من قتل حسن البنا
اشترك الملك فاروق فى تشييع جنازة النقراشي. وصل على الجثمان فى جامع الكخيا. ثم قصد إلى منزل النقراشي بمصر الجديدة ليعزى أسرته . وعاد إلى قصر عابدين ليجمتع بإبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكى وحسن يوسف وكيل الديوان ومحمد حيدر باشا وزير الدفاع وكريم ثابت المستشار الصحفى لفاروق
قال الملك لعبد الهادى: قررت أن تكون رئيسا للوزراء ثم سأل الحاضرين عن آرائهم فقال حسن يوسف . الموقف يتطلب وزارة كبيرة. وأيد حيدر هذا الرأى لم يدرك صاحب الجلالة المعنى الذى يقصده وكيل الديوان وظنه يقصد عدد الوزراء فقال.
لا مانع من أن يكون عدد الوزراء أكثر من المعتاد. قال كريم ثابت: إن حسن يوسف وحيدر يعنيان أن تكون الوزارة ائتلافية.
قال فاروق: لا مانع
قال حيدر: كدة كويس . الحمد لله.
قال كريم ثابت: لا أرى دعوة الوفديين إلى الاشتراك فى الحكم الآن لأن دعوتهم فى هذه الظروف معناها أننا ضعفاء ونريد أن نتقوى بهم. أو أننا خائفون ونريد أن نشجع بهم.
وأعتقد أنهم لن يقبلوا الدعوة فنكون قد خسرنا كثيرا ولم نكسب شيئا وكان كريم ثابت الوسيط بين الوفد والإنجليز ولكنه كان يتكلم أمام الوفد بلسان وأمام الإنجليز بلسان خر وأمام صاحب الجلالة بوجه ثالث!.. وكان هدفه فى كل الأحوال أن يظل وسيطا وأن يكون له دور . وقد استمر وسيطا . حتى قيام الثورة . بين كل الأطراف السياسية ف مصر!
قال حيدر باشا:إنى واثق من قبول الوفد دخول الوزارة
قال كريم ثابت مراوغا: أما حيدر يؤكد الوفديين سيقبلون فلابد ن لديه أسبابا تبرر هذا التأكيد فإنى أسحب كلامى . وأوافق على أن يتصل بالوفديين حتى لا نندم يوما .
قال فاروق : يبقى حيدر اللى يتصل بالوفد .
سأل حيدر الملك: هل لدى جلالتك رغبة معينة بخصوص أشخاص الوزراء الوفديين؟
قال فاروق: لا.. خالليهم يرشحوا اللى عاوزينه.
قال حيدر: أرجوا إعطائى ساعتين.
قال فاروق: خذ ساعتين. خذ ثلاثة ما يهمنيش. بس اللى يهمنى أن تتالأف الوزارة الجديدة الليلة. سامع يا إبراهيم.
وتكلم إبراهيم عبد الهادي الذى لم ينطق بكلمة واحدة خلال الإجتماع وهو يرى وزارته تتشكل أمامه: حاضر ... يا أفندم!وفى خطابه إلى إبراهيم عبد الهادي لتشكيل الوزارة طلب صاحب الجلالة أن " يعمل على توحيد الصفوف وتركيز الجهود لمواجهة الظروف الداخلية والخارجية".
اجتمع الفريق محمد حيدر باشا وزير الحربية باسم الملك فؤاد سراج الدين باشا وعرض عليه تناسى كل الخلافات الماضية واشتراك الوفد فى وزارة ائتلافية.غاب حيدر باشا وبعد ساعتين طلب ساعتين جديدتين فأجيب إلى طلبه وى الرابعة بعد الظهر تكلم مرة أخرى وطلب مد المهلة ساعتين أخرتين فقد اعتذر فؤاد سراج الدين عن الرد العاجل.
قال كريم ثابت الذى وصف الاجتماع فى مذكراته عد ثورة 23 يوليو 1952:
- " تلقى فاروق الرد النهائى وكانت الساعة تقترب من السادسة مساء وهو أن الوفديين يعتذرون".
واعتذر أحمد خشبة باشا عن قبول منصب وزير الخارجية وبرر ذلك بحاجنه إلى الراحة.ولم يقل خشبة باشا إنه كن يطمع فى رئاسة الوزارة. وكان يتطلع إليها وينتظرها وإنه خدع من الجميع وأن الرصاصات التى أطلقها طالب الطب البيطرى عبد المجيد أحمد حسن على النقراشى قد أطاحب بآمال خشبة باشا أيضا!
استغاث عبد الهادى بكريم ثابت الذى أسرع يلتقى بخشبة باشا قائلا: أرجو أن تقدر الموقف الذى واجهه الملك بمقتل النقراشى لقد اضطر صاحب الجلالة إلى تعديل خططه.كرر خشبة باشا الإعتذار فقد أحس بأنه جرحه عميق!
أخذ كريم ثابت يلح على خشبة فى قبول المنصب قائلا:
- إن إبراهيم عبد الهادي قبل أن يكون وزيرا للداخلية فى الوزارة التى كان سيعهد إليك برئاستها . فلا اقل من أن ترد له التحية بقبولك العمل فى وزارته.أبى خشبة أن يحيد عن قراره, وأصر على الاعتذار ولم يقبل المنصب إلا بعد شهور عندما تبخرت آماله نهائيا فى رئاسة الوزارة!ويشكل إبراهيم عبد الهادي الوزارة فى ساعة متأخرة من الليل يوم وفاة النقراشي لظروف الأمن التى اقتضت السرعة.
ويبرر تشابمان اندروز السرعة التى تم تأليف الوزارة والأسباب الحقيقية لإبعاد أحمد خشبة باشا عن تولى المنصب ولماذاا اعتذر عن دخول الوزارة قال:
- " أملت الأزمة العجيل بتشكيل حكومة جديدة دون تأخير خشية أن يؤدى الفراغ الوزارى إلى تجمع قوى الشغب والإضطراب التى دعت إلأى صدور قرار حل جماعة الإخوان المسلمين .. وهو القرار القمعى الحاسم الذى صدر بعد تأخير.
- وأظهر الملك فاروق باختيار إبراهيم عبد الهاد أن تفكيره الأول يتركز فى استمرار السياسة الحالية رغم أنه قد يحدث بعض التعديل فى الأسلوب. وهناك اعتراف بالحاجة لتحقيق استقرار الأمن العام وافقت الحكومة حسبما يقول مصدر فى القصر على متابعة السياسة الصريحة المعلنة ضد الإخوان المسلمين.
- وهذا يوضح أسباب عدم دعوة أحمد خشبة باشا لتشكيل الوزارة وكان مرشحا لرئاستها بعد أن أقنع البنا المرشد العام خشبة باشا بفائدة التوصل إلى حل وسط مع الإخوان المسلمين تحت شعار الوحدة والائتلاف الوطنى.
- ومن هنا قرر خشبة باشا وهو من الأحرار الدستوريين – أنه من الأفضل التخلى عن دخول الوزارة كلية".وعلمت من نفس المصدر أن الملك فاروق عازم على التعامل بشدة مع الإخوان "
وهذه البرقية تكشف أن الملك والإنجليز تخلوا عن خشبة باشا لأنه يريد التصالح مع الإخوان!وتؤكد البرقية من ناحية أخرى أن القصر كان المحرس الأساسى لحل الجماعة.
دعا إبراهيم عبد الهادى إلى منزله فؤاد سراج الدين وعرضه عليه فكرة الوزارة الائتلافية فاجتمع الوفد يوم 5 من يناير برئيس وزارة ائتلافية ولكن لا تسند رئاستها إلى لإبراهيم عبد الهادى باشا! ووجهة نظر فؤاد سراج الدين التى ذكرها للوزير البريطانى المفوض هى
- "الوفد لا يثق فى عبد الهادى فقد كان نائبا وفديا وتخلى عن تأييد الوفد عام 1937 عندما كان النحاس رئيسا للوزراء يبحث عن وكيل وزارة ولذلك اختار ممدوح رياض بدلا من عبد الهادى.
- وقبل احتفال أقيم لمؤتمر البرلمانين الدولى وأقنع عبد الهادى فؤاد سراج الدين بالذهاب إلى مكتبه الخاص وتبادل الأفكار بصورة شخصية وغير رسمية.وبذل عبد الهادى جهودا مضينة لإقناع سراج الدين بالطبيعة السرية والشخصية لحدثيهما فلم يبلغ سراج الدين النحاس باللقاء.
- وفى يوم التالى نشرت أخبار اليوم " تقريرا كاملا عن اللقاء مما سبب حرجا لفؤاد سراج الدين . ولذلك فإن سراج الدين يعرف أنه لا يستطيع الثقة فى عبد الهادى".
وكتب تشابمان اندروز الوزير البريطانى المفوض يقول:
- " إن الاتصالات بين إبراهيم عبد الهادي والوفد عن طريق فؤاد سراج الدين . ولكن القصر لا يريد اشترك النحاس باشا شخصيا فى الحكم".
- وتحاول بريطانيا بكل الطرق إقناع الوفد بدخول الوزارة.وتحاول بريطانيا بكل الطرق إقناع الوفد بدخول الوزارة.
قال أندروز:
- " لم يغلق الباب بعد أمام احتمال اشتراك الوفد , وقد يتم ذلك فى اجتماع للوفد. يعقد قريبا.وسياسة القصر إحداث انشقاق داخل الحزب وإضعاف سلطة النحاس باشا".
ويلتقى اندروز بكريم ثابت باشا فى محاولة جديدة حتى يساهم الوفد مع إبراهيم عبد الهادي فى تحطيم الإخوان.
قال كريم ثابت:
- عبد الهادى باشا أفضل رجل لوزارة الداخلية وقد ينجح فى تحطيم الإخوان.
قال أندروز وهو يتمنى للباشا حظا سعيدا:
- لست متأكدا تماما من أنه سينجح. وإذا فشل فسيقع جانب كبير من اللوم على كاهل الملك لأنه ترك عبد الهادى يواجه الإخوان دون أن يكون الوفد معه. ولو كان قد إشراك الوفد لوفر فرصة أفضل كثيرا للنجاح.
وأضاف اندروز:
- المهمة الرئيسية للحكومة إلحالية هى تحطيم الإخوان!فى اليوم التالى لوفاة النقراشى وصل تشابمان أندروز الوزير البريطانى المفوض إلى أرمنت – قرب الأقصر
– ليقضى أياما فى عزبة رجل الأعمال أحمد عبود وكان هناك عدد من أصدقاء الطرفين. وصف أندروز رد فعل هذه المجموعة من أثرياء المصريين إزاء اغتيال رئيس وزراء مصر.
" بين الحاضرين فى أرمنت حسين سرى باشا – رئيس الوزراء السابق وزوجته وحرم " محمود يونس بك" التشريفاتى الرابع للملك فاروق . ومحمود القشيرى بك وزوجته وهو ابن أخت قرينة سرى باشا. استقبل الجميع نبأ اغتيال رئيس الوزراء بتهلل وارتياح .
ولم يخفوا ذلك وامتنع سرى باشا وحده عن إدلاء بأى تعليق عدا الأعراب عن اعتقاده بأن النقراشى باشا كان رجل دولة طيبا لديه مثل عليا ولكنه كان عاجزا أو لا يصر على أن يقتدى به زملاؤه الوزراء فى الأمانة والشرف!
وحين أعلن تعيين إبراهيم عبد الهادى باشا – رئيسا للوزراء – أعرب الجميع عن خيبة أملهم المريرة . وكان التعليق العام أنه نفس الرجل .. أى مثل النقراشى.
وكان من رأى عبود باشا وحرم سرى باشا أن عبد الهادى باشا سيتبع خطوات النقراشى.ومالم يسمح الملك فاروق بحكومة وفدية يراسها النحاس باشا وتتولى السلطة .. لإغن حياة الملك ستكون عرضة للخطر البالغ.
وقال عبود فى حديث صريح جدا إنه يعتقد أننا – أى الإنجليز – نمارس سياسة خاطئة تماما فى مصر. ... حكمنا البلاد وكنا الموجة لها لأكثر من خمسين عاما .. وبعد أن أعطيناها استقلالها .. نتوقع ان تمضى وحدها دون تدخل من جانبنا.
وبالتفاوض مع الحكومة وحدها دون تدخل من جانبتا. وبالتفاوض مع الحكومة الحالية والملك فاروق فإننا نعطى نأييدنا لحكومة لا تمثل إلا الأقلية فى البلاد..
ونحن نشجع الملك على أن يصبح حاكما ديكتاتوريا وأعرب عبود باشا عن اعتقاده بأننا يجب أن ندين الحكومة الحالية علنا ونعلن أننا لن نتفاوض مع مصر حتى يتم إجراء انتخابات عامة فيها.
وأكد لى أننا إذا فعلنا ذلك فسنحوز تأييد الأغلبية الكبرى من الشعب المصرى ومن زعماء الوفد على وجه الخصوص.
وقال الباشا إن المصيبة الكبرى هى أن حادث 4 فبراير لم يمض إلى نهاييته المنطقية"
... أى إرغام الملك على التنازل عن العرش. وهذا الحديث يكشف حقائق كثيرة عن آراء بعض قادة السياسة والإقتصاد فى مصر:
" حسين سرى يصر على عودة الوفد إلى الحكم.
"أحمد عبود باشا كان يتمنى لو أن الإنجليز عزلوا الملك فى 4 فبراير 1942!
وبينما كان تشابمان اندروز يعرف رأى حسين سرى وعبود فى إبراهيم عبد الهادى خليفة النقراشى .. كان أرنست بيفن وزير خارجية بريطانية يعرف رأى ملك مصر بالنسبة للإخوان.
وكان السفير المصرى فى لندن حريصا على أن يبدى الإنجليز بعض مشاعر الود نحو صاحب الجلالة! قصد السفير المصرى عبد الفتاح عمرو إلى وزارة الخارجية البريطانية ليلتقى بأرنست بيفن وزير الخارجية فى اليوم التالى لاغتيال النقراشى.
قال عمرو باشا وهو يتحدث عن الإخوان المسلمين:
الحكومة مصرة على التصدى لهذه الإثارة المستمرة للمشاعر المعادية للبريطانيين فى مصر وعلى تمهيد الطريق لإجراء مناقشات فنية على الأقل مع بريطانيا فى وقت قريب.
سأله بيفن عن القاعدة الحقيقية للإخوان المسلمين وعن سبب اتباعهم الطريق الإرهاب.
قال السفير: هناك أدلة على أن الإخوان يتلقون أموالا طائلة من روسيا , وأنهم أحرزوا تقدما كبيرا بفضل الأموال والمنشورات بين الفلاحين
لقد أصبحوا خطرا حقيقيا والحكومة مصممة على القضاء عليهم وصودرت كل أموال الإخوان وأغلقت مراكزهم وعبد الهادى باشا سيوالى قمعهم حتى النهاية.
وينتهز عمرو باشا الفرصة فيطلب من وزير الخارجية البريطانية توجيه رسالة ما إلى الملك فاروق قال بيفن. سأفكر فى ذلك.
وتعهد الوير بأن يجتمع السفير البريطانى فى القاهرة مع رئيس الوزراء الجديد فى أقرب وقت ممكن. وأثار السفير المصرى إمكان استئناف بدء المفاوضات بين مصر وبريطانيا ولكن قال : ليس وقت مواتيا بعد . فقد يحدث انطباع خاطئ لأن مصر تمر بصعوبات وخاصة عقب اغتيال النقراشى ومن الأفضل الانتظار قليلا!
اتصل رجال الصحافة بالمرشد العام تليفونيا وأبلغوه بوفاة النقراشى وسمع أمين إسماعيل عضو الجماعة بالإغتيال فتوجه إلى بيت الشيخ البنا الذى دعاه لتناول الغداء معه. وصف أمين إسماعيل حال المرشد العام فى ذلك اليوم فقال لم يأكل الشيخ البنا غير لقمتين لا ثالثة لهما. وابتسم قائلا. إيه يا أمين سيرموننا بكل تهمة وسيقولون عنا كل شئ و..... و....وسيعلقون لنا المشانق فى الشوارع! وابلغ أحد الإخوان الشيخ ما يؤكد ظنونه قال:
كوّمحمد كامل الدامطى مدير مكتب النقراشى عصابة من سبعة أفراد حلفوا برأس النقراشى أن يقتلوا المرشد العام.
وظلت تتردد فى أذهان الإخوان تلك الصحيات التى رددها شباب الحزب السعدى أثناء جنازة النقراشى قائلين:
رأس البنا برأس النقراشى . وتهتف: الدم... بالدم!
حوافر العدو
انتهزت إسرائيل فرصة التوتر الذى ساد مصر بعد اغتيال النقراشى فأرادت أن تطوق الجيش المصرى فى سيناء وغزة وحصاره.
اكتشف ايجال يادين قائد القوات الإسرائيلية على الجبهة المصرية طريقا يونانيا – رومانيا قديما يصل جنوب أبو عجيلة فأرسل قوتين إلى غزة .
وبير عسلوج , والعوجة لشغل القوات المصرية فلم تنتبه إلى القوات الإسرائيلية المدرعة لتى جاءت تغزو أبو عجيلة لتدخلها وتتوغل عشرة أميال داخل الأراضى المصرية لأول مرة, وقامت بحركة التفاف واسعة لعزل الجيش المصرى شرق مدينة العريش ,
قطع خطوط تموينه ومواصلاته مع قاعدة ها الجيش فى مصر للقضاء عليه فأصيب الجيش كله بالشلل فى سيناء وغزة
فى اليوم التالى لوفاة النقراشى احتلت إسرائيل التلال المطلة على رفح واصبح على بريطانيا – بمقتضى معاهدة 1936 – التدخل ضد إسرائيل للدفاع عن مصر وطرد القوات المعتدية منها. توغلت القوات الغازية إلى مسافة ستة كيلو مترات – أو أقل – من العريش ... المدينة التى تضم القاعدة الجوية المصرية الأمامية.
طلب وزير الحربية المصرى من بريطانيا – بصورة عاجلة – 20 من خزانات الوقود طويلة المدى لتمكين الطائرات المصرية من طراز " سيبفاير" من الطيران من مطارات منطقة القنال البعيدة عن الحدود. وطلب الوزير أيضا تسهيلات لصعود الطائرات المصرية فى المطارات التى تحتلها القوات البريطانية فى منطقة القنال .
استغاثت وزارة الحربية المصرية بالإنجليز وابلغت الأمر إلى الملحق الجوى بالسفارة البريطانية فى القاهرة فلم تكن مصر فى حالة تسمح لها القيام بأى عمل إلى الالتجاء لبريطانيا. سارعت وزارة الخارجية البريطانية بإبلاغ الحكومة الأمريكية فى واشنطن بطلبات حيدر باشا. قالت:
" أرسلت التعليمات إلى سلاح الجو الملكى البريطاني فى مصر للقيام باستطلاع فورى والتحقق من الوضع. وإذا قامت القوات اليهودية بمهاجمة الأراضي المصرية فإن التزاماتنا بموجب معاهدة 1936 الإنجليزية – المصرية ستكون سارية بالطبع"
وصف السفير البريطانى الموقف العسكرى المصرى اليائس داخل حدود البلاد الشرقية فى اليوم التالى لوفاة النقراشى – 29 من ديسمبر.
قال:
يقوم الجيش المصرى بهجمات مضادة من العريش ورفح فى محاول لوقف طوابير المدرعات اليهودية التى تتقدم صوب هاتين المدينتين.
وما لم نقم نحن البريطانيين بشئ فعال وفورى لمساعدة الجيش المصرى فإنه يتمزق خلال وقت قصير جدا إلى مجموعات صغيرة ومعزولة فى العريش ورفح وغزة والفالوجة والخليل دون أى غطاء جوى وبلا إمكانا للإمدادات أو الإغاثة.
ومن المؤكد أن هذه المجموعات الصغيرة لن تكون قادرة على المقاومة لمدة طويلة.
ولن يكون ممكنا إخفاء حجم الكارثة عن الرأى العام المصرى ولا يمكن تقدير العواقب السياسية الناجمة عن ذلك . من الناحية الداخلية المصرية أو من رواية العلاقات المستقبلة مع بريطانيا.
ولذلك فإن مخاطر السماح بحدوث مزيد من التدهور فى الموقف العسكرى المصر أكبر من أن نستطيع تحملها. وقد بدأت الطائرة المقاتلة المصرية فى الهبوط فى المطارات التى يسيطر عليها البريطانيون فى منطقة القناة وايد بعد نفاد وقودها. إن البدائل العملية المتاحة لنا سواء بموجب المعاهدة أو خارج نطاقها هى:
(أ) إمداد القوات المصرية بالعتاد الحربى فى منطقة القناة.
أو
(ب)القيام بأنفسنا بعمل عسكرى , بعد انذار الغزاة بهدف محدود وهو انسحاب قواتهم إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين.
وبين هذين البلدين . أعتقد أن الثانى هو الأفضل إذاكان ممكنا من الناحية العسكرية للأسباب الآتية:
(أ)إذا سمح لليهود بالإستقرار فى الأراضى المصرية سيبصح من الصعب بصورة متزايدة. إخراجهم بالوسائل السياسية فقط. أو حتى بالعقوبات الاقتصادية مع مضى الوقت ( إذ إنهم سيميلون لتدعيم موقفهم . كما حدث فى فلسطين).
(ب) سيكون من الصعب فى وقت لاحق إيجاد مبرر سليم للتدخل العسكرى البريطانى.
(جـ) إن المصريين حتى بالعتاد الحربى الذى نستطيع تقديمه إليهم. سيبقى ممكنا هزيمتهم. زسيكون الموقف الناشئ عن ذلك أكثر سوءا.
(د) لانستطيع بالتأكيد أن نرفض استخدام سلاح الطيران المصرى للمطارات والمنشآت التى يسيطر عليها البريطانيون فى منطقة القناة وهذا يورطنا بصورة آلية فى الصراع . لأن هذه المطارات من المفترض للقصف من جانب اليهود.
وفى نفس الوقت, وحتى إذا قررت حكومة صاحب الجلالة ملك بريطانيا القيام بعمل عسكرى فأعتقد أن من الأهمية أن نزود لمصريين ببعض العتاد الحربى لتمكينهم من التعاون معنا ومن الإحساس بأنهم يفعلون ذلك. وإذا أثبتنا فى هذه المناسبة قدرتنا, على القيام بعمل فعال لتأمين إخراج اليهود من الأراضى المصرية دون تأخير , فإن مكانتنا ستعزز ليس هنا فقط وإنما فى البلاد العربية الأخرى أيضا.
وستصبح فى وضع أقوى فى التأثير على مصر وغيرها لإقرار تسوية التراجع إلى المواقع التى كانوا يحتلونها فى النقب فى 14 من أكتوبر كما كان بتعيين عليهم بالفعل بموجب قرار مجلس الأمن الصادر فى 4 من نوفمبر. أرى بالإضافة إلى ذلك أنه لا شئ أقل , إن لم يكن أكثر , من إنذار سيكون مطلوبا لضمان انسحاب اليهود من الأراضى المصرية.
ولكن مسألأة إغاثة القوات المصرية المحاصرة فى فلسطين ستظل قائمة عندما يزداد تدهور الموقف العسكرى يسرع السفير البريطانى فيكتب فى اليوم ذاته حكومته البرقية رقم 1805 وفيها يقول: " تشعر السلطات المصرية بقلق بالغ.
ولا يمكن كتمان أية هزيمة كبرى تقع للجيش المصرى. وستكون لها آثار خطيرة على الإستقرار الداخلى ويمكن أن تصل هذه الآثار إلى أقصى درجات خطورتها بصورة كبيرة وجود جماعة الإخوان المسلمين والموقف المضطرب الناشئ عن اغتيال النقراشى.
ومن ناحيتى أعلم الرغبة العميقة لحكومة جلالة ملك بريطانيا فى الحفاظ على الإستقرار فى هذا الجزء من العالم.
ويمكن أن نتأثر علاقتنا المستقبلية بمصر إذا وقفنا موقف اللامبالاة حيال غزو خارجى تتعرض له مصر ولم تقدم لها أية مساعدة بينما ترابط قواتنا على أراضيها"
وتقيم خطة إسرائيل فى الإغارة على العريش ومهاجمة رفح لتحييدها ثم الإنسحاب لفتح الطريق أمام 18 ألف مقاتل مصرى متناثرين فى غزة ومحاصرين للخروج, أو الهرب أو إلى مصر.
وقد اتخذت القاعدة الجوية المصرية فى رفح خلال الشهور الستة الماضية أهبتها لشن هجمات جوية مدمرة وهجمات أخرى ضد إسرائيل".
اصبح وضع القوات الإسرائيلية عائقا يمنع عودة القوات المصرية إلى بلادها كما تركت رفح معزولة تماما. أنذرت بريطانيا إسرائيل بالانسحاب وإلا تدخلت القوات البريطانية لطرد إسرائيل تطبيقا لمعاهدة 1936 التى تلزم بريطانيا بالدفاع عن مصر فى مواجهة العدوان.
خشيت الولايات المتحدة التدخل العسكرى البريطانى فاجتمع مجلس الأمن فى اليوم نفسه 29 من ديسمبر – ليقرر وقف القتال وإعلان الهدنة فى جميع المناطق بفلسطين.
فى اليوم التالى تودجه جيمس ماكدونالد ممثل الولايات المتحدة فى تل أبيب إلى دافيد بن جوريون رئيس وزرائها قال:
ستعيد الولايات المتحدة تقييم موقفها إلا إذا أثبتت إسرائيل أنها دولة محبة للسلام. .. أى تنسحب من الأراضى المصرية.
ابدى بن جوريون دهشته من الرسالة قال:
لم أعتد تسلم رسائل من الولايات المتحدة يمكن أن يكتبها أرنست بيفن!
وسلم ماكدونالد الرسالة نفسها غلى حاييم وايزمان رئيس إسرائيل فبعث ردا إلى ترومان قال فيه: هذه حرب دفاعية ضد العرب. أما موسى شيرتوك – موسى شاريت –وزير خارجية إسرائيل فأمسك بالقلم فى حدة وأبيض وجه وهو يقرأ الرسالة.
ولم تكن الرسالة إنذارا بل كانت توبيخا من الرئيس الأمريكى ولكن إسرائيل لم تنسحب فقامت أربع طائرات بريطانية استطلاع يوم 4 من يناير 1949 فتعرضت لها طائرات إسرائيلية من طارز " مسر شميت" وأسقطتها.. مما يعطى بريطانيا سندا لقتال إسرائيل , وكانت بريطانيا على وشك التدخل. .... ولكنها لم تفعل!
قصد الفريق محمد حيدر وزير الحربية إلى إبراهيم عبد الهادى رئيس الوزراء يشكو من تدهور الموقف فى فلسطين.
قال رئيس الوزراء : ماذا تطلب ؟
صلح سياسى حل سياسى فورا.
واضاف حيدر : نريد وقف القتال نريد غيقاف الكارثة . إن الجيش المصرى يتحمل المعركة وحده والضغط واقع عليه.
اتصل إبراهيم عبد الهادىبمستشار السفارة الأمريكية – لغياب السفير – وقال له:
إسرائيل مدللة . ولا تطلبون الهدنة من الدولة العربية إلا حين تكون الحالة محرجة.
هل تقبلون وقف القتال لو عرضناه؟
لو عرضتموه جديا بشرط ألا تفاجئنا إسرائيل.
جاء الرد الأمريكى – كما يقول إبراهيم عبد الهادى – خلال ساعة فاجتمع مجلس الوزراء المصرى يوم 6 من يناير وقرر الموافقة خاف ديفيد بن جوريون من مواجهة بريطانيا... وقرر مجلس الأمن مرة أخرى . يوم 7 من يناير وقف إطلاق النار!
انذر بيفن إسرائيل مرة أخرى ووجهت مصر انذار ثانيا يوم 12 من يناير 1949 بالإنسحاب بعد أن توقف القتال.
أسرع يادين إلى تل أبيب يرجو بن جوريون أن يسمح لقواته بالبقاء فى سيناء .
ولكن بن جوريون وجد أن إسرائيل طردت القوات المصرية واحتلت 600 ميل من الأراضى الفلسطينية أكثر مما أعطاه لها قرار التقسيم فأصدر قرار الإنسحاب خاصة وأنه يخشى انحيازا أمريكيا ضدها أو قيام تحالف انجلو – أمريكى يحقق ذلك.وكتب بن جوريون إلى وشنطن يؤكد أنه " لا يوجد حافر إسرائيلى واحد فوق أرض مصر".
ويكتب جميس ماكدونالد إلى وزير خارجيته فى واشنطن مطالبا بمزيد من الدعم لاسرائيل قال: " لا نرى وجود أى تعارض بين تأييد الولايات المتحدة لقيام فلسطين مستقلة قوية وبين كافة المصالح المشروعة لبريطانيا فى مصر .
انتشرت الإشاعات فى القاهرة حول قرب إعلان الجمهورية فى مصر قال تشابمان اندروز:" الفيق عزيز المصرى باشا متورط فى مؤامرة وله صلة باكتشاف كميات كبيرة من المفرقعات.
قبض على عزيز المصرى يوم 15 من يناير 1949. ولا يخفى المفتش العام السابق للجيش المصرى ترحيبه بحدوث ثورة ضد الملك والحكومة".
وتعلق وزارة الخارجية البريطانية على اعتقال عزيز المصرى بأنه ربما يكون قد تمكن من جمع حفنة قليلة من ضباط الجيش حوله ولكن لا يسود الاعتداء بأنه يحظى بتأييد كاف فى الجيش للقيام بمحاولة خطيرة لقلب نظام لحكم.
ولكن قد يكون فى الجيش آخرون يفكرون فى قلب نظام الحكم ولكنهم أكثر اتباعا من عزيز المصرى"!! قال اللواء حسن طلعت مدير مباحث أمن الدولة إن الإخوان تعجلوا الإستيلاء على السلطة.
وقال الشيخ الباقورى إن القواعد التى وضعها الشيخ البنا تدور فى أقطاب ثلاثة أحدها لا يعنى إلا الإستيلاء على الحكم بالقوة القاهرة والثورة الظافرة التى يخطط لها فلاسفة مؤمنون وينفذها شجعان صادقون. وبناء على ذلك هناك شعب لها غاية واحدة وكل يعمل فى مجاله غير حريص على الظهور.
شعبة فى الجيش قوامها الضباط والجنود لهم رئيس مسئول عنهم وشعبة فى الشرطة لهم رئيس مسئول عنهم أيضا.
وشعبة الدعاة القادرين على البحث والدرس ورؤساء الشعب الثلاثة مسئولون أمام المرشد العام للإخوان المسلمين وقال الكاتب السوفيتى " سيرانيان":
" استعد الإخوان , ـمام الإستعداد للاستيلاء على السلطة".
وفى كتاب ريتشارد ميتشيل" الإخوان المسلمون " قال :" كانت الجماعة تخطط سرا للقيام بثورة".وفى بحث الضابط الكندى هاردى قال إنه وضعت خطة عام 48 لتدبير انقلاب وإعلان البنا خلفة للمسلمين . ومن المؤكد أن هذا الانقلاب نوقش بعد اغتيال النقراشى.
استقبل الملك – يوم 19 من يناير 1949 – اللورد دوجلاس قائد السلاح الطيران البريطانى الذى وصل إلى مصر بدعوة من فاروق . خرج اللورد من الحضرة الملكية إلى دار السفارة البريطانية لينقل إلى السفير السيررونالد كامبل نص الحديث الملكى كما تقول هذه البرقية التى بعث بها السفير إلى لندن:
" برقية رقم 106 من السير رونالد كامبل بتاريخ 19 من يناير 1949
1- أبلغنى لورد دوجلاس اليوم فى سرية تامة بالمعلومات التالية التى استقاها من جلالة الملك.
2- تم اكتشاف مؤامرة لقلب الحكم فى الفترة بين يومى 18 , 31 من يناير تبدأ باغتيال الملك. وتم إلقاء القبض على عدد من الشخاص لكن الملك يتوقع أن تستمر محاولات اغتياله.
3- تشير معلوماتنا من مصادر أخرى إلى احتمال انتشار الجماعات المتآمرة بين ضباط الجيش خاصة الذين اشتركوا فى العمليات الفسلطينية والذين تردد – بشكل عام – أنهم متذمرون للغاية وأنهم يوجهون تذمرهم نحو الملك بشكل خاص . وألقى القبض على الفريق عزيز المصرى الذى كان ضابطا كبيرا بالجيش.
وعلمنا نبأ اعتقال اثنين من صغارضباط الجيش وعثر معهما على منشورات سياسية ومتفجرات.
4- وفى حين أن الملك لا يبدو قلقا . ولا يزال يقوم بجولاته فى النوادى الليلية فى القاهرة كالمعتاد. فلا يمكننا تجاهل احتمال حدوث محاولة لاغتياله وغقامة ديكتاتورية عسكرية.
5- ومن العسير للغاية تقدير احتمالات نجاح ذلك دون معرفة المزيد عما يجرى فى الجيش المصرى حاليا. ونحن نواصل تحرياتنا وسنبرق بأى جديد يمكننا التوصل إليه .
وينقل حديث اللورد دوجلاس إلى السفارة الأمريكية فى القاهرة التى تبرق بدورها إلى واشنطن عن احتمالات قيام الثورة
قالت برقية فيليب سكرتير هذه السفارة
" لست متشائما تماما مثل المسئول البريطانى حول احتمالات حدوث " ثورة فى مصر.
ورغم أن الإمكانات لمادية لحدوث ثورة والتى تتبع من الصراع بين " من يملكون" و"من لا يملكون" هى امكانات قائمة بالتأكيد وتتزايد حدة المشكلات الاجتماعية والإقتصادية فى البلاد ولكن العناصر الأساسية فى الموقف ظلت قائمة لفترة من الوقت دون أن يحدث ذلك انفجارا وإنى أميل إلى الاعتقاد بأنه مالم تتوافر شرارة إشعال . فإن هذا " الديناميت" قد يظل ساكنا لفترة من الزمن.
وإذا طرأت عوامل أخرى. فربما لا ينفجر أبدأ. ويصبح من الممكن نحسن الموقف إلى الدرجة التى يصبح فيها مستقرا نسبيا.ويمكن أن ينتج ذلك عن تسوية قضية فلسطين التى يبدو أن الرأى العام المصرى قد تعب منها كثيرا وعن فرصة للمشاركة فى تنمية اقتصادية حقيقية للشرق الأوسط.
أما إذا حدثت ثورة . فالأرجح أنها ستكون من نوع الانقلاب .
أو النوع الشائع فى أمريكا الجنوبية. أكثر من كونها عملا جماهيريا عريضا ومالم يتم اغتيال الملك. فأنى أشعر أن الملك يمكن كحل أخير . أن يدعو الوفد لتشكيل حكومة قبل أن تحدث الإطاحة الكاملة بالنظام.
ومالم نكن مضللين أو مفتقرين إلى معلومات , فلابد أن هناك كثيرا من " الرجال الأقوياء فى الأفق فى مصر ممن يمكن أن يستولوا على السلطة نتيجة لتدبير انتفاضة.
وفى اعتقادى أن استيلاء الوفد على السلطة لن يسفر عن أية تغييرات كبيرة جدا فى الهيكل الاقتصادى والاجتماعى ففى الحكومات السابقة التى سيطر عليها الوفد لم يظهر اهتماما كبيرا بالإصلاح الإجتماعى والإقتصادى كما اتسمت حكومته الأخيرة بالفساد.
أما قيام ديكتاتورية عسكرية على النحو الذى تشير إليه مؤامرة عزيز المصرى أو الشائعات التى تقول إن حيدر باشا – وزير الحربية – قد يرغب فى الإستيلاء على السلطة فإنها ستعتمد مثل النظام الحالى على نفس طبقة كبار الملاك والمؤجرين للحصول على تأييد. وبالمثل , فإن الإخوان المسلمين ومصر الفتاة يبدوان محافظين من حيث الجواهر إن لم يكونا فاشيين جديدين فى لهجتهما فالجماعة الأولى تدعو إلى الجامعة الإسلامية بينما الحرب الأخير تشدد فى طابعه.
واشتراك أى من الجماعتين فى حكم مصر سيسفر عن ميول أكثر يمينية وربما لا يحدث تغييرا كبيرا فى الهيكل الاجتماعى والإقتصادى من حيث الجوهر. ولكن حكومة يسيطر عليها الإخوان أو مصر الفتاة ستكون أكثر تشددا تجاه المصالح والرعايا الأجانب إذا حكمنا بمواقف هاتين الجماعتين.
إن كثيرا جدا من زعماء المعارضة الفعليين أو المحتملين يملكون . أو يسعون لامتلاك نصيب من ثروة البلاد مما لا يرجح حدوث تغيير كبير فى الإستعمار الداخلى لاستغلال الفلاحين الذين يشكلون 80% من السكان. والذين يبدو حاليا أن المشاعر الثورية اليمينية واليسارية مفتقدة بينهم. ومن الممكن أن تكون الحكومة – باستمرارها فى التحركات غير الحكيمة مثل عدم توفير المرتبات والمعاملة المناسبة للبوليس . ورفع رسوم الجمارك على الضروريات وعدم تنفيذ إصلاحات كافية لمواجهة مزاعم المنتقدين – تسرع بحدوث انتفاضة قد تسيطر عليها عناصر ثورية فى المرحلة الأولى أو بعد أن نمضى المتاعب قدما.
ولا يبدو أن لجماعات الشيوعية مستعدة لمثل هذا الجهد وفى الوقت الراهن . على القل لا يبدو أن مصر تحتل موقفا بارزا فى قائمة أولويات الكومنترن.
ومن اناحية الأخرى فقد تنجح الحكومة الحالية فى تحطيم الإرهابيين بما فيهم الإخوان.
ويبدو أن عبد الهادى باشا يقوم بمهامه بصورة أفضل مما كان موقعا . وإذا اتيحيت له الفرصة للإستمرار مع تقلص أهمية قضية فلسطين فى أعين المصريين فقد يكون بمقدوره أن يشق طريقه فى جو أهدأ".
كان صاحب الجلالة يوم 10 من فبراير 1949 – أى قبل 24 من عيد مولده – شديد الاهتمام بأمر واحد وهو ما تنشره الصحف الأجبية عنه وعن الإخوان المسلمين.
توجه حسن يوسف وكيل الديوان الملكى فى المساء إلى دار السفارة البريطانية ليلتقى بالسفير السير رونالد كامبل ويخرج وكيل الديوان من جيبه ملخصا للصحافة العالمية تذيعه وكاله دى كورس.
قال: هل يليق أن ينشر فى بريطانيا شئكهذا عن ملك مصر؟
أجاب السفير: إنى آسف
قال حسن يوسف :
ألا يمكن عمل شئ؟
قال السفير : يبدو أنه لا يمكن عمل أى شئ .. انظر ما يكتبونه عن الأسرة المالكة عندنا فى بريطانيا. هذا حسن يوسف تماما كما قالت برقية السفير ولكن صاحب الجلالة ملك مصر لم يهدأ ..
أعاد قراءة المقال الذى يقول: " مصر فى أزمة"
" اتضح بشكل متزايد , خلال العامين الماضيين , لكل المراقبيين فى مصر أن أزمة داخلية كبرى توشك أن تنفجر.
وجه النبيل عباس حليم ابن عم الملك الذى سجنه الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية, وهو الآن زعيم حزب العمال فى البلاد, تحذيرا للملك وللحكومة فى 1946 بأنه ما لم تجر اصلاحات جذرية فإن النظام يتهدده السقوط.
لقد اعترفت مصر فى 1942 تحت ضغط من بريطانيا العظمى, بالإتحاد السوفيتى للمرة الأولى.
وأدى إنشاء بعثة سوفيتية إلى اقتراب مصر خطوة من يوم الحساب بدأت البعثة السوفيتية ذات العدد الكبير من الموفين على الفور حملة دعاية ضخمة فوزعت منشورات فى المدن , وأثارت الطلاب واقامت حفلات شاى لخدم الباشوات.
فقد الملك شعبيته استفز سلوكه فى حياته العامة والخاصة كثيرا من المسلمين ووجدت العناصر المنشقة فرصة مواتية لتصويره كرمز للقهر والانحلال.
وسرعان ما تحطمت الآمال فى استعادة التاج لاحترامه بحملة عسكرية ناجحة بعد تراجع الجيش فى النقب بشكل خطير.
وكان فاروق المضلل بشكل يدعو لليأس يظن أن اليهود سيلاقون هزيمة نكراء.
وكان ينوى أن يعلن نفسه وهو على راس جيشه المنتصر , خليفة للمسلمين غير أن المصريين, لا يزالون تقارير زائفة ومضللة عن نجاح جيوشهم ولن يتيسر الاستمرار فى إخفاء الحقائق الواقعية.
وقد أثبت الإرهاب والاغتيال السياسى أنهما سلاحان فعالان.
واكتسبت الدهماء, بلاتدريج, مزيدا من القوة وارتفاع الصوت و يغذيها اسوفييت بالدعاية والذهب. فجماعة الإخوان المسلمين المتعصبة, التى تضم نصف مليون عضو, أكثر نشاطا من أى وقت مضى.
ويصعب أن يتصور المرء كيف ستتجنب الحكومة انفجار أزمة واسعة النطاق.وعندما تبين حقيقة الموقف العسكرى سينهار النظام.
ولن ينقذه إلا شئ واحد. التدخل البريطانى الحاسم وإعادة فرض المشورة البريطانية كشرط للمساندة. وإذا رفض الملك فاروق شروطا كهذه فقد يقبلها ابن عمه – ولى العهد – محمد على بك بل وقد تكون مقبولة من الوفد.
وعندئذ يمكن تنظيف الإدارة المصرية بالكامل . وإقامة العدالة الاجتماعية والسياسية بهذه الكيفية فقط يمكن خلق الاستقرار.
والبديل هو مصر الشيوعية تحت النفوذ السوفيتى وهو احتمال كئيب حقا بما له من تأثيرات حتمية على شمال أفريقيا كله.
وأذخ الملك فاروق يفكر فى هؤلاء الإخوان الذين وصلت أعدادهم إلى نصف المليون! سألت الشيخ عمر التلمساني:
هل فكر الإخوان فى القيام بثورة فى هذا الوقت؟
أجاب بالنفى. وقال إن الإخوان ل يفكروا فى عمل عنيف بعد حل جماعتهم ولم يجتمعوا بأحد من ضباط الجيش لإشعال ثورة.
إن لاثورة التى توقعها فاروق تأخرت ثلاث سنوات .. إلى 23 من يوليو 1952! كتب مراسل صحيفة شيكاغو ديلى تريبيون تحت عنوان" فاروق الذى كان فتى عابثا يخشى الإحتلال الآن" قال الصحفى:
" هناك تقارير غير مؤكدة وإن كانت واسعة الانتشار فى القاهرة حول رصاصتين أطلقتا على الملك فى مارس الماضى".
أحس البنا بالخطر يقترب. أخذ يتردد على الوزراء فى مكاتبهم ومنازلهم فكانوا يتهربون من لقائه. واتصل صالح حرب باشا رئيس جماعة الشبان المسلمين تليفونيا بمصطفى مرعة وزير الدولة , بعد 48 ساعة من تشكيل وزارة إبراهيم عبد الهادى قائلا:
- الشيخ البنا يريد أن يلتقى بك فى بيتى.
- سأله مصطفى مرعى:
- لماذا؟ قال صالح حرب:
- لأشياء يريد أن يصارحك بها حين يلقاك.
- وافق مصطفى مرعى – الذى عهد إليه رئيس الوزراء بالشئون التى ترتبت على حل الجماعة الإخوان – لإنهاء حالة التوتر بين الحكومة والمرشد العام.
- التقى الرجال الثلاثة فبدأ الشيخ البنا الحديث عن اعتقالات الإخوان . وفصل . ونقل الموظفين . والاستيلاء على الشركات . وأموال تصادر لمجرد الشبهة فى أن أصحابها من الإخوان.
- طلب تحسين حالة المعتقلين والإفراج عن غير الخطيرين ومساعدة عائلات العمال المعتقلين: وقال:
- بين المقبوض عليهم أشخاص اعتقدوا أن عملهم فيه خدمة للبلاد والمتهمون فى قضية سيارة الجيب منهم من كان يحارب اليهود, أو لامناصرين لليهود وهى حرب فى سبيل الله والوطن.
- ورجا أن يعفو رئيس الحكومة عن هؤلاء.
- قال مصطفى مرعى:
- جماعة الإخوان أصبحت ملاذا للجرائم والمجرمين وقد اهتز الأمن فى البلاد وكان من الواجب حل الجماعة.
- ومنذ قتل لمستشار أحمد الخازندار وكل حادث أرجعه لها .
- قال الشيخ:
- إ، الذين أجرموا فعلوا ذلك من غير إرادتى وقد فكرت فى حل الجماعة ولكن شق على أن أ÷دم بناء أقمته فى عشرين عاما. وأضاف : هل أفلت الزمام من يدى.. أم أنا مضلل؟
- قال مصطفى مرعى:
- لتذع بيانا يتضمن هذه المعانى.
- وأخذ يملى على الشيخ ما يجب أن يتضمنه البيان . وافق الشيخ البنا.
- جاء فى اليوم لتالى ومعه البيان فوجده مصطفى مرعى غير ما أراد طلب أن يبرأ الشيخ البنا من قاتل النقراشى وممن دبروا ونفذوا الجريمة.
وتم تعديل البيان بالإتفاق بين الوزير والمرشد العام. قال الشيخ البنا معزيا نفسه: إذا كان ذلك ثمن إعادة الإخوان والتفاهم مع الحكومة . فما المانع؟ عرض مصطفى مرعى البيان على إبراهيم عبد الهادى قائلا: هذا كل ما استطعت الحصول عليه من الشيخ.
نشرت صحف مصر صباح يوم 11 من يناير نداء المرشد العام تحت عنوان " بيان للناس" قال لابيان: " وقعت أحداث نسبت إلى بعض من دخلوا هذه الجماعةدون أن يتشربوا روحها.
وتلا هذا الحادث المروع اغتيال دولة رئيس الحكومة محمود فهمى النقراشى باشا الذى أسفت البلاد لوفاته . وخسرت بفقده علما من أعلام نهضتها, وقائدا من قادة حركتها, ومثلا طيبا للنزاهة والوطنية والعفة من أفضل أبنائها ولسنا أقل من غيرنا أسفا من أجله وتقديرا لجهاده وخلقه.
ولما كانت طبيعة دعوة الإسلام تتنافى مع العنف بل تنكره , وتمقت الجريمة مهما يكن نوعها وتسخط على من يرتكبها. فنحن نبرأ إلى الله من الجرائم ومتركبيها.
ولما كانت بلادنا تجتاز الآن مرحلة من أدق مراحل حياتها . مما يوجب أن يتوفر لها كامل الهدوء والطمأنينة والاستقرار – وكان جلالة الملك المعظم . حفظه الله, قد تفضل فوجه الحكومة القائمة – وفيها هذه الخلاصة من رجالات مصر – هذه الوجهة الصالحة , وجهة العمل على جمع كلمة الأمة. وضم صفوفها وتوجيه جهودها وكفاياتها مجتمعة لا موزعة إلى ما فيه خيرها وإصلاح أمرها فى الداخل والخارج. وقد أخذت الحكومة تعمل من أول لحظة على تحقيق هذا التوجيه الكريم فى اخلاص ودأب وصدق. كل ذلك يفرض علينا أن نبذل كل جهد.
ونستفيد كل وسع فى أن نعين الحكومة فى مهمتها ونوفر لها كل وقت ومجهود للقيام بواجبها والنهوض بعبثها الثقيل ولا يتسنى لها ذلك بحق إلا إذا وثقت تماما من استتباب الأمن واستقرار النظام وهو واجب كل مواطن فى الظروف العادية فكيف بهذه الظروف الدقيقة الحاسمة التى لا يستفيد فيها بلبلة الخواطر وتصادم القوى وتشعب الجهود غلا خصوم الوطن وأعداء نهضته.
لهذا أناشد إخوانى. لله وللمصلحة العامة, أن يكون كل منهم عونا على تحقيق هذا المعنى وأن ينصرفوا إلى أعمالهم, ويبتعدوا عن كل عمل يتعارض مع استقرار الأمن وشمول لطمأنينة حتى يؤدوا بذلك حق الله والوطن عليهم والله أسأل أن يحفظ جلالة الملك المعظم ويكلأه بعين رعايته ويثبت خطى البلاد حكومة وشعبا فى عهده الموفق إلى ما فيه الخير والفلاح آمين". وفى رأى عمر التلمساني المرشد الجديد للإخوان أن " البيان تم تحت ضغط وللتساهلمع الإخوان حتى لا يعذبوا فى المعتقلات".
علق تشابمان اندروز الوزير البريطانى المفوض على هذا البيان فأبرق إلى لندن قائلا: " تبدو لهجة التصالح للبيان الذى نشر على نطاق واسع فى الصحافة المحلية واضحة, فى كل من الإشارة إلى النقراشى باشا الراحل وفى الحث على القيام بكل ما هو ممكن لمساعدة الحكومة بالمحافظة على النظام والأمن.
والبنا أساسا انتهازى, وربما يكون غرضه تحذير السلطات, بشعور من المن المزيف على أمل أن تتراخى تدريجيا جهودها للقضاء على الإخوان "
أما جيفرسون باترسون القائم بالأعمال الأمريكى فقال:
" حظى البيان باهتمام قليل على المستوى المحلى . وقد نشأ عن رغبة البنا لاسترداد موقعه الذى اهتز أمام الرأى العام ورغبته الواضحة فى إعادة الجماعة ولكن نظرا لتوتر الأمن فليس من المحتمل أن يحقق الحكومة رغبته"
قال إبراهيم عبد الهادى رئيس الوزراء لتشابمان اندروز:
الانطباع الذى أخذته من بيان البنا أنه بدأ يتراجع أمام تصرف لاحكومة.
واضاف : إنى واثق من الصول على أفضل مالدى الإخوان, ولكنى مستعد للقضاء عليهم. لقد اعتقلت الحكومة خمسة من أكثر الأعضاء خطورة وتطرفا وأحدهم فى الإسماعيلية كان يختبئ بمستشفى لفترة من الوقت. وعثر فى منزله على كمية كبيرة من المتفجرات والأسلحة.
وقال إن مائة آخين من أعضاء الإخوان البارزين ألقى القبض عليهم ولكن فاروق يجد أنه يجب ألا يتأخر عن القيم بعمل حاسم يعتقد أنه ينفذ لاعرش .. وهذا العمل – فى رايه – ضد الإخوان المسلمين. وقالت السفارة البريطانية:
" يمكن لجماعة الإخوان أن تنهار إلى الأبد, إذا أزيح البنا عن قيادتها لأى سبب . مع غياب أى خليفة له نفس القدر من الشخصية القيادية والذكاء الذين يتمتع بهما البنا"! وهذه البرقية تعنى بوضوح: أنه إذا اختفى البنا... تلاشت الجماعة وبذلك يصبح البنا .. هو الهدف!
عصفور فى القفص! جرت محاولات لاغتيال الشيخ لابنا
كانت المؤامرة الأولى يوم 22 من أغسطس عام 1947 حين كان النقراشى باشا فى مجلس المن يعرض قضية مصر. أرادت جماعة الإخوان المسلمين أن تظهر رغبة الشعب فى تأييد النقراشى, والمطالبة بجلاء الإنجليز عن وادى النيل.
سمحت السلطات المختصة لالبنا وجماعته بالقيام بمظاهرة سلمية بدأـ من الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة , واخترقت الشوارع منادية باسم مصر مؤيدة حقها.
ولم تكد المظاهرة السلمية تصل إلى ميدان العتبة الخضراء وفى مقدمتها سيرة تحمل الشيخ البنا وبعض الأعضاء حتى انطلقت الأعيرة النارية من كل صوب.
نزل الشيخ ليستطلع الحادث فإذا بعيار نارى يطلق عليهوتستقر رصاصة فى ساعده.
اقتيد البنا عقب إصابته إلى قسم الموسكى فاعتدى رجال الشرطة على أتباعه . ودارت معركة بينه وبين ضابط بوليس هدده بمسدس وسدد فوهتع إلى صدره.
هجم عليه الشيخ البنا وأمسك بالمسدس من يده. واصيب زوج شقيقته عبد الكريم منصور بإصابات نقل على إثرها إلى مستشفى قصر العينى وانتهى الحادث بالحفظ. وقف المرشد العام يتحدث فى الشركة العربية للمناجم والمحاجر لتوديع كتيبة من الإخوان قبل سفرها إلأى فلسطين.
ولكن وقع انفجار فى المكان الذى كان مقررا أن يتحدث منه الشيخ البنا قبل وصوله بدقائق .تبين ان قنبلة زمنية وضعت فى هذا المكان.
توجه البنا غلأى مطار القاهرة للحج فى 23 من سبتمبر 1948 ومعه " جواز" سفر يبيح له السفر غلأى جميع أنحاء العالم... وعلى الجواز أيضا " تاشيرة" تسمح له بأن يستقلطائرة شركة " سعيدة" ولكن العقيد حسن فهمى مفتش الجوازات سحب منه الجواز وألغى جميع الدول المصرح له بالسفر إليها واكتفى منها بالمملكة العربية السعودية. وقال إنه فعل ذلك بناء على تعليمات من عمر حسن – مدير قسم الخصوص – مباحث أمن الدولة.
وسافر المرشد العام إلى المملكة العربية السعودية فأبرقت وزارة الداخلية إلى القنصل المصرى فى جدة بعدم السماح للبنا بالسفر إلى أية دولة عربية أخرى. قال عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان " لم تستطع الحكومة منع لابنا من السفر لأداء فريضة الحج وإلا قيل إنها صدته عن سبيل الله, والبيت الحرام ومن يفعل ذك يعد كافرا".ومن ناحية أخرى –ما قال اليوزباشى عبد الباسط البنا الشقيق المرشد – فغن الحكومة المصرية أعدت العدة لقتله فى السعودية على أن تنسب الجريمة إلى بعض اليمنيين!
وكان أمير الحج المصرى حامد جودة – رئيس مجلس النواب الذى ينتمى إلى لاحزب السعدى – قد صحب معه بعض الأشخاص الخطرين ولكن الحكومة السعودية استشعرت ذلك فأنزلت المرشد العام ضيفا عليها وأحاطت مقره بحراسة شديدة وقدمت إليه سيارة خاصة بهاج ندى مسلح لنع الأعتداء عليه عاد البنا فى 28 من نوفمبر 1948.
وتقرر حل الجماعة فى 8 من ديسمبر وصدرت الأوامر إلأى قوات الشرطة بالإستيلاء على شعب الإخوان فى مختلف المناطق.
واعتقل أعضاء مكتب الإرشاد وكثير من الإخوان وبقى مؤسس الجماعة ورئيسها ومرشدها العام وحده لم يعتقل.
رأى اللواء أحمد عبد الهادى حكمدار شرطة القاهرة واللواء صلاح مرتجى وكيل الأمن العام عدم اعتقال المرشد لاعام لأنه اعتقاله قد يحدث ثورة وضجة كما أن وجوده خارج المعتقل يعطى فرصة للتفاهم معه. ويكون الرجل طعما للقبض على من يتصل به من الإخوان!
أبلغ هذا الرأى للنقراشى باشا فوافق عليه. قل أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة إن الحكومة لم تعتقل الشيخ البنا إما لأنها لم تجد برهانا ضده أو لأنها أرادت قتله.سأل تشابمان اندروز الوزير البريطانى المفوض وكيل الديوان الملكى حسن يوسف بك عن أسباب عدم اعتقال المرشد العام أجاب حسن يوسف:
لم تعثر الشرطة على وثائق . أو مواد. تدينه عند تفتيش منزله ولابد أنه كان حريا على تدمير أى دليل يثبت تورطه فى أعمال إجرامية ارتكبها أتباعه مما جعل الشرطة لا تستطيع اتخاذ إجراء ضده. واضاف : لا يوجد سبب للقبض عليه فى الوقت الحاضر. قال تشابمان أندروز ومحضر الاجتماع يصف ذلك: وإذا ارتكب عملا خاطئا؟
أجبا حسن يوسف : سيتعرض للإعتقال فإن الحكومة لم تعد تخشى باسه.
وكان حسن يوسف يتحدث بثقة مما جعل " اندروز" يبرق إلى لندن قائلا :
" لابد أن وكيل الديوان يتكلم بلسان الملك فاروق".وأكد حسن يوسف لوزير المفوض أن البنا توسل إلى السلطات لاعتقاله وكتب البنا للحكومة:
" انكم تقتلونى بعدم اعتقالى"!
قال محمد إبراهيم إمام مدير البوليس الخصوصى – القلم السياسى ومباحث أمن الدولة – للماجور سانسون ضابط أمن السفارة البريطانية:
- تلقيت أومر بعدم القبض على البنا أو اعتقاله فلن يجرؤ قاض على إصدارحكم ضده بعد اغتيال المستشار الخازندار.
- ضاعفت الحكومة إجراءاتها المتشددة.
- راحت تقبض كل يوم على مئات لأتفه الأسباب.. قصاصة ورق . نسخة من عدد قديم من جريدة أو مجلة الإخوان , بطاقة من حسن لبنا.
- واعتقل معظم من يمتون إليه بصلة: أشقاؤه ومنهم جمال البنا الذى يعرف القسم السياسى أنه ليس من الإخوان.... واصهار الشيخ وبقى زوج شقيقته عبد الكريم منصور – المحامى – لأنه اختفى فترة ثم عاد إلى الظهور.
- ولم يعد للشيخ حارس سوى شقيقه ضابط الشرطة اليوزباشى عبد الباسط الذى يمشى مسلحا فى ركاب أخيه. فلما عثر مع عبد الباسط على مسدس أخذوه منه وقبضوا عليه فى 13 من يناير.
- استمرت رقابة الشرطة على الشيخ فوجدوه يصلى الفجر فى جامع قيسون فقرروا اغتياله بعد الصلاة, ولكن المرشد امتنع عن الصلاة فى المسجد بناء على نصائح الأسرة والأصدقاء وأخذ يؤدى الصلاة فى بيته!
- وكلف الجنود يقبضون على من يمرون أمام بيته أو يزورنه ويقودونهم إلى قسم لشرطة لسؤالهم ويفرج عن البعض ويعتقل كثيرون . وفى بعض الأحيان كان يؤدى صلاة الجمعة فى بيته. - وكلف أحد الكونستبلات بمراقبة الشيخ بتعقبه بموتوسيكل حينا, وفى سيارة أحيانا, فلما ضاق المرشد بهذه الرقابة اتصل باللواء احمد عبد الهادى حكمدار شرطة القاهرة وطلب منه رفعها فوافق الحكمدار ... كما قال!
- ولكن الحقيقة أن مخبرا اسمه عبد المنعم إبراهيم ظل يراقب الشيخ, حتى اليوم السابق للجريمة بناء على تعليمات الرائد محمد على صالح ضابط البوليس السياسى , وبذلك بقى المرشد العام موضع المراقبة الدقيقة, تحت عين وزارة الداخلية تحصى عليه كل تحركاته.
- واعترف مخبر اسمه أنور على أحمد أنه اشتغل بمراقبة المرشد العام حتى الثالثة بعد ظهر يوم 12 من فبراير لمراقبة حركاته وسكناته, ومعرفة اتصالاته من ناحية ومنع هربه من ناحيه أخرى فلا يفلت من أيدى رجال الشرطة.
- ولم يقل المخبر إن الهدف بقاء المرشد فى قبضة رجال الشرطة حتى الوقت المحدد... الذى تتيحه الفرصة لاغتياله.
أراد البنا أن يسافر للإقامة فى عزبة الشيخ عبد الله النبراوى بدائرة مركز قليوب ولكنه خشى أن يؤدى ذلك إلى متاعب للشيخ النبرواى وأسرته فأرسل إلى محافظ القاهرة فؤاد شيرين يستأذنه فى السفر. أستأذن المحافظ رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى الذى طلب منه عدم الرد. وعلق رئيس الوزراء – شفاهة على طلب المحافظ قائلا إنه
– أى المحافظ من الإخوان المسلمين!وفى اليوم التالى لوصول خطاب البنا إلى محافظ القاهرة -10 من فبراير
– اعتقل النبراوى ومعظم أفراد أسرته وهو شيخ تجاوز الثمانين ومصاب بشلل نصفى وفتشت قريته بحثا عن أسلحة. سافر صالح حرب إلى أسوان وأراد الشيخ البنا الذهاب إليه فى اسوان ولكن الحكومة رفضت ذلك كما منعته من السفر إلى الخارج. رأى فتحي رضوان المرشد العام فى مأزق يتعذب و لا يدرى ماذا يفعل قال له:
- يا سيدى أرجو أن تصدقنى إذا قلت لك, إن الحكومة والملك. لا يطيقان مجرد وجودك ووجود جماعتك فى الدنيا.
- نظر البنا إلى فتحي رضوان, وفى عينيه مزيج من العتاب. ومن الإحساس بالألم, ومن الشعور بخيبة الأمل, ثم قال بعد فترة صمت:
- - إذن ما العمل " هل أسلم بالأمر الواقع , وأرتضيه؟ هل أترك الإخوان فى لحال الذى وصلوا إليه وأتفرج عليهم ليتهم يعتقلونى ويريجوننى.
- رأى فتحي رضوان نفسه مضطرا لمصارحة المرشد العام بما يشعر به قال :
- أرى رأى العين ما يدبر لك فهم لا يتركونك احتراما لك. وإنما لتتاح لهم فرصة اقتناصك وربما ليصدر عنك عمل. يبرر التخلص منك. أو ليلقوا تبعته عليك.
- ما كاد فتحي رضوان يفرغ من هذا الكلام حتى شعر بالندم الشديد , لأنه لا يعدو أن يكون إنذارا بالموت.
- لم يغضب البنا.. ولم يفزع. بل اكتفى بقوله: حسبى الله ونعم الوكيل. وسأل فتحي رضوان: بماذا تنصحنى؟ - قال: لا تترك منزلك . أو مكانا يمكنك أن تأوى إليه فلا تخرج منه أبدا حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا وقد يبدل الله الحال..
- قال لمرشد وكأنه يخاطب نفسه: وهل ينجى هذا الحذر من القدر؟
- أجاب فتحي رضوان على الفور: مطلقا.
- قال: إذن ما الفائدة من.... قاطعه فتحي رضوان قائلا:
- الفائدة فى ألا تشغل نسفك بما لا ينفع ولا جدوى منه وألا تستمع لرسل السلطة الذين يعبثون بنا.رد المرشد العام وكأنه يحدث نفشه:
- ربما كان هذا صحيحا.
- تذكر عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية أنه أثناء عمله مديرا – محافظا لجرجا – سوهاج الآن – كان يعمل معه حكمدار للشرطة أسمه محمود عبد المجيد جمع بينهما الليل الميل للخروج على القانون لأن الحكمدار لا يتورع عن معالجة الجريمة ... بالجريمة! - كان يضرب على " العروسة" – علانية – المتهمين للإعتراف و.... يقتل المجرمين أو ذوى الشبهة..وقال إحصاء أنه بين 18 متهما فى جرجا لف الحكمدار بضبطهم قتل 15 منهم.و... يضع المتهمين فى عربات الكلاب تمر بهم فى شوارع عاصمة المحافظة والمدينة أو القرية , التى ارتكبوا فيها جرائم, أو اتهموا بارتكابها, ليقذفهم الناس وأتباع الحكمدار بالقاذورات والشتائم. ثم يقادون بعد ذلك إلى السجن. و... يضع جثث المتهمين عراة على عربات كارو تدور فى الشوارع وخلفها جنود شرطة ينادون:
- الرطل... بليم!
- وكان يتصور أن وضع اليد على الخارجين على القانون هدف سام يجوز فى سبيل تحقيقه كل مخالفة للقانون.
- وصفه صابر طنطاوى مدير الأمن العام بأنه رجل بلا ضمير... ولا يخاف الله!
- استدعى عمار حكمدار شرطة جرجا العقيد محمود عبد المجيد -55 سنة- وعينه مديرا لإدارة المباحث الجنائية بوزارة الداخلية فى أول أغسطس 1948 أصبح البرنامج اليومى لمحمود عبد المجيد المرور صباحا على منزل عبد الرحمن عمار, وكيل وزارة الداخلية للإنفاق معه على نظام العمل ثم يتوجه بعد ذلك إلى وزارة الداخلية.
- وعند الظهر يتناول الغداء فى مطعم بدعوة من بعض أعيان جرجا والوجه القبلى بصفة عامة.
- وبعد العصر يجلس مع " الأعيان" فى مقهى " لونابارك" أو " الفيشاوى" وبعد المغرب جلسة أخرى مع هؤلاء فى فندق " إيدن" أو مع الصاغ توفيق السعيد. والعقيد محمد إبراهيم من رجل القسم السياسى" مباحث أمن الدولة".
- وبعد اغتيال النقراشى داخل وزارة الداخلية اتخذت احتياطات شديدة للحراسة ووضعت نظم دقيقة لدخول دار الوزارة.... وكلف بالحراسة العقيد محمود عبد المجيد الذى تضخم نفوذه, ومنح صلاحيات واسعة.
- تحرك محموجد عبد المجيد بعد ثلاثة أيام من اغتيال النقراشى ليملأ الإدارة بضباط وجنود الشرطة الذين عملوا معه فى سوهاج.
- ندب اليوزباشى عبده ارمانيوس من الجيزة إلى إدارة المباحث الجنائية فى أول يناير 1949.
- ونقل من جرجا أيضا البكباشى أمين حلمى والرائد حسين كامل وفى اليوم التالى – 2 من يناير
– قرر نقل مخبر الشرطة الأمباشى أحمد حسين جاد – 42سنة – من مباحث جرجا إلى الإدارة على أن ينفذ النقل خلال 24 ساعة.
- وفى 8 من يناير منح صاحب الجلالة العقيد محمود عبد المجيد نوط الواجب الذهبى مكافأة على الجهود التى قام بها .. ولتشجيعه على القيام بأعمال أخرى!
- وفى 21 من يناير نقل من جرجا أيضا المخبر حسين محمدين رضوان ووكيل الباشجاويش محمد سعيد إسماعيل.
- قال محمود عبد المجيد مبررا قراره – فيما بعد – بأن ذلك تم على أساس الاختيار الشخصى فقد اتصل بالمخبرين فى اعمل ويقدر كفايتهم. والجدير بالذكر أنه لم يسبق قبل ذلك, وبعده. أن ندب مخبر من إحدى المديريات – المحافظات للعمل بالقاهرة عدا هؤلاء الثلاثة !
- وكان ندب المخبرين فريدا من نوعه أيضا من حيث الطريقة التى اتبعت فى إصدار الأمر به. والحيطة التى اتخذت لتجنب إيجاد مكاتبات رسمية مثبتة لذلك الأر. فقد استدعى العقيد محمود عبد المجيد المخبرين بأوامر شفوية اصدرها إلى رؤسائهم المحليين!
- ولا حظ الصول محمد البهى شرف – لامكلف بمراقبة حضور المخبرين فى الدفاتر وتوزيع الخدمات عليهم
– وجود المخبرين الثلاثة فى " بوفيه" منعزل قليلا عن مبنى الوزارة...
- ولاحظ أيضا تردد الثلاثة على مكتب لارائد حسين كامل – بادارة المباحث الجنائية – ولما سألأ عنهم قيل له إن العميد محمود عبد المجيد أحضرهم من سوهاج فقام بإثبات حضورهم فى دفتر الإدارة:
- ولما عرف محمود عبد المجيد قرر نقل محمد البهى إلى المنوفية يوم 26 من يناير ونفذ النقل فى اليوم ذاته.
- وأخذ محمود عبد المجيد يردد حينا انهم جاءوا للبحث عن أشقياء جرجا الفارين من وجه العدالة ويقول حينا آخر . أنهم يقومون بحماية عبد الرحمن عمار من أشقياء جرجا لاهاربين إلى القاهرة.
- ونفى عمار أنهم قاموا بحراسته. وثبت من التحقيقات أنهم لم يقبضوا. منذ نقلهم إلى القاهرة على شقى واحد من جرجا.
- استمرت محاولات اغتيال لمرشد العام بعد نقل " عصابة جرجا"!
- تقرر أن يتوجه إلى منزله بعد منتصف الليل الضابطان اليوزباشى عبده ارمانيوس والرائد حسين كامل لإبلاغه أن النيابة أمرت باعتقاله ثم يقومان بدفنه فى حفرة أ‘دت فى الهرم عند طريق الفيوم.
ولكن اللواء أحمد طلعت رفض الموافقة على تنفيذ هذه الخطة.
- ووقف الامباشى أحمد حسين جاد أمام بيت المرشد فى الحلمية لاغتيالهولكن الخفير الخاص للشيخ البنا اشتبه فى أمره فأمسك به واقتاده إلى قسم الدرب الأحمر وهناك أبرز بطاقة الشرطة للمأمور فقال للخفير:
- هذا تاجر مواشى ولا علاقة له بشئ!
- وأفرج عنه.
- وجلس أحمد حسين جاد فى سيارة المقدم محمد وصفى قائد حرس الوزارات فى شارع لامكلة عندما مر المرشد مع مصطفى مرعى وكان مقررا ن يطلق أحمد حسين الرصاص على الشيخ البنا ثم يفر فى سيارة محمد وصفى وكان المقدم عبد الرءوف عاصم واليوزباشى مصطفى علوان مستعدين للتدخل عند الضرورة ولكن الرائد حسين كامل صرخ فى أحمد حسين قائلا:
- امنع يدك.
- فقد خشى أن يجتمع الناس للقبض على القاتل
- قال شمس الدين الشناوى المحامى للشيخ البنا!
- إن بعض شباب السعديين وعلى رأسهم فتحى عمر وكامل الدماطى اجتمعوا فى ناديهم وأقسموا على اغتيالك ثأرا للنقراشى. أريدك أن تحتاط. قال المرشد لعام:
- لقد منعونى حتى من السفر إلى الخارج.
- فى كتابه " كنت جاسوسا على الجواسيس" قال الماجور سانسوم ضابط أمن السفارة البريطاينة.
- قرر رجال البلاط الملكى والحكومة اغتيال البنا بعد مصرع النقراشى ولك يكن هذا قرارا جديدا لقد فكروا فيه منذ تبين لهم استحالة اتخاذ إجراء قضائى ضد المرشد العام.
- وكانت هناك اعتراضات على قرار اغتيال الشيخ البنا فربما يكون ميتا – كشهيد – أخطر منه حيا . ولكن بعد مقتل النقراشى رئى اتخاذ هذه المخاطرة والأرجح أن القرار اتخذ فى القصر لا فى الحكومة
- وكان الجزء الصعب من المهمة إقناع الرأى العام بأن الحكومة بريئة وأن البنا لا يستحق أن يكون شهيدا.
- وقد بدأت الشائعات ضد المرشد العام قبل مصرعه إنه تلقى تهديدا بالقتل إذا فشى سر قاتل النقراشى للسلطت الحكومية".
- ويلتقى البنا يوم 10 من فبراير بالدكتور عزيز فهمى لمراجعة بعض قضايا
- الإخوان . سله ادكتور عزيز:
- هل معك سلاح؟
- أجاب : السلاح أخذوه .. والأخ سجنوه!
- وهكذا اصبح البنا ينتظر الموت. جردته الدولة من سلاحه الذى كان مرخصا له بحمله. وحرمته من الحراسة التى كانت مضروبة عليه فأصبح هدفا يؤمن الوصول إليه. فإن جمعية الشبان المسلمين هى المكان الوحيد الذى يدخله إذا غادر بيته.
- وفى أيامه الأخيرة التقى المرشد العام بدار الشبان المسلمين بالمستشار حسن الهضيبى الذى اختير بعد ذلك مرشدا عاما للجماعة.
- وكان الشيخ البنا يحس بأنه سيموت .. وعلى باب الجمعية أيضا.
حاول محمد الليثي أن يودعه عند الباب وهو ينتظر سيارة تاكسى تقله إلى بيته فقال له لمرشد: أنت ذنبك إيه.. عندك أولاد ومتزوج.. ادخل يا بنى.
وكان الليثى أبا لثلاثة أطفال.
وقبل أربعة أيام من وفاته جلس المرشد العام فى جمعية الشبان المسلمين فالتقى بالشيخ محمد صبرى عابدين أمين سر الهيئة العربية العليا لانقاذ فلسطين سأله:ما رأيك فى هذه الحال .
وماذا تقترح أن أعمل لتفادى هذه المصائب قال محمد صبرى عابدين :
الدعوة فى محنة واختبار وليس لك إلا أن تعتصم بالصبر حتى يأذن الله بالفرج.
واقترح أن تعتكف فى منزلك أوفى مكان آخر.
ومن المؤكد أن المرشد العام كان يعانى أقوى محنة مرت به خلال 21 سنة كانت الجماهير حوله, والقصر ورجال السياسة يتملقونه أو يعارضونه.
وكان يرى مليونى نسمة من الجماعة يضمه الجهاز السرى والجميع مستعدون لافتدائه بأرواحهم. ولكن أين هؤلاء الآن..
لقد آمن بأن الدعوة ستمر بثلاث مراحل : جيل يستمع, وجيل يحارب ثم جيل ينتصر. لقد اختفى المستمعون والمحاربون ولا تبدو علامات ظهور الجيل الذى سينتصر!
الشهيد
فتح بيان الشيخ لابنا بابا إلى حسن التفاهم بين المرشد العام ورئيس الحكومة فأوقف مصطفى مرعى بيع منقولات شعب الجماعة بالمزاد ولكنه رأى استمرار اعتقال الإخوان بعض الوقت.
وطلب من الشيخ البنا أسماء أعضاء الخطرين ومكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية.
ويلتقى الرجىن مرة أخرى وكان الحديث بينهما فى اتجاهين متوزايين لا يلتقيان.
قال الشيخ ابنا:
الاعتقالات مستمرة بإسراف . وأريد الإفراج عن بعض المعتقلين لأعرف منهم الخطرين وأماكن السلاح. وعد مصطفى مرعى ببحث طلبات الإفراج.
ولكن ... قرر عبد الرحمن السندى – أثناء وجوده فى السجن – أن يقوم الجهاز الخاص بإحراق المستندات التى ضبطت فى سيارة الجيب.
علم المرشد العام بذلك فكلف صلاح شادى بإبلاغ سيد فايز – الذى أصبح قائدا مؤقتا للجهاز – عدم القيام بهذه العملية . ولكن السندى رفض تنفيذ أمر المرشد.
سلم سيد فايز أحد السعاة قنبلة لوضعها داخل محكمة الاستئناف يوم 13 نم يناير 1949. ضبطت القنبلة وانفجرت خارج المحكمة وأصيب 25:
قال أسعد محمود نائب رئيس محكمة النقض وكان وكيلا للنائب العام فى تلك الأيام إن الدكتور جمال عطية كان كاتبا فى النيابة وهو من الجماعة معه اوراق قضية السيارة الجيب ولكنه لم يسلمها للجماعة أو يتلف ورقة فيها حفاظا على سرية العمل .... وقد قبض عليه بعد ذلك فى قضايا الإخوان!
وقال الباقورى:" هذه المحاولة الحمقاء كانت سبب حرج شديد أخذ امرشد لعام منافذ الفكر . وجعل الدنيا على سعتها أضيق فى عينيه من سم الخياط!
أعلن المرشد أمن مسئولية حادث المحكمة تقع على عاتق من قاموا به وليس على عاتق الجماعة. وقال المسئولون فى الجماعة إن المرشد فقد كل سلطان له على قيادة النظام الخاص. قال الفشيخ عمر التلمساني:
" كان السندى يتصرف فى بعض الأحيان تصرفات لا يقرها الأستاذ لبنا وبلغت به القوة إلى حد أنه يضع نفسه فى مستوى قائد الجماعة.
لقد أغرته القوة وأغواه الشيطان. ولم يرض رئيس الجماعة عن ذلك ووقع الخلاف بينهما. وأى إنسان فى أية جماعة ينمو وتزداد قوته يوما بعد يوما . وقد لا يدرك خطره إلا بعد أن يصل أمره إلى منتهاه. وهو ما حدث , وقد فصل السندى من الجماعة فى عهد الهضيبى".
وعلى أية حال فإن الحادث أغلق باب التفاهم وفتح بابا للشر والفتنة ووصف صالح حرب المرشد العام فقال إنه – بعد حادث المحكمة – كان فى حالة تأثر شديد.
ماذا أفعل . أأنتحر. كيف أصدر بيانا بالأمس أستنكر فيه هذه الأعمال فيجئ الولد المتهم – شفيق إبراهيم أنس – ويعمل ذلك ماذا يقولون؟
ويتوسط صالح حرب لعقد اجتماع ثالث بين مصطفى مرعى والمرشد العام. ويجد الوزير من الأفضل أن يتم اللقاء على انفراد فى بيته دون حضور صالح حرب.ابدى البنا أسفه لحادث المحكمة وقال: خرج الأمر من يدى وهذا الحادث يعتبر من باب التحدى لى وإرهاب الحكومة ... وكرر طلبه بالإفراج عن المعتقلين. رد مصطفى مرعى بحدة: معتقلين أيه.. بقى بعد الحادثة دى حد يقدر يتكلم فى حاجة؟ قال الشيخ حسن : المعتقلين ذنبهم إيه ما دام مجنون عمل كدا. قال مصطفى مرعى:
هذا دليل على أن كل الخطرين لم يعتقلوا بعد والسلاح لا يزال موافرا لديهم واريد أن ترشدنى إليهم وفى وسع الحكومة حمايتك.
وعد الشيخ بإجراء اتصالات ثم عاد ليجتمع – مرة رابعة – بالوزير الذى طلب منه معلوماته الشخصية عن الخطرين والسلاح والإذاعة ثم يفرج عن المعتقلين بعد ذلك ولكن السفارة الأمريكية أكدت أنه لا توجد إذاعة سرية!طلب الشيخ البنا الإفراج أولا ليعرف من المعتقلين كل الأسرار ! ووعد بتهدئة الحالة. قال : بعد الإفراج عن المعتقلين سأكون مسئول عما يحصل.
وجد مصطفى مرعى – بعد أربعة أجتماعات – أن الشيخ لم يكشف سر أحد من رجاله رغم اغتيال النقراشى ومحاولة نسف المحكمة افستئناف وضبط أسلحة كثيرة.. ورفغم الإعتقالات الواسعة لأعضاء الجماعة أيضا.
وتتدخل عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية لوقف هذه الاتصالات قال لمصطفى مرعى:يشيع الشيخ البنا أن هدف هذه الإجتماعات أن تكون الحكومة تفكر فى العدول عن قرار حل الجماعة.
وتتوقف الاتصالات بين المرشد والوزير بعد آخر اجتماع بينهما فى 4 من فبراير ولكن المرشد العام يحاول استئناف مساعيه للإفراج عن المعتقلين .
كتب إلى إبراهيم عبد الهادى يقول:
" تفضلتم دولتكم فسمحتم لمصطفى مرعى أن يتقبل اتصالى بمعاليه ولازلت أرجو أن تتفضلوا دولتكم بإقناع معالى مصطفى مرعى بمعادوة السير فى الطريق الموفق الذى بدأه حتى نصل بإذن الله إلى غايتنا" ولكن رئيس الوزراء لا يرد.
وفسر مرعة جهده فى الوساطة فقال:
كنت السفير الداعى إلى الهوادة والرفق والمطالب بحرية الإخوان.قال محمد الليثي : " كان كل يرجوه المرشد العام فى تلك الأيام الإفراج عن المعتقلين ومنع تعذيبهم. وكانت دموعه تنهمر وهو يتحدث عنهم. وكان يحس بغلظة المسئولين فى اسلوب تعاملهم معه وتهربهم من لقائه.
زار المرشد العام مكرم عبيد باشا رئيس حزب الكتلة وجرى بين الاثنين حديث عن الانفجارات والعمليات التى قام بها بعض شباب الإخوان.
أخرج الشيخ البنا مصحفا من جيبه وأقسم عليه أنه لا يعرف شيئا عن هذه الحوادث .. وأن من يؤتكب حوادث إجرامية كتلك هو رجل لا دين له فإن الأديان جميعها تحرم القتل ووسفك الدماء. أجابه مكرم عبيد بأنه يثق فى ضمير المرشد العام وبراءة يده وإيمانه بالله ولكن مكرم عبيد كان خارج الوزارة وحزبه لا يشترك فيها!
تضاعفت مؤامرات الأجهزة الحكومية ضد الشيخ.
بعث اللواء أحمد طلعت 3 مذكرات إلى وزارة الداخلية يقول فيها يدبر البنا اجتماعا خطيرا ولابد من اتخاذ إجراءات.
قطعت لمفاوضات بين الحكومة والمرشد العام الذى يستعد للسفر خارج القاهرة.
جرت مكالمة تليفونية بين الشيخ البنا وأحد الأشخاص تدل على أن فى نية النبا اغتيال ثلاثة من كبار رجال الحكومة .
ولم يفطن الحكمدار إلى أن تليفون منزل البنا قطعت عنه الحرارة ... ومن غير المعقول ا، تكون الرقابة قد وضعت على كل تليفونات جمعية الشبان المسلمين التى يتكلم منها البنا.. بفرض أن تقرير الحكمدار صادق عن مضمون المكالمة!
ويلتقى الملك خطابات تهديد بالقتل من الإخوان المسلمين .. وقد يكون أعضاء الجماعة هم الذين بعثوا بهذه الخطابات أو تكون أجهزة الأمن لحكومية فعلت ذلك لزيادة الضغط على صاحب الجلالة!
راى الشيخ البنا أن يوسط وزيرا آخر يعرفه هو محمد زكى على باشا وزير الدولة – الذى يمثل الحزب الوطني فى الوزارة – فاجتمع به فى منزله , وفى جمعية الشبان المسلمين.
قال زكى على باشا:
الحكومة معذورة فيما تتخذ من إجراءات للمحافظة على أموال الناس وأرواحهم من بعض الشبان المنتمين للجماعة.
قال المرشد العام:
هم من طائفة من لاشبان يعملون لحسابهم من غير أن أشير عليهم بشئ وقال :
إنى مراقب ولا أتمتع بحريتى وعلى إستعداد لمغادرة مصر إذا رغبت الحكومة وأضاف الشيخ: أحب أن تكلم رئيس الوزراء فيما يتعلق بالإخوان حاول وزير الدولة أن يتخلص من مهمة الوساطة بعد فشل مصطفى مرعى ولمناخ العدواة السائد فىمجلس الوزراء ضد الجماعة ومرشدها العام.
قال:
لست مختصا.
قال الشيخ:
أنا مضطهد وكل مكتب الإرشاد معتقل ولا يوجد ما يدعو لاعتقاله رأى زكى على باشا تحت إلحاح المرشد العام أن يتوسط. اتصل بإبراهيم عبد الهادى قال له:
- إذا كان المرشد العام حسن النية يذكر لنا أسماء الأشخاص الذين يشك فى وجود أسلحة لديهم, ويرشد عن محطة الإذاعة السرية التى تذيع فى السابعة صباحا كل يوم.
- أبلغ الوزير الشيخ البنا بذلك فردد جوابه التقليدى. لا أعرف شيئاعن محطة الإذاعة. وللإخوان شعب كثيرة . وأريد الاتصال بالمعتقلين للتفاهم معهم ومعرفة أسرارهم.
- عاود زكى على الإتصال برئيس الوزراء الذى رفض الإفراج عن أعضاء مكتب الإرشاد.
- واتصل الوزير بعبد الرحمن عمار الذى طلب إقرار من الشيخ يدعو فيه أنصاره ومؤيديه إلى محاربة كل من يخرج عن القانون.
- قال الشيخ:
- كتبت بيانا تحت عنوان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" سلمته إلى محمد الناغى وهو عضو مؤسس لجمعية الشبان المسلمين وسكرتير مجلس إدارتها.
ويعود الوزير يعرض الأمر مرة أخرى على رئيس الوزراء الذى طلب أن يحدد الشيخ البنا هؤلاء المعتقلين , غير الخطرين , فقدم المرشد العام أربع قوائم... وطلب عدم نقل أصحابها من معتقل " هاكستيب" القريب من القاهرة إلى الطور كما قررت الحكومة.
راجعت وزارة الداخلية القوائم واستبقت الأسماء المندوبة فى قائمتين فقط ونقلت الباقين إلى الطور! ويلتقى زكى على باشا بالشيخ البنا فى صلاة الجمعة ويطلب منه العمل من جانبه على تهدئة الحالة والتخلص من العناصر الخطرة.
أجاب الشيخ : ينبغى تحسين حالة المعتقلين من الموظفين والعمال ماديا حتى لا يعتبر اعتقالهم إجراء انتقاميا.
وعد الوزير بذلك بذلك وطلب من محمد الناغى أن يتحدث إلى رئيس الوزراء فى هذا الشأن. ومحمد الناغى مولود بالزرقاء مركز فارسكور – بلدة إبراهيم عبد الهادى – ويميت إليه بصلة بقرابة – ابن خالة رئيس لاوزراء – وصلته بالشيخ البنا قديمة ترجع إلى عشرين عاما . قال زكى باشا للناغى:
الشيخ البنا على استعداد للإرشاد عن أماكن الأسلحة والمفرقعات ومحطة الإذاعة السرية إذا عاونته الحكومة فى الإفراج عن المعتقلين الذين لاغبار عليهم.
قال محمد الناغى : هل تأذن لى ابلاغ ذلك لرئيس الوزراء؟
لم يمانع زكى على فتوجه الناغى غلأى بيت رئيس الوزراء فى التاسعة من صباح السبت 12 من فبراير . وابلغه بذلك فوافق الوزراء على أن يقابل الشيخ البنا أعضاء مجلس الإرشاد يوم الإثنين 14 من فبراير ... أى بعد 48 ساعة.
عاد الناغى إلى جمعية الشبان المسلمين فى الواحدة بعد الظهر ليقول لمحمد الليثي سكرتير قسم الشباب بالجمعية.
أريد مقابلة الشيخ البنا
أجاب الليثى: ليس عنده تليفون . أرسل أحدا من السعاة لاستدعاائه. هذه مسألة هامة جدا. اذهب أنت غليه . اعتذر الناغى وأصر على أن يقوم الليثى بالمهمة. يمكننى الذهاب ولكنى أخشى القبض علىّ
قل لرجال الشرطة إنك قادم من طرفى...
يقصد بذلك أن الشرطة تعرف لإبراهيم عبد الهادى باشازأضاف الناغى:
نريد إنهاء موضوع الشيخ حسن. والأمر فى يده الآن. وان أخلع ملابسى إلا بعد أن تخبرنى بالنتيجة. غوجئ الشيخ برؤية الليثى فى بيته. وكان يجلس إلى " طبلية" ليتناول الطعام الغداء. قال المرشد العام فى دهشة:
ما الخبر؟ يبدو أن هناك أخبارا سارة لدى الأستاذ المراغى ويريد حضورك ويريد حضورك لإبلاغك بها . قال البنا: اية أخبار سارة تلقيت الآن أن الشيخ النبراوى الذى فكرت فى الإقامة عنده أعتقل أمس.. وقد اخترته لأنه فى الثمانين من عمره حتى لا يفكروا فى أنى أدبر أمرا معه.
رفض المرشد العام الحضور فقد وجد أمامه مؤامرة جديدة وأحس بأ، الحكومة غير جادة فى الوصول إلى حل. ألح الليثى : تعلق الشيخ بشعاع الأمل فيما يمكن من جهد فى سبيل المعتقلين قال خلاص ياسيدى . نروح.
وسرح قليلا ثم اضاف: لتكن آخر مرحلة.
وبدا على الشيخ البنا اليأس وهو يعلن موافقته على أن يكون فى مقر الجمعية فى الموعد المحدد : الخامسة مساءا.
وأبلغ الليثى ... محمد الناغى بذلك.قال البنا لزملائه كما لو كان يتنبأ" إن عدم قيام الحكومة باعتقاله دليل رسمى على نية الحكومة قتله".
قال للشيخ الباقورى : إنى سأختفى !ّ سأله :
مذاتقصد فإنى لا افهم ؟ أجاب:
قد أغيب غيبة طويلة. ومن يدرى فلعلنا لا نجتمع بعد ذلك واستدرك الشيخ البنا قائلا:
رأيت فى ليلة واحدة رؤيا تكررت مرتين قبل الفجر . وكنت ى كل مرة أقوم من النوم وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . ولكنى رأيتها مرة ثالثة فى الليلة نفسها فلم اشك فى أنها رؤيا حق.
رأيت أنى أمسك بزمام ناقة يركبها أبو بكر الصديق _ رضى الله عنه – ثم إذا بيد تمتد إلى زمام الناقة فتأخذه من يدى فعلمت أن مهمتى قد انتهت . وأنى لابد أن أغيب.
وردد الشيخ البنا هذه الرؤيا لمحمد الليثي وقال له: رأيت أبو بكر الصديق يقول لى إنك ستقتل اليوم.
جاءت الساعة!
طب الشيخ البنا من صهره . عبد الكريم منصور المحامى أن يصحبه إلى جمعية الشبان المسلمين. عارض عبد الكريم لمرضه.وأخذ أولاد الشيخ يبكون ويطلبون إليه عدم الذهاب وكأنهم يتوقعون شرا وقال والده
– 65 سنة- المأذون الشرعى لقسم الدرب الأحمر: لا تخرج فليس معك سلاح.
رد قائلا: الأعمار بيد الله
وأصر على الخروج قائلا:
هذه رسالة أؤديها.
ومرة أخرى نصحه عبد الكريم منصور بعدم الذهاب فأصر الشيخ قائلا ساخرج وحدى.
تحامل عبد الكريم على نفسه. وخرجا معا ليلاحظ المحامى أن شخصا يقف بدراجة أمام البيت ثم ينطلق بها عندما لمحهما. لفت نظر الشيخ الذى طلب عدم الإهتمام بهذا الأمر.
مشيا معا حتى ميدان الحلمية الجديدة فوجدا سيارة تاكسى بها مخبر فرفض عبد الكريم ركوبها.
انطلقت بهما سيارة تاكسى أخرى فلاحظ المحامى أن سيارة تتبعهما حتى باب جمعية الشبان المسلمين... وبها بعض المخبرين . أبدى شكه ولكن البنا أخذ يطمئنه قائلا: لابد أنها إحدى سيارات الشرطة التى تراقبنا! ظهر الضيق على وجه الناغى عندما تأخر المرشد العام دقائق عن موعده .
فلما جاء جلسا معا فى مكتب الناغى الذى يقع فى الدور الأول من مبنى الجمعية ويمكن للمارة فى الطريق أو أى مراقب أن يشاهد كل ما يجرى داخل المكتب وتحركات الجالسين فيه... ويراهما وهما ينصرفان.
عرض الناغى على المرشد العام ما قاله رئيس الوزراء فكان تعليق الشيخ البنا: أنت رجل طيب تسمع وتصدق. من أين آتى لهم بالأشياء المطلوبة وأنا مكتوف الأيدى وجميع إخوانى وأنصارى معتقلون ولا أستطيع الإرشاد عن محطة الإذاعة السرية , ولا أجمع السلاح ولا أعرف مكانه . وكنت أريد أن أعرف ذلك من رجال الجمعية المعتقلين. وما داموا معتقلين فكيف أرشد عن هذه الأشياء؟
قال الناغى: فهمت أمس – الجمعة – من زكى على باشا أنكل على استعداد لتسليم ذلك بدون شروط. وكيف أجدها إلا بعد الإفراج عنهم.
رغب الناغى فى الاتصال بزكى على باشا لمعرفة ما تم فى أمر القوائم التى طلب الشيخ البنا الإفراج عنها ولإبلاغه الموقف خاصة أن المرشد العام يضع الإفراج شرطا لتقديم المعلومات أو وسيلة لجمع المعلومات.
لم يجد الوزير فى منزله فبقى الناغى والمرشد العام فى الإنتظار . وأديا صلاتى المغرب والعشاء معا ثم جلسا فى مكتب الناغى يتحدثان فى شئون الإخوان.
كان الحديث بين الرجلين – كما قال الشيخ لليثى بعد ذلك – معادا لا جديد فيه... فالحكومة تطلب أسماء حائزى السلاح ومكان الإذاعة السرية بينما يصر الشيخ على أنه لا يعرف شيئا ولابد من الإفراج أولا عن بعض المعتقلين للصحول على المعلومات المطلوبة.
عاود الناغى الاتصال بزكى على باشا فلم يجده.
قال الشيخ :
أنت تعلم أنى فى الستين وصحتى لا تحتمل السهر. ولن يعود الباشا إلى بيته قبل التاسعة والنصف.
فأرجوا أن تأذن لى بالإنصراف, على أن نلتقى صباح غد:وكان غريبا أن يصر الناغى على الإنصراف حوالى الثامنة مساء ولا ينتظر تسعين دقيقة أخرى لحل مشكلة ضخمة تتعلق بتسليم السلاح , ومحطة الإذاعة السرية .
والإفراج عن بعض معتقلى الإخوان وهى أمور تحدث فيها إلى رئيس الوزراء! غادر الناغى الجمعية عائدا إلى بيته واستعد الشيخ البنا للانصراف فلم تكن هناك أخبار سارة لدى الناغى, ولم يكن هناك ما يدعو للإحاج على الشيخ بالحضور إلا أن يكون رئيس الوزراء – أو أحد آخر – قد أصر على استدعاء المرشد العام إلى دار الجمعية!
ولم يشك الشيخ البنا, أو صهره عبد الكريم منصور فى الناغى , وظل عبد الكريم منصور مؤمنا بأن الناغى لا يدبر جريمة وأنه رجل برئ , وربما يكون قد كتم عن المرشد العام بعض أقوال رئيس الوزراء...
وكان كل ما حمله الليثى والناغى إلى المرشد العام فى ذلك المساء... دعوة للموت!
أصر عبد ارمانيوس على ان يحتسى المخبر أحمد حسين الخمر بعد ظهر السبت 12 من فبراير 1949. ولم يسبق لعبده امانيوس أن وجه مثل هذه الدعوة إلى المخبر... ولكن التفسير الوحيد رغبة الضابط فى تشجيع المخبر ليقوم بمهمة خاصة, أو أن يفقد الوعى السليم فيقوم بالمهمة الخاصة! فى الثامنة إلا ربعا من مساء السبت 12 من فبراير طلب العقيد محمود عبد المجيد من سائق سيارته محمد محفوظ – 38 سنة- أن يتجه إلى شارع عبد الخالق ثروت فى الثامنة مساء وأن ينتظر بالسيارة عند نادى نقابة الصحفيين قرب جمعية الشبان المسلمين ويجعل مقدمتها متجه غلى شارع عبد الخالق ثروت. قال له: إذا جاء اثنان يرتديان الملابس البلدية وركبا السيارة فأحضرهما إلى فى فندق إيدن.
وقد اضطر محمود عبد المجيد إلى إستعمال سيارته وكان مقررا أن يتولى المقدم محمد وصفى قائد حرس الوزارات قيادة سيارته الحكومية الخاصة للفرار بالمجرمين ولكن تعطلت سيارة وصفى فى اللحظة الأخيرة. وهكذا تدخل القدر مرة أخرى للاستدلال عن المجرمين.
شاءت المصادفات أن يمر الصول محمد زكى من إدارة المباحث الجنائية أمام مبنى جمعية الشبان المسلمين يوم 11 من فبراير فشاهد الأومباشى أحمد حسين جاد يقف أمام مبنى الجمعية!
ولم يكن محمد زكى يعرف أن أحمد حسين جاد يعاين جغرافية المكان!
طلب عبد الكريم منصور من صالح عوض ساعى جمعية الشبان المسلمين إحضار سيارة أجرة" تاكسى" فخرج إلى الشارع. مرت سيارة تاكسى نادى عليها فلم يسمع السائق.
نادى على سيارة أخرى فوقفت. سأله السائق: من سيستقل السيارة ؟ أجاب : فضيلة المرشد.
ولم يبلغ الساعى صالح عوض المرشد العام أو صهره بهذا السؤال , غير العادى لسائق التاكس . واكتفى الساعى بإبلاغ عبد الكريم منصور بوصول السيارة فنزل مع المرشد, وودعهما محمد الليثي حتى الباب. لاحظ عبد الكريم منصور أن الحركة فى شارع الملكة نازلى هادئة على غي العادة والأنوار ضئيلة رغم أنه طريق لا تهدأ فيه حركة المرور.
التفت إلى الشيخ يسأله: فى أى وقت نحن الآن؟ الثامنة مساء. مستحيل ... نحن فى آخر الليل! كيف؟
ألا ترى ضجة الطريق قد همدت؟ إنك تعلق على كل شئ يا أستاذ عبد الكريم. دق جرس التليفون فى مبنى الجمعية فى تلك اللحظة بالذات طلب المتحدث محمد الليثي. أسرع خفير الجمعية يناديه فدخل المبنى وبقى المرشد العام وصهره عبد الكريم دون أن يكون فى وداعهما أحد.
وجد عبد الكريم منصور ثلاثة رجال يقفون على ناصية الشارع بينهم " الشرطى الذى فتشهم بعناية واستفزاز فى مجلس الدولة عندما حاول دخول المجلس يومم نظر قضية حل الإخوان. أصر الشيخ البنا على أن يبدأ عبد الكريم بدخول السيارة ثم تبعه.
ومن جديد لاحظ عبد الكريم أن التاكسى لم يتحرك فور ركوبهما. ولكنه لم يتكلم هذه المرة فقد وجد أن شكوكه كثيرة كما أن الوقت لم يتسع ليقول شيئا.
أدار سائق التاكسى على محمود نفادى مفتاح البنزين. وقبل أن يحدد الشيخ البنا وجهته تقدم رجل يرتدى الملابس البلدية ويضع شالا حول عنقه ويبدو ملثما لإخفاء شخصيته.فتح الرجل باب السيارة من الجهة التى يجلس فيها المرشد العام وأخذ يطلق عليه النار. نام المرشد فى أرض السيارة مخفيا رأسه بيديه لتفادى الطلقات المتتالية . ففتح الرجل الباب وأخذ يطلق الرصاص مرة أخرى على اشليخ البنا.
وجاء رجل آخر يلبس جلابية بيضاء وبالطو " وتلفيعة" فوق رأسه من ناحية عبد الكريم منصور الذى حاول فتح الباب فقاومه الرجل ليمنعه من الخروج . هشم المعتدى زجاج السيارة وطالت المقاومة بينه من الخارج ., وعبد لكريم منصور من الداخل ثم بدأ الرجل يطلق الرصاص على السيارة وعلى عبد الكريم. سمع السائق طلقات الأعيرة النارية ورأى الرجل الملثم يضرب زجاج السيارة فيتحطم.
أوقف محمود نفادى السيارة واستقر – من خوفه – فى " الدواسة" وأصابته حالة إعياء شديدة. ولم يدر بما يجرى حوله,
ظن أنه مصاب ... وصوت يقول:
لا إله إلا الله. سمع الطلقات أصحاب المحال التجارية فى الشرع فأغلقوا محالهم واحتمى المارة بلمقهى المجاور. أسرع الليثى على صوت الطلقات إلى الشارع دون أن يجيب التليفون وأخذ يصرخ:
امسك ... امسك.
أطلق عليه أحد الرجلين عيارات ناريا ثم تبعه بآخر فأسرع الليثى يدخل مبنى الجمعية مرة آخر بينم ارتفع صوت رجل يقول:
حوش .... حلق.
رأى الليثى شخصا آخر يلاحق الجانى فظن أنه يطارده.
وكتن محمد محفوظ سائق العقيد محمد عبد المجيد يقف بسيارته السوداء فى المكان القريب المحدد فجاء أحمد حسين جاد وشخص آخر يدعى مصطفى فاستقلا السيارة ورآها محمد الليثي تسرع بهما بعيدا عن المنطقة كلها.
بعد صدمة الطلقات الأولى تجمع لناس فوقف الضابطان حسين كامل وعبده أرمانيوس يصرخان: قنابل... قنابل.
تفرق المحتشدون.
وفى الوقت نفسه جلس على مقهى بلدى أمام جمعية الشبان المسلمين الجاويش محمد سعيد إسماعيل والمباشى حسين محمدين رضوان بملابسهما الرسمية ليتسلما القاتلين بوصفهما من رجال الشرطة إذا قبض على الجمهور عليهما ويطلقا سراحهما بعد ذلك. أسرع الليثى إلى التليفون ليجد السماعة مرفوعة رد على المتحدث فغذا به المقدم محمد الجزار.
قال الليثى بتاثير المفاجأة: الشيخ حسن اصيب بالرصاص.
لم تهز المفاجأة ضابط القسم السياسى ولم يسأل من هو الشيخ حسن, ولم يبد دهشته بل جاء سؤاله صدمة الليثى. نطق الجزار بكلمة واحدة: مات؟
امتعض الليثى . قال : لا أعرف.
وألقى بسماعة التليفون.... رغم الرقابة البوليسية الكثيفة التى تحيط بالشيخ البنا فغن صوت الأعيرة المتلاحقة لم يحرك نظر أحد من رجال الشرطة الذين يراقبون المرشد العام مراقبة دقيقة. ولم يظهر أحد من رجال الشرطة المعنيين عند الجمعية الشبان المسلممين أو مصلحة المجارى القريبة. ولم يقبل شرطى واحد مستفسرا أو تلبية للإستغاثة.
ولاحظ زكى عبد التواب عضو جمعية الشبان المسلمين وقوف ثلاثة جنود لا يتحركون عن مصلحة المجارى القريبة فقال لهم:
يبقى فيه ضرب رصاص وماتتحركوش.
قال أحدهم: هو فين الجانى واحنا نجرى وراه. وأضاف : ياشيخ روح على بيتكم!
لم يكد صوت الرصاص يتوقف حتى اندفع الشيخ البنا خارج السيارة وكأنه فى كامل صحته وعافيته يتعقب الجناة ولكنهم فروا هاربين فعاد إلى مبنى الجمعية وهو يصيح:
- قتلت .. قتلت... هاتوا الإسعاف.
- وحاول الوصول إلى التليفون ولكن قواه خانته. فعاد إلى السيارة بعد أن تركت دماؤه آثارها على مكان الخطوات التى قطعها فى الطريق وداخل الجمعية.
جلس الشيخ فى السيارة بجوار صهره الذى لم يستطع الحركة بسبب غصابته .
صرخ عبد الكريم . أين السائق؟ قيل له :
اصيب!
طلب شخصا آخر يقود السيارة ولكن السائق لم يكن قد اصيب بل راح فى غيبوبة مؤقتة فلما أفاق قاد السيارة إلى جمعية الإسعاف القريبة
قال الشيخ البنا عقب وصوله للإسعاف : الحقنى يادكور.
وأضاف:
مفيش فايدة أنا حا أموت.
ورغم ذلك ظل البنا متماسكا لقواه يساعد الطبيب فى رفع ثيابه الخارجية للكشف عن موضع الجراح. وجده طبيب الإسعاف الدكتور محمد طلعت طه فى حالة سيئة والدماء تنزف منه بغزارة. فضمد جراحه لوقف النزيف بينما نطق الشيخ بالشهادتين قائلا: إن الله حق !
استقل الليثى سيارة الإسعاف إلى القصر العينى مع المرشد العام وصهره ومتطوع من الإسعاف اسمه مصطفى محمد مصطفى.
أثناء الطريق إلى المستشفى كان المرشد العام يواسى صهره الذى يصرخ ألما قائلا: لا تخف إصابتى بسيطة.
أراد عبد القوى محمد عمارة كاتب الإستقبال فى القصر العينى قيد أسماء المصابين فلما عرفه عبد الكريم شخصية المرشد العام للإخوان سمح لهما بالدخول فورا إلى حجرة العمليات.
بحثوا عن الطبيب المنوب فى قسم الجراحة وهو الدكتور على السباعى حسنين فى داره ولكن تبين أنه يوجد فى مقهى بمصر الجديدة
ارسلت إدارة المستشفى فى طلبه فلما جاء أخذ فى علاج المرشد العام بمساعدة ممرضة عثروا عليها أخيرا إسمها منى جمعة.
طلب المرشد العام البدء بصهره الذى نقل إلى غرفة أخرى . وكان الشيخ البنا فى حالة معنوية قوية. لم يبد عليه وهن أو ضعف مما يشير إلى أن حالته ليست خطيرة وعلاجه ممكن وميسور. تبين أن المرشد العام اصيب بسبع عيارات نارية بينما أصيب عبد الكريم برصاصتين ولكن حالته خطيرة فلما سألأه الطبيب عن عنوانه لم يستطع الإجابة استدعى طبيبان كبيران هم الدكتور عبد الله الكاتب والدكتور محمد حسنى الزينى للإشتراك فى علاج الشيخ وإجراء عملية جراحية له. ولكن عندما جاء رئيس النيابة لسؤاله رأ÷ فى حالة صحية سيئة ولا يمكن استجوابه.
ابلغ رئيس الحركة لجمعية الإسعاف قسم الشرطة الأزبكية بالحادث فى التاسعة إلا ربعا قائلا: سائق لتاكسى يريد الهرب.
طلب الرائد عمر هلال مأمور القسم الإمساك به ومنعه من الفرار. وتبين – بعد ذلك – أن السائق " بلديات " محمود عبد المجيد .. وقد باع السيارة بعد الجريمة مبررا ذلك بتشاؤمه منها!
وكان عمر هلال أول ما انتقل إلى مقر الجمعية من رجال الشرطة. عاين التاكسى فوجد أن عداده سجل 16 قرشا. ولا يزال العداد يعمل ! ووجد بأرض السيارة مسبحة الشيخ البنا من 99 حبة! وصل إلى مقر الجمعية رجل يرتدى الملابس المدنية يسأل فى لهفة : أين ذهب الشيخ البنا: قيل له: القصر العينى . انصرف الرجل فورا..
وشاهد الليثى خارج غرفة العمليات, ذلك الرجل وهو يقول للأطباء جئت من قبل الحمكدار للإستفسار عن حالة الشيخ البنا. وحاول دخول الحجرة فمنعه الأطباء مما اضطره للبقاء خارجها.
أبلغه الليثى برقم السيارة التى استخدمها الجناة فى الهرب. نظر إليه الرجل بسخرية وانصرف دون أن ينطق بحرف.
وكان الليثى يظن أنه بإبلاغ أحد المسئولين بهذا لرقم سيساعد على كشف حقيقة ويعجل بالوصول إلى القتلة.
ولم يدرك – حينئذ – أنه يواجه أفراد عصابة التى دبرت قتل الشيخ البنا! لم يكن يعرف أ،ه يتحدث إلى المقدم محمد وصفى قائد حرس الوزارات وأنه, بذكر رقم السيارة أمامه, هز أركان المؤامرة وألقى الرعب فى قلوب المتآمرين.
وكان كل ما يسعى إليه الليثى أن يعرف المسئولون رقم السيارة ليعجلوا الوصول إلى القتلة. ولكن وصفى دخل حجرة التعليمات بدعوى معرفة حالة الشيخ البنا وأسرع يبلغ رقم السيارة لعبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية!
فى الثانية عشرة والربع بعد منتصف الليل , مساء 12 من فبراير 1949 مات لمرشد لاعام رغم أنه كان فى حالة طيبة عند دخول المستشفى.
قال الأطباء إنه توفى متأثرا بجراحه. وقال محمد الليثي إن الشيخ البنا قتل فى القصر العينى.
وقال عبد الكريم منصور إن إدارة المستشفى أهملت فى اتخاذ ما يلزم لانقاذ الجريح.
وقال الإخوان إن الدكتور حجاب مدير مستشفى القصر العينى ساعد على ذلك فهو زوج شقيقة الدكتور يوسف رشاد.ولكن أحدا لم يسأل الدكتور حجاب , أو يحقق معه! وقال محمد وصفى للماجور سانسوم ضابط أمن السفارة البريطانية:
ساعة نقل الشيخ البنا إلى المستشفى لم تكن بها, فى النوباتجيات أية ممرضة وكان كل الممرضين من الرجال. ويوجد دائما طبيب نوباتجى يمكن استدعاؤه لإسعاف الحالات العاجلة ولكنه لم يكن بالمستشفى فى تلك اللحظة.
وعندما وصل الشيخ البنا إلى القصر العين كانت دماؤه قد نزفت حتى أوشك على الموت.
وقال محمد حسن الأمين الخاص للملك فاروق فى التحقيقات التى جرت بعد الثورة:
سمعت محمد وصفى وهو يتحدث إلى أحمد كامل قائد شرطة القصر الملكى ويقول له" بعد إصابة البنا رحت المستشفى لأخلص عليه إذا كان حيا:
وقال الشيخ عمر التلمساني إن البنا قتل بالرصاص وبغير الرصاص وأن الملك أمر بأن يترك فى المستشفى بلا علاج, ليموت, وإن صاحب الجلالة ذهب إلى المستشفى ليراه قتيلا!نقل الجثمان إلى مشرحة زينهم حيث قام يتشريحه الأطباء الشرعيون الدكاترة محمد توفيق وأحمد شكيب وأحمد حسين سامى وكيل وزارة العدل المساعد للطيب الشرعى.
وجد الأطباء أن الجسد اخترقته 7 أعيرة نارية وأن الوفاة حدثت نتيجة النزيف من 4 أعيرة.
وفى التحقيقات التى جرت بعد الثورة قال الدكتور يوسف رشاد الذى يعمل كبيرا لأطباء اليخوت الملكية منذ عام 1941.
- سمعت من زميلى الدكتور أحمد شكيب الطبيب الشرعى الذى أجرى الصفة التشريحية للجثمان أن البنا ترك ليموت بالنزيف من شريان وكان يمكن إنقاذ حياة البنا بمبضع بسيط لو أنقذ, واسعف, فى حينه!
الزيف
أطل زكى عبد التواب الكاتب بإدارة المباحث الجنائية بوزارة الداخلية وعضو جمعية الشبان المسلمين من نافذة الجمعية بعد سماعه صوت الطلقات التى أطلقت على الشيخ البنا فرأى أحد المخبرين الثلاثة المنتدبين بالإدارة يقف بجوار سيارة تاكسى!وراى الليثى الجناة يهربون فى سيارة ليموزين سوداء كبيرة ولكنه لم يستطع التقاط رقمها.
وفى عيادة جمعية الإسعاف تقدم شباب أسمر يرتدى جلبابا وطربوشا إلى محمد الليثي وذكر له رقم السيارة وهو:"9979 ملاكى القاهرة.
قال الليثى للولد الأسمر : تعالى اشهد معنا.
قال : ماليش دعوة . أنا بأقولك الرقم . عاوز تأخذه خده. مش عايز أنت حر . ويرى الليثى أن هذا أفضل عمل قام به الشاب وهو الاختفاء لأنه كان يمكن أن ينفى أمام لمحقق أنه رأى رقم السيارة أو يغير هذا الرقم.
كتب الليثى الرقم على علبة سجاير وجدها على الأرض.
ورأى كل من زكى عبد التواب ومحمد عثمان ومحمود جبر من موظفى الشبان السمر يصيح برقم السيارة ولنهم امتنعوا عن ذكر هذه الحقيقة.
كما خاف زكى عبد التواب أن يذكر رؤيته للمخبر أمام التاكسى ساعة وقوع الجريمة... ولم يتكلم إلا بعد قيام ثورة يوليو وعندئذ تقدم الجميع للشهادة!
بعد وفاة المرشد العام عاد الليثى إلى مقر الجمعية الشبان المسلمين فى انتظار التحقيق فوجد الجمعية محاصرة بالشرطة.
أخذ يروى التفصيلات.
وردد رقم السيارة لكل من قابله من أعضاء الجمعية ورجال الشرطة والصحافة.
وجاءه الضابط مصطفى حلمى يستدعيه إلى التليفون فسمع الرائد محمد الجزار – 36 سنة ضابط مباحث أمن الدولة الذى أخذ يسدى إليه النصح بألا يذكر رقم السيارة ولا يزج بنفسه فى الشهادة التى تؤدى به إلى متاعب كثيرة . وكان واضحا أن كل ما قاله الليثى عن رقم السيارة سواء لمحمد وصفى أو داخل مبنى الشبان المسلمين قد نقل غلأى الجزار. قال له:
سأرسل عربة تعيدك إلى بيتك. ولكن الليثى رفض وأنهى الحديث
وجاء ضابط يستدعى الليثى مرة أخرة لمقابلة شخص خارج الجمعية ولم يكن هذا الشخص سوى محمد الجزار نفسه أخذ يهنئه بالنجاة قائلا: كان يمكن أن تقتل أيضا أيضا. وسأله :
ماذا تنتظر ... انصرف سالما
قال الليثى: لقد أبلغت النيابة إنى أعرف رقم السيارة.
قال الجزار: لا نهتم بالإجراءات . انصرف ولن يستدعيك أحد. ولن يحقق معك أحد. وأضمن لك ذلك. لقد توفى الشيخ البنا. ولم يبق إلا شاهد واحد ... أنت !
وأخذ يردد بلهجة كلها تهديد:
للشيخ أكثر من خصم, هم قادرون على الثأر ممن يعينون على ضبط الجناة فى الحادث وإنى مشفق عليك من الاعتقال ل ألك صلة بالنبال إنه رجل كان يهدد أمن الدولة والحكومة والملك والمواطنين. لقد انتهى أمر جماعة الإخوان المسلمين بقطع رأس الثعبان.
أذكر رقما آخر للسيارة يختلف عن الرقم الحقيقى .
وألح على الليثى فى ذلك
قال الليثى: ذكرت الرقم للصحفيين. أخذ الجزار يطمئنه قائلا:
لا تهتم بذلك.
قال الليثى :
أشعر بمسئوليتى الأدبية فقد استدعيت الشيخ البنا إلى مقر الشبان لامسلمين وسألتهم بالإشتراك فى الجريمة.
ظل الجزار يضيق الخناق عليه وأخذ منه الورقة التى كتب فيها الرقم الصحيح وقال له:
هات يدك واقرأ الفاتحة وسأفرج لك عمن طلبت الإفراج عنهم من الإخوان المعتقلين.وأراد الليثى التخلص من الضغط وضعفت أعصابه نتيجة احداث متتابعة طوال اليوم وبالذات خلال لساعات الأخيرة فقال:
- لا أستطيع التغيير الكلى, ولكن يمكننى التشكيك فى صحة الرقم بأن أذكر رقما مقاربا.
- وقال الليثى – بعد ذلك – معزيا نفسه:
- لو لم أقل ذلك لقتلت فى ذلك اليوم أرضا وتعذر القبض على القتلة فقد كنت الشاهد الوحيد!
- عاد الليثى إلىى جمعية الشبان المسلمين مرة أخرى فوجد المحقق فى الغرفة التى كان يجلس فيها قبل ساعات الشيخ البنا والناغى يبحثان عن حل!!
- أخذ المحقق يسأل الساعى والسكرتير الرياضى للجمعية , ولم يستدع المحقق الليثى لسماع أقواله إلا فى الثالثة والنصف صباحا.
- وجد الليثى فى غرفة التحقيق عددا كبيرا من ضباط الشرطة بينهم المقدم محمد وصفى المفتش بالقسم السياسى ورئيس حرس الوزارات الذى جاء ليكون رقيبا على الشاهد عند الإدلاء بمعلوماته.
- أخذ الليثى يجيب عن الأسئلة ويذكر تفاصيل استدعائه للشيخ البنا وروايته عن الحادث حتى جاء رقم السيارة فقال:
- 9979 أو 9997
- وذلك طبقا لاتفاقه مع الجزار.
اعترض محمد وصفى وتدخل فى الحديث
أخبرنى الليثى فى المستشفى بأن الرقم هو 9997 ضاق الليثى بذلك وشعر بأنه تردده لا يغتفر! قرر أن يذكر الحقيقة كاملة وأكد الرقم الصحيح . قال
إن الرقم كما قاله الشاب تستعين وسبعة وتسعة (9979)
وذكر الشاب الأرقام من الشمال غلى اليمين عندما سجلتها على علبة سجاير!
اثبت عبد العزيز حلمى رئيس النيابة هذه الملحوظة. وكانت هه أول مرة يحرر فيها رقم السيارة فى محضر النيابة. وكان عبد العزيز حلمى شجاعا عندما فعل ذلك فى تلك الظروف.. وقد شاءت عناية الله ألا أن تفضح سر الجريمة... فرقم السيارة هو الخيط الأول للوصول إلى القتلة!
وكانت جرأة بالغة من محمد الليثي أن يفعل ذلك ولكن اشتغال الليثى بالسياسة شجعه على اتخاذ هذه الخطوة.
كان الليثى يومئذ فى السابعة والعشرين من عمره بدأ نشاطه السياسى قبل عشر سنوات انضم إلى محمود النقراشى عندما انشق على الوفد عام 1937 وبعد أن أعلن أحمد ماهر والنقراشى أنهما يؤيدان دخول مصر الحرب مع الحلفاء انشق الليثى عليهما وانضم إلى على ماهر الذى رغب فى تجنيب مصر ويلات الحروب.
ويوم اعتقل على ماهر فى بيته – القصر الأخضر – عرف الليثى أن ضابطا شابا – جمال عبد الناصر – يريد تهريب على ماهر من المعتقل! ولكن مدير الرقابة توفيق صليب يفزع من الرقم والصورة فيتصل بالرقيب العام عبد الرحمن عمار يسأله ثم يأمر بمصادرة " المصرى" فى نفس الليلة فيقتحم رجال الشرطة المطبعة يوقفونها ويصادرون الأعداد المطبوعة التى لم توزع بعد . ويصدر " المصرى " طبعة جديدة خلت من صورة البنا ومن رقم السيارة وهو الأهم!
وبرر مدير الرقابة أو الرقيب العام ذلك بأن النشر – بهذه الطريقة – يثير الشعور العام . وابلغ الرقباء فى كل دور الصحف بأن تنشر حادث القتل فحسب.
وأحيل مرسى الشافعى ومحيى الدين فكرى إلى نيابة الصحافة للتحقيق معهما ولكن خمسة آلاف نسخة تقريبا من العدد الصادر من " المصرى" تسربت إلى السوق وبيعت وسط لهفة القراء على متابعة الحادث.ويصبح هذا العدد الصادر , وفيه رقم السيارة . دليل إدانة ثابتا قبل المتهمين ولا يستطيع الشهود العدول عنه!
عرف اللواء طلعت وكيل حكمدار شرطة القاهرة والمشرف على القسم السياسى رقم السيارة بعد ساعة من ارتكاب الحادث وأنها ماركة فورد ليموزين مملوكة لفهيم بولس المحامى ومؤجرة لوزارة الداخلية بمبلغ تسعة وأربعين جنيهاوستمائة وخمسة وستين مليما كل شهر ليستقلها العقيد محمود عبد المجيد مدير إدارة المباحث الجنائية بالوزارة.
وعرف أن هناك محاولات لإخفاء هذا الدليل فلم يحاول الإبلاغ عنه, أو يحرر محضرا به وامتنع عن الانتقال إلى محل الحادث!
عرف الجزار ما يجرى فى التحقيق فأعاد الاتصال بالليثى للحصول على شهادة نهائية منه بالرقم لامزيف. دعاه لمقابلته فى محل " نيوباز" بشارع سليمان باشا . وطلب منه أن يسجل الرقم الكاذب فى ورقة ويتوجه بها إلى قسم عابديبن ليحرر محضرا بذلك.
أخذ الجزار يغرى الليثى بالخمر تارة, وبالمال تارة أخرى , والنساء مرة ثالثة فإن سيدة كانت تجلس فى المحل وتبتسم لهما . ولا يعرف هل كانت هناك مصادقةأم بتدبير من الجزار الذى قال:
- معى500 جنيه خذها. وستحصل على مثلها بعد أن تدلى بأقولك الجديدة فى تحقيقات النيابة.
- رأى الجزار أ، افستعانة بالوعد لا تنفع مع الليثى فاستعان عليه بالتهديداتا بالوعيد. رد الليثى:
مركزى دقيق. ولا أريد أن يقال إنى استدرجت الشيخ حسن لجمعية الشبان لمسلمين . أو أن أريد يدا فى الحادث أو أن جمعية الشبان المسلمين هى التى دبرته.
قال الجزار :
إن الذين قتلوا لن يتركونا تضرهم وترشدعنهم . وصحيفة " المصرى التى نشرت رقم السيارة صودرت. .. إشارة إلى أن الدولة تحمى مرتكبى الجريمة وإلا فما سبب المصادرة! طلب الليثى مهلة للتفكير واتفقا على اللقاء فى محل " جروبى" فى اليوم لاتالى. فزع السائق محمد محفوظ فى اليوم التالى عندما قرأ رقم سيارته فى جريدة" الجريدة" وذهب إلى محمود عبد المجيد وقال له
- يا بيه الشيخ البنا اغتيل ... وعندى 8 أطفال.
- رد محمود عبد المجيد: بس.. لما يبقوا يتيتموا يبقى يحلها ربنا. اخرس يا أهبل . أنت لك مكافأة وأنا حا أشيلها لك.
- بكى محمد محفوظ وقال :
- أنتم اللى عملتم الحادث وأنا لا كان لى فى الطور ولا فى الطحين. صرخ فيه محمود عبد المجيد قائلا:اقفل بقط. ولا تذكر أن أحدا ركب معك . ولا تذكر أننا مررنا على بيت عبد الرحمن عمار. - استدعيت النيابة السائق لسؤاله ففزع إلى محمود عبد المجيد يقول : ما دام طلبونى للنيابة يبقى أتنم اللى عملتم الحادث وتحدفونى فيه. حرام عليكم تعملوها وتأخذونى لارجلين.
- الكلام ده ما أحبش أسمعه منك أمام أى مخلوق وأنت طالبينك كشاهد قال السائق: بس حرام عليك.
- وعندما توجه محمد محفوظ للنيابة جلس معه صلاح مرتجى وكيل الأمن العام أثناء التحقيق والذى تدخل فى الإستجواب بالرد على اسئلة المحقق عندما كان السائق يعجز عن الجواب أو يتعثر فيه.. وإن كانت السئلة سريعة قصيرة وكأنها مجرد أداء واجب شكلى!
- قال محمد محفوظ مدافعا عن نفسه ومبررا ذكر رقم سيارته. قال :
- كنتن داخل السيارة أمام فندق " ايدن"
وقال إن العقيد كان بالفندق ومعه عدد من أعيان محافظة جرجا وبعض ضباط شرطة جرجا – سوهاج الآن. وقال : من السهل على قائد سيارة القتلة وضع أرقام مزيفة وطمس بعض الأرقام ومن غير المعقول أن يبقى الأرقام الصحيحة للسيارة التى فروا بها وألقى محفوظ بدفاعه الأخير . قال:
لقد ارتدى قاتل النقراشى بدلة الضابط داخل وزارة الداخلية ومر بين الحراس .
ووجه السائق بمحمد الليثي فنفى كل منهما أنه يعرف الآخر.
أراد الضابطان حسين كامل وعبده أرمانيوس أن يسريا عن السائق محمد محفوظ بعد تحقيق النيابة معه فاصطحباه إلى مقهى الفيشاوى وأحضرا له طعام الغداء..
جلس السائق , راغبا عن تناول الطعام, فنصحه الضابطان أن يتناسى ما وقع وأن يطمئن إلى أنه لن يناله سوء .
ورغبة فى تهدئة وإدخال الطمأنينة على قلبه انطلقا يتحدثان عن تفصيلات الجريمة ودور كل مشترك فيها.
توجه العقيد محمود عبد المجيد إلى فندق باريس بشارع عدلى الذى ينزل فيه عبد الله خليل فواز سكرتير الغرفة التجارية بسوهاج فى السادسة من صباح اليوم التالى للجريمة وابلغه بوقوعها قائلا.
بعض أنصار الشيخ يلقون بالإتهام علىّ ويزعمون أن القتلة فروا بسيارتى فأرجوا أن شتهد بأنى وسيارتى كنا بعيدين عن مكان الجريمة وقت ارتكابها قال فواز:
أستطيع أن أشهد بوجودى معك إلى ما بعد التاسعة مساء ولكنى لا أستطيع أن أؤدى مثل هذه الشهادة فيما يتصل بالسيارة.
سأل المحقق محمود عبد المجيد فنفى علاقته بالجريمة قال إنه سمع بها فى اليوم التالى. وأكد أن سيارته كانت أمام فندق ايدن من بعد الغروب حتى التاسعة والنصف مساء ..ز أى إلى ما بعد وقوع الجريمة بأكثر من ساعة.
وشهد ثلاثة من ضباط الشرطة ونائب عمدة أنهم كانوا مع محمود عبد المجيد وأن السيارة كانت تقف تحت انظارهم بعيدة عن مكان الجريمة.
وكان شهود الزور الثلاثة:
مفتش لاداخلية إسماعيل فهمى.
والرائد محمود فهمى على رئيس مباحث جرجا.
والمقدم محمد إسماعيل أبو السعود رئيس مباحث منطقة طهطا.
وقال العقيد محمود عبد المجيد, ولم تكتب أنه سئل فى لاتحقيق ... وبسبب الربقابة لم يجرؤ صحفى واحد فى مصر على كتابة النبا وتقديمه لرقابة .. لحذفه ومنع نشره!
لم يتم الليثى فى بيته. ولم يذهب إلى لجزار فى محل " جروبى" فقد أصيب بالرعب.
قال محمد يوسف محمد المحامى وعضو جمعية الشبان المسلمين إن البوليس بما له من سلطة استطاع إرهاب الليثى.
استقل الليثى فى اليوم التالى عربة الترام إلى منزل صالح حرب باشا رئيس جمعية الشبان المسلمين . وكان فى اسوان فاتصلت قرينته السيدة منيرة عامر بالأستاذ مصطفى الشوربجى المحامى ودعته لبيتها ليستمع لليثى.
قال الشوربجى لليثى: أذكر الحقيقة للنيابة واطلب حمايتك.
وطلبت السيدة منيرة عامر من الليثى أن يقابل فتحي رضوان الذى وجه إليه النصيحة ذاتها واعتذر عن الذهاب معه إلى النيابة لأن القانون يمنع الشاهد من اصطحاب محام.
وتوجه الليثى إلى زكى على باشا فى مكتبه بالوزارة وأبو الخير نجيب صاحب جريدة " الجمهور المصرى" وكان أيامها محررا بصحيفة الأهرام فنصحاه بالإدلاء بالحقيقة كاملة.وقابل فؤاد سراج الدين باشا سكرتير عام حزب الوفد فى النادى السعدى وشرح له الأمر فقال فؤاد باشا: موقفك مشرف ولابد أن تستمر.
قال الليثى:
أ يمكن ان يثير الوفد الموضوع لأنى أقاوم وحدى وعده الباشا خيرا!
وقال الليثى عمر عمر نقيب المحامين الوفدى فوعده خيرا أيضا.
ولكن النقابة المحامين لم تتحرك لمساندة الليثى الذى أبرق إلى النيابة يحمل الشرطة مسئولية أى اعتداء أو ضرر يلحق به من الجزار.
وعندما سئلت أمام محكمة الجنايات - بعد 4 سنوات من لاجريمة – قالت السيدة منيرة عامر مطلقة صالح حرب:
الولد مسكين وكان خايف... العهد كان عهد ارهاب والكل خائف!
رأى محمد الجزار وكبار الشرطة إحاطة الليثى بالشبهات فقالوا فى تحقيقات النيابة وأمام القضاء أنه كان يعمل مرشدا عند الجزار ويتقاضى عشر جنيهات شهريا قبل الجريمة بعام.
ودافع صالح حرب عن الليثى أمام المحكمة ... قال : أدى الليثى واجبه فوق ما يطيق. ونفى عنه الإتهام بأنه كان مرشدا للشرطة
قال : لو كان يتطلع إلى المال لارتمى فى أحضان الأحزاب التى تسرف فى إنفاق المال. ولا يبقى فى جمعية الشبان المسلمين الفقيرة.
وقال: كان الليثى مهددا فكل مصرى يمسى ولا يصدق أنه سيصبح , ويصبح ولا يصدق أنه سيمسى.
وموقف الليثى أدق ما يكون وأكثر من غيره عرضة للخطر.
من البداية اتهم عبد الكريم منصور كلا من محمد كامل الدماطى مدير مكتب إبراهيم عبد الهادى ووكيل وزارة الداخلية عبد الرحمن عمار بارتكاب الجريمة.. فإن عبد الكريم أدخل حجرة منفردة فى مستشفى القصر العينى ولم يعرف بوفاة البنا إلا بعد أن تلقى برقية تعزية من السودان. وقد تأخر سؤاله لأن حالته لم تسمح بذلك. وعندما سأله المحقق بعد خمسة أيام من وقوع الجريمة أحسن, كما قال , بأن " المسائل مطبوخة"
وجد النيابة غير جادة.
رأى أن يتهرب منها فقال للمحقق.
اكتب على كيفك!
وعندما طلب مغادرة المستشفى عومل معاملة شاذة فقد أخذ إلى قسم شرطة عابدين ومكث به مدة طويلة حتى سمح له بالعودة إلى بيته.
حرصت الصحف المصرية جميعا – وكانت تحت الرقابة – على أن تردد بيانات الحكومة وتتهم الإخوان بأنهم الذين قتلوا المرشد العام ولم تذكر كلمة واحدة عن المتهمين الحقيقيين.
ودافع عبد الرحمن عمار عن محمود عبد المجيد – دون ذكر أسمه فقال فى حديث لصحيفة " الأساس" جريدة الحزب السعدى وأكد ذلك فى شهادته أمام النيابة. قال:
" النأر بدأت تأكل بعضها"...
يعنى أنه جرى انقلاب بين الإ رها بيين على شيخهم السابق , وبعد أن ظنوا أنه لم يعد يشايع حركاتهم الإرهابية, وأنه أخذ يفكر فى تسليم أسلحتهم ومحطتهم السرية إلى السلطات المسئولة. وقال عمار:
- ذكر الشيخ البنا أن أمضيه خطوة واحدة فى سبيل تسليم الأسلحة والذخائر سيؤدى إلى قتلة وكان هذا الحديث للقتيل قبلمصرعه بوقت قليل .
- وأضاف : هنالك اتجاه آخر لم يفت جهات التحقيق وهو البحث عن صلة بين حادث البنا والحوادث الدامية التى وقعت فى قطر عربى شقيق فى مثل هذا الشهر من العام الماضى.
- يقصد بذلك اليمن,
- وأعلنت الحكومة المصرية صراحة أن الإخوان ساهموا فى اغتيال الإمام يحيى – إمام اليمن – لتأكيد أن قتلة الشيخ من اليمنيين.
- وقالت الصحف إن الإتجاه الثالث يدور حول تهديدات بالقتل تبادلها فريقان من جماعة الإخوان بعضهم انفصل عنها من زمن وكل فريق كان يعمل على تهديد رئيس الفريق الآخر.
- وجدت فى مكان الحادث حافظة نقود باسم أحمد شعبان عبد الهادى وهو كهربائى ونشر ذلك فى الصحف.
- قرأ شعبان ذلك فتقدم إلى الشرطة يقول إن حافظته وبها رخصته وقعت منه . وهو فى طريق عمله وكانت بداخل معطفه الذى وضعه على كتفه قال رجال الشرطة:
- إن الجو بارد والشيخ البنا – كان قوى البنية – ومع ذلك يرتدى معطفا وتحته جاكتة وبلوفر مما يدل على برودة الجو, فكيف لا يرتدى الكهربانى معطفه.
- وأكد صاحب المقهى المجاور للجمعية أن الليلة كانت قارصة البرد ولذلك قرر إغلاق المقهى.
- وأراد رجال الشرطة القاء التهمة على الكهربائى لأنه ينتمى لجمعية الإخوان....
- قالوا : من غير المعقول أن يمر أمام الجمعية ولا يسمع عن الحادث أو يهتم به ولكن رجال الشرطة اضطروا للإفراج عن الكهربائى إا لم يجدوا دليلا واحدا على صلته بالجريمة.
- وتقدم إلى النيابة الدكتور محمد حسنى عباس مدرس القانون بكلية التجارة بجامعة فؤاد الأول " القاهرة" – المولود بجرجا – صديق الجزار منذ الصبا وزميله فى كلية التجارة قائلا: - كان لدى موعد عند نقابة المحامين فذهبت متأخرا حوالى 8,15 مساء ورأيت سيارة فالتقطت رقمها وهو 9997.
- ... يريد بذلك أن يؤكد الرقم المزيف الذى ذكره محمد وصفى ولاحظ المحقق أن الشهد الجديد جاء بصحبة الرائد توفيق السعيد ضابط المباحث العامة.
- واعتذر عن الإدلاء باسم صديقه الذى جاء من أجله إلى هذا المكان وفى هذا الموعد. ولما سئل عن الأضواء فى الطريق وهل تسمح له بالتقاط رقم السيارة المسرعة أجاب بأن نظره سليم 6 على6!وقبضت الشرطة على كواء فى شبين الكوم اسمه صلاح أحمد بركات اعترف بأنه القاتل فنقل إلى القاهرة وحققت معه النيابة فلما رأى خطورة الاتهام عدل عن أقواله وافرجت النيابة عنه.. بعد حين!
- واعتقلت الشرطة 80 شخصا من الإخوان بحثا عن قتله البنا!
- سئل الليثى:
- هل اعتاد البنا على الذهاب إلى الجمعية بانتظام؟
- أجاب :
- قبل قتل النقراشى كان يلجأ إليها ساعات بالنهار وساعات بالليل أما بعد قتله فلم يذهب المرشد العام إلى الجمعية ليلا....
- بعث جيفرسون باترسون القائم بأعمال السفارة الأمريكية إلى واشنطن بعد 48 ساعة من الأغتيال – أول برقية عن القتلة.
- قال:
- " لم يتم حتى الآن تحديد شخصية القاتل. ولم يتم بالطبع القبض عليه. وتم الإفراج عن أحد المشتبه فيهم عثر على بطاقته الشخصية قريبا من مسرح الحادث واعترف بأنه عضو فى الإخوان المسلمين مما كان مثار خيبة امل البوليس .
- وطرحت عدة تصورات بالنسبة لطبيعة الاغتيال , وبالطريقة السائدة بين الجماهير أن الجريمة ارتكبت على يد أحد عملاء الحكومة انتقاما لاغتيال النقراشى باشا.
- وهناك نظرية أخرى يحبذها تماما رجال الأمن تقول إن الإغتيال قام به أحد أعضاء الإخوان المسلمين إما لأن الشيخ البنا خذل الإخوان المسلمين المعتقلين. وإما لأنه كان على وشك أن يعطى السلطات معلومات متعلقة بإمدادات الإخوان من الأسلحة.
- والنظرية الثالثة
التى تنتشر على حذر تقول إن القصر دبر الشيخ البنا خشية أن يكشف البنا عن طبيعة علاقاته بالقصر.
- وهناك نظرية أخرى قالها أحد كبار موظفى القصر تقول : إن الأغتيال تم على يد شخص يمنى يعمل لحساب الأسرة الماكلة اليمنية انتقاما لمقتل الإمام يحيى فى فبراير 1948 فى المخطط الذىىى قيل إن الإخوان المسلمين شاركوا فيه"
- قال محمد وصفى للماجور سانسوم البريطانى: أعرف القاتل !
- واضاف :
- ولكن لا يمكن تقديمه للمحاكمة الآن. لقد قتل فى اليوم اليوم الثانى للجريمة فى طريق السويس . أطلقت عليه رصاصة فى ظهره مثل الشيخ البنا وانفرجت شفتا وصفى عن ابتسامة باهتة. وقال :
- من السهل أن تقتل أحد لامرءوسين خاصة إذا ادعيت أنك تسعى لتأمين سلامته الشخصية. وفى هذه الحالة تصحبه إلى نقطة نائبه وتطلق عليه رصاصة من الخلف.
- قال السيد الشوربجى محامى الإخوان:
مضى التحقيق الصورى المضحك المبكى فى آن واحد
وقال الإخوان: ماذ يكون الأمر حين تكون الحكومة هى التى دبرت الجريمة.وحين يكون رجال البوليس هم الذين نفذوها.
من الذى يجمع الأدلة إذن ويقدمها للقضاء.
وماذا يكون الأمر حينما تعمل الحكومة على هدم الأدلة الموجودة بين يدى المدنيين من غير رجالها؟
... وتستمر محاولات طمس الحقائق , وتزوير الأدلة فإنها كانت أيام الزيف! الجنازة
اتصل الملك فاروق حوالى الساعة التاسعة مساء بلادكتور يوسف رشاد وقال له: - حسن ضرب بالرصاص وحالته خطرة , ولكنه لم يمت بعد. وقال الدكتور يوسف رشاد إن لهجة الملك دلت على فرحته وارتياحه للحادث.
- وقالت السيدة ناهد رشاد – زوجة الدكتور يوسف رشاد – إن فاروق كان سعيدا جدا يوم الجريمة.
- وقال محمد حسن السليمانى – الأمين الخاص للملك منذ عام 43 – إن فاروق كان متأثرا جدا عندما قتل النقراشى. وعندما قتل البنا لم يظهر أى تأثير. واتصل الملك بحسن يوسف وكيل الديوان فى منزله ... وكان نائما . قال : هل سمعت بالحادث؟ رد حسن يوسف:
- أى حادث؟
- قال فاروق : الشيخ البنا ضربوه بالرصاص. قال حسن يوسف: لا حول ولا قوة إلا بالله!
- نشرت الصحف المصرية حادث اغتيال الشيخ البنا بالعناوين الكبيرة فى الصفحات الأولى. قالت صحيفتنا " الأهرام" المستقلةو" الساس" – الناطقة باسم الحزب السعدى الحاكم – إن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا البنا لأنه كان ينوى ابلاغ الحكومة عن مكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية .
وكان الإخوان المفجوعوون فى قتل مرشدهم يقرأون هذا الكلام ويعجبون له مثل عجبهم للجريمة ذاتها.
- وصفت مجلة " الدعوة" بعد حين مشاعر الإخوان فقالت
" لو كان فى القلوب يومئذ مكان للضحك, لضحك الناس على ذلك.
ولكن كان بالقلوب ما يكفيها من أحزان"!
بدأت " الأساس" رواية قصة الاغتيال فقالت:" منذ أذاع الأستاذ البنا بيانه استنكر فيه أعمال الإجرام التى ارتكبها فريق من الذين انتموا إلى جماعته المنحلة . وهو يتلقى من بعض الأعضاء الذين كانوا معه استفسارات واستنكارات لموقفه.
وأول أمس تلقى خطاب تهديد, من نوع الخطابات التى انتشرت فى اليام الأخيرة فى كل مكان.وعرف أن سبب هذا التهديد الأخير لالبنا أنه أرسل إلى الحكومة كتابين منذ ثلاثة أيام يقول فى الأول منهما إنه استنكر أشد الإستنكار الحادث الإجرامى الذى حاول فيه أحد اتباعهالسابقين نسف محكمة الاستنئاف ويصف هذا الشاب بأنه ليس أخا وليس مسلما.
كما أعرب فى كتابه الثانى عن استعداده لتسليم محطة الإذاعة السرية التى تتحدث باسم الجماعة المنحلة واستعداده لتسليم الذخائر والأسلحة الباقية لدى بعض أعوانه ولم تقع فى يد البوليس حتى الآن.
وكانت " الأساس " تكذب فإن بيان" ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " كتبه الشيخ البنا قبل شهر.
أبرقت السفارة البريطانية إلى لندن فى الرابعة صباحا بوفاة البنا ... مما يدل على أن هذا النبأ يهم الإنجليز ولذلك أبلغوا بالجريمة بع وقوعها وقبل الفجر.
ونشرت صحيفة " التايمس" فى لندن النبأ فى طبعتها الأخيرة كررت الصحيفة البريطانية مزاعم الحكومة المصرية فقالت: " ذكرت التقارير أن الشيخ تلقى أخيرا خطابات بالقتل إذا حاول إفشاء أسرار الجماعة المحظورة إلى السلطات خاصة ما يتعلق منها بمخازن أسلحتهم السرية"
وقال جيفرسون باترسون القائم بالأعمال الأمريكى:" لم تبد وزراة الخارجية المصرية تعاطفا مع القتيل وقال مسئول بالوزارة إن البنا أنشأ وحشا.ووضع رجال الشرطة على أهبة الإستعداد فى جميع أنحاء البلاد توقعا لانتقام الإخوان".
التزم أعضاء هيئة كبار العلماء الصمت بعد اغتيال البنا بينما أصدروا بيانا بعد مصرع لانقراشى أدانوا فيه الاغتيال السياسى.
وأبدت صحيفة " اللواء الجديد" صحيفة لاحزب الوطنى – أسفها للحادث وقالت إن " الشيخ البنا كان يود اغتياله أن يعتكف استجماما من عناء ما كابده فى اليام الأخيرة".
وقالت مجلة الحوادث الوفدية" من كل هذا يبرأ الوطن".
وقال الأمير المغربى عبد الكريم عندما سمع نبأ الجريمة:
" ويح مصر وإخوتى أهل مصر. سفكوا دم ولى من أولياء الله".
ولم تنشر كلمات الأمير – بسبب الرقابة على الصحف - إلا... بعد حين!
غادر اللواء أحمد عبد الهادى حكمدار شرطة القاهرة منزله – عندما سمع بالجريمة – إلى مقر جمعية الشبان المسلمين ثم توجه إلى مكتبه ليستمع إلى تقارير كثيرة من رجاله فى كل مكان.
قالت هذه التقارير – على حد تعبير الحكمدار – إن الجريمة افزعت كثيرا من الزعماء والأجانب وأنه خشى رد فعل الإخوان فينتهزون الفرصة لإحداث اضطرابات خطيرة او ثورة فيفلت الزمام.
ظل فى مكتبه حتى الفجر يوزع قوات الشرطة على أنحاء المدينة لتأمين حالة الأمن العام وعمل الإجراءات اللازمة فى مثل هذه الظروف.وربما كان فى استطاعة الإخوان إحداث اضطراب ولكن كان واضحا أن معظم أعضاء النظام الخاص قد اعتقلوا , كما أن اغتيال المرشد العام جعل باقى الإخوان فى حالة يمكن أن يطلق عليها التعبير الحديث الشائع" انعدم الوزن"!
رأى عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية أن تشيع الجنازة مباشرة من مشرحة القصر العينى خشية أن ينتهز الإخوان المسلمون الفرصة وأعدادهم كثيرة وانتشارهم واسع بالقاهرة وضواحيها, لإحداث خلل بالأمن العام يؤدى إلى نتائج خطيرة.
ولكن والد الشيخ البنا توجه إلى مكتب اللواء أحمد طلعت وطالب بالحاح أن تشيع الجنازة من منزله.
لم يوافق الحكمدار إلا بعد استئذان وكيل الداخلية والمسئولين فى الوزارة وكان الشرط الوحيد المعلن أن تشيع الجنازة فى هدوء... بلا مظاهرات أو هتفات
فى مذكراته قال الدكتور محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ..
نقلت جثة الشيخ حسن من مستشفى قصر العينى إلى منزل والده فى سر من الناس.. ثم أمرت بألا يشيعه , إلى مقره الأخير إلا عدد محدود من أهله المقربين وألا يقام له مأتم يقصد المعزون.
وكانت المحافظة على الأمن , سند الحكومة فى تصرفها".
وصفت صحيفة " الكتلة " الناطقة باسم حزب الكتلة الذى يرأسه مكرم عبيد باشا جنازة البنا فقالت:
نقل جثمان البنا إلى بيته فى سيارة , تحرسها سيارة مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين.. وفى أحد الشوارع الحلمية وقفت القافلة ونزل الجند فاحاطوا ببيت الفقيد ولم يتركوا ثقبا إليه الشك إلا وسدوه بجندى وسلاح!
وقف والد الشيخ البنا , ذلك الرجل الهرم الذى جاوز التسعين عاما, ولم تبد عليه عوامل السنين.
عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط فى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وقيل له أنهم لن يسلموا إليه جثته إلا إذا وعدهم بأن يدفن فى الساعة التاسعة لا احتفال . وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العينى إلى القب.
واضطر إزاء هذه الأوامر إلى أن يعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة منه فى أن تصل جثة ولده إلى بيته ليلقى عليه نظرة أخيرة.
ظل الرجل ساهرا تطحنه الأحزان وقبيل الفجر تتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ.
كان وحده الذى يعلم وينتظر فإن اشقاء الفقيد جميعا كانوا داخل المعتقلات. فتحوا الباب وأدخلوا لجثة متسليين فلم يشهدها أحد من الجيران . ولم يعلم بوصولها سواه.
وظل حصار رجال البوليس مضروبا, لاحول البيت وحده, بل حول الجثمان نفسه, لا يسمحون لإنسان بالإقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد.
وقام الأب نفسه بإعداد جثة زلده وتجهيزها للدفن. فإن أحد من الرجال المختصين بذلك لم يسمح له بالدخول..
ثم نزلت لاجثة حيث وضعت فى النعش وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير.
طلب إلى رجال البوليس أن يحضروا يحملون النعش فرفضوا قال لهم: ليس فى البيت رجال : أجابوا فلتحملها النساء!
وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاف النساء وفى مقدمتهن فتاة قوية صبور تهتف بأبيها:
قر عينا يا ابتاه. فلن نتخلف عن رسالتك . ولئن منعت الحكومة من يشيع جنازتك – وأسفاه لنذالة الحكام – فحسبنا عزاء وجزاء أن أرواح الشهداء تمشى معنا, وتشيع عن أهل السماء , ما عجز عن تشييعه أهل الأرض.
وسارت الجنازة الفريدة فى الطريق فإذا بالشارع كله قد رصف برجال البوليس. وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط . على الظلم المسلح الذى احتل جانبى الطريق!
وعندما وصل الموكب الحزين إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خاليا من الناس حتى من الخدم.. فإن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله. وأمروا من فيه بالإنصراف . كى لا تتم الصلاة على الجثمان.
ووقف الأب أمام النعش يصلى فانهمرت دموعه... فى ابتهالات إلى السماء .
ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعى فوورى البنا التراب وعادالجميع القليل إلى البيت الباكى الحزين...
وعادت النساء الثلاث اللائى حملن النعش على أكتفهن وعاد الوالد الواله الحزين...
وهكذا فى اثنتى عشرة ساعة قتل الشيخ البنا, وشرح, وغسل, ودفن وانطوت صفحة حياته!
ومضى النهار وجاء الليل فحرم على أفراد الأسرة أقامة العزاء وتلاوة القرآن ولم يحضر أحد من المعزين لأن الجنود منعوا الناس من الدخول... أما الذين استطاعوا الوصول للعزاء فلم يستطعيوا العودة إلأى بيوتهم .
فقد قبض عليهم وأودعوا المعتقلات. عدا مكرم عبيد باشا. الذى تعرض لعنت رجال البوليس حين أرادوا أن يمنعوه من واجب العزاء فلم يمكنهم. ودخل البيت وأزجى كلمات العزاء . قال الإخوان إن الحكومة خجلت من القبض على مكرم عبيد لأنه يجوز أن يكون من الإخوان ولكن المقطوع به أنه ليس من المسلمين!
فى كتابه" معتقلات هاكستب" كتب المناضل العربى الذى اتخذ القاهرة دارا له بعد ضياع وطنه محمد على الطاهر:
اقترحت على الحاضرين- فى مكتبى – أن نقوم جميعا ونذهب إلى سرادق التعزية المعتاد فى مثل هذه الظروف, فقالوا
-منعت الحكومة إقامة سرادق العزاء , ولذلك جئنا لنتبادل العزاء عندك وقبيل منتصف الليل لم يبق عندى إلا الكاتب الأديب وكيل وزارة التعليم محمد سعيد العريان, وكان من زملاء الفقيد فى الدراسة فكان يبكى صديقه بكاء شديدا. قلت له:
ما رأيك فى أن نذهب الآن إلى منزل الفقيد لتعزية والده وأهله قال : هيا بنا.ركبنا سيارة الأستاذ العريان فإذا بحى الحلمية لاذى فيه دار المرحوم البنا مظلم الجنبات مطفأ الأضواء. وكانت الدكاكين كلها مغلقة.
أطلقنا الأنوار فإذا بالجنود بألبستهم السوداء يلوحون فى ذلك الظلام كالأشباح , وبأيديهم البنادق مشرعة, وإذا بهم يقفون لنا فى عرض الطريق سدا, ويشيرون إلى السائق بالإتجاه إلى غير اتجاهنا.
وتعجبنا من هذه الاحتياطات . وأوعزنا إلى السائق أن يدور ويدخل المنطقة من شارع آخر وليكن ما يكون.
ولكن الشرطة لم تسمح بالحركة إل إذا عادت السيارة من حيث أتت وإلا!.... وإلا فإنهم يطلقون علينا النار . وعند ذلك رجعنا ونحن نحمد الله على أنهم اكتفوا منا بالرجوع"!
فى مذكراته قال الماجور سانسوم ضابط الأمن بالسفارة البريطانية " إن كل الإجراءات التى اتخذت لمنع المظاهرات بعد اغتيال البنا , وفى الجنازة, ثم تخطيطها قبل عدة أسابيع"!
بعث جيفرسون باترسون القائم بأعمال السفارة الأمريكية إلى واشنطن يقول:
" تم فى هدوء دفن الشيخ البنا. وهذا الدفن السريع ليس له سوابق حتى فى مصر التى يقضى فيها القانون بدفن الجثة خلال أربع وعشرين ساعة من الوفاة. وقد تم تحت ضغط الحكومة التى خشيت أن تكون الجنازة العامة للرجل مناسبة لأتباعه والمتعاطفين معه للتجمع وتعكير الأمن. وأحاطت حراسة الشرطة المشددة بالنعش من المشرحة إلى المسجد .
وأعلنت حالة الطورئ بين قوات الشرطة فى أنحاء البلاد ووضعت قوات الأمن فى حالة تأهب".
قال عباس السيسى فى كتابه " البنا. مواقف فى الدعوةوالتربية": " رد الأطار الطاهر والجسم العزيز إلى أهله ليخرج البنا من الدنيا متواضعا يسير المظهر. كما دخلها , وكما عاش متواضعا يسير المظهر. وساهمت الحكومة المتحضرة فى هذا التواضع واليسر فحرمت على المشيعين أن يقربوه ورأى الناس يومئذ عجبا فى الجنازات.
وفى وحشة الشارع المقفز من الغادى والرائح , إلا من هذه الجنازة المتمهلة الفريدة ارتجت المنازل على الجانبين وأجهشت النوافذ والشرفات بالبكاء, وهم يرون البنا العظيم, يحمل على كتف زوجته وأبنته إلى مقره الأخير"!
بقى ما وقع أثناء الجنازة وبعدها من حوادث أدت إلى اعتقال مئات من الناس لأسباب غريبة تكاد لاتصدق.
حشر المعتقلون حشرا فى غرفة ضيقة باردة عفنة هى سجن نقطة الإمامين القريبة من المقابر.وهذه بعض أسباب الإعتقال:
هذا الشاب الذى يلبس رباط عتق أسود – كرافتة – حداد على أبيه المتوفى قبل أيام . أدرك رجل البوليس بفطنته أنه يلبسها حدادا على اشليخ البنا.
واستبعدت فطنته أن هناك سببا آخر دفع الشاب غلى لبس الكرافتة السوداء, فهو غذن, من غير شك, من أشياع البنا ومريديه الذين كنت تتعقبهم السلطات تنطكل بهم أسوأ تنكيل. وقد أودعوه السجن ثم المعتقل.
وذلك الرجل...
ضبطه رجل البوليس يتمتم بالفاتحة من إحدى النوافذ أثناء سير جنازة الشيخ الرهيبة, فصعد إليه واقتاده, من بين أطفاله وزوجته, والسلاح فى ظهره مستعد ليسكته إذا حاول الفرار أو المقاومة... وفى محضر البوليس سألوه عن صحة التهمة وهل قرأ الفاتحة حقا على روح الشيخ البنا... أجاب بالإيجاب. هنا ا ازدحمت الأكف والقبضات والأقدام فوق وجهه وجسمه وعادوا يسألونه :
ولماذا قرأت الفاتحة ؟فأجاب الرجل : من شعائر الدين أن نقرأ الشهادتين عندما يمر ميت ونقرأ الفاتحة على روحه.
صرخ أحد رجال البوليس, وقد استقرت يده على وجه المسكين لتصافحه بحرارة, وهو يقول :
كان لازم تعمل حنبلى النهاردة يا ابن....صاح المتهم البرئ الذى كان احترامه لشعائر دينه ذنبا لا يغتفر قائلا: وهل فى قراءة الفاتحة جريمة يعاقب عليها القانون؟ ومرة أخرى ..
ازدحمت الكف والقبضات والأقدام فوق وجهه وجسمه. وأغمى عليه..
وافاق ليجد نفسه فى اغرفة الباردة العفنة, مع عشرات آخرين . لإرساله إلى المعتقل بلا محاكمة.
ولقد خلع حامد جوده رئيس مجلس النواب .. السواد على النقراشى باشا فى ذلك اليوم بالذات. ولم يكن قد انقضى على مقتل النقراشى باشا أكثر من ثلاثة وأربعين يوما.
وشن البوليس حملة عنيفة على المساجد فى العاصمة.
وقبل أن يغشى الظلام مدافن الإمام الشافعى, كانت ثلة من الجنود تحاصر الطرق المؤدية إلى المقبرة وقوات كبيرة تحيط بمنزل الفقيد لتمنع الداخلين ولو كانو من مرتلى آى الذكر الحكيم. وتقبض على الخارجين , ولو كانوا من جيران الراجل الكريم!
واشيع ذات مساء أن بعض أصدقاء الشيخ البنا آلمهم أن يدفن الرجل بهذه الصورة المزرية المؤلمة. فاعتزموا اختطاف الجثة من قبرها واخفائها عين أعين البوليس . طير الخبر إلى السلطات المختصة. فأمرت بمضاعفة الحراسة, والتأكيد من كل شخص يمر بالطرقات المؤدية إلى مدافن الإمام الشافعى.
وكان الجنود المسلحون يتناوبون الحراسة بعيون يقظة خوفا من أن يتمكنوا من سرقة الججثمان البنا الذى مزقته الجريمة! فخصصوا فرقا من رجال البوليس للسهر عليه وحراسته خشية أن ينقل الجثمان إلى مكان يليق بمقامه!
وابى – من بيدهم الأمر – إلا أن يضطهدوا الرجل فى موته .. وإلا أن يحرسوه من عندهم . وفى الليلة التى ظنوا أنها موعد تنفيذ المؤامرة الخيالية – مؤامرة خطف الجثمان – امتلأت مقابر الإمام برجال البوليس لأول مرة .
وكان رجال البوليس كلما اشتبهوا, فى شخص أو جماعة, من لامارة أوقفوهم وفتشوهم. وسألوهم إلى أين هو ذاهبون.. فإذا اطمأنوا إليهم . سمحوا لهم بالإنصراف وإذا ارتابوا فيهم قبضوا عليهم واودعوهم المعتقلات!
ولمح نفر من رجال لابوليس بعض الناس يحملون نعش ويسيرون به بين المقابر ولعلهم كانوا قد قدموا به من مكان بعيد فلم يدركوا المقابر إلا بعد الغروب. وفوجء المشيعون بأسلحة تلمع فى الظلام وأصوات تأمرهم بالوقوف وبوضع لنعش على الأرض للتحقيق من الميت!
ورفع أحد الجنود غطاء النعش وسلط عليه ضوء مصباح كهربائى فى يده ثم أمرهم بإعادة الغطاء وأن يمضوا فى طريقهم... بعد أن تبين الجندى أو وجه الميت يختلف عن وجه الشيخ البنا! وقدر للأموات أن يلقوا نصيبهم من الظلم الذى حاق بالأحياء .. وهكذا ظلت المقابر تنعم بالراحة والدوء . منذ قديم الأزل حتى جاء ذلك العهد فلم يسلم من ظلمه وجوره وجهله, حتى الأموات , الذين هم فى رعاية الله وبين يديه".
لم يعرف شعب مصر فى تل الأيم إلا أن البنا قتل وأن جنازته شيعت من داره فى الحلمية وصلى على الجثمان فى جامع قيسون .
.. أما الوصف الذى كتبه مأمون الشناوى بدون توقيع , فى جريدة " الكتلة" فإنه لم ينشر إلا فى 11 من نوفمبر 1949 أى بعد تسعة شهور من الجريمة...
لأن الرقابة على الصحف كانت قائمة يوم الجريمة!وظلت الرقابة على الصحف , وعلى القبر مستمرة حتى استقالت وزارة إبراهيم عبد الهادى! وقالت صحيفة المصرى فى – نوفمبر 49 أيضا – إن الحكومة منعت تلاوة القرآن الكريم أثناء دفن الشيخ. وقال الإخوان غن الملك فاروق توجه إلأى القصر العينى ليرى البنا قتيلا. ولكن لا يوجد ما يؤكد هذه الرواية.
وقال محمد الجزار فى التحقيقات التى تمت بعد الثورة إن عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية توجه فى اليوم التالى للجريمة إلى قصر عابدين فقابلوه بالعناق والتبريك.
بعد أسبوعين من اغتيال البنا قابل السفير البريطانى السير رونالد كامبل الملك فاروق. قال السفير:
اعتقد أن الجريمة كانت من فعل اتباع البنا المتطرفين ممن يخشون أو يرتابون فى أنه يفرط فى الأمور بسهولة.
واضاف : هل تعتقد جلالتك أ، الجريمة من فعل السعديين بدافع الانتقام؟ رد فاروق قائلا: إنها بالتأكيد من فعل السعديين بدافع الانتقام وليس من صنع الإخوان المسلمين.
قال ريتشارد ميتشيل فى كتابه "الإخوان المسلمين"." إن عملية الاغتيال كانت مخططة أو على الأقل تم التغاضى عنها من جانب رئيس الوزراء , ربما بدعم من القصر , ونفذت عن طريق البوليس السياسى". بعد ثورة 23 يوليو قال العميد احمد كامل قومندان شرطة القصور الملكية إنه يعتقد ن الجريمة تمت لحساب الملك والحكومة.
قال التقرير السنوى للسفارة البريطانية تعليقا على اغتيال الشيخ البنا:
" هناك أسباب تدعو إلى الشك فى أن الحكومة لم ترفض استخدام وسائل أعدائها الإرهابيين. والاعتقاد بأنها فعلت ذلك ينتشر على نطاق واسع بالنسبة لاغتيال البنا"ز
وقال المقدم طه زغلول المفتش بإدارة المباحث بوزارة الداخلية – بعد الثورة أيضا إنه سمع إشاعات كثيرة بان عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية قام لجريمة ارضاء للملك فاروق.وسألأت عمر التلمساني المرشد العام للإخوان عن رأيها فيمن قتل البنا وأجبا بكلمة واحدة. فاروق
قلت: وإبراهيم عبد الهادى
قال: لا يستطيع وحده ارتكاب الجريمة.
إن رجال عبد الهادى أعلنوا أنهم يطلبون الثأر وربما كان هناك تحالف بين الملك ورئيس حكومته. كتب جيفرسون باترسون الوزير الأمريكى المفوض فى القاهرة.
" يوجد ترحيب فى أوساط ال{اى العام بزوال الشيخ لبنا من المسرح وإن كانت هناك خشية من أن يؤدى مقتله إلى عودة الأنشطة الإرهابية من جديد لأن اختفاء البنا بكل ما كان يتمتع به من سلطة مطلقة على الإخوان المسلمين ومن طموح غير محدود يعنى زوال شخصية اختلف لاناس عليها حيث يسهم ذلك فى استتباب الأمن من جديد بعد أن تتبدد آثار صدمة اغتيال البنا من نفوس أتباعه".حفل تاريخ مصر بزعماء كثيرين منهم أحمد عرابى وجمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده وعبد الله النديم ومصطفى كامل وعبد لاعزيز جاويش وسعد زغلول.
وكان البنا واحدا من هؤلاء أو حلقة من حلقات هذا العقد الفريد من المناضلين.وقد اضطهد الزعماء. وسجن بعضهم ولكن البنا كان الوحيد بينهم الذى انتهت حياته بالإغتيال. قال بعض المؤرخين إنه كان دائما فى عجلة من أمره .
وقالوا إنه خسر المعركة لأنه خرج للعلن وأذاع أهدافه بسرعة وقالوا إنه لقى مصير اثنين آخرين من الزماء اغتيلا قبله وهما أحمد ماهر والنقراشى ولكن حركتهما والاغتيالات التى قيل أنهما اشتركا فيها كانت موجهة ضد الإنجليز وحدهم. أما بالنسبة للمرشد العام فغن حركته كانت ضد المصريين أيضا. وكانت صراعا من طبقة ضد طبقة أخرى.
وقالوا إنه ما دام قد لجأ للعنف. عن طريق الجهاز السرى. فلابد أن يلاحقه العنف! قبل وفاة المرشد العام سلأه أحمد أنس الحجاجى أحد أعضاء الجماعة
لماذا لا نختار الرجل الثانى... أعنى من يلى الأمر بعدك.
أجاب على الفور :لا... وإن قلت لى أن أبابكر اختار عمر..ز فلست بأبى بكر ... وليس فيكم عمر. وأضاف : الموقف هو الذى سيخلق الرجل لكل موقف رجل .ولاتستطيع أبدا أن " تصنع " رجلا معينا ليلبس موقفا معينا.فى مقال لجريدة " التايمس" قال مراسل الصحيفة فى القاهرة.
" أهم ما يميز الأحزاب السياسية المصرية أها تعتمد على زعيم أكثر من اعتمادها على مبدأ واعتمادها على شعائر بدلا من برنامج.. فالوفديون موالون النحاس والكتلة الوفدية لمكرم والبنا هو زعيم الإخوان المسلمين. والسير على خطى الزعيم هو بمثابة القيام برحلة طبقا لأوامر لا رجعية فيها ولا أحد سوى القبطان يعرف أدنى فكرة عن وجهة الرحلة ولا يزال السحر فى اسم الزعيم".
وقال الكاتبان الفرنسيان أوليفية كارى وجيرار ميشو:
" وأهم ما يميز حركة الإخوان منذ البداية الولاء المطلق للمرشد العام. ففى عام 1939 قال أحد مسئولى الجماعة للمرشد العام: - خذ بنا حيث تشاء .
وفى قرارات لاجمعية التأسيسية كلها كانت البيعة شخصية للمرشد العام كما أن الجهاز التنفيذى للجماعة كان محصورا فى شخصية " وفى رسالته الجامعية قال حمادة محمود إسماعيل. اعتمدت الجماعة فى تنظيمها على لامركزية الشديدة . واستمد البنا سلطاته من خلال تأثيره الشخصى, والقوانين التى حددت وضعه داخل الجماعة وقد استطاع بسلطته هذه. وبتأثيره الشخصى أن يمتص فعالية اللوائح والقوانين الخاصة بالجماعة"
وفى بحثه قال الضابط الكندى هاردى إن وفاة البنا كانت أكبر ضربة بل هى ضربة صاعقة للإخوان بالمعنى الحرفى الكلمة.
ولم يكن هناك شخص يملأ – فى الحال – مكان البنا. وكان هذا هدف الجريمة الأول!
سمع أحمد أنس الحججى عضو الجماعة – وكان معتقلا فى الطور – باغتيال المرشد العام فقال لزملائه لامعتقلين معزيا نفسه وإياهم:
تصوروا تفاهة الموقف لو مات المرشد العام على فراشه , تصوروا مهمتنا ونحن نشيعه إلى مثواه الأخير ثم نعود. تصوروا كل هذا وقارنوه بما اختاره الله .. شهادة فى جنح الظلام . وملك فاجر يعبئ القوى الماكرة كلها لقتل رجل أعزل وجنازة تحرسها الدبابات.. لتشيعها الملائكة! الملك السجين
امتنع فاروق عن الظهور فى أى مكان أو الصلاة فى المساجد. وأعلنت الحكومة عن مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يرشد عن محمد مالك يوسف مالك الموظف بمصلحة التليفونات – 27 سنة – أحد المتهمين بالإشتراك فى اغتيال النقراشى الذى اعترف عليه القاتل عبد المجيد أحمد حس . ولكن المفوضية الأمريكية قالت إن الإخوان عهدوا إلى محمد مالك باغتيال صاحب الجلالة نفسه.
... وهذا هو السر فى رصد مكافأة لاعتقاله .
لم يهدأ الإخوان بعد اغتيال البنا وزعوا المنشورات ضد الملك والحكومة. بعد 9 أيام من الجريمة بعث جيفرسون باترسون القائم بالأعمال الأمريكى إلى واشنطن أول هذه المنشورات وقد وقعت صراحة باسم " الإخوان المسلمون" قال المنشور وعنوانه " حكومة فاجرة تغتال زعيما إسلاميا" " سقط البنا ضحية لمؤامرة جهنمية دبرها أولئك الذين فى السلطة من هو الشهيد القتيل ومن هم الجناة؟
الشهيد رجل ظل يدعو الناس إلى الإسلام على مدى عشرين عاما. وراح يحاول نشر روح الحرية والإخاة والمواساة التى يضمنها كتاب الله " القرآن الكريم" أما الجناة المرمون . فهم شياطين يشبعون شهواتهم على حساب الشعب.
هم أولئك الذين منحوا التراخيص للعاهرات. ونظموا وأشرفوا على بيوت الدعارة وسمحوا ببيع الخمور وترددوا على المواخير. وأباحوا الربا وقبلوا الرشوة وسخروا من الفضيلة وأرسلوا نساءهم إلى الملاهى والمراقص العامة. اغتالوا البنا لأنه كان خطرا عليهم يهدد بتقويض سلطتهم ولكن ليعلموا أن البنا ترك خلفه جيشا جيد العدة وكتائب جيدة التدريب. وستتعقب ونطارد هذه العصابة من الآثمين , وسنكبح جماح كل رأس متغطرس وسنلوى كل عنق يتيه خيلاء.
فليسعوا إذن للإختباء فى أنفاق فى أعماق الأرض . أو ليتسلقوا درجا إلى السماء فما من قلعة محصنة أو قصر منيع سينقذهم . وستتحقق كلمة الله فيهم . والله لهم بالمرصاد".
قال جيفرسون باترسون الوزير المريكى لمفوض تعليقا على هذا المنشور فى برقية إلى واشنطن: " هناك ميل بين قطاع معين من الإخوان المسلمين لإلقاء مسئولية الاغتيال على عاتق رئيس الوزراء مباشرة . ويعتمد هذا الإتهام على الطبيعة الإنتقامية التى يتصف بها عبد الهادى باشا. وعلى كفاءته فى تنظيم المظاهرات والجرائم السياسية فى اليام الأولى للنضال الوطنى ضد البريطانيين. ويذكر فى هذا الصدد أن البريطانيين كانوا قد سجنوا عبد الهادى باشا لاشتراكه فى الأنشطة السياسية". ... يقصد باترسون بذلك اتهام إبراهيم عبد الهادى عام بالإشتراك فى اغتيال السردار البريطانى السير لى ستاك. بعد يومين اغتيال المرشد العام طلب إلى الإخوان لامسلمين المتطوعين فى فلسطين تسليم معسكرهم إلى الجيش لامصرى وجاءت السيارات تحملهم إلى عنبر فى رفح لقضاء الليلة فيها وفى اليوم التالى وجدوا الاسلاك الشائكة وقد أحاطت بالمعسكر فقد رأت السلطات المصرية اعتقالهم خوفا من الانتقام.
أنشأ اللواء فؤاد صادق القائد العام للقوات المصرية فى فلسطين معسكرا حاصا للإخوان قائلا: لا أنسى فضل هؤلاء الشباب على مصر والعروب.
واعتقل معهم, فى المعكسر نفسه, بعض شباب الأقباط الذين حابروا معهم!
طلب كامل الشريف من اللواء فؤاد صادق الإفراج عن الأقباط قائلا: نحن مسلمون . فما ذنب الأقباط؟ لم يجد القائد العام ما يرد به فقال ضاحكا:
هل تريد غقناعى بأن قبطيا يبقى معكم ستين ويظل على دينه؟! ومع ذلك لم يستطع القائد العام الإفراج عن الأقباط إلا بعد وقت طويل ونقل المعتقلون إلى معسكر آخر فى يونيو. ولم يفرج عنهم إلا بعد إستقالة إبراهيم عبد الهادى.
وعندما اختلف جمال عبد الناصر مع الإخوان أصدر فى 23 من سبتمبر 1954 قرار باسقاط الجنسية عن قيادات الجماعة : سعيد رمضان وسعد الدين الوليلى ومحمد نجيب جويفل وكامل الشريف قائد الإخوان فى حرب فلسطين. وقد رحبت سوريا بهم لاجئينن سياسيين.
وبقى كامل الشريف فى القدس . وظل فى الأردن خمسة عشر عاما تخللتها تقلبات كثيرة منذ أمر جلوب باشا بطرده من القدس , وعاد إليها بعد طرد جلوبواشتغل بالصحافة والنشر وعمل سفيرا للأردن عشرين عاما فى ألمانيا الغربية واليابان وباكستان ونيجيريا والصين الوطنية . واختير وزيرا ثمانى سنوات وأصبح عضوا بمجلس الأعيان ثم ناشرا لصحيفة " الدستور الأردنية".
ووافقت مصر على مساعى الحكومة المريكية بالتفاوض مع الإسرائيليين لعقد هدنة دائمة بين البلدين. جرت المفاوضات بين وفدى البلدين فى فندق" الورود" فى جريدة رودس البريطانية واستمرت ستة أسابيع وعندما اجتمعت الوفود الثلاثة معا كان الوسيط الدولى يجلس فى الوسط والوفد الإسرائيلى إلى يمينه والمصريون إلى يساره,
وكان المصريون يخاطبون بانش كما لو أن الاسرائيليين لا وجود لهم وكان هدف المصريين إنقاذ القوة المصرية المحاصرة فى الفالوجة . وقد رفض الاسرائيليوهن فى البداية لاسماح بادخال الطعام والأدوية ثم سمحوا بها.
وفى المقابل وقع اتفاق لوقف اطلاق النار كمرحلة تسبق الهدنة. واقترح بانش وسيط الأمم المتحدة عقد هدنة بالشروط التالية:
(أ) تنسحب القوات المصرية المرابطة فى الفالوجة فى اليوم التالى لتوقيع الهدنة.
(ب) تنسحب جيوش البلدين غلأى الخطوط التى حددها الوسيط.
(ت) تصبح بئر سبع وبئر العصلوج والعوجة مناطق محايدة تحت إشراف الأمم المتحدة عند انسحاب القوات المتحاربة منها.
(ث) تصبح بير سبع مركز قيادة لجنة الهدنة المشتركة بينما تصبح العوجة وبئر العلوج مراكز قيادة مساعدة.
(ج) تخفض القوات المصرية فى قطاعات غزة ورفح وبيت لحم والخليل لتصبح قوات دفاعية فقط بينما تظل القوات الهجومية المصرية فى المنطقة الواقعة شرق العريش.
(ح) تصبح القوات الدفاعية الاسرائيلية مساوية للقوات الدفاعية المصرية فى منطقة غزة ورفح وكذلك مساوية للفيلق العربى فى قطاع بيت لحم – لاخليل.
ويرفض اليهود ابقاء بئر العصلوج والعوجة منطقتين محايدتين ويصران على احتلالهما... ومع أن قرارا الأمم المتحدة فى 4 من نوفمبر 1948 يعطى مصرا الحق فى العودة للمنطقتين.
وتوافق إسرائيل على رفع الحصار عن القوات المصرية المحاصرة فى الفالوجة وانسحاب القوة المصرية منها. وتنازلت إسرائيل عن احتلال قطاع غزة.
وتوقع مصر يوم 24 من فبراير 1949 على اتفاقية الهدنة الدائمة التى استندت إلى الوضع العسكرى على أرض فلسطين !! بعد 12 يوما من وفاة المرشد العام!
ويكتب السير سارجنت الوكيل الدائم للخارجية البريطانية قائلا:
" لا تعرف كيف ستتبلور السياسة المصرية نتيجة الفشل فى فلسطين, وكيف سيتىثر وضع الملك شخصيا؟" بعد ستة أسابيع من اغتيال البنا عاد الملك فاروق للظهور فى المجتمعات العامة كما تقول البرقية رقم 50 التى بعث بها السير روزنالد كامبل إلى لندن قال: "قام فاروق بعمل نادر الحدوث بظهوره أمام الجمهور فى أول مارس 1949 حين افتتح رسميا المعرض الزراعى الصناعى الذى نظمته الجمعية الزراعية الملكية المصرية. وتم اتخاذ احتياطات امنية بالغة لتأمين حياة جلالته".
وصفت صحيفة التايمس البريطانية – يوم 7 من مارس – المعرض يوم الزيارة الملكية فقالت إنه كان خاليا تماما من الناس و كما أخليت أيضا الشوارع المؤدية إليه. وفتش رجال الشرطة الحوانيت التى بقيت مفتوحة.
وقالت التايمس إنه تحت الهدوء الظاهرى الذى يسود مصر توجد دولة بوليسية اتخذت كل إجراءات الأمن كما لو أن البلاد فى حالة حرب.
وأضافت الصحيفة أن الحكومة تخشى انقلابا عسكريا أو ثورة تقوم بها الخلايا السرية لجماعة الإخوان المسلمين المنحلة . ولا يعرف عدد المعتقلين.
وتراقب السفارة الأمريكية ايضا الإخوان المسلمين.قالت برقية جيفرسون باترسون القائم بالأعمال الأمريكى بمناسبة افتتاح مقر جديد لمصر الفتاة.
" يتسرب أعضاء الإخوان حاليا إلى صفوف مصر الفتاة : وشوهد عدد كبير منهم يلعبون دورهم الجديد كأعضاء فى مصر الفتاة يرددون هتافهم المألوف .. الله أكبر ولله الحمد".وتوجه فيليب ايرلاند السكرتير الأول للسفارة الأمريكية للقاء محمد كامل سليم بك السكرتير العام لمجلس الوزراء فلاحظ شدة إجراءات واحتياطات الأمن حول بيته والمكاتب الحكومية فسأل عن الموقف الأمنى,.
قال سكرتير مجلس الوزراء يوم 11 من مارس 1949 إن جماعة الإخوان المسلمين الارهابيين كسرت. وتسيطر الحكومة الآن على الموقف . رفض ايرلاند أن يسألأه عن السر فى تشديد الاحتياطات الأمنية حول بيته والوزارات والمصالح واكتفى بقوله:
هل هناك خطر من أن يظهر زعيم آخر مثل الشيخ البنا ليتولى مسئولية تنظيم الإخوان القائم . وخاصة فى الأقاليم. هز كامل سليم رأسه نفيا فى حزم . وقال : ذلك مستحيل. وإذا وجد مثل هذا الرجل فهو أمر مشكوك فيه. ولن تسمح الحكومة مرة أخرى لفرد أن يحوز مثل هذه السلطة.
فى بحثة قال الضابط لاكندى هاردى:" لم يفعل إبراهيم عبد الهادى شيئا لتخفيف صرامة لخطر الذى فرض على الإخوان".
كان النقراشى قد اعتقل 487 من الإخوان ولكن عددهم ارتفع فى عهد إبراهيم عبد الهادى إلى 1688 كما تقول الاحصاءات الرسمية. وكان عدد المعتقلين من اليهود 315.
ولكن ميتشيل قال إن معتقلى الإخوان وصل 4000.
وفى اثناء محاكمة المتهمين باغتيال البنا قال عبد القادر عودة المحامى ووكيل الجماعة إن خقيقة الرقم 6000 وكان الخوف دافعا إلى الاعتقال لشبها تافهة وهذه القصة تعبر عن ذلك: اعتقل عضو فى جمعية الشبان المسلمين وساقوه إلى القسم وهناك قال الشرطى: أنتم اعتقلونى ولست من الإخوان المسلمين , ولكنى من الشبان المسلمين رد الشرطى قائلا: كلكم مسلمون : خذه يا عسكرى دخله السجن
هذه قصة أخرى
كان أحد أعضاء الجماعة واسمه عبد البديع صقر ودودا يحب التعرف إلى الناس.
وفى أثناء ركوبه القطار كان يقدم نفسه للركاب فيقدمون أنفسهم إليه وجرت عادته أن يكتب أسماء هؤلاء فى نوتة خاصة عرفت باسم " نوتة القطار" فلما قبض على عبد البديع ضبطت النوتة واعتقل رجال الشرطة كل الأسماء التى وردت فيها!
وجرت عدة معارك بين رجال الشرطة والإخوان فى أثناء عمليات الاعتقال وجرى تبادل اطلاق النار فى بعض الحالات.
وجد منشور يصف وحشية رجال الشرطة أثناء عمليات الاعتقال وجلد رجال الشرطة ظهور كثيرين من الإخوان وخلعوا أظافرهم وأدموا أجسامهم, وكانوا يعتقلون من البيت الواحد أربعة أخزو وثلاثة أصهار. وقدموا للمحاكمة أشخاصا لم يرتكبوا جريمة إلا أنهم يد المساعدة لأحد بيوت الإخوان التى هى فى أشد الحاجة لهذه المساعدة
قال صالح عشماوى وكيل الجماعة: " تعرض تلاميذه وأتباع البنا فى عهد فاروق . لأشد فتنة وأعظم بلاء وانصب عليهم من الإضطهاد والعذاب ما لو سلط على جبل لاندك وانهار.
تعرضوا للسجن والتشريد والضرب الوحشى وحوربوا فى أرزاقهم وهددوا فى أعراضهم وسقط شهداؤهم واحدا بعد واحد".
ورغم ذلك بقى إبراهيم عبد الهادى خائفا. قرر فى 13 من مايو مد الأحكام العرفية عاما آخر وكانت هذه الأحكام قد فرضت فى 13 ممن مايو 1948 لضمان امن الجيش المصرى وإمدادته فى حرب فلسطين ووالت الحكومة اعتقال الشيوعيين أيضا.ولم يدخل عبد الهادى مبنى وزارة الداخلية سوى ثلاث مرات خلال الشهور السبعة التى عاشتها وزارته فقد قتل زعيم حزبه... أحمد ماهر داخل البرلمان ومحمود فهمى النقراشى فى وزارة الداخلية.
وكتبت السفارة الأمريكية إلى واشنطن تقول:
على الرغم من توقف الأعمال العسكرية فى فلسطين فإن قرار مد الأحكام العرفية يشير إلى أن الحكومة والسراى ليستا متلهفتين على التخلى عن المزايا التى تتمتعان بها حاليا بفضل سلطاتهما الاستثنائية.
وصرح رئيس الوزراء بأن الرأى العام المصرى لابد أن يكون مستعدا لقبول تشريع أمنى دائم يحل الأحكام العرفية القائمة حاليا وعرض على البرلمان بالفعل مشروع قانون لمكافحة الشيوعية "و" الأنشطة التخريبية".
ولدى السفارة دلائل على أن الحكومة أو السراى تسعى إلى إقامة نظام دائم أكثر استبدادا تحت ستار إدارة المعركة لاخارجية ضد إسرائيل والمعركة الداخلية ضد الإرابيين.
وهناك احتمال بأن تصبح مصر قل ديمقراطية".
رغم هذه الاحتياطات الأمنية فلم تتوقف العمليات الانتقامية ضد رئيس وزراء مصر أو صاحب الجلالة. حاول بعض الإخوان تجربة اغتيال النقراشى بقتل إبراهيم عبد الهادى فى 25 من مايو فاستأجروا شقة بمصر القديمة تطل على طريق موكب رئيس الوزراء وألقوا القنابل على سيارته ولكن كان يستقلها حامد جودة مجلس النواب الذى أفلت أيضا من الموت.أدى هذا الحادث إلى زيادة الاجراءات التعسفية التى اتخذتها الحكومة ضد الإخوان .
وثبت حضور رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى بعض حوادث التعذيب وكان المعذب يطلب شربة ماء فلا يجاب إلى طلبه.
وكانوا يحرمون المتهمين من الطعام ويمنعون طبيب السجن من معالجة المرضى منهم.
ويهددون المعتقلين من الإخوان بالإعتداء المشين عليهم.
وبلغ الظلم مداه إلى احتلال بيوت وليس فيها غير النساء كما أعلن ذلك عبد القادر عودة فى مرافعته فى قضية اغتيال المرشد العام.
وأغلقت مصر جدودها مع ليبيا لأن سلطاتها رفضت تسليم ثلاثة من الإخوان المتهمين فى الحادث. لجأوا إلى قصر الأمير إدريس السنوسى وهم محمود يوسف الشربينى وعز الدين إبراهيم وجلال أبو سعده. ويستدعى رئيس الوزراء لمقابلته البكباشى جمال عبد الناصر ويحضر اللقاء اللواء عثمان المهدى رئيس أركان حرب الجيش. حذر رئيس الوزراء الضابط الذى اصبح بعد ذلك رئيسا لجمهورية مصر .
من أى نشاط أو ارتباط بالإخوان المسلمين. واتهمه بالإشتراك فى تنظيم سرى داخل الجيش.
دافع عبد الناصر عن نفسه بأنه كان فى كان فى فلسطين خلال الفترة من مايو 1948 حتى مارس 1949 ولذلك كان من المستحيل عليه ذلك.
قصد إيرلاند سكرتير السفارة الأمريكية إلى إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس وزراء مصر يودعه بمناسبة سفر إيرلاند عائدا إلى بلاده.
كان اللقاء فى 16 من مايو 1949 بعد أيام من محاولة الاعتداء على حامد جودة رئيس مجلس النواب.
قال عبد الهادى باشا لسكرتير السفارة الأمريكية عندما سأله عن الإرهابيين:قام رجال الشرطة بعملهم على أفضل وجه ممكن. وأعرب عن سروره لأن الاثنى عشر رجلا الذين حاولوا الاعتداء على حامد جودة فى 5 من مايو تحت تصور أنها سيارة رئيس الوزراء تم القبض عليهم ومنهم 11 شخصا قبض عليهم بعد الحادث مباشرة وفر واحد فقط وتم اعتقاله!!
وقال : ستواصل الشرطة استئصالها لهذه العناصر. سأله ايرلاند:
هل هناك قرائن بأن عناصر بجانب الإخوان متورطة فى النشاط الإرهابى؟
أجبا رئيس الوزراء :
أعتقد أن جبهة خارجية ترسم الخطط وتقدم الأموال والتنظيم للإخوان المسلمين.
أخذ ايرلاند يضغط على رئيس وزراء مصر – كما قالت برقية جيفرسون باترسون القائم بأ‘مال السفارة المريكية بالقاهرة – لتقديم دليل على ما يقوله. أجاب رئيس وزراء مصر:
من الصعب الادلاء بقرينة محددة ولكن نموذج فتيل التفجير الذى يستخدمونه ليس معروفا فى مصر.
وقال: ربما يكون الاسرائيليون قد ساعدوا فى تنظيم أ أنشطة محتلفة فى مصر لاحراج الحكومة!!وهكذا أراد رئيس وزراء مصر الإيحاء بأن الإخوان , الذين حاربوا اليهود فى فلسطين, متورطون ويتعاونون مع اسرائيل فىعمليات الإرهاب ضد لحكومة مصر!
فى 7 من يونيو كتب السير رونالد كامبل إلى لندن فى البرقية رقم 99:
" تم القبض على مزيد من أعضاء جماعة الإخوان لامسلمين المحظورة وبين المعتقلين فى الآونة الأخيرة طالب يشك فى اشتراكه فى مصر ع سليم زكى باشا رئيس بوليس القاهرة فى ديسمبر الماضى.
وتحدثت التقارير عن أموال يتم جمعها ظاهريات لمساعدة اسر الإخوان المعتقلين وتهدف – فى الواقع – إلى تشجيع أنشطة الإرهاب فى المجتمع ويقول مراقب مصر. كان فى منطقة القناة مؤخرا إن هناك تأييدا قويا للإخوان فى المنطقة".
توالت الاتصالات بين الوفد والقصر.
قال فؤاد سراح الدين باشا يوم 30 من مايو 1949 لحسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكى بالنيابة: الوفد يطلب ن القصر ضمانا لحرية الانتخاب. أجاب حسن يوسف باشا:
سبق أن صرح رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى باشا بأن الأحكام العرفية سيقتصر سريانها على شئون الأمن فقط طوال فترة الانتخابات انتقل الحديث إلى العلاقات بين القصر والوفد فقال فؤاد باشا: للملك طلبات كثيرة. أجاب حسن يوسف: الملك يشترك فى شئون الحكم بمقتضى الدستور وله نصيب فى السلطة التشريعية والتنفيذية.
واضاف: متى توافر جو التفاهم فإن هناك دائما حل الوسط . عرض حسن باشا على الملك مضمون اللقاء فأبدى ارتياحا ولكن إبراهيم عبد الهادى باشا أبدى شيئا من العتاب فرد عليه حسن يوسف:
- أبواب الديوان الملكى مفتوحة أمام المعارضة , كما هى مفتوحة أمام الوزارة! واستمرت الاعتقالات والبحث عن الإخوان شهورا أخرى..وتعيد وزارة الخارجية البريطانية تقييم الموقف فى مصر وهل من مصلحة بريطانيا التدخل لعودة الوفد.نصح كلاتون مدير الإدارة الأفريقية – يوم 24 من يونيه 1949 – بعدم التدخل لأن ذلك لن يحل مشكلة السودان أو يؤدى إلى عقد معاهدة.
وقال كلاتون:" لا يجب أن نتدخل لعودة الوفد إلى الحكم و بل نسعى بكل الجهد,ليشترك الوفد فى الإنتخابات فحسب فإذا فعل فإنه سيحصل على أغلبية مقاعد مجلس النواب.
وإذا اصبح الوفد فى المعارضة فإن ذلك يفيدنا – أى بريطانيا – أيضا لأنه سيمنع توسع خطط الملك العسكرية . إننا لا نريد ان يقوم الملك بتدعيم الجيش بحيث يقيم ديكتاتورية عسكرية"
ويؤشر مايكل رأيت الوكيل المساعد للخارجية البريطانية على هذه المذكرة قائلا:" الوفد أكثر الأحزاب عقلانية بالنسبة للسودان وفلسطين. وهو أكثر الأحزاب صداقة لبريطانيا. وهو الوحيد القادر على تحقيق الإصلاح الاقتصادى. ويفكر الملك فى تعيين رئيس وزراء محايد وتشكيل حكومة ائتلافية تجرى الانتخابات
. ونحن نؤيد إجراء انتخابات حرة وإذا قام الملك بتزوير الانتخابات فإن الجميع سيعرفون انه لا يستطيع ذلك دون تأييدنا وسنتهم بتأييد الحكومة الرجعية للوصول إلى الحكم".
ويحقق صاحب الجلالة ما جاء فى مذكرة رايت بالحرف الواحد.
إن ملك مصر يمهد – بالفعل- لعودة الوفد وتحقيق حالة من الاسترخاء الأمنى أى الإفراج عن الإخوان العتقلين بعد أن قتل زعيمهم.
.. وكان حسين سرى باشا هو رئيس الوزراء الوحيد فى مصر الذى يستطيع أن يمهد لحكم الوفد كما حدث عام 1942.
دعا الملك فاروق وزير الفريق محمد حيدر باشا فى الثالثة من صباح يوم 25 من يوليو 1949 لمقابلته . وأمره أن يذهب فورا إلى رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى باشا ويطلب إليه أن يستقيل. التمس حيدر باشا تأجيل الأمر إلى الصبح فأصر الملك على التنفيذ فورا بحجة أن " الدنيا رمضان" ون سهرة رمضان ممدة إلى الصباح.
كرر وزير الحربية التماسه .
تسامح الملك ووافق على أن ينتظر الوزير حتى السابعة صباحا.
توجه حيدر باشا إلى رئيس الوزراء فى بيته بالإسكندرية وأبلغه أن الملك يرى ان تستقبل الوزارة . ورأى الملك ... أمر!
وافق رئيس الوزراء ودعا مجلس الوزراء فى التاسعة صباحا وأبلغهم الأمر الملكى وتلا عليه كتاب الاستقالة.
شكلت الوزارة الائتلافية الجديدة برئاسة حسين سرى باشا وضمنت 4 وزراء من كل من الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والمستقلين واثنين من الحزب الوطني.
وأعلن صاحب الجلالة أن الوزارة الجديدة هدية العيد من الملك إلى شعبه وعلق كثيرون على ذلك بقولهم: وزارة إبراهيم عبد الهادى هى ضجة العيد . وإن لم يكن عيد الضحية!وزار كريم ثابت المستشار الصحفى لفاروق رئيس الوزراء السابق إبراهيم عبد الهادى مجاملا بعد الاستقالة.
أشار عبد الهادى إلى حكاية " هدية العيد" بانفعال شديد , ثم قال وهو يبتسم ابتسامة مرة: وعلى كدة أبقى أنا اللى طلعت " خروف العيد"!
اختلف وزراء سرى باشا حول تقسيم الدوائر الإنتخابية ولم يستطع رئيس الوزراء التوفق بينهم. ويظهر رجل العملا أحمد عبود فى الصورة عندما يلتقى بالوزير البريطانى تشابمان اندروز يو 25 من أكتوبر ويقول له:
سيدعو حسين سرى باشا مجلس الوزراء إلى الاجتماع يوم أول نوفمبر أى فى اليوم التالى لعودد فاروق من رحلته فى الخارج.
وفى هذا الاجتماع سيطلب سرى من الوزراء الاتفاق على تسيم الدوائر فإذا وافقوا سيصدر المرسوم الملكى بذلك وتجرى الحكومة الائتلافية الانتخابات .
وإذا حدث العكس ولم يتفق الوزراءسيقدم سرى باشا استقالته إلى الملك ويشكل حكومة إدارية خالصة لإجراء الانتخابات. ويضيف أحمد عبود قائلا للوزير البريطانى:
حصل سرى باشا على موافقة الملك مقدما على الاستقالة.
ويجمع سرى الوزراء الذين لا يفطنون غلى " الكمين" الذى أعد لهم فيختلفون وينهى رئيس الوزراء الاجتماع غاضبا , ويسرع بتقديم استقالته إلى الملك يوم 3 نوفمبر قائلا: " تبين لى فشل الجهود التى بذلتها فى محاولة التوفيق, وحرصا على عدم ضياع وقت بلادى سدى فى أمور لا طائل تحتها أرانى مضطرا إلى رفع استقالتى ".
ولكن سرى باشا يضيف هذه الكلمات فى خطاب استقالته قال: " مازلت اومن بالإئتلاف وفوائده الجمة. ولا شك عندى فى أنه سيكون مبروك الخيرات بعد الانتخابات وأن فى قيامه مصلحة كبرى للبلاد".
ولم تفطن أحزاب مصر إلى الهدف من هذه الكلمات .. فإن الملك كان يأمل أن ينجح فى تزوير الانتخابات بحيث لا يفوز حزب واحد بالأغلبية فيشكل سرى وزارة ثانية من كل الأحزاب المصرية... برئاسته!
أخذت الخطابات المجهولة تتوالى على النيابة العامة من أشخاص يدعون أنهم من الإخوان المسلمين وأنهم قتلوا البنا لأنه أبلغ الأمن العام عن مخازن الذخيرة وأرشد عن كثير من أعضاء " جمعية الإرهاب". ودلت لغة هذه الخطابات على أنها من " تأليف" رجال الشرطة فالإرهابى لا يصف نفسه بذلك بل يزعم انه فدائى.
ونشرت جريدة " الأهرام" فى اليوم التالى للجرمية أن البنا ارسل لوزارة الداخلية يعلن رغبته فى تسلمي الأسلحة والإذاعة وأنه تلقى خطاب تهديد بالقتل إن هو أذاع شيئا من أسرار الجماعة.
وكانت التحقيقات خالية من هذه المعلومات وقصد من نشر هذه الأخبار توجيه التحقيق وجهة خاصة وهى أن القتلة أعضاء فى جماعة الإخوان. وكان واضحا أن وزارة الداخلية هى التى أوحت بهذا النشر.
روى بكر درويش الذى كان رقيبا بمراقبة النشر بوزارة الداخلية أن بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" سلم إلى الرقابة بعد اغتيال حسن لبنا بيومين لتسليمه للصحف لنشره.
وقال توفيق صليب مدير الرقابة للرقباء
- " الهدف أن يلقى فى الأذهان أن الجناة من الإخوان المسلمين المتذمرين من الشيخ البنا لموقفه من الحكومة وأن هذا التذمر أدى إلى ارتكاب الحادث".
قال البيان الذى كتبه الشيخ البنا قبل وفاته:
" وقع هذا الحادث الجديد حادث محاولة نسف مكتب سعادة النائب العام وذكرت الجرائد ان مرتكبه كان من الإخوان المسلمين فشعرت بأن من الواجب على أن أعلن أن مرتكب هذا الجرم الفظيع وأمثاله من الجرائم لا يمكن أن يكون من الإخوان ولا من المسلمين لأن الإسلام يحرمها والإخوة تأباها وترفضها .
ومن المرجح بل من المحقق أنه إنما أراد به أن يتحدى الكلمة التى نشرت قبل ذلك بيومين تحت عنوان ( بيان للناس) ولكن مصر لم تروعها أمثال هذه المحاولات الأثيمة وسيتعاون هذا الشعب مع حكومته الحريصة على أمنه وطمأنينته فى ظل جلالة الملك المعظم على القضاء على هذه الظاهرة الحظيرة.
وليعلم أولئك الصغار من العابثين أن خطابات التهديد التى يبعثون بها إلى كبار الرجال وغيرهم لن تزيد أحدا منهم إلا شعورا بواجبه وحرصا تاما على أدائه فلقلعوا عن هذه السفاسف ولينصرفوا إلى خدمة بلادهم كل فى حدود عمله إن كانوا يستطعون عمل شئ نافع مفيد.
وإنى لأعلن أنى منذ اليوم سأعتبر أى حادث من هذه الحوادث يقع من أى فرد وسبق له اتصال بجماعة الإخوان موجها إلى شخصى ولا يسعنى ازاءه إلا أن اقدم للقصاص أو أطلب إلى جهات الاختصاص تجريدى من الجنسية المصرية التى لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء فليتدبر ذلك من يسمعون ويطيعون وسيكشف التحقيق ولا شك عن الأصل والدخيل.
ولله عاقبة الأمور".
لم يظهر الشاب الأسمر الذى ذكر رقم سيارة محمود عبد المجيد رغم ما نشرته صحيفة " المصر" ولم يظهر أبدا حتى بعد قيام الثورة.
ولكن السفارة الأمريكية فى برقيتها إلى واشنطن بعد الجريمة ب48 ساعة ذكرت السر الحقيقى لاختفاء هذا الشاهد الوحيد
قالت: " شاب مصرى كان يجلس فى مقهى مقابل جمعية الشبان المسلمين وقت الاغتيال تقدم إلى نقطة بوليس كوتسيكا بشارع معروف ابلغ كونستابل" اسمه حسن" وشرطيا اسمه " طه" بأنه يعرف رقم السيارة التى هربت فور الحادث وأنه يمكن أن يتعرف على القاتل إذا عرض عليه بين آخرين.
أبلغت نقطة كوتسيكا هذه المعلومات تليفونيا إلى المحافظة فانتقل على الفور
الصاغ توفيق السعيد من القلم السياسى – مباحث أمن الدولة – إلى نقطة وتسيكا.
ويقول أحد المصادر ان هذا الضابط – توفيق السعيد – وضع مسدسا فى معطف جيب الشاب واوسعه ضربا وهدده بأنه سيحاكم بتهمة أحراز سلاح غير مرخص.
ونقلوا الشاب تحت حراسة الشرطة إلى منزله ولم يفتح فمه بكلمة بعد ذلك , حول الحادث"!
وقد تأكدت هذه الرواية مع تغيير فى بعض التفاصيل فى أثناء محاكمة المتهمين باغتيال الشيخ البنا. فقد تلقى عبد الكريم منصور رسالة من مجهول جاء فيها" إن الولد الأسمر لقى تعذيبا من البوليس السياسى الذى وضعه فى سجن الأجانب .
واشرف على التعذيب العقيد محمود عبد المجيد فاضطر الولد للإختفاء من القاهرة .. من شدة الرعب"
بعد ستة أيام من الجريمة بعث جيفرسون باترسون الوزير الأمريكى المفوض فى القاهرة إلى واشنطن البرقية رقم 211 وتاريخها 18 من فبراير 1949 .. وفيها تفاصيل الجريمة وأسماء القتلة فإن المجرمين كانوا معروفين لدى القصر وزراة الداخلية والسفارات الأجنبية!
وكان الشعب المصرى يهمس بالحقيقة ولكنه لا يستطيع أن يصرح بها . قال باترسون:
" تدل المعلومات التى تلقيناها من المصادر الخاصة والموثوقة بما فى ذلك مصادر السفارة البريطانية بما يؤكد الاعتقاد السائد بين الجماهير أن الشيخ البنا ويدعم مساندة اكبر المسئولين فى الحكومة. أشرف على المخطط عبد الرحمن عمار بك وكيل وزارة الداخلية والمسئول
عن المن العام وأحد أصدقاء النقراشى المخلصين.
وشارك فيه محمود عبد المجيد بك مدير المباحث الجنائية بوزارة الداخلية وكامل الدماطى مدير مكتب رئيس الوزراء.
ويقال إن الإتفاق الذى تم بين الثلاثة على أن يتولى الدماطى تفاصيل التخلص من الشيخ البنا.. ومن هنا رتب الدماطى أن يتولى هو واثنان من مساعديه الموثوق بهما القيام بعملية نموية على الشيخ البنا وبدأت العملية منذ ثلاثة أسابيع
هذان المساعدان الموثوق بهما ملكية.
1- كونستابل بوليس فى ملابس ملكية.
2- أومباشى سابق فى البوليس نقله الدماطى من البوليس إلى وظيفة كتابية فى رئاسة مجلس الوزراء وعمل معه مؤخرا كسائق لسيارته.
والأومباشى أسود البشرة وماهر فى استخدام المسدس والبندقية ومساء السبت 12 من فبراير تبع المساعدان الشيخ البنا إلى جمعية الشبان المسلمين فى سيارة سوداء.
والجدير بالملاحظة ان رجل البوليس المعين فى المنطقة لم يكن ساعتها فى دركه,
ويقال إن غيابه عن واجبه جرى ترتيبه مسبقا أما سيارة البوليس التى ترافق الشيخ البنا لحراسته فقد سحبت قبل 18 يوما من الحادث ,ومن هنا فالأمر يبدو كأنه مخطط جيد الإعداد والتنفيذ وعلى الرغم مما عرف عن عمار بك بوصفه رجلا" حسن الإسلام" أحيانا لدرجة التعصب فإنه عبر أكثر من مرة لسكرتير السفارة عن كراهيته للشيخ البنا".
وهذه البرقية الخطيرة حددت:" كراهية عبد الرحمن لالبنا . " ذكرت صراحة اسم محمود عبد المجيد مدير المباحث الجنائية بوزارة الداخلية والذى ثبت بعد خمس سنوات أنه المحرض على الجريمة. ولكن النائب العام محمود منصور لم يأمر بالمضى فى التحقيق إلى نتيجته الطبيعية وهى القبض على الجناة.. وهم معروفون!
ولم يحفظ محمود منصور التحقيق. ولم يقيد الجناية ضد مجهول وبقيت أوراق القضية تنتظر رغم المحققين يعرفون المحرض والقتلة ولكنهم لا يستطعون أن يمدوا إليهم يد القانون!
وتوقع الإخوان أن يعيد حسين سرى باشا التحقيق ويقدم المتهمين إلى القضاء خاصة وأن بينه وبين إبراهيم عبد الهادى خصومة طويلة.
وكا ما فعله حسين سرى أن نقل محمود عبد المجيد من إدارة المباحث الجنائية إلى وظيفة مفتش فى إدارة الشرطة.. فى 14 من أغسطس 1949 , بعد ثلاثة أسابيع من توليه رئاسة الوزارة!..
وظل الرعب يلاحق العهد كله سبعة شهور بعد الجريمة وبعد استقالة إبراهيم عبد الهادى وتولى حسين سرى رئاسة الوزارة. فى 2 من سبتمبر كتب الوزير البريطانى تشابمان: " يتضح الدليل على أنه مازالت هناك حياة فى منظمة الإخوان المسلمين المنحلة من تقرير سرى وصلنى حول اعتقال أربعة أشخاص فى محطة القاهرة فى .22 من أغسطس 1949.. وما أعقب ذلك من اعتقال ستة أشخاص آخرين وتم ضبط كتيب مع هؤلاء الأشخاص يهاجم الحكومة السابقة.. ويفند اتهامات معينة عن القيام بنشاط هدام صدر على أساسها قرار حل الجماعة.
ويزعم أن قرار الحل كان نتيجة لضغوط تعرض لها المغفور له النقراشى باشا من جانب السفارات البريطانية والفرنسية والمريكية.
ويزعم لاكتيب أيضا أن النظام لسابق أسا استخدام قانون الأحكام العرفية.
وينتهى بنداء يوجهه بالسماح للمنظمة بالحرية الكاملة بالعودة مقابل أن يتعهد الإخوان المسلمون بتأييد الحكومة باخلا صفى الحفاظ على الأمن والنظام".
بدأ الحديث عن الثورة يتجدد..
بعث وزير الخارجية الأمريكى إلى جيفرسون باترسون الوزير المفوض فى القاهرة يقول: " اطلعت على تحذير وارد من مصدر موثوق فيه بأن انقلابا مشابها لذلك الذى وقع فى سوريا يجرى الإعداد له فى مصر.
تابع الموقف عن قرب ووافنا بتقرير عنه".
ولكن الثورة لم تقع فى مصر بل جرت محاولة لاغتيال المك فاروق . طار مراسل أمريكى من القاهرة . ليتجنب الرقابة على البرقيات فى مصر. ومن طرابلس – بليبيا بعث المراسل بقصة محاولة الاغتيال التى لم تنشر فى مصر. قال :"
أصيب الحارس الخاص للملكط فاروق بعدة رصاصات. ونصح الملك بألا يخرج إلى الشارع بعد اغتيال النقراشى.
وفى المرات النادرة التى غامر فيها بالخروج كان يتحرك فى موكب هائل من سيارات الجيب المليئة بالضباط من حرس القصر المسلحين بالرشاشات... وخوفا على حياته فإن فاروق شبه سجين, منذ عدة شهور فى قصر عابدين"!
قاتلان
كان هناك قاتلان
الأول قتل رئيس الوزراء النقراشى باشا وقد قبض عليه واعترف بجريمته وقال إنه ممن الإخوان المسلمين.
والثانى عقيد من ضباط الشرطة, قتل , أو حرض على قتل رئيس جماعة الإخوان المسلمين, وهو – القاتل – معروف للجميع ولكن أحد لم يجرؤ على القبض عليه.
قدم عبد المجيد حسن قاتل لنقراشى وزملاؤه الخمسة, بعد تحقيق استمر سبعة شهور إلى المحكمة العسكرية العليا فى 6 من أغسطس 1949 برئاسة المستشار محمد مختار عبد الله وعضوية المستشارين محمد شكرى طلحة ومحمد غالب عطية والعميدين أحمد صالح أمين وإبراهيم زكى الارناؤطى.وكان عبد المجيد حسن قد ظل صائما منذ ارتكاب الجريمة وكان يسير كيلو مترات فى الصحراء على الأقدام ليرشد المحققين لأماكن التدريب وهو صائم .. ويرفض الأفطار رغم الألحاح عليه..
وظل صائما أمام المحكمة وهو يكرر اعترافاته فطلبت منه المحكمة أن يتكلم وهو جالس . وكان يردد أنه يصوم ليكفر عن جريمته البشعة مثل لانيابة العام محمد عزمى ومحمد عبد السلام الذى أصبح – فيما بعد
– نائبا عاما
هاجم محمد عزمى المتهمين ومن خلالهم الإخوان المسلمين بضراوة فقال إنهم قوم أغواهم الشيطان فتفاقمت أطماعهك ولم يجدوا – لتحقيق ما باتوا به يحلمون – أيسر من الإفتراء على الله ورسوله خديعة للجهلاء وإسلابا لعقول الدهماء.
وقال محمد عبد السلام : إن مقتل الخازندار بك حمل فى تضاعيفه مقتل النقراشى باشا. وإن جماعة الإخوان تحمل وزر الجريمتين معا. فإن هذه الجماعة قد احتضنت الإرهاب بل على الأصح كمن الإرهاب فى تكوينها نفسه.. فإن شعار الإخوان ينطق بالعنف , فهو سيفان بينهما مصحف وتحتهما الآية الكريمة" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".
وكان هذا الشعار حريا بأن يثير الظنون فى هذه الجماعة غداة تكوينها منذ عشرين سنة لولا حرص القائمين عليها, فى مبدأ أمرهم على التظاهر بالتزام الدين وحض على العبادة والبعد بهم عن السياسة.
واشار إلى كتاب ألفه البنا تحت عنوان " رسالة التعاليم منى لإخوان الكتائب"! وقال إن الشيخ البنا أوصى الإخوان بمقاطعة المحاكم الأهلية.. وهذا يدل على فكرة العنف والتحفز, والتربص للوثوب, والغدر, بالنظام الدستورى.
وأشار إلى " النظام الخاص" فقال إن أفراده أ‘دوا إعدادا تاما للبطش بأعداء الحركة, وقد أخفوا حقيقتهم وبقى أمرهم سرا لا يعلم أمره سوى قادتهم وزعمائهم.
وقال إن الإخوان اغتنموا فرصة مطالبة الأمة بحقوقها القومية للفت الأنظار عن طريق العنف والجريمة فألقوا القنابل فى جهاتت متفرقة فى القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد. ثم جاء حادث مقتل الخاوندار بك وهيأ للجماعة استمرار هذا الإرهاب. اندلاع الصراع فى فلسطين, ولما وقع حادث شركة الاعلانات الشرقية , تساءل الناس إلى متى تنتظر الحكومة . وقد بات كل شخص لا يأمن على حياته.
وأثار الإخوان الشغب فى الجامعة يوم افتتاح الدراسة وتابعوا خطتهم فوقع شغب آخر فى المدرسة الخديوية, وقتل الحكمدار وألقيت القنابل على رجال البوليس, وعندئد لم يبق فى قوس الصبر منزع, ولم تجد الحكومة أمامها إلا حل جماتعة الإخوان.
ولم تقابل الجماعة هذا القرار بالطاعة, بل اعتبرته تحديا لها وقال إن ذاكرة عبد المجيد العجيبة وعت تفصيلات الوقائع فلم تخطئ فيها مرة واحدة, وكان كلما ووجه بمتهم. يذكره بالوقائع الخاصة به تماما, ويعيدها بتفصيل ودقة لا يمكن أن يكونا إلا من شخص انطبعت تلك الوقائع فى ذاكرته.
صدر الحكم بإعدام عبد المجيد حسن فى 13 من أكتوبر عام 1949 وكان حسين سرى باشا رئيسا للوزراء. وتلقى عبد المجيد حسن حكم الإعدام بابتسامة لم يحملها, فى قفص الاتهام سواه!
وقال إن قرار المحكمة هو القرار الوحيد الذى توقعه .. وظل واقفا فى القفص فى ثبات وهو يتكلف الابتسام ويقول : هذا قضاء الله. إن الله هو الذى حكم.
وأدانت حيثيات الحكم الجماعة نفسها لا المجموعة التى قتلت النقراشى فحسب.
قال المستشار مختار عبد الله فى حيثيات الحكم.
" اتخذت جماعة الإخوان المسلمين من ظاهرها شكل جماعة مشروعة تعمل للخير ولتحقيق أغراض دينية. وكان هناك نشاط سرى إلى جانب هذا النشاط الظاهرى يرمى إلى إعداد هيئة مدربه تدريبا عسكريا لتحقيق الأغراض البعيدة للجماعة كما تضمنتها رسائل المرشد العام إلى الإخوان وخطبه العديد صريحة فى إقامة نظام ديكتاتورى شامل".
وكتبت السفارة الأمريكية إلى وشنطن تقول:
" كان عبد المجيد حسن كما ذكرت الصحف يتوقع أن يحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة مدى الحياة.. وربما كان يعتمد على أن الحكم بالإعدام نادر فى مصر خلال السنوات الأخيرة.
أما الأربعة من شركائه وهم محمد مالك, وعاطف عطية حلمى وشفيق إبراهيم أنس, ومحمود كامل سعيد فقد حكم عليهم بالسجن مع الشغل مدى الحياة.
وكانت أهمية الأدلة المتعلقة باشتراك هؤلاء الأشخاص كبيرة وهناك بعض الدهشة لأنه لم يحكم بإعدامهم أيضا. وهناك اعتقاد فى بعض الدوائر بأن القضاة لا يميلون إلى التشدد فى القسوة على ضوء اغتيال الخازندار فى عام 1948 بعد أن أصدر حكما بالسجن مدى الحياة على اثنين من الإخوان المسلمين.
وفى هذا الصدد فإنه كان من الأهمية أن تحاط قاعة المحكمة بحراسة مشددة. أما الدهشة الكبرى للأحكام فتمثلت فى براءة عشرة من المتهمين وهناك اعتقاد عام بأن الدليل الذى قدم كان كافيا لإصدار حكم مخفف صدهم وعلى أية حال فإن مسئولى الأمن فى الحكومة لا يعتزمون أن يستعد أى منهم حريته فورا. واختلف رد الفعل الشعبى على الأحكام وفقا للمشاعر السياسية ولا يمكن القول أن هناك مشاعر بغض عامة لعبد المجيد كقاتل"!
فى اليوم التالى لصدور حكم الإعدام نشرت صحيفة " المصرى" الناطقة باسم الوفد: " نرجو أن يقضى هذا القرار على وساوس الشيطان التى تدفع بشباب نافعين إلى عالم الجريمة والقتل لمعتقدات سياسية". وقالت المصرى:
" صدر من قبل محكمة جنايات مصر حكم يقضى بمعاقبة حسين توفيق بالشغال الشاقة عشر سنوات لقتله أمين عثمان.
وما نريد أن نناقشه هو موقف الحكومة المصرية من حسين توفيق.
لقد فر حسين توفيق عقب محاكمته. وظل مختفيا بعض الوقت وعرف أنه فى شرق الأردن ثم اختفى.
ولا اقل من أن تعمل الحكومة على مساواة الفار حسين توفيق بزملائه هؤلاء فتسعى جادة لتسليمه وتنفيذ العقوبة".
وعبرت برقية للسفارة الأمريكية فى القاهرة عن الموقف الحقيقى للوفد من حكم الاعدام. قالت السفارة:
" تردد أن أعضاء كثيرين فى الوفد يشعرون بتعاطف كبير تجاه القاتل بسبب الكراهية والازدراء اللذين يكونهما للنقراشى باشا. وقد ارتدوا أربطة عنق سوداء فى اليوم الذى أعلن فيه الحكم على عبد المجيد حسن"!
ونفذ حكم الإعدام فى 25 من أبريل 1950 عندما كان مصطفي النحاس فى الحكم!
كوفئ من قتلة البنا محمود عبد المجيد وحده. بعد شهرين من الجريمة تذكرت إدارة الجنايات بوزارة الداخلية أن محمود عبد المجيد قام بمجهودات للأمن قبل 3 سنوات, وأنه يستحق مكافأة قرر وكيل الأمن العام فى 5 أبريل 1949 منحه مكافأة قدرها 300 جنيه عن جهوده فى جرجا عام 1946!
وعندما عرضت الأوراق على عبد الرحمن عمار قرر زيادة المكافأة إلى 600 جنيه . واقر ذلك المجلس الأعلى للبوليس!
وكان المبلغ تافها إزاء بشاعة الجريمة وشخصية المجنى عليه.
ولكن محمود عبد لمجيد تمتع بالحماية الملكية فى عهد فاروق وحتى نهاية ذلك العهد.
أنعم عليه – فى 4 من يوليو 1949 – صاحب الجلالة برتبة البكوية من الدرجة الثانية" لما يبديه من جهود فى خدمة الأمن"
وعين مديرا لجرجا فى 3 من أبريل 1952.
أما عبد عمار وكيل وزارة الداخلية فإن حسين سرى نقله من وزارة الداخلية ليكون وكيلا لوزارة المواصلات فى أغسطس 1949 . وأصابه مرض قاس وعانى آلام رهيبة وعندما قامت الثورة وجده المحقق المستشار حسن داود فى المستشفى فكان يحقق معه وهو على سرير المرض.
وأمر فؤاد سراج الدين باشا – وهو وزير للداخلية عام 1950 – يخصم 15 يوما من مرتب المقدم حسيم كامل بعد ا، أتهمه مرشح وفدى فى الإنتخابات بأنه ناصر الدكتور نور الدين طراف ففاز على مرشح الوفد.
واستعد محمد محفوظ لاستقبال الترقية فقام بتفصيل بدلة الصول ووضع فوق الأكتاف شرائطها ولكن وزارة الداخلية فى عهد حسين سرى رفضت ذلك ووجدت هذه البدلة وسلمت للجيش بعد الثورة كدليل اتهام! وطلب محمود عبد المجيد ترقية الأمباشى أحمد حسين ولكن إدارة الشرطة أبت لأنه يجهل القرأءة والكتابة كما رفضت منحه علاوة المباحث وهة جنيه شهريا لأنه ليس من قوة المباحث!
ولكن أحمد حسين عقب الجريمة بأيام قليلة – زار حرم النقراشى فقدمت إليه صورة لقرينها الراحل وعليها هذه الكلمات:هدية منى إلى البطل الأمباشى أحمد حسين.
وأهدته أيضا – كما يقول – قطعتين من الصوف " الإنجليزى" وحقيبة بداخلها ملابس حريرته لزوجته ورزمة اوراق مالية مجموعها 400 جنيه!
وكانت الأدلة ضد قتلة البنا واضحة ورغم ذلك فإن التحقيق فى مصرع المرشد العام لم ينته إلى شئ... طوال تسعة شهور.
وجاءت مناسبة انتهزها الإخوان وهى محاكمة المتهمين العشرة بمحاولة اغتيال إبراهيم عبد الهادى وحامد جودة رئيس مجلس النواب.
طلب عبد المجيد نافع محامى المتهمين ضم قضية البنا.
قال إن أحد شهود جريمة اغتيال المرشد العام للإخوان – وهو محمد الليثي لاحظ أن سيارة القتلة كانت تحمل لوحة ارقام خاصة بالقائمقام محمود عبد المجيد بك رئيس إدارة المباحث الجنائية.
وأكد عبد المجيد نافع أن رجال البوليس السياسى دبروا ونفذوا الاغتيال وأن شاهد العيان تعرض " للتخويف " والتهديد عندما ذكر للبوليس رقم سيارة القتلة.
نشرت كل الصحف ذلك – عدا " الأساس" – صحيفة " السعديين" رقم سيارة القتلة.
نشرت كل الصحف ذلك – عدا " الأساس"" صحيفة " السعديين" يوم 6 من نوفمبر 1949.
كتب السفير الأمريكى جيفر سون كافرى:"
كان عبد الهادى باشا رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية فى ذلك لاوقت ونشر القصة لطمة لمكانة السعديين التى اصابها الضعف بالفعل . وخاصة بالنسبة للسمعة التى تتمتع بها صحيفة " الأهرام" وتشير التقارير السرية إلى أن نشر القصة كان من تدبير رجال الوفد . بهدف أضعاف خصومهم الرئيسيين".
ومن هذه البرقية يتضح أن النشر لم يكن لعقاب المتهمين بقدر ما كان الهدف أضعاف الحزب السعدى فى الانتخابات التى تمهد لها ويجريها وزارة حسين سرى!
كان نشر القصة مناورة سياسية من فؤاد سراج الدين سكرتير العام للوفد فإن الصحفى الذى كتبها هو أبو الخير نجيب المحرر السابق فى صحيفة " النداء" الوفدية أما نائب رئيس التحرير الذى أقر النشر فكان من الموالين للوفد أيضا وعندما علم رؤساء تحرير الأهرام بنشر القصة استشاطوا غضبا.وبوغتت الرقابة على الصحف بالنشر وهى تغفو.
نشرت " الأهرام" يوم 9 من نوفمبر 1949 أن رئيس الوزراء " طلب ملف التحقيق فى قضية مقتل المغفور له الشيخ البنا".
خاف السائق محمد محفوظ ولكن المقدم توفيق السعيد قال له:
- لا تخش شيئا سيذاع تكذيب لذلك بعد ظهر لايوم. وبالفعل لم يدع رئيس الوزراء ذلك النبأ يمر بلا تعليق بل اسرع بإصدار بلاغ رسمى اذاعته الإذاعة ونشرته صحيفة " الزمان" المسائية فى نفس اليوم . قال البلاغ : " عادت بعض الصحف إلى نشر بيانات عن حادث مقتل المغفور له الشيخ البنا" واضاف بعضها أن حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء اتخذ فى هذا الموضوع تدابير معينة وأن اجتماعا عقد بمكتب حضرة صاحب المعالى وزير الدولة لبحثه.
والحكومة تعلم أن هذه القضية بين يدى النيابة. وأنها حرة فى اتخاذ ما تراه من إجراءات حيالها, والسلطة التنفيذية حريصة كل الحرص على عدم التدخل بحال من الأحوال فيما هو من عمل السلطة القضائية على أية صورة" وأصدر رئيس النيابة العسكرية العليا – فى نفس اليوم – أمرا بحظر النشر فى القضية:
ومن الواضح أن هذه المحاولة السريعة لاسدال الستار على التحقيقات لم تنم بإيعاز من سرى باشا بل لابد أن رئيس الوزراء خضع فى ذلك لرغبات أو أوامر صاحب لجلالة فاروق الأول.
قال لى إبراهيم عبد الهادى رئيس وزراء مصر الأسبق تعليقا على الوثائق الأمريكية التى تتهمه بانه تستر على قتلة البنا عندما كان رئيسا للوزارة عام 1949.
قال إبراهيم عبد الهادى وقد بدأ عليه الألم:
لا عجب عندى أن يثير الإنجليز حولى جوا من الشكوك والاتهامات كنت من أشد خصومهم... وأقوى الدعاة فى ثورة عام 1919 ... وقد نسبوا إلىّ القدرة على تشكيل التنظيمات ضدهم.اتهمت كذبا فى قضية المؤامرة الكبرى الملفقة عام 1920 ... وكان اتهامى نتيجة لنشاطى فى الخطابة ضد الإنجليز فى ثورة 1919 وبالذات فى الأزهر الشريف ..ز وهى القضية المعروفة بقضية عبد الرحمن فهمى. وبقيت فى السجن نحو 4 سنوات.. نقلونى فى خلالها من سجون الاستئناف إلأى الزقازيق وطنطا ومصر ولم يفرج عنى إلا بعد أن تولى سعد زغلول الحكم.
وسجنت مرة أخرى فى قضية مصرع السردار السير لى ستاك.. وبقيت سجينا 75 يوما وكنت آخر من أفرج عنهم من المحبوسين فى هذه القضية وتم الإفراج عنى بعد أن أعترف المتهمون بقتل السردار.وهذا هو مو ماضى مع الإنجليز فلما قتل محمود فهمى النقراشى كنت رئيسا للديوان الملكى وعرضت علىّ الوزارة فقبلتها ز.. وكان قد قبض على قاتل النقراشى متلبسا ولم يكن هناك إذن ما يدعو للإنتقام.
ثم لمذا نأخذ عن الوثائق الأجنبية فى قضية البنا ونترك احكام المحاكم المصرية؟
إن القضاء المصرى نظر فى قضية البنا ومقتله أكثر من مرة.. وجميع الدوائر التى أحيلت عليها هذه القضية ابتعدت كل البعد عن اتهامى بالتستر على الذين قتلوا البنا.
وصدر الحكم بعد قيام الثورة.. ولم يتضمن من قريب أو بعيد إشارة لاتهامى بالتستر.وكان يمكن للنيابة أن تطعن فى هذا الحكم خلال 18 يوما ولكن النيابة لم تطعن وبذلك أصبح لاحكم نهائيا.وتولى التحقيق فى قضية البنا منذ اللحظة الأولى النائب العام وبقيت رئيسا للوزراء 6 شهور نصفها بعد مقتل البنا .. ولم يظهر الفاعل وقتهامع استمرار التحقيق.
وجاءت بعدى وزارتا حسين سرى ومصطفي النحاس باشا.
وتعاقبت الوزارات حتى قيام الثورة... ولم يظهر القتلة فهل كل رؤساء الوزارات كانوا متواطئين على الصمت أيضا.. أو كانوا متواطئين على التستر علىّ وبينى وبينهم خصومات سياسية؟
هل كان يمكن أن يتستر مصطفي النحاس باشا على جريمة يمكن أن أكون أنا شريكا فيها أو متسترا على مرتكبيها؟
هل كان يمكن أن يتستر علىّ حسين سرى ولو كان الملك – أيامها – يعرف أنى متهم لما سكت عنى .. ولما سكتت عنى الوزارات التالية والتى كانت تؤيده تأييدا كاملا فى كل ما يتخذ من إجراءات.. ولما سكت عنى الإنجليز الذين حقدوا علىّ فسجلوا حقدهم فى وثائقهم التى صدقتموها ورفضتم تصديق كلمة القضاء المصرى.
ابعد أن أعطيت عمرى وشبابى وحياتى لمصر تجئ الأيام لتلقى علىّ شبهة اتهام بالتستر على جريمة؟"! وقدم إبراهيم عبد الهادى إلى محكمةة الثورة برئاسة قائد الجناح عبد اللطيف البغدادى عضو مجلس قيادة الثورة بعدة تهم منها التستر على قتلة البنا ..
وأصدرت المحكمة حكما بالإعدام على إبراهيم عبد الهادى ورأى مجلس قيادة الثورة فى 4 من أكتوبر 1953 تخفيف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة ولكن المحكمة لم تحدد هل هو برئ أو أدين فى هذه التهمة.وقد أفرج عنه صحيا – بعد أربعة شهور – فى 2 من فبراير 1954 ونقل إلى بيته لإصابته بأزمة قلبية.
وكان سبب الإفراج الخلاف بين الثورة والإخوان فى ذلك الوقت!
اشارت كل الأدلة إلى أن الملك كان وراء اغتيال البنا.
قال أنطون بوللى بك خام الملك فاروق وقواده للماجور سانسوم ضابط الأمن بالسفارة البريطانية: قرار اغتيال البنا اتخذ فى القصر الملكى وخطط له داخل هذا القصر ونفى بوللى الاتهام عن الملك وحده قال:
صاحب الجلالة لم يكن يعلم!
وكان فاروق أيامها يحكم مصر ولم يكن فى استطاعة بوللى أن يوجه الاتهام غلأى مولاه! ظل حزب الوفد – بعد استقالة إبراهيم عبد الهادى – يطالب بإعادة التحقيق فى القضية. وتولى مصطفي النحاس رئاسة الوزارة المصرية فى 12 من يناير 1950 بعد أن اكتسح باقى الأحزاب فى الانتخابات.
وفتحت جريدة " الأهرام" صفحاتها لمحمد الليثي الذى أعيد إلى القوات المسلحة رئيسا للقسم السكرتارية بالسلاح الجوى الملكى ثم نقل إلى إدارة الشئون العامة وأصبح محررا فى صحيفة الأهرام بالإضافة إلى عمله فى السلاح قبل أن يتفرغ بعد ذلك للعمل الصحفى فى الأهرام. وكان أصحاب المصلحة فى حملة الليثى للكشف عن المتهمين ومحاكتهم هم الوفديون! أو على الأقل هم الذين افادوا من الحملة!
ظل محمد عزمى نائبا لمدة عامين دون أن يتحرك التحقيق خطوة واحدة وفى عهدهوبكلماته نفسها , التى أدلى بها بعد الثورة , قال : استمر التحقيق نائما" ولم يفتح الوفد التحقيق فى قضية اغتيال المرشد العام.
وفى مذكراته التى أحال بها المتهمين إلى غرفة الاتهام قال فؤاد سرى رئيس النيابة الذى تولى التحقيقات الأخيرة فى القضية بعد الثورة. " بيت العميد محمود عبد المجيد النية على قتل المرشد العام ولكن لم يصل التحقيق إلى تحديد ذلك متفقا مع ولاة الأمور فى لادولة,
أو أن محمود عبد المجيد كان يعمل لذلك حتى يحظى بتقدير ولاة الأمور ولثقته فى أنهم أهدروا دم الشيخ البنا فبات تنفيذ قتله امنية يتوقون إليها ويرجون تحقيقها".وعندما حوكم المتهمون باغتيال البنا قال محاموهم: _- لو أن لاملك لم تكن له يد فى ارتكاب الحادثماكان من المعقول اطلاقا أن تلتزم حكومة الوفد الصمت خاصة بعد أن أوضح العداء بين صاحب الجلالة وإبراهيم عبد الهادى عندما اشترك فى توقيع عريضة المعارضة التى أغضبت فاروق.
إذا كان الوفد يخشى أن تمس التحقيقات صاحب الجلالة ملك مصر أو رجاله فإن الوفد كان يستطيع وله أغلبية برلمانية عارمة فى مجلس النواب, ثم فى مجلس الشيوخ أن يعيد الجماعة ولكن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية وضع 3 شروط لاعادة الشرعية للجماعة.
1- لا يتم استئناف النشاط الرسمى للجماعة إلا بعد رفع الأحكام العرفية .
2-يمكن استئناف النشاط بصورة غير رسمية ولكن تحت اسم جدسد.
3- لا يستخدم الاسم القديم إلا بعد رفع الأحكام العرفية وعودة الجماعة. نهائيا إلى الشرعية..
4- وقد اضطر مصطفي مؤمن تحت إلحاح الرغبة فى إعادة نشاط الجماعة بأى شروط إلى قبول العرض الوفدى.وقد ذهب مصطفي مؤمن فى ذلك إلى حد اقتراح اسم جديد للجماعة هو ( النهضة الإسلامية) ولكن باقى زعماء الجماعة, وصالح عشماوى بوجه خاص رفضوا الاقتراحين بتغيير اسم الجماعة أو تأجيل نشاطها.
وانتهى الأمر بفضل مصطفي مؤمن من الجماعة!
كتب السير رونالد كامبل السفير البريطانى إلى لندن يوم أول من أبريل 1950:
" ما يخبئه المستقبل لفخوان المسلمين مفتوح للتخمين.وقد ظلت سياسة الحكومة حاليا سياسة قمع. ويبدو أن الإخوان لم يتخلوا بأى شكل عن النضال.
بل يبدو أملهم فى الحياة تبلور الآن فى تصميم على استمرار الجماعة سواء حظرت أم لا" ويرى السفير الخدعة التى لجأ إليها الوفد لإقناع الإخوان بأ، بريطانيا تضغط على الوفد لعدم الغاء قرار الحل. وأن ارنست بيفن وزير خارجية بريطانيا هو الذى نصح بذلك عند زيارته لمصر.
قال السفير:
" انتشرت شائعة فى دوائر الإخوان المسلمين باحتمال احياء الإخوان المسلمين.
ولكن بمجرد وصولك تغير الموقف ومن هذا نستنتج بوضوح أن الحكومة استمعت إلى نصيحتك المزعومة بعدم تشجيع إحياء حركة الإخوان.
ومن المحتمل أن يؤدى ذلك إلى تشجيع اعتقاد بين الإخوان بأن انتعاش ركنهم أمر مستبعد نتيجة للضغط البريطانى لأن الوفد – إلى حد ما – خدع الإخوان فى الحملة الإنتخابية للحصول على اصواتهم لذلك فغنهم يرحبون بأى عذر لحجب المكافأة التى ينتظرها الإخوان نتيجة لتأييدهم".
ظلت وزارة الوفد فى غشارتها للإخوان تصفهم بهاتين الكلمتين: " الجماعة المنحلة".
وقدمت الحكومة إلأى البرلمان القانون رقم 50 لعام 1950 يعلن رفع الأحكام العرفية وكل القرارات المرتبطة به, باستثناء ما تعلق منها بالإخوان المسلمين.
ومرة أخرى يصف ميتشيل ما جرى قال:
" فى أول مايو 1950 تم رفع الأحكام لاعرفية واجتمع مكتب الإرشاد بقادة الإخوان وصرح بأن جماعة الإخوان المسلمين تنعم الآن بالوجود الشرعى.
وارتفعت راية الجماعة فى جميع انحاء البلاد.
ولكن بادرت قوات الأمن الحكومية إلى العمل على الفور فمزقت الرايات وانزلتها هى وكل ( الشعارات ) الأخرى المرتبطة بالجماعة, واحتلت المركز العام وأصر الإخوان على موقفهم.
,اصبح الخلاف علينا بين الحكومة والجماعة بسبب ما أعلنه وزير الداخلية عن عزمه شراء ( مبنى) المركز العام للجماعة لتحويله إلى نقطة شرطة". ويحاول فؤاد سراج الدين التخفيف من حدة الأزمة بين الوفد والجماعة فيعلق فى حديثه لصحيفة " الأهرام" يوم 26 من أكتوبر عام 1950:
سيباشر الإخوان نشاطهم.
انتهى العام الأول لوزارة الوفد فأعلن فؤاد سراج الدين أن الحكومة تفكر فى استبدال قرار حل الإخوان بقانون جديد للجمعيات!
وأعد مشروع القانون وهو يسرى على الجمعيات التى تسعى لتحقيق أغراض اجتماعية أو دينية أو علمية أو أدبية إذا كان عدد أعضائها يزيد على 20 باستثناء الجمعيات النشاط المدرسى.
ولا يجوز للجمعيات أن تكون لها تشكيلات عسكرية او شبه عسكرية وألزمت الجمعيات بتسجيل معلومات تفصيلية عن كل عضوا وإيداع صورة فوتوغرافية. لدى السلطات المختصة.
تبين الإخوان المسلمون أن المشروع موجه ضدهم بالذات ويمنع حركتهم يفرض عليهم رقابة بوليسية رغم أن فؤاد سراج الدين قال إن المشروع لا يعنى جمعية بذاتها وإنما ينطبق على الجمعيات المحتلفة.
وقدم مشروع القانون يوم 16 من أبريل 1951 إلى البرلمان. وخلال مناقشة القانون أمر صالح عشماوى الأعضاء بالخروج فى مظاهرة ضخمة أمام مبنى البرلمان.
ونوقش المشروع فى مجلس النواب يوم 17 نمن أبريل 1951 ويتوجه السفير البريطانى الجديد السير رالف ستيفسون إلى فؤاد سراج الدين وزير الداخلية يسأله عن الجماعة ثم بعث السفير إلى لندن فى 23 من أبريل 1951 يقول:
" فى حديث مع وزير الداخلية أمس أثرت مسألة الإخوان المسلمين قال سراج الدين باشا إنه لا يشعر بالقلق على الإطلاق إزاء مستقبل نشاط هذه الجماعة ولم ينكر أنها كانت خطرة فى الماضى . ولكنه يرى أن ذلك يرجع إلى تشجيع القصر لها كسلاح ضد الوفد وإلى شخصية الشيخ البنا. ولا يوجد الآن زعماء يتمتعون بسمات القيادة والمبادرة.
وعلاوة على ذلك فإن التشريع المقترح سوف يمنع الإخوان من أن يجعلوا من أنفسهم شيئا مزعجا. وهو يتفق معى فى احتمال حدوث تغلغل فى الإخوان من جانب الشيوعيين. الين تتجه ارتباطهم التقليدية إلى التسلل داخل المنظمات القومية المتطرفة واستغلال هذه المنظمات كوسيلة لإثارة المتاعب بوجه عام" ويعلق مسئول فى وزارة الخارجية البريطانية فى نفس اليوم – 23 من أبريل – على حديث سراج الدين فيقول فى مذكرة سرية:" تصريح سراج الدين بأنه لا يوجد بين قيادات الإخوان من هو فى قدرة البنا أمر صحيح تماما.
إن مشروع قانون الجمعيات الجديد سوف يمضى طويلا فى التصدى لتوسع الإخوان المسلمين. ولكنه يخشى أن تقم العناصر المتطرفة فى المنطقة بعمليات إرهابية.
ومن ملامح القانون الجديد – الذى سيكون له تأثيرا شديد – شرط عدم السماح لأى شخص تحت 21 سنة أن يصبح عضوا عاملا فى الإخوان .
ويقصد من ذلك بطبيعة الحال التصدى لقوى الإخوان فى الجامعات وعلى اى حال فإنه يتفق معنا فى أننا لم نشهد أسوأ من الإخوان الذين يعدون بالنسبة لمصر أكبر عائق للأمن العام أكثر من الشيوعية"!
تم التصديق على القانون وأعلنت الجماعة على رءوس الأشهاد أنها لن تسجل نفسها طبقا للقانون أو تنفيذا له. وأكدت الجماعة تصميمها على المطالبة بإستعادةمقارها – التى يتلها البوليس – وعياداتها الطبية وأموالها المصادرة.
ويبعث السفير البريطانى إلى لندن البرقية رقم 79 بتاريخ 27 من يونيو 1951 .. وفيها يقول : " التزم الإخوان المسلمون الهدوء فى الفترة الأخيرة . ولا يبدو ان هناك تغييرا فى موقفهم إزاء قانون الجمعيات . وبالتالى لا يبدو أنهم اقترفوا بأى شكل من استعادة مقارهم وأموالهم". لم يعد الإخوان إلا بعد صدور حكم من مجلس الدولة
كانت هناك دعوى معلقة أمام المجلس منذ نوفمبر 48 قدمها البنا وعبد الحكم عابدين السكرتير العام بالتظلم من قرار إغلاق فرعين لجماعة فى بورسعيد والإسماعيلية! استؤنف نظر الدعوى بعد التماس جديد قدمه عبد الحكيم عابدين برئاسة لامستشار سامى مازن فى 15 من أغسطس 1951.
بحثت المحكمة المبررات القانونية لقرار الحل وما تلاه من إجراءات. وصدر الحكم بتأييد الجماعةوبطلان أمر بيع المركز لاعام وإعادة ممتلكات الجماعة وأرصدتها المالية. وكان من نتيجة الحكم من الجهة القضائية المسئولة أن اعتبر بمثابة تصديق قانونى على الوجود الشرعى للجماعة.
ولم ينفذ الحكم إلا بعد الغاء حكومة الوفد لمعاهدة عام 1936 مع بريطانيا وحاجة الوفد للتأييد فصدر القرار فى 17 من ديسمبر 1951 بالإفراج عن ممتلكات الإخوان المصادرة بما فى ذلك الصحف والمنشآت جميعها.
وهذا كله يقطع بدور الملك فى حل الجماعة واغتيال البنا فإن الوفد عجز,. أو رفض الوقوف مع الإخوان إلا بعد الغاء معاهدة عام 1936 وبعد أن أخذ الوفد موقف التحدى لكل من الملك والإنجليز.
وكان الوفد يعرف , مثل الجميع أن القاتل الثالث.. أو المحرض القاتل .. أو القاتل الحقيقى.. صاحب الجلالة نفسه وإن كانت يده لم تطلق رصاصة ولكنه الذى أصدر حكم الإعدام .. على المرشد العام!