يوميات بين الصفوف المؤمنة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
يوميات بين الصفوة المؤمنة

علي أبو شعيشع

بين-الصفوف-المؤمنة.jpg

تقديم

الحمد لله حمدا يبلغ رضاه وصلي الله على نبيه ومصطفاه وعلى من صاحبه وولاه وسلم تسليما كثيرا ..

وبعد

فقد كتب عن دعوة ( الإخوان المسلمون) الكثيرون ... منهم من أنصف ومنهم من تحامل ومنهم من طفف ومنهم من تحري العدل والحياد ..

وما زالت هذه الدعوة تحتاج إلى مزيد ومزيد من التحليل والدراسة, فهي الدعوة الأم لكل الحركات الإسلامية المعاصرة على اختلاف مناهجها أماكنها وقد ضربت بجذورها في السنين فجاوزت السبعين عاما وانتشرت بفروعها في قارات الدنيا جميعا فيندر أن تجد بلدا من البلدان يخلوا من دعاتها .

وهي الدعوة التي قدمت الشهداء والمفكرين والعلماء والفقهاء والباحثين وجددت فكر الدعاة على اختلاف توجهاتهم فقد ظهرت في وقت كان الدعاة فيه يعكفون على بعض الدين ويتركون البعض الآخر فيحصرون الدين في العبادة أو محاربة البدع أو طلب العلم الشرعي فإذا بهذه الدعوة بعد سنين تنقلهم إلى الفهم الشامل للإسلام فقلما تجد الآن تجمعا من تجمعات هؤلاء الدعاة إلا ويطالب بتطبيق الشريعة والتحاكم إلى الكتاب والسنة .

وقد انفرد ( الإخوان المسلمون) بالدعوة إلى عودة الخلافة الإسلامية من جديد في وقت ظن فيه الناس أن هذا من باب الوهم وسبحات الخيال , ولكن الإخوان اعتبروا إقامة الخلافة من صلب الدين بدليل حرص الصحاب رضوان الله عليهم على إقامة الخليفة قبل الانتهاء من دفن المصطفي صلي الله عليه وسلم لذا فقد اعتبروا إقامة دولة الخلافة هدفا طموحا من أهدافهم وقال مرشدهم الأول – رحمه الله – تعليقا على استغراب الناس لهدفهم هذا : ( لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين وحقائق اليوم أحلام الأمس , وأحلام اليوم حقائق الغد , ولا زال في الوقت متسع ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبنا المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد والضعيف لا يظل ضعيفا طول حياته والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين ).

ودعوة ( الإخوان ) هي الدعوة الوحيدة التي تؤمن بالتنظيم والترابط الشديد في وقت ما زالت فيه بعض التجمعات الإسلامية تعتبر أن الجماعة بدعة , والتنظيم ضلالة رغم أن الإسلام يواجه بأعداء منظمين مترابطين على اختلاف أجناسهم ومللهم فهل يليق بالحق قليل العدد والعتاد أن يواجه هذا الباطل المتضخم المنظم المترابط بفرقة وشتات ؟!

وإذا كانت القاعد الفقهية تقول ( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) وإن كنا نعتبر أن إقامة الحاكمية لله في الأرض واجب .. فلا سبيل لتحقيق ذلك إلا بالجماعة والتنظيم والترابط ولذا فقد اعتبر الإخوان كل ذلك واجبا شرعيا ..

ودعوة ( الإخوان ) يرتبط أفرادها بمنهج ودعوة ولا يرتبطون بشيخ بعينه في وقت يرتبط فيه غيرهم بالأفراد والأشخاص .. فتري الدعوات من حولهم تقام حول الشيوخ والعلماء فإذا ما ماتوا أو رحلوا انهارت هذه الدعوات أو خمدت ..

أما هم فقد تعاقب عليهم من المرشدين خمسة فما اهتزوا ولا وهنوا لرحيل أحدهم – رغم حبهم الشديد لمرشديهم – لأنهم قد تربوا على ذلك وتعمق هذا المبدأ في وجدانهم .. ويكفيك أن تقرأ ما كتبه حسن البنا لتقول ما أروع الإسلام .. فحسن البنا يبرز الإسلام ويتواري من خلفه في الوقت الذي يبرز غيره بالإسلام ويسعي إلى أن تقول : ما أروع الشيخ وما أ‘لمه وما أفقهه !!..

ودعوة ( الإخوان لم تتنازل عن شئ من منهجها – وهو منهج الإسلام – إيثار للسلامة وتجنبا للمحن ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) [ القلم : 9].

فقد تعرضوا للفتن والحصار والتضييق في أقطار شتي ولكنهم أبوا التفريط في أى معلم من معالم الدين فتسلمت الأجيال تلو الأجيال هذه الدعوة ناصعة براقة كما جاء محمد صلي الله عليه وسلم وقدموا في سبيلها الشهداء الذين لم يغيروا أو يبدلوا حتى وهم على أعواد المشانق .. وقد خرجت الدعوة اليوم عن إطار الاحتواء والاستئصال بفضل هذا الثبات والتمسك بالمنهج فيئس أعداؤها من طمسها وإزالتها ولم يبق أمامهم من خيار إلا التضييق والتعطيل .. والله متم نوره ولو كره الكافرون..

وقد رحل غالب الجيل الأول من الدعاة الذين عاصروا أحداث الدعوة وشاركوا في صناعتها وعزف جلهم عن الكتابة عن هذه الأحداث طمعا في الإخلاص وصدق النية .

وعزوفهم هذا حرم شباب الدعوة من تجارب مهمة لا غني لهم عنها في سلوكهم إلى ربهم عبر أشواك الباطل وفتن الحياة وتربص الأعداء ..

وهؤلاء الشباب يتلهفون إلى سماع تجارب شيوخهم وقادتهم ويقبلون بنهم على قراءة ما كتبوا من مذكرات – وهو قليل – لحاجتهم الماسة إلى دراسة الماضي الذي هو زاد الحاضر ولحاجتهم إلى إجابات شافية لشبهات يلقبها أعداء الدعوة بين الحين والآخر .

وقد شجعنا ذلك كله على طرح هذه اليوميات بين يديك – أيها القارئ الكريم – طمعا في مثوبة الله عزوجل لنا ولكاتبها – رحمه الله – الذي رفض أن تنشر في حياته مخافة الرياء ..

وقد وجدناها متناثرة في طيات ما ترك من أوراق عند أبنائه وتلامذته, وظننا فيها النفع وندعو الله ألا يخيب ظننا .

وستلحظ – أيها القرئ الحبيب – بعد فراغك من قراءتها أنها مذكرات لجندي بسيط من جنود الدعوة المباركة لم يكن يوما من صناع القرار إنما كان دوما من منفذيه ... وهذا هو ما شجعنا على نشرها فإن من كتبوا مذكراتهم من قبل كانوا من قادة الدعوة الذين صنعوا قراراتها وشاركوا في توجيه دفتها ولذا فقد غلب على ما كتبوه الحرص على تسجيل الأحداث العظام التي مرت بالدعوة وكيف تصرفت القيادة حيالها وما دار من مفاوضات وحوارات بشأنها ..

أما ما كان يدور داخل الصف ومشاعر أفراده وتحركاتهم ومواقفهم تجاه قادتهم ودفء الإخوة بينهم وانطباعاتهم عن الأحداث من حولهم ويومياتهم البسيطة ... فهذا ما ندر تسجيله وهذا هو أهم ما تضفيه هذه المذكرات ..

فكاتبها – رحمه الله – عاش بين صفوف هذه الدعوة أكثر من نصف قرن من الزمان لم يتقلد فيها أى موقع من مواقع القيادة – بمعناها المتعارف عليه – اللهم إلا في سنواته الأخيرة ولم نجد في مذكراته أى أوراق عن هذه الفترة ولا ندري : هل أغفلها عن عمد أم لم يمهله الموت ؟

هي إذن مذكرات لجندي بسيط تسجل يومياته مع دعوته ومع إخوانه ومع قادته , تسجيل كيف تربوا وكيف تعلموا وكيف جاهدوا , وكيف تحابوا وكيف صبروا في المحن .

وقد حرصنا على ترك ما كتبه – رحمه الله – كما هو رغم افتقاره إلى الحرفة في الكتابة حتى لا نطمس أهم ما يميز هذه المذكرات – وهي البساطة والتلقائية .

ولكننا اضطررنا للتدخل بكتابة ( فاصل ) بسيط عن فترة لم نجدها في أوراقه وهي فترة السبعينات من القرن المنصرم, حيث بلغ المد الإسلامي في أوساط الشباب درجة عظمة وكذلك ( خاتمة ) نوهنا فيها إلى الفترة التي أعقبت خروجه – رحمه الله – من السجن في الثمانينات إلى يوم وفاته .

أيها القارئ الحبيب:

هذه اليوميات , إن وجدت فيها نفعا أو أن لم تجد , فلا ترحمنا من دعائك لكاتبها وناشرها فما قصدنا بها – والله مطلع على السرائر – إلا رضي الله ومثوبته والبر بكتابتها – رحمة الله – والبحث عن عمل نظن أنه لا ينقطع بعد الممات ..

والله نسأل ألا يخيب ظننا

د. حسن على أبو شعيشع

الفصل الأول: الاتصال بالإخوان

سنة 1937 وفي بداية العام الدراسى دعاني زميلي محمد فاضل إلى محاضرة سوف تلقي في جمعية الإخوان المسلمين بميدان العتبة الخضراء يوم الثلاثاء بعد صلاة العشاء والذي سيلقيها هو الشيخ حسن البنا ذهبنا سويا إلى هناك . والمكان ( فرندة) مكشوفة بالطابق الأول أمام مقر الجمعية التي تطل على سوق الخضار واكتمل عدد الحاضرين وكان ما يقرب من المائة , جلهم من الشباب وقدم الشيخ واعتلي المنصة ومظهره ينم عن البساطة فهو شاب يناهز الثلاثين ذو لحية خفيفة , قصير القامة , يرتدي البدلة والطربوش , وبدأ محاضرته بتحية مباركة وجهها إلى مستمعيه المداومين على هذا الدرس . وكان حديثه تكملة لحديث سابق والكل منصت إليه فحديثه سهل مفهوم تتلقاه القلوب قبل العقول , واستمر يحاضرنا ما يقرب من ساعتين دون أن يبدو عليه أى إجهاد . وختم حديثه على أمل استكماله الثلاثاء المقبل وسلمنا عليه وسلم بعضنا على بعض وتعانقنا دون سابق معرفة وانصرفت مع زميلي إلى حيث مسكننا بالعباسية, سيرا على الأقدام دون أن يحدث أحدنا الآخر طوال الطريق فقد كان كل منا يستعيد المعاني المستفادة من درس الأستاذ . وأخذت أعد الأيام الباقية حتى يأتي يوم الثلاثاء . وبكرت في الذهاب إلى مقر الجمعية وسبقت أخي محمد إليها . حيث اجتمع الإخوان وحاضرنا الأستاذ في موضوع جديد تكملة لحديثه السابق وتتابع حضوري لهذا الدرس . وتعرفت على إخوة كرام وكنا نسعد جميعا بهذا اللقاء . وبعد احدي المحاضرات جاءني أخ وهمس في أذني بألا أنصرف . وانصرف الكثيرون وبقي ما يقرب من أربعين شابا دعينا إلى التواجد بمصلي الجمعية . وطلب منا أن نستعد لتناول وجبة العشاء المكونة من أرغفة مقطعة وطبق من ( ماء العدس ) يلتف حوله خمسة من الإخوان . وبعدها جلسنا متراصين حيث جاء الأستاذ إلينا وجلس بيننا وأخذ يحدثنا حديثا خاصا فهمنا منه أننا مرشحون لنكون أعضاء الكتيبة وعلينا أن نستمر في حضور جلسات الكتيبة والمبيت بالمركز العام كل ثلاثاء , توضأنا وصلينا ركعات وتهيأنا للنوم على حصير المصلي دون غطاء , وحذاء كل منا هو وسادته, ورتبت ( النوبتجية) قريبا من باب المصلي , وقبل الفجر بساعتين استيقظنا على صوت ( النوباتجي). وتوضأ كل منا وصلينا صلاة التهجد وأخذنا نقرأ القرآن . وقبل الأذان بنصف ساعة جاءنا الأستاذ البنا – الذي كان في غرفة مجاورة – وأخذ يحدثنا بحديث نقلنا به إلى جو إيماني ملك علينا مشاعرنا , ثم أذن لصلاة الصبح وصلي بنا وقرأ القرآن في الظلام وذرفت الأعين تأثرا وأطال التلاوة . وسلم وسلمنا وقرأنا الأذكار وتم التعارف وبعد شروق الشمس تناولنا الإفطار وانصرف كل واحد منا إلى مقره .

استمرت لقاءات الكتيبة وفي كل لقاء يزداد فهمنا للغاية وقبل مواعيد الامتحانات بشهر ونصف تقريبا أخبرنا الأستاذ بتوقف لقاءات الكتيبة لنتفرغ للاستذكار على أن تكون العودة إلى المركز العام بعد ظهور النتائج .

البحث عن وظيفة:

لازمت قريتي وأخذت أبعث بطلبات توظيف إلى المصالح الحكومية والشركات المعمارية وجاءني رد من شركة فرنسية تدعوني للحضور وسافرت إلى القاهرة لأول مرة بعد التخرج وهناك قال المسئول لا توجد وظائف خالية وعدت أرقب المصير ووصلني خطاب من المركز العام يدعوني للاشتراك في معسكر الدخيلة وحالت ظروفي دون الاشتراك في هذا المعسكر وبعد ثمانية أشهر جاءني خطاب من مصلحة الأشغال العسكرية بقرار تعييني .

وعدت إلى القاهرة ثانية واستلمت العمل كمنفذ – مع زميلي لى – لمطار ألماظة الحربي ومكثت في هذا العمل قرابة ستة شهور .

وانتهي عملي بها أنا وزميلي لاعتراضنا على الأعمال التي تقوم بها المقاول مخالفا للمواصفات وشكانا إلى أركان حرب المصلحة فاستدعانا ليقول لنا إن المصلحة في غني عن خدماتكما .

عدت إلى قريتي منهكا , إذا أن العمل يبدأ قبل الشروق وينتهي بعد الغروب ولم تكن لدي فرصة للاتصال بالإخوان وبعد خمسة أيام جاءتني برقية من زميل لى يدرس في السنة النهائية يدعوني للحضور للتوظيف وأعطاني ( كارت) من أستاذ مادة المساحة لأذهب به إلى مدير عام المساحة وتقرر تعييني بمدينة دمنهور .

الفصل الثاني إخوان البحيرة

كنا ثلاثة نحمل مؤهلا واحدا تم تعييننا في مدينة دمنهور وأقمنا في لوكاندة لأسابيع معدودة ثم استأجرنا شقة بأجر شهري قدره 120 قرشا وكان الإيجار مرتفعا بالنسبة لأجرنا فقد كنا نعمل بيومية قدرها 20 قرشا .

وبعد ثلاثة أيام تركنا الشقة واستأجرنا غرفة مستقلة بحارة السبعة وكان مسجد أبو عبد الله هو اقرب المساجد لنا . وفي يوم جمعة وبعد الصلاة قام طالب يدعو الناس لحضور المحاضرة التي ستلقي بمقر جمعية الإخوان المسلمين , وكانت مفاجأة لى فمبلغ علمي أن الجمعية لا وجود لها إلا في القاهرة , وما أن صليت العشاء حتي توجهت إلى ميدان الساعة حيث مقر الجمعية . وجدت مجموعة من الناس لا يزيد عددهم عن الثلاثين وقام يحاضرهم شاب أظنه طالبا وبعد الختام بالقرآن الكريم انصرف الناس وبقيت مكاني لأعرف مدي صلة هذه الجمعية بالقاهرة .

وتوسم الطالب محمد الخوالقة في خيرا فجاء وجلس بجواري وأخذ يشرح لى مبادئ الجمعية وأنا أصغي إليه كأني لا صلة لى بها وأعجبني أسلوبه وقوة حجته وفي النهاية طلب أن يتعرف على فعرفته باسمي وعملي وأنني من أعضاء الجمعية ا لأم بالقاهرة فقام وعانقني ودعا شباب الجمعية وأغلبهم طلبة وعرفهم بي وتعانقنا واتفقنا على أن أنضم إلى مجموعة العمل بالجمعية .

=== بدء العمل :

وكان القائمون بالعمل غالبيتهم من طلبة مدرسة الصنايع والمدرسة الثانوية ومدرسة الزراعة وأذكر منهم : محمد وعبد المنعم الخوالقةمصطفي مرسيحسن كرممصطفى البناعبد المنعم أبو حلو – والعاملان سعيد ومصطفي أبو الريشعبد الغني دعبيس وغيرهم وكان من العمال الإخوة عبد المجيد محمد ( ترزي ) محمود البشلاوي ( تاجر ) بسيوني القشلان ( حلاق ) ومن الموظفين أنور بحبح ( مهندس بالتليفونات ) وانضم إلينا زميلاي في العمل وفي المسكن الإخوان أحمد لطفي ومحمد صالح محمود .

شكلنا فريق عمل للدعاية لمحاضرة الجمعة , فكنا نكتب الإعلانات بأيدينا ونلصقها على أبواب المساجد وننتشر في صلاة الجمعة كل في مسجد ندعو الناس للمحاضرة .

وكثر عدد المقلبين علينا , ورأينا أن نوسع دائرة الدعاية فقررنا تنظيم قافلة للصلاة يوم الجمعة في قري المركز – وكنا أكثر من خمسة يرافقنا داعية وهو الأخ أنور سلامة ( وهو أول وزير للعمل في حكومة عبد الناصر بعد ذلك ) وكان وقتها طالبا بمدرسة الصنايع وكان كثير الاطلاع ما مكنه من إجادة الخطابة .

واستطعنا من خلال هذه الرحلات أن نكسب بعض القري لدعوة الإخوان وكثيرا ما كنا نحرر محاضر بتشكيل مجالس لإدارة الشعب ونحن في المسجد ويختار الناس رئيسهم ونطالبهم بمداومة الاتصال بالشعبة في دمنهور .

قمنا بتشكيل قافلة ثانية وداعيها الأخ سعيد أبو الرئيس وكان يعمل ترزيا , وكان يجيد تلاوة القرآن وكنا نفتتح بت الحفلات ولما رشح لمهمة خطبة الجمعة كخطيب للقافلة اجتهد في إعداد الخطب وحفظها وكنا نلقي إقبالا شديدا من الناس لإجادته التلاوة .

وانضم إلى قافلة نشر الدعوة الأخ الطالب الشيخ أحمد الأحمر وكان ما يزال دارسا في إحدي الكليات الأزهر ية وكان خطيبا مؤثرا وكثيرا ما كنا نختصه بمساجد مدينة دمنهور وفي حفلات الإخوان المقامة بها وشاركه الأخ الشيخ عبد اللطيف محبوب زميله في الدراسة وكان أخا صالحا تنظر إليه وتسمع له وكأنك مع واحد من الرعيل الأول .

وفي هذه الآونة كان المسئول التنفيذي عن شعبة دمنهور هو الأخ عبد اللطيف رحال تاجر ( المانيفاتورة) وكان شاعرا يجيد قرض الشعر وهو الذي يقدم الخطباء والحفلات العامة ويتخلل بالبرنامج قصيدة كان يلقيها وكانت تعبر عن أهداف الدعوة وغايتها .

وفي الوقت ذاته كان المسئول الرسمي عن الجمعية هو الأخ حسن الزنرمي الموظف بالري والذي يحمل ليسانس الحقوق وكان خطيبا مفوها سماه الأستاذ البنا – فقيه الدعوة – غير أنه كان لا يجيد العمل الإداري وكثيرا ما كان يتلقي التوجيهات من الإخوان المسئول عنهم .

فقد كان يحضر إلى الشعبة وقد يكون بين الموجودين ضيف جديد فيتلقاه الأخ محمد دسوقي على السلك يقوم ( متصنعا) بتنظيف ياقة بدلته بينما يسر إليه بما يجب فعليه مع هذا الضيف وكان دائما يستجيب للتوجيهات .

الحرب العالمية الثانية

أعلن الألمان الحرب على الانجليز وانضمت إيطاليا واليابان إلى ألمانيا وسموا ( بالمحور ) وانضمت فرنسا وروسيا إلى انجلترا وسموا ( بالحلفاء ) ونزلت قوات المحور في بلاد المغرب .

وزحف قائدها ( روميل ) حتى وصل إلى الصحراء الغربية وفكر الانجليز في إعاقة تقدمه بغمر الصحراء بالمياه وكلفنا – في تفتيش المساحة – بعمل خرائط مبينا عليها ملكيات الأهالي توطئة لصرف تعويضات لهم وبدأت متاعب الحرب .

زيارة الأستاذ المرشد لدمنهور

حضر الأستاذ البنا إلى الشعبة وألقي محاضرة في سرادق عام , ورأيته وسمعته لأول مرة بعد أن تركت الدراسة. وعقد لقاء بعد الحفل – كعادته – مع إخوان الشعبة , وتحدث إلينا في قضايا الساعة وبات معنا في المصلي على نظام الكتائب .

وفي الصباح وبعد أن قرأنا المأثورات بعد التعارف وما أن جاء الدور على حتى سمعته ينطق اسمي كاملا وعجبت لقوه ذاكرته وقد غبت عن لقياه أكثر من ثلاثة أعوام .

استقبال الأستاذ المرشد على محطة دمنهور

كان في طريقه إلى الإسكندرية وكان من عادة المركز أن يخطر عواصم ومدن الأقاليم بموعد مروره بالقطار فينتظره إخوان الشعب وعرفنا بموعد مروره وتجمعنا على الرصيف وكان من المتعذر أن تعرف مكانه في القطار حيث يركب في عربات الدرجة الثالثة فكانت الطريقة المثلي لمعرفة مكانه أن تردد ساعة وصول القطار " الله أكبر ولله الحمد " فرأيناه مطلا من النافذة يشير إلينا بيده فهرولنا إليه وحيانا وكان معنا الطالب مصطفى البنا الذي يدرس بمدرسة الصنائع والأستاذ المرشد مشهود له بقوة الذاكرة وأسماؤنا معروفة لديه , فلاحظ أن الأخ مصطفي يحمل كتابا ضخما معنون بكلمة " الكيمياء" ومستوي الكتاب هو لطلاب الجامعة فنادي عليه باسمه وأخذ منه الكتاب وسأله عن الدافع إلى حمل هذا الكتاب وهو ليس من مقرراته الدراسية فأجاب بأنه يبحث عن مكونات مادة البارود لاستخدامها ضد الإنجليز المحتلين فأكبر الأستاذ المرشد فيه هذه الهمة وحثه على البحث حتى يصل إلى غايته.

عواقب التجربة

توصل الأخ مصطفي إلى العناصر المكونة لمادة البارود وبقيت التجربة فتطوعت بعملها في مسكني في يوم جمعة , وكان موقعه على الترعة وكان زميلاى في المسكن " أحمد لطفي ومحمد علواني " مسافرين والوقت وقت حرب وقنابل الألمان تدك معسكرات الجيش الانجليز المجاروة لمدينة دمنهور واعتاد الناس سماع دو القنابل في مختلف الأوقات . وفي الصباح المبكر والناس نيام أحضرنا صفيحة ماء فارغة ووضعناها على أرضيه الغرفة المطلة على الترعة بالطابق الثاني وكانت مصنوعة من الخشب وجاء الأخ مصطفي بمكونات البارود ووضعناها في قطعة شاش أوصلناه بفتيل بدائي وأشعلناها فاشتعل البارود فرقعة مدوية انصهرت على إثرها الصفيحة واحترقت أرضية الحجرة وصرنا في موقف لا يحسد عليه , غير أن الله سلم حيث ظنها الناس قنبلة ألمانية سقطت على معسكر إنجليزي ثم عالجت الأرضية ومر الحادث بسلام .

فريق النجدة:

اشتدت الغارات الجوية على مدينة الإسكندرية وهرب منها أهلوها مهاجرين إلى المدن والقري وكانت مدينة دمنهور أولي العواصم قربا من الإسكندرية وبدأت العائلات تنزح إليها واكتظت بهم المساكن فلجأوا إلى المساجد ينامون بها و تقام فيها الشعائر وأحسسنا بالمحنة التي يعيشها المهاجرون خاصة عند وصولهم بالقطار إلى المحطة فقررنا تشكيل فريق عمل لنجدة هؤلاء المنكوبين في صورة حمالين فكان إذا أقبل المساء ارتدينا ملابس " الشغل " وبأيدينا الحبال ونذهب إلى رصيف القطارات القادمة من الإسكندرية وما أن يصل القطار حتى نقوم بحمل الأمتعة والأطفال من نوافذ العربات ونصعد بها إلى خارج المحطة ونطلب من ذويهم الانتظار حتى نعود إليهم لنوصلهم إلى أماكن الإيواء بينما يقوم البعض منا بسقي الماء لركاب القطار المسافرين وبعد أن يخلوا الرصيف من الوافدين نقوم بنقل الأمتعة إلى المساجد الخالية والمخصصة للإيواء دون أن يعرف أحدا هويتنا .

جني الثمرة

كان الإخلاص شعارنا عند القيام بهذا العمل وتلقينا من الله تعالي المقابل فقد اجتمع مجلس بلدي دمنهور برئاسة مأمور البندر ليستعرض أسماء الهيئات والجمعيات والأندية الموجودة بالمدينة للاستيلاء عليها لتكون أماكن إيواء للمهاجرن وكان طبيعيا أن يكون مقر جمعية الإخوان المسلمين من بين هذه الأماكن , وإذا بأحد أعضاء المجلس يعترض على الاستيلاء على مقر الجمعية ويذكر للحاضرين هذه المهمة الجليلة التي يؤديها شباب الإخوان وبفضل من الله ومنة تستثني الدار من هذا القرار .

قصتي مع المهاجرين

كان لرئيسي في العمل شقيقة لزوجته أعدت أثاث العرس فعاجلتها الحرب قبل أن تقيم بعش الزوجية واضطرت هي ووالدتها للهجرة إلى " دمنهور " ورجاني " أمين أفندي" رئيس المكتب بأن يودع أثاث العرس بشقتي التي استأجرتها لنفسي بحي شبرا وكانت مكونة من حجرتين وليس بها إلا سرير سفري ,و"تربيزة" صغيرة واستجبت لطلبه وجاءت السيارة بالأثاث وتم توزيعه على الحجرتين بجميع محتوياته التي لم أدري عنها شيئا وبعد أيام جاءنا واحد من المهاجرين اسمه " محمود الزرقاني " وهو شاب يزيد عمره على العشرين بقليل وطلب مقابلة رئيس الجمعية وطلب منه أن يعمل " فراشا " للجمعية في مقابل المبيت بها وأشفقنا لحالته ووافقنا على تشغيله ورأيت أن يعيش معي في مسكني ليؤنس وحدتي وليتعود على روح الجماعة.

وصرت كل صباح وبعد ألإفطار أترك له المسكن وأذهب إلى عملي ليذهب هو الآخر إلى دار الإخوان لتنظيفها وعملت له مفتاحا ليستعمله لشخصه وصارت الحياة رتيبة لعدة أشهر .

وفي أحد الأيام وعند عودتي من العمل ظهرا وجدت باب الشقة مفتوحا وخلفه جميع ملابسي داخل ملاءة سرير مربوطة ومعدة للنقل فكان انشغالي أولا على مالية الجمعية التي كنت أحتفظ بها في مسكني وكانت ثلاثة جنيهات فوجدت المبلغ داخل الملابس المعدة للسرقة فحمدت الله وحينما أردت أن أغلق الباب وجدت مفتاحه الذي معي مستبدلا بالمفتاح الذي مع محمود فلم أعر الأمر انتباها .

وفي ذات يوم زارني الأخ عبد المنعم أبو حلو ودفعه حب الاستطلاع أن يري محتويات علب الفضية الموجودة بالدولاب فإذا جميع العلب فارغة وكذلك اختفت الشوك والملاعق والسكاكين وفتحنا دولاب الملابس فلم نجد بداخله شيئا .

وانتابني الحزن والاكتئاب على تفريطي في هذه الأمانة وذهبت من فوري إلى ( أمين أفندي ) أعرفه بالنبأ وأعطتيه مفتاح الشقة لتقوم العروس بجرد محتويات أثاثها لتفاجأ أنها قد فقدت كلها ولم يبق إلا الأخشاب ولم أجد بدا من تقديم بلاغ للبندر بحادثة السرقة.

مع الضابط النوباتجي

ذهبت إلى بندر دمنهور وتقدمت ببلاغ إلى الملازم صلاح شادي – ولم يكن قد انضم إلى الإخوان بعد – واطلع عليه وسألني إن كنت أتهم أحدا فأجبته بالنفي وعلى الفور قال لي " وأنا حاعملك إيه " وصدمتني عبارته صدمة شديدة .

وفي أثناء هذا الحدث كان محمود الزرقاني قد اختفي فجأة واتجهت الشبهات نحوه وفي صبيحة يوم اختفائه وجدت تذكرة أتوبيس مستعملة ومبين عليه اسم قرية من قري مركز كفر الدوار وتبادر إلى ذهني أنها بلدته وطلبت من الأخ عبد المنعم أبو حلو أن يتنكر في زي عامل لأنه كان يعرفه وذهب يبحث عنه في القرية دون نتيجة وقابل العمدة وسأله عن هذا الاسم فأخبره أنه ليس من أهل بلدته وعاد إلىّ وقد أدركنا أنه فعل ذلك لتضليلنا.

شهيد الرماية

في مدينة إدكو معسكر للجيش الإنجليزي وبينما كان والد الأخ عبد المنعم أبو حلو – وهو شيخ معمم- يمر قريبا من هذا المعسكر تراهن جنديان إنجليزيان على إصابة الهدف و وكان الهدف هو عمامة الوالد فأصابت منه مقتلا في رأسه .

الإنجليز المسلمون

زارنا في الشعبة مجموعة من جنود الجيش الانجليز من أصل هندي ولما دخلوا غرفة المكتب الإداري وجدوا صورة الأستاذ المرشد معلقة على الحائط وعلى رأسه العمامة فاتجهوا نحوها وأخذوا يحيون صاحب الصورة باليد وبالانحناء مرارا وعلمنا منهم أنهم مسلمون قدموا إلى مصر للقتال في صفوف القوات الانجليزية .

نشاط العمال

الرعيل الأول من العمال :

اقبل الكثيرون من عمال المهن المختلفة على الشعبة وكنا نحسن استقبالهم وترشيدهم وإشراكهم في جميع الأنشطة خاصة الجوالة والرحلات أذكر منهم الإخوة عبد المجيد ( ترزي ) محمد داود "ميكانيكي" ومحمود الرشيدي ( سباك) , عبد الجواد بركات وشريكه ( عمال سيارات ) , أبو العينين سليمان ( ميكانيكي ) , زكي أبو فاطمة ( كهربائي ) فتحي رضا ( سمكري ) محمد شعير وإسماعيل الدفراوي وسعد أبو زيتحار ( تجار أقمشة ) كمال الجناجي ) ( تاجر صيني ) سعيد ومصطفي أبو الريش ( ترزيان ) محمد القباني ( عامل بنزايون) وعبد السلام القباني ( ترزي رجال ) وغيرهم .

النقابات العمالية :

صار للإخوان تواجد في كثير من النقابات العمالية واختير البعض منهم أعضاء في مجالس نقاباتهم وفاز الأخ عبد الجواد بركات بمركز نقيب نقابة عمال السيارات .

مسئول العمال :

تحمل مسئولية هذا القسم كثير من الإخوان أذكر منهم الأخ جاد صبح – كان موظفا بالأملاك وعمل بعد ذلك محاميا بالنقض بالقاهرة – وكان جادا في نشاطه موفقا في كل خطواته , فكان زور العمال في مواقع عملهم ويقوم بحل مشاكلهم وينظم أسرهم ومحاضراتهم وترتب على جهده نهضة عمالية ظهر أثرها في محيط العمال على مختلف مهنهم وأعمالهم .

نشاط الطلبة

كان نشاط شعبة دمنهور قائما على جهد طلبة المدارس فالطالب يخرج من المدرسة إلى منزله , وبعد العصر يتوجه إلى الشعبة ويتعاون مع زملائه في غسل أرضيه الشعبة , وبعد صلاة المغرب يحضر حلقة علم , وبعد صلاة العشاء يتدرب على الخطابة وبرز منهم الكثيرون في النشاط الطلابي والكشفي والرحلات وأقبل الكثيرون من أبناء العائلات من الطلاب على الدعوة .

طلبة الأزهر :

تردد الكثيرون من طلاب الكليات الأزهر ية على الشعبة وقد شبقهم الأخ الشيخ أحمد الأحمر والشيخ عبد اللطيف محبوب وتلاهم الطلبة : زكريا التروكة وإبراهيم يونس وعبد الفتاح الشحيمي وغيرهم وكان لهم دور في نشر الدعوة واختير الأخ نجيب جمال الدين ( الموظف بالضرائب وشريكي في السكن) مسئولا عن قسم الطلبة ولما انتسب لكلية الحقوق اختير الأخ محمد كرام المدرس بالثانوي مسئولا عن القسم وكان للطلبة الوافدين من المراكز نشاطهم الناجح في بلادهم أذكر منهم الأخ سيد أبو شلوع طالب الثانوي وشقيقه محمود وهما من قرية أم حكيم مركز شبراخيت.

وقد اعتاد الأخ سيد أن يقضي معي في مسكني أيام امتحانه وهو في سنوات التعليم الثانوي ولمست فيه إخلاصا للدعوة وقد دعاني لزيارة بلدتهم في إجازة الصيف لتكوين شعبة بها وأخبرني أن الناس مهيئون لذلك وحددت يوم الزيارة بعد عصر يوم الخميس ووصلت إلى شبراخيت بقطار الدلتا فوجدت عاملا من عمال والده ينتظرني بفرس على المحطة وركبته لأول مرة في حياتي والعامل ممسك بلجامه وأنا أسأل الله السلامة واستقبلني الإخوان سيد ومحمود بمنزلهم وهو " دوار " كبير وبعد فترة جاء والدهما فقاما وقوفا وظلا واقفين حتى أذن لهما والدهما بالجلوس وبعد صلاة المغرب تحدثت إلى الناس عن عودة الإخوان المسلمين ووجدت منهم ترحيبا ويوم الجمعة صليت وتحدثت إلى الناس عامة ودعوتهم لتكوين شعبة وعمل محضر بالأعضاء واختاروا شيخا من عائلة أبو شلوع مسئولا عنهم .

كلية الزراعة :

اشتدت الغارات على مدينة الإسكندرية وتقرر نقل كلية الزراعة ( جامعة فاروق ) إلى مدينة دمنهور حرصا على حياة الطلبة واختيرت المدرسة الثانوية لتكون مقرا للكلية ووفد من بين الطلبة مجموعة من الإخوان كانوا على صلة بإخوان الإسكندرية وكان لهم دور مهم في تنشيط العمل الإخواني لا في دمنهور وحدها بل في إقليم البحيرة كله .

تنشيط المحاضرات :

نظمت محاضرات خاصة بالطلبة واختير يوم الأحد من كل أسبوع موعدا لها وكان يتناوب الحديث فيها طلبة المدارس والكلية وأقبل الكثيرون من الطلبة على هذه المحاضرات .

أول اعتقال

كان يوم أحد والطلبة مجتمعون للاستماع إلى المحاضر وكان طالبا بثانوية الأزهر , وكانت الحرب على أشدها ورقابة القسم المخصوص ( أمن الدولة حاليا ) مركزة على نشاط الإخوان وبينما المحاضر يتحدث حضر ضابط البوليس بزيه الرسمي وجلس بين الصفوف يستمع إلى الكلمة وتحمس المحاضر وتطرق إلى الانجليز وأخذ يهاجمهم وعلى الفور قام الضابط وقبض عليه وسأل عن مسئول الشعبة فتقدمت إليه واقتادنا الضابط إلى البندر وتبعنا بعض الإخوان .

احتجزونا في مكتب معاون البوليس وكان الوقت شتاء واتصل الدكتور عثمان مهنا رئيس المكتب الإداري لإخوان البحيرة بالمسئولين, الذين وافقوا على الإفراج عنا بضمانه شيخ البلد , تم ذلك الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .

وقد مثلت المدارس كلها في قسم الطلبة كما كان لسلوك طلبة الإخوان وتقدمهم في الدراسة أثر في نفوس هيئة التدريس فانضم للجماعة كثير من مدرسيهم وكان يمثل الإخوان في كلية الزراعة الإخوان المعيدان حسن كرم وزكي شبانة وفي المدارس الثانوية محمد العريان وعبد الفتاح سالم و[[[محمد كرام]] وفي مدرسه الصنايع مراد حلمي وكثيرا ما كان قسم الطلاب بالمركز العام ( المسئول عنه الأخ سعيد رمضان وقتئذ ) يوفد إلينا مندوبيه وكانوا جميعا طلبة أذكر منهم الشيخ يوسف القرضاوي وحسن دوح وهنداوي دوير وغيرهم وجميعهم كانوا ينزلون ضيوفا على في مسكني وكثيرا ما كنا نكلفهم بغسل الأطباق وإعداد الطعام .

النشاط الرياضي:

كان أمرا ضروريا لإشباع رغبات الشباب المترددين على الشعبة وبدئ بلعبة تنس الطاولة داخل الشعبة ثم ألعاب السويدي التي كانت تمارس في المعسكرات وكنا نحضر حفلات العام لنري الإخوان الطلبة وهم في مقدمة المتسابقين الفائزين.

وقدم إلى الشعبة بطل العالم في حمل الأثقال وعرض على المسئولين تكوين فريق لحمل الأثقال ووافق المكتب واختيرت لهم أوقات ما بين المغرب والعشاء وفي أيام محددة وكانت غالبيتهم من غير الإخوان واشترطنا عليهم أداء الصلوات في أوقاتها بالشعبة ولما كان لبس المصارعة يكشف كل أجزاء الجسم عدا ستر العورة فقد اعترض بعض الإخوان على ممارسة هذه الرياضة في مكان محاط بالعمارات الآهلة بالأسر , الأمر الذي جعل هذه اللعبة تتوقف بعد فترة كما اهتم الإخوان بلعبة كرة القدم وتكون فريق برئاسة الأخ صابر الشافعي عضو المكتب الإداري .

وكان للفريق نشاطه الملموس وبعد إعداد شعبة القلعة أنشئ بها ملعب لكرة السلة والكرة الطائرة .

النشاط الثقافي:

كان بالشعبة مكتبة متواضعة بها بعض كتب التراث وورد للشعبة خطاب من المركز العام يعلن استعداده تزويد الأخ بمكتبة ثقافية خاصة مكونة من نوعيات مختلفة من الكتب القيمة وذلك مقابل ثلاثة جنيهات يدفعها الأخ على أقساط . وقام الأخ محمود عبد الحليم بتكوين فريق للخطابة لنشر الدعوة وبدأنا بالتدريب على الكلام دون هدف معين حتى إن الأخ محمود طلب منا أن يتكلم كل واحد منا في مهنته .

وطلب من الإخوان العناية بحفظ ما تيسر من القرآن على أن يتزامل كل اثنين في التسميع وتمكنت من حفظ ثلاث عشر جزءا وقام الأخ على عبد اللاه الطالب بدار العلوم بشرح قواعد التجويد لى ولا زلت أذكر له هذا الفضل .

مجلة الإخوان :

قرر شباب الإخوان بالمدينة إصدار عدد من جريدة باسم " الإخوان المسلمون" وشارك معنا في تحرير مقالاته إخوان البحيرة وإخوان من القاهرة وكان عدد ممتازا وكان يتيما لم يصدر غيره .

كما فكر البعض في عمل كتيبات عن قضايا الساعة فقام الطالب محمد عمر هندي من إخوان كلية الزراعة بطبع كتيب عنوانه " الشيوعية والإسلام ".

ونظمت دروس أسبوعية كان يتحدث فيها العلماء والدعاة في فقه العبادات وصدرت مجلة الشهاب امتدادا لشهاب السيد محمد رشيد رضا وكانت أكثر مقالاتها بقلم الأستاذ المرشد . ثم صادرتها الدولة وظهر بدلا منها مجلة " المسلمون" وكان يرأس تحريرها الأخ سعيد رمضان المحامي وكان الإخوان حريصون على اقتنائها لما تحويه من ثقافة واسعة تتناول شئون الدين والدنيا وكان الأستاذ البنا هو صاحب أكبر ما يرد بها من مقالات .

صوت حسن البنا في الإذاعة

ولأول مرة – بل ولآخر مرة – أسمع صوت الإمام المرشد يتحدث في الإذاعة المصرية في حفل ذكري الزعيم مصطفي كامل , ولا زلت أذكر له افتتاحية حين قال " الرجال ثلاثة " وأرجوا أن تكون هذه الكلمة ضمن تسجيلات دار الإذاعة التاريخية .

الإخوان في دار الأوبرا

عجيب أن ينبغ الإخوان في التمثيل فيقيمون حفلا ضخما بدار الأوبرا بالقاهرة مذاعا بالراديو ويمثلون على مسرحها رواية إسلامية لا أذكر عنوانها وتطهر هذه الدار لأول بتلاوة القرآن الكريم والهتاف المدوي " الله أكبر ولله الحمد " بين فصول الرواية وكان حفلا ناجحا أثبت الإخوان فيه تفوقهم في كل عمل وفي كل ميدان

الطرق الصوفية

كانت مدينة دمنهور مقرا لكثير من رموز الصوفية وغالبية مساجدها شيدت على قبورهم وكانت بالمدينة فرق عديدة من الطرق الصوفية منها :

الطريقة الحصافية :

نسبة إلى الشيخ حسانين الحصافي ومسجده قائم بمقابر المدينة وكان الحاج على بسيوني العبد ( تاجر البقالة ) هو شيخ الطريقة وكان يسير مواكب يخترق بها شوارع المدينة وهي تتغني بالتواشيح المعروفة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وعارضه في هذا الأمر – كما علمت من الإخوان – الشيخ على اللقاني إمام مسجد التوبة وذهب إليه يوما ومعه رقه يشخشخ به وهو يتمايل ويغني :" شيخ على يا شيخ علي " فاستشاط الرجل غضبا فقال له إذا كنت تتأفف من ترديد اسمك على هذه الصورة فكيف تقبلها لسيد البشر .

الطريقة الخليلية:

نسبة إلى الشيخ إبراهيم أبو خليل مؤسس الطريقة ومسجده بمدينة الزقازيق وكانت له فرقة في دمنهور وأذكر أنهم أقاموا حفلا عاما في سرادق ضخمن وحضرت هذا الحفل وقد جاءوا بالشيخ " على عقل " وهو شاعر مشهور وموهوب يرتجل القصائد دون تحضير فكان الواحد من الحاضرين يقف ويطلب منه قصيدة تنتهي بحرف " القاف " مثلا وعلى الفور يلقي الشيخ القصيدة وقد استحوذ الرجل على إعجاب الكثيرين وانضموا لهذه الطريقة .

طريقة الشيخ عليان :

كان شيخ هذه الطريقة يعمل في السكة الحديدية في قرية قرافص وذهبنا يوما لنشر الدعوة بها ورأيت الشيخ وهو قادم إلى المسجد ومن خلفه تابع له يحمل حذاءه بعد أن خلفه عند دخوله المسجد وظل التابع محتفظا بت إلى أن خرج الشيخ من المسجد وألبسه إياه .

ودعونا الناس إلى دعوة الإخوان بعد صلاة الجمعة وأقبل الناس علينا وحررنا محضرا بتكوين الشعبة واختار المصلون الشيخ عليان رئيسا لها ورحب الرجل بذلك الاختيار ودعوناهم لزيارتنا في شعبة دمنهور وحضروا وحضر معهم الشيخ وقابلناهم بالترحيب ولما كان نشاط الإخوان في القرية سيؤثر على طريقة الرجل فقد رأى أن يسعي إلى التخلص من نشاط الإخوان تدريجيا وفي يوم جمعة وبعد الصلاة قام في المصلين متحدثا وأخبرهم أن تكوين الشعبة يحتاج إلى دار مؤثثه وذلك يكلفهم مائة جنيه وكان ذلك مبلغا كبيرا ومرهقا فانصرفوا عن فكرة تكوين شعبة الإخوان وظل له مكان الصدارة في القرية .

فريق الجوالة

كان لابد من إدخال النشاط الكشفي في ميدان الدعوة كسبا لقطاع الشباب وتبني الفكرة في بدايتها الطالب محمد برنس وكان الإقبال محدودا وبدأ بتشكيل الفريق من أربعة عشر أخا وبدأت الرحلات بالزي الكشفي وكنا نتحرك من الشعبة إلى محطة قطار الدلتا مخترقين شوارع المدينة ونحن نحس بغربة فلم يألف الناس أن يرونا على هذه الصورة .

ودب النشاط في الفريق وأقبل عليه الطلبة والعمال وتم إنشاء فرق كثيرة في شعب الأقاليم وأقبلنا على دراسة القوانين الكشفة وتطويرها من أسلوب رائدها " بادن بأول" إلى تعاليم الإسلام الحنيف .

الدراسات الكشفية :

عكف مسئولو الإخوان بالبحيرة على دراسة قوانين الجوالة وعملوا على " أسلمتها " لتتمشي مع تعاليم الإسلام وعقدت امتحانات للترقية من رتبة كشاف إلى رتبة جوال وكانت على ثلاثة مراحل.

1- امتحان تحريري للمبادئ العشرة فمثلا كان السؤال الخاص بفائدة عصا الجوال هو . قال تعالي : ( وما تلك بيمينك يا موسي * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخري )[ طه : 17 , 18] أذكر هذه المآرب الأخري على ضوء ما تعلمه من فائدة عصا الجوال وهكذا ..

2- امتحان شفهي ويتناول المعلومات العامة .

3- امتحان عملي في كيفية إقامة المعسكرات وإشارات المرور واستعمال الحبال والإسعاف وغيرها .

أدوات الجوالة:

صار الفريق مخزنا للمعدات منها ما هو للاستعراضات ومنها ما هو للمعسكرات فكانت معدات الاستعراض هي الآلام وهي ثلاثة:

1- علم " الإخوان المسلمون" وكان مستطيلا مطرزا عليه الشارة واسم الجماعة .

2- علم الكشافة

3- علم الفريق

4- ثم الأدوات الكشفية وكانت مكونة من :

الطبلة والترمبيتان وشنطة الإسعاف ,وكانت تستعمل المشاعل في العروض الليلية وكانت معدات المعسكرات هي :

الخيام: وتتكون من خيام المبيت وخيمة المحاضرات والخيام الخفيفة ( هايك) للاستعمال الفردي ثم الصاري وأدوات الطبخ والأدوات الرياضية

البرامج

كان للاستعراض برنامج وللمعسكرات برنامج

أما عن الاستعراض فيحدد أولا خط سير الفريق ونختار أماكن التوقف ذات الكثافة البشرية لترديد هتاف " " الله أكبر ولله الحمد " وشعارات الإخوان ومنها : ادع إلينا فقد أبرمنا أمرا , واجمع علينا الناس نتلو عليهم ذكرا سنطبب المريض بدوائنا , وسنؤمن الخائف في رحابنا وسنتلو على الدنيا صحيفة جهادنا صمت أذن الدنيا إن لم تسمع لنا الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمي أمانينا "

وكثيرا ما كنا نردد الأناشيد الإسلامية التي تقشعر لكلماتها الجلود وكان للإخوان رسالة خاصة بالأناشيد أذكر أنه كان من بينها نشيد لعباس العقاد يسمي نشيد العلم قام الأخ محمود عبد الحليم بتبديل بعض كلماته مثل كلمة " الهرم" أبدلها " بالحرم" وكان نشيدا قويا نردده أثناء السير وكان يتخلل الطابور الذهاب لأداء الفريضة من موعدها .

وأما عن برنامج المعسكر فكان يبدأ من ركوب القطار بإلقاء الأناشيد والإخوان جلوس فوق معدات الجوالة على عربات مكشوفة يراهم ويسمعهم الناس في القري التي تمر بها القطار وما أن يتوقف عند القرية المختارة حتى ينتظم الطابور والفريق يحمل المهمات ويتحرك في خطوة عسكرية وقد يقتضي الأمر السير على هذه الحالة كيلو مترات حتى يصلوا إلى مكان فسيح ويبدأ الجميع في تنظيمه وتشد حبال الخيام إلى الأوتاد ويوضع الصاري في الوسط ثم نختار مكان الطبخ ونجمع الأحطاب اللازمة للطهي , ويقوم ( نوبتجي ) المطبخ بإشعال النار على الإناء الذي كان في الغالب يحوي حبوب الفاصوليا وهي الغذاء الراتب للوجبة الرئيسية مخلوطا بقليل من الزيت وكان يحدد المعسكر بحرم واسع محاط بعصي الجوالة المتصلة بالحبال.

ويتوجه الفريق بعدها في طابور إلى مسجد القرة ويبدأ الإخوان في تنظيف الحصير وتسليك الدورات وملء الخزان بالماء- بالطلمبة – ثم يؤذن للصلاة وتؤدي الفريضة ( المغرب ) وتتم العودة في طابور إلى المعسكر لتناول وجبة العشاء ثم العودة للمسجد وصلاة العشاء في جماعة, وبعدها تلقي كلمة عن الدعوة ويدعي المصلون كضيوف إلى المعسكر ويصطف الطابور خارج المسجد وتوقد المشاعل ويبدأ العرض على دقات الطبول مارا بشوارع القرية وسطة التهليل والتكبير , والأطفال في المؤخرة يرددون هتافات الإخوان وكنا نصطحب معنا أخوة بالزي المدني يبدءون بلقاء العمدة وذوي الهيئات ويدعونهم إلى المعسكر .

وفي نهاية المطاف يصل الفريق إلى المعسكر ويكون المختصون قد أقاموا مسرحا هوائيا مبسطا يتراص الناس حوله على الأرض , ويبدأ مقدم البرنامج في تقديم فقرات الحفل وأولها القرآن الكريم ثم الأناشيد ثم المسرحيات ويعلق على كل مسرحية ثم مسابقات ثقافية ومسابقات رياضية يشترك فيها الحضور من أهل القرية ويختم الحفل بكلمة الداعية, وتكوين شعبة جديدة بمقتضي محضر يختار فيه نائب الشعبة ويعلن عن ختام المعسكر بعد تلاوة القرآن ويعود الناس إلى بيوتهم ولا حديث لهم إلا ما رأوا وسمعوا من الإخوان ويأوي أفراد الفريق إلى الخيام للنوم .

ويبدأ ( النوباتجي ) في الحراسة بعد أن توزع على مجموعة أفراد وقبل أذان الصبح بساعة ونصف يتم إيقاظ الفريق ويقسم الإخوان إلى مجموعة فرق تطوف بشوارع القرية إلى الصلاة ويلتقي الجميع في المسجد لصلاة التهجد ويؤذن عند الفجر وتتم الصلاة في جماعة ثم قراءة المأثورات ثم التوجه في طابور إلى المعسكر ويبدأ في البرنامج الرياضي الشاق من جري وقفز وسويدي , وبعد الشروق يعود الجميع إلى المعسكر لتناول الإفطار ثم الاستعداد للرحيل بعد حل الخيام ومغادرة القرية في طابور إلى قرية مجاورة سيرا على الأقدام مع ترديد الهتافات والأناشيد وسط الحقول وفي ( جرن) القرية يقام المعسكر ويتحرك الطابور قبل صلاة الجمعة بساعة مخترقا شوارع القرية وينتهي إلى المسجد لصلاة الجمعة ويقوم واحد من الجوالة بخطبة الجمعة ويقوم آخر بالتعليق بعد الصلاة ويدعو الناس للانضمام للإخوان وغالبا ما كانت تؤسس الشعبة ويتم العودة في طابور إلى المعسكر لتناول الغداء وبعده تفك الخيام ويتحرك الفريق سيرا على الأقدام إلى قرية ثالثة لصلاة العصر بها , ويجتمع الناس في المسجد ويتحدث فيهم الداعية وبعدها يتحرك الفريق يحمل الأمتعة والمعدات متجها إلى أقرب محطة دلتا – وقد تتعدي خمسة كيلوا مترات – لركوب القطار إلى مدينة دمنهور ليصل في وقت متأخر من الليل بين ترديد الهتافات والأناشيد وتودع المعدات بمقر الشعبة ليعود كل جوال إلى بيته منهكا جسمانيا مستمتعا روحيا بأن أدي واجبه نحو دعوته .

ذكريات عن المعسكر

معسكر الجيش المرابط:

قرر قسم الجوالة بالمركز العام إقامة معسكر عام في يوم عيد الفطر بمدينة دمنهور تحضره جميع فرق الإسكندرية والبحيرة وفرقة من القاهرة على رأسها الأخ سعد الوليلي ليكون قائدا للمعسكر .

وبحثنا عن المكان المناسب واستقر رأينا على استغلال معسكر الجيش المرابط والذي كان قائده في مصر كلها عبد الرحمن عزام باشا حيث كان الجنود مسرحين في إجازة العيد وتم الاتصال بالمسئولين عن طريق الإخوان بالقاهرة واستلمنا المعسكر بخيامه ومطبخه وكلفت بمباشرة العمل بالمطبخ .

وفي صباح هذا اليوم بدأت فرق الإسكندرية والبحيرة تتوافد على المعسكر وقدم الأخ سعد الوليلي بفرقة القاهرة وتهيأ الجميع لطابور العرض يتقدمه حملة المصاحف والأعلام , وتحركت الفرق مخترقة شوارع دمنهور من الصباح حتي قبيل صلاة الظهر وتناول الفريق الغداء على دفعات , ثم توجه إلى ملعب البلدية حيث بدأ الحفل بعد صلاة المغرب ووقف الأخ سعد الوليلي على مدرج البلدية وجه تعليماته وأخذ ينادي على كل فرقة باسمها وكنت وقتها متواجدا بين الجماهير المحتشدة حول مكان العرض ووجدت إلى جوار عامل – كناس – وكنت أعرفه منذ أن كان يكنس حارة السبعة التي كنت أسكن بها وبينما كان الأخ سعدي نادي على فرق الإسكندرية ويسمي كل فريق باسم حيه وشعبته انطلقت من العامل عبارة عفوية : متي يكون عندنا هنا فى دمنهور فريق شبرا وفريق أبو الرش وفريق كذا وكذا, وأخذ عدد أحياء دمنهور ودعوت الله أن يحقق رجاءه وقد تحققت الأمنية وأصبح لمدينة دمنهور أربعة فرق .

وأنهي العرض وألقيت الأناشيد والكلمات وهتف الإخوان بشعاراتهم وبعدها عادوا إلى معسكراتهم الرحب وباتوا ليلتهم وفي الصباح توجه كل فريق إلى بلده .

معسكر القادة الأول

تحدد يوم خميس لإقامة معسكر داخل مدينة دمنهور وتم اختيار المكان في ( شونة قطن) تابعة لمحلج بلبع , وفي صباح هذا اليوم طلعت علينا صحيفة الأهرام بصورة ( كاربكاتورية) نقلا عن صحيفة انجليزية تصور قنبلة طافية فوق الماء مكتوب عليها " الإخوان المسلمون" وتحتها تحذير من الجماعة , وفكرنا في تأجيل المعسكر ولكننا استخرنا الله وأقمناه في المكان المختار .

وحضر الإخوان قادة الرهوط بإقليم البحيرة وكان المعسكر مستكملا لكافة مقوماته وجاء الليل, وبعد تلقي المحاضرات وتناول العشاء رفع الفانوس فوق الصاري , ونظمت النوباتجية وذهبت إلى " هيك" صغير يسع فردا واحدا وكان مجاورا لمدخل المعسكر ونمت بملابسي وفي منتصف الليل أيقظني الأخ النوباتجي وأخبرني بتواجد مأمور البندر وضابط المباحث على المدخل وأنه منعهم من الدخول فقمت لفوري ودار حديث بيني وبينهم وهم وقوف على الباب وخلاصة ما قاله المأمور إن القانون – الطواري – لا يسمح بإقامة هذه المعسكرات إلا بتصريح من البندر وبينما نحن نتناقش والمأمور يعتب على – إذ لم أدعهم للدخول لتناول فنجان قهوة – إذا به يشاهد أشباحا تخرج من تحت الخيام بكثرة أذهلته وكان رجلا حكيما فآثر أن ينهي الحديث وأصدر أمرا لقواته التي كانت مرابطة على شاطئ الترعة المقابل بحي أبو الريش بالعودة من حيث أتت وفي الصباح أرسل إلى الأخ صالح أبو رقيق المحامي ومسئول الإخوان عتب عليه المعاملة لجافة التي قابلته بها وجاءنا الأخ صالح سعيدا مشرق الوجه بما سمعه من المأمور من حديث يوحي بأننا التزمنا بآداب الدعوة بشجاعة واستمر المعسكر وفقا للبرنامج الموضوع له وبعد صلاة العصر انصرف الجميع إلى بلادهم .

معسكر قرية المهاجرين

في أطراف مدينة دمنهور كانت الحكومة قد أنشأت قرية متكاملة من الطوب اللبن لاستقبال المهاجرين القادمين من الإسكندرية فرارا من الألمان غير أن أحدا لم يسكن بها وتحولت إلى قرية خربة فرأينا أن نستغل الموقع ونقيم به معسكر للإخوان المسئولين عن فرق الجوالة في الإقليم وأقمنا الخيام وصرنا نحرق الحصير في داخل المعسكر لينتشر الدخان ويبتعد عنا " الناموس" الذي كان يعيش في القرية بكثافة منذ تم بناؤها .

وبدأ الإخوان في التوافد وجاء الليل وهاجمنا " الناموس" بقسوة وحول ليلنا إلى يقظة إجبارية قضيناها في ذكر وعبادة وعدلنا في البرنامج النهار لنفسح وقتا للنوم لتعويض سهر الليل وأقمنا على ذلك ستة أيام عاد الإخوان بعدها بقسط وافر من المعلومات ووسائل التربية والصبر على متاعب المعسكرات.

نحن عباد الله إخوانا :

قررنا المرور بفريق الجوالة على بعض قري مركز إيتاى البارود وأقمنا معسكرنا مساء الخميس بإحدى القري وأتممنا عرضنا وحفلنا وفي الصباح توجهنا إلى قرية ( تلبانة) وكان بها شعبة للإخوان يرأسها المأذون الشرعي .

ولما أردنا أن نقيم معسكرنا تقدم إلينا الأخ المأذون يرجو أن نكون ضيوفه بعد صلاة الجمعة وكان الخطيب واحد منا وتكلم أحد الدعاة بعد الصلاة , وتوجهنا ومعنا خيامنا وأمتعتنا إلى منزل المأذون , ورحب بنا الرجل وأجلسنا في حجرة فسيحة استعدادا لتناول الطعام وأحسسنا أن أمامنا فسحة من الوقت يجب أن نستغلها فطلبت من الإخوان أن يجلسوا في شكل حلقة ويبدأ أولنا ببيت من الشعر ويليه الثاني ببيت تكون بدايته الحرف الذي انتهي بت البيت الذي سبقه به أخوه .

وكان معنا رجل من أنصاف المتعلمين أراد أن يشاركنا هذه المسابقة وحين جاء الدور على من يسبقه قال بيتا من الشعر ينتهي بحرف النون , فقال الرجل : نحن عبد الله إخوانا أينما ذهبنا نأكل مجانا وكان المأذون قد جاء بغالبية الطعام وعلى الفور أمرت الإخوان بالاستعداد للانصراف وأمام المنزل حمل كل متاعه واعتذرنا للمأذون عن تناول الطعام وأسف لما قاله هذا الرجل من أسلوب خرج عن اللياقة والذوق وفي طريقنا إلى البلد الثالث جلسنا تحت شجرة في الطريق وتناولنا طعامنا وأكملنا مسيرتنا وعدنا بعدها إلى دمنهور .

معسكر قرية مطوبس :

لم تكن مدينة بعد وقررنا إقامة معسكر بها يشارك فيه إخوان دمنهور والمحمودية وفوة ودسوق , وعبرنا النيل في مركب ومعنا خيامنا وأمتعتنا وعلى شاطئ النيل الشرقي اخترنا مكان السوق لنضع الخيام فيه , وتم تنظيف المكان وبدأنا في تثبيت الخيام وإذا بخفير من القرية يبلغنا أمر ضابط نقطة مطوبس بألا نقيم المعسكر , وكان معنا الأخ معروف بدر ( ابن شقيقة الأستاذ البنا ) فطلبت منه أن يتوجه إلى كابينة التليفونات ويتصل بالأستاذ المرشد ويخبره بما حدث وكانت الشمس على وشك المغيب وطلبت من الإخوان أن يحملوا أمتعتهم وخيامهم إلى مقر شعبة مطوبس , وصلينا المغرب في المسجد وتناولنا طعام العشاء بالشعبة على دفعات وصلينا العشاء وجاء وقت النوم وكانت مشكلة فعددنا يزيد على المائة وغرف الشعبة لا تتسع أكثر من عشرين ولا فرش ولا أغطية كافية ورأيت أن يظلا داخل الغرف وقوفا أو جلوسا حتى الفجر وأحس سكان المنزل المكون من ثلاثة طوابق بالضيق الذي نحن فيه , على الفور قاموا بإخلاء مساكنهم ولجأوا إلى ذويهم وسلموا الأخ رئيس شعبة مطوبس مفاتيح مساكنهم حيث تم توزيع الإخوان بالطوابق الثلاثة واستعد الجميع للنوم .

وإذا بنفس الخفير السابق ذكره ومعه إشارة بموافقة مأمور مركز فوة التابعة له قرية مطوبس على إقامة المعسكر ورأينا أن ننتظر حتى الصباح ولكن إخوان مطوبس أخبرونا أن المتسبب في إلغاء المعسكر هو الدكتور بلال – رئيس شباب القمصان الزرقاء التابعة للوفد سابقا والموجود وقتها في القرية – وطلبوا أن يتم العرض في هذا الوقت المتأخر من الليل وحققنا رغبتهم حيث وقف الطابور وحمل الإخوان المشاعل وتحرك الفريق مارا بشوارع مطوبس وقادنا إخوانها إلى منزل الدكتور بلال وكانت لنا وقفة رددنا فيها الهتافات وشعار الإخوان وألقينا الأناشيد واصلنا العرض وعدنا إلى مقر الشعبة في وقت متأخر من الليل ونمنا ليلتنا وقبل الفجر قام الجمع ونفذنا البرنامج المقرر وصلينا الجمعة بمسجدها الرئيسي وكان خطيب الجمعة الأخ زكي زيدان , والذي أوفده المكتب الإداري خصيصا لهذا الغرض وبعد هذا الحادث قويت الدعوة بالقرية وأقبل عليها الكثيرون .

رحلات دعوية

رحلة إلى مركز كوم حمادة

ذهبت منفردا إلى مدينة كوم حمادة والتقيت بالأخ مبروك هنيدي وشقيقه أحمد سالم وبعض الإخوان وقضيت معهم وقتا طيبا ثم واصلت سفري إلى قرية النجيلة والتقيت بالأخ عبد الواحد البيومي واجتمعت مع إخوان الشعبة في المسجد وفي الصباح عدت سيرا إلى كفر بولين والتقيت بالأخ الحاج حامد الطحان وكان أول لقاء لى معه ومن هناك سافرت إلى دمنهور.

وتكررت رحلت إلى هذا المركز وفي هذه المرة كانت وجهتي قرية كفر داود حيث نزلت على الأخ الشيخ الصافي عيد مسئول الشعبة والتقيت بالإخوان في المسجد وجلسنا فيه ساعة بين الذكر والتذكر وعدت إلى بيته حيث أكرمني بالمبيت معه في حجرة الفرن وكنا في فصل الشتاء والحجرة مكيفة الحرارة من أثر الفر ن ووجدت على الجدار جهاز معلق متصل بأسلاك رفيعة وطلب مني أن أضعه على أذني فإذا بي أستمع إلى إذاعة مصر بصوت واضح وكان هذا الجهاز من صنع يده ثم أخذ يحدثني عن ذكرياته في حرب فلسطين وكسف أنه في ليلة نفدت ذخيرته واستح من ربه أن يبيت خاملا لا يؤدي ضريبة الجهاد قال فقمت بجمع الحصي من تحت قدمي وملأت جيوبي وزحفت تجاه مستعمرة يهودية في ظلام الليل وأخذت أقذفها بالحصي وأحسن اليهود بي فأخذوا يطلقون رصاصات رشاشاتهم على غير هد وتوقفت عن قذف الحصي فتوقفوا فعدت فعادوا وأمضيت ليلي معهم على هذه الحالة وأنا سعيد بما يخسرونه من ذخيرة وقضينا ليلتنا على هذه الذكريات .

رحلة لمركز إيتاى البارود :

قررت ومع الأخ عبد المجيد محمد أن نذهب إلى مدينة إيتاي البارود سيرا على الأقدام ( مسافة 40 كيلو مترا) وخرجنا في الصباح على أن نعود في المساء دون أن نأخذ معنا طعام وفي الطريق سمعنا أذان الجمعة فدخلنا المسجد في إحدي القرى وصلينا وتحدثت إلى الناس بعد الصلاة وبعد أن انتهيت من كلمتي قدم إلى أد المصلين نصف قرض ظنا منه أنني أطلب معونة وأحسست على الفور بأنني لم أخاطب الناس على قدر عقولهم وانصرفنا وقد اشتد بنا الجوع وواصلنا المسير إلى أن وصلنا إلى شعبة إيتاى البارود وهناك التقينا بالإخوان وتناولنا الطعام ورأنا أننا عاجزون عن العودة سيرا على الأقدام خاصة وأن الشمس على وشك الغروب فعدنا بالقطار .

رحلة إلى مركز شبراخيت:

ونحن في شهر أبريل والطلبة أمروا بالتفرغ للمذاكرة وعدم القيام بأى نشاط دعوي رأينا – وكنا ثلاثة : نجيب عبد العزيز ومحمود ونس وأنا أن نخرج في رحلات خاصة نحمل الخيام الخفيفة على ظهورنا واخترنا إحدي القري لنقيم معسكرنا بها ووصلنا بعد صلاة العصر وبدأنا تثبيت خيامنا الثلاثة على الأرض وبينما نحن كذلك قدم علينا طالب عرفنا بنفسه أنه من إخوان الإسكندرية يدرس بإحدى الكليات وسعدنا بت كثيرا إذ لم تكن في البلدة شعبة حتى هذا الوقت . وغاب عنا قليلا وكنا قد أشعلنا النار على الفاصوليا ثم عاد إلينا ومعه والده وقدمه لنا وقدمنا له , وطلب منا الرجل أن نطفئ لنار لأننا سنكون في ضيافته الليلة وحاولنا أن نعتذر ولكنه أصر بصيغة الأمر واستسلمنا لأمره , وبعد صلاة العشاء تكلمنا إلى الناس وصحبنا الابن إلى منزلهم وكانت تبدو عليه الفخامة وجلسنا في غرفة الصالون وحضر والده وصحبنا إلى " ترابيزة السفرة" وما أن نظرنا إليها حتى انتابتنا الدهشة لما حوته هذه المائدة فعليها كل أنواع اللحوم يتوسطها ديك رومي ضخم وجلسنا حول المائدة ونحن في ذهول وبدأ الرجل يوزع علينا قطعا من لحم الديك بخلاف لحوم الطيور الأخرى ولم نأكل خبزا ولا أرزا ثم كانت المفاجأة عند انقطع حزام الجوالة من امتلاء معدتي وأحسست بالخجل من نفسي وعلى الفور توقفت عن الأكل وما كان بي من حاجة إليه, وتوجهت إلى حوض الغسيل أمسك سروالي بيد وأغسل باليد الأخرى وعدت إلى غرفة الصالون ولحق بي زميلاي وقصصت عليهم القصة فاستغرقنا في الضحك إلى أن أحسوا بقدوم المضيف فأمسكوا عن الضحك وشكرنا الرجل وعدنا إلى معسكرنا وكانت الحادثة موضع سمرنا قبل النوم ونمنا ليلتنا وقمنا الفجر وصلينا , وفي الصباح رحلنا إلى بلد آخر لنصلي به الجمعة وبعدها عدنا إلى دمنهور وما حدث لى عالق بذاكرتي أذكره في رحلاتي التي كنا ننعم فيها بنعمة التقشف في الطعام .

رحلة إلى مطوبس :

اتفقت مع إخوان شعبة مطوبس على أن التقي بهم قبل صلاة الجمعة بمقر الشعبة وأن أصلي الجمعة بقرية سنديون وظللت معهم حتى قبل الصلاة بنصف ساعة وكان مقررا أن أتحدث إلى الناس بعد الصلاة بالمسجد ولم أجد مواصلات تحملني إلى القرية في الموعد المحدد فجاءني واحد من إخوان مطوبس بدراجته لأركبها ولم أكن أجيد ركوبها فأجلسوني عليها ونصحوني بأن أنظر أمامي ودفعوني وصرت أحرك قدماي على البدال وأنا أسأل الله السلامة وأدعو ألا تفاجأني سيارة في الطريق وقد أوصوني أن أترك العجلة عند إخوان سنديون وما أن وصلت تجاه القرية حتى وجدت الإخوان في انتظاري وهم قلقون لتأخيري وما أن رأيتهم حتى ناديتهم : أن تعالوا و( اسندوني) فلم أكن على دراية بطريقة الوقوف وسارعوا إلى نجدتي.

واتجهنا إلى المسجد والخطيب على المنبر وذهبت إلى الدورة للوضوء وكانت مزدحمة وما أن انتهيت من الوضوء حتى بادرني أحد المتوضئين بلفت نظري إلى أن الماء لم يصل للأعقاب وخجلت من هذا التقصير وسألت نفسي كيف سأتحدث إلى الناس وفيهم هذا الرجل الذي حاسبني على تقصيري , ولكن الله سلم وأديت مهمتي بالحديث إلى الناس والتقت بعد الصلاة بالإخوان ثم عدت بعدها إلى دمنهور بعد أن عبرت النيل إلى ساحة الغربي .

التهافت على الزعامة في مطوبس :

كان لزي القادة فتنة فهو أشبه بزي ضابط البوليس وكان زعماء الرهوط يرتدون الجاكت المميز للقيادة وعلى الأكتاف " الاسبلايت" تكون فريق للجوالة في قرية مطوبس وهفت النفوس إلى منصب زعامة الرهط وحدث تسابق عليه بين أخوين وجاءتنا الخطابات من رئيس الشعبة تدعونا لحسم الموقف وسافرت بالزي الكشفي لأجتمع بالفريق كله في مقر الشعبة وفي حضور الأخوين المذكورين تكلمت عن الإيثار والبعد عن المظاهر وظللت أدور حول هذه المعاني عسي أن ترق القلوب ويتنازل واحد للآخر ولكنهما لم يتجاوبا وباندفاع لم يكن في النية قلت لهم :" هذا الجاكت الذي يغريكم لا وزن له ولا قيمة والعبرة بإخلاص القلوب " ونزعت الجاكت من على جسمي بشدة وشققته نصفين وبقيت بالقميص وأثر الموقف في نفوس الجميع على الفور استجاب الطرفان وتنازل أحدهما للآخر.

سرقة الحذاء:

وفي ليلة اتجهت فيها إلى قرية ( أورين ) مركز شبراخيت ورتب الإخوان لى فيها لقاء مع أهل البلدة بالمسجد بعد صلاة العشاء وتحدثت إلى الناس عن مزايا تحكيم الإسلام في الدولة والمجتمع وتعرضت لتطبيق الحدود على مرتكبي الكبائر ومنهم اللصوص وبعد أن أنهيت كلمتي اتجهت إلى حيث وضعت حذائي فلم أجده وكأن اللص أراد أن يقنعني بألا جدوي من كلامي وسارع أحد الإخوان بإحضار حذاء لى من منزله عدت بت إلى دمنهور.

التجمعات التربوية

نظام الكتائب:

بدأ هذا النظام مبكرا في أوائل الأربعينيات واختير أفراد الكتيبة من الإخوان العاملين وغالبيتهم من الطلبة وكان أفراد الكتيبة غر

وفي ليلة الكتيبة- وكان كل أسبوع – ننصرف مع عامة الإخوان معروفين لبقية الإخوان . ونغلق الشعبة ويتوجه كل واحد منا إلى بيته ثم يعود متخففا بملابس النوم يحمل غطاءه ومصحفه ونلتقي مرة ثانية بالشعبة , نبدأ بتلاوة القرآن بعد تناول وجبة عشاء خفيفة ثم نستعد للنوم في المصلي وقبل الفجر بساعتين نقوم ونتوضأ ونصلي التهجد ونستمع إلى تلاوة قرآنية من أخ حسن الصوت ثم كلمة روحية ثم نصلي الصبح ونقرأ المأثورات ونزاول رياضة السويدي في حوش الشعبة وبعده الإفطار والعودة إلى بيوتنا .

ولما نقلت كلية الزراعة إلى دمنهور توسعنا في هذا النظام وصار لقاء الكتيبة في منزلي ويبدأ من بعد صلاة المغرب نتدارس فيه :

تلاوة القرآن تسمع الأحاديث المقررة, دراسة وتسميع في السيرة دراسة وأسئلة في رسالة التعالم عرض موجز لتاريخ الدعوة تلقي التكاليف .. ثم الانصراف .

وعمم هذا النظام في الشعب الأربع بمدينة دمنهور وكانت مدة الكتيبة عام يقوم أفرادها بعدها بترشيح أفراد جدد لكتيبة جديدة وكان إخوان الكتائب هم العمد التي تعتمد عليهم الدعوة في المدينة وفي بلاد الإقليم .

وجاءت دراستنا لرسالة التعاليم متأخرة إذ بدئ بها منذ عام 1943 تقريبا وأذكر أن أخا قدم إلينا من المركز العام وقابل الأخ المسئول عن نظام الكتائب وأخرج من جيبه نسخة من التعاليم وسلمها للمسئول الذي أخفاها على الفور في جيبه ولم تكن لدينا القدرة الكافية لفهم هذه الرسالة فكنا نتدارسها على ظاهرها مع شروح لا تتكافأ وما حوته هذه الرسالة من أصول وأركان .

نظام الأسر :

استجد هذا النظام بعد نظام الكتائب وكان يقوم أساسا على تشكيلات من مجموعات من الإخوان كل مجموعة عشرة على رأسها نقيب وكانت تتلاقي في البيوت وتتدارس رسائل الإمام وتستعرض أحداث الساعة وتتدارس مشاكل أفرادها وتعمل على حلها .

نظام الخمسة :

لجأ الإخوان إلى الإقلال من عدد أفراد الأسر بعد أن قامت حكومة الوفد بإغلاق الشعب حيث كان بوليس القيم المخصوص " أمن الدولة حاليا" يتابعهم. فحرصوا على ألا يزيد العدد عن خمسة حتى لا يتعرضوا لمخالفة قانون الطوارئ وكان يطلق عليه اسم " الخميس " وكنا نتدارس في هذا اللقاء كيف نخاطب الجماهير ونستثير حماستهم ضد من أغلقوا شعبا كانت بها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا وندلل على ذلك بقوله تعالي ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعي في خرابها ) ( البقرة : 114) ولم يستمر هذا النظام كثيرا بعد فتح الشعب وعودة النشاط الإخواني إلى ما كان عليه .

ذكريات مع الأستاذ المرشد

كنا نحن أبناء البحيرة محظوظون إذ كان الأستاذ البنا من مدينة المحمودية وهي احدي مراكز التابعة للإقليم وكان كالعهد بت بارا بأهله ومعارفه فكان كثيرا ما تردد على المدينة لزيارتهم وكانت دمنهور محطة التغيير لمواصلاته وكان حرصا على زيارتنا في كل سفره له وكانت بمعدل زيارة في الشهر على الأقل على نقيض زميل جهاده الأستاذ أحمد السكري ابن المحمودية الذي كان يحضر إليها كل أسبوع مارا بمدينة منهور لا يفكر في زيارتنا وقد يتصادف ويرافق الأستاذ المرشد في زيارته للمحمودية ويضطر لزيارتنا معه فلا يلبث أن يستأذن منا ومنه لزيارة معارفه في مدينة دمنهور.

جمعية أنصار الحرية:

هذه الجمعية أنشأتها السفارة البريطانية لمحاربة الإخوان ومركزها القاهرة ولها مندوبون في الأقاليم وبدأنا نر منشورات على ورق مصقول ترسل في صورة خطابات إلى الشخصيات البارزة في المدينة وأحيانا توضع أسفل أبواب الشقق وكان فحواها اتهامات موجهة إلى الإخوان المسلمين وموقع عليها باسم هيئة كبار العلماء وتكررت هذه المنشورات وأحدثت بلبلة في النفوس وبدأ البعض يصدق ما جاء بها على لسان العلماء وكثرت المتاعب وأحسن الدكتور عثمان مهنا مسئول الإخوان وقتها بضيق وحرج فأرسل إلى الأستاذ المرشد يشكو إليه من آثار هذه المنشورات والمتعب التي يعانيها هو والإخوان بسببها فرد عليه الأستاذ بخطاب أطلعني عليه الدكتور عثمان وفه يقول الإمام :" هؤلاء الذين يضحون بالدم الغالي في سبيل لا شئ ( يقصد جنود الحلفاء ) أفلا نضحي بت نحن في سبيل القرآن ومنهج محمد صلي الله عليه وسلم .

وعد بلفور

كان من عادة الإخوان أن يشحنوا نفوس الناس بالكراهية للإنجليز في مناسبات متعددة وأهمها ذكري وعد بلفور لليهود باستيطانهم في فلسطين وجاءت المناسبة في هذه المرة وكلية الزراعة قد نقلت إلى دمنهور وقرر طلبة الكلية الخروج في مظاهرة عامة حيث طافوا شوارع المدينة مرددين الهتافات العدائية ضد الانجليز وعملائهم وتصدي لهم رجال البوليس واعتقلوا وأودعوهم سجن البندر وتصادف بعد الحادث أن زارنا الأستاذ المرشد فأخبرناه بما حدث وبينما نحن جلوس في ( فرندة) الشعبة إذ بصهر الأخ عبد المنعم مكاوي – الذي اعتقل ضمن الطلبة – يحضر إلى باب الشعبة الخارجي ويجهر بأعلي صوته بما معناه أن الأستاذ المرشد جالس هنا في أمان ويترك الشباب يزج بهم في السجون وحاول بعض الإخوان أن يرد عليه فمنعه الأستاذ البنا وقال له إنه صاحب حق وكان يجلس إلى جواره الأستاذ الشافعي بك اللبان الذي كان دار الشئون القانونية بوزارة الداخلية فطلب منه الأستاذ المرشد التوجه إلى البندر وإقناع المسئولون بالإفراج عن المعتقلين وفي الوقت ذاته أرسل عميد الكلية كتابا إلى مدير المديرية يهدده فيه باستقالته إذا لم يفرج عن الطلبة المعتقلين فورا وكان لتدخل الشافعي بك وتهديد العميد الشجاع بالاستقالة أثره إذا أفرج فورا عن الطلبة ومن بينهم الأخ عبد المنعم مكاوي .

عبور النيل مع الأستاذ المرشد :

وقعت حادثة محزنة في عرض النيل فيما يقابل مدينة المحمودية فقد كانت وسيلة الانتقال منها إلى مدينة فوة هي المراكب الشراعية التي كانت تنقل الناس والمواشي.

وفي هذا اليوم كان من حمولة المركب " جاموسة " وبينما المركب الشراعي في عرض النيل إذا بها تدق قاع المركب بحافرها فينكسر اللوح الخشبي وتتسرب المياه إلى داخل المركب وتغرق ويغرق من فيها عدا من يجيدون السباحة ومن بين من غرقوا بعض الإخوان ويحدثنا صاحب المركب أنهم كانوا يرددون أثناء غرقهم " الله أكبر ولله الحمد"

وبعدها زارنا الأستاذ المرشد وتوجهنا معه إلى شعبة المحمودية وبعد لقاء الإخوان اتجهنا إلى شاطئ النيل لعبوره إلى مدينة فوة ولزيارة شعبتها وبينما نحن على ظهر المركب – وكانت صغيرة – أخذت الأمواج تتقاذفها وأحسسنا بالخوف من اثر الحادث السابق ولكننا سمعنا الأستاذ البنا يتجه إلى الله بالدعاء فسكنت قلوبنا حتى وصلنا إلى شاطئ النيل الشرقي ووجدنا إخوان فوة في انتظارنا يرددون هتافات الإخوان ورافقونا إلى مقر شعبتهم .

قسم البر والخدمة الاجتماعية

سبق أن سعت حكومة الوفد لاستصدار قانون الجمعيات وكانت تهدف من ورائه إلى التضييق على نشاط الإخوان وإبعادهم عن العمل بالسياسة وصدر القانون في عهد حكومة النقراشي الأولي وطلبت من الإخوان أن يحددوا موقفهم إما أن يكونوا حزبا سياسيا أو جمعية خيرية تخضع لوزارة الشئون وكلاهما مر وعكف الأستاذ البنا على المراجع القانونية واهتدي بثاقب فكره إلى المخرج من هذا الفخ الذي أعدته الحكومة للإخوان حيث أعد تعديلا لقانون الإخوان بأن الحق بالجماعة قسما خاصا لأعمال البر والخدمة الاجتماعية يكون مقر رئاستها بالمركز العام بالقاهرة وملحقا بدار الإخوان على أن تتبعه فروع في كل شعبة ولكل فرع إدارته المستقلة وتوضع له ( يافطة) بهذا الاسم على كل دار وهذا هو الشق الأول .

أما الشق الثاني فهو تحويل الإخوان من جمعية إلى هيئة تسير وفقا لقانون الإخوان المسلمين الذي أقرته الدولة وبهذا تفادي الإمام هذه الأزمة وخرج منها الإخوان بسلام .

وباشر قسم البر في مدينة دمنهور نشاطه وبدأ يمد الأسر المحتاجة لقانون الإخوان المسلمين الذي أقرته الدولة وبهذا تفادي الإمام هذه الأزمة وخرج منها الإخوان بسلام .

وباشر قسم البر في مدينة دمنهور نشاطه , وبدأ يمد الأسر المحتاجة بالمعونة المالية ويقيم الولائم لإطعام الفقراء في المناسبات وخاصة شهر رمضان .

عرض بالزواج :

كان واحدا من مؤسسي دعوة الإخوان وكان يتخذ شقتنا مقرا له في زياراته للإقليم وهو أيضا من أبنائه وتوفيت زوجته وتركت له بنين وبنات كانت كبراهن مهيئة للزواج وفكر الأخ الكريم في أن يتزوج بعد وفاة زوجته غير أنه آثر أن يكون زواجه وزواج كريمته في يوم واحد .

وبدأ بعرض ابنته على الأخ محمود عبد الحليم غير أنه اعتذر بلباقة وفي صباح أحد الأيام خرجت من مسكني وخرج معي ووجهتي مقر عملي , وفي الطريق فاتحني في زواج بابنته وكان يعلم أن مرتبي لا يقوم بمطالب أسرة.فذلل لى كل العقبات وطمأنني على توفير كل احتياجاتي الغذائية من نتاج أرضه الزراعية وكانت فرصة ولكني لم أكن مهيأ نفسيا لها إيمانا مني بأن متطلبات الدعوة فوق متطلباتي الشخصية التي قد تعوقني عن مواصلة المسيرة وعلى الفور رددت عليه شاكرا ومعتذرا بأن ظروف الدعوة التي لم تحقق غايتها تقتضي أن أصرف النظر عن الزواج الآن وحييته وانصرفت في طريقي إلى عملي .

وفي الأسبوع التالي سلمني خطابا مرسلا من الأستاذ المرشد حيث قام الأخ الفاضل بعرض الأمر عليه وذكر له مبررات اعتذاري بمتطلبات الدعوة وفتحت الخطاب وقرأت سطوره وكأن الأستاذ البنا يعيش معي ويحس بما يعتمل في داخل نفسي ويقدم لى الحل الذي يعفيني من هذا الحرج فكتب لى في سطور معدودة :" إذا لم تكن قد ارتبطت بزيجة فإني أزكي ابنة الأخ .. لزواجك بها ".

وعلى الفور التقطت الخط واعتذرت لأخي بذات العذر الذي وجهني إليه الإمام البنا " وأعني في نفسي أني قد ارتبطت بعدم التفكير في الزواج .. وفي التعريض مندوحة عن الكذب " ولم يجد الأخ مناصا من قبول العذر .. ووجدت نفسي مدينا بفضل الخروج من هذا المأزق للأستاذ المرشد الذي حباه الله ببعد نظر وصفاء روح جعليه يعايش مشاكل الإخوان ويحلها وكأنه صاحبها .

تواضع الأستاذ المرشد

أقام الإخوان في مدينة كوم حماده حفلا عاما دعوا إليه الأستاذ المرشد ووجهوا الدعوة إلى ذوي الهيئات بالمدينة وقري المركز ووزعوا برنامجا للحفل خصصوا فيه كلمة لنجل العمدة أذكر أن اسمه إسماعيل حمزة كما خصصوا كلمة للمهندس عبد السلام فهمي مدير أعمال الطرق بالبحيرة وبدأ الحفل وبعد كلمة الافتتاح قدم ابن العمدة ليلقي على الناس كلمة مقروءة من ورقة وأظنه لم يراجعها على دارسي اللغة العربية فقد لحن في الكثير منها .

ثم قدم المهندس عبد السلام فهمي وهو شخصية معروفة لدي عمد ووجهاء المركز لطبيعة عماه في تخطيط الطريق والإشراف على الكباري وتكلم الأخ عبد السلام عن الدعوة ثم تطرق منها إلى شخصية الأستاذ البنا وبدأ في الثناء عليه , فلاحظت أن الإمام قد بدأ يطرق رأسه والأخ عبد السلام يسترسل في المدح والمرشد يزيد انحناءه حتى قارب حالة الركوع وهو جالس . وهنا صرخ الإمام منتفضا من مكانه قائلا " انزل يا عبد السلام" كررها مرتين وظهرت عليه أمارات الغضب وما عهدناه غاضبا إلا في الشدائد. واستجاب عبد السلام ورضخ للأمر ونزل من على المنصة دون أن يختم كلمته وأشفقنا على مشاعره غير أنه جندي في الصف أطاع أمر قائده في رضا وبعدها قام الإمام وتحدث إلى الناس حديثا مستفيضا كعادته وامتلأت القلوب بدفء الإيمان .

شفقة القائد :

تقرر إقامة حفل في مدينة كفر الدوار بمقر شركة مصر للغزل والنشيج والمدينة من توابع مكتب إداري دمنهور وأردنا أن نسهم في الدعاية لهذا الحفل وكلف الأخ محمود يونس بالتوجه بفريق الجوالة إلى كفر الدور في صبيحة يوم الاحتفال . ولما كان الأستاذ المرشد مخططا له أن يمر علينا في شعبة دمنهور قبل الظهر . فقد اجتهد الأخ محمود ورأي أن يحضر إلى الشعبة ليسلم على الأستاذ . ثم يسافر بفريقه إلى كفر الدوار وبينما نحن جلوس ف الشعبة ومعنا الأستاذ البنا إذ بالأخ محمود يونس يقبل علينا وتلفقه الأخ محمود عبد الحليم وسأله عن سبب قدومه في حين يفترض وجوده الآن في مكان الحفل فأجابه بأنه يريد أن يجمع بين الخيرين وهنا ثار الأخ محمود وعنفه تعنيفا شديدا وأصدر قرارا عقابيا له بأن يتحرك الآن بفريقه سيرا على الأقدام إلى مدينة كفر الدوار ( 40 كيلوا مترا) وبهت الأخ محمود يونس , والأستاذ المرشد يرقب عن كثب ما يدور .

ثم انتقل الأستاذ البنا من مكانه وجاء إلينا يسأل ا الخبر وتحدث الطرفان وأصدر قراره بتخطئه الأخ محمود يونس وأحقية الأخ محمود عبد الحليم في فرض العقوبة ثم طلب من الأول التزام الطاعة في كل أمر وطلب من الثاني التنازل عن حقه في العقوبة وسمح للأخ محمود يونس بالانتقال بفريقه بالقطار إلى مدينة كفر الدوار .

قصة ضابط بوليس :

كان للأخ صالح أبو رقيق ( مسئول المكتب الإداري صديق يعمل ضابط شرطة برتبة ملازم في بندر دمنهور وكثيرا ما كان يذهب إليه في منزله ويتخلف عن بعض اللقاءات ولما كنا نحاسبه كان يعتذر بزيارته في هذا الوقت لزميله الضابط الذي يأمل أن يكسبه للدعوة والذي كان كثيرا ما يسخر من فكر الإخوان وزى الإمام ويعتبرنا طريقه صوفية على شاكلة غيرها من الطرق واصل الأستاذ صالح اتصالاته دون جدوي إلى أن حانت الفرصة وهي مناسبة زيارة الأستاذ البنا لمدينة ايتاي البارود للتحدث في حفل عام .

وكان وقتها أى هذا الضابط قد رقي ونقل رئيسا لنقطة صفط الملوك – من توابع مركز إيتاى البارود – وأخذت أبحث عن الأخ صالح كمسئول يفترض تواجده لاستقبال القادمين إلى الحفل واستقبال الأستاذ المرشد فلم أجده وتميزت غضبا وبينما السرادق قد غص بالحاضرين وقبل أن يعلن عن بدء الحفل إذا بي أري الأخ صالح قادما يتأبط ذراع الضابط ثم أجلسه في مكان في المقدمة. وتقدمت إلى الأخ صالح أحاسبه بعنف على هذا التقصير . فقال إن لى قصة مع صديقي وخلاصتها أنه قد توجه إلى مقر نقطة صفط الملوك لدعوة صديقه إلى حفل الأستاذ ولكنه رفض وقال له إنه سيشاهد فيلما جديدا في سينما البلدية بدمنهور وأخذ يلح عليه فلم يقبل , وخرجا سويا قبل صلاة العشاء إلى الطريق العام ولكل وجهة هو موليها , وأخذت العربات المتجهة إلى ايتاي البارود تتوالي بعكس العربات المتجهة إلى دمنهور , واضطر الضابط مرغما أن يرافق الأخ صالح إلى الحفل .

وتكلم الإمام وسيطر على المشاعر – كعادته – وكان بصري مركزا على الضابط فقد كان بيني وبينه موقفا لا أنساه – فوجدته مشدوها لا يتحول نظره عن المنصة حتى انتهي الحفل وأقبل الناس على الإمام يصافحونه وفيهم رئيسه – مأمور المركز – والرجل جالس في مكانه لا يتحرك وكان الإمام متميزا بالفراسة فأنس في الضابط خيرا وأرسل من يحضره إليه وسلم الضابط على الإمام بإكبار وإجلال .

وكان من عادة الأستاذ المرشد أن يلتقي بعد الحفل بإخوان الشعبة وأخذه معه وجلسنا حوله وأخذ يناقشنا في نشاطنا في أمور الدعوة – قسم السر والجوالة ونشر الدعوة والطلبة وغيرها – والضابط يسمع ويزداد تعجبا لهذه الجماعة التي امتد نشاطها في كل هذه الأقسام وفوجئنا بت يمد يده إلى الأستاذ المرشد يبايعه على أ، يكون من الإخوان المسلمين وتعهد بأن يفتح شعبا في جميع القري التابعة لاختصاصه وعددها 14 قرية وكبرنا جميعا وطلب مني الإمام أن تكون جوالة دمنهور رهن تصرفه وأن أعمل معه جدولا زمنيا بأيام الرحلات .

وخلوت بالأخ الضابط واتفقنا على زيارة كل أسبوع يومي الخميس والجمعة , نلتقي فيها بالناس في قريتين في كل يوم من هذين اليومين .

وجاءت الرحلة الأولي إلى قرية ( صفط الملوك) وكانت نقطة البوليس في طريقنا إليها وتبعد عنها 2 كم وتوجهت بالفريق بعد صلاة العصر إلى النقطة ووجدت الأخ الضابط مستعدا هو ورجال قوته . ولم يترك سوي النوباتجي وكان يرتدي الزي الرسمي وفوقه ( روب كاكي ) ويمتطي جواده ومن خلفه السواري والمشاة وتحرك الركب وقد تقدمه بقوته ونحن في المؤخرة بأعلامنا ودخلنا القرية وكان في استقبالنا العمدة والمشايخ والأعيان وهللوا لمقدمنا وواصلنا استعراضنا في طرقات القرية والرجال والصبية خلفنا يرددون هتافاتنا والنساء في البيوت " يزغردن" وتحمس الناس وزاد من حماستهم وجود ( حضرة) الضابط ورجاله في مقدمة الركب .

ثم صلينا المغرب بالمسجد وتوجهنا إلى دوار العمدة وأحضرت الأرائك" الكنب " وقامت الجوالة بعمل مسرح بلدي وبدأ الحفل بالقرآن والأناشيد ثم كلمة الداعية وانتهي الحفل بعمل محضر تكوين شعبة صفط الملوك برئاسة العمدة وعضوية كبار الشخصيات بالقرية.

وفي يوم الجمعة كانت مسيرتنا إلى قرية ثانية حيث أقمنا معسكرنا ولا انس منظر الأخ الضابط وهو يجلس معنا بزيه الرسمي على التراب كجلستنا وبعد أن خطب الداعية الجمعة وأكمل حديثه بعد الصلاة تكونت الشعبة .

وتوالت الزيارات وتوالي فتح الشعب وتحققت أمنية الأخ الضابط وفتحت أربعة عشر شعبة في مدة أقل من المدة التي كان يقدرها وكان هذا الضابط هو اللواء صلاح شادي الذي نقل أثناء محنة 1948 إلى القاهرة والتقيت بت صدفة في ميدان الجيزة ونزل من عربته وتعانقنا وبعدها كان من خيار العاملين بالمركز العام حيث تولي مسئولية قسم الوحدات . ثم رأيته مرة أخيرة سجينا في الواحات الخارجة وكنت في زيارة لصهر السجين عبد المنعم مكاوي وكان لقاءا حارا لم أره بعدها حتى لقي الله .

المرشد في مسجد الزرقا:

كان النزاع على أشده بين الوفد والإخوان وكان مقررا أن يحضر الأستاذ المرشد حفلا بالإسكندرية مساء يوم الخميس على أن يخطب الجمعة في دمنهور واخترنا له مسجد الزرقا الذي يتوسط المدينة واستغل الوفديون الفرصة لتنفيذ مخططهم العدواني فبعد أن دعونا الناس إلى الصلاة في هذا المسجد وقبل موعد الصلاة اكتظ المسجد بالمصلين داخله وخارجه بينما اندس شباب الوفد في الداخل استعدادا لتنفيذ مخططهم وما أن صعد الأستاذ المنبر حتى سمعنا أصواتا تنادي "انزل, انزل" وتعالت الأصوات , ونزل الإمام إلى الدرجة الأخيرة للمنبر ونادي الناس قائلا :" من أم قوم وهم له كارهون لم تجاوز صلاته أذنيه , ابحثوا لكم عن خطيب آخر " ولكن المصلين أصروا على أن يخطب الجمعة وقمنا متكاتفين بحمل الوفديين من بين الصفوف والقذف بهم خارج المسجد وكانوا يخفون بين طيات ملابسهم أسياخا حديدية.

وخطب الأستاذ خطبة قصية خرج بعدها ليركب سيارة الأخ منير الدلة التي كان يقودها بنفسه وكانت قوات من البوليس قد حضرت وسمعت جنديا واقفا بجوار السيارة ردد : " هما المشايخ بيركبوا عربية 5 متر فخمة زي دي " وسافر الأستاذ إلى القاهرة وتركنا في ضيق مما حدث .

رد الاعتبار :

قررنا أن نقم حفلا عاما في شعبة ( القلعة ) يحضره الأستاذ المرشد وذلك عقب ما حدث بمسجد الزرقا بفترة قصية ووزعنا بطاقات الدعوة ونظمنا الحراسة في الشوارع المؤدية إلى الشعبة وفوق سطح المبني تحسبا لما قد يفكر فيه الوفديون مثلما ما حدث في مسجد الزرقا .

ووزع إخوان الجوالة في داخل المكان ولديهم توجيهات بأن يحملوا أى مشاغب ويقذفون به إلى عرض الشارع وقدم الأستاذ البنا ومعه الأخ الضابط محمود خليل وأعضاء المكتب الإداري أعجب الأخ محمود خليل بالنظام .

وبدأ الحفل ولم يحاول أحد من الوفديين الاقتراب من مكان الحفل لما رأوه من تشديد الحراسة والتحفز ضدهم وتكلم الإمام ولم يتعرض لحادث الزرقا وكان حفلا مباركا أقبل الناس عليه ومحا كل أثر لما حدث .

آخر العهد بالإمام الشهيد

كان ذلك في مدينة كفر الدوار حيث التقينا بالإمام في حفل عام وكان الجمع غفيرا من عمال شركة الغزل وكنا وقتها نعيش الفتنة الثالثة – فتنة خروج أحمد السكري من الجماعة واحتضان الوفد له ومقالاته التي كان ينشره في صحفهم يحمل فيها على الإخوان وعلى شخص الإمام .

وبعد الحفل وقبل الفجر بساعة تقريبا تهيأنا للعودة إلى دمنهور ومعنا الإمام في سيارة واحدة وكان هذا آخر لقاء لى بالإمام وجاءت محنة عام 1948 وحلت الجماعة دبرت مؤامرة قتله ومات شهيدا وقد صدق ما عاهد الله عليه نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا .

مع المركز العام

الاشتراك الشهري :

زادت الأعباء المالية على المركز العام للإخوان .واقتضي ذلك مطالبة المكاتب الإدارية باشتراك شهري وقدر على مديريه البحيرة جنيه ونصف شهريا كنا نقتطعه من ميزانيتنا ونحن أحوج ما نكون إليه فقد كان دخلنا من اشتراكات أهل الخير , وما كان يدفعه الفرد لا يزيد عن خمسة قروش يقوم الأخ عبد الغني دعبيس بتحصيلها من التجار وأصحاب المحلات بإيصالات كل شهر. وكنا نرسل الاشتراك بشيك بريدي يأتينا بعده خطاب بخط يد الإمام الشهيد يشكرنا على تبرعنا وكنا نعرف خطه المميز بحروف تكون زاوية حادة مع السطر هكذا " الإخوان المسلمون " ولكثرة مشاغل الإمام تولي الأخ أنس الحجاجي مهمة الرد بالشكر على المكاتب الإدارية واستطاع بمهارة أن يقلد خط الإمام حتي إننا ظلننا نعتقد أن الإمام هو المرسل لخطابات الشكر إلى أن تكشف الأمر لنا بعد ذلك وعرفنا السر.

المركز العام الجديد:

اتسع نشاط الدعوة وعم الكثير من الأقطار العربية وصار المركز العام محطة تجمع للوفود الإسلامية والشخصيات القيادية. ورأي الإمام أن يتخذ مقرا جديدا للجماعة يصلح لاستقبال الوفود وإيواء الزعماء المستبعدين من أوطانهم أمثال الحبيب بورقيبة وبن بلا وغيرهم وحانت له الفرصة متمثلة في قصر طل على المركز العام القديم ويملكه واحد من الباشاوات من عائلة أبو حسين حيث كان يعرضه للبيع ويطلب فيه مبلغ 8500 جنيه وهو ثمن غال بالنسبة لأسعار العقارات في ذلك الوقت واستخار الإمام ربه وقرر أن يشتري هذا القصر ولم يكن في خزانة الجماعة سوي 100 جنيه دفعها مقدم الثمن وحرر عقد البيع الابتدائي بينه وبين المالك وكان هو المشتري بصفته المرشد العام .

وتم تصوير نسختين من هذا العقد وجاءتنا صورة وبها خطاب يناشدنا الأستاذ المساهمة في تغطيه جزء من ثمن هذا القصر وانشرحت صدورنا وقدم الإخوان من قوتهم وقوت أولادهم مبلغا من المال أضيف إلى تبرعات الإخوان في مصر وتمت تغطية المطلوب حيث وصلت التبرعات في أيام معدودة إلى عشرة آلاف جنيه دفع منها ثمن المبني وأثثت بالمبلغ الباقي حجراته بأثاث فخم يليق بهذا المقر الجديد .

دار الصحافة والطباعة :

فكر المركز العام في إصدار جريدة يومية لتكون أول صحيفة إسلامية في العالم الإسلامي وبصدورها صار للجماعة ثلاث مجلات وصحيفة يومية وهي :

1- مجلة الإخوان المسلمون ويرأس تحريرها الأخ صالح عشماوي .

2- مجلة لـ : ( الكاريكاتور) ولا أتذكر اسمها ويرأس تحريرها الأخ علوي عثمان وكانت مجلة البسمة الصادقة تسمو على مجلة ( البعكوكة).

3- مجلة المسلمون التي حلت مكان مجلة الشهاب ويرأس تحريرها الأخ سعيد رمضان.

4- جريدة الإخوان اليومية ويرأس تحريرها الأخ أحمد السكري .

وكانت هذه المجلات تطبع في مطابع متعددة تزيد من تكلفتها واشتري الإخوان مطابع جريدة ( الجهاد) التي توقف صدورها ووضعت في المركز العام القديم لطبع الجريدة اليومية .

واقتضي الأمر أن يفكر الإخوان في إقامة دار للطباعة والنشر وخرج المشروع إلى حيز التنفيذ , في صورة أسهم يشارك فيها الإخوان وغير الإخوان , وكانت قيمة السهم أربعة جنيهات تمت تغطية الأسهم في فترة وجيزة واشتريت قطعة أرض قريبة من المركز العام تبلغ مساحتها نصف فدان وقام المهندس المعماري بعمل " ماكيت" لمبني المنشأة من اثني عشر طابقا وترقبنا تنفيذ المشروع غير أن الأحداث سبقتنا وحلت الجماعة وصودرت ممتلكاتها ومن بين هذه الممتلكات هذا المشروع .

وكثير من الناس أضير بهذا الاستيلاء أذكر منهم مأمور بندر دمنهور – الذي سبق وجاءنا في معسكر القادة – حيث ساهم بمدخراته ومصاغ زوجته بالعديد من الأسهم أملا في استثمار ماله وثقة منه في أمانة الإخوان ونجاح مشروعاتهم .

شخصيات لها ماض في البحيرة

لقد عايشت مجموعة من الإخوان كان لهم دور بارز في نشاط الجماعة, أذكر البعض وأنسيت البعض لضعف الذاكرة ومثوبتهم عند الله فالجمع كان لهم دور في النهوض بدعوة الإخوان في هذا الإقليم أذكر منهم :

1- الأخ عبد اللطيف رحال  : تاجر أقمشة بشارع خيري يجيد الشعر ولم تكن تخلو حفلة من الحفلات إلا ويلق فيها قصيدة رائعة وتحمل مسئولية الشعبة في أوائل الأربعينات وكانت له جلسات في منزلنا يتبادل فيها القصائد مع الأخ عبد الحليم .

2- الأخ صالح أبو رقيق : من أبناء قرية ( المسين) مركز الدلنجات ومن قبيلة عربية لها مكان الصدارة في المركز تخرج من كلية الحقوق وقدم نفسه إلى شعبة دمنهور بخطاب تزكية من الأستاذ المرشد واخترناه مسئولا عن الشعبة وكانت لديه قدرات على كسب الأشخاص وانضم إلينا بفضل جهوده الكثير من المثقفين .

3- الأخ علي محمود عبد الحليم : من المؤسسين الأوائل للجماعة منذ أن كان طالبا بكلية الزراعة بالقاهرة وانتقل بعد ذلك إلى مدينة دمنهور للعمل بتفتيش منع القطن وكان مدرسة متكاملة تعلمنا منه كيف ندعو الناس وكيف يكون النظام والالتزام وكثيرا ما كان يقسو علي الإخوان إن أحس منهم بتقصير وله مع إخوان دمنهور ذكريات كثيرة أذكر منها :

- كان الأخ عبد الغني دعبيس يدخن السجائر فلما أقام معنا في المسكن فترة نهاه عن التدخين مرارا فلم يرتدع وفي صبيحة يوم كان نائما فأخذ علبة السجائر من جيبه ورص ما فيها حول فتحة المرحاض وطلب منا ألا ندخل حتى يكون عبد الغني هو أول من يدخل وأيقظناه من نومه وتوجه إلى الدورة فرأى هذا المنظر وفطن إلى أن الفاعل هو الأخ محمود وأقلع بعدها عن التدخين .

- وأذكر أنه سبقني إلى المنزل ذات ليلة وتركني في الشعبة ومعي ضيف كان يعمل معي في المساحة وطلب مني قبل أن ينصرف أن أعود إلى المنزل الساعة 11 ومعي الضيف المقيم معنا فتأخرت في أعمال الشعبة إلى الساعة 12 مساء وعدت للمنزل فلما طرقت الباب إذا بت يطل علينا من " الشراعة" ويقول لنا عودا من حيث أتيتما فعدنا أدراجنا إلى الشعبة المغلقة ولم نجد مكانا ننام فيه إلا في ( الفرندة) على الأرض وفي العراء والتحفنا بحصير الصلاة ومن أمثلة ذلك الكثير ويعود النهوض بأمر الدعوة في البحيرة – بعد الله عزوجل – إلى صادق جهده وصواب تفكيره .

4- الشيخ أحمد عبد الحميد : أحد الأربعة الذين نادوا بدعوة الإخوان المسلمين وهو عالم جليل أبي أن يرتزق من علمه فرفض وظيفة الوعظ وعمل فلاحا يزرع أرضه وأفاد الناس من علمه عن طريق الإخوان المسلمين .

وقد رزقه الله الفراسة والتوسم فكان يرشدنا عن الخيرين ويحذرنا من غيرهم كنا نجد رأيه صوابا في كثير من الشخصيات وكان يحنو علينا حنو الآباء على الأبناء .

5- الدكتور عثمان مهنا : قدم علينا وافتتح لنفسه عيادة وأسلمناه القيادة من وصوله وكان قد جاوز الأربعين ولكنه كان في همة الشباب كان مسكنه مقرا للاجتماعات الخاصة أيام غلق الشعب لم ينجب وكان يعتبرنا جميعا أولاده .

6- الأخ حسن الزمزمي : كان موظفا بالري ودرس من الخارج حتى حصل على ليسانس الحقوق وظل في وظيفته وكان خطيبا مفوها يتحدث بالساعات فلا يكل فقيه في السيرة وفي قواعد اللغة العربية وكان من خطباء الجمعة البارزين .

7- الأخ حمزة الجميعي : رئيس مكتب الخبراء بدمنهور موهوب في تفكيره تحمل مسئولية رئاسة المكتب الإداري لإخوان البحيرة في ظروف صعبة فكان قدوتنا رغم ما ابتلاه الله من مرض كنا كثيرا من نشفق عليه حين يبذل الجهد أو يدوام على السهر معنا .

8- الأخ عبد السلام فهمي : من إخوان طنطا وكانت البحيرة من دائرة اختصاص عمله كمدير أعمال للطرق كانت له استراحة خاصة في مبني مصلحة الطرق ولكنه آثر مسكننا عليها وكان يأتينا في وقت متأخر من الليل فلا يجد مكانا لنفسه وأذكر ليلة خلعت له باب حجرة لينام عليه من شدة البرد وطلب يوما طعاما وكان قد نفد جميعه فجمعت له كسرات من الخبز المتبقي بجحور الفئران أكلها راضيا وكان داعية وخطيبا فيه شجاعة ورجولة.

9- الأخ محمد كرام : مدرس لغة انجليزية بالمدرسة الثانوية سلم نفسه للشعبة منذ وصوله إلى دمنهور تحمل مسئولية نشاط الطلاب وكان خطيبا ومحدثا وكثيرا ما كان يتولي التقديم في الحفلات والمؤتمرات .

10- الأخ نجيب جمال الدين : كان يعمل موظفا بمصلحة الضرائب وكان ثالثنا في المسكن روحه مرحة وفيه عزم ونشاط سمع واحدا من زملائه ورئيسه في العمل يتحدثان في المكتب عن أنه يحمل مؤهلا متوسطا ( دبلوم التجارة ) فجاءني يومها حزينا وأقسم أن يحصل على ليسانس الحقوق الذي يتعاليان بت عليه , وذاكر وحصل على البكالوريا وانتسب إلى حقوق الإسكندرية حتى نال الليسانس ورقي مأمورا للضرائب بالإسكندرية ولما بدأ المذاكرة أعفيناه من عمله الدعوي في الشعبة فاستغل قطار السكة الحديد في ذهابه وإيابه إلى الإسكندرية في نشر الدعوة .

وقدم إلينا ذات يوم وبرفقته طبيب يوزباشي بالجيش اسمه الدكتور محمد حسين غراب ليشارك في عمل طبي فقط فافتتحنا له ( مستوصفا) بشعبة شبرا واتفق مع نخبة من الأطباء في تخصصات مختلفة لعلاج المرضي بأجر رمزي قدره قرشان ونجح المستوصف واستفاد منه الكثيرون ومن كثرة مخالطته لنا عرف الكثير عن دعوتنا فأعلن انضمامه عضوا عاملا وكان من المبتلين في محنة عبد الناصر حيث كان من قبلها هو حلقة الاتصال بن الإخوان وبين رئيس الجمهورية محمد نجيب.

10- الأخ زكي شبانة عين بعد تخرجه معيدا بكلية الزراعة وقت أن كانت في دمنهور وجاء بخطاب من المركز العام والتحق بالنشاط العام واختير مندوبا لجوالة البحيرة وشاركنا المسكن وكنا نتقاسم العمل فكانت مهمة الأخ زكي إحضار الطعام من السوق وقد عرف عنه أنه يحرص دائما على مظهره أمام طلبة الكلية كمعيد له تقديره وفي يوم كلفناه أن يحضر لنا مع الطعام " طعمية" وأعطاه لبائع قرطاسا فخما وحرصا منه ألا يراه الطلبة هو يحمل هذا القرطاس الذي يعلن عما في داخله فقد رأي أن يحمل القرطاس مقلوبا ويضعه بجانبه وليس مرفوعا إلى أعلي وكان معروفا عنه في سيره أن يحرك ذراعيه أماما وخلفا واتبع ذلك وهو يحمل القرطاس إلى أن وصل إلينا في المسكن واستلم الأخ نجيب منه هذا القرطاس فإذا به قد فقد نصف لكنه قال غاضبا :" دا أنا اتفضحت طول الطريق وحبات الطعمية تتساقط مني وتعلن عن نفسها , و لم أشأ أن التقطها من الأرض فإني كنت حريصا ألا يراني طالب وأنا أحملها وضحكت لهذا الذي حدث ورشحته الكلية لنيل الدكتوراه من أمريكا بعد أن تزوج وصار له سكنه الخاص في دمنهور وقبل سفره طلب منا أن ندعو الله له ألا يفتن في أمريكا بلاد المدنية الزائفة وعاد أستاذا لمادة الاقتصاد الزراعي بكليته واتخذه جمال عبد الناصر مستشارا له وارتقي في لامناص بحتي صار رئيسا لجامعة المنوفية وقد حرص على أن ألقاه ودعاني لزيارته وهو وكيل جامعة طنطا وكان لقاء حارا وقد حضر لمناقشة رسالة دكتوراه في كلية الزراعة بكفر الشيخ وأرسل طلبني لمقابلته في الكلية وكان لقاء ذكرني بالأيام المباركة وبعده لقي ربه رحمة الله عليه.

الانتخابات

أقيلت حكومة الوفد وكلف الدكتور أحمد ماهر بتشكيل الوزارة وحل مجلس النواب الوفدي وأعلن عن فتح باب الترشيح وقرر الإخوان الترشيح في بعض الدوائر وكان من نصيب البحيرة ترشيح الأخ أحمد السكري في دائرة المحمودية منافسا للدكتور محمود المغازي نجل المغازي باشا وترشح الأخ صالح أبو رقيق في دائرة الدلنجات أمام الأستاذ حسين درويش ونشط إخوان البحيرة في عمل الدعاية اللازمة في الدائرتين غر أن الأخ صالح رأي أن يتنازل عن ترشيح نفسه وبقي الأخ أحمد السكري . وقمنا بزيارة قري مركز المحمودية للدعاية لمرشح الإخوان وكان للمدينة النصيب الأكبر من الزيارات والحديث في المساجد غير أن كفة الدكتور محمود رجحت وقد أنفق بسخاء مستعينا بالقدرة المالية لوالده .

وفي الوقت نفسه قام أهل الإسماعيلية بمطالبة الأستاذ المرشد بترشيح نفسه عن دئراتهم وتولوا سداد التأمن وكنا على ثقة من نجاحه فما من أحد في هذه الدائرة يجهل شخصية حسن البنا وقد نافسه في الدائرة خمسة مرشحين من بينهم الدكتور سليمان عيد شقيق صالح عيد متعهد التغذية للقوات البريطانية في القنال وأجريت الانتخابات وكانت النتيجة هي الإعادة بين الأستاذ المرشد والدكتور سلمان وطلب من مكتب إداري البحيرة أن يبعث بخمسين جوالا ليلة الإعادة ووصلنا الإسماعيلية مساء وقد سبقنا إليها الكثير من وقود الأقاليم وتحركنا في طابور منتظم إلى مسجد الإخوان وفي الطريق مررنا بالسرادق الذي أقامه أهل الإسماعيلية وسمعنا صوت الأستاذ المرشد وهو يتحدث إلى الناس وحاولت التوقف للاستمتاع بحديثه غير أن الأوامر كانت صريحة بالسير وفي المسجد وزعنا على بيوت الإخوان وبت مع عشرة من الإخوان في منزل أخ كريم وقبل الفجر طفنا شوارع الإسماعيلية تذكر الناس بالشهادة وتردد قوله تعالى ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) البقرة 283

وبعد الصلاة وقراءة المأثورات تناولنا طعام الإفطار وبعدها توجهنا إلى لجان الانتخابات لاستقبال الناخبين وما أن وافت الساعة الثانية عشرة ظهرا حتى كان واضحا رجحان كفة الأستاذ البنا .

وهنا تدخلت السلطات الإنجليزية , وإذا بلوريات الجيش تحضر إلي اللجان تحمل رجالا من الصعيد يعملون بمصنع الألبان المقام في العريشية والذي يملكه صالح عيد وتكرر تردد هؤلاء الرجال ببطاقات مزورة وشكي الإخوان للأستاذ المرشد وبلغها لوكيل النيابة ولم يتخذ أى إجراء .

وجاء حكمدار المحافظة ( وكان إنجليزيا) فشكي له الإخوان هذا التزوير فقال لهم ( أنتم من بلاد مختلفة فما الذي جاء بكم هنا) وفوجئنا بعد ذلك بلوريات الجيش الإنجليز تداهمنا بسرعة مذهلة وتكاد تقتل جموعنا لولا أن الله سلم .

وفي الساعة الخامسة وبعد الفرز وضحت النتيجة وكانت لصالح الدكتور سليمان . وقد طلب منا الأستاذ المرشد أن نعود فورا إلى بلادنا وفي الطريق وفي كل محطة كان يقف فيها القطار كنا نطل من النوافذ نردد عبارات معادية للحكومة التي شاركت في هذا التزوير وندد بالاستعمار الانجليزي الذي أشرف عيله وظللنا على ذلك حتى وصلنا إلى دمنهور .

مع الأحزاب

كان لحزب الوفد في دمنهور أنصار على رأسهم عائلة الوكيل وكان كبيرهم محمد باشا الوكيل عضوا في الوفد وقد دخل الإخوان بعض شبابهم وكان الأستاذ محمود حلبي هو رئيس شباب الوفد وكثيرا ما سمعنا عن جهاده وما لاقاه من حبس في دمنهور والرجل صاحب مطبعة كبيرة ولم يتزوج ووهب وقته كله لحزب الوفد.

وزارنا الأستاذ المرشد وأقمنا حفلا عاما دعونا إليه الناس وكان الأستاذ محمود حلبي وبعض أتباعه ممن حضروا هذا الحفل واستمع – ولعله لأول مرة – إلى كلمة الأستاذ المرشد وكان لها تأثير قوي في نفسه فانتظر إلى أن انفض الناس ليسلم على الإمام وما لبث أن أبدي رغبته في أن ينضم إلى الإخوان المسلمين ورحب به الأستاذ وأوصاني به خيرا

ولما كان للرجل مكانته وما تميز بت من رجاحة عقل اخترناه بعد ذلك رئيسا للمكتب الإداري بعد أن تنازل له رئيسه المنتخب حمزة الجميعي وقبل الرجل المهمة وبدأ نشاطه وكان يوم اجتماع المكتب الإداري من أول الحاضرين وأخذ يدير الجلسات بحكمة واطمأن له الجميع كان أعضاء المكتب كفاءات مثقفة وممتازة يكف أن يكون فيهم الأخ على محمود عبد الحكيم والأخ حمزة الجميعي وظل الرجل على ولائه للدعوة وأذكر أنه بايع عليها . ولما اشتري الإخوان قطعة أرض من تقسيم البلدية كان أول المسارعين بالتبرع فقدم مبلع 750 جنيها .

ودعوناه لمعسكر قيادات الجوالة وسمع الرجل نقدا في حزب الوفد وفي اليوم التالي فاجأنا باستقالته قائلا " إنني ما زلت وفديا حتى بعد دخولي الإخوان فحين كنت أحضر إلى الشعبة أخلع قميص الحزبية على بابها وحين أغادرها أعود إلى صبغتي الحزبية " وأسفنا لخروجه أشد الأسف.

اعتداء شباب الوفد:

في يوم جمعة وبينما كان الإخوان منتشرين في البلاد مع قوافل نشر الدعوة وقبل صلاة العصر حاصر الشباب الوفدي الشعبة الرئيسية ولم يكن بها سوي الأخ محمد القباني الذي سارع واتصل تليفونيا بمن تبقي في المدينة وهاجم الوفديون الشعبة واعتدوا على الأخ محمد وما هي إلا دقائق حتى وصل الإخوان وحملوا عصي الجوالة الموجودة داخل الشعبة وردوا الوفديين على أعقابهم وعلم الضابط النوباتجي بهذا الصدام فطلب من ضابط المطافي التوجه فورا إلى الشعبة لفك الاشتباك بخراطيم المياه وكان الضابط متعاطفا مع الإخوان فوجه الخراطيم إلى الوفديين الذين اضطروا أن يجلوا مكانهم فتبعهم الإخوان ضربا بالعصي إلى أن التجئوا إلى النادي الوفدي .

وأحس أحمد بك الوكيل رئيس الوفد بالبحيرة بخطورة الأمر فأرسل إلى الأخ حمزة الجميعي رئيس المكتب الإداري وعرض عليه الصلح وطلب أحمد بك أن يصدر الإخوان قرارا بفصل الأخ محمد القباني من الجماعة وهنا اعترض الأخ حمزة فقال : وماذا تري من العقاب؟ فأجابه : بأن أتقدم للمكتب الإداري بمذكرة أطلب فيها إيقاف الأخ محمد عن النشاط أسبوعين وهنا عجب أحمد بك من دعوة تعاقب بإيقاف النشاط وحزب يستجدي النشاط من أتباعه وقبل الفكرة وتأكد لديه مبدأ " الصلح خير".

حكومة الوفد:

جاءت إلى الحكم يوم حادث 4 فبراير 1942 وصرح الدكتور أحمد ماهر زعيم الحزب السعديين – يومها أن النحاس باشا جاء إلى الحكم على أسنة رماح الانجليز ولما فتح باب الترشيح للانتخابات رشح الأستاذ البنا نفسه عن دائرة الإسماعيلية وعارض الانجليز ذلك وطلبوا من النحاس باشا أن يحول بينه وبين الترشيح واستدعاه رئيس الوزراء وأحاطه علما بخطورة الموقف وتنازل الإمام بشروط كلها خير للدعوة والمجتمع المصر .

وبدأت دسائس الانجليز وأعوانهم من المصر يين وقررت حكومة الوفد غلق جمع شعب الإخوان عد المركز العام وتحولت بيوت الإخوان إلى شعب ونشطت الأسر والكتائب واشتدت الرقابة إلى أن قابل الأستاذ البنا رئيس الوزراء ليسأله عن سبب غلق الشعب فأطلعه على تقارير المسئولين التي تشير إلى تآمر الإخوان على الحكم وعلمت وقتها من الأخ محمد الخوالقة الذي كان على اتصال بالمركز العام – أن من أسباب الغلق :

- تقارير كتبت بأن الذى أصدر قرارات الإخوان هو المجلس الثوري ,

وصحح الإمام البنا للنحاس باشا هذا النقل غير الأمين فالإخوان لهم ( مجلس شوري ) وليس ( مجلس ثوري ).

- ومن بين التقارير جملة منقولة عن محاضر جلسات الإخوان وهي " وعي الإخوان أن ينيروا الشعب .." فنقلت لرئيس الوزراء " وعلى الإخوان أن يثيروا الشغب ..".

كما كان من أسباب الغلق أسباب خارجية : فقد أرسلت السفارة البريطانية في مصر تقريرا إلى الخارجية البريطانية تقول : إن العلماء يهاجموننا على المنابر ونحن لا نخشاهم ولكننا نخشى الإخوان المسلمين لأنهم قوم عمليون.

- واقتنع رئيس الوزراء برد الأستاذ البنا وصدر الأمر بفتح الشعب وقام وزراء الوفد بزيارة المركز العام إثباتا لحسن النيات .

الحزب السعدي وبقية الأحزاب :

كانت الأحزاب الموجودة في مصر وقتها لا وزن لها بجانب حزب الوفد فما هي إلا مجرد لافتات قليلة الأنصار مثل حزب الأحرار الدستوريين والحزب السعدي وحزب مصر الفتاة وحزب الكتلة الوفدية ولم يكن بيننا وبينهم صدام كما كان مع حزب الوفد غير أن المتاعب كانت من سياسة حكومات هذه الأحزاب .

فحكومة السعدين الأولي ورئيسها النقراشي باشا ضايقت الإخوان كثيرا وكانت أبرز المضايقات محاربة الجريدة اليومية وحكومة صدقي باشا جاءت في حضانة الإخوان في بادئ الأمر لتنهي مفاوضات الجلاء مع الإنجليز ولما لم تفلح انقلب رئيسها على الإخوان وحاربهم وأسقطه الإخوان بعد ذلك .

يوم الحريق في دمنهور:

وصلتنا تعليمات من المركز العام بأن نقوم في يوم محدد بعرض عام لجوالة الإقليم, وبعده نشعل الحريق في ميدان عام في كومة من الكتب والجرائد الانجليزية على أن يتوسطها العلم الانجليزي أثناء الإحراق بينما نردد الهتافات العدائية ضد الانجليز وحكومة صدقي وأرسلت التعليمات من إدارة الجوالة للحضور إلى الشعبة الرئيسية قبل صلاة العصر على أن يرتدي الأخ الزي الكشفي ويعلوه الجلباب وتوضع الأعلام والأدوات في ( جوالات ) وفي الموعد المحدد حضر المئات من الأقاليم وصلنا العصر .

وكنا قد رتبنا أنفسنا لإنجاح العرض فكلف الأخ حمزة الجميع صديقه الصيدلي الدكتور فاضل بأن يشغل مأمور البندر – الذي يتخذ الصيدلية مكانه المختار – بعد صلاة العصر وكلف اثنين من الجوالة بالتواجد داخل البندر بدراجاتهم لملاحظة تحركات البوليس وإخطار مسئول العرض عنها أولا بأول .

وكلف الطلبة من غير الجوالة بإعداد قفصين كبيرين تكدس فيهما الكتب الانجليزية وبصنع علمين انجليزيين, والتوصية بوضع الملح بين طبقات الكتب لإحداث فرقعة أثناء الحريق وحدد ميدان قهوة يونس وشبرا لإشعال الحريق على أن ينتشر الإخوان في الأوفة المطلة على الميدان الأول والثاني انتظارا لإشارة البدء .

ونعود إلى الجوالة ففي دقائق كان الطابور قد انتظم ونادي قائده على الجوالة بالسير على دقات الطبول وكان قسم الشرطة أول ما نلقاه في طريقنا ومررنا به وهو خاو من الجنود لتواجدهم في دوريات في شوارع المدينة ولم يكن بت سوي الضابط النوباتجي وجندي للخدمات .

وواصل الطابور المسير حتى وصلنا إلى صيدلية فاضل وبداخلها المأمور وقد بالغ الدكتور فاضل في إلهائه فأفاق المأمور على صوت دقات الطبول وعرض ضخم للجوالة وقد كانت لديه تعليمات مسبقة بمنع ذلك كله فهرول إلى البندر ليجمع شتات جنوده وإخوان المراقبة يأتون إلينا بالأنباء أولا بأول.

وواصل الطابور سيره حتى وصلنا شعبة ( القلعة) لنسحب البوليس خلفنا ونمكن إخواننا في ميدان يونس من إحراق العلم الإنجليزي.

وقد كانت شعبة القلعة اسما على مسمي حيث إن لها سور يحجب رؤية الموجودين بداخلها عن المارة أمامها في الشوارع المحيطة بها .

وما أن دخلنا شعبتنا وأغلقنا بابها حتى كانت اللوريات قد وصلت بالجنود وحاصرت الشعبة لمنعنا من مواصلة العرض في بقية شوارع المدينة وتحدث مسئول الجوالة إلى الإخوان بكلمة حماسية وطلب من إخوان الأقاليم أن يستعدوا للرحيل على أن يرتدوا الجلابيب أثناء الخروج , وواجهتنا عقبة خروجهم وكيف نصرف أنظار البوليس ؟!!.

فأخذ المسئول يجمع كل خمسة أفراد على حدة ويعطي أمرا بدق الطبول فيظن البوليس أننا نستعد للخروج وينزل الجنود من السيارات لمنع العرض فيخرج الخمسة دون أن يلفتوا نظرهم وأخذنا نكرر هذه الحالة وبعد كل فترة سكون تدق الطبول ويخرج الفوج إلى أن خرج الجميع وبقت جوالة مدينة دمنهور .

وكلف الأخ وهبي الفيشاوي بالصعود فوق السور ومعه كاميرا يتصنع بها التقاط صور لقوات الشرطة فكانوا يعمدون إلى الاختفاء منه وأخذنا نشاغلهم إلى أن حان موعد صلاة المغرب ونحن محاصرون بقوات البوليس بينما كان الإخوان قد تجمعوا في ميدان يونس حول الحريق يهتفون الله اكبر ولله الحمد وبسقوط الحكومة والإنجليز وتركوا النار تتلظي على صوت فرقعات الملح.

وفيما نحن جاء الأخ أحمد الوليلي يطمئننا على نجاح الخطة وف نفس الوقت جاءت المعلومات بالحريق إلى القوات المحاصرة التي تحركت بسياراتها إلى ميدان ونس .

ونعود إلى حريق شبرا حيث اجتمع الإخوان في الميدان وجئ بقفص المجلات من مسكن أحد وأشعلت النيران وترددت الهتافات وانصرف الإخوان تليفونيا وكانت النار على وشك أن تنطفئ فنصح صاحب محل بقالة الجندي بوضع " الجاز" على لنار لتظل مشتعلة حتى يحضر البوليس وكان منظرا لطيفا أن يتعاون واحد من البوليس في استمرار اشتعال النار حتى جاءت القوة ونفذت الخطة بدقة دون أن يقبض على أحد.

وانتظرنا الصباح لنستقبل الصحف وفيها نبأ استقالة حكومة إسماعيل باشا صدقي .

مع حكومة النقراشي الثانية

جاءت والمشاعر ملتهبة ضد الانجليز وأبدي الإخوان استعدادهم للتعاون معها على أن تصرف النظر عن مفاوضة الانجليز وتعرض القضية على مجلس الأمن وحاربها حزب الوفد ليحول بينها وبين عرض القضية باسمها دون أن يكون الفضل للحزب .

وسافر رئيس الحكومة إلى نيويورك فعمد حزب الوفد إلى طعنة من الخلف بأن أرسل برقيان إلى مجلس الأمن يعلن أن النقراشي باشا لم توكله الأمة في عرض القضية ورأي الإخوان أن ينصروا الرجل ويحموا ظهره فصدرت التوجيهات من المركز العام أن نطوف قري الإقليم ونأخذ توقيعات الناس بتوكيل النقراشي باشا لعرض القضية على مجلس الأمن باسم الشعب المصر ي وكتبت التوكيلات من سبع نسخ قضينا في إعدادها الليل والنهار وانتشرنا في قري الإقليم وفي أيام معدودة كانت معدة بحجمها الضخم وأرسلت إلى المركز العام ليتسلمها الخ مصطفي مؤمن ويطير بها إلى نيويورك لشد أزر النقراشي باشا.

فلسطين

بدأت قضيتها تظهر على مسرح العمل الإخواني قبل الأربعينيات وكان من مقتضياتها الآتي :

النظام الخاص :

بدأ في شكل مجموعات غير معلنة مكونة من خيرة شباب الدعوة مختلف الأسلحة ولم يكن لكثير من القيادات العامة بالمكتب الإداري علم بهذا النوع من النشاط وبدأت إقامة المعسكر للتطبيق العملي للدراسات العلمية والعملية .

معسكر الحدي ( كنموذج لمعسكر خاص ):

أعد كل منا حقيبته واتجهنا إلى مدينة كوم حماده وف الصباح توجهنا سيرا على الأقدام لمسافة 15 ك تقريبا إلى قرة الحدين واعترضنا مانع مائي – وهي ترعة الحاجر – وكان لابد من عبورها فأخرج مسئول المعسكر من حقيبته قاربا مطاطيا ونفخه وعبرنا بت إلى الشاطئ المقابل للصحراء وفي مكان آمن أقيم المعسكر ثلاثة أيام تم التدريب فيها على مختلف الأسلحة والتمرين على إصابة الهدف وتطبيق الدروس . النظرية على الطبيعة وفي اليوم الثالث عدنا من حيث أتينا .

ونشط إخوان لنظام الخاص واستقطبوا العديد من شباب الدعوة العاملين وكاد النشاط العام يتوقف بعد أن اختف الذين كانوا يقومون به وصار بالنسبة لنا عملا ثانويا ورفع الأمر إلى الأستاذ المرشد فأصدر تعليماته بأن يشارك إخوان النظام الخاص في العمل العام وحضر بنفسه إلى البحيرة واجتمع بمسئولي هذا النشاط وأعطاهم أمرا بتحمل مسئولية تنشيط العمل العام .

دأبنا بعد الحرب العالمية الثانية بالدعاية للقضية الفلسطينية وذلك بإقامة الحفلات وتوزيع المنشورات والعناية بتدريب الجوالة على مبادئ العمل الجهادي وأذكر أننا خرجنا في رحلة إلى الصحراء الواقعة غرب مركز كوم حماده وهنا كان التدريب على إصابة الهدف والتسلق والزحف والصعود إلى أعلي التلال والهبوط منها .

وبينما كان النوباتج المكلف بالحراسة يعتلي نخلة وبيده منظارا مكبرا يرقب بت التحركات حول المعسكر شاهد اثنين في زى مريب قادمين نحونا وعلى الفور هبط وأخبر المسئول فقمنا بفض المعسكر بعد أن أخفينا السلاح بجوار النخلة تحت الرمال وتبين لنا أن القادمين كانا مخبرين وبعد أيام عاد من يحفر مكان قطع السلاح وستخرجها.

شراء السلاح لمعركة فلسطين

كلفت بهذه المهمة لجنة وادي النيل بالقاهرة وكان من أعضائها أحمد على علوية باشا وصالح حرب باشا والأستاذ المرشد وتحمل الإخوان عبء شراء السلاح وكلف الأخ الشيخ أحمد عبد الحميد بشرائه من عرب الصحراء الغربية حيث كان بها سوق رائجة لبيع السلاح من مخلفات الحرب العالمة الثانية وسافر الرجل إلى هناك وكان يشتري ما يطيق حمله ويذهب به المركز العام وداوم على أداء هذه المهمة الشاقة شهورا ووفقه الله في جمع الكثير من السلاح .

فتح باب التطوع:

وأعلن عن فتح باب لتطوع للحرب في فلسطين ضد اليهود وأرسلت استمارات التطوع من المركز العام لملئها بمعرفة الإخوان المتطوعين وكان من شروطها أن يحضر المتطوع موافقة كتابية من والديه على تطوعه وأقبل الكثير على ملء هذه الاستمارة رغم عقبة موافقة الوالدين وقام الدكتور محمد حسين غراب بالكشف على جميع المتطوعين وتكفل أثرياء الإخوان بتجهيزهم وسافروا إلى القاهرة ومنها إلى فلسطين فمنهم من قضي نحبه ومنهم من عاد يحدثنا عن ذكريات الحرب.

قصة إيثار

كان ذلك عام 1947 وكنت وقتها أستعد لهدم بيتنا القدم في كفر الشيخ لإقامة مسكن جديد مكانه , وكنت قد ادخرت مبلغا من المال في صندوق البريد لم يكف متطلبات البنا ء وفي ذات يوم أردت أن أودع بالبريد جزءا من المرتب زاد عن حاجتي ولكنني كنت منشغلا بأمر ما فطلبت من الأخ طه إمام أن يقوم بمهمة الإيداع وسلمته دفتر التوفير وعاد من مكتب البريد وسلمني الدفتر فأخذت أراجع مجموع المبلغ المدخر كالعادة فوجدته قد تضاعف فظننت أن موظف البريد قد أخطأ وسألت الأخ طه هذا ففاجأني بقوله :" إنه يعلم أنني مقبل على بناء مسكني ووجد أن المبلغ المدخر لا يكفي وهو مقبل على الزواج ويمتلك مهر العروس فآثر أن يضيف لرصيدي هذا المبلغ ويرجئ هو موضوع الزواج إلى أن أتم بناء البيت وبعدها يسترد ما أودعه على أقساط "

وسعدت كثيرا بهذا الإيثار الذي لا نعرفه إلا في تاريخ سلفنا الصالح وحاولت أن أثنيه عن عزمه ولكنه رفض بشدة وشاء الله ألا أستفيد من هذا المبلغ فقد صدر قرار اعتقالي ومكثت معتقلا أربعة عشرا شهرا وفي المقابل فقد تأجل زواج الأخ طه هذه الشهور وانتظر حتى أفرج عن وأعدت له مهره وقد ترك تصرفه في نفس أطيب الثر وأجمل الذكريات..

وظيفة مهندس ببلدية طنطا :

قرأت إعلانا فى احدي الصحف بطلب مهندسا ببلدية طنط حمل مؤهلي وكان المستقبل في الوظيفة التي أشغلها بتفتيش المساحة غير مشجع وعلى الفور ملأت استمارة وأرسلتها باسم مدير مديرية الغربية وبعد أيام جاءني خطاب من البلدية يدعوني للحضور ومعي مسوغات التعين إذ تقرر اختياري مهنديا في البلدية وذهبت إلى هناك وقابلني رئيس شئون المستخدمين بالترحاب وسألني : من واسطتك , فقلت له : لم أوسط أحدا . فقال : كلا لقد كان مرفقا بطلبك كارت توصية من شخصية عظيمة حظيت باهتمام سعادة مدير المديرية فأشار على طلبك بالموافقة دون عشرات الطلبات المقدمة .

وعجبت للأمر وكان مفروضا أن أسعد باختياري لهذه الوظيفة فهي تناسب مؤهل وتخصصي عير أنني كنت أشعر بالحنين إلى إخوان دمنهور وقام الموظف المختص لريني الموتوسكل المخصص لمروري وكان جديدا لم يستعمل من قبل وغلب على الحنين إلى البحيرة ولاحظ الموظف ترددي وطلب مني أن أحدد موقفي فطلبت منه طلب التوظيف وكتبت على ذيله " أرجو إرجاء تعييني لفترة من الوقت" وضاعت الوظيفة وعدت إلى عملي لأبقي في مدينة دمنهور التي أحببتها بسبب إخوانها.

الفصل الثالث: حل الجماعة

قبل يوم 8 ديسمبر 1948 علمنا من الإخوان المسئولين بنية الحكومة لحل الجماعة وقضينا يوم 7 ديسمبر بالشعب نخليها مما بها من الأوراق ونقلنا الأثاث والأشياء المهمة إلى المنازل بشقة القلعة حتى سمعنا نشرة الساعة 11 مساء وأذاع المذيع الأمر العسكري بحل جماعة الإخوان المسلمين .

ذهبت إلى المنزل أرقب ما يطلع به الغد وسهرت أعد كشفا بالتشكيل الجديد واخترت المسئولين في كل شعبة ومنطقة والمكتب الإداري ممن لا أتوقع اعتقالهم وما أن عزمت على النوم وكانت الساعة الواحدة صباحا حتى تنبهت إلى خطورة هذه الورقة وما بها من أسماء لو وقعت في يد البوليس فمزقتها وقذفت بها من النافذة وما أن أغلقتها حتى سمعت طرقا على الباب فأحسست بأنهم رجال المباحث وفتحت الباب وصدق ما توقعته , كانت قوة من المخبرين على رأسها الصول ( بلال) وطلبوا مني تفتيش الشقة وقاموا بالتفتيش ولم يعثروا على شئ فطلب من رئيس القوة أن ألبس للذهاب معه إلى البندر لمدة خمس دقائق أعود بعدها إلى منزلي فصدقت ولبست ونزلت دون أخذ أى ملابس ووجدت اللوري أمام الباب فركبت من الخلف وكنت وحدي وطاف بنا اللوري على بعض منازل الإخوان ليعتقلوهم وركبوا معي ووصلنا إلى البندر وأدخلونا غرفة السجن فوجدت بها أخوة كراما سبقوني إليه وتكامل عددنا خمسة وكان من بيننا الحاج عبد القادر عثمان رئيس شعبة صلاح الدين والحاج أحمد سيد أحمد سكرتير المكتب الإدارة والأستاذ كرم مندوب الطلبة وبعضا من التجار والعمال والموظفين والطلبة جلسنا جميعا على " الأبراش" ولم تغفل أعننا فقد أحسسنا بحشرة ( البق ) تزحف على ملابسنا وأجسامنا في ظلام الغرفة الدامس.. إلى أن حان وقت صلاة الفجر فإذن أحدنا وتيممنا وصلينا الصبح جماعة .

أهالي المعتقلين

وما أن طلع النهار حتى غصت ساحة البندر بأهالي المعتقلين وسمح لنا بدخول الطعام وبدأت الأمهات والزوجات تنقل الطعام لذويهم وسمح للمعتقلين بالملابس المرسلة لهم من أهليهم ولما لم يكن أهل في دمنهور فقد ظللت ببدلتي أنام وأقوم بها إلى أمن فؤجئت بزميل لى في العمل مسيحى حضر إلى ويفتح باب السجن ليسلمن جلبابا ووسادة فشكرته على حسن صنيعه, وظللنا نترقب الأخبار ولم يكن يسمح لنا بدخول دورة المياه إلا بعد العاشرة مساء وحضر إلينا ضابط مسئول يسألنا عن حاجاتنا فطلبنا دهان السجن بفرشة جر للقضاء على أوكار البق التي كانت تكسو السقف والحوائط وفي اليوم التالي أغلق البندر وشددت الحراسة وخرجنا إلى الفناء بأمتعتنا وحضر الصناع الذين قاموا بالدهان بينما نعرض نحن أجسامنا وملابسنا وأمتعتنا لحرارة الشمس للتخلص من حشرة البق وفي آخر النهار أعادونا إلى السجن وقد حضر إلى صراف التفتيش لتسلم بدل سفر مستحق كما تمكن الأخ عبد المنعم مكاوي من الإتصال بي لأخذ معلومات عن منزلي الذي كنت قد حفرت له الأساس في بلدتي بكفر الشيخ وتولي هو القيام بإجراءات البناء وظللنا بسجن البندر ما يقرب من خمسة أيام ونحن محرومون من الراحة لضيق المكان حتى فوجئنا في صبيحة اليوم الخامس بأحد الضباط يطلب منا الاستعداد للرحيل من البندر فحملنا أمتعتنا وخرجنا إلى بوابة البندر لنجد سيارة أتوبيس تنتظرنا فأقلتنا ومعنا حراسة مشددة واخترقت بنا شوارع دمنهور لتقف بنا أمام باب شعبة صلاح الدين التي حولها البوليس إلى معتقل مؤقت وخصص غرفة الإدارة لإقامتنا وكان بالشعبة حوش به ملعب للكرة الطائرة ودورة مياه ولها سور يعلو عن الأرض أربعة أمتار .

ارتاحت نفوسنا لعودتنا إلى شعبتنا وانطلقنا بعد قيد , ووضعنا لأنفسنا برنامجا بديعا خصصنا فيه وقتا للعبادة وآخر للرياضة وآخر للسمر والقراءة وكلف أحد متعهدي التغذية بتوريد الوجبات الثلاث ولكنه لم يكن متقنا لعمله فطلبنا تغييره فاستبدل بصاحب أفخم مطعم في دمنهور وهو من أحد عائلات دمنهور العريقة وزاد اهتمامه بنا لأن معنا الكثير من أبناء عائلات المدينة .

إخوان الأقاليم

وبدأ يفد علنا بعض من إخوان الأقاليم منهم الحاج مبروك هنيدي ثم وصل إلينا أخ يرتدي ملابس ملازم أولا وكان قادما من فلسطين فاعتقل وانضم إلينا وكان يرتد سترته الرسمية بالنهار فيقوم جنود الحراسة بتحيته إلى أن حرمه الضباط وأخذ السترة منه .

قوة الحراسة :

كان على رأس القوة ( كونوستابل ) واحد للنهار وواحد لليل. وكانوا طيبين وكان احدهم اسمه " محمد " محببا إلى قلوبنا , فكان إذا أقبل المساء وبدأنا في حفل السمر بعد صلاة العشاء اشترك معنا فيه وافتتح الحفل بتلاوة القرآن الكريم بصوته وكان يتقن تقلد الشيخ محمد رفعت وسمح لعائلات الإخوان بزيارتهم كما سمح لنا بالمصحف .

مدير المديرية:

وتوالت زيارة مدير المديرية لنا وفي كل زيارة يعدنا بوعود كاذبة حتى صرنا لا نعبأ بزيارته لتفاهته , وكنا نسمه نشرات الأخبار من الراديو الذى كان جيراننا من سكان العمارات المجاورة للمعتقل يضعونه في نوافذ الشبابيك ونظمنا مباريات رياضية وسمح لنا بأدوات الرياضة .

الأحلام :

اعتدنا في كل صباح أن يذكر كل منا ما رأي من رؤي وفي صبيحة أحد الأيام حدثنا الحاج مبروك هنيدي عن رؤيا رآها في هذه الليلة تأويلها الذي أولناه وهو قتل النقراشي باشا رئيس الوزراء وما أن وافت الساعة 11 صباحا حتى جاءت الإذاعة باغتياله فتوقعنا شرا بعد أن سمعنا من المذيع أن قاتله من الإخوان المسلمين .

الحراسة:

شددت الحراسة وضوعفت وفرضت علينا بعض القيود كما توقعنا وفي اليوم التالي مر علينا ضابط برتبة كبيرة وكان يحدثنا بأدب جم ويعتذر عن اعتقالنا وهنا أحسسنا بأنه ينشد ودنا ظنا منه أن اغتياله ومن على شاكلته مقدرا .

الترحيل للهايكستب

وظللنا نرقب الأحداث إلى أن فؤجئنا قبل أذان الفجر بسيارة أوتوبيس تقف أمام باب المعتقل ويدخل علينا ضابط برتبة كبيرة ونحن نتوضأ ليقول لنا إن دولة رئيس الوزراء يطلبكم لمقابلته للتحدث معكم تمهيدا للإفراج عنكم فتنبهنا على الفور أنه تقرر ترحلينا , وافهمنا الضابط ذلك وصلينا وأعددنا أمتعتنا وركبنا الأتوبيس وبجوار كل واحد منا جندي مسلح وتحركت السيارة قبل شروق الشمس ونحن نردد الأناشيد والهتافات في شوارع المدينة وفي كل بلدة نمر بها إلى أن وصلنا إلى ميني محافظة القاهرة فنزل الضابط المرافق وبعد ربع ساعة حضر إلينا ضابط آخر من المحافظة وتحركت بنا السيارة إلى أن وصلنا إلى معتقل الهايكستب ووجدنا في المعتقل كثير من إخوان القاهرة والمركز العام فاستقبلنا المسئولون بالترحاب والعناق وأوسعوا لنا في الأسرة واشتركنا كل اثنين في سرير ووزعت علينا الأغطية وكان الجو باردا ونمنا ليلتنا لنستيقظ قبل الفجر على صوت أخ وابنه يطوفان بالمعتقل لإيقاظ الأخوة وهم يرددون نداء عذبا في صوت جميل يقولان :

يا نائما ومستغرقا في المنام
قم واعبد الحي الذي لا ينام
موالاك يدعوك إلى ذكره
وأنت مشغول بطيب المنام

فقمنا جميعا نتوضأ وصلينا الصبح وتريضنا وتناولنا طعام الإفطار .

الترحيل لجبل الطور

وفي الساعة العاشرة صباحا وصلت لوريات قوات من البوليس ودخل أحد الضباط المعتقل ومعه كشف بأسماء 250 أخا تقرر ترحيلهم إلى جبل الطور وأخذ إخوان المركز العام يتبادلون الخطابة لتحيتنا.

مثل للإيثار:

دخلت لإحضار حقيبتي التي جئت بها من دمنهور وليس بها إلا بعض الملابس الداخلية ففوجئت بها وقد زاد وزنها لدرجة استعصي علي حملها ففتحتها ظنا مني أنها ليست حقيبتي لأجد بها من الملابس الخارجية والداخلية والأحذية الشئ الكثير فأخذت أتعجب وإذا بي أري عن كثب الأخ" محمود ابو شلوع " وهو يرقبني فقدم على يسألني إن كان يلزمني شيئا غير هذا لإحضاره فقلت : هذا كثير فقال أنتم ذاهبون إلى بلد ناء ونحن هنا نستطيع أن نحضر كل ما نطلب فشكرته وأبي إلا أن يحمل الحقيبة ويوصلني بها إلى اللوري وتحركت اللوريات وسط الهتاف والدعاء ووصلنا إلى محطة السكك الحديدية المجاورة لنا لنجد قطارا طويلا في انتظارنا وتحرك بنا إلي مدينة السويس وخصصت عربة لمعتقلي الشيوعيين وصرنا نردد الأناشيد والهتافات إلى أن وصلنا بعد الظهر إلى مدينة السويس .

الباخرة عايدة :

وقف بنا القطار قبالة الميناء ونزلنا منه وعبرنا الطريق لنجد الباخرة " عايدة " في انتظارنا وهي باخرة صغيرة كانت مخصصة لنقل المياه والأغذية لعمال الفنارات ولم يكن بها أماكن للنوم فصعدنا على ظهرها واستقر بنا المقام في مؤخرتها بينما احتل الشيوعيون مقدمتها ورافقتنا قوة من الحراسة وأقام ضابط القوة معنا وتحركت بنا الباخرة في طريقها إلى جبل الطور وقبل الغروب أخذنا نستمتع بأضواء الشمس وهي تختفي خلف المياه لترسل أشعتها بألوان جذابة وصلينا المغرب وتناولنا طعامنا وجلسنا القرفصاء علينا الأغطية إلى أن جاء الفجر والباخرة تمخر عباب الم فأذن للصلاة وصلنا وقرأنا وردنا حتى جاء وقت شروق الشمس وبدأت أشعتها تنساب من خلف جبل الطور في منظر خلاب استمتعنا بت ساعة وفي تمام الساعة الحادية عشرة كانت الباخرة في مقابل كتلة سكنية على الشاطئ فعلمنا من ضابط القوة أنها مدينة الطور وأننا صرنا على مقربة من الميناء فأخذنا نستعد لنزول إلى أن رست الباخرة ونزلنا بأمتعتنا وجلسنا في الميناء ولا نري حولنا إلا بعض الأبنية ورمال الصحراء وعلى بعد حوالي 300 متر شاهدنا المعتقل ولم يكن علينا قيود فقد تركتنا قوة الحراسة إلى الحكمدار والجبل أمامنا والبحر وراءنا .

الوصول للمعتقل

حضر إلينا أخ مسئول من لمعتقل حيث كان قد سبقنا إليه من أسبوعين خمسة عشر أخا منهم بعض أعضاء مكتب الإرشاد وأخوة الأستاذ البنا الأربعة وتحركنا معه إلى المعتقل وهناك استقبلنا الإخوان المسئولون بالعناق وخصصوا حجرة لإخوان البحيرة والمعتقل يتكون من " حزاءات " خمسة كل حزاء ما يقرب من عشرين غرفة " 6×10 تقريبا" يتوسطه مصلي بها حنفيات مياه عذبة وبجوارها دورة مياه ملحة وطول الحزاء يقرب من مائتي متر يتوسطه فناء واسع استعمل للرياضة, ويحط بت سلك شائك ليه أبراج الحراسة ونزلنا في حزاء رقم 3 ونزل الشيوعيون في حزاء رقم 4 وبين كل حزاء ما يقرب من 100 متر , وبتنا في حجرتنا بعد أن مررنا على الحجرات الأخري مصافحين وأخذنا فكرة عن نظام الإيواء فكان مخصصا لكل واحد لوحين من الخشب وبطانية ورتبنا أماكن النوم وكان عن يساري الأخ " محمد عبد الرحمن" الطالب بالصنايع وعن يميني الأستاذ " محمد كرام " وخرجنا بعد العصر مع الإخوان إلى الميناء فكانت متعة عوضتنا عن متاعب السفر ومفارقة الأهل ووصلنا إلى الساحل ونزل الإخوان إلى الماء يصطادون القواقع وقبل المغرب عدنا جميعا إلى المعتقل وقد فتحت أبواب المدخل دون قيود.

خطاب المرشد :

دعينا إلى لقاء في المصل قبل المغرب وتلا علينا الأستاذ " البهي الخولي " خطابا من المرشد العام موجها إلينا جميعا لينبئنا أنه اختار الأستاذ " البهي الخولي " نائبا عنه ومرشدا للإخوان بجبل الطور وفي الخطاب يطلب منه أن يختار إثني عشر نقيبا تيمنا بما فعل سيدنا موسي عليه السلام ليعاونوه في إدارة المعتقل .

نمنا ليلتنا وكنا مرهقين من سفر البحر وقبل الفجر استيقظنا على صوت المنادي للصلاة فصلينا الصبح في المصلي في الظلام حيث تطفأ الأنوار الساعة 12 مساء ثم قرأنا الأوراد وقادنا أحد الإخوان ف طابور رياضي ومعنا الشيوخ وبعده تناولنا الإفطار وخرجنا إلى شاطئ البحر لنزاول صيد القواقع والمحار وكان منظرا خلابا .. قواقع من مختلف الأحجام يصل طول بعضها إلى 30 سم وبألوان جذابة ومحارات تتحرك على سطح الماء تزن الواحدة خمس ( أوقيات ) يحركها جنين لا يزيد عن عقله الإصبع.. وهذا جسن شفاف في شكل المنديل تتوسطه نقطة سوداء هي الكائن الحي الذي يحرك هذا المنديل ذي النقوش المنتظمة وما أن تخرجه من الماء حتى يذوب تدريجيا ويتلاشي وهذا حيوان بحري ما أن يحس بوقع أقدامنا حتى يحول المنطقة إلى بقعة سوداء مستديرة قطرها ثلاثة أمتار تقريبا وتحت هذا السواد يفر من المنطقة وهذا ( قنفد البحر) ذو الشوك الخطر الذي يهاجم السيقان البشرة وترك أسنانه المدبية داخل اللحم وهو أخطر أنواع الحيوانات البحرة وقد حذرنا منه عرب الطور وبعد ذلك سمك القرش عدو البشر الذي يقضي على فريسته في الحال حين يعثر عليها وقد لا حظنا أن حركة الصيد لهذه الأشياء مرتبطة بالمد والجذر.. فحين المد يقذف بها البحر إلى الشاطئ وعند الجذر يتركها سهلة الصيد سهلة المنال .

وكنت وزميل لى وهو الأخ " عزت خطاب " نخصص ما قبل الظهر للصيد وما بعد العصر نتسلق فوق قوارب خفر السواحل على الشاطئ نحفظ القرآن .

الطعام :

قدمت إدارة المعتقل وجبات الغذاء الثلاث من العدس والفول المخلوط بالرمال و في أيام وجبات اللحوم يوزع اللحم نيئا والطهي غر مستساغ فاتصل الإخوان بالحكمدار الذي وافق على تسليمنا وجباتنا بدون طهي ليقوم الإخوان بتوزيعها على الحجرات لتتول كل حجرة إعداد طعامها وخصصنا نوبتجيه للطعام يوميا وجعلنا يوما في الأسبوع نتناول فيه السمك وكنا نشتريه من الصيادين بأحجام كبيرة لا تقل السمكة عن كيلوا جرام وعليها غطاء ذو ألوان عجيبة حتى إننا عند تنظيفها كنا نتألم لإزالة هذا الغلاف الربان الذي تكتسي به هذه الأسماك.

تأسيس المعتقل :

ابتكر الإخوان وسائل لتأثيث حجراتهم فقاموا بعمل أسرة من ألواح الخشب وضعوها على أربعة صفائح معبأة بالرمال , ويغرس عدد من الشجر في الصفيحتين المجاورتين للحائط لوضع عليها ملاءة " كناموسية" وصنعت دواليب حائط من أقفاص الجريد تغطي بقطعة قماش كما صنع براد الشاي من علب السلامون , والأكواب من علب اللبن وصنعنا عباءات من البطاطين للتدفئة في الشتاء واستعملت المحارات الكبيرة لحفظ الطعام وقمنا بتصنيع شنط كبيرة لنودع فيها القواقع والمحار من صفائح الجبنة .

إخوان الطور

إعتاد أهل الطور أن يروا الحزاءات في غالب شهور السنة مشغولة بالمجرمين الذين تنفيهم الدولة إلى معتقل الطور وللأهالي قطيع من الماعز يدخل المعتقل من خلال الأسلاك الشائكة بحثا عن الطعام ويندر أن تعود الماعز إلى صاحبها إذ يصطادها هؤلاء الخطرون ويذبحونها ولكنهم لاحظوا أن المعتقلين في هذا المرة قوم أمناء .. يدخل الماعز معتقلهم ويعود دون أن ينقص فلفت ذلك نظرهم ولما سألوا علموا أن المعتقلين هم " الإخوان المسلمون " وفوجئنا يوما بقدوم وفد من أهالي مدينة الطور وطلبوا مقابلة المسئول وقدموا له أنفسهم على أنهم إخوان شعبة مدينة الطور وعلمنا أن الإمام الشهيد عند تأديته فريضة الحج وإقامته مدة الحجر الصحي اتصل بأهل المدينة وكون الشعبة ووضع لها النظام الإداري وأبدوا استعدادهم للقيام بأى خدمة وقد كان لهم دور مهم سيظهر فيما بعد .

رحلة إلى مدينة الطور

اتفقنا نحن سبعة من إخوان البحيرة على الخروج في رحلة إلى مدينة الطور ومعنا الحاج مبروك هنيدي , خرجنا صباحا ملازمين الساحل مسافة أربعة كيلو مترات حتى وصلنا مدينة الطور , وتجولنا داخلها وصلينا الظهر بالمسجد واشترينا طعام الغداء وتناولناه خارجها كان الجو منعشا والحرارة معتدلة فأغوانا ذلك بالصعود إلى جبل مجاور للمدينة يعلوها بحوالي مائة متى وبعد جهد وصلنا إلى القمة وصلينا العصر وأخذ الحاج مبروك يدعو على الظالمين ونحن نردد خلفه الدعاء واسترحنا قليلا ثم بدأنا في الهبوط وعند المهبط وجدنا شقوقا بالجبل تندفع منها المياه الدافئة العذبة كنافورات تتجمع في حوض واسع فنزلنا واستحممنا جميعا بماء دافئ وتذكرنا عيون موس التي وردت فى القرآن وحسبناها هي كما فسرنا هذا المظهر بقوله تعالي :( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) البقرة 74)

كانت الشمس قد قاربت على المغيب ودفعنا الفضول إلى متابعة مسار المياه التي وجدناها تصب في غابة ضخمة كثيفة الأشجار يتوسطها قصر أبيض وتوجه أحدنا وهو الأخ " علي شرف " إلى داخل الغابة ونحن ننتظر خارجها وبعد دقائق سمعناه يستغيث ويطلب النجدة لأنه ضل طريق العودة فتشابكنا بالأيدي ودخلنا الغابة في شكل قاطرة وطلبنا منه أن يردد الصوت حتى اهتدينا إلى مكانه وعدنا به من حيث أتينا وعلمنا أن الغابة والقصر مخصصان لرهبان سانت كاترين الذين يأتون إلى هنا للاستجمام وكان المغرب حان فأسرعنا الخطي إلى المعتقل ودخلناه بعد العشاء فوجدنا الإخوان قد شغلوا من أجلنا.

حزاء العمدة

أقام الحاج محروس وهو عمدة لإحدى قري مدرية سوهاج في آخر حزاء ومعه إخوان كرام فنصبوه عمدة عليهم وخصصوا له حجرة عند المدخل زينوا مدخلها بنقوش على شكل أزهار من القواقع المرصعة على قمة مرتفعة تسر الناظرين, واختار هو اثني عشر شابا كخفراء مع كل خفير" نبوت" والجميع طوع إشارته وبدأ أوامر ( العمودية) بأن كلفهم بمهاجمة حزاء رقم 1 وكان مغلقا لأنه مخصص لكبار الحجاج من ذوي الرتب والألقاب وبه جميع الكمالات التي لا توجد إلا في افخم القصور فأمرهم بتزويد الجزاء بجميع المتطلبات من أغطية ومفارش وفوط وصيني وملاعق وشوك وسكاكين وصوان وما إلى ذلك ودهشنا حين قدم لنا الشاي في فناجين فاخرة على صينية فخمة واستعرضنا غرف الحزاء فبهرنا تأثيثها فعزمنا على تقليدهم وخاصة أننا مجاورون لحزاء (1) وبعد العودة نظمنا الهجوم وجلبنا ما نحتاجه من ( الصيني ) وخلافه .

جنود الحراسة :

لاحظنا أن جنود الحراسة يجوعون بسبب قلة الطعام ولأن الغذاء يتناوله الضباط فتكلفت كل حجرة بجندي الحراسة الذي يقابلها تسلمه وجبة كاملة على ثلاث دفعات مما ألف قلوبهم وجعلهم معنا على وفاق .

المذكرات :

وبدأت أكتب أحداث المعتقل يوما بيوم وأحفظها في مكان لا تتجه إليه الشبهات كما قمت بالتجول في منطقة المعتقل ومقر الحكمدار والكابتن والميناء وعملت خريطة بمقياس مصغر واستعنت بخطوة قدمي في تقدير المسافات.

الخطابات :

وبدأت الخطابات تصل إلينا من ذوينا كما بدأت الطرود تصلنا مع الباخرة عايدة تأتينا كل أسبوعين أرسل البعض حوالات كانت عونا لنا على متطلبات المعيشة .

راديو:

استطاع أحد الإخوان إحضار " راديو" أوصلنا بالدنيا وحفظه هذا الأخ في غرفته في مخبأ لا يعلمه سواه وتعود أن يستعمله بعد نوم الإخوان ليسمع منه إلى نشرات الأخبار بالإذاعات الأجنبية والعالمية .

النبأ المفجع

وفي صبيحة يوم 12 فبراير وبعد أدينا صلاة الصبح طلب منا ذلك الأخ التجمع في احدي الغرفات وتحسسنا الطريق إليها فى الظلام وما أن تكامل العدد حتى بدأنا الأخ بتلاوة قوله تعالي: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) ( آل عمران : 144) ثم فاجأنا بنبأ اغتيال صباحا ولم يزد على ذلك وخرجنا من الحجرة هائمين على وجوهنا لا ندري ما يصنع القدر بدعوتنا وبنا وظللنا طيلة اليوم نذرع حوش الحزاء جيئه وذهابا صائمين لا نتناول طعاما و نجد سوي المصلي نأوي إليها كلما أذن للصلاة .

أخوة الشهيد:

وفي المساء وفي حوالي الساعة العاشرة انطلقت إشاعة داخل المعتقل بأن أخوة الإمام الشهيد الأربعة – عبد الرحمن , عبد الباسط , محمد , جمال - قد اختفوا وشغلنا بهذا الخبر وظل الجميع يبحث عنهم إلى أن عثرنا عليهم وقد اعتزلوا الإخوان في مكان بعيد فاطمأننا وحمدنا الله على سلامتهم .

تشديد الحراسة :

شددت الحراسة وأغلقت بوابات الحزاءات ومنعنا من الخروج إلى البحر ولم يسمح إلا للمسئولين بالخروج إلى الحكمدار كلما استدع الأمر مقابلته ووضع الحكمدار فوق رأسه يافطة كتب عليها ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) [ المائدة : 33 ] وأخذ يردد هذه الآية لكل من يحضر إليه من المسئولين قائلا : لقد عاقبناكم بالنفي وهو أقل أنواع الجزاء .

التفرغ للعبادة والدراسة

حيل بيننا وبين البحر الذي كان يستغرق أكثر وقتنا وبدأنا نهتم بالعبادة والدراسة والمحاضرات وبدأت لجان متخصصة تدرس لما بعد الخروج وتضع مناهج جديدة كانت من اختصاصات الإمام الشهيد الذي قد حرمت الدعوة منه وآن للإخوان أن يعملوا على منواله وقام بعض الإخوان مثل : عبد العزيز كامل والدكتور ضياء الدين الريس والبهي الخولي , محمد الغزالي , وسيد سابق – بتنظيم دروس ومحاضرات يومية استفدنا منها الكثير.

بسبس:

دست الحكومة علينا حين ترحيلنا من مصر بعض عيونها يتجسسون علينا ويقيمون معنا داخل المعتقل وتعرفنا عليهم وأخذنا حذرنا منهم وأطلقنا على الواحد منهم لقب " بسبس " فما أن يذكر الأخ لأخيه هذا اللقب إلا ويعلم أن جاسوسا بجواره وخاب مكرهم وتوقفت مهمتهم .

الاتصال بالخارج :

قام كتاب الإخوان مقالات خطيرة تصف المعتقل ومعاملة قوات الحراسة لنا وتهاجم الحكومة والمسئولين وكلف إخوان شعبة الطور بتوصيل هذه المقالات بطريقتهم إلى وكالات الأنباء والصحافة الأجنبية بالقاهرة التي قامت بنشرها وإذاعتها وكان لها أثر خطير شغل رجال الدولة فاتصلوا بالحكمدار وحاسبوه حسابا عسيرا على تفريطة في رقابة المعتقلين والسماح بخروج هذه المقالات للخارج .

الحكمدار عباس عسكر

ضاق الحكمدار ذرعا بمحاسبة المسئولين له فجر د حملات التفتيش على الحزاءات وبدأ بأول حزاء دخله ومعه قوة من ( بلوكات ) النظام والهجانة ومعهم الفئوس وقام بحفر الرمال داخل الحزاء بحثا عن مذكرات أو مقالات , وخصص يوما لكل حزاء إلى جاء دورنا وفي صبيحة هذا اليوم شغلت وزميلي " عزت " بكيفية إخفاء مذكراتي فأحضرت علبة ( بوية) ووضعت داخلها أوراق المذكرات ووضعت بطاطين في مواجهة جندي الحراسة على الأسلاك الشائكة وقمت بحفر الأرض بعمق متر تقريبا متجها بالحفر إلى خارج الأسلاك ثم وضعت العلبة في قاع الحفرة خارج منطقة الحزاء وأهلت عليه الرمال وقدم الحكمدار في قوته يرغي ويزبد ويتوعد, وقام ضباطه وجنوده بالتفتيش حجرة إلى أن وصل إلى المصلي وحان وقت أذان الظهر وكانوا قد أحضروا له كرسا بجوار المصلي جلس عليه وفي محاذاته وعلى بعد أمتار منه انطلق صوت الأخ المؤذن بالأذان وكأنها صاعقة نزلت على أم رأسه , فأمر جنود الهجانة بإسكات المؤذن فاستمر يؤذن فضربوه بالكرابيج فظل يؤذن وهو يبكي من شدة الضرب وهنا تأثر الضباط بالمنظر وامتنعوا عن ضربه حمية لدينهم واتجهوا نحو الحكمدار بعيون عاتبة فخشي من تطور الموقف ضده فأمر جنوده بإيقاف التفتيش والانسحاب من الحزاء ثم عاد إلى مكتبه .

وفي الصباح توجه بنا الشخ محمد الغزالي إلى باب المعتقل وأخذ يردد هتافات عدائية ضد الحكومة والحكمدار فإذا بالجنود في موقع مبني الإدارة يتجمهرون ويرددون نفس الهتافات ويهجمون على الحكمدار فيحطمون مكتبه وينهالون عليه ضربا لولا تدخل الضباط الذين أنقذوه من بين أيديهم وأبلغت القاهرة باللاسلكي واعتصم الجنود بمبني الإدارة وعلمنا بعد ذلك أن سبب المظاهرة هو تأثر رجال الهجانة بالأخ المؤذن الباكي وتذمر جنود بلوكات النظام من سوء التغذية واستئثار الضباط بالطعام وكل يبكي على ليلاه .

فوجئنا في آخر النهار بوصول طائرة تحمل طاقما جديدا من الضباط ومعهم حكمدار جديد للمعتقل وعادت بالحكمدار عباس عسكر وضباطه وجاءت بعدها ابلاخرة عايدة تحمل قوة من الجنود وعادت بالجنود المتمردين حيث أحيلوا إلى مجلس تأديب.

خطبة الجمعة :

تولاها الشيخ محمد الغزالي وبعض الإخوة العلماء وكانت خطبا حارة لا يسمع مثلها في بلاد مصر تناولت الأحداث والدعوة والدعاة .

فوج جديد:

وصلت الباخرة عايدة بفوج جديد من المعتقلين من بينهم طلبة البحيرة الذين تركناهم في الهاكستب فانضموا إلى حجرتنا ووجدا منا كل ترحيب .

شهر رمضان

اقبل شهر رمضان ووضع له الإخوان برنامجا حافلا نظامه كالآتي :

- تقوم كل مدرية بملازمة المصلي ليلة في الشهر بعد صلاة القيام تتعبد وتتهجد وتدعو بالخير للإخوان وبالمصائب على رؤوس أعداء الإخوان ثم توقظ الإخوان للسحور ثم صلاة التهجد ثم صلاة الصبح وبعدها يدخل الجميع الحجرات للنوم .

- تقوم كل مدرية بإعداد حفل مسائي مرة كل شهر بعد صلاة القيام دعي إليه بقية إخوان المديريات تقدم فيه المرطبات في صفائح محاطة بالخيش وتخصص نوبتجي لرش الماء على الخيش للتبريد ثم يتلو الشيخ سرور " مقرئ الخاصة الملكية " القرآن حتى ساعة متأخرة من الليل وبعدها السحور.. وهكذا .

- وفي النهار تقوم نوبتجية بإعداد وجبة الإفطار في كل غرفة وكانت صلاة القيام في كل حزاء جماعة يؤمها إمام ولاحظت انشغال البعض بهموم الحياة أثناء الصلاة حيث كان الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي يؤم حزاء 4 والشيخ الغزالي يؤمنا وكان الريح يأتنا بصوت الشيخ الشعشاعي كأنه معنا وسمعته مرة يختم الفاتحة مع الإخوة بكلمة " آمين " وإذا بأخ بجواري يردد معهم آمين ظنا منه أنه يصلي خلف الشيخ الشعشاعي .

العيد :

- وجاء العيد وكان يوما مؤثرا تذكر الجميع الأهل والأحباب غير أن إدارة المعتقل نظمت برنامجا روحيا وسمرا بريئا حتي تخفف عن الإخوان ما هم فيه وطفنا بأركان الحزاءات نردد التكبير ونتبادل التهاني .

قدوم أفواج جديدة

- وصلت الباخرة عايدة بمعتقلين من الهايكستب وكان من بينهم بعض إخوان البحيرة والأخ عبد المنعم مكاوي من كفر الشيخ ومعه بعض إخوانه, وخرجنا بتصريح لزيارتهم وتعرفت من الأخ عبد المنعم على أحوال البلد والأسرة والمباني كما علمت منه نبأ فصلي من الخدمة وحضر مع هذا الفوج موظف بالمساحة هو الزميل عبد العزيز خميس ليس بسبب الإخوان ولكن بسبب تزعمه لنقابة خرجي مدرسة المساحة .

إفراجات :

وردت كشوف بالإفراج عن كثير من الطلبة واستبشرنا خيرا وترقبنا يوم الفرج .

موسم الحج:

قرب موسم الحج ولابد من تهيئة الحجر الصحي لاستقبال الحجاج ولابد من معتقل آخر لنقلنا إليه وحضرت الباخرة عايدة وعليها قوة حراسة يحمل رئيسها كشفا به 250 اسما تقرر نقلهم إلى معتقل عيون موسي قيل إنهم زعماء الجماعة وكان منهم إخوان البحيرة واستعددنا للرحيل وودعنا إخواننا واتجهنا إلى الباخرة عايدة وتسلقنا السلم إلى سطحها .

إلى عيون موسي

تحركت الباخرة بعد العصر ونحن على ظهرها نودع معتقل الطور واتجهت بنا نحو الشمال وشاهدنا سمك القرش يقفز من الماء في رشاقة إلى مستوي السفينة وكان معنا الدكتور حسين كمال الدن وعرفنا أن سمك القرش يرافق السفن في بحثا عن الطعام , وإثباتا لذلك قذفنا برغيف من الخبز فتوقفت سمكة القرش عن القفز .

بركة فرعون:

وقبل المغرب بقليل أحسسنا بالباخرة تهتز بعنف وتنخفض مقدمتها حتى سطح الماء وترتفع مؤخرتها حتى كدنا نسقط منها وتكرر ذلك عدة مرات ونحن متشبثون بالسور حتى انتهت هذه الهزات وعلمنا من البحارة أن الباخرة تمر الآن ببركة فرعون حيث يزعمون أن هذه المنطقة هي التي انفلق البحر فيها لموسي عليه السلام وغرق فيها فرعون ولذا سميت ببركة فرعون .

أمام عيون موسي :

وطلع النهار وأبطأت الباخرة في سيرها وغيرت اتجاها نحو الشرق ورأينا قياس الأعماق يهبط إلى نهاية السلم ويقذف بحبل في نهايته ثقل لمعرفة عمق المياه ويكرر ذلك مرات ثم توقفت الباخرة عن الحركة في الماء بعيدا عن الشاطئ وطلب منا الاستعداد لنزول ووجدنا قوارب في نهاية السلم وعند استعدادي للنزول منها لاحظت أنه مكتوب على القارب " الإخوان المسلمون " باللغة الانجليزية فانشرح صدري واستعملت المجاديف لتحريك القارب إلى أن اقترب من الشاطئ فنزلنا في الماء نحمل أمتعتنا حتى وصلنا إلى البر.

لا ماء للشرب

وما أن تكامل عددنا حتى طلبنا ماء نشربه فكانت المفاجأة حين قيل لنا إن المعتقل ليس به ماء وأن قاربا تجاريا سيحضر لنا مياه الشرب من السويس وكلنا عطش فأحضروا لنا أبريقا من الفخار به ماء فتسلمه أحد الإخوان وطلب فنجان قهوة وأخذ يضع في الفنجان ماء إلى نصفه ويعطيه لكل أخ ليشرب وارتوينا جميعا بهذا الماء القليل الذي بارك الله فيه

الإيواء :

وزعونا على المعتقل وهو عبارة عن ( كرنتينة) للحجر الصحي خاص بالأجانب ولذا فإن مبانيه فاخرة وهي عبارة عن فيلات لها ( فرندات ) ودورات مياه وغرف بأرضية من الخشب وداخل ( الكرنتينة) كنيسة بعلوها صليب مبخرة كما توجد ماكينة إنارة معطلة وبجوارها خزان للماء وكان يرفع الماء من عين في باطن الأرض بطلمبة ماصة كابسة وقد توقفت الماكينة عن الحركة من عشرات السنين وعجز مهندسو مصر والأجانب عن إصلاحها .

داخل الكنيسة:

ولكثرة العدد استعملت الكنيسة للإيواء وكنت مع من تقرر إقامتهم بها ومعنا الشيخ محمد الغزالي وما أن وصلنا إليها حتى طلب منا أحد الإخوان ألا ندخلها الآن وتسلق أعلي الكنيسة المغطاة بالصاج المجلفن الدائري حتى وصل إلى القمة ثم نزع الصليب وألقي به على الأرض ونحن نهلل ونكبر ثم دخلنا وفرشنا أغطيتنا على الأرض وأخذنا نرقب ما تأتي به الأحداث .

كرامة الإخوان :

ما أن وصل الإخوان إلى معتقل عيون موسي إلا وكان شغلهم الشاغل توفير المياه , إذ وصل القارب التجاري من السويس يحمل ما يقرب من خمسة مترات مكعبة لا تكفي الشرب وهنا تقدم المهندس " عبد المنعم صالح " رئيس شبكة النور بمدينة دسوق يطلب من المسئولين فحص ماكينة الإنارة وفتحت له أبوابها ثم طلب بعض قطع الغيار ووسائل إنارة من السويس واختار عددا من الإخوان المتخصصين وأخذ زاول عمله متوكلا على الله ونحن في مقر نومنا حتى أمسي الليل فأخذنا نتسامر حتي الساعة الواحدة صباحا وإذا بنا نفاجأ بالأضواء قد سطعت من اللمبات فكبرنا وحمدنا الله واكتملت فرحتنا بعد تشغيل الطلمبة وصعود المياه إلى الخزان وسريانها في المواسير .

وسارت الحياة على وتيرة واحدة ففي الصباح نصطاد المحار والقواقع من باطن الأرض لأن الأسلاك الشائكة على شاطئ البحر تحول بيننا وبين الوصول إليه وفي أثناء النهار دراسات ومحاضرات وفي الليل نقف على الشاطئ داخل المعتقل نشاهد أضواء مدينة السويس عن كثب فيشتد الحنين إلى الأهل والخلان .

الكلاب

بدأ الفرج يأت بسبب الكلاب التي كانت تأتينا من خيام البدو باحثة عن بقايا الطعام وكثيرا ما كانت تعض بعض الإخوة ويرحل المصاب إلى القاهرة للعلاج ومن هنا يأتي الفرج .

الإفراجات

بدأت ترد كشوف بالإفراج عن بعض الإخوان ومنهم الشيخ محمد الغزالي وأخي الذي يلازمني في حياتي " الأستاذ محمد كرام" الذي كان نعم العون على متاعب الحياة وبدأنا نتجمع في مجموعات بعد أن أقل عددنا وانتهي بي المطاف في فيلا بها ( بانيو) مع الأخ الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي والأخ عبد العزيز كامل وأخذ الأخ عبد الرحمن البنا يجمعنا في المساء في مكان إقامته ويردد أدعية مأثورة ونحن نردد خلفه عسي أن يأتي الله بالفرج .

الترحيل

قل عددنا وأصبح تواجدنا في هذا المكان مكلفا للدولة فتقرر ترحيلنا إلى معتقل الهايكستب وانشرحت صدورنا لهذا النبأ ووصلت اللوريات وعبرت بنا قناة السويس إلى معتقل الهايكستب وهناك التقينا بأخوة أحباب كانوا معنا في معتقل الطور ورحلوا قبلنا والتقيت بالأخ عبد المنعم مكاوي الذي هيأ لي مكانا بجواره وتولي إعداد الطعام وكانت تأتيه الزيارات من أهله بكثرة .

وفي يوم من أيام يناير 1950 وبعد صلاة العصر أخذت ألعب مع أخي عبد المنعم لعبة التنس وبينما أمارس معه هذه الرياضة إذا بي أفاجأ بوالدي بجواري فاحتضنته وأدخلناه العنبر الذي نقيم فيه وحدثني كيف استطاع أن يصل إلى رغم الحراسة المشددة ولم يكن معه تصريح بالزيارة واطمأن على حالتي واطمأنت منه على أحوا ل الأسرة بعد أن أحيل إلى المعاش وأتم بناء البيت وأقاموا فيه وقبل المساء انصرف ليعود إلى كفر الشيخ .

الباقوري وعميد دار العلوم

وحضر إلينا الشيخ أحمد الباقوري بوصفه مسئولا عن الدعوة والتقي بنا بعد العصر وحدثنا عن موقف الإخوان في الخارج وموقف الحكومة منهم وعن كثير من القضايا والأحداث .

كما حضر إلينا عميد كلية درا العلوم الذي رغب في زيارتنا وصرح له بذلك وكان حديثه حديث رجل منصف أثني علي الدعوة وعلى الداعية .

وترك فينا أثرا طيبا .

الراديو الترانزستور

كان الصاغ " محمود لبيب" مثالا للنشاط والجدية وما أن تشرق الشمس حتى نراه في خطواته العسكرية يطوف بالمعتقل مرات عديدة وكان من الشخصيات البارزة فى المعتقل التي يرجع إليها في كثير من الأمور .

وفي صبيحة أحد الأيام وبينما نحن جلوس معه دخل علينا نجل " محمود باشا يوسف" المعتقل معنا وتقدم إلى الصاغ محمود بعلبة جميلة ظنا منها أنها علبة حلوي أرسلها له أهله وكان صغير السن لم يتجاوز السابعة عشرة وطلب من الصاغ أن يفتحها وما أن فتحها حتى سمعنا موسيقي , فلما فحصناها وجدناها جهاز راديو ترانزستور دخل البلاد في وقت قريب وكانت أول مرة نري فيها هذا الجهاز العجيب.

الإفراجات

بدأت الإفراجات تتوال وأخذت تنشر الصحف أسماء المفرج عنهم وكان الأخ عبد المنعم مكاو من بينهم وقد حضر إليه صهره بسيارة خاصة وأخذ معه الشنط المتعلقة بي والتي احتفظت بداخلها بالمحار والقواقع وتناقض عدد المعتقلين فبلغنا الأربعين تقريبا .

وفي مساء يوم 5 فبراير وقبل المغرب وصل لإدارة المعتقل كشف بأسماء خمسة أفرج عنهم وكنت واحدا منهم وتقرر ترحيلنا إلى المحافظة وسلمونا استمارات نوقع عليها ونتعهد فيها بألا نعمل في السياسة ولا نتصل بالإخوان ثم اتجهت إلى محطة السكك الحديدية وأخذت القطار إلى طنطا وهناك لم أجد مواصلة للبلدة فبت ليلتي على الرصيف وكان الجو ممطرا وباردا وركبت قطار الصباح إلى كفر الشيخ لأصل إليها الساعة السابعة صباحا وبعد ساعة ظهرت صحف الصباح وفيها أسماء المفرج عنهم واسم من بينهم وجاء الأهل والجيران يهنئون الأسرة ويطلبون منهم السفر للقاهرة لمقابلتي فسلمت عليهم وشكرتهم جميعا .

البحث عن عمل

وبعد يومين توجهت إلى دمنهور والتقيت بمفتش المساحة ( على بك كامل ) الذي كان متأثرا لفصلي غاية التأثر وصارحني بأن حل مشكلتي لا يكون إلا في الإدارة العامة بالقاهرة .

وسافرت إلى القاهرة وبمقابلة المسئولين أخبروني أنه لابد من موافقة البوليس السياسي على عودتي للعمل .

في عرين الأسد :

وكتبت مصلحة المساحة خطابا إلى البوليس السياسي تسأله إن كان يوافق على عودتي أم لا ونصحني الموظف المختص بالتوجه إلى وزارة الداخلية لمتابعة هذا الخطاب وفي المساء التقيت ( بالأخ هارون ) وتعرف على مشكلتي وطلب مني أن نتوجه سويا إلى الأستاذ ( الشافعي اللبان) الذي كان رئيسا للبنك العقاري وقتئذ وكان من قبل مديرا للشئون القانونية بوزارة الداخلية وقابلنا الرجل بالترحاب وأعطاني " كارتا" لمدير البوليس السياسي أذكر أن أسمه ( عمر بك) أوصاه فيه بتسهيل مهمتي , وفي الصباح توجهت إلى وزارة الداخلية وسألت عن مقر البوليس السياسي وكان له باب خاص توجهت إله فإذا عليه حراسة مشددة وحيل بيني وبين الدخول ترقبت مدة إلى أن شاهدت جنديا من رجال البوليس متجها إلى الباب فاستوقفته وشرحت له موضوعي وطلبت منه أن يتأبطني ويدخل بي وكأني مطلوب للتحقيق ووافق الرجل مشكورا وكانت هذا التمثيلية جواز المرور فوجدت نفسي داخل طرقات البوليس السياسي التي طالما شهدت إخوانا جئ بهم لتقلي العذاب .

أردت أن أدخل إلى المدير فواجهتني عقبة الحراسة على بابه حتى رأيت أحد الموظفين قادما لعرض أوراق فولجت الباب خلفه إلى مكتب المدير وسلمته " الكارت" فأبدي شيئا من الاهتمام وعرضت عليه موضوع الموافقة فاستدعي أحد الكتبة وطلب منه إنهاء الإجراءات وخرجت مع هذا الكاتب الذي قال لى " تعالي بكرة" .. وأني لى أن أعود فأدخل هذا المكان ثانية "؟

تذكرت أنه كان معنا في معتقل عيون موسي أخ في قسم الشاخات بالداخلية ووفقت في الوصول إليه , وتلقاني بالترحاب دون عناق – حتى لا يلفت الأنظار – ولما عرفته بالموضوع ذكر لي اسم كاتب بالبوليس السياسي من الإخوان ونصحني بمقابلته وتعريفه بأنني موفد من قبله والتقيت بالأخ وكان ذات جسم نحيل جدا ولما علم بموضوعي طلب مني أن أستريح قليلا ولم يمض من الزمن نصف ساعة حتى عاد لى وأخبرني بأن الخطاب قد تحرر بموافقة البوليس السياسي على عودت للعمل في مكان غير القاهرة وقد أرسل الخطاب مع جندي مراسلة ( بالموتوسيكل ) إلى مصلحة المساحة فشكرته وحمدت الله على هذه الرابطة الصادقة .

وفي اليوم التالي عدت للمساحة وانصرفت على أمل تجديد موعد للكشف الطبي كإجراء لابد من اتخاذه مع الجاري تعيينهم وأدركت أن مدة خدمت السابقة وقدرها عشر سنوات قد أسقطت فاستسلمت لقدر الله .

وبعد شهرين تقريبا وصلني خطاب لعرض نفسي على ( قومسيون) القاهرة وكشفت وكتب الله لي النجاح وبعد مرور ثمانية أشهر من تاريخ خروجي من المعتقل وصلني خطاب من المصلحة بإعادة تعييني من جديد والتنبيه باستلام العمل بتتيش الأقصر – آخر تفتيش في أقصي الصعيد وأن يكون السفر على نفقتي الخاصة وكان ذلك في شهر سبتمبر 1950.

الفصل الرابع: سنوات مع الدعوة في الصعيد

جاءني خطاب بالبريد يطالبني بالتوجه إلى تفتيش المساحة بالأقصر للعمل به كموظف جديد ( واستبعدت السنوات العشر من الخدمة – كما أسلفنا ).

لما كان الصعيد؟

حدث بعد أن خرجت من المعتقل في 5 فبراير 1950 أن أخبرت بقرار فصلي من الخدمة وسعيت للعودة مدة استغرقت ثمانية أشهر , صدر بعدها قرار من البوليس السياسي ( مباحث أمن الدولة حاليا ) بالموافقة على عودتي للعمل على أن أ‘مل خارج مدينة القاهرة , فرأى المسئولون بمصلحة المساحة – اجتهادا منهم – أن يبعدوني بالعمل في أقصي تفتيش مساحة بالوجه القبلي فكانت مدينة الأقصر التي يشرف تفتيش المساحة بها على إقليمي قنا وأسوان .

في دمنهور :

توجهت يوم 20 سبتمبر 1950 إلى مدينة دمنهور لأودع الإخوان بها , وطلب مني أحد الإخوان أن أقابل الأخ مصطفى الخياط بمنزله قبل سفري ولم أكن أحمل معي سوي حقيبة الملابس فاستقبلني بحرارة وأخبرني أنه بعد خروجه من المعتقل نقل هو الآخر إلى تفتيش المساحة بالأقصر وأنه علم بتعييني به ولما كان قد أقام بالمدينة أكثر من سنة وبرفقته زوجته وأولاده وقد نقل بعدها إلى مدينة قنا فقد استأجر شقة بقنا وبقيت شقته بالأقصر وهو مؤثثة بأثاث بسيط وسلمني مفتاحها ووصف لى الطريق إليها كما سلمني خطابا لصاحب المنزل – وكان مسيحيا – يوصيه بي خيرا فشكرت له هذه العاطفة الكريمة وعدت إلى القطار الذي تحرك من مدينة دمنهور ظهرا لأصل إلى الأقصر في صبيحة اليوم التالي .

أول يوم في المدينة

فوجئت بجو المدينة الحار في وقت الصباح فما بال الجو في الظهيرة وتوجهت من فوري إلى منزل الأخ مصطفي مستعينا بالعنوان الذي أعطاه لى والتقيت بصاحب المنزل وسلمته الخطاب ورحب الرجل بي ودخلت الشقة فوجدتها مؤثثة من واقع البيئة أسرة من الجريد وكراسي وترابيزة من الجريد أيضا وكان أهم ما أسعدني جهاز الراديو الذي يصلني بالحياة .

وتوجهت من فوري إلى صنبور المياه فلم أطق مائه وهيئت نفسي لجو يحتاج إلى تحمل وتسليم بما قضي الله .

إلى التفتيش :

وفي الساعة التاسعة توجهت إلى تفتيش المساحة الواقع على شاطئ النيل بجوار فندق سياحي وقابلني مفتش التفتيش المهندس " أحمد الجبالي " وألحقني بغرفة ( الدفتر خانة ) بعد أن علم بقصتي وبما كانت أزاوله من عمل بتفتيش المساحة بدمنهور .

حديقة الأقصر :

صارت حياتي في المدينة رتيبة ما بين التفتيش والمنزل وكنت قبل الغروب أنزل إلى الشارع متوجها إلى حديقة بجوار معبد الأقصر أجلس في أركانها ولاحظت في أول يوم ظاهرة كريمة , فقد جاء رجل يحمل صينية عليها أكواب الشاي وقام بتوزيعها على رواد الحديقة وعلمت أن مصدر هذا الكلام هم " آل محب" الذين لهم قصر في الميدان يطل على الحديقة وكان أحدهم عضوا بمجلس النواب عن دائرة الأقصر واستمرت هذه الظاهرة كما استمر تواجدي في الحديقة كل يوم أسعد بكوب الشاي كل مساء .

موظفو التفتيش :

منهم من كان من أبناء الصعيد فمقامه مستقر ومنهم من قد رقي مغضوبا عليه من ابناء " بحري " وقد ألفت الجميع وألفوني وازدادت الألفة لما عرفوا بقصة اعتقالي بدءا من المفتش إلى بقية العاملين .

وحدث أن قدم مدير عام المساحة من القاهرة للمرور على التفتيش ولما مر على مكتبي قدمني له المفتش وزكاني عنده كواحد من الإخوان فرد المدير بقولاه " إن الذين يحملون عبء العمل بمصلحة المساحة هم الإخوان المسلمون ". وكانت شهادة أثلجت صدري وتعرفت بعد فترة وجيزة على الأخ " عبد النبي " وهو من إخوان الأقصر الذي عرفني بدوره ببعض الإخوة بالمدينة .. وكانت بداية المشوار الدعوي

التدريب :

استدعاني المفتش وقال لي مؤهلك يقتضيني أن أضعك في المكان المناسب لك لذلك قررت أن أدربك على جميع الأعمال بالتفتيش وكانت عاطفته جياشة نحوي وشكرت له حسن اهتمامه وصدر قرار بأن أعمل بمأمورية حصر الأذره مع واحد من رؤساء الفرق مبتدئا بمركز الأقصر وبعده انتقلت إلى مركز إسنا لحصر الزراعة بالضفة القريبة للنيل بدءا من قرية كيمان المطاعنة قرية القرنة .

قري مركز إسنا :

أخذنا ننتقل من قرية ومقرنا الدائم هو منزل العمدة , فكان يكرمنا البعض منهم ويضيق بنا البعض الآخر وكانت لى مع العمل ذكريات منها :

القبعة والبقرة

كان ذلك في صبيحة أحد الأيام وكنت أمر على الزراعة لقياسها فمررت في الطريق على بقرة ما أن رأتني حتى نفرت وكادت تخلع وتدها فجاءني صاحبها يحاسبني على سوء تصرفي كيف أمر على البقرة وأنا مرتديا قبعتي إنه منظر غير مألوف عندها مما سبب انزعاجها , ولم أجد ردا إلا أن أبديت اعتذاري للبقرة ... ولصاحب البقرة .

ابن العمدة

يوجد على الشاطئ المقابل للنيل بلدة اسمها " الشّغب" وكان لابد أن نعبر النيل بالمركب وتصادف أثناء عبورنا أن ركب معنا ابن عمدة الشّغب والمركب لا ترسو على الشاطئ لعدم صلاحته كمرفأ , فكانت تقف بعيدا عنه ما يقرب من عشرة أمتار قام ( القياسون ) بحملي على أذرعهم حتى لا أخوض بحذائي وملابس في الماء . ورأيت ابن العمدة فطلبت من القياسين أن يحملوه هو الآخر وما أن نقلوه إلى الشاطئ حتي أعطانا ظهره وسبقنا إلى الدوار وتوقعنا أن يكون في انتظارنا ولكننا افتقدناه وقابلنا والده العمدة أسوأ مقابلة فأنزلنا بغرفة " السلاحليك" وأرسل لنا ثلاثة أكواب شاي وقطعا من الخبز الجاف لتتناول عشائنا وبتنا ليلتنا على الكراسي حيث لا توجد أمكن للنوم وما أن أشرق الصباح حتى عجلنا بترك الدوار وبذلنا الجهد المضاعف لننهي حصر الزراعة بهذه القرية حتى لا تعود إلى دوار العمدة البخيل مرة ثانية .

النجدة

أخذنا نجوب الحقول ونحن جوعي لم نتناول إفطارنا وأخذنا نحشو معدتنا " بالسريس " الذي يتخلل الزراعة وبينما نحن نأكله في نهم وكان شامخا في ارتفاعه إذ يبلغ المتر تقريبا – إذ بنا نفاجأ بامرأة تظهر أمامنا فجأة من وسط الزراعة وتمد إلينا يدها مملوءة بالخبز " البهاو" وكانت نجدة أذهبت جوعنا وكان أحلي مذاقا من " الفطير".

أزمة نفسية:

انتابني الاكتئاب لقسوة الجو والبعد عن الأحباب والشعور بالغربة ومشقة العمل وكنت أترقب بين يوم وآخر وصول خطاب من كفر الشيخ يريح نفسي القلقة, وكانت أسعد الأيام عندي هو اليوم الذي يحضر إلينا فيه رئيس الفرقة يحمل معه خطابا من الأحباب كنت اقرأه مرة ومرات وكان يصل الحاضر بالماضي وأكرر قراءته حتى يأتيني سواه .

إلى قنا

وفيقنا :

وفي المفتش بوعده فاختار لى قنا للتدريب بمكتبها الهندسي وقال لي: إن رئيسه هو الأخ مصطفى الخياط زميلك في الجماعة وستجد منه الرعاية وحسن التوجيه .

كان الأخ مصطفي قد نقل رئيسا لمكتب المساحة بقنا واتخذ له شقة جديدة بعد أن ترك شقة الأقصر وبعد أن ألحقت بعملي الجديد استضافني معه حيث لم تكن معه أسرته وكان قد وثق صلته بإخوان المدينة فعرفني برئيس المكتب الإداري للإخوان ثم عرفني بالكثير من الإخوان والتقيت بالمهندس محمد يونس من إخوان دمنهور وكان يعمل مهندسا لبلدية إحدي قري المركز حيث أخذ عن ذكرياته في الصعيد وعرفني ببعض الإخوان في منطقة عمله .

لقاء بجوار السجن :

جاد المهندس " أبو رضا " من تفتيش الأقصر للمرور على مكتب قنا وكان محبا للتعظيم التبجيل واختلي بي في المكتب وحاول أن يستمليني لأخبره عن عورات العمل بغية أن يحاسب عليها الأخ مصطفى الخياط فلم يجد مني تجاوبا وبات ليلتها بالمكتب وفي اليوم التالي تصادف أن كان إخوان قنا على موعد لعقد لقاء في منطقة بجوار سجن قنا ورأى الأخ مصطفي دعوة المهندس " أبو رضا " لهذا اللقاء واكتمل الجماع والتقي الرجل بالوجوه هاشة باشة يربطها الحب والإيمان واقترح علينا أن يتحدث كل واحد منا عن ذكري مهمة في حياته مع الدعوة وتكلم الجميع وتكلمت عن ذكرياته الاعتقال ثم انتهي اللقاء بالتقبيل والعناق وتغير مفهوم الرجل عن الدعوة والدعاة .

فقط وقوص وحسن البنا

أخذت أجوب بعض البلاد ومنها فقط وقوص أنتقل من عمل إلى عمل وكان العمل يقتضي أن أذهب إلى النجوع في أحضان الجبال راكبا دابة في أغلب الأحيان مرة أن أبلغ دعوة الإخوان لسكان إحدي النجوع فعرفني أهلها بأن حسن البنا جاءهم سيرا على الأقدام وأبهرتني همة الإمام الشهيد .. كيف سعي إلى هذه النجوع وحيدا منفردا ليبلغ الناس دعوته .

النقل إلى إسنا

تقرر أن ألحق بالعمل بمكتب إسنا وقد سبقني إليها خطاب توصية من إخوان الأقصر إلى إخوان إسنا ووصلت المكتب لأجد رئيسه السيد محمد العماري قد اتفق مع أحد المحامين لحجز مسكن لى في بيت يملكه عبارة عن حجرة ودورة مياه أسفلها محلات وتطل على ميدان عام به مسجد أثري منذ عهد الفاطميين ما زالت المزولة على مدخله حتى الآن ويكاد يكون النيل على مرمي البصر من نافذة الغرفة .

وفي نفس اليوم حضر إلى جمع من الإخوان أذكر منهم الأخ محمد عارف الأخ مصطفى رمضان لرحبوا بمقدمي وليبدأ استعدادهم لقضاء ما أريد من خدمات .

الكتيبة الأولي ومجلس الإدارة

زارني الإخوان في مسكني الجديد وتعرفت منهم على ظروف العمل فليست بالمدينة شعبة للإخوان وليست لهم لقاءات منتظمة وتناقشنا سويا في كيفية النهوض بالعمل الدعوي في المدينة ورأيت أن نبدأ أولا بتربية أنفسنا على مبادئ الدعوة واقترحت عليهم تكوين " كتيبة" من الإخوان العاملين واستعرضوا الأسماء واخترنا منها عشرة ليكونوا نواة للكتيبة الأولي أذكر منهم  : الشيخ مصطفى رمضان والشيخ أمين والشيخ مصطفى أبو الخير والشيخ عباس أبو الخير والشيخ عبد المنعم زنط والشيخ بيومي والأخ إبراهيم خضير والأخ أبو الفتوح " الرسام بالري " وإخوة آخرين أنسيت أسماءهم وبدأت لقاءات الكتيبة بمنازل الإخوان بالتناوب وف يكل لقاء كنا نتدارس قواعد ترتيل القرآن والسيرة ورسالة التعاليم وتاريخ الدعوة ونحفظ بعض الأحاديث واستمرت لقاءات الكتيبة ما يقرب من عشرة شهور بمعدل لقاء كل أسبوع .

ومن خلال أعضاء الكتيبة اختير أعضاء مجلس إدارة الشعبة وقبل أن تتم الكتيبة شهرها العاشر طلب من كل فرد فيها أن يرشح واحدا بيعة القدامي بين التأثر والبكاء واستعدت القلوب لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة .

الشعبة الجديدة

اتفقنا على أن نتخذ مقرا نضع عليه يافطة " الإخوان المسلمون بقنا " ووفقنا إلى استئجار شقة داخل المدينة في الطابق الثاني مكونة من غرفتن وصالة ودورة مياه وأثثناها بأثاث متواضع وفرشنا المصلي بالحصير وبدأنا بدرس الثلاثاء ثم أنشأنا قسما لمحو الأمية تأهل البعض ممن تخرجوا منه للحصول على شهادة الابتدائية وصارت الشعبة مجمعا للإخوان يلتقون فيها في المساء يزاولون نشاطهم ونقل اجتماع الكتيبة الثانية إلى الشعبة حيث كان غالب أعضائها من العمال الفقراء الذين لا تصلح مساكنهم للإلتقاء .

ورشة النجارة :

فكرت في أن أشغل وقتي في العمل بحرفة نجارة الأثاث التي حصلت على دبلوم فيها فتعرفت على صاحب ورشة أخذت أتردد عليه بعد العصر لأستمتع بالنظر إليه وهو يصنع الأثاث بطريقة بدائية .

ولما سافرت إلى بلدتي كفر الشيخ أحضرت معي " عدة النجارة " التي كنت أحتفظ بها وجهزت بنكا للعمل عليه من صناديق خشبية وصممت غرفة نوم مكونة من سرير ودولاب وتسريحة و(كومودينو) وشماعة ثم شغلت بأمور الدعوة فتوقفت عن العمل .

رحلات دعوية إلى القري

شكلنا قافلة لرحلات لنجوب القري المجاورة لمدينة إسنا سيرا على الأقدام ووفقنا إلى فتح شعب للإخوان بقري الدير والشعب والنمسا وغيرها وكنا نمكث في كل زيارة إلى ما بعد صلاة العشاء ويتدارس الإخوان في كل لقاء برنامجا ثقافيا مبسطا وقمنا بربط هذه القري بشعبة المدينة الأم بإسنا .

معسكر في النيل :

كونا فريقا للجوالة وقررنا أن نقيم معسكرا بحريا في النيل فاخترنا " خورا " وهو مجري من النيل يقع بني الشاطئ وجزيرة مقابلة لمدينة إسنا , وحملنا أمتعتنا وعبرنا قاطر إسنا ومنها إلى مكان الخور حيث أقمنا الخيام ونزلنا الماء نتدرب على السباحة ونمارس الرياضة وقضينا يوما بين البر والبحر ننفذ برنامجا متكاملا وعدنا في المساء إلى المدينة .

العمل بإسنا وإدفو

إدفو هي احدي مراكز محافظة أسوان وكان رئيس مكتب إسنا يشرف على مكتب المساحة بإدفو فكنت أذهب معه يومين في الأسبوع وكثيرا ما كان يكتفي بذهابي وحدي إلى إدفو دون أن يكلف نفسه مشقة السفر خاصة وأنه كان من مدمني الأفيون الذي كان ينهك قواه .

وكان مقر إقامتي في استراحة خصة تعلو المكتب وقد خصص لي ساعي للقيام بمتطلبات إقامتي من إعداد الطعام المكان وكان هذا الساعي أنيسي فيوحدتي وكان رجلا صالحا يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها وحين آوي إلى فراشي كان يحدثني عن ذكريات حياته وكان قد جاوز الخمسين .

وكانت وسيلة إعداد الطعام لا تتغير فقد قمت بشراء " فوالة " كنت أجهزها قبل نزولي إلى المكتب فأضع في قاعها قطع اللحم وفوقها البطاطس والملح وأعلقها على مسمار وأضع تحتها لمبة جاز وما أن أعود من عمل حتى يكون ما بداخلها قد نضج وصار صالحا للتناول .

إخوان إدفو

علم إخوان إدفو بمقدمي فحضر إلى المكتب الشيخ عبد الرحمن الزعيم والذي أطلق عليه الزعيم هو النحاس باشا لتعصبه للوفد قبل أن ينضم للإخوان – والرجل يملك محل بقالة قريبا من المكتب فكنت أجلس عنده بعد العصر وكثيرا ما كان يحدثني عن ذكرياته مع الأخ حسني بك البيومى مفتش المساحة الذي كان كثيرا ما يبيت باستراحة المكتب بإدفو ويقضي الليل مع الإخوان .

وعن طريق الشيخ عبد الرحمن تعرفت على إخوان إدفو وغالبيتهم من الشباب والطلبة وتعرف علنا واعظ المركز وكان رجلا متواضعا رغم مكانته العلمية والدينية فكان يجلس في لقاء الإخوان يستمع إلى حديثهم كما يستمع التلميذ إلى أستاذه .

مجلس الحشاشين

تحدد موعد انتخابات مجلس النواب وانتخبت عضوا في لجنة انتخابات أخميم وتواجدت مع اللجنة في مكان نومنا بالمدرسة الابتدائية ومعنا قوة من البوليس للمحافظة على النظام وعلى رأسها " كوستابل " وفي المساء جاءتنا صواني العشاء وبعدها دعينا إلى جلسة مع أعيان ووجهاء البلدة في احدي الردهات داخل المدرسة وفوجئت بقادم يحمل جوزة عامرة بالحشيش ودارت الجوزة على الحاضرين . وقرب دوري وأحسست بضيق وكان لابد من التفكير في الخروج من هذا المأزق بسلام وأسعفني فكرة قررت تنفيذها . فلما قدم إلى حامل الجوزة اعتذرت وتكهرب الجو وسمت من يقول بحدة " إيه العكننة د " وتلفظ بكلمات نابية ولم حاول رئيس اللجنة أن يدافع عني فالمجلس أكبر منه .

وبعد أن تمت دورة الجوزة على الحاضرين استأذنتهم فى كلمة فوافقوا وهم ينظرون إلى شذرا فقلت لهم أحدثكم بحديث قدسي ولا شئ غيره ورددت على مسامعهم ما رواه الرسول صلي الله عليه وسلم عن رب العزة " ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم والملائكة تستأذنه أن تستأصله وتهلكه والرب تعال يقول دعوني وعبدي فإن كان عبدكم فشأنكم به وإن كان عبدي فمني إلى عبدي, وعزتي وجلالي لئن أتاني ليلا قبلته وإن أتاني نهارا قبلته وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب مني ذراعا تقربت إليه باعا وإن أقبل إلى هرولت إليه من أعظم مني جودا وأنا الجواد الكرم أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلى فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتلهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب " فانبهر الجميع وأبدوا كلمات الإعجاب وقام رئيس اللجنة بطلب ورقة وقلم لتدوين الحديث وتابعه آخرون وتغير الموقف ووقاني الله شر غضبهم ببركة الحديث الشريف.

المقشة:

كان أحد إخوان إسنا يعمل مسئولا عن مركز اجتماعي وتم جرد عهدته بمعرفة أمين مخاون الجهة التابع لها وظهر أن في العهدة عجزا يتمثل في مقشة وقررت الإدارة أن توفد محققا من القاهرة للتحقيق معه مع أن هذا المحقق سوف يركب الدرجة الأولي بالقطار ذهابا وإيابا ويبيت ليلتين بالمدينة ببدل سفر مضاعف كل ذلك من أجل مقشة ثمنها وقتها لا يتعدي قروشا معدودة ولكنه ( الروتين ).

مع آل حزين:

من كبريات عائلات إسنا عائلة حزين وكان منها عضو مجلس النواب " عباس بك حزين" ولقد دأبت هذه العائلة على أن تكون لها اليد العلا في المدينة فكان عباس بك رجل الإدارة والسياسة وكان لشقيقه ( محمد بك حزين ) اليد الطولي على النشاط الديني في المدينة المتمثل في الطرق الصوفية والجمعيات الدينية وكان لابد أن هيمن على جماعة الإخوان المسلمين لحساب العائلة خاصة بعد أن صارت لهم شعبة تجمع العديد من أهل المدينة في دروس الثلاثاء وقرر الرجل أن يغزوها وبحث عن الشخصيات المؤثرة من " الغرباء " فأبناء البلد هو كفيل بهم لأن الجمع يخشون سطوته ولا يخالفونه في أمر فنصحه ناصح بأن يتصل بي , وفوجئت به في يوم بالمكتب حيث قام له الجميع إعزازا وإكبارا ولم أكن قد رأيته من قبل , وسأل عني وصافحني وقد لي نفسه والكل يعجب من أمر قدومه للتعرف علىّ خصيصا وطلب مني أن أرد له الزيارة في منزله حيث يعلم أن لى اتجاهات دينية ولديه مكتبة أستطيع أن أستعير منها ما أشاء ".

وأحسست على الفور أن وراء هذه الدعوة أمر آخر لكنني شكرته واعتذرت له بضيق وقتي حيث إني أعمل في مركزي إسنا وإدفو وألح الرجل في الزيارة وعلقت الأمر على مشيئة الله ومضت الأيام وسألت الإخوان عن الغاية من زيارته فأفهموني الكثير عن شخصيته وأنه يبتغي من هذا اللقاء أن يستحوذ على شخصي وبالتالي يستحوذ على الإخوان , وعرفت مكانة الرجل في نفوس أهل المدينة .. في أحد الأيام كنت أتجول في شوارع إسنا ولمحته عن كثب يمتطي جوادا يسر به في شوارع إسنا والجواد يسير الهوينا والرجل فوقه يخترق الشوارع فرأيت الناس يقفون له يمينا وشمالا يبدءونه بالتحية وهو يردها ( بالمذبّة) التي في يده بصورة فيها التكلف والكبر .

وفي ليلة كنت مجتمعا بإخوان الكتيبة الثانية في الشعبة فإذا بالأخ مصطفى أبو الخير يستأذن في الدخول علينا ويهمس في أذني أن محمد بك حزين في الغرفة المجاورة يطلب مقابلة وجلس بجانبي في الحلقة وأخذ يتفرس وجوه أعضاء الكتيبة فإذا بهم من العمال المغمورين والجميع جلوس حول " لمبة جاز " واستمر اللقاء ما بين قراءة القرآن وتسمع للأحاديث ومقررات السيرة النبوية ورسالة التعاليم والرجل مبهور تبدو علي وجهه علامات التعجب ! ما بال هؤلاء العمال ومنهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون يجيبون على كل ما يطلب منهم إجابة التعالم الدارس وأحس على الفور أن الأمر أكبر مما يتصور ولا يمكنه التغلب عليه وما أن انتهي اللقاء حتى همس الرجل في أذني يرجو أن أضمه إلى هذه المجموعة ثم كانت لى معه جولات أخري .

تقاليد

ذهبت لأداء واجب العزاء في سرادق مقام قريبا من مسكني وما أن سلمت على أهل الميت معزيا حتي سمعت مناديا ينادي باسمي كاملا ووظيفتي ولم يكن لى به سابق معرفة وكان صوته عاليا في مكان قريب من المدخل وفوجئت أنه ينادي على اسم كل قادم للعزاء ويذكر وظيفته أو عمله على الفور أن هذا من تقاليد العزاء للتعرف على أسماء المعزين ولفت نظري أن الرجل يبالغ في التعريف بالقادمين فالمدرس يسميه الناظر والتومرجي يسميه الدكتور والصانع يسميه الباشمهندس وهكذا ..

وحضرت عرسا في احدي القرى فوجدت رجلا واقفا على مدخل السرادق ومعه كراسة ويقوم الداخل بدفع " النقطة" ويقوم هو ( بتقييدها ) في الكراسة وأخبرت بعد ذلك أن النقطة هي بمثابة دين دير في المناسبات بمقتضي هذه الكراسة .

مطعم إسنا :

واظبت على تناول وجبة الغذاء بأحد المطاعم وفي يوم أخذت أطل عليه من النافذة بي أري منظرا جعلني أكره الأكل فيه . فقد رأيت العامل يحمل الأطباق الفارغة بعد خروج " الزئابن " ويقوم بمسحها بقطعة من القماش سوداء اللون من كثرة الاستعمال دون أن يقوم بغسل هذه الأطباق ثم يعاود تقديمها لرواد المطعم فقررت ألا أرتاده مرة أخري وعدت إلى " فوالتي " راضيا بما تقدمه لى من طعام أطمئن إلى سلامته ونظافته .

قدوم الوالدة إلى إسنا

أشفقت على والدتي من حياة الغربة فعرضت علىّ أن تحضر للإقامة معي في إسنا لتقوم على خدمتي تاركة أخواتي لشقيقتهم الكبرى ترعي شأنهم وجاءني خطاب من الوالد ينبئن عن موعد وصولهما واستقبلتهما في صبيحة هذا اليوم على محطة إسنا وركبنا " الحنطور " وسيلة الانتقال الوحيدة من المحطة إلى المدينة عبر النيل ووصلنا المسكن ونزلت الوالدة من العربة بزي محتشم يخفي وجهها الأمر الذي يتمشي مع تقاليد المدينة وارتاحت لمسكني المستقل تماما عن أى جار ولم يكن به سوي سرير نومي وبنك النجارة " وزير المياه " وسيلة الري والغسيل والطهي حيث يقوم السقا بإحضار قربة ماء كل صباح كانت تكفي تلبي وحاجتي من الماء طوال اليوم

علم إخوان إسنا بمقدم الوالدين حيث كان يجاورني محل الأخ سعد صانع الأحذية وكان محطة لجلوس كثير من الإخوان ولعلمهم بأني لا أملك إلا سرير واحد لا يكف إلا فردا واحدا إذا بي أفاجأ بطرق على الباب لأخ الشيخ بيومي وقد جاءني يحمل مجموعة من البطاطين والأغطية لفرشها على الأرض وبعد قليل جاء الأخ سعد يحمل مجموعة من الطيور امتلأت بها دورة المياه ,وتوالت الهدايا من أطعمة وخبر وغمروني بكرمهم المعهود مما زاد من سعادة الوالدين حيث اطمأنوا إلى وجود إخوان يعوضونني مشقة الاغتراب ومرارة البعد عن الأهل والعشيرة .

وبعد العصر نزلت مع الوالد أتجول معه في شوارع إسنا ونزور محلاتها ولأعرفه بالإخوان الجميع هاش وباش لهذه الزيارة ومكث معنا أياما ثم تركنا عائدا إلى كفر الشيخ وبقيت والدتي ترعي شأني وتعد مطعمي وتغسل ملابسي وكانت مشكلتي بالنسبة لها هي الليلتان اللتان أبيتهما في مكتب المساحة بإدفو وأتركها وحدها .

مشادة في الميدان

أحس الإخوان بهذه المشكلة فعالجوها بأن تطوع الأخ الشيخ صبر العامل بالجمعية التعاونية القريبة من منزلي مشكورا بأن يرسل شقيقته لتؤنس والدتي طوال يومها وتلازمها في المسكن أيام سفري وسعدت لهذا الصنيع وكنت أعود من سفري فتقص على والدتي الكثير مما سمعته من هذه الفتاة عن طباع أهل المدينة والأحداث الجارية بها , وفي يوم عدت من إدفو وما أن دخلت مسكني حتى وجدت الوالدة في حالة غير طبيعية ولما سألتها قصت على القصة الآتية:

بالأمس جاءت الفتاة كعادتها في الصباح ترتدي الملاءة التي تخفي كل جسمها ووجهها وما أن بدأت تصعد السلم حتى ناداها تاجر يطل مسكنه على مطلع السلم باسمها فى صوت غاضب جهور يطلب منها ألا تدخل هذا المسكن ظنا منه أنني أعيش فيه وحدي حيث لم يحس جيراني بالوافد الجديد ولما لم تستجب لندائه قام خلفها ليجذبها بالقوة من ملاءتها فهرولت إلى أعلي تستغيث بوالدتي التي استقبلتها مسرعة على باب المسكن فلما رآها التاجر خجل من نفسه وعاد من حيث أتي وظلت الفتاة ترتعش من هول الصدمة وخوف الفضيحة فهدأت والدتي من روعها .

وأخذت أنتظر الصباح وما يخبئه لنا من أحداث وما أن أذن للفجر وصليته مع والدتي حتى سمعت صوت صراخ ومشادة فنظرت من النافذة ففوجئت بجموع المصلين الخارجين من الصلاة ملتفين حول الشيخ صبري والتاجر الذي تعدي على شقيقته ليخلصوا بينهما وقد أمسك الشيخ صبري بعنقه يريد أن يقض عليه وأصابت والدتي على الفور رعشة من هول ما رأت باعتبارها طرفا في المشكلة فهدأت من روعها ولم تطمئن إلا بعد أن انفض الجمع وانتهت المشاجرة بسلام .

العطش على شاطئ النيل :

طلبت من السقا أن يضاعف كمية المياه بأن يحضر لمسكني قربة في الصباح وأخري المساء والسقاءون في إسنا علامة بارزة فتراهم يأتون قبل الفجر يملئون القرب ويمرون بها على البيوت حتى إذا ما أشرقت الشمس كان ك بيت مزودا بالماء الذي يكفيه وفي يوم سافرت فيه إلى إدفو وكان بالزير كمية من الماء باقية من المساء فرأت والدتي أن تستعمل في غسيل ملابس دون أن تبقي منه شيئا اطمئنانا إلى قربتي الصباح والمساء التي تعود ( السقا) إحضارهما – ولأمر ما لم يحضر الرجل في هذا اليوم وكان قد بلغ العطش بوالدتي مبلغه في جو إسنا الحار ولم يكن في مقدورها أن تنزل إلى الشارع لتستنجد بالإخوان أو الناس خاصة أنها لم تنزل منذ حضورها وازداد بها العطش طول النهار واستحال عليها النوم طول الليل وظلت على حالتها يقظة تعاني عطشا قاتلا حتى انطلق المؤذن يؤذن لصلاة الفجر وأخذت تترقب دقات الباب لينقذها السقا من موت محقق بقربة الماء حتي جاء الفرج وحضر السقا فأخذت تعب منه عبا وهي تشكر نعمة الله أن أنقذها من هلاك محقق.

وكانت هذه الحادثة سببا في أن طلبت مني والدتي أن أعجل بعودتها بعد أن قضت معي ستة أشهر أنستني مشقة البعد عن الأهل ومشقة الحياة فكتبت إلى والدي الذي حضر من فوره وعاد بها بعد أن ودعتني وهي باكية وقد كان في عزمها أن تبقي مع حتي أعود أنا بها لولا هذه الأحداث .

كبار القراء

إسنا بلد تصطبع بالصبغة الإسلامية وكانت موظفا للفاطميين في الدولة الفاطمية لذا نجدها تهتم بالنواحي الدينية خاصة الطرق الصوفية وإحياء الموالد .

وفي ذكري مولد الرسول صلي الله عليه وسلم يقوم أهل المدينة بجمع التبرعات وإقامة سرادق عام بدءا من أول شهر ربيع الأول يحيون هذه الليالي بتلاوة القرآن . وكان مقرئهم المفضل هو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وكنت أكتفي بسماع صوته من مسكني أما شهر رمضان فكانت عائلة حزين تقوم بإحياء لياليه بدوارهم الواسع الفسيح حيث تصف فيه الكراسي لاستقبال أهل المدينة في المساء وكان قارئهم هو الشيخ محمد صديق المنشاوي وهو من أبناء الصعيد ويسعد الناس كثيرا بسماع صوته وكان والده هو قارئ المدينة قبله وكان يفوق ابنه في التلاوة كما حدثني بذلك أهل إسنا .

عبد الحكيم عابدين وصلاة القيام على النيل

حضر إلينا الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان المسلمين ولم أكن قد رأته منذ أكثر من خمس سنوات وكنا في شهر رمضان وأعد إخوان إسنا مائدة رمضانية لإخوان الأقاليم وبعدها انتقلنا إلى مكان الحفل المقام على شاطئ النيل وبجواره فرشت الأرض بالحصير وصلي بنا العشاء ثم صلي بنا القيام ثمان ركعات بجزء من القرآن وكان عدد المصلين كثيرا وحضر الحفل حشد من أهل المدينة وأفاض الله عليه فأثلج صدور الحاضرين بكلمات الداعية الذى يعرف كيف ينقل دعوته إلى عقول وقلوب الحاضرين وكان حفلا مباركا كانت له آثاره في تثبيت الدعوة في النفوس وإقبال الأنصار عليها .

قتلة الإمام

جاءني الشيخ بيومي عن تلميذة كان يدرس لها رقيقة الحال تأتي بملابس رثة وكان يشفق لحالها وفجأة إلى المدرسة بثياب جديدة وحذاء جديد وظهرت عليها آثار النعمة فلما سألها عن هذا التغيير قالت له إن أبي معه نقود كثيرة أخذها من الحكومة لأنه هو الذي قتل حسن البنا .

أما القاتل الثاني فقد عرفت قصته من أحد إخوان الصعيد فكان في أحد الأيام يحلق رأسه عن حلاق في بلدته وأخذ يقول له بكل فخر بأنه هو الذي قتل حسن البنا ومن هذه المعلومات عرف القاتلان وكانت محاكمتهما ه الخيط الذي أوصل إلى المجرمين الحقيقيين الذين ارتكبوا هذه الجريمة :

المرشد في قنا

أخطرنا من المكتب الإداري للإخوان بقنا ببرنامج زيارات الأستاذ الهضيبي المرشد العام للإخوان لمدة محافظتي قنا وأسوان مبتدئا بالعاصمة قنا وفي اليوم المحدد توجهنا في مجموعة إلى حيث أقيم السرادق حيث احتشدت الجموع من جميع البلاد لتلتقي بالمرشد الجديد الذي جاء يزور الصعيد لأول مرة ورأيته وسمعته للمرة الأولي كان الرجل يتصبب عرقا وكنا على ما أذكر في شهر يوليو والغبار يملأ المكان ولما انتهي من كلمته أقبل الجميع يسلمون عليه وقد كان في رفقته الشيخ الباقوري والأستاذ سعد الوليلي وآخرون من الإخوان وقام الأخ سعد بتقديم فضيلته فسلمت عليه وقبلت يده إحساسا مني بالثقة الكاملة في شخصيته وقد شاهدت فيه سمات الإخلاص للدعوة وعدنا من حيث أتينا ننتظر اليوم المحدد لزيارته وصحبه لإسنا .

حفل إسنا

أعددنا العدة لزيارة الأستاذ المرشد فحددنا مكان الحفل في الشارع الذي تطل عليه الشعبة واجتمع مجلس الإدارة لتوزع التكاليف على الوجه الآتي :

1- لم يكن بالمدينة محل للفراشة فاستعضنا عنها بأطقم الجلوس من بيوت الإخوان وقام كل أخ بإحضار طاقمه من منزله وجمعنا ما استطعنا من كراسي من جهات متعددة .

2- خصصنا مجموعة تذهب إلى محطة إسنا لاستقبال المرشد وصحبه والمجئ بهم في ( الحناطير) إلى مكان الحفل.

3- هيأنا وسائل الإضاءة ( بالكلوبات ) حيث لم تكن بالمدينة محطة إنارة واتفقنا مع صاحب ميكروفون لتوزيع مكبرات الأصوات .

4- اتفق على أماكن المبيت في مساكن الإخوان .

5- خصصت مجموعة لإعداد المكان واستقبال الوافدين بعد أن قمنا بعمل الدعاية اللازمة في المساجد والشوارع.

ثم كان الحفل .. وفي البداية قام الإخوان بصف الأطقم والكراسي وطلب من الإخوان أن يحتلوا الصف الأمامي في وقت مبكر لتخصيصه لمرافقي الأستاذ المرشد وبينما هم جلوس قدم علينا ( محمد بك حزين) وكأنه الرجل تقتضي أن يكون في مقدمة الحاضرين فإذا به يجد الصف الأول وقد شغل بالإخوان وجلهم من عامة الناس فوقف بعض الإخوان ليتنازل عن مكانه للرجل فنظرت إليهم نظرة تذكرهم بالتعليمات التي تقتضي أن يظلوا في أماكنهم فجلسوا والرجل يتحرك أمامهم جيئة وذهابا وهم وقوف وجلوس فالموقف شاذ وقد عودهم الرجل أن يكون هو السيد والناس هم العبيد ولكن الدعوة جعلتهم يحسون معني المساواة وكان الرجل ذكيا فآثرا أن يقف عند مدخل الحفل مع مجموعة الاستقبال للترحيب بالقادمين كواحد من الإخوان وكان ذلك كسبا للدعوة .

وعلى رصيف محطة إسنا فوجئ الإخوان المخصصون لاستقبال الأستاذ المرشد ( بعباس بك حزين) يقف وسطهم ومعه بعض رجاله وما أن وصل القطار حتي كبر الإخوان ودخل إلى الديوان عباس بك ورجاله ليسلم على الأستاذ ويأمر بحمل الحقائب والعودة بها إلى قصره واستأذن الأستاذ بأن يكون ضيفه في هذه الليلة وقبل الأستاذ الدعوة .

وتحرك الركب بالعديد من ( الحناطير) يرددون الأناشيد والهتافات , وما أن وصلوا مكان الحفل حتى حناجر الحضور بالتكبير والتهليل وترديد شعارات الإخوان ثم جلس الجمع وبدأ الحفل بالقرآن وكلمة مسئول الشعبة ثم قدم الأستاذ المرشد الذي أعتلي المنصة في وقار القضاة

وأخذ يتكلم كلاما متزنا يلقيه في بطء وكأنه في ساحة القضاء يلقي على الحضور حيثيات الحكم ويذكر مبرراته ولم يتعود الناس الذين سمعوا حسن البنا من قبل هذا الأسلوب الهادئ ولم يقدر معاني الكلمات إلا أولوا الألباب وقليل ما هم وقام المسئول فقدم الشيخ حسن الباقوري رجل البلاغة والبيان فبدأ ككلامه بأن قال " إن كلمات فضيلة المرشد حسن البنا بلغت من القوة لأن تصلح كل جملة قالها عنوانا لكتاب ضخم لترجمة المدلول الذي يهدف إليه الأستاذ ".

ثم استرسل في الكلام فأشبع الأسماع وألهب القلوب واستمتع الناس بكل ما كانوا يأملون . وانتهي الحفل وسلم الجميع على الأستاذ ورفاقه ثم صعد إلى مقر الشعبة والتقي بالإخوان وقد سألني الأخ سعد الوليلي: هل هذه شعبة الإخوان أم بيت واحد منهم ؟ فلم يكن يتصور أن الدعوة في إسنا بلغت من الانتشار بحيث يكون لها مقر كما هو الحال في البلاد التي للدعوة بها قدم .

ثم رافق ( محمد بك حزين) الأستاذ المرشد إلى قصر شقيقه عباس بك واستضاف وجهاء إسنا بقية الإخوان .

حفل إدفو

استعد الإخوان لإقامة حفل استقبال الأستاذ المرشد فاجتمع مجلس الإدارة بمقر الشعبة الجديدة التي استأجروها من عضو مجلس النواب الأستاذ ( ابو كرورة) وهو مبني مستقل يحيط به فناء واسع به خمس غرفات تطل على جسر ترعة ( العقيدي ) وهو الشارع الرئيسي بالمدينة

وكالمتبع وزعت الأعمال على الإخوان واتفق على أن ينزل الأستاذ ضيفا على أحد الإخوان . ووجهت الدعوة إلى مديري الإدارات والمحامين والأطباء وإلى أهل إدفو واكتمل الجمع وذهبت مجموعة من الإخوان إلى محطة سكة حديد إدفو التي يفصلها النيل عن المدينة وما أن وصل القطار حتي تعالت الهتافات بالتكبير وصعد الأستاذ أبو كرورة عضو مجلس النواب وسلم على الأستاذ المرشد ووجه إليه دعوته ليكون ضيفه في هذه الليلة فقبل دعوته.

وكانت المراكب راسية على شاطئ النيل تنتظر الإخوان وأخذ البحارة يوجهونها إلى الشاطئ المقابل والهتافات تتردد والأناشيد تلقي حتي رست على الشاطئ وتحرك الركب في الحناطير إلى مكان الحفل ودوي المكان بالتكبير وبدأ الحفل بالقرآن الكريم وتكلم الشيخ مصطفى رمضان " عضو مجلس الشعب عن دائرة إسنا بعد ذلك " ثم قدم الأستاذ الباقوري ثم القرآن الكريم .

موقف حرج

التقي الأستاذ بعد الحفل بإخوان إدفو وإسنا لفترة من الوقت وتهيأ الجميع للانصراف وناديت على الأخ الذي سيستضيف الأستاذ المرشد ليصطحبه إلى منزله فبدأ عليه الاكتئاب وقال في حزن : لقد استضافه الأستاذ أبو كرورة عضو مجلس النواب وكان موقفا حرجا إن هذا الأخ يرد أن يحظي بمبيت الأستاذ المرشد عنده وقد اتخذنا قرارا بذلك وقد يتعرض هذا الأخ إذا حرم من مبيت الأستاذ المرشد بمنزله إلى نكسة قد نفقده بعدها وهو الأخ المخلص الذي حرص على إخوانه فكيف التصرف ؟....

لم أجد حلا لهذه المشكلة إلا أن أعرض الأمر على الأستاذ المرشد شخصيا فجئته وهمست في أذنه بحقيقة الموقف وعلى الفور أصدر قراره بأن يذهب إلى منزل الأخ ويعتذر المسئول للأستاذ أبو كرورة ولتبقي الحقائب عنده ونفذنا الأمر وكان رأيا صائبا دل على بعد نظر الأستاذ المرشد واحترامه لقرار الإخوان .

رحلات إدفو:

قمنا بتنظيم الرحلات إلى قري مركز إدفو شمالا وجنوبا , وتعرفنا في بعضها على إخوان من بحري ففي قرية ( الكلح شرق ) كان يقيم بها رئيس المركز الاجتماعي المقام بالمدينة وهو من خلص الإخوان . وجمع لنا الناس ف مقر المركز وكان بينه وبين العمدة خلاف ولكنه فرض شخصيته عليه بسبب حب الناس له وسعيه من أجل خيرهم عن طريق المركز الذي كان قبله خاضعا لسلطان العمدة .

وفي قرية ( سلوه بحري ) كان الأخ حسن حلمي مهندس محطة الرفع بها وهو من إخوان دمنهور وكان لقاء حارا وتعرف على إخوان إدفو .

وفي زيارة لإحدى القرى استضافنا واحد من أهلها لنحيي الحفل أمام منزله ولما بدأت الحديث جاءني وهمس في أذني أنه جمع " الحريم" في حجرة تطل نافذتها على الحاضرين وأنهن من خلف الستار يردن الاستماع لما يقال وطلب مني أن أرفع صوتي حتي يكون مسموعا لهن واستجبت لطلبه عسي أن يكون الأمر فاتحة لإنشاء قسم للأخوات وتعددت الزيارات والاتصالات بالناس وبدأت شعبة إدفو تحس بوجود أجنحة لها في الريف .

مسيحي يلقي درس الثلاثاء

ونشط إخوان إدفو وحرصوا على إقامة درس الثلاثاء ودعوة الناس إليه بكل وسائل الدعاية المتاحة وحضر إلينا مدرس مادة التاريخ بمدرسة إدفو الثانوية يعرض علينا أن يلقي محاضرة عن أحمد عرابي واستحسنا الفكرة ورحبنا بها ووجدناها فرصة لطمأنة الأقباط بالمدينة على أننا قوم غير متعصبين وتجول واحد من الإخوان ( بالحنطور ) في الشوارع يدعو الناس من خلال الميكروفون إلى محاضرة يلقيها فلان باسمه ولقبه وكان الأمر موضع استغراب الناس وحرص الجميع على حضور هذا الدرس وغصت الدار حجراتها وفنائها بالحاضرين واشتد الزحام فافترش الناس الأرض أمام الشعبة وشغلوا الطريق وتوقف المرور في الشارع العام .

وأفاض المحاضر وأجاد وردد حقائق عن أحمد عرابي يجهلها الكثيرون وتخلو منها كتب التاريخ التي حرص المستعمر على إغفالها لتشويه صورة هذا الرجل العظيم .

الماعز والأوتوبيس

وفي يوم من أيام العمل في إدفو ركبت الأوتوبيس المتجه من إسنا إلى إدفو وفي الطريق توقف السائق لركوب ركاب من احدي القري وفوجئت بفلاح يدخل الدرجة الأول ومعه ماعز أخذت تراحمن في مقعدي فنبهت الكمساري إلى هذه المخالفة ولما حاول أن يلفت نظر صاحب الماعز إلى أن هذا الأمر ممنوع رد عليه بحدة :" به هو الراكب اللي راكب أحسن من المعزة ( أجطع) لها تذكرة درجة أولي ولن أنزل مهما كانت الظروف ومهما كان المعترض – يقصدني شخصيا " فآثرت السلامة وسكت تقبل الكمساري هذا الموضوع الشاذ وقام باستخراج تذكرة بالدرجة الأولي للماعز وظلت تجاورني وتلقي بذلها عن قدمي طوال الطريق .

نظام الكتائب في ادفو:

تردد على الدار كثير من الشباب وبعض التجار ممن كانت لهم سابقة اتصال بالإخوان قبل محنة النقراشي وسنحت الفرصة لاختيار مجموعة منهم لتكوين ( كتيبة ) في إدفو وصرنا نلتقي مرة كل أسبوع في بادئ الأمر في دور الإخوان وكان يشاركنا واعظ المركز الرجل المتواضع وكثيرا ما كنا نعقدها في الخلاء على المصطبة أمام المنزل بعد صلاة العشاء حيث تنخفض الحرارة يتم ذلك في المنازل النائية بعيدا عن العمران ثم اتخذنا الشعبة بعد ذلك مكانا للالتقاء , وكنا نبيت ليلتنا بها على هيئة معسكر ووفقا لبرنامج روحي وثقافي وفي الصباح كنا نمارس الرياضة داخل الشعبة وخارجها وكان إخوان الكتيبة هم عمد الدعوة في المدينة وقراها وتأثر سلوكهم بآداب الإسلام الأمر الذي ترتب عليه أن كان بعض أهل المدينة يأتون بأبنائهم الطلبة يرجوننا بإلحاح أن نتقبلهم أعضاء في الشعبة ليرقوا بمستواهم السلوكي اقتداء بزملائهم شباب الإخوان .

والد الأخ السيد فايز:

المهندس سيد ممن أضيروا بسبب حادث مقتل النقراشي وصدر عليه حكم بالسجن وكنت أعرف عنه الكثير لسابقة جهاده ولكني لم أره , وشاءت إرادة الله أن أري والده زارنا في الشعبة في إدفو وقدم لنا نفسه بوصفه والدا للمجاهد الكريم السيد فايز وسعدنا به كثيرا واكتملت سعادتنا حين أخرج من جيب بدلته العسكرة خطابا مرسلا له من ابنه ( السيد ) من داخل سجنه وأخذ أحدنا يقرأ فحواه والجميع يستمعون فإذا كلماته تلهب المشاعر وتوقظ روح الجهاد في نفوس الإخوان ويعلم الله أنه كان تحليلا رائعا لدعوة الإخوان وما أحوج الشباب إلى دراسة مثل هذا البيان .

الانقلاب العسكري

كان ذلك صبيحة يوم 23 يوليو 1952 وكانت إقامتي يومها في إدفو لما علمت بالنبأ خرجت من المكتب إلى الشارع لأجد الناس محتشدة أمام أجهزة الراديو في المقاهي والمحلات واشرأبت الأعناق وانزاح الهم من فوق الصدور وأحس الجميع أنهم مقبلون على تغيير قد يكون فه الخير – ولا يعلم إلا الله ما كان يخبئه القدر لهذه النفوس المكلومة وما ستعانيه في مستقبل أيامها – واتجه تفكير العامة من الإخوان المسلمين ظنا منهم أنهم أصحاب هذا الانقلاب وأنهم صانعوه وأن كلمة الله ستكون هي العلا وأخذوا يسألوننا ماذا سنفعل من أجل الإسلام وتودد البعض إلينا معتقدين أن الجولة في تنظيم أمور البلاد ستكون لنا ويعلم الله أن هذا الأمر لم يدر بخلدنا وما فكرنا فيه لحظة من ليل أو نهار .

حادث غرق

دعانا الأخ إبراهيم خضر عضو مجلس شعبة إسنا إلى زيارة عزبته القريبة من بلدة ( أرمنت) وكنا عشرة ولبينا الدعوة وكنا في منتصف شهر طوبة وفي الوقت المحدد تجمعنا أمام منزله القائم على شاطئ النيل وجاء السائق يقود سيارة الأخ إبراهيم وهي من الطراز العتيق الذي يدار (بالمانافلا) ولها كبود ( سقف) من التيل وجوانبها مفتحة وما عهدت في المدينة سيارات من ذلك فوسيلة الانتقال للأغنياء والفقراء هي الحنطور .

وتكدسنا جميعا داخل السيارة وكنا نرتدي الملابس الشتوية وقام الأخ إبراهيم بوضع أواني الطعام المعد في منزله في ( شنطة) السيارة وتحرك بنا السائق إلى العزبة وكان الأخ إبراهيم قد طلب مني أن أحضر معي شريط المقاس لقياس قطعة أرض اشتراها حديثا وكنا يوم جمعة .

وما أن وصلنا إلى مشارف القرة وصرنا قريبا من مساكنها حتى طلب الأخ إبراهيم من السائق أن يتوقف وأشار علينا بالنزول إلى حقل القصب وطلب من أحد عماله أن يقطع لنا بعض العيدان كان ذلك قبل الصلاة بساعتين تقريبا قمت خلالهما بقياس قطعة الأرض المشتراه وبعدها توجهنا إلى المسجد وكان خطيبنا هو الشيخ مصطفي رمضان وهو من الإخوان المعدودين الذين حباهم الله بطلاقة اللسان وقوة البيان وبعد الصلاة توجهنا إلى مسكن خاص بالأخ إبراهيم وتناولنا غداءنا وأخذنا بعد الغداء نتجول بين المزارع , واقترح أحدنا أن نستغل تواجدنا هنا ونواصل المسير إلى بلدة ( أرمنت) لزيارة الإخوان والتعرف عليهم وعلى أنشظتهم .

ووصلنا ( أرمنت) بسيارتنا وتوجهنا إلى مقر الشعبة فوجدناها مغلقة فتوجه أحدنا إلى منزل نائب الشعبة وعاد ومعه بعض الإخوان حيث قاموا بفتح المقر وتوالي حضور الكثيرين لما علموا بمقدمنا وتم التعارف وتحدث بعض إخوان إسنا ثم صلينا المغرب وانصرفنا وتحرك بنا السائق حتي إذا ما وصلنا بالقرب من نهاية عمران ( أرمنت ) توقفت بنا السيارة فجأة وأبت المسير ونزل السائق يبحث عن مصدر الخلل فوجده في " الموبينة" ولم تسعفه خبرته في كيفية إصلاحها فهو سائق جرار وليس سائق سيارة وفكرنا في أن يعود أحدنا إلى منزل نائب الشعبة ليبحث لنا عن ورشة لتصلح هذا الخلل غير أن اليوم كان جمعة وجميع الورش مغلقة .

فأخذنا نبتهل إلى الله أن يوفق السائق في علاج هذا الخلل وهداه تفكيره إلى إحضار قطعة من الطين من الترعة المجاورة لنا وأخذ يلصق بها الثقب الذي ظهر في ( الموبينة) وابتهلنا إلى الله أن تفلح الحيلة وقام السائق بإدارة ( المانافلا) ليحدث ما تمنيناه ويدور الموتور , وسارت بنا السيارة وكانت الساعة قد شارفت على الثانية عشرة مساء , وواصلت السيارة مسيرتها والليل ساكن والقمر بدرا يوضح لنا الطريق وأطفأ السائق الأنوار مكتفيا بضوء القمر وأخذنا نتسامر مع السائق لنوقظه حتي لا يغفل فنضيع وقبل وصولنا إلى قرية ( كيمان المطاعنة ) والعربة تسير على جسر ترعة المطاعنة وهي من كبريات ترع المنطقة – أخذ السائق يقص علينا قصة أوتوبيس كان يسير في هذا الموقع وانحرف فغرق بركابه واستقر في قاع الترعة ومات الجميع وطلب منا أن نقرأ الفاتحة على أرواحهم , وما أن انتهينا من القراءة حتي فوجئنا بالكارثة – السيارة تنحرف بنا نحو الترعة وتتدحرج وتنقلب مرات ونحن في سكرة الموت والجسر مرتفع والمياه منخفضة وتستقر بنا السيارة واقفة على عجلاتها الأربع في قاع الترعة وإذا بي أجد نفسي أطل من كبود السيارة القماش ( وهذا من لطف الله أنه كان مصنوعا من التيل ) فقد تمزق لتطل منه الرؤوس الغرقي .

وشاهدت ضوء القمر فأحسست أني ما زلت على قيد الحياة وأخذت أتسلق هيكل السيارة , وكنت أرتدي ملابس الشتاء وفوقها بالبالطو فامتصت الماء وصارت عبئا ثقيلا أحمله على جسدي وأخذت أتحرك نحو الشاطئ مع الإخواة وأنا لا أجيد السباحة فكنت مرة وأغوص مرة وتداركتنا عناية الله حتي وصلنا الشاطئ وإذا بخفير يقف على الجسر وهو ينظر إلينا ويتمتم قائلا :" الله يلعنكم لازم تسكروا في ليلتكم الغبرا دي" وحضر العديد منهم يحملون بنادقهم وطلبت منهم أن يهبطوا إلى مستوي سطح الماء ومدوا إلينا بدباشك" البنادق ويجذبونا بها , ونفذوا الفكرة وأخرجونا من الماء ولم يبق إلا الشيخ بيومي في وسط الترعة يستغيث ويردد الأدعية كما كنا نرددها حين كنا في وسط المياه . ونزل إليه الخفراء ودفع به إلى الشاطئ وإذا به وقد كسرت ذراعه وشجت شفتاه والدم يسيل منه بغزارة وتجمعنا على شاطئ الترعة حيث الطريق العام وسارع الخفراء بجمع الحطب من الحقول وأشعلوا النيران بحثا عن الدفء من البرد القارص حيث أصابتنا الرعشة من برودة الجو وبرودة الماء الذي تشعبت به ملابسنا الثقيلة والتي اضطررنا إلى أن نخلعها عن أجسامنا وأبقينا ما يستر عوراتنا وأخذنا نعرض أجسامنا للهب النار بينما كان بعض الخفراء يفتحون غرفة على الجسر وجمعوا بعض الحطب وأشعلوه بداخلها وطلبت إناء به ماء ووضعته في النار لتسخين المياه وطلبت من الإخوان أن يغسلوا جرح الشيخ بيوم وأن يدلكوا بالباقي ذراعه المكسور فقد كنا جميعا سالمين والحمد لله ولم يصب سواه وكان وقتها يستعد للزواج وحزن للقطع الذي أصاب شفتيه خوفا من أن لا ترضي به عروسه فكان يرد باستمرار : ( يا شلضمومتي .. يا شلضومتي ) ونحن نهدئ من روعه .

كانت الساعة قد بلغت الثانية مساء ولابد من الرحيل قبل أن يطلع علينا النهار ونحن على هذه الحالة المزرية طلب الشيخ مصطفى رمضان من أحد الخفراء أن يذهب إلى منزل واحد من أعيان القرية وكان على معرفة بت ليخبره عن الحادث ويطلب منه سيارته لنقلنا إلى إسنا , وأخذ خفير ينادي عليه ولما أطل عليه عرفه بالحادث غير أنه لم يستجب لما طلب منه خشية أن تكون مكيدة مدبرة يراد بها قتله وأغلق النافذة وعاد إلينا الخفير يبلغنا رفض الرجل نجدتنا , فأرجعه الشيخ مصطفي بعد أن طلب منه أن يذّكر هذا الثري " بأمارة " لا يعرفها إلا هو , وعاد إليه الخفير ينادي عليه وذكره بالأمارة وتأكد من صدق المبلغ وقام بإحضار العديد من الملابس الداخلية والخارجية وطلب من الخفير أن يذهب بها إلينا وأخرج سيارته اللوري وسيارته الخاصة من الجراج وقادهما السائقان إلى مكان تواجدنا واستبدلنا ملابسنا المبللة بالملابس الجافة وركبنا السيارتين وركبت السيارة اللوري المكشوفة ومعنا الأخ الشيخ بيومي ممددا على أرضيتها ونحن نتعهده بالرعاة وطلبت من السائق أن يسير في مقدمتنا ولا تتجاوز سرعة السيارة خمسة كيلوا مترات في الساعة حرصا على راحة الجريح الذي غطيناه بالأغطية لتقيه قسوة البرد واتجه الركب إلى إسنا حيث دخلناها والمؤذن يؤذن لصلاة الفجر ومررنا بشوارعها على حين غفلة من أهلها وأخشي ما كنت أخشاه أن تقابلنا دورية البوليس وتقودنا إلى المركز وذلك يعني الفضيحة ولكن الله سلم . ورأيت أن نتجه جميعا إلى منزل الأخ محمد عارف الذي كنت أقيم معه ونبقي به حتى يطلع النهار ويتوجه كل منا إلى منزله , وأخذنا نعالج آلام الشيخ بيومي بكمادات المياه الساخنة حتى يطلع النهار .

وبينما كنا في منزل الأخ عارف كان أهل الإخوان يبحثون عن ذويهم قلقين عليهم لمبيتهم خارج بيوتهم دون سابق إعلامهم بذلك ولم يطمئنوا إلا بعد وصول الإخوان إلى منازلهم يحملون معهم أنباء الحادث الرهيب الذي سرعان ما علم بت سكان المدينة وصار حديث الجميع .

ونعود إلى مكان الغرق حيث طلع النهار والسيارة مستقرة في قاع الترعة وعلم العمدة بالحادث من الخفراء فانتقل إلى المكان وشاهد الوضع وكان بينه وبين الثري الذي نقلنا بسيارته ثأر قديم ووجدها فرصة استغلها للانتقام منه فذهب من فوره إلى ضابط نقطة المطاعنة ليخبره بالحادث ويطلب منه تحرير محضر بخصوصه وتم له ما أراد وقام الضابط بالمعاينة وأثبت الحادث وعلم الثري بذلك فسارع إلى ضابط النقطة ورجاه أن يحفظ التحقيق إذ أن غالبية من كانوا بالسيارة من الغرباء ولسوا من أهل البلاد ويترتب على التحقيق أضرار بهم ووافق الضابط على تمزيق المحضر بشرط أن يتعهد الثري بإخراج السيارة فورا من الترعة ليزول أثر الجريمة واستجاب الثري وجاء بجرار ومعه العمال وربطوا السيارة بحبل سميك وتحرك الجرار وسحب السيارة من قلب الترعة مغطاة بالوحل .

ويا للعجب فقد تقدم سائق الأخ إبراهيم إلى المقدمة السيارة وأدار ( المانافلا) فإذا بمحرك السيارة يدور كأنه لم يحدث لها شئ وشاهد الناس المنظر فكبروا كما وجدوا البط الصغير الذي كان معنا في السيارة وهو يسبح على سطح الماء فأمر الثري بجمعه واحتفظ بت في منزله وتعهد بتربيته ليستضيفنا يوما على لحمه .

ومن الغرائب أيضا أن يفتقد الشيخ مصطفى رمضان نظارته أثناء الحادث ويجدها الناس داخل السيارة دون أن تكسر كما كنت قد افتقدت شريط المقاس وهو عهدة مصلحته فوجدوه وهو الآخر في قاع السيارة .

وكان حادثا تحدث به الركبان وتحدث بت الناس في كل مكان ورأوا فيه كرامة أيضا خص الله بها " الإخوان المسلمين " صاروا يعدوننا من أولياء الله ودخل الكثير من الناس في دعوة الله وكانت الحادثة فتحا مبينا قوي الله به شأن الدعوة والدعاة .

النقل إلى ادفو:

صدر قرار بنقلي إلى مكتب إدفو كمسئول عن المكتب واقتضي ذلك أن أقيم بها وانقل مشتملات مسكني إلى الاستراحة التي أقيم بها فوق المكتب وما أ، علم إخوان إسنا بذلك حتى تأثروا وكنت أكثرهم تأثرا فإسنا بلد متميز بأهله وهي بلد تفوق الكثير من مدن الصعيد في بيئتها ومعيشتها وجمال موقعها على النيل , والأهم عندي هم إخوانها فقد كانوا في نظري امتدادا لإخوان دمنهور استجابوا للدعوة بصدق فنصروها ونشروها وأقبلوا عليها بوفاء نادر وكانوا لبنة طيبة تشكلت بيسر وفق ما تقضي به نظم الإخوان وترقوا بدراستهم الإخوانية إلى أعلى الدرجات الفهم والإدراك

في إدفو:

كانت إقامة دائمة بعد أن نقلت مكونات حجرة النوم التي صنعتها ف إسنا وخصصت واحدا من ( قياسي ) المكتب لأعمال الاستراحة وكان رجلا طيبا متقدما فى السن فكان يعد لى الطعام ويقضي حوائجي ويجلس إلى في المساء وقبل النوم ليحدثني عن الكثير من ذكرياته في بلاد الصعيد .

مساعي الإخوان في دمنهور

بعد صدور قرار اعتقالي صدر قرار آخر من مدير مصلحة المساحة بفصلي من الخدمة وبعد اثنين وعشرين شهرا أعيد تعييني كموظف جديدا فأشار على الأخ وهبي الفيشاوي وكان يعمل بمجلة المسلمون " بالقاهرة – أن أرفع قضية أمام مجلس الدولة ضد المساحة ووافقته واستكتبني طلبا وأنا في إسنا أرسلته له بالبريد وبعدها أنسيت هذا الأمر غير أن الأخ وهبي تابع الطلب وذهب به إلى مكتب الأخ حسن عشماوي المحامي الذي قام بدوره بإجراءات التقاضي ودفعت الرسوم المقررة دون أن يطالبني بها أحد . وما تذكرتها إلا يوم أن وصلني من الأخ وهبي صورة حكم لمحكمة بتعويض مادي عن الأشهر الاثنين والعشرين مع عدم أحقيتي في ضم مدة الخدمة وكان ذلك بعد أن نقلت إلى دمنهور .

وأمرا آخر هو موضوع العودة إلى دمنهور فبعد أن استقر مقامي في إدفو أحسست بالحنين إلى ا البلد الأم دمنهور الحبيبة وجاءتني الأنباء بالمساعي المبذولة من إخوان دمنهور من عودتي ومنها مقابلة المسئولين بمصلحة الماسحة في القاهرة والسعي لديهم لإصدار قرار بنقلي إذ لم يبق ممن " نفوا " إلى الصعيد من هذه المصلحة سواي وتكررت الاتصالات ولكن لم تتحقق الرغبة .

عبد الناصر وطلب النقل:

كان وقتها وزيرا للداخلية وكانت العلاقات بين الإخوان وبين ضباط الانقلاب لم تسوء بعد ورأى الإخوان أن يقابلوه يفاتحوه في أمر النقل ووافق على الفور وأبلغني الأخ ( دسوقي بقنينة) بأن الأمر كان يقتضيني أن أقدم طلبا بنقلي أو كسبا للوقت فقد أخرج عبد الناصر ورقة من مكتبه وكتب الطلب وبوصفه وزيرا للداخلية فقد أشر عليه بالموافقة وإبلاغ مدير عام الماسحة وأمن الدولة بذلك .

لم يكن الانقلاب قد ثبت أقدامه ولم يكن قد اكتسب الخشية والخوف من سلطانه فتلكأت مصلحة المساحة في التنفيذ وأخذ الطلب طريقه بالأسلوب الروتيني المعروف حيث أرسل الطلب إلى تفتيش المساحة بالأقصر ليبدي رأيه فسارع بالرد بالموافقة على أن يرسل بدلا عني وكانت المشكلة فليس أحد من موظفي بحر يرغب في أن يبادلني قبلي ولا أعرف أحد من موظفي أبناء الصعيد لأتصل به لإتمام البدل وتوقف أمر النقل واستسملت لقدر الله وما اختاره لي .

مكتب أسوان

هو مكتب رئيسي باعتباره في نهاية مدن الصعيد ويقوم بأعمال المصلحة على اختلاف أنواعها وهو همزة الوصل بين إقليم مصر وبلاد النوبة وترسوا أمامه في النيل " ذهبية " خاصة لمصلحة المساحة تستعمل في تنقلات الرؤساء من النوبة إلى أسوان وبالعكس وانتدبت للعمل رئيسا لهذا المكتب في غيبة رئيسه وكانت فرصة للتعرف على إخوان أسوان على معالم أسوان التي لم أزرها منذ كنت طالبا رحت أتنقل في عملي بين إدفو وأسوان ووسيلة انتقالي هي القطار الذي كان يقطع المسافة في ثلاث ساعات .

الأخ عبد البديع صقر في القطار

وكانت مفاجأة ذات يوم حين عبرت النيل في إدفو لأركب قطار ( الأكسبريس) المتجه إلى أسوان وكان من عادتي أن أمر على دواوين الدرجة الثانية لأتخير الرفيق قبل الطريق وفتحت احدي الدواوين لأجد في مواجهتى ( الأخ عبد البديع صقر ) والذي لم أقابله من سنوات عديدة وتعانقنا وكان معه إخوان من السودان عرفني بهما وعرفت أنه مسافر إلى السودان في رحلة دعوية يرافقه هذان الإخوان الكريمان وكان أحدهما بيده مصحف يقرأ فيه واستمر برنامج الرحلة كما رسمه الأخ عبد البديع وأخذت أستمع إلى التلاوة وكان هو يقوم بالتفسير بأسلوب جديد لفت نظري ومثال ذلك تعليقه على قوله تعالي ( وإذ قال موسي لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذا جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) ( المائدة) : 20) فقال إن الله تعالي يقول لبن إسرائيل ( إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) فخصص في النبوة وعمم في الملك لأن الناس لا يصلحونه أن يكونوا جميعا أنبياء ولكن يمكن أن يكونوا ملوكا فللنبوة مواصفات أما الملك فذلك في مقدور أى ثوري يسعي إلى انقلاب يتوج نفسه ملكا بعد على شعبة وهكذا استمرت التلاوة واستمر التفسير حتي وصل القطار أسوان فودعتهم جميعا بعد أن استمتعت بهذه الرحلة الجميلة .

قرار مجلس قيادة الثورة

اشتد بي الوجد وأحسست بالحنين إلى بلدي وأحبائي في كفر الشيخ الذين كنت أجد المتعة في زيارتهم مرة كل شهر كنت أقاسي فيها الأهوال , وكثيرا ما كنت أقيم في مرحاض الدرجة الثانية من شدة الزحام خاصة أني كنت أحمل معي بعضا من هدايا الصعيد كما تضاعف حنيني إلى إخوان دمنهور وبدأ الضيق ينتابني كلما خلدت إلى نفسي ... ثم جاء الفرج فبمسعي من الإخوان أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا عاما بنقل الموظفين الذين نقلوا من بلادهم بسبب انتمائهم للإخوان المسلمين إلى البلد الذي كانوا فيه قبل قرار حل جماعة الإخوان عام 1948 ولم يكن من الإخوان من ينطبق عليه هذا القرار في دائرة عملي سواي وأبلغ القرار لمصلح المساحة وكان الضباط وقتها قد قويت شوكتهم وكشروا عن أنيابهم فأسرع المدير العام يبلغ القرار تليفونيا لمفتش الأقصر مع التنبيه بسرعة التنفيذ منعا من تحمل المسئولية .

حوالة برقية

ما أن علم إخوان دمنهور بالقرار حتي عجل الأخ أحمد نجيب بإرسال حوالة مالية بمبلغ 20 جنيها عن طريق البرق تصرف من مكتب بريد إسنا واتصل بي رئيس المكتب وذهبت إلى هناك في اليوم التالي وتسلمت المبلغ وكانت فرصة التقيت فيها بإخوان إسنا وقضيت معهم ليلة مباركة وسألوني عن تنفيذ النقل ولكنه لم يكن قد تحدد بعد وعرفوه بعد ذلك عن طريق مكتب إسنا .

نهاية أيامي في إدفو

اتصل بي تليفونيا مفتش التفتيش المهندس أنور عبد المجيد وطلب مني أن أسلم عهدتي لمن سيخلفني وأن أقدم طلب أجازة لمدة خمسة أيام تتصل بعطلة عيد الفطر ولم يكن قد بقي لى إجازات غير أن الخوف من المسئولية جعليه يعالج هذه العقبة واستعددت ليوم السفر واستضافني أخ لتناول طعام الإفطار بمسكنه القريب من شاطئ النيل حتي تكون لدي فرصة لعبوره واللحاق بالقطار الذي يصل محطة إدفو بعد المغرب وركبت القطار وعند وصوله إسنا شاهدت من النفاذة الشيخ بومي يهرول بين القضبان يبحث عني وأخذ يلوح بيديه وأنا أبادله التحية ويهيمن على مشاعري هذا الوفاء بينما تودع ناظري أطلال إسنا وفي جوانحي لها أجمل الذكريات وفي محطة الأقصر وجدت المفتش وبعض الموظفين على رصيف المحطة جاءوا يودعونني وبحثوا عن رئيس مكتب أسوان الذي كان قد تقرر نقله وكان من الإخوان فلم يجدوه وفي مدينة المنشأة التابعة لسوهاج وجدت الأخ محمد عارف الذي كان قد نقل إليها ينتظرني ويسلمني لفافة داخلها أوزة لأتناول سحور في الطريق وانتهي بي المطاف في بلدتي بعد رحلة دامت ثلاث سنوات تقريبا قضيتها بين بلاد الصعيد أحمل لها في نفس أجمل الذكريات .

الفصل الخامس: إلى دمنهور من جديد

انقضت إجازة العيد وتوجهت إلى دمنهور لأسلم نفسي لتفتيش المساحة وهناك تلقاني الأخ ( مصطفى الخياط ) الذي صدر قرار نقله من الأقصر قبلي بسنة تقريبا .

وعدت للعمل بمكتب المسطحات ولكن المفتش استدعاني ليطلب مني الاستعداد للنقل رئيسا لمكتب ( أبو المطامير ) الذي ساءت سمعة رئيسة أملا في تطهيره .

وما إن علم إخوان دمنهور بذلك حتي سارعوا إلى الاتصال برؤساء المصلحة للإلغاء النقل ولكنني كنت راغبا فيه وأخذت فكرة عن العمل بهذا المكتب واستجاب المفتش لرغبة الإخوان بأن أتواجد يومي الأربعاء والخميس من كل أسبوع بالتفتيش .

وذهبت إلى ( أبو المطامير ) واستملت المكتب وخصصت حجرة منه للمبيت فيها وزاولت عملي وكنت أذهب إلى دمنهور يوم الأربعاء من كل أسبوع .

الإخوان في ( أبو المطامير )

اتجه نظري بحثا عن إخوان قدامي بالمدينة فتعرفت على ( جعفر ) سائق بالضمان الاجتماع و( شعراوي محسن) حلاق وأخوين بالمحكمة وتوطدت الصلة بيننا وبدأنا في زيارة القري المجاورة وتنظيم لقاءات فردية وعلمت أن الإخوان أقاموا مسجد بالمدينة يعلوه مقر الشعبة , وأن مفتاحها مع واعظ المركز الشيخ عبد العزيز شلبي فاتصلت به وتزاورنا ولمست فيه العالم الغيور على دنه وخاصة في هذه المدينة التي يغزوها المسيحيون تحميهم الإدارة وتساندهم الشركات الأجنبية وخاصة شركة جانكليس واتصلنا بأخوين وافدين من ليبيا هما الأخ أحمد السنوسي وعبد الرحمن الجزيري وكان فيهما خير كثير كما تحركنا لنشر الدعوة في مدينة ( حوش عيسي) والقري التابعة لها ووجدنا بها إخوانا قدامي منهم الأخ (عباس البنا ) بالكوم الأخضر .

قضية التعويض

صدر حكم مجلس الدولة لصالحي وقرر لى تعويضا عن مدة فصلي – 22 شهرا – قدره 320 جنيها , وكان في حكم المستحيل أن تدفع لى مصلحة المساحة هذا المبلغ وسدت الأبواب جميعها وأخذت أفكر في أن أصل إلى حقي عن طريق النوافذ لا الأبواب وتلك ضرورة لأني كنت في أزمة مالية شديدة فاتصلت بكاتب المساحة بدمنهور – محمد الشباسي – وعرضت عليه الموضوع فأبدي استعداده للاتصال بالمختص لصرف هذا المبلغ مقابل أخذ الفوايد التي قدرها مجلس الدولة – وكانت 17 جنيها – باعتبار حرمة هذه الفوائد – على حد تعبير الشباسي – وتحقق الحلم والأمل في وقت العسرة كما سيأتي فيما بعد.

التفكير في الزواج

بلغت سن الثانية والثلاثين وأحسست بحاجة ملحة إلى الزواج بعد أن مررت بمراحل تعرضت فيها لمحن عديدة وأحس إخوان دمنهور بهذه الرغبة فنشطوا وعلى رأسهم المرحوم الأخ ( أحمد نجيب الفوال ) الذي كان يعلم بضائقتي المالية وبعد بحث في كل مكان لم يتيسر الحصول على الزوجة المطلوبة .

ولما كان الأخ (عبد المنعم مكاوي ) على صلة وطيدة بأسر الإخوان فقد رأيت أن أفاتحه في الأمر وفي لقاء بمنزله في سخا فاتحته برغبتي وأخذ يستعرض شقيقات الإخوان فوجدني على سابقة علم بظروف بعضهن وعدم ارتياحي لهن , وإذا به يفاجئني في أسلوب مرح قائلا :" خلاص يا سيدي عندي أختي .. تعال أجوزهالك ومتنعاش هم الفلوس .. آدى طقم الصالون ونجهز لك حجرة النوم ".

وكانت مفاجأة فلم أكن أعلم أن له شقيقات باقيات بدون زواج ولكني أجبته بالموافقة وكان صريحا معي فاشترط أن أراها بطريقة لا تجرح شعورها ويكون لى مطلق الاختيار بعد ذلك واتفقنا على أن أراها خارج المنزل .

وتحدد اليوم والساعة والمكان بشركة بنزايون حيث خرجت من المنزل في رفق شغال لديهم – كنت أعرفه واستقبلتهم بالمحطة وسرت خلفها حتي دخلت بنزايون وأخذت تستعرض أقمشة مع العامل فوقفت بجانبها أسمع وأري وتورطت في شراء كرافتة استعملتها في حفل الزفاف بعد ذلك وعادت من حيث أتت وأنا أسير خلفها إلى المحطة وطلبت من الأخ عبد المنعم أن أراها بالمنزل وتحدد اليوم ودخلت علينا بالصينية وجلست دقيقتين ثم خرجت . أردت أن أستوثق بمعرفة شئ عن حياتها الشخصية فاتصلت بالأخ جلال عبد العزيز – مهندس التلفونات – وصارحته بالأمر وطلبت منه أن يفيدني بمعلوماته لأنه كان كثير التردد هو وأسرته على منزلهم فأجابني على كل ما سألت , وأخيرا قررت الزواج بها لثقتي وحبي للأخ عبد المنعم وصارحت والدتي فرحبت كثيرا فهي تعلم الكثير عن شقيقها .

وأخيرا تحدد موعد تقديم الشبكة وحضر أهل العروس بمنزلها في سخا وذهبت منفردا في هذا اليوم وتعرفت عليهم وطلبت يد العروس ورحب الجميع وبعد الشبكة تفاهمت مع الأخ عبد المنعم على موعد القران والمهر وتحدد لذلك أول يناير سنة 1954 .

اعتقال

ساءت العلاقة بين الإخوان ورجال الثورة وانتهي الأمر بالقبض على قادة الدعوة ومنهم الأخ عبد المنعم وجاءني ذلك في خطاب من خطيبتي وسارعت إلى هناك وكانت والدتها حريصة على ألا أتعرض أنا كذلك للاعتقال وعافاني الله منه وبعد أربعين يوما أفرج عن الإخوان .

الإعداد للزواج :

قمت باستئجار شقة قريبة من المكتب فوق مخبز وبداخلها خزان مياه المخبز وفوجئت يوما بالمياه تطفح من هذا الخزان لتغرق الشقة فقررت تركها واستأجرت شقة فوق المكتب بالدور الثالث واهتم الأخ عبد المنعم باستعجال ( الموبليا) – وكانت تصنع بميت غمر – وتحدد يوم 1/6/ 1954 موعدا للقران والزفاف وحضر إخوان دمنهور وكفر الشيخ وفي اليوم الثالث سافرنا إلى أبو المطامير

حادث المنشية

تأزمت الأمور بين الإخوان والثورة ثم كان حادث المنشية وعلى أثره اعتقل الأخ عبد المنعم وبدأت المحاكمات والتلفيقات وظهرت الصحف يومها وعليها صورته, وأقواله , وحجزت الصحيفة كي لا تراها زوجتي , ولم تعلم بمحاكمته وصدور الحكم عليه بخمسة عشر عاما أشغالا شاقة إلا مصادفة وبدأت سلسلة الأحزان من أجل شقيقها وسلسلة الخوف من أجلي حيث اشتدت الرقابة على المكتب والمنزل .

اتق شر من أحسنت إليه :

نقل إلى مكتبي كاتب من المنوفية , وكانت حالته النفسية يرثي لها , فأكرمته وسمحت له بالإقامة في غرفة من المكتب وصارت زوجتي تمده بالوجبات الغذائية , وأرحته في العمل , وفي يوم وصلت إشارة من المفتش يستدعيني لمقابلته لأفاجأ بشكوي أرسلها هذا الكاتب إلى المصلحة ومثلها للمباحث يتهمني فيها بأنني من الإخوان المسلمين وأنني أزاول أنشطة غير مشروعة وكان الوقت عصيبا والتعذيب على أشده , وخاف المفتش على نفسه وحول الشكوي إلى مساعده وكان رجلا شجاعا , فهدد هذا الكاتب بسوء العاقبة وأجري تحقيقا لمصلحتي وحفظ التحقيق .

الأخ شمخ:

جمعت مذكراتي وصوري وملخصات كثيرة وأعطيتها لأخ في أعماق الريف للمحافظة عليها غير أنه وضعها في حفرة في الأرض وأكلها الطين وضاعت المذكرات وكنت قد بذلت في كتابتها جهدا شاقا .. هكذا أراد الله .

زيارة الواحات الخارجة الأولي :

رتبت مع عديلي زيارة للأستاذ ( عبد المنعم ) في سجن الواحات الخارجة بالأسرة والدة الأستاذ عبد المنعم , وكان معي كريمتي ( نجوي ) وكان عمرها سنتين وبتنا في القاهرة ثم اتجهنا إلى ( البلينا) في قطار الصعيد وهناك وجدنا في اليوم الثاني لسفرنا قطار الواحات وعرباته أشبه بعربات قطار الدلتا وبعد ساعتين تحرك بنا إلى الواحات مخترقا سهولا وجبالا مرتفعة وسط صحراء جرداء لا خضرة فيها ولا ماء واستمرت مسيرته خمسة عشر ساعة وصلنا بعدها إلى استراحة التربية والتعليم وأقمنا ليلتنا وفي الصباح حضرت إلينا سيارة مكشوفة نقلتنا وباقي الزوار إلى سجن الواحات .

السجن :

عبارة عن مخيم محاط بالأسلاك الشائكة حوله الإخوان إلى بلدة بها كل متطلبات الحياة أقاموا فيه مزرعة وسط الصحراء ذات الرمال المتحركة وحظيرة للطيور وورشا ومصانع بالجهود الذاتية , وعند المدخل أقاموا خيمة استقبال الزوار وهناك حضر إلينا الأستاذ عبد المنعم وما إن علم الإخوان بمقدمي حتي حضر الكثيرون يسألونني عن أنباء الدعوة وتناولنا غداءنا وقدموا لنا ديكا روميا وحلوي صنعت بأيد متخصصة وقدموا لنا الهدايا ورجعنا على أن نعود في اليوم التالي , وتكرر اللقاء وكانت ( نجوي ) حريصة على ألا أفارقها فحالت بيني وبين المتعة بالجلوس مع الإخوان وبعد الظهر ودعونا ورجعنا إلى الاستراحة وفي اليوم التالي ركبنا القطار حيث أقلنا إلى ( البلينا) ومن هناك عدنا إلى أبو المطامير .

الزيارة الثانية :

استخرجنا تصريحا من مصلحة السجون وتحدد يوم الزيارة ,وتوجهت بالأسرة والوالدة وكانت زوجتي قد حملت بـ ( حسن) .. وأقمنا في ( لوكاندة ) بباب الحديد , واتصلت تليفونيا بالأستاذ محمد الصواف – المحامي الذي كان قريبا لرشاد مهنا وكنت قد قدمت له خدمة دون أن أراه وأعرفه حيث كان له دين بمبلغ ( أربعة ألاف جنيه) لدي يهودي أجنبي وتقدم بطلب للاستيلاء على أرض اليهودي مقابل الدين ولم تكن الأرض معلومة فهرب اليهودي للخارج وتمكنت من الاهتداء إليها وأتممت له الإجراءات – وفي مكتبة بعمارة 4 بممر بهلر بالقاهرة تعانقنا وقدمت له عديلي وتناولت الطعام بالمكتب ثم أحضر لى محاميا من مشاهير المحامين يمتلك عمارات بمصر ومائة فدان بمركز حوشي – وكان تابعا لمكتبي – ويريد مني مساعدته في العثور على الأرض – وكنت أعرف موقعها – مقابل أن أتقاسم معه المائة فدان فاعتذرت واعتبرت ذلك عملا غير مشروع ثم استضافنا الأستاذ بمنزله وحدثته عن موضوع الأستاذ عبد المنعم فوعدني بالسعي للإفراج عنه .

وتوجهنا بعد ذلك إلى ( البلينا) ومنها إلى الواحات وهناك أقمنا في استراحة نظيفة وكان معنا أسرة الأخ صلاح شادي , وتجولنا في مدينة الخارجة وفي اليومين التاليين زرنا السجن ثم عدنا إلى ( البلينا) فالقاهرة فأبو المطامير .

المحاريق :

زاد اضطهاد الحكومة للإخوان داخل السجن فأحرقوا لهم جميع ما يمتلكون بالواحات على مرأى منهم واتقادهم في ملابس السجن إلى سجن جديد أقاموه ( بالمحاريق ) واستحضر له مأمورا يملك جميع صلاحيات القتل والتعذيب , وبعد أن أدي مهمته سلم السجن لمأمور آخرا , قدمنا طلبا لمصلحة السجون للزيارة وتحدد اليوم وسافرت ومعي والدة الأستاذ عبد المنعم – ولم تسافر حرمي معي – وكان معنا عديلي ووصلنا إلى أسيوط واستعملنا الأتوبيس الذي اتجه بنا إلى الواحات وبتنا بها وفي الصباح أقلتنا سيارة إلى المحاريق.

سجن المحاريق

بناء مماثل لسجون مصر من طابق واحد أنشئ وسط الصحراء يعامل الإخوان بداخله معاملة المسجونين من حيث الزي والطعام والشغل .

وصلنا السجن وأدخلنا حجرة المأمور وحدثنا عن ماضيه مع الإخوان وحدثنا عن مذبحة طره ثم رجانا أن نؤثر على الأستاذ عبد المنعم ليكتب تأييدا للحكومة وتعهد بأن يحمل هذا التأييد بنفسه للمختصين ليفرجوا عنه وحضر الأستاذ عبد المنعم وفاتحه عديلي في التأييد فهاج وانفعل وطلب منه ألا يحضر لزيارته وفي نهاية الزيارة اختليت به خارج السجن – بناء على وصية والدته – وسألته أين المصلحة في البقاء هنا ؟ وهل هناك عرض من الحكومة – كما سمعنا – للإفراج عنهم مقابل التأييد و فنفي كل هذه المعلومات وفي النهاية قال لي : نحن نعلم تفككم وانصرافكم عن الدعوة نتيجة الإرهاب القائم لذا فنحن حريصون أن نظل داخل السجون لنظل اليافطة المعلنة عن اسم الإخوان المسلمين وكان ردا مفحما وعدنا من حيث أتينا .

سجن مصر

أصاب الأخ عبد المنعم مرضا في عينه فحولوه إلى القاهرة للعلاج وأودع سجن مصر وقمت مع عديلي لزيارته من السلك لمدة عشر دقائق وانصرفنا , واقترح علىّ عديلي أن نقابل طبيب السجن ليقرر أحقيته في العلاج ليبقي قريبا منا في القاهرة وبجهد شاق وصلنا إلى منزله في أحد الأزقة وبدأ عديلي بعرض حالته الصحية ليكشف عليه وعند قياس الضغط صارحه أن سبب مجيئه هو سجن صهره ثم دخل معه في الموضوع وطلب منه أن يعد تقريرا لصالحه وهنا أعتذر الطبيب عن قبول الكشف وعرفنا بأنه ليس وحده الذي يضع التقرير ووعدنا خيرا .

المليونير تاجر الجلود

تقدم لى أحد كبار تجار الجلود بمصر بطلب لقياس أرض له بالصحراء الغربية وأديت له خدمة جليلة دون مقابل ولكن رجوته أن يسعي من أجل الإفراج عن الأخ عبد المنعم – وكان صديقا شخصيا لمدير الأمن العام – واهتم الرجل ثم كتب بنتيجة مسعاه وأن مدير الأمن أطلعه على تقارير السجن وكلها ليست لصالح عبد المنعم ورجاني أن أطلب منه أن يحسن معاملته معهم حتي تصلح تقاريره للإفراج عنه .

فتنة المال :

تعرضت لفتنة المال بعروض سخية نظير قيامي بخدمات في حدود العمل الحكومي ولكن الله عصمني من الزلل وكثيرا ما كنت أكتفي بمطالبة العارض بالسعي من أجل الإفراج عن الأستاذ عبد المنعم وخاصة ضباط الجيش الذين كان لهم معاملات معي في منطقة عملي .

الدكتور سامي البنداري :

هو نجل البنداري باشا سفير مصر في موسكو تقدم بطلب عن دعوي ثبوت ملكية لعشرين فدانا وضع يده عليها واحد من عائلة منصور ( وكان إرهابيا يعيش بالعنف وقتل أعدائه ) وذهبت معه إلى موقع الأرض وعرض أن يحضر لى قوة من البوليس فرفضت وقمت بمعاينة الأطيان بعد العصر وأنا أتوجس خيفة وحرص الدكتور على أن يتبعني عن كثب رجاله المسلحون حفاظا على حياتي وبعد أن تمت المعاينة عرض على المقابل فرفضت بشدة .

الحمل الميت :

كانت حرمي حاملا للمرة الثالثة بعد ميلاد نجوي وحسن مات الجنين وتوجهنا إلى طنطا وقرر الطبيب إجراء عملية وعدت لأبو المطامير وتذكرت الدكتور سامي البنداري وعلمت أنه قادم إلى مركز الشرطة فأرسلت إليه الكاتب أستدعيه لمقابلتي واستفسرت منه عن الحالة وضرورة إجراء العملية فنصحني بعدم إجراء أى جراحة وطمأنني أن الجنين سينزل بعد مضي مدة الحمل وكانت نصيحة مباركة ونجي الله حرمي من العملية

النقل إلى كوم حمادة

توالي على تفتيش المساحة عدد من المفتشين كان آخرهم المهندس أحمد الجبالي الذي كنت أعمل معه في الأقصر , ورأى إجراء حركة تنقلات واختارني لأكبر مكتب مساحة في المحافظة وهو مكتب كوم حماده واخبرني بذلك تليفونيا لأستعد . اتصلت بالحاج حامد الطحان فأرسل لى عربة لوري وفي يوم السفر ودعنا سكان العمارة والأصدقاء بأبي المطامير ووصلنا كوم حمادة ظهرا وكان الحاج أحمد سالم شقيق الحاج مبروك هنيدي في انتظارنا ودعانا إلى الغداء وبعده توجهنا إلى الشقة التي استأجرها لنا هناك الحاج مبروك وكانت والدة الأخ عبد المنعم معنا وفرشنا الشقة ولم ننم ليلتنا لكثرة الناموس .

استلام العمل :

وفي الصباح توجهت للمكتب وهو بجوار مسكني وتعرفت على رئيسه والعاملين به واستلمت عهدته وزاولت عملي بجهد مضاعف وأعانني الله ووفقت في إدارة المكتب وتشغيل العاملين به وبدأت أتعرف على المحامين ووكلاء الأشغال وأصحاب الشأن .

ضائقة مالية

أرهقنا النقل واستنفذ كل ما معنا وتعرضنا لأزمة مالية حتي تعذر توفير الخبز للأولاد حتى أحد ( القياسين) يشتري لنا الخبز بالأجل , ولم أحاول أن أقترض من أحد حتى وصلتنا حوالة بمبلغ 29 جنيها ( لا أتذكر مصدرها ) وخفت الأزمة .

أنور سلامة

عندما التحقت بشعبة دمنهور سنة 1941 وجدت بها طالبا بالمدارس الصناعية – هو أنور سلامة – وكان يتسم بالنشاط وطلاقة اللسان وتخرج واشتغل بشركة بترول وانتخب رئيسا للعمال وقامت الثورة وتودد إلى رجالها حتي صارا وزير للعمل , وترك دعوة الإخوان وصار من دعاة القضاء عليها , وشاءت الأقدار أن يقيم رجال السلطة سرادقا في كوم حمادة للتنديد بالإخوان المسلمين واختير أنور سلامة ليكون خطيب الحكومة وذهبت إلى الحفل وشاهدت بعيني رأسي أنور سلامة على المنصة يتهم الإخوان بأفظع التهم والقلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء .

الإصلاح الزراعي

الحاج حامد الطحان :

كلفت ببحث أسماء كبار الملاك بمركز كوم حمادة ليتم تطبيق قانون الإصلاح الزراعي عليهم ومن بين الأسماء الحاج حامد الطحان فقمت بقياس أرضه – وكان وقتها يؤدي فريضة الحج – فوجدت لديه أربعة أفدنة زائدة عن المقرر ولما كانت هذه الأرض مباعة له من الأملاك الأميرية وليس بالعقد فقد اعتمدت بيع الأملاك وألغيت المعاينة حتى لا يضار الرجل الذي حول هذه الأرض الصحراوية إلى حدائق مثمرة كلفته الآلاف خاصة أنه رجل محسن للفقر وفي ماله حق معلوم للسائل والمحروم .

حسين أمين:

هو عضو مجلس النواب عن دائرة كوم حمادة سابقا قدم ابن عمه شكوي في حقه إلى الحكومة يتهمه بوضع يده على أرض تزيد عما قرره الإصلاح الزراعي وحولت الشكوي على النيابة التي اعتبرته متهربا,وطلب مني قياس أملاكه وبحث ملكيته وراقبت الله في مهمتي ووضعت نتيجة بحثي الذي ثبت سلامة موقف الرجل الذي مر بمحنة قاسية تعرض فيها للمهانة من رجال السلطة والنيابة وحفظ الرجل لى هذا الجميل فكان يزورني في مقر العمل يستفسر عن أحوالي خاصة بعد اعتقالي .

نجلي حسن:

اهتممت بتربيته وألحقته بمدرسة أمام مسكني وكان متفوقا على فرقته وظهرت منه بوادر لطيفة وهو في سن الرابعة كان عمه ( حمزة) في زيارتنا وفي جلسة سألته عن أصدقائه في مقر عمله في شبين الكوم فقال إنهم أربعة ذكر اسم ثلاثة وقبل أن ينطق الاسم الرابع نطق حسن وقال " عبد النبي" وبهت عمه كيف عرف الاسم .

كان مسكننا يطل على أرض زراعية وكان حسن يلعب مع أقرانه وفجأة قال لهم " ابعدوا يا ولاد عن النخلة دي أحسن حتقع) ولم تمض دقيقة حتى سقطت النخلة .

عقد قران كريمة الحاج مبروك

دعانا الحاج مبروك هنيدي ودعا الإخوان من بلاد شتي لحضور قران ابنته وتكامل الجمع واندس بيننا كثير من رجال المباحث وتعرفوا علي أسماء الإخوان كما التقطوا أرقام السيارات وأعدوا تقريرا كان محور الاعتقالات فيما بعد .

لقاء في منزل مبروك.

دعينا للالتقاء في منزل الحاج مبروك لحضور الأخ / محمد عبد الفتاح الشريف ,وكان العدد يزيد عن الخمسين وكان محور اللقاء هو معاودة النشاط ورأى الكثيرون التوقف إلى حين وبينما نحن نتشاور إذا بالباب يطرق وهنا طلب الحاج حامد الطحان من الحاج مبروك أن يتظاهر بالمرض وفتح الباب لنجد أمامنا مصطفي أبو رية عضو مجلس الأمة وقد جاء يبحث عن الحاج عبد الواحد البيومي ويعلم الله ماذا فعل الرجل بعد خروجه من عندنا ؟؟؟.

محنة 65

دبرت المؤامرة للبطش بالإخوان – بناء على تقارير المخابرات الأمريكية – وبدئ باعتقال قدامي الإخوان الذين سبق اعتقالهم وحسبت نفسي بعدا عن الاعتقال ومع ذلك احتطت وهيأت مسكني للتفتيش.

ليلة 8 سبتمبر 1965 :

في منتصف الليل تقريبا سمعت صوت عربة تقف أمام العمارة وبعدها سمعت وقع أقدام على السلم فأيقظت زوجتي قائلا لها : إن البوليس قد قدم لاعتقالي وطرقوا الباب بعنف ففتحته لأجد كشافا موجها إلى وجهي وقوة من المخبرين على رأسهم ضابط المباحث يقول لهم : احترسوا فهو رجل خطورته تزيد على 60 % .

ودخل الضابط مع قوته وبدأ التفتيش ولم يعثر على شئ إطلاقا ودخل حسن وأخته حجرة النوم – وكانت سنه سبع سنوات – وشاهدته وهو يرفع الغطاء عن رأسه وينظر إلى قوة البوليس – ولعل هذا المشهد كان مؤثرا في اتجاهه في الحياة نحو ما كان عليه والده – وطلب مني الضابط أن أرتدي بدلتي ودعت زوجتي واتجهت بي سيارة البوليس إلى المركز وأدخلوني السجن ووجدت بداخله الحاج على عبد المطلب وعمدة صفط العنب وآخرين وأذن للفجر وصليناه في جماعة وعند الصباح فتح باب السجن ونادي على الجندي فخرجت لأجد نائب المأمور في انتظاري فوضع الحديد في يدي وهنا حضر المأمور – المقدم محمود خليفة – وكان يعرفني فثار على قيدي بالحديد فهمس نائبه في أذنه بكلمات انصرف بعدها .

واقتادني جندي مسلح وخلفي اثنان من المخبرين وسرت على قدمي في الشوارع – وكان يوم سوق والساعة التاسعة صباحا وعلى الرصيف المزدحم وجدت الأعين تتجه إلى وركبت القطار إلى إيتاي البارود ومنها إلى دمنهور وعند صعودي وأدخلت مكتب المباحث العامة وظللت واقفا على قدمي فعطف على كاتب بالمكتب فأمدني بكرسي كي أجلس عليه فعنفه ضابط المباحث وتلفظ بكلمات خارجة وكنت أستمع إلى التليفون والقاهرة تطلب أسماء أعرفها للقبض عليها من بينها أحمد نجيب الفوال – وكان في أمريكا.

وبعد العصر حضر ضابط من المركز وقيدنا – وكنا ثلاثة – في قيد حديدي واحد واقتادونا سيرا على الأقدام إلى المحطة وسمعت رجلا كهلا يصيح " يخرب بيوتكم الراجل بيعمر وأنتم بتخربوا " يقصد عبد الناصر - وركبنا القطار في ديوان خاص – وفي طنطا صحبنا الضابط لشراء عيش وتناول الطعام خشية ألا نتمكن من ذلك في مصر وأردنا دخول مرحاض القطار فاقتادونا نحن الثلاثة ودخل أولنا وجلس على المرحاض ونحن موثوقون به وهكذا – ووصلنا القاهرة لنجد ( لوريا ) في انتظارنا فأقلنا إلى المباحث العامة ومن هنا نقلنا إلى السجن الحربي.

السجن الحربي

استقلبنا بالكرابيج ووضعنا وجوهنا إلى الحائط الأكف تضربنا ثم أمرنا بالسير في خطوة سريعة إلى داخل السجن والجندي يركلنا بحذائه – وكنت في المؤخرة – ولما تعبت من الضرب بدلت مع من يسبقني ودخلنا السجن وظلت وجوهنا إلى الحائط والضرب لا ينقطع .

أدخلنا نحن الثلاثة زنزانة مجاورة للمكتب بعد أن تسلموا ما معنا وأعطيت رقم (545) ولم أنم هذه الليلة وظللت أسمع المكالمات التليفونية بأسماء مطلوبة للتعذيب.

وفي اليوم التالي – أحضروا لنا بعض المعتقلين المعذبين وأرجلهم مسلوخة من عض الكلاب – وفي يوم الجمعة نقلونا إلى زنزانة أخري وأحضروا معنا عددا كبيرا حتى بلغ عددنا ( 26) فردا في زنزانة لا تزيد عن 3×3 وكان معنا إخوان البحيرة ومنهم الحاج حامد الطحان والحاج مبروك هندي وكانت وجبة الأكل : عيش بالرمل وورق كرنب في ماء مملح دون طبخ وحضر إلينا طبيب السجن ليكشف على الحالات التي استجدت داخل السجن ثم حضر الحلاق فكان يركب على ظهر المعتقل ليحلق له رأسه ( زيرو) وصاحب اللحية يحلق له نصفها وبترك النصف الآخر وحرم علينا أن نصلي جماعة أو أن نقرأ القرآن ولم يسمح لنا بدخول دورة المياه إلا بعد الساعة 12 مساء .

التحقيق معي

وفي صباح السبت نادوا على الأسماء وبعد الظهر سمعت من ينادي على اسمي فخرجت بالملابس الداخلية حافي القدمين لأجد أمامي الأخ (سيد أبو شلوع) وأخ آخر مسلوخ الساقين محمول على نقالة وأمرت بالجري إلى مكاتب التحقيق ونحن نركل بأقدام الجنود وأثناء الجري كان أمامي مباشرة الأخ أبو شلوع وكان يعرج فالتفت للخلف نحوي قائلا – قل لهم إنني طلبت منك أن ننشط مع الإخوان فرفضت فتذكرت على الفور زيارته لى في كوم حماده , وبجوار جدار أجلسونا على الأرض – وكان خلف الجدار الكلاب البوليسية التي تستعمل في التعذيب – ودعوني للتحقيق فاستقبلني حارس المحقق بقضيب من الحديد قائلا – احترم شيبتك واعترف وإلا سأضربك بهذا القضيب - وكنت قد كونت ردا أقوله أمام المحقق بعد أن دعوت الله أن ينجيني ببركة دعاء الوالدين ووقفت أمام المحقق وأمامه الدفتر الذي يدون فيه أقوالي .

فقال لى : أنت لك موقف مشرف مع الناس دولي فصارحني معهم .

فاسترددت أنفاسي وقصصت عليه قصة هامشية تركزت في نشاط الكشافة ففوجئت به ينصحني بألا أتصل بهم بعد ذلك ونادي أحد الجنود وأعطاه ورقة ففهمت أنها ورقة الإفراج وجلست على الأرض خارج المكتب .

محاكم التفتيش:

وفي هذه الجلسة رأيت هولا – رأيت ساحة واسعة تباشر فيها كل ما لا يتصوره العقل من وسائل التعذيب ( الفلقة – الحرق بالنار - دك الصدور بأحذية الجنود – الضرب بمئات الكرابيج .. الخ) ثم اقتادني الجندي وفي هذه المرة سرت على قدمي دون ضرب وأدخلني الزنزانة لأحضر ملابس وما أن دخلت حتى سألني الحاج حامد الطحان عن نتيجة التحقق – وكان يخشي من أن أعترف بالتبرعات – فطمأنته دون أن أصرح بشئ – خشية أن يسمع المخبر الموجود في الزنزانة وأعطاني الحاج مبروك هنيدي جلبابا أبيض وتوجهت إلى المكتب وركبت مع آخرين عربة جيب توجهت بنا إلى المباحث العامة , وجلست في احدي الطرقات مع باقي المعتقلين وظللت ليلتي يقظا وكان معنا أستاذ جامعي معتقلا قضي الليل في مراجعة مذكرات كانت معه .

إلى دمنهور :

وفي الصباح اقتادني ضابط ومعه ثلاثة جنود – كبلني واحد منهم بالحديد – إلى محطة السكة الحديد حيث سلمني لمباحث دمنهور ولم يكن هناك سوي الحارس الذي علمت منه أنهم سيحققون معي وأخبرني بأساليب معينة سيتبعونها معي .

التحقيق معي :

وفي المساء حضر الضباط واتصل كبيرهم بالقاهرة يستأذن في التحقيق معي ودعاني أحدهم لمكتبة وطلب مني أن أدلي بمعلومات عن الإخوان مقابل الإفراج عني وأن أعمل معهم كمرشد , فاعتذرت فاتصل بالمفتش الذي جاء إلى وطالبني بنفس المطلب ولما لم يجد إجابة صرح بإطلاق سراحي وكانت الساعة 12 مساء فخرجت إلى المحطة وبحثت عن حلاق لينسق رأسي التي شوهها حلاق السجن وركبت قطار الصعيد إلى إيتاى البارود وهناك نمت في قطار كوم حماده الذي تحرك قبل الفجر ووصلت إلى كوم حماده وقت الأذان وكانت الكلاب الضالة تملأ الشوارع فأوقفت ريفيا يركب الحمار حتى أوصلني إلى منتصف الطريق ثم واصلت المسير إلى المسكن فوجدته مغلقا بالقفل فذهبت إلى منزل جارنا وسألته عن أسرتي فأخبرني أن والدي حضر وأخذهم إلى كفر الشيخ وأعطاني المفتاح وبعد قليل أرسل لى طعام الإفطار , ثم حضر عبد المنعم مبارك – الذي يعمل معي بالمكتب ولما شاهد حالة رأسي أعطاني برنيطة وبدأ الجيران يتوافدون على في حذر لتهنئتي واتصلوا تليفونيا بالأسرة في كفر الشيخ وفي المساء حضرت زوجتي وأولادي والدي ووالدتي .

المراقبة :

شددت المراقبة على بالذات حول المكتب وبدأت أطلب من زواري الإقلال من مكثهم في بيتي وزارتني شقيقة زوجتي ونظرت من الشباك فوجدت رجلا يلبس ثيابا رثة نائما في مقابل النافذة طيلة اليوم فحذرتني منه وفي المكتب أخذ يتردد علىّ المخبرون ليحصلوا على المعلومات وطلب منى ألا أغادر كوم حماده بتصريح مسبق من المباحث .

مضايقات:

نقرر زيارة جمال عبد الناصر لمدينة دمنهور فحضر إلى المخبر ( على صالح) وطلب مني ألا أتحرك من مدينة كوم حماده بدءا من ليلة الزيارة حتي تنته وفي الصباح حضر إلى المكتب وتمم على وفي وسط اليوم كلمن تليفونيا وبعد الظهر حضر إلى منزل وتمم على وبعد العصر كلمني تليفونيا وكذلك في المساء وقد علمت أنهم قبضوا على جميع إخوان دمنهور وأودعوا المستشفي حتي تتم هذه الزيارة وقد حضر جمال في قطار خاص وألقي خطبته وسط جو رهيب من الحراسة وتوقع الجميع أن يعود للقطار الواقف بالمحطة ولكنه تسلل في سيارة إلى الإسكندرية .

- استدعيت بإشارة تليفونية لمقابلة مفتش المباحث العامة وكان ذلك نذيرا باعتقالي فودعت أسرتي وقابلني ضابط المباحث الذي أخذ يستجوبني عن قنابل منذ الحرب العالمية الثانية عثر عليها بمدينة كفر الدوار , وعن علاقة إخوان كفر الدوار بها فأنكرت معرفتي بأى شئ عن القنابل وعن الإخوان , ولاحظت أن خلفه جهاز تسجيل كان يسجل مناقشته لى ثم أذن لى بالانصراف فعدت لأجد الأسرة في قلق .

- قمت ببناء منزل في كفر الشيخ ووصلني تلغراف من ( عديلي ) يطلب مني الحضور ( لصب) السقف فسافرت دون آخذ تصريحا من المباحث لضيق الوقت وحضر المخبر يسأل عني بالمكتب – وكان مسيحيا – ولما لم يجدني ذهب للمنزل يسأل عن زوجتي فلما سألته عن اسمه تفوه بكلمات نابية , ثم ابلغ مباحث دمنهور , فاتصلت زوجتي بكفر الشيخ تليفونيا تطلب حضوري لوجد زوار ففهمت على الفور وعدت في فجر اليوم التالي لأجد النفوس مضطربة في البيت والعمل فاتصلت بضابط المباحث المختص تليفونيا فأخذ يهدد ويتوعد ونبه بألا أتحرك إلا بإذن تليفوني أو كتابي بعد ذلك .

نكسة 67:

قامت الحرب بيننا وبين الصهاينة وانتهت بالهزيمة وزادت مضايقات المباحث لنا فحولنا إلى اختصاص مكتب مباحث مديرية التحرير وطلبونا يوما لمقابلة رئيس المكتب وبعد أسفار شاقة – ومعي بعض الإخوان – طال انتظارنا بالمكتب حتى حضر الضابط وأخذ يناقشنا في مواضيع متعددة ثم أذن لنا بالانصراف وكلف مخبرا مترهل الجسم بالتردد علينا وكان يحضر إلى المكتب ويأخذ مني بيانات عن الأسرة وكثير ما كان يتردد على في المنزل وعلى محلات الإخوان .

رشاد مهنا :

كان من بين الأسماء التي تقرر الاستيلاء على ممتلكاتهم رشاد مهنا الوصي السابق على العرش فحضر إلى يوما للاستفسار عن ممتلكاته- وكانت بضعة أفدنة – وأنس الرجل إلى لقائي فاختلي بي في مكان من المكتب وأحسست برغبته في أن ينطلق في الحديث غير أنه كان على حذر من المخبر المرافق له , فأراد أن يصرفه في أمر ولكن المخبر رفض – فغير مجري الحديث إلى كلام عام .

النقل إلى كفر الشيخ

صدرت حركة ترقيات رقي فيها زملائي وحرمت من الترقية لانتمائي للإخوان صدرت حركة ثانية وثالثة دون أى ترقية وصرت مرؤوسا لزملائي بل لمن هم أقل أقدميه ومؤهلا عني – وصبرت واحتسبت ذلك عند الله إلى أن نقل إلى التفتيش المفتش عباس السيد وكان متعاطفا معي فسعي لدي مدير المساحة لترقيتي وفي يوم اتصل بيّ وهنأني بترقيتي ونقلي رئيسا للمراجعة بتفتيش كفر الشيخ وسررت بهذا النبأ غير أن زوجتي لم تكن مرتاحة لهذا النقل .

تنفيذ النقل :

كان منزلي بنيته في كفر الشيخ مؤجرا للطلبة فاتصلت بوالدي وطلبت إخلاء المنزل كما أخليت منزلي بكوم حماده – بعد أن أقام موظفو الشهر العقاري والمساحة حفل تكريم صامتا تقديرا لظروفي – وأرسل إلىّ الحامد الطحان لوري لنقل ( العفش ) وسيارة لنقل الأسرة وودعني الجميع بالباء وبكيت لأول مرة لفراق أناس عاشروني أحسن ما تكون العشرة ووصلنا كفر الشيخ ومعي ثلاثة من ( القياسين) قاموا بترتيب العفش ثم عادوا مع السيارة .

استلام العمل :

رافقني عديلي في اليوم التالي إلى تفتيش المساحة وعرفني ( بالباشكاتب) الذي رحب بي ثم التقيت بالمفتش واتفق معي على اقتسام العمل مع رئيس المراجعة الموجود بالتفتيش وسلمني الإشراف على مكاتب الإصلاح والمراجعة المسطحات وأقمت بمكتب الإصلاح وألممت بالكثير من ألأعمال وكنت أحضر بعد الظهر لأستزيد من البحث والمعرفة عن جميع الأعمال .

المباحث:

طلبني النقيب ( نبيل سويلم ) لمقابلته وذهبت إلى مكتب المباحث مساء وناقشني في الكثير ,وطلب مني أن أحضر إليه مرة كل أسبوع ولما علم بمصاهرتي للأخ عبد المنعم مكاوي طلب مني أن أحضر له جميع الخطابات التي تصلني منه – وكان طلبا ساذجا – ولم يطلع بالطبع على أى خطاب على الإطلاق .

زيارة ليمان طرة :

أتم الأخ عبد المنعم خمسة عشر عاما بالسجن – وهي مدة العقوبة المحكوم بها عليه – وبدلا من أن يفرج عنه حول إلى معتقل ليمان طره وقمنا بزيارة هناك والتقيت بكثير من الإخوان وتكررت هذه الزيارة مرة أخري ولم أذهب هذه المرة وذهب حسن ليري خاله لأول مرة ويقدم له هدية .

وفاة عبد الناصر

في إحدي الليالي وبعد الساعة الثانية صباحا سمعنا أصواتا تردد في ذمة الله يا عبد الناصر ) وأخذت هذه الأصوات تقوي حتي وصلت قريبا من مسكني وهنا توقعت خطرا لموت هذا الرجل وأنهم لابد أن يقبضوا على الإخوان كالعادة وظللت يقظا حتى الصباح إلى أن سمعت من المذياع بأن الوفاة كانت طبيعية .

الإفراج عن الأخ عبد المنعم

تقرر الإفراج عن الإخوان الذين قضوا مدة السجن وادخلوا المعتقلات ومن بينهم الأستاذ عبد المنعم وفي إحدي الليالي دق جرس الباب وفتحته لأجد الأخ عبد المنعم أمامي وجها لوجه وأغشي علي زوجتي وعانقناه وأرسلت حسن إلى عديلي لننبئه بالخبر حيث كانت حماتي عنده , ثم توجهنا إلى منزل والدي وسلم على الأسرة ( والدتي وإخواتي ) ثم إلي والدته وشقيقته وقد أحضر معه أمتعته وبعض مستلزمات السجن وأودعها عندي في الشقة وسافر للقاهرة لاستلام العمل وظل مقيما معي بشقتي إلى أن تسلم مسكنه في مباني وزارة الزراعة ,احضر ( عفشه) من بلدته بشبيش) وصرنا نتردد عليه كثيرا .

زواجه :

بحثنا له عن زوجة وعلمنا بموظفة خريجة كلية الزراعة تعمل معه فوسطنا الشيخ عزت خطاب ( بلدياتها) في الموضوع وجاء الرفض لتفاوت السن وانتهي الأمر بزواجه من ابنة ابن عمه , وتم الزفاف في نادي الزراعيين بالمحلة وشاركه يوم الزفاف الأخ جلال عبد العزيز الذي عقد قرانه في نفس اليوم بالإسكندرية وجاء بعروسه إلى المحلة ليتم الزفاف مع أخيه عبد المنعم الذي رافقه داخل السجن وخارجه وخرج الموكب بالسيارات ليلا على كفر الشيخ إلى أن أوصلنا جلال لمسكنه وعبد المنعم لمسكنه.

وفاة والدته :

وفي أحد أسفاره إلى القاهرة وكان ليلتها يبيت عند ابنة شقيقته علمنا في الصباح بوفاة والدته فجأة فاتصلنا به تليفونيا وساهم زملاؤه في الإعداد لنقلها إلى بشبيش بعد سنوات طويلة من الصبر على فراق ابنها الوحيد وحزن شديد أدي بها إلى فقد بصرها ندعو الله أن يكون ذلك في ميزانها يوم القيامة .

الفصل السادس: فاصل

لم نجد في أوراق كاتب هذه اليوميات – رحمه الله – أى ذكر لفترة السبعينيات وهي فترة خصبة مهمة في تاريخ الدعوة يكفي أنها شهدت مدا جديدا للعمل الإسلامي الذي كان قد انحصر في الستنيات بتغييب الدعاة في السجون والمعتقلات كما شهدت تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية كان لها عظيم الأثر على الحركة الإسلامية ..

فقد مات عبد الناصر وأطاح السادات بباقي رجاله وشردهم ونكل بهم وأفسح المجال لهامش من الحرية وأطلق سراح الإخوان المسلمين من السجون والمعتقلات فعادوا إلى بلادهم وأ‘مالهم واستقبلهم الناس بتقدير وتبجيل كبيرين رغم ما نالهم من تشويه ويهتان والتف الشباب من حولهم وظهرت كتبهم في الأسواق من جديد تحمل فكرهم وفقه علمائهم وتجارب مجاهديهم ..

وشهدت هذه الفترة موت الأستاذ حسن الهضيبي – رحمه الله – بعد أن قاد دعوة ( الإخوان) عبر سنوات المحن بجلد وصبر واحتساب جعل الدعوة تستعصي على الاستئصال أو التغيير ...

وجاء من بعده الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله – الذي رسخ لدي العامة والخاصة على حد سواء الانطباع باعتدال ( الإخوان) ووسطيتهم وأكسب الدعوة قبولا حسنا لدي رجل الشارع خاصة بعد موقفه الشهير من الرئيس السادات الذي دعاه إلى حفل مذاع عبر الهواء يحضره القادة والمفكرون والمثقفون بغرض إحراجه وتشويه صورته هو وإخوانه أمام الرأي العام ,وأخذ يكيل له الاتهامات الملفقة فانبري له الأستاذ عمر – رحمه الله مفندا كل ما قاله وانهي كلامه بعبارته الشهيرة ( إن كان غيرك هو الذي ظلمني لشكوته إليك أما وإنك أنت الذي ظلمتني ... فأنا أشكوك إلى الله ) فتلعثم السادات وارتبك وأخذ يحاول استرضاءه بكل الطرق وذلك على مرأى ومسمع من الجميع وعبر أجهزة الإعلام فكانت كيدا رده الله عليه ورفع به من شأن الدعوة والدعاة .

وشهدت حقبة السبعينيات إقبالا مذهلا من الشباب على الدعوة خاصة في الجامعات واكتسح التيار الإسلامي انتخابات الاتحادات الطلابية وظهر من بينهم رموز قوية مؤثرة يلتف حولها الطلاب وكان أغلب هؤلاء يحملون فكر ( الإخوان) وفهمهم الوسطي المعتدل فقد كان لدعاة الإخوان ومفكريهم وعلمائهم التأثير الأوسع على الشباب من خلال الكتب والندوات والمحاضرات والمخيمات وغير ذلك .

ولم يخل الأمر من تواجد مفاهيم أخري بين الشباب المسلم فقد تأثر بعضهم بالفكر السلفي الوافد من السعودية والذي يحدد هدفه في طلب العلم الشرعي والالتزام بالسنن والهدي الظاهر ومحاربة البدع والمنكرات وبرفض الانشغال بغير ذلك ويعتبر الجماعة في الأداء الدعوي بدعة لا أصل لها وهم يفتقرون إلى رباط يجمعهم سواء في الفكر أو في الفقه أو في الهدف وكان تواجدهم في مدن الوجه البحري دون مدن الصعيد .. ولم يكن لهم تأثير كبير إذا ما قارناهم بشباب الإخوان ..

إلا أن تواجدهم هذا تنامي في حقبة الثمانينيات والتسعينيات تحت دعمن ورعاية من السلطة التي وجدت فيهم البديل الآمن للإخوان ووجدت في نشاطهم جذبا لا خطر فيه للشباب الراغب في التدين وتفريغا لطاقات المتدينين في مجالات لا تتطرق إلى واقع الحياة بالإضافة إلى سهولة اختراقهم والتأثير عليهم كما أنهم شتات لا يجتمع تحت راية وكل ذلك يرجع من عناصر الأمان في تناميهم ..

وبالإضافة إلى الفكر السلفي ظهر ( فكر التكفير) على يد شكري مصطفى – رحمه الله – ورغم محدودية تأثيره بين الشباب المسلم إلا أنه كان بمثابة عوار فكري تحرص الدولة على كشفه واستغلاله للتشهير بالفكر الإسلامي الصحيح .. خاصة بعد قتلهم للشيخ الذهبي رحمه الله باختراق من الأمن وشكل ذلك حرجا بالغا للحركة الإسلامية في السبعينيات رغم تبرأها من هذا الفكر الشاذ ولم يصمد هذا الفكر طويلا فقد ضمر تدريجيا في الثمانينيات وتلاشي تقريبا في التسعينيات .

وأما الصعيد فرغم التواجد الفاعل لفكر الإخوان بين الشباب عامة وطلاب جامعتي المنيا وأسيوط خاصة .. إلا أن قطاعا منهم مال إلى العنف والتغيير بالقوة داخل لجامعة وخارجها وتنامي ذلك لنهج إلى أن وصل إلى حد الصدام المسلح مع السلطة ثم بلغ ذروته ف يحادث المنصة وانتهي بمقتل الرئيس السادات على يد خالد الإسلامبولي – رحمه الله ورفاقه.

وظل ذلك الصراع المسلح لسنوات بعد ذلك ولم يحسمه إلا إعلان قادة التشكيلات المسلحة عدولهم عن الصدام حقنا للدماء وتوحيدا لصفوف الأمة أما العدو اليهودي المتربص ....

وقد تعرض أصحاب هذا الفكر لضربات مؤثرة من السلطة فقتل منهم الكثير وقبض على أغلبهم وأودعوا السجون المعتقلات ومازالوا فيها إلى يومنا هذا ... ونسأل الله العافية والهداية للجميع .

ووسط هذا الفوران الفكري في السبعينيات كان على شيوخ ( الإخوان ) العائدين من مذابح سجون الناصرية إلى ساحة الدعوة أن يسعوا إلى توحيد جهود هذا الشباب المخلص في إطار واحد يعي طبيعة المرحلة ويحمل الفكر الوسطي المعتدل دونما إفراط أو تفريط وكان على هؤلاء الشيوخ أيضا أن يتصدوا للانحراف الفكري وسط الشباب وأن يرشدوا اندفاعه ويوجهوه إلى الوجهة الصحيحة وقد بذلوا في سبيل ذلك رغم قلة عددهم في محافظات مصر المختلفة جهدا كبيرا ندعوا الله أن يتقبله منهم فالتحموا بالشباب في الجامعات والمساجد والمخيمات وشاركوه الرأى في الأحداث المختلفة وعالجوا شططه بصبر نادر وتحملوا غلظته أحيانا وفتحوا بيوتهم لكل زائر فقد كانت سعادتهم غامرة بهذا النبت الطاهر الجديد بعدما ظنوا أنهم سيموتون في سجون عبد الناصر وتموت معهم دعوتهم ولا تري النور من جديد ولكنها دعوة الله التي ما أطفأها أحد من قبل ولن يطفأها أحد إن شاء الله حتي يرث الله الأرض ومن عليها .

وكان كاتب هذه اليوميات – رحمه الله – مع إخوانه من شيوخ الدعوة يجوب المدن والقري ويلتقي بالشباب ليجمعهم على كلمة سواء ويورثهم الفكر الصحيح والنهج القويم الذي تعلمه من إمامه الشهيد رحمه الله .

ولم نجد فيما ترك من يوميات أى ذكر لهذه المرحلة المهمة الحافلة بالأحداث لذا فقد أضفنا هذا الباب إلى اليوميات قبل أن ننتقل إلى الباب الأخير الذي تحدث فيه الشيخ – رحمه الله – عن يوميات اعتقاله بعد حادث المنصة ومصر ع الرئيس السادات .

الفصل السابع: بور سعيد

في صباح يوم 9 أكتوبر عام 1981 م الموافق ثاني أيام عيد الأضحى دق جرس الباب للنجد ضابط المباحث ( عبد الرحيم سعده) على رأس قوة جاءت للقبض على نجلي حسن وبكت والدته وطلبت ابنتي تليفونيا وكانت في عزبة زوجها فحضرت ولازمت مكتبي في الدول الأول , وأقبل الأهل والأصدقاء يواسوننا وقي يوم نرتقب الأنباء وقيل أنه سيفرج عنه بعد دفن السادات وقيل بعد انتخاب رئيس الجمهورية ولكنني توقعت أن يطول الاعتقال حتى تجلوا إسرائيل عن سيناء .

وفي ليلة الجمعة 22 أكتوبر وفي الساعة الواحدة صباحا دق جرس الباب ففتحت زوجتي لتواجه بعبد الرحيم مرة ثانية يقول لها " افتحي يا حاجة " وأسرعت لمقابلته وقد جاء على رأس قوة من المباحث وحملة من رجال البوليس – ودخل البيت ليجري التفتيش – ثم سألني عن مكتبي فقلت له ( أنه فوق ) وعلى أول درجة سلم قال لى " إنت عامل ملخص للظلال .. فأين هو" فقلت له ليس عندي ملخص ولكن عندي فهرست فطلبه وصعدنا إلى المكتب وأعطيته الفهرست ثم قام بتفتيس أوراقي ومكتبي وعثر على ورقة بها برنامج لنشاط الأخوات وسألني إن كانت بخطي فأجبت بالإيجاب فسلمها لضابط بوليس ثم أخذ يجمع نوعيات معينة من الكتب قائلا للضباط الذي يعطيها له " هذه الكتب تبين سلوكه " وأثناء التفتيش قال لى بلهجة جافة " أنتم حينتقم منك لأنكم سيطرتم على الشباب بفكر معوج" فرددت عليه " أنه لو غيرك قالها .. فأنت تعلمون كم بذلنا من جهد لضبط عواطف الشباب " ثم نزلنا للشقة وطلب مني أن ألبس ملابسي وأحضرت ملابس ثقيلة وكانت ابنتي معنا هذه الليلة ووجدتها قد أعدت حقيبتي وزودتني بمتطلبات الاعتقال وودعت أسرتي بكلمات مشجعة وخرجت لأجد قوة ضخمة من الحراسة تتقدمها سيارة عبد الرحيم فسيارة قوات الأمن فسيارة اعتقالي وقد انتشر المخبرون في كل مكان وتحرك الركب نحو سخا ففهمت أنهم سيقبضون على الأستاذ عبد المنعم مكاوي وتوقفوا أمام منزله – ولم يكن هو والأسرة في المنزل فقد كانوا مسافرين إلى ( بشبيش) – ففتحوا الباب عنوة وقاموا بالتفتيش وأنا جالس وسط المخبرين في السيارة وبعد ساعة دعيت إلى داخل المنزل لأجد عبد الرحيم يفتش في الدواليب وقال لى " أنا جبتك علشان تكون حاضر التفتيش " ,أثناء تفتيشه سألني عن موضوع معين فأنكرته فقال لى " أنت بتكذب " فثرت عليه قائلا : إن سني لا يسمح أن تتهمني بالكذب فسكت وواصل التفتيش وأراد أن يرضيني لما أحس بثورتي فقال " على فكرة يا أستاذ على أنت ما فيش عليك أى تهمة " ثم انتقل إلى غرفة النوم وعاد بكمية ضخمة من الأوراق وهو يقول " لم أعد أصدق الناس الكبار أبدأ " وجمع الكتب والأوراق وأخذ معه ماكينة كتابة " تربريتر" وجاء المخبرون بخفير واستجوبوه ثم سلموه المنزل , وخرجنا للسيارات التي عادت بنا إلى مكتب مباحث امن الدولة وجلست في الصالة وسط المخبرين وطلب لى ضابط بوليس كوب من الينسون فتناولت منه قليلا ثم ذهب بي الظن إلى أنه به مادة مخدرة أو سامة فتركت الكوب واستعجلني الضابط لأشرب الباق ي فاعتذرت لمرضي وتناولت حبة من دواء الشرايين ثم سلموني للنقيب ( عبد الحميد) فركبت بجواره سيارة جيب اتجهت بنا على المركز وكان ضابطا مهذبا فقال لى في الطريق " إن سجن المركز تحت تصرفه ولكنني سأكون في مكتبه مع الدكتور محمد فؤاد عبد الحميد الذي سبقنا وسألني إن كنت في حاجة إلى طلبات من منزلي ليحضرها لى فشكرته .

والتقيت في المركز مع الدكتور فؤاد الذي طلب أن يكلم زوجته تليفونيا فطلبت منه أن يطلب لى نمرة منزلي وكلمت ابنتي وطمأنتها عن حالت وكلمت زوجتي وكانت مضطربة وهي تقول لى " ربنا معاكم " وأرسل النقيب عبد الحميد من يحضر لنا ( مرتبة) وأغطية فرشت لنا في غرفة النقيب ( على بدوي) وصلينا الفجر ونمنا حتي الصباح واتصل الدكتور فؤاد تليفونيا ببيته وطلب منهم إفطار وتناولنا الإطار وقرأنا الصحف وعند الظهر وصل الأستاذ عبد المنعم من بشبيش والأخ فتحي قبردي من مطوبس واتصل الدكتور فؤاد بمنزله فسألوه إن كانوا يعدوا لنا غداء فوافق وكان بسجن المركز اثنان من دسوق فحاول الدكتور فؤاد أن يحضرهما معنا الجاويش فأرسلنا غذاء لهما .

وفي المساء حضر كثير من الأهل والأقارب والأصدقاء لى وللدكتور فؤاد والأستاذ عبد المنعم وقضينا معهم سهرة طويلة وبتنا ليلتنا وفي الصباح علمنا بقرار الترحيل إلى سجن بور سعيد وحضر زوج ابنتي ( على ) بسيارته وحضرت عربة السجن فنزلنا وسلم الدكتور فؤاد على المأمور وركبنا نحن الستة سيارة السجن " وهي سيارة قذرة وليس بها كراسي "

وجلسنا على الأرض بينما يودعنا في الخارج الأهل والأحباب وكانوا متأثرين لهذا المنظر وتحركت بنا السيارة وفي المقدمة الضابط المرافق وفي المؤخرة الجنود المسلحين وأمامهما سيارة النجدة وخلفها سيارة البوليس وتحرك الركب وبعد ساعتين أحسسنا من نافذة السيارة الضيقة أننا بدمياط وفي عزبة البرج استأذنا لشراء فاكهة ووصلنا بور سعيد ووقفت السيارة أمام باب السجن ودخلنا حجرة الموظفين واستكتبونا بيانات السجن وأخذوا كل ما معنا عدا الملابس وأودعت الأمانات ثم اقتادونا إلى الدور الرابع وأجلسونا القرفصاء أمام ضابط العنبر واستلم كل واحد مرتبة إسفنج وحولت أنا والأستاذ عبد المنعم إلى الزنزانة .

دخلنا الزنزانة وكان بها خمسة عشر معتقلا كلهم من محافظة كفر الشيخ عدا ثلاثة ولا نعرف أحدا منهم فاعترض مسئول الزنزانة على حضورنا لأن الزنزانة ضيقة وكانوا وقتها يتناولون طعام الغداء قبل المغرب بساعة وبالأمر تحملونا وجعلوا مقامي بعيدا عن جردل البراز وتم التعارف وصلينا الفرائض وجاء وقت النوم وأطفئ النور وبت الليلة الأولي في الزنزانة.

عشرة شهور في زنزانة ( 10)

الشهر الأول

علمنا أن لكل زنزانة مندوب ومندوبنا هو الشيخ عبد الرافع من ( شباس ) وإمام الصلاة هو سليمان من ( الإسكندرية ) وكان يقوم بتدريس تجويد القرآن ما بين المغرب والعشاء وكان أغلبنا يقوم قبل الفجر بساع للتهجد وكنت أقوم معهم لأجد جسمي محطما من ضيق المكان وعدم الحركة فكنت أدلك عظامي حتى تجري فيها الدماء وقبل شروق الشمس يحضر السجان ويفتح الباب لننطلق مسرعين إلى دورة المياه لنقف داخلها متزاحمين ولا يكاد الواحد منا يدخل المرحاض حتي يستعجله الجميع لضيق الوقت المحدد لدخول دورة المياه وكثيرا ما كنت أجد التعاطف من الشباب فيفضلونني على أنفسهم نظرا لشيبتي وكبر سني وبعد نصف ساعة تغلق الزنزانة والمحظوظ من ينتهي من دورة المياه وتكون لديه دقائق يسير فيها لاستنشاق الهواء النقي قبل أن يطلق السجان صفارته ويأمرنا بألفاظ خشنة بسرعة العودة للزنازين.

وتأتينا وجبات الطعام _ أربعة أرغفة وعدس سائل للوجبات الثلاث أو فول غير ناطج طوال أيام الأسبوع عدا الخميس والجمعة والسبت فيوزع علينا في العشاء ما يسمي خضار – مطبوخ بقشر وبدون تقطيع – وقطعة لحم غير ناضجة لا تكفي لإطعام طفل وملعقتين من الأرز المعجن وكان الشيخ ( سليمان ) هو أمين الطعام الذي يقوم بتوزيع الأنصبة بالعدل والقسطاس. وفي تماما الساعة ( 1) كان ضابط العنبر يأمر بفتح ( كوالين) أبواب الزنازين ويسمح لفرد واحد بالخروج لدورة المياه ولا يخرج الثاني إلا بعد عودته كما نظمنا ( نوبتحية) للنظافة وإحضار المياه فكان النوبتجي يقوم بتفريغ جردل البراز في الدورة ثم يقوم بملء ثلاثة جردل بالمياه ويقوم بعضنا بغسل ملابسه الداخلة وكثير منا حضر بدون ملابس فهو يرتدي ملابس السجن على اللحم حتي يغسل ملابسه الداخلية وينتظر حتى تجف وكان الشاويش أمين هو شاويش العنبر يتناوب معه الشاوش عبد الله وكانوا يمرون علينا بعد غلق الزنازين للتمام فنجتهد في الثناء عليهما ليتطلفوا معنا في تطبيق لائحة السجون التي حرمنا من مميزاتها حيث كان المسجونون الجنائيون مميزون علينا بدخول الأطعمة والزيارات والجرائد والراديو والفسحة وإعداد الأطعمة وشرب الشاي وصلاة الجمعة بالمسجد وكنا نحن محرمون من كل ذلك .

وقدم علينا الإخوان ( صالح مهنا ) و( موسي زايد) ووقفا داخل الزنزانة فترة يتفرسان في وجوهنا وسلم على موسي وكان يعرفني وكان قدومهما خير وبركة حيث فتحا باب الدراسة والسمر والخطابة وكان نومهما بجواري وكثيرا ما كان يطلبان مني أن أحدثهم عن ماضي دعوة الإخوان وقد أحسست أن موسي يريد أن يقنع صالح بها وكثيرا ما كان يجمع بينه وبين الأستاذ عبد المنعم , وقام الإخوان الدكاترة فؤاد عبد الستار ( مدير مستشفي إيتاى البارود ) ومحمد فؤاد عبد المجيد ( أخصائي أمراض النساء بمستشفي كفر الشيخ ) يعاونهما مجموعة من الأطباء الشبان بالإشراف الصحي على المرضي – واستحضر الأول بطريقته الخاصة كمية من الأدوية أودعت بزنزانة التي بها لمريض على الشاويش ويشرح له حالة المريض لينقلها إلى الدكتور في زنزانته وهو شخص المرض ويطلب من الشاويش التوجه إلى زنزانة (1) لإحضار الدواء وتسليمه للمرض .

وظهرت حشرة ( البق) في ملابسنا وأغطيتنا وفى حوائط وسقف الزنزانة واهتم الإخوة بقتلها وخاصة تلك التي تعيش في السقف .

تعرف ضابط العنبر ( الرائد محمود بدوي) على الأستاذ عبد لمنعم وكان ذل مغنما كبيرا إذ كان كثيرا ما تفتح الزنزانة لينادي السجان عليه فيذهب ويجلس مع الرائد فيتخذها وسيلة لالتقاط الأخبار والتخفف من قيود السجن وفي احدي الليالي وفي الساعة العاشرة مساء نادي السجان على الحاج عبد المنعم وناوله كوبا من الشاي من شراعة باب السجن أوصي به الرائد له فوزعت الكوب علينا وكنا ثلاثة وعشرين وذقنا طعم الشاي الذي حرمنا منه ما يقرب من الشهر .

وكان الإخوان يلتقطون الأخبار من المساجين الجنائيين الذين يسمعون نشرات الأخبار من الراديو ومن الصحف وأخذ الإخوة يتداولون الأنباء حين يلتقون في الصباح في دورة المياه وأطلق على مذيعي الأخبار " بول روبتر) كانت هناك شخصيات مميزة في معاملتها منهم الدكتور فؤاد عبد المجيد والحاج عبد المنعم مكاوي والحاج مبروك هنيدي وعلى رأس الجميع ( محمد إبراهيم سالم ) فقد كان يقيم في زنزانة (1) وهو رجل ثري يستعمل المال في تكميم الأفواه وترضية الكثيرين وظهر ذلك بعد شهر تقريبا إذ انهالت عليه كافة أنواع الأغذية والملابس والكتب , وكان يهب الكثير من ( البيجامات) إلى لمحتاجين من الإخوة وأعد مكتبة للاستعارة وكثير من كانت تصلنا مأكولات شهية مما تصل إليه , وهو غير واضح الفكر وإن كان يميل إلى القطبيين .

وقد أطلقت لحيتي وبدا الشيب واضحا وأحسست بسني وقد جاوزت الستين وأطلق الجميع لحاهم إلا القليل وأقبل الجميع داخل الزنزانة على صوم الاثنين والخميس والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر العربي , وأفطر البعض وكنت منهم لأنني كنت حريصا على انتظام المعدة حتي لا أقضي حاجت داخل الزنزانة وقد عافني الله من ذلك حتي خرجت من السجن .

الشهر الثاني

لاحت بوادر رحمة الله فصرح لنا بشراء متطلباتنا من ( الكانتين) وكان من معنا في الزنزانة ليست لهم نقود بالأمانات وكنت أنا والأستاذ عبد المنعم لنا أكبر نصيب من المال في الأمانات فاجتمع هو بمن في الزنزانة وتعرف على احتياجاتهم وقمت معه بتنزيل طلباتهم من أماناتنا , وأحضرت لهم مصاحف و( بيجامات) و( فانلات ) وسراويل ومعجون أسنان وبعض المأكولات ثم صرح بدخول الأطعمة الخاصة للمعتقلين وبدأ الأهالي يأتون إلى السجن ليسلمونا ما معهم دون زيارة وكانت المأكولات تنهب في الطريق إلينا فلا يصل إلا نصفها – وكان الزوار يتجهون إلى الشوارع الجانبية لينادوا على ذويهم الذين يتسلقون على أكتاف بعضهم ليردوا عليهم وكثيرا ما كان جنود الحراسة حول أسوان السجن يمنعونهم من التحدث إلينا ويعتدون عليهم بالضرب , وتدخل الإدارة وجمع الرائد ( بدوى) مندوبي الزنازين وأمر بغلق النوافذ ليلا ونهارا لمدة أسبوع عقابا لنا , وبعدها ينظر في أمر فتحها .

وصرح لنا بالنزول إلى حمام السجن مرة كل أسبوع ولمدة نصف ساعة فكنا قبل النزول ننشر المراتب والأغطية ثم نخرج في طابور إلى الحمام لنستحم بالماء الساخن داخل حمامات مفتوحة على بعضها وكثيرا ما كان الأخ يستر نفسه ببطانية وكنت أستعمل هذا الحمام لغسل ملابسي بأقصي سرعة ليدخل من بعدي وكثيرا ما كان الشباب يؤثرونني على أنفسهم في الدخول قبلهم .

لم تصلني أنا والأستاذ عبد المنعم أى زيارة وأحسست بالضيق حيث أصبحنا عالة على الإخوة وأرسلت ورقة أخفيت داخل شنطة أحد الزوار وقام بتوصيلها لزوجتي وطلبت فيها لى وللأستاذ عبد المنعم بعض الأغذية ولأول مرة يأتيني بعض الإخوان لزيارتي من خارج الأسوار ليطمئنونني على الأسرة وعلى حسن ابني نزيل سجن المنصورة .

رؤساء الزنازين كانوا على النحو التالي:

زنزانة 1 محمد إبراهيم سالم " قطبي".

زنزانة 2 عبد القادر محيي الدين " سلفي "

زنزانة 3 الشيخ إبراهيم " متعاطف مع الإخوان ".

زنزانة 4 الفرماوية " ولا كبير لهم .

زنزانة 5 رمزي أبو العز " إخوان".

زنزانة 6 الدكتور فؤاد عبد الستار " إخوان "

زنزانة 7 إبراهيم الزملوط " أنصار السنة"

زنزانة8 تعدد الرؤساء لعدم الاستقرار .

زنزانة 9 الدكتور محمد فؤاد عبد المجيد " إخوان ".

زنزانة 10 الشيخ عبد الرافع " قطبي"

زنزانة 11 محمد أبو رية " جمعية شرعية " .

زنزانة 12 محمود زعلوك " إخوان " .

زنزانة 13 توفيق غانم " إخوان ".

زنزانة 14 الحاج حسين مهدي ( إخواني قديم".

زنزانة 15 الحاج مبروك هنيدي " إخوان " .

زنزانة 16 الشيخ إسماعيل " أنصار سنة"

وردت إشارة بحصر أسماء كبار السن الذين تجاوزوا الستين وكنا سبعة وأكد الجميع أن الإفراج عنا صار قريبا وظللنا بعدها تسعة أشهر .

وبدأ بعض الشباب يتردد على الأستاذ عبد المنعم في الزنزانة وكان أولهم ( صلاح خليفة) طالب الطب الذي قدم نفسه على أنه من إخوان الإسكندرية وتبعه ( اشرف كرم ) وأخذ الأستاذ عبد المنعم يحدثهم عن الدعوة وكانت فرصة طيبة فتحت بابا لنشر الدعوة بين الشباب .

الشهر الثالث:

صرح لنا بالنزول إلى " الحوش " ساعة في اليوم وفرحنا بذلك كثيرا وأخذنا نجري ونلعب كرة القدم والكرة الطائرة وكرة اليد , وفكرت في عمل مجموعة من ثلاثة من شباب الإسكندرية نسير في الحوش وأخذت أشرح لهم " الأصول العشرين" على حلقات وكذلك تاريخ الدعوة- ثم كونت مجموعة ثانية وثالثة ووصل عدد المجموعات إلى خمسة وكانت ملفتة للأنظار – وبدأ الغزو الإخواني في أبناء المحافظات السبعة وزاد رصيد الإخوان من المعتقلين بعد أن كنا لا نعدو الخمسة عشر .

قام الأخ محمد حسين بإلقاء محاضرات عن الروح واليوم الآخر وأقبل الإخوة على الاستماع إليه في زنزانة ( 13 ) وغيرها كما قام الشيخ " محمد أبو الوفا " نجل الأخ المرحوم الشيخ " صافي عيد " بتدريس السيرة والفقه.

سقطت الوزارة ونحي ( النبوي إسماعيل 9 عن وزارة الداخلية وفرح الجميع بذلك .

علمنا من أخ قادم من سجن طره أن الأخ ( كمال السنانيري ) قد قتل أثناء التعذيب داخل زنزانته وحزنا على الشهيد الذي عاش لدعوته منذ شبابه حتى هرمه .

زار السجن ضابطا مباحث كفر الشيخ " عادل حماد وعبد الرحيم " واستدعينا لمقابلتهما وكان عناقا وكلمات عذبة ووعود براقة واعتذرت عن مبررات الاعتقال وطمأنني عادل على ابني ( حسن ) الذي لقيه في المنصورة,

وصلتنا بعد ذلك أنباء عن إطلاق النار على " عادل حماد" واتضح أنه أطلق عليه عيار رشاش في معركة في كوم حماده للنزاع على ميراث ففقد عينه اليسري وكان المعتقلون يكثرون في قنوتهم من الدعاء عليه قائلين ( اللهم خذ من عينيه).

تقرر ترحيل الإخوان إلى القاهرة للتحقيق معهم في القلعة أو في سجن الاستقبال وتوترت الأعصاب وكانت تفتح الزنازين في منتصف الليل لاستدعاء المرحلين وكنا نبكي من أجلهم .

وفي ليلة نودي على خمسة من زنزانتنا فيهم عبد الرافع وعلمن بترحليهم لسجن الاستقبال ( يجر فيه التعذيب لأخذ الاعترافات ) وأعددنا لهم أكياسا من الطعام وصلنا الصبح وودعناهم وجاء الجاويش ( أبو كمال ) ليقودهم إلى الإدارة بالسب والشتم واللعن ودعونا الله أن يرحمهم وانضم إلى زنزانتنا الصحفي ممدوح الولي ( أمين صندوق نقابة الصحفيين بعد ذلك ).

نشط نظام المجموعات وصار اللقاء يتم داخل الزنزانة قبل الفسحة وفي أثنائها وبعدها كل مجموعة لمدة ساعة بمعدل أربع مجموعات في اليوم .

كثرت الأحلام وجميعها كانت تصب عند الحاج محمد عبد الفتاح الشريف الذي أشتهر بتفسير الأحلام , وكان مثالا للشيخ النشط سريع النكتة مبتسم الوجه وكان كثيرا ما يعقب على المحاضرات بذكر أحداث عن الدعوة .

ونظمنا لقاء أسبوعيا في زنزانة ( 9) الساعة العاشرة صباحا لأبناء محافظة كفر الشيخ بدئ بمحاضرة من أحد السلفيين عن ابن تيمية وأعقبه في المحاضرة الثانية الأخ موسي زياد بمحاضرة عن حسن البنا فقاطع السلفيون هذا اللقاء وصار وقفا على إخوان كفر الشيخ وقسمت المحافظة إلى أربعة أقسام شرق وغرب ووسط ومدينة كفر الشيخ ولكل قسم مسئول يتولي تنظيم اللقاء مرة في الشهر وتباري الجميع في تنشيط هذا اللقاء واستضاف اللقاء الكثير من إخوان المحافظات الأخر وتولي الحاج عبد الفتاح الشريف سرد قصص عن تاريخ الدعوة فيها الكثير من أسرارها .

د. محمد فؤاد عبد المجيد:

كان الدكتور فؤاد عبد المجيد مبعث خير وبركة لجميع المعتقلين على اختلاف أفكارهم فكان يتفاهم مع جاويش الفرن لتحسين الرغيف زيادة العدد مقابل إعانة للجاويش وقام بإحضار ملابس داخلية وخارجية بسعر مخفض عن طريق الحاج سعد ( جنائي مقبوض عليه على ذمة التحقيق ) وكان يتألف قلوب ضباط السجن والجاويش بكل الوسائل وكثيرا ما كان يتناول الوجبات معهم وكان يوزع الكثير من الإعانات المالية على فقراء المعتقلين ويقوم بإيداع المبلغ باسمهم في الأمانات بدون علمهم ونشط في مجال الرياضة فنظم دوري كرة القدم بين الزنازين وشارك في اللعب معهم واتخذ لنفسه سكرتيرا خاصا من المقيمين في زنزانته كان آخرهم ( على البنواني ) وكان ينتقل داخل السجن والإدارة في حرية تامة ويستعمل حمام المستشفي ويظل في الإدارة طوال الليل ويلبي طلباته الجاويشية وكأنه ضابط رأسهم كما كان يقوم بتجهيز توكيلات صرف المرتبات ويشرف على البريد الصادر والوارد ويأتي بالأنباء الواردة إلى إدارة السجن أو من خارجه بالإضافة إلى الخدمات الطبية.

تكونت فرقة للأناشيد بدأت بإخوان الإسكندرية كانت لها فقرة بين لمحاضرات كانت تودع المرحلين كان الكل يشاركهم وردد خلفهم وكان جملا أن نري ( عم أمين ) سجان العنبر يردد معنا الأناشيد الإخوانية .

الشهر الرابع

تقرر ترحيل الحاج مبروك هنيدي إلى القاهرة وقيل أنه ذاهب إلى المزرعة فاجتمعنا في زنزانة ( 14) وكان وقتها قد صدر حكم بإعدام لخمسة المتهمين في مقتل السادات ومن بينهم محمد عبد السلام فرج وكان والده الشيخ عبد السلام مقيما في هذه الزنزانة وتكلم الشيخ محمد أبو الوفا وطلب الشيخ إبراهيم نشيدا من الحاج مبروك ( وكان من عادته زيارة الزنازين وإلقاء كلمات عن الدعوة وترديد بعض الأناشيد والقصائد ) وهنا رفض الإخوان تقديرا لمشاعر الشيخ عبد السلام , فتكلم والد الشهيد كلمة حماسية وألح في إلقاء النشيد , ولكن الحاج مبروك اعتذر وودعناه وعلمنا بعد ذلك أنه مرحل لسجن القلعة للتحقيق معه وتصادف أن كانت زوجته قادمة لزيارته فلقيته وهو مكبل بالحديد.

وفي إحدي الليالي نادي السجان على الأستاذ عبد المنعم لمقابلة الملازم أول ( مهتدي ) فلما عاد سألناه ما الخبر فقال لا شيء لقاء عادي ونمنا وصلينا الصبح ثم أعلن لنا أنه مرحل إلى ( القلعة) اليم وكان حزننا شديدا فهو بالنسبة للسجن مسئول التموين الموفق وبالنسبة للزنزانة ( الفرملة ) التي توقف كل متمرد ومشاغب وودعه الإخوان في الصباح بالأناشيد والجميع ينظرون إليّ نظرة إشفاق لأنهم يعلمون كم أنا كنت مرتاحا لوجوده معي في السجن . تحملت مسئولية الزنزانة وأنا أعلم أنه لا طاقة لي بها ( فالقطبيون ) أبناء ( شباس عمير) مشاكسون يعيشون معنا على طريقة البقاء للأقوي فاستعنت بالله وتعاملت معهم باللين تارة وبالشدة تارة وكثيرا ما كنت أقسو على من معي من الإخوان حين يختلفون معهم .

انتظمت الزيارات لى فكانت كل خمسة عشر يوما وحضر إلى ّ أشقائي وأشقاء حرمي وأولادهم وكانت كميات الأطعمة تأتنا بوفرة وكنا نهدي السجانين والضباط .

وكنت حريصا على الإقلال من كمية الطعام فلا أزيد على رغيف ولا أكل الأرز إلا قليلا ولا أقرب الدسم حتي تنتظم معدتي ولا أصاب بالإسهال فاضطر إلى قضاء حاجتي داخل الزنزانة وذلك ما كنت أخشاه حتي لا أضايق الغير وأكرمني الله طوال الشهور العشرة بذلك .

وفي عصر يوم وصلتنا أنباء بعودة الحاج مبروك هنيدي وفرحنا جميعا ونزل الدكتور فؤاد ليثبت من النبأ فوجد الحاج مبروك في ضيافة المأمور , واستقبلناه بالنشيد والهتاف " الله أكبر ولله الحمد " وفي اليوم التالي خلا بي وحدثني عما لاقاه من متاعب وتحقيقات داخل سجن القلعة ونصحن بأن أستعد لمثل هذا فقد يكون الدور علىّ وعلمت منه أنه لم لتق بالأستاذ عبد المنعم فقيود السجن لا تسمح بذلك , وكان متشائما إلى أقصي حدود التشاؤم حتى إنه نصح بإيقاف كل الأنشطة الأسرية والثقافية فعرضنا ذلك على مجلس مندوبي إخوان المحافظات الذي تصدر عنه القرارات المتعلقة بنشاط الإخوان ومتطلبات المعتقلين فرأى التخفيف من النشاط دون إلغائه .

الشهر الخامس

فوجئنا ظهر أحد أيام فبراير بنبأ عودة الأستاذ عبد المنعم وتبادلنا التهاني خاصة الزنزانة ( 10) واستقبلناه بالأناشيد والعناق . وعاد يحمل معه أخبار سجن القلعة . ونظمت له لقاءات خاصة بالإخوة جميعا في زنزانة (6) وحدثنا عن كل ما لقيه داخل سجن القلعة ( وضعوا له عصابة على الوجه – التحقيق معه بسبب الإخوان – كيفية التخاطب بين المعتقلين – الطعام والزيارة – اشتراك مباحث كفر الشيخ في التحقيق – سؤاله عن الشباب في كفر الشيخ ) وفاتحناه في إيقاف النشاط كما رأى الحاج مبروك فرأى العكس وأعاد النشاط كما كان بل أكثر مما كان .

وبعد أيام طلب أن ألتقي أنا والدكتور فؤاد معه على انفراد والتقينا به في حوش السجن وحدثنا عما لم يحدث به الإخوة وعرفت منه أنه سئل عن نائبه في مباشرة نشاط الإخوان فأقر بأنه ابني ( حسن ) وتوقعت شرا بعد ذلك اكتأبت نفسي ولم أجد ملجأ إلا الله أدعوه وأسأله اللطف به .

زارنا والد الأخ ( عبد الرحمن ناصر ) وقابله الأستاذ عبد المنعم وعرف منه أن ( حسن ) قد رحل إلى القلعة وعاد يبلغني هذا النبأ وهذا ما توقعته وقدرت موقف ( حسن ) وسألت الله أن يلهمه رشده ولازمني السهم ولاحظ ذلك من معي بالزنزانة فحاولوا التخفيف عني ولما سألني أحدهم وعن اضطراب نفسي قلت له : إنني اب على أى حال وقمت بالليل وسألت الله في سجودي أن يلطف به .

حاولت أن أسلم قيادة الزنزانة للأستاذ عبد المنعم كما كان يباشرها قبل ترحيله فرفض .

حضرت السيدة حرمي وابنتي ولما سألتهما عن أخبار ( حسن ) قالتا " محنش عارفين له طريق جرة " وحاولت ابنتي أن تخفف عني فادعت أنه رحل من القلعة إلى ( المزرعة ) ولكني لم اصدق طلبت منها بعد العودة أن تعرفني بالحقيقة .

وفي اليوم التالى زارني أحد الإخوان ومعه خطاب من ابنتي وبداخله خطاب بخط ( حسن) يقول فه إنه رحّل إلى ليمان طره وأنه سجد لله شكرا على هذا الفرج وأخذ يصف السجن بأنه أفضل من المنصورة وحمدت الله تبارك وتعالي على هذه النعمة واستقبلت حياة السجن بنشاط من جديد وركزت على نظام الأسر.

وفي صباح يوم من أيام شهر فبراير وبعد أن فتحت الزنازين في الصباح جاء المخبر ( سيد صالح) ليقول إنه قد ظهر بصحف الصباح أسماء المفرج عنهم ومن بينهم الأستاذ عبد المنعم مكاوي فأيقظناه من نومه واستقبل الخبر بلا مبالاة قائلا : قد يصدق الكذوب – حيث كانوا قد وعدوه في القلعة بالإفراج عنه ووصلت الصحف وقرأنا اسمه – عبد المنعم أحمد مختار على مكاو – وأضيف ( على ) إلي وهذا لا يعرفه إلا أهل بلدته ( بشبيش ) وتوقع أن أحدا قد تدخل ليفرج عنه .

وودعنا المفرج عنهم ومنهم الحاج مبروك هنيدي بالأناشيد .

الشيخ عبد السلام فرج :

والد محمد عبد السلام أحد الخمسة الذين صدر الحكم بإعدامهم وأحيلت أوراقهم إلى المفتي , رجل أوتي من صبر أيوب وكثيرا ما كنت ألتقي معه فأحس بصبره وقوة إيمانه وكان مطمئنا إلى رحمة الله ويرجو أن يلطف بابنه وحدثني عن براءته وكيف أنه أصيب بحادث أثناء قيادته سيارته ألحق بالمستشفي في قليوب ونقل إلى مصر يوم 3 أكتوبر أى قبل مقتل السادات بثلاثة أيام فكيف يكون شريكا في القتل ؟!

وأما عن الكتاب الذي نسب إليه وهو " الفريضة الغائبة " فلم تعثر الحكومة على نسخة مطبوعة حتى الآن وصرت أخفف عنه وأطمئنه .

الشيخ محمد عبد الفتاح الشريف :

لازمت الحاج عبد الفتاح الشريف في الصباح بعد فتح الزنازين نسير في جولة دائرية عشرات المرات أحدثه ويحدثني عن التوقعات المرتقبة وعن ذكريات الماضي وكان عذب اللسان محببا إلى الجميع على اختلاف أفكارهم يحيي الجميع ويبتسم للجميع حتى القطط كان يحدثها ف يكل صباح لما كانت تشرق طعامه ,وأخذ يحدثني عما مضي من تاريخ الدعوة بعد سنة 54 وهي المدة التي لم يكن لى فيها نشاط مع الإخوان لوجودى في أبي المطامير .

الشهر السادس

تقرر ترحيل الشيخ ( محمد أبو الوفا) إلى القلعة ودعونا الله له بالسلامة فقد كان فقيها ومدرسا ومربيا .

تقرر ( تكدير ) واحد من جماعة ( التكفير والهجرة ) لاعتدائه على جاويش العنبر وتوسط الدكتور فؤاد عبد المجيد لدي المأمور فاتهمه بعض شباب الجهاد بالتواطؤ مع المأمور ووجهوا إليه ألفاظا خارجة وبدأت إشاعاته تنطلق بأن الإخوان يخططون ضد المعتقلين من التكفير والجهاد , وتدخل الحاج عبد الفتاح الشريف وانتهت الفتنة بترضيتهم واقترح بعض الإخوان من الشباب على الدكتور فؤاد أن يتوقف عن المساعدة ولكنه ظل على موقفه في خدمة الجميع

نظمت سلسلة من المحاضرات عن اليهود وأخري عن علوم السنة وأخري عن الفقه يلقيها الأخ ( عبد القادر أحمد عبد القادر ) وكان موعدها بعد الظهر وكانت دروسا قيمة أقبل عليها الكثيرون وكان الحاج عبد الفتاح الشريف دائم التعليق على كل محاضرة .

قدّم إلى ( أحمد محمود) طالب التكنولوجيا واشترك في أسرة ثم استمعت إليه في محاضرات عامة فوجدته على علم بأصول الدعوة ولديه إلمام تام بالعلوم الدينية والدنيوية وكان له دور بارز في التربية فيما بعد .

وتقرر ترحيل الأخ عبد القادر أحمد عبد القادر إلى القلعة وكان أخا نشيطا على جانب كبير من الثقافة وطلبنا منه كلمة فقال وهو على السلم: لقد جئتم إلى هنا وأنتم متفرقون فلتخرجوا وأنتم متحدون.

أحسسنا بمتعب الأسر المالية في الخارج فقررت اللجنة جمع تبرعات من الزنازين فجمعنا حوالي 300 جنيه وزعت على أفراد غالبيتهم من غير الإخوان .

نظمت مباريات ثقافية تولاها ( ممدوح الولي ) وكانت ناجحة ووزعت الجوائز على الزنازين الفائزة .

أجريت عمليات جراحية لبعض الإخوان منهم الدكتور فؤاد عبد الستار مدير مستشفي إيتاى البارود وعوملوا في المستشفي أسوأ معاملة وربطت أرجلهم بالحديد في السرير حضر أطباء مستشفي إيتاى البارود لزيارة مديرهم الدكتور فؤاد وهو على هذه الصورة فسخطوا على كل شئ .

الشهر السابع

جاءني واحد من الإخوة ليقول لى : هل قرأت كلمة ( حسن ) في المصور وكانت مفاجأة أن وجدت له كلمة ألقاها أمام لجنة التوعية الحكومية في ليمان طره فيها بالنظام القائم وشرح فيها دعوة الإخوان وكانت كلمة مركزة تدل على وعي تام بالدعوة ثم جاءت كلمة له وصورة في مجلة ساعة فاشتريت المجلتين واحتفظت بهما وتردد على الأخوة لقراءة المجلتين .

أشكر الله أن عافاني من مرض القلب الذي كنت أشكو منه خارج السجن وقد أرسلت في شراء الدواء الذي كنت أستعمله ولم أتناوله إلا مرات معدودة وواظبت على نقع الحلبة في الماء والسكر وأتناولها على الريق . أقمنا مباراة ( حفلا عاما ) لكبار السن في لعبة الكرة والجري والسباق وشد الحبل حضره المأمور وقوة السجن ووزعت فيها الجوائز بمعرفة المأمور وكان الحاج عبد الفتاح الشريف مثلا أعلي لنشاط كبار السن.

الشهر الثامن

أقيمت مباراة لكرة القدم على إستاد بور سعيد اعتدي فيها أبناء بورسعيد على الملعب ومباني الحكومة وأحرقوا عشرات السيارات وقامت مظاهرة أحدثوا فيها تلفيات تبلغ مئات الآلاف من الجنيهات وقبض على الكثيرين وأحضروهم عندنا في السجن وتعرف الأخوة على بعضهم وحاولوا ربطهم بالدعوة .

شهر رمضان :

أصبح رمضان على الأبواب واجتمعت اللجنة لوضع برنامج شهر رمضان داخل الزنازين وخارجها وتميز بالروحانية والثقافة والألفة الكرم, ففي داخل الزنزانة نقرأ المأثورات قبل المغرب ومنها ورد الرابطة ثم ألإطار على مشروب ثم صلاة المغرب ثم نتناول الإطار ثم درس حتى العشاء وتفتح الزنازين لصلاة القيام ويعدها نعود للزنازين وقبل الفجر بساعة ونصف توقظ كل زنزانة التي تجاورها بالطرق أو النداء للسحور ثم صلاة الصبح وقراءة المأثورات والنوم حتي الصباح ثم تلاوة القرآن وحفظه وحضور الحلقات وصلاة الظهر في جماعة ثم كلمة بعد الصلاة ثم صلاة العصر .

الشهر التاسع:

ظهرت حالة تسمم في الزنزانة ( 1) نتيجة تناول طيور (توفيق عبد الحي ) المسممة وأعلنت حالة الطوارئ ونشط أطباء العنبر من الإخوان في العلاج وأمر بفتح الزنزانة طوال الليل ولازمهم الأطباء ولطف الله بالإخوة ونجوا من الموت .

تدخلت مباحث بورسعيد في عمل إدارة السجن وعين مخبر للزيارات ليمنع أى استثناء وتكهرب الجو وأحسسنا بالضيق من هذا التصرف وزارتني الأسرة وراء الأسلاك فمددت يدي بقطع من الحلوى لنجل كريمتي ( أحمد ) ورآني المخبر فأمر بتفتيش شنطة حرمي ظنا منه أنني هربت خطابات .

بدأت التوعية الحكومية في القاهرة منذ الشهر الرابع وتقرر حضور لجنة توعية لسجن بورسعيد مكنة من ضابط المباحث ومدير الأوقاف ومفتش الوعظ والتقت بأول مجموعة من الإخوان في المسرح فنظمنا أنفسنا ووزعنا الكلمات واخترنا مواضيعها وتحدث الضابط والمشايخ بجانبه لا حول لهم ولا قوة ثم تكلم مدر المساجد فتطلف في الكلام وتكلم مفتش الوعظ فكانت عباراته خشنة وبعدها تكلم الإخوان بحماس وإيمان وفضحوا رجال المباحث وعروا تصرفاتهم وكان مسك الختام كلمة الدكتور فؤاد عبد الستار الذي قدم نفسه ( وهو حمل الدكتوراه ) كمدير مستشفي وكيف كبلت أقدامه في سرير مستشفي السجن ورآه أطباء إيتاى البارود وهو على هذه الصورة , وكيف أن ابنه الطفل قاطع المساجد التي تسببت في سجن أبيه ورأيت الدموع تذرف من عين الشيخين تأثرا وانتهي اللقاء وخرجنا من باب المسرح ليلتقي مدير المساجد بالدكتور فؤاد عبد الستار ويقول له في همس بعيدا عن الضباط ما معناه " أنتم ضيوف على الله ولن يخذلكم أبدا وقد فزتم بثوابي الدنيا والآخرة ".

ظهرت نتيجة الابتدائية والثانوية ونجح جميع الإخوان المسجونين الذين تقدموا للامتحان بمجامع عالة ووزع الشربات ابتهاجا بهذه النتيجة .

الشهر العاشر

قرأ أحدنا في الصحف عن حادث اصطدام سيارة تاكسي بآخري في إيتاى البارود ووردت أسماء الموات ومنهم الأخ (أشرف كرم ) الذي كان في زيارة شقيقته عقب الإفراج عنه وأرسلنا للإسكندرية نستوضح الأمر وكان النبأ صحيحا وحزنا كثيرا على فقدان هذا الشاب المؤمن .

وصل معتقلون جدد من الإسكندرية وحدث اكتئاب بمقدمهم فالجميع ينتظرون الإفراج .

أسلم بعض المساجين من المسيحيين وصلي " يحيي" بجواري يوم الجمعة وحفظ أناشيد الإخوان وصار يرددها بحماس .

اشتكي بعض المناوئين للإخوان من أبناء محافظة كفر الشيخ بأن نشاطنا ومحاضراتنا هي السبب في الإبطاء بالإفراج عنا وكثر اللغط حتى وصل ذلك إلى علم مباحث بور سعيد .

زارنا الأخ عبد المنعم مكاوي وسألت المباحث عن سبب زيارته فعلمت أنه صهري فأخذوا في مراقبتي أنا والدكتور فؤاد والحاج عبد الفتاح الشريف وتوقعنا الجديد من المتاعب وبعد أسبوع تقرر ترحيل الدكتور فؤاد إلى سجن طره والحاج عبد الفتاح الشريف إلى مزرعة طره فأوقفنا جميع الأنشطة خاصة وقد تكثفت رقابة مباحث السجن .

كان لترحيل الدكتور فؤاد إلى ليمان طره تأثيره في نفوسنا فقد كان ترجمانا لدي إدارة السجن وكان رجل علاقات عامة من الطراز الأول .

أذيع في الراديو نبأ الإفراج عن 450 معتقلا وعلمنا من إدارة السجن أنه سيفرج عن سبعين منا في الصباح وصلينا الصبح وزارنا شقيق أحد الإخوان المعتقلين وأخذ ينادي بأسماء المفرج عنهم من محافظة كفر الشيخ ونادي على أسماء الإخوة الذين معي في الزنزانة جميعا ولم يكن اسمي من بينهم وأخذنا نقبلهم وبعد دقائق سمعت من يناد على اسمي ضمن المفرج عنهم فقبلني الإخوة .

واستلمنا أماناتنا وطلب مني احد الإخوة أن أرافقه في سيارة خاصة قد بها شقيقه فوافقت شاكرا له حسن صنيعه وخرجت من باب السجن وسجدت لله شكرا في الشارع المواجه للسجن وركبنا السيارة واتجهنا إلى كفر الشيخ حيث وجدت أفراد الأسرة في انتظار وأقبل الجميع يهنئونني غير أني لاحظت اكتئاب زوجتي لعدم الإفراج عن ( حسن) فلم تتم الفرحة وكم كنت أتمن أن يفرج عنه قبلي ولكنها إرادة الله .

بعد ثلاثة أيام سافرت والسدة حرمي وكريمتي إلى ليمان طره وزرنا ( حسن) وقابلته لأول مرة منذ عشرة أشهر ووجدته شجاعا في لقائه عطوفا على والدته , وكانت كريمتنا على دراية بإجراءات الزيارة وفوجئنا قبل الدخول بخروج جثة مسجون من داخل السجن فبكت زوجتي وكانت شقيقتها بجوارها تخفف وتسري عنها بأنه مسجون جنائي وليس معتقلا كما شاهدنا عربة سجن مليئة بأخوة خرجوا من الليمان إلى محكمة أمن الدولة للتحقيق معهم وبعد الزيارة صادفتنا متاعب مريرة في العودة ودعونا الله أن تكون آخر زيارة.

وبعد أسبوع اتصل بي المقدم ( عادل حماد) تليفونيا وهنأني بالإفراج عن ( حسن) وحده دون باقي زملائه وشكرته وقلت لحرمي " مبروك حسن جاي " فأغمي عليها واتصلت تليفونيا بكريمتنا وأبلغتها بالخبر السار كما أبلغنا أفراد الأسرة وفي الساعة الواحدة ظهرا دخل علينا حسن مبتسما وكأنه قادم من كليته دون أى انفعال وأخذناه بالأحضان وحضر الجميع للتهنئة رجالا ونساء وحمدنا الله تعالي على كريم رحمته ومنته أن عدنا إلى بيتنا معافين من أى تهمة معافين من أى مرض والحمد لله رب العالمين .

الخاتمة

كانت هذه نهاية ما وجدناه من يوميات الشيخ الراحل – رحمه الله – وقد خلت – كما نوهنا من قبل – من أى إشارة إلى فترة الثمانينيات رغم أنه شارك فيها بدور قيادي في توجيه حركة الدعوة في ظل التشييق المتنامي ورغم أن الدعوة نجحت – بفضل الله – في هذه الحقبة في تحقيق نجاحات متعددة كالاهتمام بالعملية التربوية للشباب من خلال المحاضر والقنوات التي ميزت دعوة الإخوان عن غيرها من الدعوات وقد افتقر الشباب بالعمل العام كالمشاركة الفعالة المؤثرة للدعاة فيما يسمي بمؤسسات المجتمع المدني كالاتحادات الطلابية والنقابات المهنية والاتحادات العمالية والمجالس النيابية والمحلية ونواد أعضاء هيئة التدريس وجبهة علماء الأزهر .. الخ .

وقد حقق ( الإخوان ) في هذه المجالات نجاحات مذهلة أزعجت جهات كثيرة فصدرت القوانين تلو القوانين للحيلولة بينهم وبين الوصول إلى هذه المواقع ولما فشلت هذه القوانين – رغم تفصيلها المحكم في تحقيق هذا الهدف لم يكن هناك بد من البطش بهم وإلقاء القبض عليهم والزج بهم في السجون والمعتقلات إلى أن وصل الأمر إلى إحالتهم إلى المحاكم العسكرية .

وتعاون ( الإخوان) مع كل القوي الوطنية الراغبة في الإصلاح كالأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والكتاب والمثقفين والصحفيين والإسلاميين المستقلين ... حتى ندر أن تجد تجمعا أو مؤتمرا أو قرارا لهذه القوي يخلو من مشاركة مؤثرة للإخوان واتجهت الدعوة إلى العمل المؤسسي فأنشأت المدارس والحضانات والكتاتيب والمستوصفات والمستشفيات ولجان الزكاة ومشروعات كفالة اليتيم ..

وقد تعرضت هذه المؤسسات هي الأخرى لمحاولات الإغلاق والتضييق وصدرت القوانين المكبلة لنشاطها .

وبصفة عامة اختلفت هذه الفترة من عمر الدعوة عن سابقتها في السبعينيات بتعميق التربية والهيكلية مما حفظ على الدعوة ترابطها ورسوخها وانتشارها الواثق رغم التضييق المتنامي الذي شهدته هذه الفترة .

وقد قاد الراحل – رحمه الله – دعوة ( الإخوان ) في محافظة كفر الشيخ وفق هذه التوجهات ومن خلال هذه الخطوات المتأنية .. فشارك بجهد وافر في تربية الشباب بصبر ودأب وكان من خلف إخوانه الرموز الذين خاضوا مجالات العمل العام في النقابات والمحليات والمجالس النيابية معينا ومرشدا وموجها إلى أن رحل – رحمه الله – في صبيحة يوم الثلاثاء الموفق 17 / 1/ 1992 م عن عمر قارب الأربعة والسبعين عاما بعد مرض دام ساعات قليلة أوصي خلاله إخوانه بالصبر على دعو الله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا والذين ظلموا وفسقوا هي السفلي.

رحم الله الشيخ الراحل وتقبله في الصالحين وكتبه من الأتقياء الأخفياء وتقبل منه أحسن عمله وتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة وثبتنا على الطريق من بعده حتى نلقاه غدا على حوض رسولنا الحبيب - إن شاء الله – غير مبدلين لا مفرطين ...