أثر الصحوة الإسلامية في بناء الأمجاد
بقلم: د. توفيق الواعي
لا شك أن للفكر والثقافة الإسلامية أثرًا فاعلاً في تحريك الجماهير، وتأجيج النفوس للثورة ضد الظلم والاستبداد والاعتساف، أيًّا كان مصدره، سواءٌ أكان استعمارًا أجنبيًّا كافرًا، أو حكمًا مستبدًّا ظالمًا، أو مُلكًا فاسدًا، لا فرق في ذلك، فإن كل من ينزُّ للسيطرة والإخضاع والإفساد، لمصالح شخصية أو لأهواء ذاتية أو لدوافع شيطانية؛ فإن الفكر الإسلامي له بالمرصاد، يكشف عوراته ويدحض أباطيله، ويرأب الصدع الذي قد يحدثه في أوساط المجتمع الإسلامي.
فالإسلام، وبما يحمل من أفكار متعالية وقيم سامية، كالتنظيم الدقيق للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الأفراد، وإطلاق الحريات التي تضمن سعادة البشر في الدارين، ونبذ العنصرية بشتى أشكالها، والمساواة والعدالة وتهذيب النفس والمروءة والإحسان والرأفة والإخاء والتعاون، وغيرها الكثير من الأحكام التي لها بالغ الأثر في صيانة الأمة من الانحراف والتيه والضياع.
فمثلما أهدى المشرق العربي لعشَّاق أدب الحرب والرجولة فارسًا مغوارًا هو محمود سامي البارودي، جاء المغرب العربي بفارس شاعر آخر هو الأمير عبد القادر الجزائري، ومن المصادفات المتوافقة أنهما عاشا في عصر واحد وإن لم يلتقيا بسبب الحدود المصطنعة التي أقامها الاستعمار الإنجليزي في المشرق والاستعمار الفرنسي في المغرب، فحال دون التقاء جناحي الطائر العربي الإسلامي، فقد وُلد البارودي سنة 1840م ولقي ربه عام 1904 م المجتمع ب القاهرة ، وولد الأمير عبد القادر سنة 1807م وتُوفي سنة 1883م قرية "القيطنة" غربي مدينة معسكر ب الجزائر .
كانت نشأته في بيئة إسلامية محافظة، وحفظ القرآن، وتلقَّى على يد والده الشيخ محيي الدين وفقهاء بلده مبادئ العلوم الدينية واللغة العربية، ولما وضعت الحكومة التركية أباه تحت الإقامة الجبرية بوهران سنة 1236هـ، انتقل مع أسرته لسكناها، ومكنه ذلك من الاستزادة من العلم، وحفظ قدرًا كبيرًا من "صحيح البخاري"، وكان يقرؤه لمريديه، ويجيزهم بقراءته حتى آخر أيام حياته، وصحب والده إلى الحج سنة 1241هـ في رحلة طويلة زار خلالها تونس ومصر وقضى شهورًا بدمشق بعد أداء فريضة الحج؛ حيث استقى من مناهل علمائها في الجامع الأموي.
وورث الأمير عبد القادر عن أبيه إقدام المجاهد الإسلامي، ذلك أن هذا الوالد الذي كانت تسري في عروقه دماء الفارس العربي النبيل، فقاد المقاومة ضد العدوان الاستعماري الغاشم الذي غزا الجزائر سنة 1832م- 1248هـ، بعد أن بايعه أشراف قومه وأعيانهم على الجهاد، وعرضوا الإمارة عليه أو على ولده عبد القادر فاختار لها ولده، وحضر رؤساء القبائل من مختلف البقاع الجزائرية وعقدوا له البيعة بالإجماع، فأنشأ حكومةً تنفيذيةً ومجلسين للشورى، وتولَّى تنظيم الجيش بنفسه، فجعله ثلاث فرق: فرقة المشاة، وفرقة الخيالة، وفرقة المدفعية، وسن القوانين، واتخذ مدينة معسكر عاصمةً للإمارة.
وانتصر الأمير عبد القادر في المعارك الثلاث الكبرى التي شنَّها على جيوش الفرنسيين المستعمرين، وهي معركة "خنق النطاح" عام 1832م على مقربة من وهران، ومعركة "المقطع" وهو وادٍ بين مدينتي أرزيو ومستغانم، وذلك سنة 1836م، ومعركة "سيدي إبراهيم" سنة 1845 بالقرب من مدينة الغزوات، وعلى الرغم من تفوُّق القوات الغازية عددًا وعتادًا، فقد عجزت عن كسر شوكة الأمير الفارس الجزائري وإطفاء جذوة المقاومة الباسلة التي أشعلها في صدور جنوده؛مما دفع بالحكومة الفرنسية إلى عزل قادتها العسكريين، وعرض الهدنة تارة والمعاهدة تارة أخرى على القائد الجزائري المناضل.
وبدأ الأمير الجهاد وأسَّس دولته وهو في الخامسة والعشرين من عمره، واستمر يناضل طيلة ثلاثة عشر عامًا دون أن تلين له قناة، متحديًا دولة بلغت أقصى أسباب القوة والقدرة على حشد عشرات الآلاف من الجند المدجَّجين بأعتى الأسلحة، وقد عبَّر عن موقفه البطولي دفاعًا عن دينه وشعبه ووطنه بقوله: "لو جمعت فرنسا سائر أموالها ثم خيرتني بين أخذها وأكون عبدًا وبين أن أكون حرًّا فقيرًا ومعدمًا لاخترت أن أكون حرًّا فقيرًا".
وشهد له بالعبقرية العسكرية بعض جنرالات فرنسا ومؤرخوها (والفضل ما شهدت به الأعداء)، كما اعترفوا له بقدراته الفذة في الإدارة والتنظيم في عشرات من الكتب التي سجَّلت سيرته بمختلف اللغات، فقد كان قائدًا ورجل دولة بمعنى الكلمة، ويكفي أنه وحَّد القبائل المختلفة وبثَّ في روح أبنائها شرارة الجهاد واستعذاب الاستشهاد في سبيل الله، واستطاع في ظل أصعب الظروف التي فرضها المستعمر قهرًا وحصارًا للجزائر؛ حتى يقطع عليها سبيل الاتصال بأشقائها لطلب العون منهم، أن يوفِّر لشعبه الأقوات، وأن يؤسس عدة مدن وينشئ معملاً للسلاح في مدينة "تازة" ويبتني معامل لصنع الأسلحة والبارود في المدائن الأخرى دون أن يهاب غارات العدو عليها بعد أن وفر لها التحصينات المنيعة.
وكان الأمير عبد القادر الجزائري فارسًا في مضمار الأدب شعرًا ونثرًا مثلما كان محاربًا لا يشق له غبار في ساحة الحرب، وله ديوان جمعه ابنه محمد وأطلق عليه اسم "نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر", وهو القائل:
لهم همم سمت فوق الثريا حماة الدين دأبهم النضال
سلوا تخبركم عنا فرنسا ويصدق إن حكت منها المقال
فكم لي فيهم من يوم حرب به افتخر الزمان ولا يزال
والآن: هل يزعم أحد اليوم أنه بطل أو ينهد نحو البطولة أو يعمل لها, أو يعمل حتى ليكون محترمًا بين الأمم أو يعيش كبشر بين البشر، ولله در القائل:
نزعم أننا بشر
لكننا خراف!
ليس تمامًا.. إنما
في ظاهر الأوصاف
نُقاد مثلها؟ نعم
نُذعن مثلها؟ نعم
نُذبح مثلها؟ نعم
تلك طبيعة الغنم
لكنْ.. يظل بيننا وبينها اختلاف
نحن بلا أردِية..
وهي طوال عمرها ترفل بالأصواف!
نحن بلا أحذية
وهي بكل موسم تستبدل الأظلاف!
وهي لقاء ذُلها.. تثغو ولا تخاف.
ونحن حتى صمتنا من صوته يخاف!
وهي قُبيل ذبحها
تفوز بالأعلاف.
ونحن حتى جوعنا
يحيا على الكفاف!
هل نستحق، يا ترى، تسمية الخراف؟
نسأل الله أن يردنا إلى دينه ردًّا جميلاً.
المصدر
- مقال:أثر الصحوة الإسلامية في بناء الأمجادإخوان أون لاين