقيقا فيما أعلنه الضباط من نوايا عدائية نحوهم.

وحضر مدير الليمان فكرورا عليه ملتمسهم. فوعدهم بعرض الأمر على الجهات العليا, وطلب منهم أن يدخلوا إلى زنزاناتهم, وقد اعتقدورا أن الأمر سينتهى فى هدوء...

وبعد حوالي ثلث ساعة بدأ فتح الزنزانات زنزانة زنزانة. وإنزال المسجونين السياسيين إلى الدور الأرضي وصفهم فى طوابير حراسة مشددة. وهمس المسجونون العاديون فى أذن المسجونون السياسيين أنه تعد الآن فرقة من الكتيبة التى تقيم فى بناء مجاور لليمان وأن هذه الكتيبة تسلح بالبنادق والعصى والجنازير وتعد للهجوم على السجن.

ثم جاء مدير الليمان مرة أخرى وطلب من المسجونين السياسيين أن يعودوا إلى زنزاناتهم.! فطلبوا منه أن يتركهم فى الحوش كباقى المسجونين العاديين ويستدعى النيابة.

وانصرف مدير الليمان دون أن يلتزم بشىء..

وفى الساعة الواحدة ظهرا فوجىء المسجونون السياسيون بفرقة مسلحة من جنود الكتيبة, ويصطف جزء من الفرقة فى الطابق الثانى, وباقى الكتيبة فى الطابق الرابع.

وبذلك يبقى المسجون السياسيون من الإخوان محصورين فى زنزانات بالطابق الثالث..

ووقف عدد من كبار الضباط أمام مدخل العنبر فى الطابق الأول.. وصاح اللواء إسماعيل همت:( اضرب)! والنهال الرصاص من كل ناحية على المسجونين السياسيين من الإخوان فى الطابق الثالث,,بلا انذار ! بلا مقدمات!

ولم يكن يخطر ببال أحد من المسجونين السياسيين أن هذا ممكن أن يحدث, حتى أن المسجون السياسى/ سعد شوقى كان يقف على كوبرى الطابق الثالث وسمع صوت الرصاص فقال أن هذا ليس رصاصا حقيقيا أنه فشنك)..

وفجأة أصيب سعد شوقى بعدد من الرصاص وسقط قتيلا.. قبل أن يعرف أن هذا الرصاص حقيقى!

وأسرع المسجونون السياسيون ودخلوا ألى الزنزانات, وأقفلوا أبوابها محتمين بها!

صدرت الأوامر إلى الجنود بإطلاق الرصاص من خلال قضبان نوافذ الزنزانات.

وسقط قتلى داخل الزنزانات.

ثم صدر الأمر باقتحام عدد من جنود الكتيبة والحراس المخزن رقم 136, وأن يجهزوا على من فيه بالشوم!

والمخزن عبارة عن غرفة كبيرة يسكنها عدد غير قليل من المسجونون السياسيين, ولكن عناية الله منعت من تنفيذ هذا الأمر فقد انكسرت أكرة الباب , وفشلوا فى معالجتها, وتركوا المخزن واقتحموا باقى الزنزانات.

وفى الساعة الثانية ظهرا توقف إطلاق النار... ونقل المصابون إلى المستشفى وهم ينزفون دما!

ورأى الأطباء جثث القتلى والجرحى فذهلوا... وقالوا ان الحالات خطيرة جدا ويجب نقلهم فورا إلى مستشفى القصر العينى!!وقال مدير الليمان ان الأوامر أن يبقوا هنا!!

والتف الأطباء حول المسجون السياسى عثمان حسن يحاولون انقاذه من جروحه الخطيرة!

ولكن معدات الإنقاذ فى المستشفى السجن لم تكن كافية, وأسلم الروح. وصدرت أوامر بنقل الجثث خارج الزنزانات, وأن يرصوهم فى طرقات العنبر, لإيهام النيابة أنهم قتلوا وهم فى حالة تمرد خارج الزنزانات, ولكن عندما جاءت النيابة وجدت الدماء على جدران الزنزانات من الداخل مما يؤكد أن عملية القتل حدثت والمسجونون داخل زنزاناتهم.

ثم صدرت الأوامر بالقاء أمتعة وأطباق المسجون على أرض الطابق الأول حتى يتوهم المحقق أنه حدثت معركة استعمل فيها المسجون السياسيون الأطباق, واضطر الجنود إلى الرد عليها بالرصاص!!وصدرت الأوامر بمعاملة قتلى مذبحة طره معاملة المحكوم عليهم بالإعدام. المحكوم عليه بالإعدام لا تشيع جنازته ولا يسمح لأسرته بإقامة مأتم له!.. واستدعيت أسر الضحايا, وسلمت كل أسرة جثة ابنها!.. نبهت السلطات عليهم بأن تتم عملية الدفن سرا, وأن أى أسرة تقيم مأتما لابنها ستتعرض لأشد أنواع العقاب, صدرت الأوامر باعداد شهود الزور ليحلفوا اليمين بأن القتلى هم المعتدون! وأنهم كانوا مسلحين بالأطباق ومعلبات الفاصوليا والبامية وغيرها من الأسلحة الفتاكة... وأن المدير الرحيم حاول أن يصرفهم بالحسنى والذوق فأبوا واستكبروا, وأنهم اعتدوا عليه بالقول والإشارة وأن الجنود قتلوا 12 مسجونا سياسيا بالرصاص دفاعا عن النفس!!

وكان معنى هذا القرار أن توارى المذبحة التراب مع جثث الشهداء الواحد والعشرين!

ولكن أوامر جديدة صدرت بالتحقيق مع الجرحى والمصابين الذين تجرأوا وبقوا على قيد الحياة! وبدأ أغرب أنواع التحقيق. أنه التحقيق مع الموتى!

وأراد المسجونون السياسيون المصابون بالرصاص أن يحكوا حكاياتهم مع إدارة الليمان, وكلما فتح واحد منهم فمه ليروى ما حدث أسكته احد الضباط, وقال أن الطبيب أمر بأن لا يتكلم لأن حالته حرجة وتمنعه من الكلام..

وحول بعض الذين أطلقوا الرصاص ان يتكلموا باعتبارهم جرحى! وأرغم عدد من المسجونين على التوقيع على أقوال لم يدلوا بها فى ظل الضغط والإرهاب والتهديد.

ونصبت ادراة السجن كمينا فى طرقات الليمان للإخوان الذين تستدعيهم النيابة, فإذا اقترب أحدهم من غرفة وكيل النيابة انهالوا عليه ضربا حتى يفقد النطق, ثم حملوه إلى وكيل النيابة وقالوا أنه فى حالة صحية تمنعه من الكلام!

واعترف احد الضباط انه صدرت الأوامر إلى فرقة من الكتيبة للذهاب إلى عنبر التأديب حيث يوجد باقى المسجونين السياسيين الجرحى, وكانت التعليمات بأن تجهز عليهم جميعا... ثم تدخل احد الضباط وأنقذ حياة الباقين على قيد الحياة!

وجاء موظف كبير من وزارة الداخلية وسأل مدير الليمان:

وقال : كم عدد القتلى.

قال مدير الليمان: 21 قتيلا يا فندم!

قال الموظف الكبير: 21 فقط! إن التعليمات هى إبادتهم جميعا!!


وفى يوم الثلاثاء 4 يونيه صدر الأمر بترحيل باقى الأحياء من المسجونين السياسيين إلى سجن القناطر. وتم نقلهم فى الساعة الثالثة صباحا حتى لا يعرف أحد فى المدينة ماذا جرى!

وكان المسجونون مربوطين فى جنازير من الحديد. وبعد فك الجنازير نقلوا فى دفعات إلى الطابق الثانى, وكانت كل دفعة تتكون من ثلاثة مسجونين. وصدر المر لكل دفعة أن تجرى حوال أسوار العنبر بينما تنهال عليهم السياط والعصى والأحزمة من أيدى الحراس وقصدوا بهذا إقامة حفلة استقبال للمسجونين السياسيين لإرهاربهم ولإدخال الرعب فى قلوبهم!

وعاش الإخوان ثلاثة شهور فيما يسمونه ( التكدير) وعملية التكدير هذه هى مزيج من ضرب السياط والتعذيب والحرمان من البطاطين والأبراش, ومنع زيارات الأهالى للمسجونين, ومنع إرسال خطابات لأسرهم او تلقى خطابات, ومنع شراء حاجياتهم من كانتين السجن وعدم قبول أمانات بإسمهم.

وفى ذلك الوقت كا يمر عليهم ضابط بعريضة تحية وشكر ولاة الأمور على المعاملة الطيبة وتأييد الحكومة فى أعمالا الجليلة!

وفى أثناء عملية التكدير وقعت كارثة, إذا تجرأ أحد الإخوان من المسجونين السياسيين وأذن لصلاة المغرب!

وقامت الدنيا وقعدت! هذه جريمة كبرى! هذه مخالفة للتعليمات! هذه تحدى لسلطات السجن. وتحول السجن إلى جحيم.

وكثرت الأمراض العصبية بين المسجونين السياسيين..

أصيب المسجون / معوض إبراهيم بانهيار عصبى, أصيب محمد الفاتح بانهيار عصبى, أصيب عبد الحليم شحاته بانهيار عصبى.

كاد يتحول عنبر المسجونين السياسيين بسجن القناطر إلى مستشفى للأمراض العصبية!

وصدر الأمر بنقل 19 مسجونا سياسيا إلى معتقل الواحات. ثم صدر الأمر بنقل 10 مسجونين سياسيين آخرين إلى سجن المحاريق, وكانت جريمتهم ا،هم رفضوا أن يشكروا الحكومة على معاملتها الطيبة. ورفضوا أن يكتبوا تأييدا لها... لأنها قتلت 21 منهم!!!

أصبح اول ما يطرأ إلى ذهن أى نزيل جديد بليمان طرة أن يصعد إلى الدور الثالث بعنبر 1 ليشاهد آثار رصاص المذبحة على الجدران والبواب. وهذا ما فعله الأستاذ كمال الفرماوي المحامى كما ذكر بكتابه( يوميات سجين فى السجن الحربى).

تقرر نقلنا إلى ( عنبر السياسيين) وكان قد سبقنا إليه مجموعة ( حسين توفيق) وكانت هذه المجموعة قد زاملتنا فى السجن الحربى, ثم الانتقال إلى الليمان . وكانت تهمتهم كذلك محاولة انقلاب. كان مع حسين توفيق – وهو المتهم الأول فى قضية مقتل أمين عثمان– كان معه فى نفس القضية الرئيس أنور السادات رئيس الجمهورية الحالى, ومعه الآن شقيقه سعيد توفيق وابن خالته مدحت فخري ثم عبد القادر عامر وأحمد الحفناوي والأستاذ مصطفى راغب وسامي عبد القادر وعبد العزيز خميس.. نقلنا إلى العنبر رقم(1) ( عنبر السياسيين) وتقرر أن يخلى لنا الدور الثانى. أما الدور الأول فكانت به زنزانات إيراد للمساجين العاديين, وكذلك الدور الثالث لمن يقيم من المساجين الممتازين بالليمان ثم كان الدور الرابع للمسجونين السياسيين..ز أول ما طرأ إلى ذهنى ما ترامى إلى سمعنا عن المذبحة التى حدثت فى هذا العنبر عام 957 عندما قام حرس السجن بإطلاق النار على المسجونين السياسيين من الإخوان المسلمين فى هذه الزنزانات, فقتلوا منهم ثلاثة وعشرين, وجرخ ضعف العدد ولا تزال آثار الرصاص وهم داخل الزنزانات مما يشير إلى أنهم أطلقوا عليهم الرصاص وهم داخل زنزاناتهم, وعندما تمت إجراءات تسكيننا فى الدور الثانى بالعنبر, أول ما كنت احرص عليه هو أن أرى هذه الزنزانات التى اخترقها الرصاص. وبالفعل صعدت إلى الدور الثالث, وشاهدت هذه الزنزانات بعينى رأسى... لهم الله أولئك الذين قضوا نحبهم هنا. ولم يكتف الظلمة بسجنهم وتعذيبهم بل قاموا بقتلهم!!!

آثرت المذبحة على المرحوم سيد قطب تأثيرا شديدا ظهر أثره على كتاباته وأفكاره حتى ( لقى الله شهيدا) وهذا ما تناوله سامي جوهر بكتابة ( الموتى يتكلمون)

وانتهى بذلك التحقيق مع المرحوم الشهيد سيد قطب... وعلى الرغم من كل ما تعرض له من تعذيب فإنه كان صادقا.. لم يشأ أن يستجيب للوعود... ولم يرهبه الوعيد, لكى يغير من حقيقة الواقع... أنه ذكر بالتفصيل أن التنظيم كان يهدف إلى أعداد المجتمع المسلم, ولم يفكر فى التسليح إلا للدفاع عن كيانه عندما تبدأ عمليات الإطاحة به خوفا مما يتعرض له أعضاؤه نت تعذيب ومن قتل بالجملة... وكانت صورة الماضى القريب... صورة ما حدث لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين فى عام 1954 ماثلة فى الأذهان... صور الشهداء الذين حكم عليهم بالإعدام تتراءى أمام عيون أفراد التنظيم.. آثار التعذيب المختلفة التى كان يشرف عليها على صبرى وكمال رفعت ورجال السجن الحربى للمتهمين فى عام 1954 لا تزال ماثلة فى أذهانهم, ومحفورة على أجسام بعضهم.

مأساة مذبحة ليمان طره يوم اول يونيه 1957 لا تزال يتناقلونها فى جلساتهم. تلك المذبحة التى ذهب ضحيتها 23 شهيدا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين حكم عليهم فى محاكمات 1954.. وكانت إدارة الليمان قد أعلنت انه تقرر أعفاء كل من أمضى 24 شهرا فى العمل بالجبل فى هذا النوع من الأشغال الشاقة.. وتقدم أعضاء جماعةالإخوان يطلبون تطبيق هذا المبدأ عليهم. ورفض طلبهم.. وقرروا الامتناع عن الذهاب إلى الجبل.. واعتبرت غدارة الليمان ذلك تمردا.. وأحضرت فرقة من الجنود أطلقوا الرصاص فى الليمان على الإخوان المسلمين داخل عنابرهم .. ولقى 23 مصرعهم وأصيب العشرات.. وحفظ التحقيق بطبيعة الحال... وذهبت دماء 23 هدرا

تعرض الإخوان المسلمون لحرب الإبادة, وتشكلت لجنة عليا اقترحت عملية استئصالهم, لأن الفكرة تمكنت منهم كما يتمكن السرطان فى الجسم, ووافق حاكم مصر على مقترحات اللجنة

انها رحمة من الله وقوة خارقة تلك التى أعانت مجموعة الإخوان بليمان طره على التماسك وعدم الانهيار حتى الآن...

- لقد مروا بمذبحة السجن الحربى عام 1954, 1955

- وعانوا فترة الخروج إلى الجبل والسلاسل بأرجلهم قبل الغاء هقوبة القيود الحديدية داخل الليمان.

- وكابدوا الضغط والإرهاق بالعمل بالجبل فى تكسير ونقل الصخور.

وقاسوا الألم النفسى الرهيب عندما كانوا يرون الضابط عبد الله ماهر رشدى ( حرس ميناء الأسكندرية حاليا) يصادق اليهود المحكوم عليهم بقضية لافون وهم ماير مايوحاس, ماير زعفران وفيكتور ليفى. وروبير نسيم داسا, وفيليب.. ويساعد على ادخال الطعام لهم داخل الزنزانات فى الوقت الذى اهدر فيه كرامتهم – وهم المسلمون أبناء الوطن – أمام ذويهم أثناء الزيارات المهينة.

- وتعرضوا لمذبحة 1/ 6/ 1957 حيث استبيحت دماؤهم فى ذلك اليوم المشئوم. وأصبح من السهل جدا ان يبحث أى ضابط او سجان عن أى فرد من الإخوان يكون قد احتك به من قبل – وما أكثر الاستفزازات بالليمان – ما اسه لان يبحث الحارس عن أى فرد من أفخوان ثم يطلق عليه الرصاص أو يحطم رأسه ( بشومته) وينتهى المر.

- وشاهد من نجا من الذين كانوا بالمخزن البحرى إخوانهم وهم يموتون مهشمة جماجمهم بفعل ضربات الشاويش متى وزملائه.

- وأجبر بعض منهم على تقليب إخوانهم الشهداء للإستدلال على أسمائهم حتى يتسنى لرجال الإدارة شحنهم غلأى ذويهم ودفنهم دون أآ احتفال او اظهار أى شعور من مشاعر الحزن وتلقى العزاء.

- ورحلوا إلى سجن القناطر الخيرية ليتعرضوا لفترة تمتد إلى شهور من التعذيب الجماعى طوال ال24 ساعة يوميا.

- ثم مواجهتهم المأساة عندما قام ضابط العنبر الملازم أول/ عبد العال سلومة بمحاولة تفريقهم وبث العداوة بينهم مستغلا الحالة النفسية للمجموعة واستكتابهم تأييدات للحكومة ولرئاد القومية العربية!!!

وهدى الله مجموعة من العقلاء إلى الحل ( ترك الحرية المطلقة لكل من ريد أن يكتب تأييدا) بل كانت هذه المجموعة تستحث المترددين على الكتابة, وفرح الضابط وكانت تتجمع لديه عشرات التأييدات يوميا. صفحات من الإنشاء وظن أنه انتصر.. ثم ظهرت الحقيقة أن المسئولين الكبار لا يريدون هذا السيل من التأييدات الإنشائية انما هم يريدون الفرقة بين الإخوان والتصارع بين مؤيد ومعارض. وهذا ما لم يحدث بل حدث أورع من هذا عندما أفرج عن جميع المعتقلين والمسجونين بعد طوال عذاب وعنت من مارس 1954 حتى سبتمبر 1970. نسى الجميع ما كان يحدث بينهم من تصرفات ناتجة عن الوضع الاستثنائى الشاذ الذى وضعوا فيه لسنوات عديدة.. وأصبح كل أخ يلقى أخاه بقلب مفتوح. فإن كلمة الله التى ربطت بينهم جديرة بتطهير جوارحهم وقلوبهم أولا بأول من أى شائبة تشوبها.

- وكنت دائم التفكير. هل ما حدث بليمان طره يوم السبت 1/6/ 1957 يعتبر حادثا عارضا دون تدبير. وتحمل مسئوليته سجان أو ضابط العنبر أو وكيل الليمان او مديره أومدير مصلحة السجون او وزير الداخلية؟ وكنت أحس أن الحادث أكبر من هذا.

- وكنت دائم التفكير. هل إذا كان الإخوان قد خرجوا إلى الجبل على بعد 3ك من الليمان بالسلاسل فى مثل الظروف التى كانوا فيها لما وقعت المذبحة؟ واقول لا كان لابد من حدوثها بالجبل ولكن بصورة أشنع وبضحايا أكثر وربما شملت (180) تقريبا.

- وكنت دائم التفكير. هل يوجد سجن فى العالم قام المسجون فيه باعتصام أو إضراب او حتى تمرد وحدث لهم مثلما حدث للإخوان المسلمين بليمان طره؟ وأجد الجواب(لا)..

وخرجت باقتناع أن هذه المذبحة تمت ودبرت تدبيرا وفقا لمخطط مرسوم..

ومرت اليام وجاء الرد الناصع... قرأت حكم محكمة جنوب القاهرة الابتدائية الدائرة(6) مدنى كلى الصادر بجلسة 30/3/ 1975

تقرير لجنة القضاء على تفكير الإخوان المسلمين

وقد تضمن نص تقرير اللجنة المؤلفة برئاسة السيد/ زكريا محيى الدين رئيس الوزراء بشأن القضاء على تفكير الإخوان المسلمون. وليس لى تعليق عليه. فكل حرف فيه ينطق بأسلوب هذه الفترة البربرية من حكم مصر:-

تقرير اللجنة المؤلفة برئاسة زكريا محيى الدين رئيس الوزراء بشأن القضاء على تفكير الإخوان المسلمين

بناء على أمر السيد الرئيس/ جمال عبد الناصر بتشكيل لجنة عليا, لدراسة واستعراض الوسائل التى استعملت والنتائج التى تم الوصول اليها بخصوص مكافحة الإخوان المسلمين المنحلة ولوضع برنامج لأفضل الطرق التى يجب استعمالها لمكافحة الإخوان المسلمين بالمخابرات والمباحث العامة لبلوغ هدفين:

1- غسل مخ الإخوان المسلمين من أفكارهم.

2- منع عدوى أفكارهم من الانتقال إلى غيرهم.

اجتمعت اللجنة المشكلة من:

1-سيادة رئيس مجلس الوزراء

2-السيد/ قائد المخابرات العامة.

3- السيد / قائد المباحث الجنائية العسكرية.

4- السيد / مدير المباحث العامة.

5- السيد/ مدير مكتب السيد/ المشير عبد الحكيم عامر.

وذلك فى مبنى المخابرات العامة بكوبرى القبة:

عقدت عشرة اجتماعات متتالية وبعد دراسة كل التقارير والبيانات والإحصاءات السابقة أمكن تلخيص المعلومات فى الآتى:

1- تبين ان تدريس التاريخ الإسلامى فى المدارس للنشء بحالته القديمة يربط الدين بالسياسة فى لاشعور كثير من التلاميذ منذ الصغر مما يؤدى إلى ظهور الأفكار الإخوانية.

2- صعوبة بل استحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقى الأفكار الإخوانية وبسهولة فجائية تتحول الفئة الأولى إلى الثانية بتطرف أكبر.

3- غالبية أفراد الإخوان عاش على وهم الطهارة لم يمارس الحياة الاجتماعية الحديثة ويمكن اعتباره من هذه الناحية خام.

4- غالبيتهم ذو طاقة فكرية وقدرة تحمل ومثابرة كبيرة على العمل, وقد أدى ذلك إلى اضطراد دائم وملموس فى تفوقهم فى المجالات العلمية والعملية التى يعيشون فيها وفى مستواهم الفكري والاجتماعي والعلمي , رغم أن جزاء غير بسيط من وقتهم موجه لنشاطهم الخاص فى دعوتهم المشئومة.

5- هناك انعكاسات ايجابية سريعة تظهر عند تحرك كل منهم لعملية فى المحيط الذى يقتنع به.

6- تداخلهم فى بعض ودوام اتصالاتهم الفردية ببعض وتزاورهم والتعارف بين لعضهم البعض يؤدى إلى ثقة كل منهم فى الآخر ثقة كبيرة.

7- هناك توافق روحى وتقارب فكرى وسلوكي يجمع بين كل منهم حتى لو لم تكن هناك صلة بينهم.

8- رغم كل المحاولات التى بذلت منذ عام 1936 لإفهام العامة والخاصة بأنهم يتسترون خلف الدين لبلوغ أهداف سياسية فإن احتكاكهم الفردي بالشعب يؤدى إلى محو هذه الفكرة عنهم على الرغم من أنها بقيت بالنسبة لبعض زعمائهم.

9- تزعمهم حروب العصابات فى فلسطين سنة 1948, والقناة 1951 رتب أفكار الناس أنهم أصحاب بطولات وطنية عالية وليست دعائية فقط, وأن الأطماع الإسرائيلية والاستعمارية والشيوعية فى المنطقة لا تخفى أغراضها فى القضاء عليهم.

10- نفورهم من كل ما يناوىء فكرتهم جعلهم لا يرتبطون بأى سياسة خارجية سواء كانت عربية أو شيوعية أو استعمارية وهذا يوحى لمن ينظر لهم بأنهم ليسوا عملاء.

11- وبناء على ذلك رأت اللجنة ان الجدير فى المكافحة يجب أن يشمل أساسا بندين متداخلين هما:-

1- محو فكرة ارتباط السياسة بالدين.

2- إبادة تدريجية بطيئة مادية ومعنوية وفكرية للجيل القائم فعلا من معتنقى الفكرة.

ويمكن تلخيص الأسلوب الذى يجب استخدامه . لبلوغ هذين الهدفين فى الآتى:-

أولا : سياسة وقائية عامة:

1- تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامى والدين فى المدارس وربطها بالمعتقدات الإشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسية , مع ابراز مفاسد الخلافة وخاصة زمن العثمانيين, وتقدم الغرب السريع عقب هزيمة الكنيسة وإقصائها عن السياسة.

2- يحرم بتاتا قبول الإخوان وأقاربهم حتى الدرجة الثالثة من القرابة فى الانخراط فى السلك العسكرى أو البوليس أو المراكز السياسية مع عزل الموجود فى مثل هذه الوظائف أو نقلهم إلى أماكن أخرى فى حالة ثبوت ولائهم.

3- التحرى الدقيق عن رسائل وكتب وندوات ومقالات الإخوان المسلمين فى كل مكان ثم مصادرتها وإعدامها.

4- مضاعفة الجهود المبذولة فى سياسة العمل الدائم على فقدان الثقة وتحطيم وحدتهم بشتى الوسائل وخاصة عن طريق اكراه البعض على كتابة تقارير بخطهم ضد زملائهم ثم مواجهة هؤلاء الزملاء بهذه التقارير مع الحرص الشديد على منع كل من الطرفين من لقاء الأخر.

5- بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير الإخوان وهم الذين يمثلون الاحتياطي لهم, وجد أن هناك حتمية طبيعية لالتقاء الصفين فى المدى الطويل, ووجد أن ألفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم بمعاملة الإخوان قبل أن يفاجئونا كالعادة باتحادهم معهم علينا.

ومع افتراض احتمال كبير لوجود أبرياء كثيرين منهم, فإن التضحية بهم خير من التضحية بالثورة على أيديهم فى يوم ما, فلابد من وضع الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلى:

- تضييق فرص الظهور والعمل أمام المتدينين عموما فى المجالات العلمية والعملية.

- عزل المتدنين عموما من أى تنظيم أو اتحاد حكومى أو شعبى أو اجتماعى أو طلابى أو عمالي أو اعلامى.

- التوقف عن السياسة السابقة فى السماح لى متدين بالسفر للخارج للدراسة أو العمل, حيث فشلت هذه السياسة فى تطوير معتقداتهم وسلوكهم, وعدد بسيط جدا منهم هو الذى تجاوب مع الحياة الأوروبية فى البلاد التى سافر اليها. أما غالبيتهم فإن من هبط منهم فى مكان ما بدأ ينظم فيه الاتصالات وصلاة الجماعة والمحاضرات لنشر أفكارهم.

- التوقف عن سياسة استعمال المتدنيين فى محاربة الشيوعيين واستعمال الشيوعيين فى محاربة المتدنين لغرض القضاء على الفئتين حيث ثبت تفوق المتدنين فى هذا المجال.

ولذلك يجب أن تعطى الفرصة للشيوعيين لمحاربة المتدنيين فى أفكارهم ومعتقداتهم, مع حرمان المتدنيين من المراكز الإعلامية.

- تشويش الفكرة الرائجة عن نشاط الإخوان فى حروب فلسطين والقناة.

- تكرار النشر بالتلميح والتصريح على اتصال الإنجليز بالهضيبى وقيادة الإخوان حتى يمكن غرس فكرة عن الجميع أنهم عملا.

- الاستمرار فى سياسة محاولة الإيقاع بين الإخوان المسلمين فى الخارج وبين الحكومات المختلفة, وخاصة فى الدول الرجعية الإسلامية المرتبطة بالغرب, وذلك با، يروج عنهم فى تلك الدول بأنهم عناصر مخربة ومعادية, وبأنهم يضرون بمصلحتها وبذلك يسهل محاصرتهم بالخارج أيضا.


ثانيا : استئصال السرطان الموجود الآن:

وبالنسبة للإخوان الذين اعتقلوا وسجنوا فى عهد من العهود يعتبرون جميعا انهم قد تمكنت منهم الفكرة كما يتمكن السرطان فى الجسم, ولا يرجى شفاؤه, ولذلك يجرى عملية استئصالهم كالآتي:

المرحلة الأولى:

إدخالهم فى سلسلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء او وضع الحراسة على أموالهم وممتلكاتهم , ويتبع ذلك اعتقالهم, وأثناء الاعتقال تستعمل معهم أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب على مستوى فردى ودورى حتى يصيب الدور الجميع, ثم يعاد ويتكرر هذا وفى نفس الوقت لا يتوقف التكدير على المستوى الجماعى. بل يكون ملازما بالتأكيد للتأديب الفردى.

وهذه المرحلة أن نفذت بدقة تؤدى إلى :-

بالنسبة للمعتقلين:

اهتزاز المثل والأفكار فى عقولهم وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والعاهات والأمراض بينهم. وبالنسبة لنسائهم سواء كن زوجات أو بنات فسوف تتحررن ويتعرضن لغياب عائلهن وحاجتهن المالية التى ستؤدى إلى انزلاقهن.

بالنسبة للأولاد: لغياب العائل وحاجاتهم المادية فستضطر العائلات لوقفهم عن الدراسة وتوجيههم إلى الحرف والمهن, وبذلك يخلو جيل المتعلمين القادم مما فى نفوسهم من حقد ويتخلص البناء من أفكار الآباء.

المرحلة الثانية:

إعدام كل من ينظر إليه بينهم كداعية, ومن تظهر عليه الصلابة سواء داخل السجون او المعتقلات أو بالمحاكمة, ثم الإفراج عنهم على دفعات مع عمل الدعاية اللازمة لانتشار أنباء العفو عنهم ليكون ذلك سلاحا حيث يتهمون بأى تدبير ويوصفون حينذاك بالجحود المنكر لفضل العفو عنهم.

وهذه المرحلة ان أحس تنفيذها باشتراكها مع المرحلة السابقة, فستكون النتائج كالأتى:

1- يخرج المعفو عنهم إلى الحياة, فإن كان طالبا فإنه يكون قد تاخر عن أقرانه ويمكن أن يفصل من دراسته ويحرم من تعليمه.

2- وإن كان موظفا أو عاملا فقد تقدم عليه زملاؤه, وترقوا وهو قابع فى مكانه.

3- وإن كان مزارعا فلن يجد أرضا يزرعها. فقد وقعت تحت الحراسة أو صدر قرار بالاستيلاء عليها.

4- وسوف تشترك جميع الفئات المعفو عنها فى الآتي:-

1- الضعف الجسمانى والصحى والجرى المستمر للعلاج والشعور المستمر بالضعف المانع لأية مقاومة.

2- الشعور العميق بالنكبة التى جرتها عليهم دعوة الإخوان وكراهية الفكرة والنقمة عليها.

3- عدم ثقة كل منهم فى الآخر, وهى نقطة لها أهميتها فى انعزالهم عن المجتمع وانطوائهم على أنفسهم.

4- خروجهم بعائلاتهم من مستوى اجتماعي معين إلى مستوى اقل نتيجة لعوامل أخطار التى أحاطت بهم.

5- تمرد نسائهم وثورتهم على تقاليدهم, وفى هذا إذلال فكرى ومعنوي لكون سلوك النساء حينئذ يخالف أفكارهم وتبعا للضعف الجسمانى والمادى لا يمكن إبداء أى اعتراض من جانب الأزواج تجاه سلوك أزواجهم بناتهم.

6- كثرة الديون عليهم نتيجة لتوقف الإيراد واستمرار المصروفات .

النتائج الجانبية لهذه السياسة هى:

1- الضباط والجنود الذين يقمون بتنفيذ هذه السياسة سواء من الجيش أو البوليس سيعتبرون فئة جديدة ارتبط مصيرهم بمصير نظام الحكم القائم حيث عقب التنفيذ سيشعرون – أى الضباط والجنود – أنهم فى حاجة لهذا الحكم يقومون بحمايته من أى عمل انتقامي قد يقوم به الإخوان للثأر.

2- إثارة الرعب فى نفس كل من تسول اليه نفسه بمعارضة فكرية للحكم القائم.

3- وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وإن المعارضين لن يتمكنوا من التستر وسيكون مصيرهم أسوأ مصير.

4- محو فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامى.


انتهى ويعرض على السيد/ الرئيس جمال عبد الناصر

رئيس مجلس الوزراء

(إمضاء)

قائد المخابرات العامة

(إمضاء)

مدير المباحث العامة

(إمضاء)

قائد المباحث الجنائية العسكرية

(إمضاء)

مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر

شمس الدين بدران

(إمضاء)

أوافق على اقتراحات اللجنة,,

(إمضاء)

جمال عبد الناصر


ان قرارات اللجنة العليا التى تشكلت بأمر عبد الناصر لاستئصال الإخوان المسلمين تعتبر تقنينا لما حدث بمذبحة طرة. وكأن المخطط للمذبحة والمشرف عليها هو نفسه رئيس اللجنة.

فقد كشف الصحفى جابر رزق بتحقيقه بعدد جريدة الدعوة الصادر غرة رجب 1397هـ - يونية 1977 أن زكريا محيى الدين هو الذى أرشف على تنفيذ المذبحة.

وقد تضمن هذا التحقيق الصحفى معلومات بعض الإخوان الذين شاهدوها:

الأخ الحاج أحمد البس

الأخ أحمد عبيد أحمد عيسوى

الأخ حسن عبد الستار.

يقول الأخ الصحفى جابر رزق فى تحقيقه ان مذابح الإخوان المسلمين فى سجون عبد الناصر لا يوجد لها فى التاريخ الإسلامى... بل فى التاريخ البشرى كله مثيل... ولم تعرف جماعة من الجماعات الإسلامية قديما وحديثا محنة طالت ربع قرن من الزمان بنفس الضراوة التى ووجهت بها جماعة الإخوان.

لقد لقى أعضاء الجماعة من التعذيب أقسى ما وصلت اليه العقول الشيطانية على طول التاريخ البشرى قديما وحديثا, بدءا باضطهاد الرومان للمصريين وانتهاء بأساليب الشيوعيين التى انحطت إلى أسفل الدركات.

وتاريخ هذه المذابح لم يكتب حتى الآن... وما كتب منه مجرد (شذرات أقلام) كتب على استحياء ووجل من الله أن يحبط العمل إذا تحدث عنه.

ومهما كتب فلن تكتمل الصورة أبدا لأن كمال الصورة, يستلزم ان يكتب كل واحد من الإخوان الذين عاشوا محنة (ربع قرن).. خلف جدران السجون قصته.. وهذا ما يفعله الكثير من الإخوان لأنهم احتسبوا كل ما لاقوه عند الله!!! ولم يكتف جمال عبد الناصر بزبانيته فى التعذيب, بل استحضر لهم حبيرا فى التعذيب من جستابو هتلر اسمه زجلر.

ومذبحة سجن طره.. هى بحق مذبحة المذابح.. بمعنى أها أشد الأهوال التى لاقاها الإخوان فى سجون عبد الناصر.

أننا لن نستطيع فى هذا التحقيق الذى ننشره بمناسبة مرور عشرين عاما على المذبحة أن نرسم الصورة كاملة ... أن كل ما سنفعله هو إعطاء الملامح الرئيسية... للمأساة التى عاشها (180) من الإخوان وواجهوا فيها الموت وهم عزل بين جدران زنزانات ليمان طرة بأيدي القتلة والسفاحين, وعلى رأسهم طاغية عصره الذى صنع مأساة أمة وأذل شعبه كما لم يذله غاز أو مستعمر... الرئيس السابق جمال عبد الناصر – ووزير داخليته زكريا محيى الدين(بيريا) النظام الناصرى الذى خطط للمجزرة. والمنفذون لها من )كلاب الحراسة)

أمثال صلاح الدسوقى الششتاوى المحافظ السابق للقاهرة... وأحمد صالح داود ضابط المباحث العامة الذى تخصص فى شئون الإخوان طوال حكم عبد الناصر والذى أطيح به فى أحداث 15 مايو وأحيل إلى الاستيداع, والضابط عبد اللطيف رشدي الذى أسرف فى قتل الإخوان يوم المذبحة فقتله الله بعد شهور فى حادث بعيد عن الإخوان.

لقد عمل الإخوان لأكثر من عامين فى تكسير الأحجار بالجبل بعد المحاكم الصورية التى أصدرت أحكامها عليهم بعد حادث المنشية الذى دبرته أجهزة عبد الناصر ليكون ( المبرر) لتصفية جماعة الإخوان المسلمين وفاء لتعهده لأسياده الأمريكان, الذين حموه وكفلوه وصنعوا منه بطلا أسطوريا... وانتقل الإخوان من السجن الحربى إلى (ليمان طرة)... ورحل بعضهم إلى سجون الواحات, وبقى فى الليمان 180 أخا هم الذين شاهدوا المذبحة.

وخلال العامين السابقين على المذبحة قاسى الإخوان من سوء معاملة ( السجانة) سواء من الضباط أو الصولات أو الشاويشية أو الجمود ما لم يقاسه المسجون العادي بل ولا حتى الجواسيس من اليهود الذين كانوا مسجونين بالليمان فى أكبر قضية تجسس لحساب إسرائيل التى سميت ب (قضية لافون)

وكما قلت. فإننا لأن نستطيع أن نرسم الصورة كاملة لمذبحة المذابح ولكننا فقط أعطينا من خلال شهود العيان الملامح الرئيسية...ونستطيع أن نقول أن الجهاد الكبير الذى قامت به ثورة يوليه هو المواجهة الضارية لجماعة الإخوان المسلمين خلال ربع قرن من الزمان وكان ذلك أحد شروط الصفقة التى عقدت بين الرئيس السابق وأسياده من القوى العالمية الصليبية والملحدة... خسروا جميعا!!

ويقول الأخ الحاج أحمد البس أنه فى صباح يوم المذبحة وفى الساعة العاشرة نادوا على ( حسن دوح) وعبد الرازق أمان الدين) و( عبد الحميد خطابى) و(أحمد البس)... فخرجنا نحن الأربعة فوجدنا سور العنبر مصطفا عليه الجنود بين كل جندى وآخر ثلاثة أمتار وبيد كل جندى بندقية... وحول العنبر أكوام من العصى والكرابيج وصندوق مملوء بالذخيرة.. دهشنا... ورأينا كتيبة الحراسة واقفة على أهبة الاستعداد فى ساحة الليمان وكأنما نحن فى ميدان حرب تماما!

أدخلونا نحن الأربعة مكتب وكيل لعنبر الضابط محمد صبحى حيث وجدنا العقيد السيد والى مدير الليمان وحوله كل ضباط الليمان وبيد كل واحد منهم مسدسه!!

طلبوا من الأخ حسن دوح ان يتحدث ( أى كلام) فتحدث... ثم الأخ عبد الرازق أمان الدين. ثم الأخ عبد الحميد خطابى... ثم أخيرا طلبوا منى أن أتكلم فقلت ما معناه:

( أنى مندهش لوجود هذا الحشد من الجنود والضباط... وهذه العصى... وهذه الذخيرة... ما سبب ذلك؟! إن كان لضرب الإخوان فالإخوان ليس بيدهم شىء, ولا يحسون أنهم فعلوا شيئا يستدعى ذلك.. والذى أطمع أن يعالج السيد المدير الأمر بالحكمة والرحمة.

أثرت هذه الكلمة فى نفس المدير وأقسم بالله العظيم موجها كلامه لى:

( والله العظيم. والله العظيم يا فلان كل حياتى بالشرطة أعالج امورى بالحكمة والرحمة قبل القوة ودوسيهى يشهد بذلك... وسأفعل ذلك الآن).!!

وقام من فوره إلى مكتبه بالليمان وتبعه الضباط وتركونا نحن الأربعة فى حراسة بعض الجنود. وشعرنا نحن الأربعة من الإخوان أن الأمر قد انتهى إلى خير.

وبعد مدة تم قيها اتصال إدارة الليمان بالمدير العام للسجون... ووزير الداخلية زكريا محيى الدين وطبعا جمال عبد الناصر... والنتيجة.. أننا فوجئنا بأنهم أحضروا عدة سلاسل من الحديد التى يمكن أن يسلسل فى كل واحدة عشرون أو ثلاثون أخا... وبدأوا يسلسلون فى السلسلة الأولى عبد الحميد خطابى وأحمد البس وعبد الرازق أمان الدين... أما الأخ حسن دوح أرسلوه إلى عنبر التأديب لأنه يعيش بكلية واحدة.

,وأخذوا يفتحون الزنزانات... اثنين .. اثنين.. فيخرج من بها من الإخوان فيفتشون ثم يسلسلون ثم يفتحون زنزانتين أخرتين!!.

وبعد ساعتين... أى حوالى الساعة الثانية عشرة أخذوا الإخوان الذين نجحوا فى سلسلتهم وعددهم خمسة عشر أخا إلى عنبر آخر وأدخلوهم حجرة.. وقد صلينا الظهر ونحن مسلسلون!!

ولما قدم السجانون من الجبل, ادخلوا المساجين كلهم داخل زنزاناتهم وجمعوا الذين فى الورش كذلك, وأغلقوا عنابر الليمان الأربعة ما عدا الإخوان الذين ظنوا أن الأمر قد انتهى وأخذوا يستعدون لصلاة الظهر.وفى أقل من ساعة تم كل شىء... من قتل قتل... ومن جرح جرح.. ومن بقى حيا بقى حيا.. وكان حصاد المذبحة 21 قتيلا و22 جريحا و14 فقدوا عقولهم!

وخيم على العنبر سكون رهيب حتى وقت العشاء, حيث أخذت غدارة الليمان ومن معهم من المباحث فى إخراج القتلى والجرحى على ضوء الشموع... وتزداد الصورة التى تمت بها المذبحة بشاعة, ويزداد الأمر نكالا عندما كان الجرحى المنقولون إلى المستشفى للإسعاف يقابلون فى الطريق فيضربون بالعصى حتى بعضهم انضمت إلى القتلى قبل أن يصلوا إلى المستشفى. وكان بطل هذه الجريمة المضاعفة عسكرى يسمى (متى).!!

وأرادت إدارة الليمان والمباحث أن يصورا المذبحة للنيابة على أنها (خناقة) بين الإخوان وبعضهم بالسكاكين والمدى, لذلك بدأوا فى توسيع مكان الطلقة فى صدور الشهداء بالمدى وتوصيل كل طلقتين ببعضهما... ولما لم يكن هذا التفكير مستساغا أمام وكلاء النيابة قالوا إن الإخوان هم الذين اعتدوا على الحرس).. ولما لم يجدوا حارسا واحدا مصابا غيروا وكلاء النيابة بآخرين وحفظوا التحقيق.

وفى اليوم الثانى من الحادث خرج من ليمان طره 21 نعشا فى جنح الظلام, تحت حراسة مشددة. كل شهيد إلى قريته أو بلده.. ليدفن ليلا بحضور أحد أقاربه... وبقيت المقابر فى حراسة لا يقترب منها أحدا...

فى عصر اليوم الرابع . سلسلوا الإخوان فى سلاسل كل عشرين فى سلسلة , وأجلسوهم على الأرض, وبقينا على هذه الحال حتى العشاء. ثم خرجوا بنا من ابا الليمان الذى أضيئت الأنوار أمامه كالشمس تماما, كما أحيط الميدان أمام الليمان بالجنود المسلحين.. وأدخل الإخوان السيارات الواقفة وسط الجنود بطريقة مفزعة, وكان يحدث أن بعض الإخوان المسلسلين فى سلسلة واحدة قد ركبوا العربة بينما الآخر ما زال واقفا على الأرض. وكانت عمليات الجذب نتيجة ذلك الوضع تسبب آلاما رهيبة وصلت إلى حد كسر العظم وكانت تصدر الصرخات من الإخوان .

أخيرا ركب الجميع السيارات وتحرك الركب المظلوم وسط موتوسيكلات الحراسة والجنود الذين اصطفوا على جوانب طريق الكورنيش الذى أخلى تماما من الأهالي!!

فسارت بنا السيارات إلى سجن القناطر, وكانت الساعة الثانية والنصف صباحا فوجدنا فى انتظارنا مدير عام مصلحة السجون, وقد روى بعض الإخوة أنهم قد رأوا زكريا محيى الدين وزير الداخلية والمسئول عن المذبحة, وقال البعض أن زكريا محيى الدين كان يمسك (خرزانة) يضرب بها الإخوان!!.

أدخلونا سجن القناطر واحدا.. واحدا من الباب الجانبى للعنبر المظلم بينما يقف على باب كل زنزانة من الدور الأول سجان يمسك بيده( كرباجا) يلهب ظهر كل أخ يمر أمامه... ولا يكاد الأخ يتلوى من لسعة الكرباج, حتى يجد سجانا آخر يلهب ظهره بضربة أخرى وهكذا على طول الطريق وسط الظلام, ولا يدرى الأخ إلى أين يتجه حتى يصل إلى السلم فى وسط العنبر فيجد سجانا آخر يضربه ويأمره بالصعود إلى الدور الثانى حيث يجد سجانا آخر واقفا يضربه ويأمره أن يتجه إلى زنزانته التى لا يعرف اى زنزانة هى!.. المهم كانت تلهب السياط ظهره حتى يدخل إلى الزنزانة!! حتى إذا اكتمل العدد فى الزنزانة أغلقت عليهم فيتحسسون المكان المظلم فيجدون ثلاثة أبراش وجردلا للبول وزمزمية من القماش ملئت بالماء الذى أناب منها على أرض الحجرة فأغرقها.

وفى الصباح فوجئنا بان دور رقم 2 الذى نسكن فيه يوجد به ستة من السجانة واثنان من الشاويشية وصول ومعهم الكرابيج والعصى وكانت تفتح الزنزانة فيخرج من فيها فيؤمرون بالجرى حول الطرقات ثلاث لفات بينما السجانة يلهبون ظهورهم بالسياط, يحدث ذلك بينما أحد الإخوان يحمل جردل البول... والثانى يحمل( زمزمية) الماء.. والثالث يحمل( القروانة) . وبعد اللفات الثلاث نذهب إلى الدورة) لإفراغ جردل البول وغسيل ( القروانة) وملء(الزمزمية). ويتم ذلك تحت التعذيب المتواصل وكان طابور التعذيب هذا يحدث مرتين فى اليوم مرة صباحا.. ومرة فى المساء!! وبقينا حوالى ثمانية شهور على هذا الحال أصبح الإخوان أشباحا وهياكل غائرة العيون شاحبة الوجوه, وأصيب عدد كبير منا بأنيميا حادة.

وبعد ثمانية شهور أخرجونا من الزنزانات وقدم علينا الطبيب ( مصطفى النحاس) وكان كريما معنا, قابلنا بابتسامة عذبة ونظرة رحيمة, وكان هو كل ما يملكه من علاج لنا.

ولما سمح لنا بالاستحمام, وكنا فى أيام الشتاء والبرد شديد. نؤمر بخلع ملابسنا قبل الحمام بمسافة ونقف عرايا كما ولدتنا أمهاتنا, ثم نؤمر بالجرى إلى الحمام . فنجد أمام الحمام سجانا نعطيه ملابسنا القذرة فيعطينا بدلا منها أقذر منها. وندخل ( ستة ستة) إلى الحمام, كل واحد فى (عين). ويفتح السجان الماء البارد علينا دفعة واحدة... وبعد دقيقة يدخل على كل واحد منا سجانا يضربه وهو عار, ويأمره أن يلبس ملابسه بسرعة فكان أحدنا يلبس الجاكتة فى رجليه والبنطلون فى رأسه ويذكر الأخ أحمد عبيد عيسوى أن مذبحة طرة أفظع من مذبحة السجن الحربى سنة1954 وأقسى.. ونتائجها أهول... لقد ذهبت بعقول أربعة عشر من الإخوان.. ومازلت أذكر الأخ معوض أبو زهرة الذى توفى فى القناطر, وهو فى حالة ذهول وتهيج, وكان يصرخ ويضرب بيديه فى الهواء مخاطبا الملازم عبد العال سلومة أحد الذين نفذوا المذبحة.. ( أنت اللى قتلت الإخوان..!! أنت اللى قتلت الإخوان)... لقد فقد الكثير من الإخوان عقولهم وذاكرتهم.. وظهرت حالات ( انفصام) لعدد آخر.

وقبل المذبحة بوقت طويل زاد الضغط من قبل الطغاة... وظهرت ( روح جماعية) سيطرت على الجميع كانت أوضح ما يكون فى مواجهة الموقف... لم يكن هناك زعيم يقود.. ومجموع يقاد.. إنما كان هناك ( عقل جمعى) بصورة فريدة.. كان كل واحد من الإخوان يسأل نفسه هذا السؤال :( ماذا نعمل فى هذا الموقف)؟؟

وفى يوم الجمعة آخر يوم فى شهر مايو 1957 وهو اليوم الوحيد الذى لا نخرج فيه إلى الجبل... اجتمع الإخوان ليتفقوا على رأى موحد كيف يواجهون تصرفات الإدارة الاستفزازية؟ وكيف يحافظون على أرواحهم ؟! ورأى جميع الإخوان ألا نخرج إلى الجبل. ونطلب النيابة للتحقيق.

ويوم المذبحة لم ننزل إلى الجبل.. وكان كل واحد منا قد كتب ورقة يقول انه يطلب النيابة للتحقيق لسوء المعاملة, ما عدا ثلاثة أو أربعة من الإخوان كان الشهيد قرقر واحد منهم.. كتبت فى ورقتي( إن نظام الحكم القائم لا يحكم بكتاب الله, وبناء عليه الطاعة له غير واجبة وأحكامه باطلة, ولن أخرج إلى الجبل... وأريد النيابة للتحقيق)!!

نزل كل واحد من الإخوان وسلم ورقته وطلع مرة ثانية. ومثل أى محنة كان لمذبحة سجن طره آثار طيبة .. من بين تلك الآثار أن بعض الإخوان الذين شاهدوا المذبحة ازدادوا صلابة وازدادوا قوة.. وجعلت المذبحة بعض الناس الذين كانوا يؤملون فى حكومة عبد الناصر ويظنون بها الخير يكتشفون حقيقة النوايا السوداء والمواجهة الضارية للجماعة والدعوة!!

وبدوا يصنفوننا.. فقد جاء خبر يقول إن صلاح الدسوقى (محافظ القاهرة السابق) وأحمد صالح داود المسئول عن الإخوان فى المباحث العامة والضباط من السجانة بدأوا يجتمعون لتصنيف الإخوان فقسمونا ثلاث مجموعات. مجموعة (ج) وتضم الإخوان الذين يؤثرون فى غيرهم ويتأثرون. وهؤلاء لا يرجى منهم خير فى نظر المسئولين بمعنى انهم لن يؤيدوا الحكومة فلابد من عزلهم وترحيلهم إلى سجن الواحات.. ومجموعة تتأثر ولا تؤثر وهؤلاء مأمون شرهم ويرجى فيهم خير... أى أنهم سيؤيدون الحكومة...

والمجموعة الثالثة وتضم الذين لا يتأثرون بغيرهم ولا يؤثرون فى غيرهم!! وبالفعل اختيرت مجموعة رحلت إلى سجن المحاريق... ومجموعة أخرى رحلت إلى سجن الواحات

أما الأخ حسن عبد الستار فقد تناول الموقف منذ البداية فقال: منذ رحلنا إلى الليمان بعد أن صدرت ضدنا الأحكام. وكان ذلك فى 27 أكتوبر 1955, ارتدينا ملابس الليمان الزرقاء وأدخلنا الزنزانات بعنبر(1) ونحن لا نكاد نشعر بالمن أو الطمأنينة المقررة للمساجين العاديين وقطاع الطرق داخل الليمان لأننا كا لنا وضع خاص!!

هكذا كان الجواب من رجال الإدارة داخل السجن... فكانوا دائما لا يتركوننا بدون تفتيش... والتفتيش داخل الليمان يحدث الكثير من المرارة والرهبة وتوتر الأعصاب. واستمر هذا الوضع حتى بدأنا نتأقلم عليه, ونروض أنفسنا على هذه الحياة مهما كانت, لأننا كنا نعلم تمام العلم أننا أبرياء مما نسب الينا, وكنا نشعر أننا ضيوف عند الله ويجب أن نتحمل فى سبيله كل شىء!!.

ظللنا على هذا الوضع حتى بداية عام 1957, وبدأت الأمور تهدأ بعض الشىء, وقلت نوبات التفتيش , فبعد أن كانت يومية أصبحت أسبوعية.. وحتى بقية المضايقات الأخرى مثل مضايقات الزيارات ومقطوعية الجبل. ومشاكل الأكل والكانتين تأقلمنا عليها.

وقبل المذبحة بحوالى أسبوعين فوجئنا بموجة التفتيش تعود مرة ثانية مع كثير من التعنت والاستفزاز . ثم فوجئنا بعد ذلك بمنع صلاة الجماعة فى حوش السجن.. ثم منعنا من الصلاة نهائيا فى طرقات الدور الذى نقيم فيه... ولما شعرنا أن هناك شيئا خفيا.. وغيوما قاتمة بدأت تظل حياتنا صبرنا وكتمنا غيظنا وتجنبنا الاحتكاك بأى من ضباط الليمان أو السجانة حتى تفوت العاصفة – ولكن الأمر ليس بيدنا.. إذ كانت المؤامرة قد دبرت بأحكام وكان لابد مما ليس منه بد!!

وجاء يوم الأربعاء 29 مايو 1957, وكان هذا اليوم مخصصا لزيارة إخوان شبرا.. وأثناء الزيارة دخل الضابط عبد الله ماهر وحاول الاحتكاك ببعض الإخوان فلم يفلح.. فإذا به يغلظ القول لإحدى السيدات من الزوار, كانت شقيقة أحد الإخوان ولما حاولت تهدئته شتمها أمام شقيقها وجميع الإخوان الموجودين فى الزيارة, وكان للأخ أن يثور لكرامته وشرفه وعرضه, عندئذ حضر الضابط معانا انتهاء الزيارة وتكهرب الجو... وانصرف الإخوان إلى العنبر فى صحبة الحراس وفى الطريق. وعند عنبر ( التأديب) أصر الضابط عبد الله ماهر والضابط عبد العال سلومة, ومعهما قوة كبيرة من السجانة على إدخال الإخوان عنبر ( التأديب)... والأدهى من ذلك وأمر, أنهم أصروا على وضع الحديد فى أيدى الإخوان من الخلف, وهذا أمر مخالف لكل القوانين الدنيا, ووضع تتعذر الحياة معه لأن الإنسان لن يستطيع النوم ولا الأكل ولا الشرب أو قضاء الحاجة وهو على هذا الوضع اللا انسانى!!

وفعلا تم وضع الحديد فى ايدى الإخوان من الخلف وادخلوا عنبر التأديب.

وبلغ الإخوان فى العنبر ما حدث لإخوانهم فى الزيارة وقبل أن نستجلى الحقيقة فوجئنا بالتفتيش وبصورة مليئة بالإستفزاز والتطاول.

وفى اليوم التالى الخميس 30 مايو 1957 – وعند عودتنا من الجبل – فوجئنا ( بعملية غريبة كل الغرابة) وجدنا الإخوان المرضى الذين وضعوا تحت الملاحظة الطبية بالعنبر وبالمستشفى قد أخرجوا جميعا حتى الذين كانوا قد أجريت لهم عمليات جراحية, ولم تلتئم جراحهم بعد وعددهم 48 أخا وقررت غدارة السجن أن جميع الإخوان لابد من خروجهم إلى الجبل يوم السبت... عندئذ فقط وضحت أمامنا خيوط المؤامرة تماما , وأيقنا أنهم يعدون للقضاء علينا جميعا بالجبل, وعندئذ يسهل عليهم أن يقولوا: ( أننا حاولنا الهرب فأطلقوا علينا الرصاص, وبهذه الحجة يمكن إبادتنا عن آخرنا والقضاء على 180 مسجونا ليحافظوا على 2500 مسجون الموجودين فى الجبل)!!.

وفى يوم المذبحة لمح أحد الإخوان وهو الأخ مرسى صادق السلاسل وهى توضع فى أيدى الإخوان الذين يخرجون من الزنزانات ففزع وفزع من معه من الإخوة وخطف المفتاح من السجان وفتح جميع الزنزانات, وخرجنا جميعا إلى لطرقة ووقفنا بها!! وهنا عجزت إدارة اليمان عن سلسلة بقية الإخوان, وفسد التدبير الذى دبروه ليخرجوا بالإخوان مسلسلين إلى الجبل ويضربوهم هناك بالنار ويبيدوهم!!

وفكرت إدارة الليمان مع رجال المباحث العامة الذين وجد احدهم فى العنبر وهو الضابط أحمد صالح داود فى حيلة أخرى لتنفيذ مؤامرة إبادة الإخوان!!

وفى حوالى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا حضر الينا مأمور أول الليمان العقيد إسماعيل طلعت والتففنا حوله, وما كدنا نتحدث معه حوالى عشر دقائق إذ بأحد الحراس الذين يعملون بمكاتب إدارة السجن يهمس فى أذنه بشىء لم نسمعه.. فانصرف على الفور, وما كاد يصل إلى المكاتب حتى سمعنا ضجة كبيرة فى مدخل العنبر, فنظرنا .. فإذا بكتيبة الليمان بكامل أسلحتها وعددها حوالى ألف جندى وصف من ضباط انقسموا قسمين:: قسم توجه إلى الدور الثانى, وقسم صعد إلى الدور الرابع واصطفوا فى الطرقات من الجانبين وأخذوا وضع الاستعداد للضرب ونحن محصورون فى الدور الثالث بين نيران أسلحتهم من أعلى ومن أسفل..

كل هذا تم ونحن لم يدر بخلدنا أنهم قد وصلت حالى الهوس إلى الضرب فى الليمان لأن هذه الحالة لم يسبق لها مثيل فى سجون الدول الشيوعية التى تحكم بحكم الفرد.. ونحن حينما امتنعنا عن العمل فى الجبل وطلبنا النيابة كنا نتصرف حسب لائحة الليمان الداخلية التى تنظم طريقة العقاب.. فالممتنع عن العمل حسب اللائحة يجلد من 12 إلى 16 جلدة فى المرة الأولى. ثم تضاعف العقوبة فى المرة الثانية ثم تكون ثلاثة أمثال المرة الأولى ثم يخزن عن العمل نهائيا!!   أقول كنا نتصرف حسب اللوائح , وكنا مستعدين لتطبيقها علينا ولكن لم نكن نفكر أن الحقد الأسود يصل بالسفاحين إلى درجة قتلنا وسفك دماء الأبرياء بهذه الطريقة الهمجية!!.وما كاد الجنود ياخذون أماكنهم فى وضع الاستعداد حتى دخل مدير الليمان ومعه بعض المدنيين من خارج الليمان عرفنا منهم صلاح الدسوقى الششتاوى الذى شغل منصب محافظ القاهرة فيما بعد, وأحمد صالح داود من المباحث العامة.. وما هى إلا لحظة حتى رفع مدير الليمان سيد والي يده بالمسدس وأطلق رصاصة كانت بمثابة إشارة البدء فى المذبحة الرهيبة!! انطلقت النيران من ألف قطعة سلاح دفعة واحدة .. ظننا فى بادىء الأمر أن هذا الرصاص (فشنك) بقصد الإرهاب والتخويف.. ولكننا وجدنا الإخوان يتساقطون واحدا بعد الآخر..

استمر اطلاق النار حوالى أربعين دقيقة مضت كأنها دهر كامل ونحن نسمع دوى الرصاص مختلطا بصرخات وآهات مكتومة ودعوات ضارعة إلى الله!!

ثم توقف الضرب بعد صدور الأوامر بذلك.. ولكن لم تمض حوالى خمس دقائق حتى سمعنا صوتا كأنه الثور الهائج يصدر أوامره لحملة الشوم الغليظ من السجانين ان يقتحموا الزنزانات واحدة بعد الآخرى ويجهزوا على من بقى على قيد الحياة من الإخوان!! وكان صاحب هذا الصوت هو النقيب عبد اللطيف رشدي. وفعلا بدأ حملة الشوم الغليظ بالمخزن البحرى, وكان به حوالى تسعة من الإخوان كان قد استشهد منهم خمسة أما الأربعة الباقون فكانوا فى حكم الأموات فاقدى الوعى يسبحون فى دمائهم ودماء إخوانهم الشهداء! فظنوهم جميعا أمواتا..

فتوجهوا إلى المخزن القبلى وحاولوا فتحه إلا أن القدر كان قد سبقهم وأبى الباب أن يفتح لأن رصاصة من الرصاص كانت قد استقرت فى ( الكالون) فسمكرته , فأنجى الله أحد عشر من الإخوان الذين كانوا بداخله من موت محقق.

ثم توجهوا إلى الزنزانتين المجاورتين وهما رقما 13 و14 فأجهزوا على الستة الذين كانوا بداخلهما. وفى اليوم الرابع حوالى الساعة التاسعة صباحا حضر الملازم أول عبد العال سلومة ومعه قوة كبيرة.. فكان يفتح باب الزنزانة ويجرد جميع من فيها من ملابسهم الداخلية ثم يلبس كل واحد منهم بدلة سجن على اللحم وحافى القدمين ويخرج من الزنزانة ومعه برش وبطانية ويسكن فى زنزانة أخرى... وبهذه الطريقة جردنا جميعا من كل شىء..من ملابسنا الداخلية.. ومن أحذيتنا, ومن ( التموين) الذى اشتريناه من الكانتين, ومن الأدوية ومن جميع الأشياء المصرح بها حتى الكتب والمصاحف, بل وحتى النظارات الطبية .

فى عام 1955 وفى قاعة محكمة الشعب الاستثنائية داخل ثكنات العباسية قال الشهيد/ أحمد حامد قرقر ( أنكم لو قتلتم كل الإخوان, فسيخرج من دمائهم من يقول ( الله أكبر ولله الحمد)..

وفى عام 1977 يكمل ابنه الطالب بكلية الصيدلة الصيحة فيقول ( وأعلن اليوم الله أكبر ولله الحمد).


ابن الشهيد

أذكر أنه بعد المذبحة بشهور ونحن بسجن القناطر الخيرية. اشتاقت نفسى إلى مناجاة الشهيد/ أحمد حامد قرقر... وكنا نعلم ان له طفلا وحيدا.. لم يضمه إلى صدره يوما.. ولم يعلمه حرفا... وكان عميق الثقة بيننا بورح الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وكتبت قصة أرسلتها على مجلة السجون لنشرها وكان ملخصها أن بطلا ظل يدافع عن دينه ووطنه حتى لقى الله شهيدا, وفى اللحظة التى استشهد فيها وضعت زوجته طفلا فكأنما أراد الله أن يجعل من الابن امتداد لأبيه..

وأذكر ان الأخ/ محيى الدين عطية على هذه القصة الرمزية قبل ارسالى لها. فنظر إلى طويلا وقال لى ( أنت تقصد طبعا الأخ الشهيد / أحمد) فقلت له ( نعم) ولفنا صمت حزين...

كان فى عام 1958, ودار الزمن, ويشاء الله أن اقابل ابن الشهيد أحمد حامد خلال شهر إبريل الماضى... شاب ناهز العشرين من عمره – طالب بكلية الصيدلة . ضممته إلى صدرى بنظرى, وشعرت بارتياح عجيب وحنين شديد إلى الإخوة الشهداء, وإلى الإخوة الذين حضروا المذبحة. وفى هذه اللحظة تمنيت ان أسجل ملاحظاتى هذه وأطبعها تسجيلا لهذه الهجمة البربرية التى ستظل نقطة عار فى التاريخ هذا الوطن.

وسألت ابن الشهيد عن مشاعره فآثر أن يكتبها, وآثرت بالتالى أن أجعلها خاتمة هذا الكتيب. فقد تكلمت عن الشهيد, وبقى أن نعرف مشاعر ابن الشهيد كنموذج لآلاف الأطفال بل ملايينهم الذين ولدوا وتربوا فى بيت فرعون مصر...


ذلك اليوم محفور بالنار فى وجدانى

وتوقف نبض الشمس, وخرجت أشعتها مقيدة بالذعر والغضب وصرخت كل الكائنات, وانبعث فى الأفق بكاء طفل, وشرود أم ثكلى, ودموع أهل جرحى.

فى ذلك اليوم الحزين... يوم أن هبط جنود الشيطان إلى قريتى الوادعة, يريدون دفن كرامتها فى التراب, بعد ان اعتالوا فيها الفضيلة والكبرياء.

فى ذلك اليوم القائظ ن أيام الصيف. وبالتحديد فى أوائل يونيو. وبينما عيدان القمح الذهبية ترنو إلى الشمس بحبور. وبينما يخرج الأهلون من صلاة الظهر, وإذا بهم تتجمد الحياة فى عروقهم لأن – السلطان أراد ذلك.

جاءوا يحملون جثة ابنهم العزيز. بعد أن اختطفوه منذ شهور كانوا سبعة جنود.. بل عشرة... لا يهم كم كان عددهم لأنهم فى كل حالة رمز الظلم يحملون بنادقهم فى وجه الشمس ووجه القمح ووجه الأهلين. وكبير الجند تقدم... أين أهل القتيل. وتردد كل الكائنات بصوت ضميرها... بل قل الشهيد... لا يسمع... بالطبع لا يسمع...

يسترسل فى فحيحه. ممنوع أن تبكوا. أو تصرخوا. ممنوع أن تحزنوا. ممنوع أن تتقبلوا التعازى. أو تقيموا مأتما. ممنوع ( أمر سلطانى) من يخالفه يشرف عندنا( ربما كان كذلك الضابط أحد أفراد فرقة الموت فى كرداسة).

فى ذلك اليوم الحزين كان الطفل فى مهده لا يدرى مما حوله شيئا – كانت أم الطفل شاردة تماما. وكان الجد ذاهلا, وكذلك كانت الجدة والأعمام والأخوال قد سكنوا, فحتى بعد رحيل الجنود ... تركوا خلفهم خوفا رهيبا. فلم يجرؤ أحد أن يتكلم . وفجأة صرخ الطفل صراخا ذا معنى. سأتحدى الصمت الملفوف فى خوفكم لأنى لا أخاف. لأننى جزء من الشهيد ومتى كان الشهداء يخافون؟ وفى ذلك اليوم (كأمر السلطان) امتنع الناس عن تقديم التعازى, وامتنع الأهل عن تقبل العزاء أيضا – لأن السلطان – هكذا أراد.

فى ذلك اليوم نبتت شجرة الخوف الخبيثة. التى لن يجتثها سوى الإيمان. وتطوى الأيام سراعا. ويشب الطفل تحت رعاية جده. ولم يسأل كالعادة أين الوالد؟ كان يعيش بوجدانه معه.كان يراه ببصيرته يقاتل فى صف الشهداء فى كل المواقع التى سمع بها. رآه فى بدر يقاتل ورآه فى حطين يقاتل أيضا. وتتساقط كلمات الأهل لتشرح شيئا للطفل. مات الوالد ذات يوم. يومها كنت فى المهد. لم يجرؤ الأهل بالطبع أن يقولوا أنه ذهب فى قافلة النور ليعود بمدفع وزهرة. وأنه مازال هناك يحفر الخندق حول المدينة ليحميها من البرابرة.

كنت أشعر بشكل غامض بالغربة, وبشكل واضح بالعزة. كان ذلك الشعور بالعزة يجتاحنى اجتياحا. المح ذلك الشعور فى كل اللقاءات الجماعية والاحتفالات المدرسية وغيرها. كنت أشعر أننى مميز بشكل واضح دون أن أدرى كيف؟

اذكر الآن أن الأم كانت كثيرا ما تتحدث عن والدى. كذلك الأهل وربما كل من فى العزبة. كان شهما.كان رجلا. كان ذكيا إلى حد يفوق الوصف. كان عطوفا . كان أنيقا.كان.. كان.. لم يتحدث احمد عن شىء مما أبحث عنه.. لماذا قتلوه؟؟.

وربما جاء التفسير الخاطىء من بعض الحمقى ممن يظنون بانفسهم الحكمة فقالوا ( لقد كان نقيا وغرر به فاندفع فى ذلك الطريق. فكان ما كان)...

أعرف الآن أنهم حمقى وأنه لو بعث ألف مرة فسيختار نفس الطريق...

البعض ممن احتفظ بشىء من رجولته اكتفى بأن قال( لقد كان مؤمنا) ولم يزد بكلمة..

فى ذلك الوقت كان الإرهاب على أشده وكان الشعب يعيش فى سجن كبير محاط بشعارات التقدمية الزائفة وغيرها...

كانت كل القوى والمدن مطعونة فى شرفها ممثلا فى أحد أبنائها المعتقلين ..

ومازالت الأيام تمر والفتى يظهر تفوقا واضحا فى دراسته. تفوقا غير عادى. كما أظهر التفوق فى بعض الألعاب الذهنية . وكان الفتى هو فارس كل اللقاءات السياسية أو الاجتماعية التى تتم فى مدرسته. والجميع يتحدثون ( أنه مثل والده تماما)... والبعض الآخر اجتمعت تلك الحكمة المكتسبة من المأساة فى وجدانه)..

وتأتى حوادث 65 ومرة أخرى يهتك عرض قريتى ممثلا فى العديد من أبنائها الأبرار الذين اقتلعوا من بيوتهم ذات ليلة. ليقدموا قربانا لذلك القاضى المجنون صاحب الإشتراكية فى معبد موسكو.

فى ذلك الوقت بدأ الفتى يفهم. كان الوالد مثل هؤلاء الرجال . حسنا فقد كانت تهمه أذن – الإسلام. واعتقل عمى فى ذلك الوقت... كالعديد من أبناء القرية.

كنت لم ابلغ بعد التاسعة وكنت حريصا على الصلاة فى المسجد القرية باستمرار. ووقتها تناقص عدد المصلين. لقد فضلوا ألا يذهبوا إلى المسجد وأن يغلقوا أبوابهم وربما كفوا عن الصلاة نهائيا. لأن الصلاة أصبحت فى ذلك الوقت جريمة فى نظر الحاكم.

كان شعورى بالقوة والعزة يتزايد. وشعورى بوجود ربى معى فى كل لحظة أيضا يتزايد. لم أشعر يوما بالحزن المتوهم. ولربما ظن بعض الأغبياء أن ذلك حدث ذات يوم من أيام يونيه سنة 1957 كان يسبب لى بعض الضيق أو المهانة. هكذوا توهموا. وهمذا أيضا بدأوا فى بعض المشاجرات الصبيانية يعلنون فى شماتة ( لقد دفن الوالد ببدلته دون كفن. ولم يغسل. ولم يصل عليه . ولم يعمل له عزاء.. ولم ولم). وينسى الأغبياء كدأبهم أن الإجابة فى وجدانى مزيدا من الفخر والاعتزاز فالشهيد لا يغسل وأن الملائكة تصلى عليه. وأن عزاءه مؤجلا إلى يوم الفتح الأكبر تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله...

وأننى وهم وكل البشر مساقون إلى يوم تشخص فيه الأبصار...

اذكر الآن حادثة أخرى حدثت أيضا فى عام 1965. وكانت الاعتقالات فى وقتها على قدم وساق... وإذا إشاعة تشق البلدة طولا وعرضا أننى بذكاء شديد استطعت أن افلت من الاعتقال بأن أعلنت أمام الضابط أننى أحب الحاكم لأنه أمم القناة وأنشأ السد العالى وحرر البلاد.. الخ...

ولم يحدث بالطبع هذا فبرغم أن أبناء الإخوان ممن لم يتجاوزوا الخامسة عشرة قد اعتقلوا فإننى كنت أصغر من أن أعتقل. لقد اكتفوا باعتقال عمى.

وهذه الحادثة تشير إلى أن الناس تدرك بوعيها الفطرى ان النظام لا يتورع عن اعتقال طفل فى التاسعة وأن القيم الإنسانية غير واردة لديه بالطبع وأنه نظام بوليسى إرهابى. وكأنما أراد الناس أن يسخروا من النظام فسخروا من أنفسهم.

وتمر الأيام ويتزايد فى وجدانى إحساس بالرغبة فى إحياء تلك الجماعة التى انتمى إليها والدى – عفوا على هذا الغرور الطفولى - وظهر ذلك فى أكثر من صورة فى الصف الثانى الإعدادى كنا مجموعة من التلاميذ نصلى فى مسجد المدرسة وكان يؤمنا الناظر أو أحد المدرسين. ولمعت فى رأسى فكرة.. لماذا لا نشكل جماعة إسلامية ... وذهبت ببراءة الفتيان إلى الناظر ووافق على الفور لأنه يثق بى فأنا الأول على المدرسة ومن أذكي التلاميذ الذين عرفهم فى حياته على حد قوله...

وفجاة وبعدها بيومين رفض. ولم أدرك أن رفضه إنما كان سبب علمه أننى ابن الشهيد...

كانت قراءاتي الإسلامية ما زالت فى مهدها. فقد كانت أكثر الكتب الإسلامية التى اقرأها هى كتب التدين العادية. وكنت أستمع إلى بعض المشايخ.

وكان بعضهم يتفضل ويعلن أن الإخوان ( دماغهم نشفة) وأنه من الإيمان ألا نلقى بأيدينا إلى التهلكة ونسى الشيخ أو تناسى أن الجهاد فريضة. وأننا لا نلقى بأيدينا إلى التهلكة إلا بتركه والامتناع عن قول كلمة الحق لكل سلطان جائر.

أذكر حادثة أخرى وكانت بعد النكسة بأيام قليلة وأعلن الحاكم أنه على وشك إصدار بيان هام عن المعركة. ورحت لأستمع إلى ذلك البيان.. وفجأة أعلن أنه تنحى, وصرخت يومها صراخا طويلا وبكيت... وكنت أبكى وقتها على شرف الأمة التى مرغه الحاكم فى التراب ثم راح يتنحى.

وبالطبع رفضت التنحى وسرت فى المظاهرات أعلن أن (لا)... بدأت اشعر بوجودى الإسلامي. فمن الرفض لكل أشكال التسلط البسيطة فى قريتى إلى كل الأمور الجاهلية المحيطة بى فى مجتمعى وبدأ وعيى الإسلامى يتشكل.

وبدأت أقرأ لبعض المفكرين الإسلاميين. ولم أجد نفسى على بداية الفهم السليم للإسلام إلا عندما قرأت للشهيد سيد قطب.

واليوم وأنا أنظر إلى السماء بثقة وحب... أرجوا الله أن يجعلنى جنديا فى كتيبة الإيمان الإسلامية بقيادة زعيم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم. وأرجوا الله أن يرزقنى الشهادة. وأتذكر قول والدى فى قاعة المحكمة لقد حاول النمرود إخماد هذه الدعوة. وكذلك حاول فرعون وهامان. وحاول أبو جهل. واليوم يحاول الطاغية الجديد...ولكن الله يتم نوره إنكم لو قتلتم كل الإخوان قسيخرج من دمائهم من يقول ( الله اكبر ولله الحمد).

وأعلن اليوم ( الله أكبر ولله الحمد).


إهـــــداء

وإذا كنا قد تعودنا أن يكون الإهداء فى أول الكتاب.فإننى أرى من ألنسب بعد أن أرسلت هذه الزفرة التى لم تكلفنى كثير عناء من الجهد – بقدر ما كبدتني كبير عناء من الحزن -... أن أهدى هذه الوقائع – وقائع أبشع مجزرة فى تاريخ مصر – إلى :-

• فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر.

• الأستاذ المدعى العام الاشتراكي.

• الأستاذ النائب العام.

• المهندس رئيس مجلس الشعب.

• السادة أعضاء مجلس الشعب.

• الأستاذ نقيب المحامين وأعضاء النقابة وكل المحامين.

• الأستاذ نقيب الصحفيين وأعضاء النقابة وكل الصحفيين.

• كل إنسان يؤمن بقول الحق تبارك وتعالى (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا).


وبـــــلاغ

ولتكن هذه الوقائع بمثابة بلاغ أتقدم به للجميع لفتح القضية التى دفنت النيابة العامة مستندات التحقيق فيها , تماما كأجساد الشهداء الطاهرة البريئة التى دفنت, وكل جريمة أصحابها أن قالوا (ربنا الله).


ونـــــداء

كما أرجو من كل أخ شاهد هذه المذبحة أن ينبهني إلى الناحية التى أكون قد قصرت فيها باعتبار أن هذا الأمر أمانة فى عنق كل منا.

والله المستعان

مصطفى المصيلحى

القاهرةيونيه 1977


الطريق إلى المذبحة

• الآن وقد تطرقنا إلى وقائع المذبحة, التى ربطت بين أفراد مجموعة الإخوان الذين تعرضوا لها, برباط سيظل يحكم الصلة بينهم. مهما تباعدت بينهم المساقات

• وحتى تكتمل ملامح الملحمة, فإن من الواجب تسجيل حوادث الفترة التى قضاها هؤلاء الإخوان بين زنزانات ليمان طره, ومغارات جبل المقطم, يحملون المصاحف والكتب والمكاتل.

• مجموعة من 180 أخا مؤمنا تختلف أعمارهم ومهنهم وثقافاتهم ومواطنهم وحالاتهم الاجتماعية. ولكن يجمعهم الإنتماء لفكر إسلامي واحد. وظروف معيشية واحدة.

• أليست قصة فريق ال180 مجاهدا من عام 1954 حتى يوم المذبحة جديرة بالتسجيل؟

• هذا ما سيحاوله المؤلف فى كتابه القادم (الطريق إلى المذبحة)

• قريبا إن شاء الله.


للمزيد عن مذبحة طرة

كتب متعلقة

ملفات ومقالات متعلقة

متعلقات أخرى

شهداء مذبحة طره

تابع شهداء مذبحة طره

وصلات فيديو