مذبحة ليمان طرة عام 1957م

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذبحة ليمان طرة
فى الذكرى العشرين للمذبحة التى تعرض لها الإخوان المسلمون بليمان طره يوم السبت 1/6/1957



بسم الله الرحمن الرحيم

[من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومن من ينتظر وما بدلوا تبديلا. ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما. ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا].

الرقم اسم الشهيد عمله موطنه
1 أحمد حامد على قرقر ترزى كفر وهب- قويسنا
2 عبد الفتاح محمود عطا الله قمصنجى حلوان
3 على إبراهيم حمزة مطبعى عزبة ناسف – منوف
4 محمد أبو الفتوح قوارة طالب بكلية دار العلوم قلعة الكبش – القاهرة
5 عثمان حسن عيد طالب بالمعاهد الأزهرية باب الوزير – القاهرة
6 خيرى إبراهيم عيطه موظف بجمرك السويس السويس
7 عثمان عزت عثمان (عصمت) عامل بالسكة الحديد شبرا – القاهرة
8 عبد الله عبد العزيز الجندى مدرس اسكندرية
9 إبراهيم محمود أبو الدهب طالب ثانوى امبابة – الجيزة
10 مصطفى حامد على ترزى اسكندرية
11 محمود عبد الجواد العطار تاجر نحاس اسكندرية
12 السيد على محمد موظف بشركة الغزل المحلة الكبرى
13 السيد العزب صوان بكالوريس زراعة أبو الشكوك – شرقية
14 الأحمدى عبده متولى مزارع كفر المرازقة – كفر الشيخ
15 الحاج/ رزق حسن إسماعيل موظف امبابة
16 سعد الدين محمود شوقى طالب ثانوى بهواش –منوفية
17 فهمى إبراهيم نصر دباغ مصر القديمة – القاهرة
18 أنور مصطفى أحمد عامل براده عباسية –القاهرة
19 أحمد محمود الشناوى مهندس بالسكة الحديد العباسية – القاهرة
20 محمود محمد سليمان الطماوى موظف دنديط- ميت غمر بين السرايات - الجيزة
21 محمد السيد عفيفى محاسب


المقدمة

- قال الإمام الشهيد حسن البنا عن الإخوان المسلمين ( أنهم جيل جديد يتكون كالجيل الذى كونه محمد صلى الله عليه وسلم).

- فاتخدت قوى كثيرة متنافرة على واحد هو إطفاء هذا النور.

- وتعرض الإخوان المسلمون لأبشع أنواع التشريد والتعذيب والاعتقال والإعدام والقتل على مدى ربع قرن من الزمان

بسم الله الرحمن الرحيم

فى نهاية العشرينات من هذا القرن, ظهر حسن البنا. واستطاع أن يجمع القلوب حوله على طاعة الله بإيمان عميق , وفهم دقيق وحي وثيق... وكون جماعة ( الإخوان المسلمون). وعرف الإمام الشهيد نفسه وإخوانه بأنهم:-

- ليسوا جمعية خيرية لإعطاء الفقراء صدقات.

- وليسوا حزبا سياسيا.

- وليسوا طريقة صوفية كل أمرها أن تذكر طوال الليل منطوية على نفسها فى خلوتها بعيدة عن الجماهير.

- وليسوا عملا عسكريا فيه فتوة, وفيه جبروت يبعث إلى الغرور.

- إنما هم جيل جديد يكونونه كالجيل الذى كونه محمد صلى الله عليه وسلم.

ودعوة هذا فكرها, كان طبيعيا أن تحاربها كل القوى التى ترى أنه سيقضى عليها القضاء التام إذا أصبح الأمر بيد هذا الجيل الجديد.

- حاربها الاستعمار الغربى ممثلا فى سلطة الاحتلال البريطانى فى مصر, فيرسل السكرتير السياسى للقائد العام للقوات البرية البريطانية فى الشرق الأوسط ومقره فى فايد – يرسل خطابا إلى إدارة المخابرات التابع للقيادة العامة للقوات البريطانية فى مصر وشرق حوض البحر الأبيض المتوسط, بما دار فى اجتماع السفراء , ويكتب بالحرف الواحد تحت رقم 1843/ أى 48 بتاريخ 23/ 11/1948 (فيما يختص بالاجتماع الذى عقد فى فايد فى 10 الجارى بحضور سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا. أخطركم أنه ستتخذ الإجراءات اللازمة بواسطة السفارة البريطانية فى القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين التى فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة فى القاهرة قام بها أعضاؤها).

- وأسرعت الحكومة المصرية المتخاذلة بالتنفيذ. وبدأت موجة الاعتقالات عام 1948

- وحاربتها الصهونية العالمية لأن المؤمنين بها ممثلون دعوة الدين إلى الجهاد, وقد شهدت فلسطين أبطالا منهم وقفوا وقفة العمالقة, ولا يستطيع ضابط ممن اشتركوا فى حملة فلسطين , أو مراقب ممن راقبوا معاركها أن ينكر فضل متطوعى الإخوان المسلمين فيها. أو ينكر بطولتهم وجسارتهم على الموت, والعبْ الكبير الذى تحملوه منها راضيين فخورين مستشهدين فى سبيله. وهذا مما حدا بين جوريون أن يعلن معقبا على اشتراك الإخوان فى معارك 1948( أنه لا سبيل إلى استقرار إسرائيل إلا بالقضاء على الرجعيين فى العالم العربى والمتعصبين من رجال الدين والإخوان المسلمين)

- وحاربها الملك فاروق لأن وجودها كان خطرا على عرشه وقام ( الأميرالاى) محمود عبد المجيد,و ( البكباشى) محمد الجزار, والمخبر أحمد حسين جاد, والسائق محمد محفوظ باغتيال المرشد العام الشهيد حسن البنا فى ليلة 12/ 2/ 1949 لتكون رأسه الطاهرة هدية هيد ميلاد الملك.

- وحاربتها أمريكا باعتبارها وريثة بريطانيا فى المنطقة وحامية إسرائيل .

- وحاربتها الحركة الشيوعية الإلحادية العالمية, لأنها تعتبر ( الإخوان المسلمين) هم العقبة القوية أمام انتشارهم وفرض زيفهم وسيطرتهم تحت ستار الشعارات البراقة... وقد ثبت أن جمال عبد الناصر بعد أن أوقع نفسه وبلده بين فكى الشيوعية وسيطرة الشيوعيين – واجتاح اليهم لدرجة الاستجداء – كان شرطا للاستجابة له أنه أعلن من موسكو فى بيان 6 سبتمبر 1965 حرب الإبادة على الإخوان المسلمين, فتم اعتقال الآلاف منهم فى ليلة واحدة ليذوقوا العذاب حتى الموت بليمان أبى زعبل والسجن الحربى بما عرف بمذبحة 1965.

- وحاربتها الدكتاتورية العسكرية فى مصر منذ عام 1954. وقال اللواء محمد نجيب الذى كان أول من اكتوى بنارها ان السلطة العسكرية أو الدكتاتورية العسكرية لا تطيق تنظيما آخر ولا تتسع الأرض لها وأى هيئة آخرى. وكان خزنى شديدا على عبد القادر عوده الذى صعد درجات المشنقة شجاعا. وتذكرت يوم استدعيته قبل ذلك بشهور إلى شرفة قصر الجمهورية بعابدين ليطل معى على أنصاره فى الميدان ويطلب منهم الانصراف بهدوء بعد أن قلت لهم أن عودتى هى عودة للحياة البرلمانية.. وأن المسئولين عن جنحاهم سوف يحاسبون).


وإذا كان الإمام الشهيد حسن البنا قال : ( إن الإخوان المسلمين ليسوا عملا عسكريا فيه جبروت يبعث إلى الغرور).

فإن الدكتاتورية العسكرية التى عبر اللواء محمد نجيب وصلت فى جبروتها – ليس فقط إلى حد الغرور – ولكن إلى حد الهوس.

وقال توفيق الحكيم فى كتابه عودة الوعى: ( كلمة الحرية وعهد الحرية) تجرى على اللسنة فى الخطب والأغانى والأناشيد. وما من كلمة واحدة لا يريدها الحاكم يمكن أن تخرج من الصدور إلا دخل صاحبها السجون. وقد نجح الحاكم أن يدمج مصر كلها فيها, وأن يقنع مصر البالغة من العمر اكثر من خمسة آلاف سنة ان عمرها هم الثورة ونظامها, وأن لا عمر لها قبل ذلك ولا بعد ذلك يستحق الذكر, هذه العملية البارعة لضغط مصر العملاقة ووضعها فى علبة الثورة ونظامها. خنق مصر وأفقدها الوعى بحقيقة حجمها الهائل عبر التاريخ)

ونتيجة لكل هذا انحدر الحال بمصر إلى وضع غريب:

- القوة العسكرية ممثلة فى الجيش بيد الحاكم.

- أجهزة الإعلام بيد الحاكم.

- باستيل مصر ( السجن الحربى( وباقى السجون والمعتقلات تحت تصرف الحاكم وإشرافه الفعلى بواسطة زبانيته.

- السلطة القضائية بما فيها النيابة تحت سيطرة الحاكم.

- المحاكم الاستثنائية العسكرية فى خدمة الحاكم للإطاحة بكل رأس ترتفع لمواجهته.

- المحققون وحملة السياط أدوات حقيرة فى يد الحاكم.

- القضاة العسكريون مرسوم طريقهم, وأحكامهم معدة مسبقا حسب هوى الحاكم.

وتفرقت الجماعات والحزاب, وخرست الألسن, وصمت الكتاب ولم يبق بالميدان سوى ( الإخوان المسلمون) لأن دعوتهم أساسها تكوين جيل كالجيل الذى كونه محمد صلى الله عليه وسلم, فهى دعوة تحمل فى طياتها سر بقائها. فلا التهديدات, ولا الإغراء, والا الاعتقال ولا السجن, ولا التعذيب, لا الإعدام, ولا الاغتيال , ولا حركات الإبادة – تؤثر فى هذه الدعوة.

ربع قرن من الزمان وأعضاء هذه الجماعة يواجهون أحط وأخس وأشنع انواع الحروب دون أن تتزعزع عقيدتهم. لقد كانوا يمثلون ضمير هذه الأمة خلال فترة الحكم العسكرى الديكتاتورى. وقدموا لدينهم ووطنهم شهداء:

- مذبحة مجلس قيادة الثورة والسجن الحربى عام 54/ 1955

- ومذبحة ليمان طره يوم 1/6/1957

- ومذبحة السجن الحربى وليمان أبى زعبل 1965.

وقد شاهدت المذابح الثلاث. ولكن أبشعها كانت مذبحة الإخوان المسلمين بليمان طرو يوم السبت 1/6/1957. حيث دبرت مؤامرة وفتحت النيران على الإخوان داخل الزنزانات فوقع صريعا واحد وعشرون شهيدا.

وإذا قارنا بين هذه المذبحة وبين مذبحة دنشواى, لهالنا أن ما فعلته قوات الاحتلال الإنجليزية لمصر كان تافها بالنسبة لما فعلته قوات حرس السجون بليمان طره. ويكفى أن مصطفى كامل أثار العالم ضد الإمبراطورية بسبب مذبحة دنشواى.

اما مذبحة ليمان طره فغن مصطفى أمين يذكر فى كتابه ( سنة ثانية سجن):( فى أحد أيام شهر يونية 1957 كنت جالسا فى مكتبى فى أحبار اليوم عندما اتصل بى قسم الاستماع بأخبار اليوم وأخبرنى أن اذاعات العالم تذيع انه حدثت مذبحة فى سجن ليمان طره, وأن أكثر من عشرين مسجونا من الإخوان قتلوا فى زنزاناتهم وأن أكثر من خمسين منهم جرحوا! واتصلت على الفور بوزارة الداخلية وسألت عن حقيقة الخبر, فأكد مسئول كبير فى الوزارة أن الخبر كاذب ولا أساس له من الصحة. واتصلت برياسة الجمهورية وسألتهم عن حقيقة النبأ, فأكدت لى الرياسة أنها أكذوبة استعمارية أصطلقها اذاعات الاستعمار, ومقصود بها تشويه سمعة مصر فى عيون العالم). وانتهى الأمر ببساطة أو هكذا ظن المجرمون. وقد أصبت بجرح عميق برأسى سيظل أثره باقيا حتى آخر العمر وكلما رأيت هذا الجرح أو تحسسسته تذكرت على الفور هذه المذبحة.

وفى 1/6/1977 يكون هذا الجرح فى راسى – ومعه الجرح العميق فى قلبى – قد لازمنى عشرين عاما. وقد استخرت الله أن أطلق بعض زفرات القلب بهذا الكتيب بمناسبة ذكرى مرور عشرين عاما على مذبحة ليمان طرة.

وأدعوا الله أن تكون أفكارنا وأعمالنا وحياتنا ومماتنا لله رب العالمين.


شاهدت المذابح التى تعرض لها الإخوان المسلمون:

- مذبحة السجن الحربى عامى 54/1955

- مذبحة ليمان طره يوم 1/ 6/1957

- مذبحة ليمان أبى زعبل والسجن الحربى عام 1965

وكانت مذبحة ليمان طرة هى أبشع هذه المبذابح لأنها فاقت كل تصور عاقل.


السبت 3 ذو القعدة 1376 هـ - أول يونيه 1957م

استيقظنا قبل الفجر كالمعتاد. وبدأنا فى الاستعداد لصلاة الفجر داخل الحجرات... وبدأ قرآنالفجر يسمع أثناء الصلاة... وكانت جميع الدلائل تشير إلى أن هناك مؤامرة تدبر للتنكيل بنا, وكأنهم قرروا تغيير أسلوب الموت البطىء الذى كنا نعانيه بأسلوب التصفية الجسدية السريعة.

والمعروف بالليمان أن أنسب ظروف تستغلها الإدارة للتنكيل بالسجون حتى القتل بطريقة قانونية, هى أن تكون الواقعة بالجبل خارج اليمان, فما أيسر القتل وتقرير أنه تم أثناء محاولة الهروب. وكان هذا هو ما يزعجنا غاية الإزعاج...

التهديدات التى نسمعها من الضباط... والتلميحات التى نسمعها من الشاويشية والسجانين... والتحذيرات التى يتطوع بها المسجونون العاديون الذين يعملون نوبتجية نظافة بالمكاتب... كلها كانت تشير إلى نقطة واحدة... أن هناك مؤامرة تدبر لإبادة اكبر عدد من الإخوان بالجبل.

وأكد هذا لنا القسوة البالغة التى كما نعامل بها والتى وصلت إلى الذروة منذ أسابيع أثناء العمل بالجبل... الألفاظ القاسية... التفتيش المستمر... إهانة الأهالى أثناء الزيارة... معاقبة كل مقصر فى مقطوعية تكسير الصخور بالجبل وحمله على الظهر إلأى حيث يشون, فى الوقت الذى نرى فيه التسامح الكامل فى قضية اختطاف البابا, والمسجونين العاديين القتلة ومعتادى الإجرام كما كانوا يطلقون عليهم.

إذا كانت المؤامرة تهدف إلى ازهاق أرواحنا بسبب قانونى بالجبل فقد اهتدينا إلى أن أبلغ رد هو محاولة المحافظة على أرواحنا بالاعتصام بالزنزانات وطلب النيابة لتأمين حياتنا, وهذا إجراء قانونى معترف به ومعمول به بكل السجون العالم...

وإلا فما الوسيلة إذا شعر مسجون مقيد الحرية أن حياته فى خطر سوى التزامه زنزانته وطلب النيابة؟ ولكن يبدو أن هذا الإجراء كان مفاجأة لمدبرى الحادث من القادة ومن صغار الضباط الذين كانوا يريدون أن تتم المؤامرة بالجبل للإنتقام الشخصى من هؤلاء الأفراد المعتزين بكرامتهم والظهور بمظهر الناقم على أعداء الثورة لينالوا رضاها وترقياتها...

وفتح السجانون الزنزانات وصاحوا:( انزل الجبل). فلم ينزل أحد وقلنا لضابط العنبر الملازم أول عبد العال سلومة البرى أننا نشعر بخطر على حياتنا إذا ما خرجنا إلى الجبل, ولذلك فإننا سنبقى بالزنزانات بكل هدوء وأننا نطلب النيابة لأخذ أقوالنا ولتأمين حياتنا..

وأصرت إدارة الليمان على نزولنا الجبل ولكن بأسلوب أكثر وحشية.. ذلك أن السجانين والشاويشية والضباط تجمعوا وحاولوا إنزالنا اثنين اثنين إلى الحوش الداخلى للعنبر, وهنالك يقيد كل اثنين بقيد حديدى واحد متصل بسلسة واحدة طويلة, أى أنه فى النهاية يكون الكل مقيدا كل اثنين بقيد واحد والجميع مربوطين بسلسلة واحدة...

وعندما شعر أول أخوين بهذا أفلتا من السجانين وصعدا جريا إلى الدور الثالث ووضحت الحقيقة لنا. وأذكر أن هذا الأخ هو مرسى صادق وأخ لا أذكره... وازاء هذا زاد إصرارنا على هدم مبارحة الحجرات ...

حضر مدير الليمان اللواء/ السيد والى وحوله الضباط , وبدأ يناقشنا وشرحنا له وجهة نظرنا نحن نعرف أننا مسجونون, وأننا مغلبون على أمرنا, وأننا صبرنا ولا زلنا نصبر منذ سنوات امتثالا لقول الحق تبارك وتعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين)... غير أننا لا نطلب امرا غير معقول. أننا متظلمون ونخشى على حيانا ونريد النيابة وهذا مطلب قانونى)... وقدم الأخ سليمان حجر هذا الطلب كتابة إلى إدارة الليمان.

وكان بين الضباط الملازم أول / مجيد البهى الخولى وكان زميلى بالدراسة بمدرسة طنطا الثانوية , ووالده من زعماء الرعيل الول من الإخوان المسلمين, وله أسلوب معروف فى تربية النفوس وشحنها بالمعانى الإسلامية الرائعة, وقد تتلمذت على يديه بطنطا أثناء أن كان يعمل بمعهد طنطا الدينى – وكتابه( تذكرة الدعاة) من المؤلفات التى كان يدرسها الإخوان المسلمون..ز ثم ابتعد بنفسه.

فقلت له : أنا أكلمك باعتبارى زميله بالدراسة. وباعتباري تتلمذت على والدك الذى أسهم فى غرس المعانى الإسلامية التى أعتز بها فى نفسى. والتى بسببها أنا موجود هنا. أننا هنا فى خطر ونشعر أن حياتنا ليس لها أى قيمة... ونحن موجودون بعنبر واحد وله بوابة ضخمة, ويحيط بالعنبر سور ضخم له بوابة متينة, والعنبر مع باقى العنابر الأخرى داخل سور واحد وعال وعليه الحراس... أذن. ماذا يضير لو اقفلتم علينا باب العنبر الداخلى وابتعد السجانون والشاويشية والضباط لحين حضور النيابة أو لحين ان تهدأ نفوسنا المذعورة مما نرى ونسمع؟!.

فظهر عليه التأثر البالغ والاقتناع. وذهب إلى مدير الليمان وبعد فترة عاد إلىّ وقال مفيش فايدة).. وكنت أحس أنه يتمزق فلا شك أنه كان يحس بالكارثة من رد مدير الليمان عليه.

ويبدو أن مناقشة مدير الليمان لنا كانت نوعا من كسب الوقت لنقل الموقف إلى الحكومة وتدبير الخطوة التالية.

وكانت الخطوة فى منتهى البشاعة. كتيبة الحراسة بأكملها وبأسلحتها السريعة الطلقات صعدت إلى الدور الثانى الذى تحتنا والدور الرابع الذى فوقنا وبدأ حصارنا. ووقف عشرة من الجنود بفناء الدور الأرضى وبنادقهم موجهة إلى أعلى. وفجأة صدر الأمر من اللواء/ اسماعيل همت وكيل مصلحة السجون( اضرب ) فأطلق سيل الرصاص من كل جانب.

ورأيت اثنين من الإخوان يسقطان فى لحظات الشهيد / السيد العزب صوان, والشهيد / عصمت عزت عثمان. ودخل جميع الإخوان الزنزانات للإحتماء بها ودخلت إلى أول زنزانة بجانبى وأغلقنا الباب, وانزويت مع من دخل معى بركن, وكان بجوارى الشهيد الحاج/ رزق حسن اسماعيل, وفجأة ارتمى على صدرى فقد أصيب بطلق نارى مصوب الينا من الدور الرباع خلال الفتحة التى توجد باعلى باب الزنزانة. واستقرت الرصاصة بقلبه ولم يستغرق الأر أكثر من الوقت الذى نطق فيها الشهادتين , ثم صعدت روحه إلى الملأ الأعلى تشكو الظلم والوحشية. وسوف يبقى هذا المنظر عالقا بفكرى مدى الحياة. وكان معى بالحجرة الشهيد / محمود عبد الجواد العطار, والأخ/ مصطفى عارف وثلاثة آخرين لا اذكرهم الآن.

وصدر أمر بإيقاف ضرب النار.وساد صمت رهيب وكنا بين لحظة وأخرى نسمع باب زنزانة يفتح ثم صراخ وبعض طلقات...

وجاء الدور علينا وفتح باب الزنزانة, ورأيت النقيب / عبد اللطيف رشدى وبيده مسدسه, معه عدد من السجانة وبعض جنود الكتيبة ولم اشعر بنفسى إلا وأنا أخرج من الزنزانة منفلتا من جواره وأجرى فى الممر نحو السلم الموصل إلى الدور الأرضى.. وسمعت صوت طلقة وأحسست بدماء تسيل على وجهى واعتضنى بالممر السجان(متى) وبيده( شومة غليظة) وبدأ يهوى بها على رأسى بالمكان الذى اصابتنى فيه رصاصة طائشة. لم يغير مكان الضرب... خبطات قاسية متتالية على رأسى بمكان واحد... وهويت إلى الأرض وأحسست بأننى أ÷وى بسرعة مذهلة فى بئر لا قرار له لونه أحمر بلون الدم القانى وتذكرت أبى وأمى وأخوتى وإخوانى وجميع أقاربى وأصدقائى شريط سريع شامل ونطقت بالشهادتين قم غبت عن الوعى...

ثم أفقت. وسمعت صوتا ينادى على الجرحى الذين بين القتلى أن يرفع الجريح يده لنقله إلى المستشفى. فرفعت يدى فحضر إلىّ ممرض وحاول رفعى فلم يستطع. فأطلق لسانه بالسب, وجعل يجرنى من قدمى حتى وصل إلى نهاية الممر, وبدأ ينزل السلم بنفس الطريقة. وشعرت بألم شديد براسى نتيجة لارتطامه بدرجات السلم. ووهبنى الله قوة أو وقفت... وكانت وقفتى بجوار ضابط العنبر الملازم أول / عبد العال سلومة فنظر إلىّ. وفى هذه اللحظة تقدم نحوى أحد جنود الكتيبة وصوب إلى صدرى بندقيته. وقال لى أنت الشيخ محمود؟؟ ولم أفهم ماذا يقصد. واستعد لإطلاق الرصاص. غير أن الله سخر الملازم أول عبد العال سلومة فمنعه.. وقد هلمت فيما بعد أنه كان يقصد الشهيد / محمود عبد الجواد العطار الذى كان معى بالحجرة.. وكان كلانا قد أطكلق لحيته فتقاربنا فى الشكل, وأن هذا الجندى كان مع النقيب/ عبد اللطيف رشدى وهو يبحث عن الشيخ / محمود ليقتله, وقد علمت أنه نفذ غرضه حيث خرجت من الحجرة ولم يستطع الشهيد/ محمود ,واغتاله عبد اللطيف رشدى... وظن الجندى ا،÷ أفلت من الموت واعتقد أننى هو وأراد أم يكمل المهمة.

ونزلت مع الممرض إلى فناء العنبر. ثم وقعت فأحضر نقالة وتعاون مع زميل له وخرجا بى إلى مستشفى الليمان... والمستشفى محاطة بسور له بوابة يقف عليها سجان وبيده ( شومة) وعند وصولنا إليه سمعته يقول( وانت عايش لسة ليه يا ابن ال...) وأشفع القول بضربة قاسية خلف أذنى جعلت الدم يندفع كالنافورة إلى أعلى...

ووصلنا إلى حجرة العمليات, ورايت جثثا كثيرة ملقاة على الأرض والدماء تغطيها تماما. هؤلاء جرحى المذبحة فى انتظار الدور لإدخالهم إلى غرفة العمليات حيث يوجد طبيب واحد وأظنه الدكتور/ عبد القادر الحسينى.   ويشاء الله أن يخرج الدكتور من غرفة العمليات ليأخذ أقرب جريح له, فرآنى محمولا على النقالة ونافورة الدماء منفعة, وأشار على الممرضين بادخالى إلى غرفة العمليات دون انتظار الدور. وقد مكثت زمنا طويلا – وربما لا أزال – أحس أن ادخالى إلى غرفة العمليات قبل دورى ربما يكون قد أنقذني من الموت, وفى الوقت نفسه ربما يكون قد تسبب فى استشهاد أحد الإخوان الذى كان عليه الدور. ولكن هذا قدر الله ولا حول ولا قوة إلا به.

وبذل الطبيب أقصى جهده لإنقاذ من يمكن إنقاذه من ضحايا المذبحة البربرية... وكانت العمليات تجرى بدون ( بنج) وبأقل الإمكانيات. وكنت أنظر إليه وقد استلم رأسي ولم أكن أحس بأى ألم أثناء العملية ولا أدرى لماذا... ثم نقلت إلى عنبر جرحى المستشفى, وكنت مغشيا على أفيق لحظات فأتقيأ دما وأحس بجميع فرش السرير كأنه مغسولا بالدم... وبجوارى الأخ/ عباس فتح الله يواسينى أو يناولنى بعض الماء... وقد علمت فيما بعد أن أصابته كانت بسيطة وكذا الأخ / صلاح عبد الخالق أنور فكان وجودهما بعنبر الجرحى رحمة ساقها الله إلينا... كما علمت فيما بعد أن إدارة الليمان أخذتهما إلى حيث أخوانهم الشهداء للتعرف عليهم,فيا له من موقف تحملاه.(م2 – مذبحة)

وحضر فى اليوم الثانى الطبيب وبعض الضباط. وانصرفوا وقد علمت من الأخ/ محيى الدين عطية أن الطبيب اندهش لوجودى حيا وكان يتوقع موتى خلال اليل ولكنها إرادة الله.

وبدأ تحقيق النيابة مع الجرحى. غير أن حالتى لم تسمح بأخذ أقوالي إلا بعد عدة أيام... أخذت إلى احدي حجرات المستشفى ووجدت وكيل النيابة واحد ضباط المباحث العامة وأحد ضباط السجن وكاتب التحقيق... وانتهى التحقيق معى بد ان ذكرت له الحقيقة الناطقة بمدى الظلم ومدى الوحشية, وكانوا يسمعون كلانى بكل هدوء وهم يشربون المثلجات, كأنهم فى نزهة من نزهات آخر الأسبوع. وليس لديهم أدنى فكرة انه بقتلنا فكأنما قتل هذا الشعب بأسره.

وبعد تحسن حالتي اختارني إخواني جرحى المذبحة ( أمير لهم) تنفيذا لتوجيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( ان كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم) ومن هذه اللحظة بدأت اتصالاتي مع الشهيد / سيد قطب وكان رحمه الله موجودا منذ سنوات بمستشفى الليمان ومعه الشهيد / محمد هواش , والأخ هارون. وكنا نسعد بزيارته بالمستشفى. وكان رقيق القلب قوى الإيمان.. وكان بينه وبين بعض الإخوان مساجلات إسلامية أدبية وأحيانا شعرية لطيفة. اذكر منها ما كان بينه وبين الأخ/ محيى الدين عطية و إذا اشتركا فى نظم الوزو والقافية. وياليت محيى يكون محتفظا بها إلى الآن.

كتبت تقريرا إلى الشهيد بما حدث... وكتبت الشهداء وعددهم 23 شهيدا. وعن هذا الطريق أعلنت إذاعات العالم المذبحة وأسماء الشهداء ال23... وقد ظهر فيما بعد أنهم 21 شهيدا. وقد أثرت هذه المذبحة فيه – رحمه الله - فبدأ ينزف دما من فمه, وكنا نخشى عليه ان يكون الشهيد الثانى والعشرين. أنى أكاد أجزم أن هذا المذبحة لم تؤثر فى صحته فحسب بل أثرت فى كتاباته وانفعالاته ومشى فى طريق حدده لنفسه عم إيمان, حتى لقى الله شهيدا فى مذبحة عام 1965.

وأكاد أحس به وهو يكتب أنه يرى كل شهيد من شهداء المذبحة.. ( أن الداعية المسلم ينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا. ويستيقن أنها فترة وتمضى , وأن للإيمان كره لا مفر منها, وهبها كانت القاضية, فإنه لا يحنى لها رأسا. وأن الناس كلهم يموتون, أما هو فيستشهد, وهو بغادر هذه الأرض على الجنة, وغالبه يغادرها إلى النار وشتان شتان وهو يسمع نداء ربه: لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها النهار خالدين فيها نزلا من عند الله, وما عند الله خير للأبرار).

علمت أن الشهداء دفنوا إعلان, ومنع أهالى الشهداء من إظهار مشاعرهم ومن تلقى العزاء... لقد اعتقلوا حتى المشاعر الإنسانية فى الإنسان !!!

وعلمنا من نزلاء السجن ان إدارة الليمان قامت يوم المذبحة باخراج القتلى من الزنزانات ووضعوهم بصورة توحى للنيابة أن الإخوان كانوا يهاجمون السجانة, ووضعوا بجوار كل شهيد( جردل أو آله حادة.

وبعد المذبحة تقرر نقل الإخوان الذين نجوا إلى سجن القناطر. ولم يبق بالليمان سوانا نحن الجرحى وكان عددنا اثنين وعشرين جريحا وكذا الشهيد سيد قطب والشهيد محمد هواش والأخ هارون.

وبعد ما يقرب من شهر تقرر ترحيلنا إلى القناطر الخيرية وكان قائد الحرس النقيب محمد صبحى, وفرو وصولنا إلى باب السجن فوجئنا باستقبال رهيب شبيه باستقبالات السجن الحربى. وكان الفارس بسجن القناطر هو الصول/ على الشلقامى: جثة ضخمة, صوت مخيف, وسوط طويل-... وأثناء التفتيش قال النقيب / صبحى مشيرا إلى ( خدوا بالكم من ده هو الزعيم.) ولم يكد ينطق بهذا العبارة حتى انهالت علىّ الضربات من كل جانب... وأخذونا جريا إلى عنبر واحد حيث باقى الإخوان.واستقبلنى الملازم أول / سامى دويدار بالسباب وقال لى أنا معنديش هنا زعماء, وأخذ السوط من الصول الشلقامى وجعل يهوى على ظهرى وهو يصرخ بالسباب وقد علمت فيما بعد انه كان يرفع صوته وسوطه ليسمعه باقى الإخوان بالزنزانات – كوسيلة من وسائل الإرهاب والتهديد.

ولكن شيئا من هذا لم يحدث..!! وشعرنا بأسف شديد على هذا الشعب. ذلك أن التجارب قد أثبتت أن الشعوب إذا تكاسلت عن القيام بواجبها فى الدفاع عن مبدأ الحرية والشرعية ظنا منها أن ما ارتكب قصد به فرد واحد أو طائفة معينة أو فئة محدودة, فإنها بذلك ترتكب إثما جسيما, جريمة لا تقل عن الجريمة التى ارتكبها الحاكم المستبد. وأنها تجنى من وراء هذا التقصير أن يستمرىء الحاكم المستبد خطة الاستبداد والطغيان حتى يستذل الجميع, ويقضى على حريات الشعب بجميع طوائفه وأفراده, وتتحول الأمة إلى قطيع من الأذلاء يسوقهم الحاكم المستبد نحو الهزائم والكوارث والمآسى وها هناك من ينكر أن هذا ما حدث فعلا؟؟؟

هذا صورة لمذبحة الإخوان بليمان طره فى يوم السبت 1/6/ 1957 حسبما وقع لى فيها من أحداث. وأعتقد أنه حتى تكتمل الصورة تماما.. فيجب على كل أخ من الإخوان أن يكتب ما حدث له بالفعل.

وقد تناول البعض هذه المذبحة فى كتاباتهم. ومنهم غير المسلمين ومنهم الصحفى ومنهم المحامى والكاتب ويكاد يكونون جميعا لا تربطهم أية صلة بالإخوان المسلمين:-

- الصحفى اللبنانى (روكس معكرون) وقد كان نزيل ليمان طره يوم المذبحة وألف كتابا تحت عنوان – ( أقسمت أن أروى) نشره فى لبنان عام 1960 تناول فيه المذبحة.

- أحد الإخوان الذين تعرضوا للمذبحة والذى نشرته مجلة الصياد البيروتية الأسبوعية بالعدد 1580 فى 26/12/1974.

- الأستاذ / مصطفى أمين بكتابه ( سنة ثانية سجن)

- الأستاذ / كمال الفرماوى المحامى بكتابه ( يوميات سجين فى السجن الحربى.

- الكاتب / سامى جوهر بكتابه ( الموتى يتكلمون)

ماذا كتب الصحفى المارونى اللبنانى ( روكس معكرون) فى كتابه ( اقسمن أن أروى) الذى نشره بلبنان عام 1960؟؟


شاهد لا يربطه بالإخوان ولا بالإسلام أدنى صلة

... وجاء الصباح المنتظر وجاوزت الساعة السابعة,ولم تفتح البواب.. وذلك على غير العادة. قفزت من غرفتى إلى الفتحة الصغيرة بباب الزنزانة استطلع الخبر.. لم أر شيئا... إلا أننى سمعت وقع أقدام كثيرة... ثم رأيت ضباطا أعرفهم وكلهم من ضباط السجن, وكلهم مدججون بالسلاح ومعهم عدد وافر من الزبانية يشكلون حلقة ويتشاورون. ولم تمض دقائق معدودات على هذا الوضع حتى توجه السجانون إلى الدور الثالث وفتحوا أبواب الزنزانات بكاملها وأخرجوا الأصحاء من الإخوان إلى شرفة الدور وتركوا بقية الأدوار مغلقة.. وبعد دقائق دوت طلقات نارية كثيرة... ولم اسمع سوى صوت واحد ردده الجميع – جميع الإخوان – الله أكبر الله أكبر... وبقى الرصاص يدوى إلى أن اطمأن الطغاة إلى استشهاد المجموعة البريئة...

وظننت أن الأبواب لن تفتح قبل أن ينقلوا الجثث من العنبر.. إلا أن آدمية خيبت ظنى وفتحت الزنزانات – كل الزنزانات – وآمرنا بالخروج من الغرف لقضاء حاجاتنا.. وما بالك أيها القارئ العزيز إذا علمت أننا كنا نتخطى الجثث وكأننا فى ميدان حرب... جثث فى كل مكان.. أمام غرفتي وفى الفناء وعلى سلم العنبر..

وأطلقت صفارة السجان.. ونودي على جميع سكان العنبر بالنزول إلى الفناء..وامتثل السجناء للأمر... أمر سجانهم صاحب الحول والطول يفعل بهما ما يسعده من ألوان العذاب والحرمان.. فهو فى قانون الليمان حاكم مطلق الصلاحية.

واجتمعنا نحن السجناء فى فناء العنبر.. وأجلسونا القرفصاء وجلست هذه المرة دون مجرد التفكير فى الاعتراض على هذا الوضع وكانت إدارة السجن قد استدعيت بقية الإخوان الذين كانوا فى غرفة التأديب ومنهم الدكتور حمدى... ووقف الملازم أول عبد العال سلومة ليقول لنا جميعا: ايها النزلاء.. يسر إدارة الليمان أن تسعكم بمشاهدة الإخوان المسلمين يقومون بالألعاب بهلوانية للترفيه عنكم!

وحضرتنى فى تلك اللحظة صورة (نيرون)... يقهقهه وروما تحترق وأعطى الضابط الخليع أوامره للإخوان المسلمين ليدوروا سريعا حول العنبر وراءهم شرمة من الزبانية تلهب ظهورهم بالسياط..ز أن وحشية (هولاكو) لتبدو معدومة إذا ما قورنت بوحشية القائمين على السجن الذين يستمدون أوامرهم من وزارة الداخلية فينفذونها بدقة وإخلاص.

ثم نودى على الإخوان مرة أخرى ليوزع عليهم الضباط الهمام أسماء جديدة.. ولكنها أسماء لنساء. صورة من المهانة والتحقير لم تعرفها الإنسانية من قبل.

نص الرسالة التى تلقاها الصحفى جلال كشك من أحد الإخوان الذين شاهدوا المذبحة – والتى نشرت بمجلة الصياد البيروتية الأسبوعية بالعدد 1580 بتاريخ 26/ 12 / 1974

(أكتب اليك قصة وقعت أحداثها سنة 1957. كنا مائة وثمانين ما بين شاب فى مقتبل عامه الخامس عشر وشيخ تجاوز الخامسة والخمسين, وكان قد مر علينا سنوات فى ليمان طره نعمل لتحطيم الصخور ونقلها, إلى أن كل ذلك النهار القائظ من صيف 1957, وبالرغم من أننا بذلنا كل ما تسمح به طاقتنا البدنية الكليلة فى محاولة للتعايش مع أوضاع الليمان أطول فترة ممكنة, فإننا وصلنا إلى مرحلة من التداعى والخور – وما أقل حيلة المسجون – أدت بنا إلى التوقف الكامل عن مواصلة السير.

وقررنا فى اليوم التالى أن نكتب إلى وزير الداخلية... كن مطلبنا الوحيد هو أن نعفى من الخروج إلى الجبل باعتبارنا مسجونين سياسيين, وأن نقضى أحكامنا فى العمل بإحدى الورش الصناعية الموجودة داخل الليمان لصناعة الأحذية او الملابس أو أعمال النجارة والحدادة أو عمل الملابس والطبخ وتنظيف المرافق وزراعة الأرض الجرداء .وصممنا أن يصل صوتنا إلى وزير الداخلية. ولم يكن هذا من حقنا فحسب, ولكنه أيضا واجب إدارة السجن الذى فرضته عليها اللوائح والأنظمة أن تبلغ الشكاوى إلأى المرسل إليه ما دامت مرفوعة بالطريق الرسمى السليم.

وجاءنا مدير الليمان اللواء, ومساعده القائمقام إسماعيل طلعت إلى العنبر , وصعدا الينا فى الطابق الثالث وهو مالم يكن يحدث الا نادرا.وتحلقنا حولهما محاولين شرح الأوضاع التى ضاقت بنا وجعلتنا نقترب من قبورنا مع كل خطوة نخطوها فى طريق الجبل اليومى.. وتحدثا ألينا بلطف شديد. ويحاولان إفهامنا أن الامتناع عن الخروج إلى الجبل معناه فى العرف العسكرى تمرد, والتمرد غير مقبول وسيقابل بالشدة اللازمة... وأجبناهما بأننا على استعداد لتحمل الجوع والحبس الإنفرادى فى التأديب فى سبيل ان ينظر المسئولون إلى شكوانا نظرة جادة.

كانت إدارة الليمان تجرى معنا حوارا مهذبا مستفيضا فى الوقت الذى أعطت فيه تعليماتها إلى كتيبة الحراسة الخارجية وقوة السجانين الداخلية بالتسلح الكامل ومحاصرة العنبر تمهيدا لاقتحامه وهذا ما حدث تماما.

ثلاثمائة جندى مسلح هاجموا مائة وثمانين مسجونا لا يحملون فى أيديهم سوى ملابسهم يحمون بها صدورهم من الرصاص..ز تمت المذبحة على هذا الوجه... جماعة من حاملى العصى الغليظة تقدمت الصفوف فأحاطت بمن أمامها وفرقت الجموع التى كانت تقف فى ممرات الطابق الثالث من عنبر رقم 1 الذى كنا نسكنه. ثم تلتها جماعة من حاملى البنادق صعدوا إلى شرفات الطابق الرابع وصوبوا بنادقهم الينا فى الطابق الثالث فكانوا أقدر على الإصابات القاتلة.


سيدى المحرر

لم أعي الحقيقة الكاملة إلا لحظة نظرت إلى زميل واقف بجانبى فرأيته هوى إلى لأرض وفى عنقه رصاصة قضت عليه فى الحال, كان عاملا فى مصانع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى, واسمه العزب صوان كان طويلا فارعا له صوت رخيم طالما أشجانا به فى ليالينا الطويلة, وكان باسم الثغر رحب الصدر. ولا أدرى حتى كتابة هذه السطور ماذا فعل الله بزوجه وأولاده الخمسة... فقد كان سؤالى عن أحوالهم بعد ذلك كفيلا بتقديمي إلى محاكمة جديدة...

وقبل أن أرفع نظري على مصدر الرصاصة التى أصابت زميلى هويت بجانبه دون أن أشعر بأية إصابة. ومددت يدى إليه أجره جرا إلى باب مفتوح لزنزانة قريبة... ووجدت داخلها زميلين يكاد الفزع يقتلهما, وقد ساعداني فى دخول الزنزانة , وفى جر الجثة اليها... ثم أغلق الباب ... وانتظرنا. أن الجنود الذين كانوا يصوبون بنادقهم إلينا حتى بعد انزوائنا داخل الزنزانات لم يكن لديهم أى مبرر للحقد أو الانتقام. ولم نفهم ما الذى كان يدعوهم إلى قتلنا... ولئن أمروا بادخالنا الزنزانات وإغلاقها خلفنا لكفاهم فى ذلك بعض العصى الخفيفة كالتى يحملها رجال البوليس يفرقون بها المظاهرات العزلاء. وهذا ما جعل بعضنا يفترض انهم لم يؤمروا بإدخالنا زنزاناتنا فحسب ولكنهم أمروا بالقتل أيضا.. وذكر بعض آخر أنه سمع الجنود يتبادلون حديثا فيما بينهم أبان المذبحة فهم منه أن إشاعة سرت بينهم مؤداها أن الإخوان قتلوا واحد من الجنود فى الزنزانة الكبيرة وهو ما لم يحدث على الإطلاق... ولما كانت هذه الإشاعة الذكية من شأنها أن تملأ قلوب الجنود غلظة, فلم يكن من المستغرب أن يندفع عدد كبير منهم إلى الزنزانة المذكورة, وأن نعرف فيما بعد أن عدد القتلى داخل هذه الزنزانة وحدها بلغ السبعة..ز لم تطلق عليهم رصاصة واحدة أما كيف ماتوا بغير رصاص البنادق... فهذا مالا يمكننى معرفته لأننى لم أكن داخل هذه الزنزانة... ولكننى رأيت اثنين منهم فى مستشفى السجن بعد ساعة واحدة من انتهاء المذبحة ولم أتعرف عليهما.

كان الدم المنبثق من فم الشاب الصغير على حمزة يغطى وجهه المشوه من اثر ضربات الأحذية... أما جسمه الممزق بطعنات السنكى فقد كان دليلا صارخا على أن إحضاره إلى المستشفى ما هو إلا سخرية جديدة بنا... فقد كان يلفظ أنفاسه الأخيرة .

أما خيرى عيطة وهو شاب أزهرى فارع الطول كان يرأس فريق كرة السلة فى معهده, فقد كان ممددا بأرض المستشفى بعد أن أسلم الروح, ولم أميزه إلا بقامته الطويلة الفارعة. أما وجهه المشوه فقد ارتسمت صورته الرهيبة فى مخيلتى ولن أنساها ما حييت .

تلك كانت قصة الزنزانة الكبيرة التى كانوا يطلقون عليها ( المخزن) لنتركها ونعود لنربط الأحداث بعد أن ضمتني زنزانة صغيرة مع زميلين يقرآن بصوت مرتعش متهدج على جثة زميل ثالث. وكنا قد غطينا الجثة واحتمينا بها من الرصاص الذى كان ولا يزال يصوب إلينا من الطابق الرابع خلال قضبان النافذة التى تعلو الباب والتى لا يمكن إغلاقها. ولم تستغرق المذبحة ساعة من الزمن... سكنت بعدها الحركة وخمدت الأنفاس حتى لا تكاد تميز الزنزانة المسكونة من الزنزانة الخالية... وارتفعت أصوات أخرى تعلن للجنود أن مهمتهم قد انتهت وأن عليهم أن يتجمعوا ليعودا إلى ثكناتهم. مر فريق آخر على الزنزانات يسأل عن الجثث,أعلمناه أن لدينا جثة ففتحوا الباب وشدوها بسرعة وأغلقوه. ثم مر فريق آخر يسأل عن الجرحى وكنت قد أدركت من الدم الدافئ الذى تدفق من فخذى أننى أصبت برصاصة لم اشعر بها فى وقتها, ولكننى عندما فتح الباب واقتادوني إلى الخارج لم أتنكم من السير منفردا, واكتشفت أن ساقى توقف تماما عن الحركة

وتعثرت فى طريقى إلى مستشفى السجن بجثة زميلى الذى من أعزه وأحترمه, المحاسب أحمد قرقر, كان منكفئا على وجهه فى الممر الضيق أمام الزنزانات, لم تكن حثته قد رفعت بعد فكان على كل الجرحى الذين يخرجون إلى المستشفى أن يعبروا فوق جثته.

وعلى الرغم من أن عدد الجرحى كان أكثر من ضعفى عدد الأسرة حتى أن معظمنا كان يرتمى إلى الأرض بمجرد وصوله , فإن أحدا لم يفكر فى استدعاء عدد كاف من الأطباء لمعاونة الطبيب الوحيد الذى كان موجودا فى ذلك الوقت.

بل الكثر من ذلك مدعاة للعجب, أننا شاهدنا موكبا ضباط السجن يدخلون علينا المستشفى بعد ذلك مستفسرين عن أحوالنا ولما دنا منى أحدهم – وكان ملازما مسيحيا صغير السن دمث الخلق استحلفته بالله وبحق زمالتنا القديمة – فقد كانت تجمعنا مدرسة ثانوية واحدة قبل سبع سنوات – أن ينقل جريحا فى السرير المجاور لى إلى مستشفى القصر العينى لإدراكه قبل فوات الأوان واعتذر الضابط بأنه لا يستطيع, وبادرته:

- أعلم أنك لا تستطيع بطبيعة الحال.. ولكن ألا يمكنك أن تتحدث إلى مدير الليمان فى ذلك؟ وأجاب: لا أستطيع فى هذه الظروف أن أقدم أى مساعدة.

- قلت: ليس من المعقول أن يشك إنسان فى وجود علاقة بينك وبين واحد منا, فماذا يخيفك؟ وكنا نعتبر الضباط المسيحيين - وهو واحد منهم – رحمة يسوقها الله إلينا فى الليمان, لن لديهم حصانة طبيعية تمكنهم من مساعدتنا دون خشية الرقاباء.

وغادر الملازم لطفى سريرى قبل أن يزداد انفعالي ويرتفع صوتى فيكشف ما بيننا من معرفة, ولمحت دمعه منحدرة من عينه لم يجرؤ رفع يده إلى وجهه لمسحها إلا بعد أن غادر باب المستشفى خلف موكب الضباط.

أما جارى الذى كان يتفق الدم من فمه, واسمه أحمد عبد العزيز وهو شاب نحيل يملك مصنعا للحلوى بالقاهرة, فقد شاءت عناية اله أن تمد من أجله , وعلمنا بعد ذلك أن الدم لم يكن يتفجر من جوفه, وإنما هو جرح داخلى نتيجة رصاصة أصابت أحد الفكين وخرجت من الفم. وكان عدد القتلى ثلاثة وعشرين.

- أذاعت جميع إذاعات العالم – ما عدا مصر - نبأ المذبحة

- وعلقت وزارة الداخلية أن الخبر كاذب ولا أساس له من الصحة

- وأكدت رئاسة الجمهورية أنها أكذوبة استعمارية لتشويه سمعة مصر

- وصدق مصطفى أمين هذا التكذيب حتى دخل الليمان وتحقق بنفسه –ونشر تحقيقه بكتابه سنة ثانية سجن.

فى أحد أيام شهر يونيو سنة 1957 كنت جالسا فى مكتبى فى أخبار اليوم عندما اتصل بى قسم الاستماع بأخبار اليوم واخبرني أن إذاعات العالم تذيع أنه حدثت مذبحة فى سجن ليمان طره, وأن أكثر من عشرين مسجونا من الإخوان قتلوا فى زنزاناتهم, وأن أكثر من خمسين منهم جرحوا, واتصلت على الفور بوزارة الداخلية وسألت عن حقيقة الخبر, فأكد لأى مسئول كبير فى الوزارة أن الخبر كاذب ولا – أسا سله من الصحة. واتصلت برئاسة الجمهورية وسألتهم عن حقيقة النبأ, لإ أكدت لى الرياسة أنها أكذوبة

استعمارية أطلقتها إذاعات الاستعمار ومقصود بها تشويه سمعة مصر فى عيون العالم!!.

وصدقت هذا التكذيب الرسمى إلى أن دخلت سجن الاستئناف ولذا بأحد الحراس يعترف بأ،ه اشترك فى المذبحة, وأن الأوامر التى كانت لديه قضت بقتل جميع المسجونين السياسيين الموجودين فى الطابق الثالث فى العنبر رقم 1 بليمان طره! وفى سجن القناطر قابلت عددا من الحراس الذين حملوا القتلى بعد المذبحة من العنبر إلى مستشفى السجن كان عشرين قتيلا, والبعض الآخر قال أن عددهم كان واحدا وعشرين قتيلا!!

وعندما نقلت إلى ليمان طره لاحظت, وأنا أتفحص زنزانتى فى الطابق الرابع فى عنبر واحد – أن جدران الزنزانة فيها عدد من الحروق وسألت عن هذه الحروق فقيل لى أنها رصاص مذبحة طره!!

وبدأت أحقق بنفسى فى هذه المذبحة الخطيرة, وسمعت شهودها الذين بقوا على قيد الحياة أن القصة بدأت قبل أول يونيو سنة 1957 وهو يوم المذبحة بزمن طويل, بدأت هذه الفترة فى أكتوبر 1955 واستمرت حتى أول يونيه سنة 1957, وكانت التعليمات سبقت وصول المسجونين السياسيين من الإخوان إلى ليمان طره باستعمال أقسى طرق العنف معهم. ونفذت إدارة السجن أوامر الإرهاب بدقة تامة.

ولم يذق المسجونون السياسيون فى تلك الفترة يوما واحدا من الراحة والهدوء. التفتيش المستمر... يدخل الضباط الزنزانة ويرمى محتوياتها بالخارج. يدوس بقدميه على الطعام. يتعمد إثارة المسجونين وإهانتهم ومحاولة إذلالهم. أوامر بالاحتكاك المستمر بالإخوان المسجونين الذين يعملون فى تكسير الأحجار فى الجبل. كانوا يأمرونهم بالخروج إلى الجبل بعد فتح الزنزانات مباشرة, يمنعونهم أحيانا من دخول دورات المياه. أو يؤنبونهم ويحطمون معنوياتهم ويسخو رن منهم قبل أن يسمحوا لهم بدخول دورات المياه. وكان مطلوبا من كل مسجون سياسى أن يكسر كمية معينة من الأحجار, ويكومها ثم يفرغها فى عربات السكة الحديدية, وأى نقص فى الكمية يعرض المسجون السياسى لدخول التأديب وارتداء الملابس الحمراء, وفى هذه الحالة يطالبون بضعف المقطوعة المقررة من الأحجار! ومن يعجز عن تكسير الكمية المقررة يتعرض للجلد!!

فى الجبل الشكوى ممنوعة. لا مراعاة لظروف سجين ضعيف أو سجين مريض أو كبي السن. وفى وقت من الأوقات بلغ عدد الإخوان الذين وضعوا فى سجن التأديب أكثر من خمسين مسجونا, كانوا يخرجون إلى الجبل فى الملابس الحمراء,ويطالبون بمضاعفة كمية تكسير الأحجار!!

وتعرض بعض المسجونين السياسيين لضربات الشمس فى الحر الشديد. سقط عدد منهم مغمى عليه. رفض المسئولون احضار سيارة إسعاف . قالوا أن سيارات الإسعاف لا تحمل الكلاب! تذمر المسجونون. نفخ الضباط البوق يعلن ( كبسة على الجبل) ونزل المسجونون السياسيون محاصرين بالجند المسلح وفى جو من التهديد والإرهاب إلى أن وصلوا إلى الليمان. وفى اليوم التالى قامت حملة من الحراس وهاجمت الزنزانات وفتشتها, وجردت المسجونين السياسيين من كل ما يملكون, وصدر قرار يمنع المسجونين من الإخوان من تأدية صلاة الجمعة الجامعة , وحدث مرة أن ضبط المدير عددا من الإخوان يصلون العصر, فى الدور الثالث, فأمر بعقاب جميع المسجونين فى الدور الثالث. الذين يصلون... والذين لا يصلون! وكان المسئولون فى السجن يتلقون أوامر بالاعتداء المستمر على المسجونين من الإخوان, وكانوا يفتعلون معهم المعارك, وفى سنة 1956 اتهموهم بأنهم تأخروا قليلا فى الخروج إلى الجبل, وقامت فرقة من الحراس بضربهم أمام العنبر, وكادت تحدث مجزرة, لولا أن اللواء/ حسن سيد أحمد مدير الليمان وصل فى هذه اللحظة وأمر بسحب جنود الكتيبة والحراس وأقفل العنبر, وأودع 12 من المسجونين السياسيين الذين أصيبوا فى الحادث فى سجن التأديب واستصدر أمرا بجلد بعضهم 36 جلدة وضرب الآخرين 12 جلدة.

وفى أوائل عام 1956 اشتدت المعاملة سوءا, وصدرت أوامر بالاحتكاك بالمسجونين السياسيين من الإخوان أثناء الصلاة, وفى أثناء زيارة أهلهم, وكانوا المسجونون السياسيين يضعون على رؤوسهم فى الجبل أثناء العمل أغطية للرأس, شأنهم شأن باقى المسجونين فصدرت الأوامر بأن يستثنى المسجونون السياسيون من ارتداء أغطية الرأس, حتى لا يقوا رؤوسهم من الشمس!! وفى أيام الجمع كان الحراس يفتحون أبواب الزنزانات لكل المسجونين السياسيين, وعندما ذهب عدد من الإخوان إلى الضابط المسئول قال لهم( أنا حا أخلى حجراتكم برك دم ).

وبلغ تعنت المسئولين مع المسجونين السياسيين حدا يؤسف جدا له . كانوا يحرمون عليهم استلام أى طعام أو مأكولات من أهلهم أثناء الزيارة. كانت التعليمات أن لا تزيد مدة الزيارة عن دقائق معدودة وكان المسجونين اليهود المحكوم عليهم فى قضية فضيحة لافون يقيمون معهم فى نفس العنبر . وكان يكسر قلب المسجون السياسى المصرى أن يرى الدولة تعامله معاملة المنبوذ, بينما كان المسجون السياسى اليهودى يعامل فى الليمان باحترام وإجلال! وكان المضحك أن هؤلاء اليهود كان مباحا لهم الانتقال كما يشاءون فى أنحاء السجن أما المسجون السياسى المصرى فكانت تقفل عليه الأبواب , كانت الأدوية تصل إلى اليهود من الخارج. أما المسجون السياسى المصرى فكان إذا وجد العلاج لا يجد الدواء! وفى أوائل عام 1957 كانت ورش الليمان فى حاجة إلى أيدى عاملة. وفى هذه الحالة تخفض مدة تكسير الأحجار فى الجبل من 26 شهرا إلى 24 شهرا لتوفير الأيدى العاملة . ويمكن لكل مسجون أمضى 24 شهرا فى الشغال الشاقة فى الجبل أن يطلب ( التخزين) أى النزول من الجبل. وتقدم عدد من المسجونين السياسيين الإخوان الذين أمضوا المدة يطلبون انهاء عملهم فى الجبل. وإذا بخطاب رسمى يجىء برفض أن يستمتع المسجون السياسى من الإخوان بالحق الذى يتمتع به سائر المسجونين, وأن يستمر عملهم فى كسر الأحجار فى الجبل حتى لو انتهت المدة.

وفجأة يجىء أمر بحلق شعور جميع المسجونين السياسيين ويجتثون شعرهم إلى زيرو).

وجرت عادة السجون والليمانات منذ عشرات السنين أن تحترم إدارتها شهر رمضان فتوقف تفتيش الزنزانات خلال شهر رمضان!.. وإذا بالأوامر تجىء بوقف تفتيش جميع المساجين ما عدا الإخوان!! وفى يوم 29 مايو 1957 حضر أهالى المسجونين السياسيين من أهالى شبرا فى مجموعة واحدة لزيارة أولادهم. الزيارة فى السلك كأقفاص القرود, بمعنى أنه يفصل بين الأهالي والمسجونين ستار من السلك السميك, حتى لا يتصافحون ولا يقبلون بعضهم بعضا. هذه هى حقوق الآدميين. أما المسجون السياسى فى مصر فهو حيوان يجب أن يعامل معاملة الحيوانات : لا يصافح زوجته لا يقبل أولاده, يفصله حاجز مزدوج نصف متر , حتى لا يهمس وحتى تناقش المسائل العائلية علنا! المسجون لا ينفرد بأسرته. كل عشرين مسجونا يدخلون معا إلى القفص. تختلط الأصوات. تضيع الكلمات . يستمر اللقاء دقائق معدودة. فى هذه اللحظات المكهربة التعسة. دخل احد الضباط وأمسك بالمسجون السياسى / عبد القادر السيد, واتهمه با،ه استلم من أسرته بعض المأكولات من خلال ثقب مفتوح فى السلك يا للجريمة العظمى. القاتل مسموح له أن يتسلم من أهله طعاما أثناء الزيارة, أما السمجون السياسى فمحرم عليه أن يستمتع بالحق الذى يستمتع به القاتل أو السفاح! وذعرت النساء, وبكى الأطفال من صراخ الضباط فى المسجون السياسى الذى خالف التعليمات. وطلب المسجونون السياسيون من الضباط أن يؤجل شخطه ونطره وتوبيخه وتأنيبه حتى تنصرف الزوجات والأطفال! وإذا بالضباط يقرر معاقبة جميع المسجونين السياسيين بقطع الزيارة. وحرمانهم منها لأن مسجونا سياسيا خالف التعليمات وتسلم طعاما من أهله! وصاح الضابط فى المسجونين السياسيين أمام أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم – والله العظيم لأحرقكم بجاز!

ودفع الحراس الأطفال والنساء بأيديهم إلى خارج السجن وهم يبكون ويصرخون حزنا على أولادهم وآبائهم وإخوانهم الذين أقسم الضابط أمامهم أن يسكب عليهم البترول ويحرقهم أحياء بجاز!!

وأجلسوا المسجونين السياسيين على الأرض أما عنبر التأديب وجاء ضابط كبير يقول لهم كل من تسلم من أهله لقمة عيش يجب أن يسلمها!.

وسلم المسجون السياسيون ما معهم من لحم أو فاكهة أو حلوى للحراس! ومن سخرية القدر أن الحشيش و الأفيون وزجاجات الخمر كانت تهرب إلى داخل السجن للمسجونين العاديين, ويحرم الطعام البسيط على المسجونين السياسيين!

وصدر أمر بإدخال 14 مسجونا من ألإخوان فى غرف التأديب وقيدت أيديهم بالقيود الحديدية خلف ظهورهم... وصدر الأمر بالقبض على الأهالي... نعم القبض على النساء والأطفال. وجروهم مقبوضا عليهم إلى قسم المعادى. وحررت لهم محاضر بأنهم خالفوا التعليمات وهربوا طعاما إلى ذويهم المسجونين السياسيين!!.

وأبقوهم مقبوضا عليهم حتى المساء, ثم أفرجوا عنهم بعد أن هددوهم بالسجن إذا عادوا وأعطوا ذويهم من المسجونين السياسيين لقمة عيش.

وفى صباح اليوم التالى صدرت الأوامر بتجريد الإخوان المسجونين فى التأديب من ملابسهم, وحلق شعورهم ثم دخل عليهم مأمور أول الليمان وقال لهم:-

( إحنا مبتين لم دقة ! ح تخليكم تمشوا على العجين ماتلخبطوهوش). وفى نفس اليوم 30 مايو 1957 استدعى مدير الليمان أطباء السجن وأمرهم بإخراج جميع المرضى من المسجونين السياسيين الإخوان من الملاحظة الطبية..

والملاحظة الطبية هى أن يعامل المسجون معاملة المريض, ويبقى تحت العلاج خارج مستشفى السجن فى هذه الحالة لا يخرج إلى الجبل يكسر الأحجار, ويتناول طعاما صحيا.

واعترض الأطباء هذا الأمر, وقالوا أن المسجونين السياسيين الموضوعين تحت الملاحظة مرضى فعلا, وخروجهم من الملاحظة الطبية خطرا على حياتهم! وقال لهم مدير الليمان أن هذه أوامر ( من فوق ..! وأن أى طبيب لا ينفذ هذه التعليمات سيجد نفسه مسجونا فى إحدى الزنزانات )..

وقال الأطباء( أن بعض المسجونيين السياسيين قدموا من سجون اخرى للعلاج)..

وقال المدير ( أن الأمر يشمل الجميع.. المرضى وانصاف الموتى! وأن الجميع يجب أن يكسر أحجارا فى الجبل).

وشاع بين المسجونين السياسيين أن الغرض من ارغام المسجونين السياسيين على العمل فى الجبل على الرغم من مرضهم وسوء حالتهم الصحية, أن الأوامر صدرت بقتلهم واتهامهم بأنهم حاولوا الهرب! وقال لى بعض الحراس أنه حدث فى اثناء القبض على أهالى المسجونين السياسيين أن حاول أحد الضباط أن يضع يده فى صدر إحدى السيدات من أهالى المسجونين, فثارت السيدة وأن هذا الحادث هو القشة التى قصمت ظهر البعير! ولكن المسجونين السياسيين الذين كانوا موجودين فى ذلك اليوم قالوا أنهم لم يروا شيئا كهذا وأنه إذا كان وقع فيكون قد وقع أثناء نقل الأهالى المقبوض عليهم فى قسم المعادى.

ولكن هذا الجو المشجون المكهرب الملىْ بالإرهاب والإستفزاز والرغبة فى إذلال المسجونين السياسيين جعل أعصابهم متوترة ينتظرون بين لحظة وآخرى أن تنقض مطارق الانتقام فوق رؤوسهم! وجوه الضباط عابسة مكشرة . عيونهم مليئة بالشرر. الحراس يؤكدون للمسجونين السياسيين أن النية متجهو للخلاص منهم ؟ لماذا؟ لأن واحدا منهم تسلم طعاما من أهله أثناء الزيارة؟ هذا غير معقول .. لابد أن هناك جريمة لا يعرفونها جعلت الأوامر تصدر بالتنكيل بهم! كل شىء فى السجن يكشر فى وجوههم . حتى القضبان! لقد قيل لهم صراحة( أعداء الدولة.. وذبحهم حلال)!! ولم يصدقوا هذا التهديد. تصورا أن أحد الضباط يهز أعصابهم... ولكنهم فى اليوم التالى فوجئوا بأنه لم يكن تهديدا, وانما كان أحد أخبار الغد.

وفى صباح يوم السبت أول يونيه سنة 1957 فتح الحراس أبواب الزنزانات, وطلبوا من المسجونين أن يذهبوا إلى طابور الجبل وهو الطابور الذى يسيرون فيه كل صباح فى حراسة الجنود المسلحين والكلاب البوليسية ليعملوا فى تكسير الأحجار.

ورفض الإخوان الخروج. وأبلغوا إدارة الليمان أنهم يطلبون وكيل النيابة, ليسجلوا أمامه أ،هم يشعرون ان الخطر يهدد حياتهم, وأنه قيل لهم أن أوامر صدرت بذبحهم,وأنهم غير ممتنعين عن العمل ويطلبون تحقيقا فيما أعلنه الضباط من نوايا عدائية نحوهم.

وحضر مدير الليمان فكرورا عليه ملتمسهم. فوعدهم بعرض الأمر على الجهات العليا, وطلب منهم أن يدخلوا إلى زنزاناتهم, وقد اعتقدورا أن الأمر سينتهى فى هدوء...