حادث 4 فبراير 1942 والحياة السياسية المصرية
دكتور محمد صابر عرب
مدرس التاريخ الحديث والمعاصر جامعة الأزهر
الطبعة الأولي 1985
دار المعارف
تقديم
تقديم للدكتور : محمود منسي
ففي حياة كل أمة من الأمم أحداث جسام تترك بصماتها على تاريخها بل وتغير مساره , وتظل الأجيال تذكرها جيلا بعد جيل ومن هذه الأحداث التي مرت بتاريخ مصر الحديث حادث 4 فبراير 1942 ورغم أن الحادث لا يعدو أن يكون تدخلا في شئون مصر الداخلية واعتداء على كرامتها , وما أكثر الأحداث المماثلة التي وقعت من جانب بريطانيا سواء في عهد الاحتلال أو في عهد الحماية , أو بعد الاستقلال الناقص الذي حصلت عليه مصر منذ سنة 1922 إلا أن هذا الحادث كان له دوي واسع بين صفوف الشعب المصري أشعل جذوة حماسه , وذلك كان لهذا الحادث نتائج عميقة سواء على الصعيد الداخلي من ناحية علاقة الشعب المصري بمختلف القوي السياسية في البلاد : القصر والأحزاب وزعمائها أو على الصعيد الخارجي من حيث نظرة الشعب نحو بريطانيا ومثليها في مصر وكذا نحو الداعين إلى مهادنتها وتوثيق عري الصداقة والتحالف والتعاون معها .
وقد تناول هذا الحادث بالدراسة كثي من الباحثين مصريين وأجانب ورغم أن هذه الأبحاث كانت لها قيمتها وقت ظهورها إلا أنه كان ينقصها أمران : الأمر الأول : أن بعض هؤلاء الباحثين كانت لدي كل منهم فكرة مسبقة ووجهة نظر معينة أراد أن يثبتها ويقيم الدليل عليها من خلال كتابته بينما المفروض ألا يكون الباحث وجهة نظره إلا بعد الانتهاء من الدراسة وعرض كل جوانبها . أما الأمر الثاني : فهو النقص في المصادر التي اعتمدت عليها معظم هذه الحدوث وذلك باستقاء المادة العلمية والتعرف على وجهات النظر من جانب واحد دون استقراء وجهات النظر الأخرى بالرجوع إلى نوعيات أخري من المصادر حتى لقد ذكر أحد الباحثين الأفاضل الذين أسهموا في هذه الدراسات بأنه " من ثم لم تدرس هذه الحادثة دراسة كافية من أحد المؤرخين "
ومن ثم جاء هذا البحث الذي أعده الدكتور محمد صابر عرب ليسد هذا النقص .
والدكتور محمد صابر عرب ليس غريبا على فهو تلميذي منذ مرحلة الليسانس وهو حاليا أحد فرسان التاريخ الحديث بجامعة الأزهر , وقد عرفت فيه الاستقامة في الخلق وفي العمل , ولمست فيه حب مصر الذي تنبض به كل قطرة من دمائه وعرفته صبورا جلدا على البحث حريصا على السعي وراء الحقيقة وحدها ولا شئ سواها مهما كلفه ذلك من جهد ومال ووقت ونصب وهو يتمتع بعقلية منظمة وتفكير عميق ومقدرة على التحليل .
وعندما أشرفت عليه في رسالته للماجستير تأكدت لى هذه الصفات والسجايا وذلك فنه طرح موضوع حادث 4 فبراير لرسالة الدكتوراه رأيت أن صابر عرب هو خير من يستطيع القيام بعبء هذه الدراسة عن هذا الحادث الذي اختلفت فيه الآراء بدرجة جعلت بعض الأطراف توجه تهمة الخيانة إلى أطراف أخري بسبب موقفها خلال هذا الحادث .
ولقد دأب محمد صابر عرب على هذا البحث طوال سنوات أربع خرج علينا بعدها بهذه الدراسة التي بين أيدينا والتي حصل بها على درجة العالمية ( الدكتوراه ) في التاريخ الحديث بمرتبة الشرف الأولي والتي يسعدني ويشرفني أن أكتب لها هذا التقديم وهي في طريقها إلى المطبعة ..
ولست هنا في مجال عرض لهذا الدراسة ومحتوياتها فإنني أترك ذلك للقارئ ليتعرف عليها بقراءتها مباشرة ولكنني أود أن أسجل أن ما دفعني إلى كتابة هذا التقديم ليس الرابطة الشخصية ولكن ما يتميز به البحث من ميزات عديدة .
ومن هذه الميزات إتباع المنهج العلمي من حيث عرض الحقائق التي استقاها من مصادرها الأصلية المتنوعة وعرض وجهات النظر وتحليلها في أمانة ودقة وحيدة دون تحيز ومحاولة الوصول إلى أقصي درجات الصدق وهذه سمة أساسية من السمك التي يجب أني يتحلي بها الباحث الذي يريد أن يتصدي للكتابات التاريخية وخصوصا في الأحداث الشائكة التي اختلفت فيها الآراء كحادث 4 فبراير وما أشبه الباحث هنا بالقاضي على منصة القضاء العادل .
وإلى جانب ذلك فإن نظرة إلى المصادر العديدة والمتنوعة التي استقي منها مادته العلمية لتدلنا على الجهد الكبير الذي بذله والأمانة العلمية التي التزم بها فمن تقارير الأمن العام وأوراق الأحزاب السياسية المحفوظة بدا الوثائق القومية بالقلعة , إلى وثائق وزارة الخارجية البريطانية عن الفترة من 1936 حتى 1945 والتي تضم معلومات في منتهي الأهمية والخطورة جاءت في المراسلات المتبادلة بين دار السفارة البريطانية في القاهرة ووزارة الخارجية البريطانية .
ولأول مرة بين الكتاب والباحثين المصريين يستخدم الباحث الوثائق الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية وقد جلبها على أفلام وهي تتضمن معلومات ذات قيمة تاريخية لا يستهان بها .
وبالإضافة إلى ذلك اعتمد على مضابط مجلسي النواب والشيوخ خلال الفترة من 1936 – 1945 واستخلص منها مادة علمية على جانب كبير من الأهمية والخطورة ولا أعتقد أن أحدا من الكتاب استخدمها واستفاد منها مثلما فعل د. محمد صابر عرب سواء من حيث الكم أو الكيف .
وفي اعتقادي أن هذه المضابط كنز غني بالمادة التاريخية يجب ان يلتفت إليها الباحثون في تاريخ مصر الحديث .
واحب أن أنوه ضمن مصادر المادة العلمية التي استفاد منها بالمقابلات الشخصية التي أجراها مع بعض الزعماء السياسيين الذين ما زالوا على قيد الحياة ويمثلون اتجاهات مختلفة فمن الوفد التقي بالأستاذ [[محمد فؤاد سراج الدين]] , ومن الجانب الأخ التقي بالأستاذ فتحي رضوان ومن الضباط الأحرار التقي بالسيدين حسين الشافعي وخالد محيي الدين .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الباحث استخدم هذه المصادر الأصلية استخداما حقيقيا ولم يفعل مثلما فعل البعض حين يرصعون أبحاثهم بوثيقة هنا ووثيقة هناك لإيهام القارئ بأنهم استخدموا وثائق تاريخية أملا في رفع القيمة العلمية لأبحاثهم وتدل على ذلك حواشي البحث فلا تخلو صفحة من عدة مصادر أصلية .
وبهذه الإمكانات استطاع الباحث الدكتور محمد صابر عرب أن يتوصل إلى حقائق وأراء قيمة منها ما يتصل بسياسة " تجنب مصر ويلات الحرب " وأن ما حدث في 4 فبراير لم يكن سياسة بريطانية بحتة كانت بعض العناصر من الزعماء المصريين ضالعين فيها بالتحريض وتفكير بريطانيا في إلغاء النظام الملكي في مصر وإقامة نظام جمهوري ورد الفعل لحادث 4 فبراير على الجيش المصري مما أدي إلى مولد حركة الضباط الأحرار , ومحاولة الانتقام من الوفد بتقويضه من الداخل وتحقق ذلك بانشقاق مكرم عبيد وأخيرا وليس آخرا ظهور العديد من الاتجاهات السياسية الجديدة التي كان بعضها يجنح إلى العنف وذلك بعد أن فقدت الجماهير ثقتها في الأحزاب القديمة التي كانت تفضل مهادنة الاحتلال .
باختصار فإن هذا بحث متميز يسعدني أن أقدمه لكل مصري يوجه عام وكل مهتم بالدراسات التاريخية على وجه الخصوص .
وبالله التوفيق
أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الأزهر سابقا
مقدمة
ينفرد حادث 4 فبراير سنة 1942 بمكانة خاصة سواء بالنظر للظروف الموضوعية التي أدت إليه أو للآثار التي ترتبت لا عليه وعلى مختلف المستويات .
ولعل البداية العملية لسلسة المصادمات بين القصر والانجليز ترجع إلى أواخر سنة 1937 حيث تمكن الملك فاروق من إقالة الوفد تلك الإقالة التي وصفتها لدوائر الأمريكية بأنها بداية للعديد من الخلافات بين فاروق والسفير البريطاني في الوقت الذي كان السفير البريطاني قد بذل جهدا شاقا في محاولة الوساطة بين الملك والنحاس وكان فشله في تلك المهمة موضع لوم من حكومته .
وقد عرضت في تلك الأزمة فكرة تنحية الملك فاروق عن العرش إلا أن الخارجية البريطانية لم توافق عليها بحجة أن هذا الإجراء سيحدث أثر كبيرا في صفوف الشعب المصري بسبب الشعبية الكبيرة التي يمتع بها الملك الشاب .
ثم تجددت الخلافات في سبتمبر سنة 1939 حين وجد السفير البريطاني أن هناك عناصر في القصر تميل نحو الألمان بل أن الملك فاروق شخصيا على علاقة ببعض الدوائر الألمانية , وفي محاولة من بريطانيا لتقليص دور القصر فقد صدرت الأوامر البريطانية بإخراج علي ماهر من الحكم ثم عادت الأزمة مرة أخري إلى الظهور في يونيه سنة 1940 بعد أن دخلت ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا ويومئذ اقترحت الحكومة البريطانية تغيير الوزارة فإن عارض الملك فعليه أن يتخلي عن عرشه ووجه السفير البريطاني إنذارا إلى الملك فاروق بضرورة خروج علي ماهر من الحكم واستدعاء النحاس والعمل بمشورته , ووافقت الحكومة البريطانية على التهديد بعزل فاروق عن العرش إذا لم يستجب للمطالب البريطانية وانفجرت الأزمة بإذعان القصر لمطالب لندن فاستدعي النحاس للمشاورة في الموقف وخرج علي ماهر من الحكم وحرم عليه العودة إلى رياسة ديوان الملك وقد أعرب السفير البريطاني في نهاية تقييمه للأزمة بقوله .( وقد نخرج من الأزمة الحالية دون حاجة إلى تغيير الملك ولكني اشك كثيرا في أنه سيبقي طويلا ملكا على مصر )
وفي يناير 1942 كان الحكم لوزارة حسين سري الذي خلف حسن صبري في نوفمبر سنة 1940 وكان حسين سري صديقا للإنجليز ملبيا كافة مطالبهم عير أن وزارته قد بدأت تعاني من أزمات تجمعت كلها أو أغلبها في يناير 1942 , ولعل أشدها خطرا أزمة التموين لدرجة أن الناس هاجموا المخابز للحصول على الخبز وكانوا يتخطفون الرغيف من حامله في الشوارع وزاد من ضعف هذه الوزارة المظاهرات التي انطلقت والتي تنادي بسقوط الانجليز في الوقت الذي عجزت فيه الحكومة عن السيطرة على الموقف تماما .
ولعل الدوائر البريطانية كانت وراء حركة الاضطرابات التي عمت العاصمة كوسيلة لما قد تقدم عليه من تدخل . ومن ناحية أخري فلم تعد الحكومة موضع ثقة فاروق بسبب أزمة حكومة فيشي حيث طلبت بريطانيا من حسين سري قطع العلاقات مع حكومة فيش ( الشرعية) حدث هذا وفاروق في رحلته إلى البحر الأحمر مما كان سبب في إقالة وزير الخارجية ( صليب سامي ) في الوقت الذي اعتبرت فيه بريطانيا أن إقالة وزير الخارجية المصري بسبب تلبية للنصائح البريطانية بعد عملا عدائيا من الملك فاروق موجها ضد المصالح البريطانية .
وهكذا وصلت العلاقات بين بريطانيا والقص إلى حد التصادم العلني في الوقت الذي جاوزت قوات المحور حدود مصر وأوغلت في صحرائها وانسحبت القوات البريطانية فأخلت مرسى مطروح الأحوال في مصر خوفا من زحف القوات الألمانية والإيطالية صوب الإسكندرية .
وهكذا عادت فكرة تغيير الوزارة المصرية وعودة الوفد فإن عارض فاروق فعلية أن يتخلي عن عرش مصر .
وعلى ما يبدو فإن التفكير في عزل فاروق وفرض وزارة مصرية معينة وزعيم مصري معين كان موضع تفكير واهتمام من جانب الحكومة البريطانية من ثم يمكن القول أن حادث 4 فبراير سنة 1942 لم يكن نتيجة قرار أو سياسة اتخذت فجأة وإنما كان الفصل الأخير أو لخاتمة لسياسة مرسومة كان قد بدأ تنفيذها ووفقا لرأي الخارجية البريطانية : " إن النحاس هو وحده الزعيم الشعبي القادر على تحويل الدقة – دفة عواطف الشعب من الاتجاه نحو ألمانيا إلى الاتجاه نحو بريطانيا ..."
وهكذا أوعزت السلطات البريطانية إلى حسين سري " رئيس الحكومة" بتقديم استقالته في الوقت الذي كانت الدوائر البريطانية تعد العدة لعزل فاروق إذ لم يستجب لرغبة بريطانيا في عودة الوفد في الوقت الذي كان السفير البريطاني يرمي إلى رد الاعتبار إلى نفسه في نظر حكومته ( عندما فشل في إبقاء الوفد سنة 1937).
إذ كان وزير الخارجية " ايدن " قد وجه إليه نوعا من اللوم لفشله في الوساطة بين القصر والوفد في أزمة ديسمبر 1937 التي انتهت بإقالة النحاس باشا .
وعلى الرغم من أن الوفد قد تنكر لمسئوليته من تلك الأحداث إلا أن الوثائق البريطانية قد كشف إلى أى حد كان الوفد ضليعا في تلك الأحداث .
وتزداد قيمة حادث 4 فبراير بالنظر للنتائج التي ترتبت عليه حيث تأكد لجموع المصريين أن الوجود البريطاني في مصر إنما هو انتهاك خطير للاستقلال الوطني مهما اتخذ هذا الوجود من أشكال احتلالا أو حماية أو معاهدة أو تحالف.
وسواء أكانت الأوضاع الدولية هي المسئولة عن التدخل البريطاني أو أن الوفد كان ضليعا في تلك الأحداث فإن النتيجة واحدة حيث كان هذا الحادث بداية النهاية للشعبية التي ظل يتمتع بها الوفد على امتداد العقود الثلاثة السابقة حيث كان الوفد يستمد الجانب الأكبر من شعبيته من خلال صراعه مع الاحتلال البريطاني أما أن يصل الوفد إلى الحكم بواسطة الدبابات البريطانية فهو أم لم يألفه المصريون وكان من الصعب عليهم أن يتقبلوه .
ويبدو أن فاروق قد استغل هذا الحادث بذكاء شديد حيث تمكن من توسيع دائرة شعبيته لدرجة أنه تمكن من اقتحام الجيش المصري في هذا الحادث واستطاع أن يحظي بشعبية كبيرة وسط صفوف القوا المسلحة .
وفي محاولة من القصر لتدمير الشعبية التي يحظي بها الوفد فقد وقع في العديد من التجاوزات التي تمخضت عن ظهور تيارات سياسة أخري من الإخوان والشيوعيين والاشتراكيين وغيرهم انتزعوا قدرا كبيرا من الشعبية التي يتمتع بها الوفد ولعل من أخطر التنظيمات التي تكونت بصورة عملية نتيجة لحادث 4 فبراير تنظيم الضباط الأحرار .
ثم ظهور بعض التنظيمات السرية بهدف اغتيال كل من ساهم في أحداث 4 فبراير ويقع التنظيم الحديدي على رأس تلك التنظيمات .
غير أنه من الأهمية أن توضح أن تدخل الانجليز في شئون مصر الداخلية منذ أن احتلوها في سنة 1882 كان ضد إرادة الحركة الوطنية المصرية ولحماية القصر من الحركة الوطنية لكن ما حدث 4 فبراير 1942 كان تدخلا بريطانيا عنيفا تحت وطأة الحرب العالمية الثانية في صالح حزب الأغلبية " الوفد " بهدف قيام حكومة قوية تتمكن من تطوع مصر سياسيا وعسكريا واقتصاديا لخدمة القوات المتحالفة .
ولعل ما يميز حادث 4 فبراير أنه وقع في ظل معاهدة 1936 والتي استردت مصر بمقتضاها قدرا كبيرا من استقلالها وحريتها وكان من المتوقع ان ينتقل الحكم من يد الانجليز إلى يد الشعب ولكن الذي كان متوقعا ثم يحدث حيث تأكد لجموع المصريين أن الاحتلال حقيقية واقعة وأن معاهدة 1936 ما ه إلا صورة براقة لتهدئة النفوس الثائرة .
ومن هنا فقد كان حادث 4 فبراير سنة 1942 أصدق دليل على عدم فاعلية تلك المعاهدة لأن ما حدث بعد اعتداء على أبسط حقوق دولة مستقلة .
ولكل هذه العوامل الموضوعية وقع اختياري على حادث 4 فبراير ليكون موضوعا للدكتوراه التي أشرف بتقديمها إلى قسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر وخصوصا وأن العالمية الثانية قد أغفلت هذا الموضوع على الرغم من أهميته سواء على المستوي الوطني أو على المستوي الخارجي .
وإذا كانت هناك بعض الدراسات التي تناولت هذا الموضوع إلا أنها قد تناولته أما من منطلق حزبي أو استنادا إلى وجهة نظر واحدة من غير النظر إلى وجهات النظر المتعددة سواء التي ساهمت في صنع الأحداث أو التي سجلت انطباعاتها وهذا ما حاولت أن أتفاداه في هذه الدراسة التي تناولت هذا الموضوع ولقد حاولت أن أتتبع مراحل الصراع بين بريطانيا والملك فاروق منذ إقالة الوفد ( ديسمبر 1937) هذا من جانب ومن جانب آخر فقد حاولت رصد كل النتائج التي ترتبت على هذا الحادث وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها لم تحظ باهتمام ملحوظ من الباحثين والمؤرخين .
أما بالنسبة للمصادر والمراجع التي استقيت منها المادة العلمية للبحث فتأتي في مقدمتها الوثائق البريطانية وهي عبارة عن مراسلات بين السفير البريطاني في القاهرة ( لورد كيلرن ) وحكومته في لندن وهي تسجل لحظة بلحظة تطور الأحداث وتفاقم الخلاف حتى وصل إلى طريق مسدود ( صباح 3 فبراير ).
وتبدو أهمية تلك الوثائق في أنها توضح مسئولية كل القوي التي ساهمت في صنع الأحداث ولعل أخطر ما احتوته تلك الوثائق التفكير من جانب الحكومة البريطانية في إعادة النظر في النظام الملكي في مصر عموما أن يحظي بموافقة الرأي العام .
ثم تأتي الوثائق الأمريكية في مقدمة المصادر التي اعتمدت عليها حيث سجل سفير الأمريكي في القاهرة ( كيرك) انطباعاته ومشاهداته من خلال الصراع الدائر بين القصر والانجليز ومحاولة الملك فاروق الزج بالسياسة الأمريكية في الشئون المصرية.
ومن خلال التقارير التي بعث بها السفير الأمريكي إلى حكومته يبدو أن الدوائر الأمريكية كانت على علم بتطور الأحداث أولا بأول إلا أنها كانت حريصة على عدم التدخل في الشئون المصرية نظرا لأن مصر تقع في دائرة النفوذ البريطاني في وقت تحتاج فيه قضية التحالف ( البريطاني الأمريكي ) إلى مزيد من الترابط والتفاهم .
ويبدو من الوثائق الأمريكية والبريطانية إلى أى حد كان التنافس بين القوتين المتحالفتين نظرا لأن السياسة الأمريكية قد بدأت تبدي اهتمام خاصا لمنطقة الشرق الأوسط في محاولة لتثبيت أقدامها كبديل عن الاستعمار البريطاني وهو ما كان بسبب إزعاجا شديدا لدي الدوائر البريطانية لدرجة أن أعضاء السفارة الأمريكية في القاهرة كانوا جميعا تحت مراقبة المخابرات البريطانية .
أما عن وجهة النظر المصرية فقد تتبعتها من خلال العديد من المصادر الهامة وفي مقدمتها مضابط مجلس النواب والشيوخ واللذين يعدان تسجيلا حيا للحياة السياسية بكل أبعادها .
وأستطيع أن أقول أنني قد استفدت فائدة كبيرة من هذين المصدرين الهامين ففي الوقت الذي امتنعت فيه كل الصحف المصرية عن الإشارة إلى حادث 4 فبراير, عملا بقانون الأحكام العرفية فقد شهدت قاعات مجلسي النواب والشيوخ العديد من الآراء المتباينة والتي وصل بعضها إلى حد الإعلان صراحة بأن النحاس كان على علم بكل ما بيته الانجليز تجاه العرش .
وعلى الرغم من أهمية هذين المصدرين إلا أن العديد من الدراسات التي تناولت تاريخ مصر المعاصر لم تعتمد كمصدرين من أهم المصادر المصرية .
وحتى تتكشف الحقائق بكل أبعادها فقد أجريت العديد من اللقاءات الشخصية مع بعض الزعماء السياسيين وأصحاب الرأي والفكر سواء ممن شاركوا في صنع الأحداث أو ممن عاصرها ولعل أهم هذه اللقاءات وأعظمها فائدة لقائي مع الأستاذ فؤاد سراج سكرتير عام حزب الوفد ( السابق ) .
وتأتي أهمية هذا اللقاء لأنه يمثل وجهة نظر الوفد الرسمية .
ثم لقائي مع الأستاذ فتحي رضوان والذي شغل منصب نائب رئيس حزب مصر الفتاة ثم رئيسا للحزب الوطني الجديد عقب انشقاقه على مصر الفتاة بسبب موقف أحمد حسين ( رئيس مصر الفتاة ) من أحداث 4 فبراير 1942 م وعلى الرغم من أن فتحي رضوان يمثل وجهة النظر المغايرة للوفد إلا أنه قد روي الأحداث بموضوعية شديدة وبدقة متناهية .
وحتى تستكمل كل أطراف القضية فقد أجريت حوارا موضوعيا مع حسين الشافعي على اعتبار أنه يمثل وجهة نظر الضباط والانطباع الذي تركته أحداث 4 فبراير على تنظيم الضباط الأحرار .
وعلى الرغم من أن كامل زهيري ( الصحفي ) لم يشهد أحداث 4 فبراير إلا أنني قد حرصت على إجراء حوار معه نظرا لاهتماماته الخاصة بتاريخ مصر المعاصر وقد اقتصر الحوار على تفسير بعض المواقف التي اتسمت بقدر كبير من الغموض وكان لتفسيراته الموضوعية أهمية كبيرة في تحليل بعض المواقف ودراستها .
وتبدو أهمية المذكرات الشخصية التي سجل أصحابها أحداث السياسة المصرية من منطلق مواقفهم كمسئولين في الإدارة المصرية وفي مقدمتها مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل وحسن يوسف " وكيل الديوان الملكي " وإبراهيم عبد الهادي " رئيس الوزراء السابق " وجميع هذه المذكران منشورة أما في كتب مطبوعة أو في الصحف المصرية .
وعلى الرغم من أنني لم أستند إلى آرائهم كحقيقة مطلقة إلا إنني استطعت تفسير كل هذه الآراء ومطابقتها بغيرها من المصادر الأخرى ثم الخروج بوجهة نظر اعتقد أنها أقرب إلى الحقيقة التاريخية .
ثم تجئ العديد من الدوريات والتي تناولت الحياة السياسية المصري يوما بيوم وقد اطلعت على أكثر من عشرين دورية بين يومية وأسبوعية.
ولعل ما يلاحظ أن الدوريات قد أغفلت الحديث عن 4 فبراير صراحة خروجا من دائر الوقوع تحت طائلة القانون ( الأحكام العرفية ) إلا أن العديد من الصحف قد تناولته ضمنا وبقي المنع قائما منذ اعتلاء الوفد أريكة الحكم في 4 فبراير 1942م.
وبإقالة الوفد تبارت الصحف في كشف الغموض الذي واكب حصار قصر عابدين وقد نجحت العديد من الصحف في كشف أطراف القضية إلا أن بعضا من الصحف قد غالت في عداواتها للوفد بقدر أخرجها عن نطاق الموضوعية .
وكان لابد من الرجوع إلى كل الدراسات التي تناولت تاريخ مصر منذ معاهدة 1936 م وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية سواء ما تعرض منها لحادث 5 فبراير أو لم يتعرض له .
ولقد كانت طريقة تناولي للموضوع من خلال هذا الكم الهائل من المعلومات مبعث تفكير عميق إذ كان السؤال المحير هو : كيف يمن تقديم كل هذه المعلومات من خلال دراسة تاريخية شاملة تخضع لمنهج البحث التاريخي وتعتمد على كل المعلومات المتاحة بحيث لا نقطع سياق الدراسة أو نقحم معلومات لا حاجة إليها؟
والتزاما بمنهج البحث التاريخي فقد حرصت على تحليل وجهات النظر مهما تباينت , ولما كان في بعض الحالات لا توجد إلا رواية واحدة عن حادث معين فقد كنت أتناولها بحذر شديد ونظرا لخطورة النتائج التي قد تترتب على مثل هذه الحالة فقد اعتمدت على منهج علماء الحديث النبوي الشريف الذين توافروا على غربلة الروايات وتحليلها , سواء ما يتعلق منها بالأحاديث النبوية أو بالأخبار التاريخية . وقد اتضح لى أنهم فطنوا إلى خطورة الاعتماد على رواية الآحاد فجعل العلماء الحديث النبوي درجات واشترطوا فيه أن يبلغ عدد المحدثين مبلغا في العادة تواطؤهم على الكذب .
وفي الحالات التي كانت تتعارض فيها المصادر فقد كنت أحاول التوفيق بين الخبرين المتعارضين دون النظر إلى إجماع الآراء على حادث معين أو انفراد رأي واحد بوجهة نظر مغايرة لأنه من الجائز أن يكون الرأي الواحد هو الصحيح الكثرة العددية لا تحدد حتما صحة ما تورده والعبرة قائمة في نوع هذه الكثرة أو في نوع الواحد من حيث صفات الرواة وظروفهم ولا عبرة بالعدد أحيانا في بعض المسائل التاريخية .
وليس مجرد اتفاق عدة روايات على حادث معين يجعله حادثا صحيحا ففي حياتنا اليومية يميل الناس إلى نقل الأخبار والمبالغة فيها وأن أكثر من شخص قد يرجع إلى أصل واحد لاستقاء معلوماته وأن عدة صحف قد تنتشر خبرا واحدا أرسله مراسل واحد وهو ما قد يحدث في كثير من الأصول التاريخية .
وعلى الرغم من أنني قد التزمت بالمنهج الموضوعي إلا أنني لم أسقط الاعتبار الزمني لأهميته في العلاقة بين الأحداث التاريخية من جانب ولأنه يعطي للبحث مدلولا موضوعيا على اعتبار أن الفترة الزمنية وعلاقتها بموضوعية الأحداث تضفي على البحث قدرا من الانسجام والتوافق .
ونظرا لتعدد القضايا وتداخلها عن فترة زمنية محددة فقد حاولت أن أتناول كل موضوع بشكل مستقل بحيث يمثل متكاملة على اعتبار أن كل موضوع يكمل الموضوع السابق له أو اللاحق عليه حتى ينسجم البناء وتكتمل الصورة دون ملل أو ضيق .
وإذا كانت الفترة الزمنية التي أتناولها تبدأ من 1942 م وتنتهي 1945 إلا أن محاولة استكمال الموضوع اضطرتاني إلى أن أتناول العلاقات المصرية البريطانية منذ 1936م على اعتبار أن معاهدة 1936 تمثل الجو العام الذي تفجرت عنه قضايا الصراع المختلفة والتي دارت في عدة محاور :
أولها : قضية الصراع بين القصر والانجليز .
وثانيها : قضية الصراع بين القصر والوفد .
وثالثها : قضية الصراع بين الوفد والانجليز.
ولعل هذه المحاور الثلاثة قد انطلقت من الجو العام الذي أحدثته معاهدة 1936 ولذا فقد كان من الضروري أن أتناول العلاقات المصرية البريطانية عقب معاهدة 1936 م وأجعل من هذه الدراسة تمهيدا لبحثي .
أما الفصل الأول : والذي يقع تحت عنوان جذور حادث 4 فبراير سنة 1942 فإنه جزءا أساسيا من أحداث 4 فبراير لأنه يتناول الظروف الموضوعية التي دفعت بريطانيا إلى تجاوز معاهدة 1936 والوثوب إلى شكل مغاير تماما يعرف في الدبلوماسية المعاصرة " بالتسلط السياسي "
أما الفصل الثاني : فإنه يتناول الوقائع التي حدث في 4 فبراير أولا بأول وعلى الرغم من أنها قد تبدو ظاهريا أحداث عادية إلا أنها تعد انتهاكا لبسط حقوق الدولة المستقلة ومن جانب آخر فإن شكل الأحداث وتطورها يساهم إلى حد كبير في وضوح الرؤيا مما يسهل مهمة الوصول إلى نتائج محددة .
أما الفصل الثالث : فكان عنوانه سياسة حكومة 4 فبراير وقد تناولت في هذا الفصل السياسة التي اتبعتها حكومة الوفد ليس على المساوي السياسي فقط وإنما على المستوي الاقتصادي والاجتماعي أيضا سواء منها ما يتعلق بالعلاقات المصرية البريطانية أو بعلاقات مصر مع بقية دول الحلفاء ومنها أيضا ما يتعلق بموقف حكومة الوفد من قضية الديمقراطية والتي فسرت تفسيرات اجتهادية ولعل من أخطر القضايا التي تناولها هذا الفصل ما يتعلق بديكتاتورة الأغلبية في محاولة مستميتة لتبديد الآثار الناجمة عن 4 فبراير .
أما الفصل الرابع وعنوانه : القوي السياسية وموقفها من 4 فبراير وفي هذا الفصل حاولت أن أضع كل قوة من القوي أمام مسئوليتها سواء فيما يتعلق بالأحداث التي ساهمت في صنع 4 فبراير أو فيما يتعلق بردود الفعل التي واكبت الأحداث وقد تناولت من جانب أخر ما سمي بقضية النفاق السياسي " حيث تبارت القوي السياسية في التقرب من القصر في محاولة لاستثمار الأحداث تصعيدها انطلاقا من الصراع التقليدي بين الوفد وبقية الأحزاب الأخرى .
ثم أوضحت العلاقة بين حادث 4 فبراير وظهر العديد من التيارات السياسية الأخرى ولعل أهمها خطورة تلك التي اتخذت العنف وسيلة لتحقيق أهدافها ثم أوضحت العلاقة بين أحزاب الأقلية وبريطانيا والسياسة ذات الوجهين والتي دفعت بريطانيا إلى الاستخفاف بالقوي السياسية المصرية .
أما الفصل الخامس : فكان عنوانه : الجيش المصري وحادث 4 فبراير وقد بينت فيه ردود الفعل التي أحدثها 4 فبراير داخل الجيش المصري وإلى أى مدي حظي فاروق بشعبية وسط الضباط والجنود ثم تتبعت سياسة القصر في محاولة للزج بالجيش في السياسة لتحقيق أهداف سياسة خالصة .
ونظرا لأهمية تنظيم الضباط الأحرار فقد حاولت أن أوضح العلاقة بين ما حدث في 4 فبراير وردود الفعل التي دفعت الضباط إلى تنظيم أنفسهم بصورة جدية وتطوير حركتهم وانتشارها داخل فروع القوات المسلحة المصرية وفي هذا الفصل أيضا أوضحت موقف الجيش من الوفد ومحاولة النحاس التنكيل بعدد من الضباط بسبب موليهم المحورية .
أما الفصل السادس : وعنوانه : سياسة القصر عقب 4 فبراير 1942 وقد تناولت فيه السياسة الهادئة التي التزم بها القصر في محاولة للنيل من الوفد ولعلي أخطر تلك المحاولات ما يتعلق بخروج مكرم عبيد من الوفد ولما كان مكرم عبيد يمثل الذراع اليمني للنحاس فقد حرص القصر على بتر هذا الذراع , وقد تتبعت دور القصر في تصعيد حدة الخلاف بين القطبين الوفدين ثم إلى أى مدي نجح فاروق في محاولاته .
ولعل من أخطر القضايا التي تناولتها في هذا الفصل ما يسمي " بالتنظيم الحديديى" والذي ابتكره القصر بهدف اغتيال كل من ساهم في صنع 4 فبراير وفي مقدمتهم النحاس وأمين عثمان وقد نجح التنظيم في اغتيال أمين عثمان .
وحاولت كشف قدر من الغموض الذي كان يخيم على هذا التنظيم .
أما الفصل السابع : وعنوانه : الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل حكومة 4 فبراير وقد أوضحت فيه أن ما حدث في 4 فبراير لم يكن هدفا بريطانيا وإنما كان وسيلة لتطويع مصر سياسيا واقتصاديا لخدمة القوي المتحالفة .
ومن البديهي أن الأوضاع الاجتماعية نتاج طبيعي لكل من العوامل الاقتصادية والسياسية ولذا فقد أوضحت الظروف الاجتماعية التي عاشها الشعب المصري في ظل حكومة 4 فبراير .
أما الفصل الثامن : فقد تناولت من خلاله العلاقات المصرية البريطانية على ضوء المتغيرات الجديدة وهذا الفصل ترجمة عملية للعلاقات المصرية البريطانية عقب أحداث 4 فبراير حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وفي هذا الفصل أفردت دراسة خاصة عن جامعة الدول العربية وكيف أن فكرة الجامعة قد خرجت من مجلس العموم البريطاني وإلى أى مدي كانت تهدف بريطانيا من وراء هذه السياسة .
ولا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر إلى أستاذ الدكتور محمود منسي والذي أشرف على هذا العمل العلمي طوال ثلاث سنوات فعلمني كيف يكون البحث وكيف تكون كتابة التاريخ لهذا فإني مدين له بكل ما تعلمت بل يزيد .
كما أتقدم بخالص الشكر إلى الأستاذ الدكتور مصطفى رمضان والذي أشرف على هذا البحث طوال فترة كتابته التي استغرقت عاما كاملا كما أتقدم إلى شيخ المؤرخين الأستاذ الدكتور عبد الحميد البطريق بخالص التقدير لمشاركته في مناقشة هذا البحث .
وأخيرا فإنني أتحمل وحدي تبعة أى قصور في النتائج التي توصلت إليها فعلي وحدي تقع مسئوليتها ويشهد الله أنني قد حاولت واجتهدت قدرا إمكاناتي ومن اجتهد فأخطأ له أجر ومن أصاب فله أجران .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
25 / 7 / 1983م.
تمهيد
العلاقات المصرية البريطانية عقب معاهدة 1936م
تقييم معاهدة 1936م
منذ ن احتلت بريطانيا مصر سنة 1882 وهي تردد أن الاحتلال مؤقت ومع ذلك فقد استمر الوجود البريطاني في مصر بكل ثقله .
وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى في أواخر سنة 1918 ما لبثت الدول الكبرى المنتصرة والمنهزمة على السواء أن اعترفت بالحماية البريطانية على مصر ولذا فقد كان لبريطانيا مركز متميز في مصر .
وحرصت الحكومة البريطانية على أن تظل تلك العلاقة متميزة على الرغم من قبولها مبدأ التفاوض شريطة ألا يتعارض هذا التفاوض مع المكاسب البريطانية .
ولعل الرغبة في الوصول إلى التفاهم من جانب مصر كانت رغبة صادقة , ومع ذلك فقد تعذر الاتفاق سواء في مفاوضات ملنر – سعد زغلول سنة 1920 أو في مفاوضات كرزن – عدلي سنة 1921 إذ كانت مصر تفاوض وهي طامحة إلى التوصل لإلغاء الحماية فعلا وإلى الاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة بينما كانت انجلترا مع قبولها فكرة إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر فإنها كانت – تضع مصالحها في مرتبة الحقوق التي لا تتقبل نزاعا فتضيق من استقلال مصر بمقدار ما تتطلبه من ضمانات لصيانة تلك الحقوق .
وبطبيعة الحال لم يكن فشل المفاوضات ليؤدي إلى عودة السكينة والاطمئنان إلى ضفاف النيل فعادت الاضطرابات واتخذت شكلا جعل حكم البلاد من الأمور المتعذرة فرأت بريطانيا لتذليل هذه المصاعب ربط مصر بمعاهدة في نطاق السياسة التي حددها تصريح 28 فبراير سنة 1922 ومنذ هذا التاريخ اعتنقت بريطانيا مبدأ التفاوض مع مصر ليس بهدف تحقيق الأماني الوطنية المصرية وإنما لإعطاء الوجود البريطاني صفة الشرعية الدولية ثم أعقب ذلك سلسلة من المحادثات بين حكومة سعد زغلول وماكدونالد سنة 1924 ولكن ما لبثت أن انقطعت تلك المحادثات لاتساع هوة لخلاف بين الطرفين المتفاوضين ثم كانت محاولات 1927 , 1930 وفشلت جميعها وبقي الوضع معلقا إلى أن تأزم الموقف الدولي أشر اعتداء ايطاليا على الحبشة سنة 1935 حينئذ شعرت انجلترا بضعف مركزها في مصر في الوقت الذي كانت تعتب فيه على ايطاليا الالتجاء إلى القوة كوسيلة لفض منازعاتها مع الشعوب الأخرى وفي نفس الوقت كانت الدعاية الايطالية تدفع المصريين إلى الثورة ضد انجلترا وتطالبهم بالتقرب من ايطاليا بل وأخذت ايطاليا تطالب بمركز لها في غدارة شرك قناة السويس
وبدأ ينمو لدي بعض القوي الوطنية المصرية اتجاه يقوم على مبدأ التقارب إزاء ايطاليا وكانت في مقدمة تلك القوي جماعة مصر الفتاة وقد وجد ذلك صداه في ظهور العديد من المنشورات الخاصة بالمسائل العربية والإسلامية وتنشطت الجمعيات الألمانية وأصبحت البلدان العربية مسرحا للدعاية الألمانية استطاع الألمان أن يحققوا بعض الانجازات التي قاموا بها وصمما على استغلالها في الوقت المناسب كإنشاء جمعيات وخلايا تميل إلى الفاشية بصورة واضحة وإجراء اتصالات مع الزعماء العرب والساسة وأعضاء الصفوة الحاكمة ودعوة بعض الساسة العرب إلى مهرجانات الحزب النازي التي أقيمت في نورمبرج إلى غير ذلك وكان هذا بالطبع مصدرا لقل الحكومة البريطانية .
ومن هنا كانت حاجة بريطانيا إلى عقد معاهدة مع مصر تكون قائمة على الصداقة والتعاون فصداقة مصر كما كتب محرر الشئون الخارجية لجريدة التايمز حينئذ " أعظم نفعا للقيادة البريطانية من أورط عديد في حالة حدوث حرب في البحر المتوسط "
ولعل بريطانيا أرادت أن يكون استقلال مصر رمزا دبلوماسيا أو صيغة تحدد نيات الحكومة البريطانية نحو مصر في ظرف معين أو شكلا الأشكال لا يتخذ له هيكلا ولا يصبح حقيقة واثقة إلا متى أبرم اتفاق عن الأمور المتعلقة بين الدولتين .
ومن المعتقد أن حاجة مصر إلى التفاوض كانت لا تقل عن حاجة بريطانيا فلقد بدأت بريطانيا تجري العديد من المناورات العسكرية على ساحل الإسكندرية وعلى الحدود المصرية الليبية من غير رأي السلطات المصرية مما كان يسبب قدرا من العلق لدي الدوائر المصرية .
وعلى ضوء كل هذه التطورات تكونت في مصر " الجبهة المتحدة لتضم جميع الأحزاب ما عدا الحزب الوطني على أساس أن جولة جديدة من المفاوضات مع الحكومة البريطانية ستبدأ وفي 12 ديسمبر سنة 1935 قدم زعماء الجبهة مذكرة إلى المندوب السامي يلتمسون فيها فتح باب المفاوضات لعقد معاهدة جديدة وفقا للشروط التي تم الاتفاق عليها سنة 1930 . وأجابت الحكومة البريطانية بمذكرة وتبليغ شفوي فصرحت في المذكرة أنها في الوقت التي تريد فيه أن تصل إلى إبرام معاهدة برمتها فليس في وسعها قبول التقيد بنصوص مشروع معاهدة سنة 1930 , أو أى مفاوضة أخري لم تنته إلى اتفاق وإبانت في تبليغها الشفوي أنها تقترح تمهيدا للمفاوضات أن تتباحث الحكومتان – وبمساعدة مستشاريهما العسكريين بصفة سرية وبروح التحالف المنشود – في تطبيق الأحكام العسكرية الواردة في مشروع معاهدة سنة 1930 على الحالة التي تغيرت عما كانت عليه من قبل .
ووفق تطورات الصراع الدولي ( حينذاك ) فلقد كانت معاهدة سنة 1936 جزءا من استراتيجية بريطانية غايتها تأمين المواصلات البريطانية في الشرق الأوسط في حالة نشوب حرب بين بريطانيا وبين ألمانيا وايطاليا حيث كان توقيت 1936 مرتبطا بتوقيع المعاهدة البريطانية العراقية سنة 1930 ثم المعاهدة البريطانية الأردنية سنة 1928 م التي عدلت وفق المصالح البريطانية سنة 1934 م.
وهكذا أقامت بريطانيا علاقاتها قبيل الحرب العالمية الثانية مع البلدان الثلاثة ( مصر , العراق و شرق الأردن )بالشكل الذي يحقق أغراض السياسة البريطانية ويعتبر عنصر الاختلاف بين المعاهدات الثلاث شكليا أكثر منه عمليا .
وعلى الرغم من المبالغات التي أحيطت بتلك المعاهدات إلا إننا نعتقد أن النفوذ البريطاني قبل توقيع تلك المعاهدات كان نفوذا مباشرا ثم أصبح نفوذا غير مباشر مستندا إلى قوي وطنية تحقق أغراضه وفق معاهدة تتبادين وجهات النظر في تفسير بنودها .
ومن المغالطات الغربية أن تتفق هيئة المفاوضات المصرية على أن معاهدة 1936 قد حققت الاستقلال التام بما لا يتعارض مع حقوق بريطانيا في مصر .
ويبدو التناقض الواضح في هذا التصريح اعتقادا بأن الاستقلال التام لا يتعارض مع ما أسموه بالحقوق البريطانية في مصر وإذا كانت المادة الأولي من المعاهدة تنص صراحة على انتهاء احتلال مصر عسكريا بواسطة القوات البريطانية فإن ذلك يتعارض صراحة مع نص المادة الثامنة والتي ترخص لبريطانيا بأن تضع في الأراضي لمصرية بجوار القتال قوات بريطانية بهدف الدفاع عن القنال ويحدد ملحق المادة الثامنة عدد القوات البريطانية بعشرة آلاف جندي وقت السلم وأن تتعهد الحكومة المصرية بأن تبني عليها نفقتها – ع مساهمة مالية بسيطة من الحكومة البريطانية – ثكنات للقوات البريطانية في منطقة القنال , وأن تمد طرقا تصلح للأغراض العسكرية معظمها بين تلك المنطقة وبين كل من الدلتا والإسكندرية والحدود الغربية وعلق الجانب البريطاني نقل القوات إلى منطقة القنال على استكمال تلك المشروعات على أن تنسحب تلك القوات من مصر حين يصبح الجيش المصري قادرا وحده على الدفاع عن القناة ولا يكون لوجود تلك القوات صفة الاحتلال بأنة حال من الأحوال ومن المتفق عليه أيضا أنه إذا اختلف الطرفان المتعاقدان عند نهاية مدة العشرين سنة المحدودة على مسالة ما إذا كان وجود القوات البريطانية لم يعد ضروريا فإن هذا الخلاف يجوز عرضه على مجلس عصبة الأمم للفصل فيه .
ووفقا للمادة السابقة فإن المدة التي تصل بالجيش المصري إلى درجة الدفاع وحده عن القناة تعتبر مبهمة لأن الجيش لكي يصل وحده إلى الدفاع عن القناة وحرية الملاحة فيها يجب أن يكون جيشا لا يقل عددا وعدة عن جيش فرنسا أو ايطاليا وهما الدولتان الواقعتان على البحر المتوسط وان عملية ( القدرة ) تعتبر حالة نسبية تختلف من دولة إلى أخري يضاف إلى ذلك أيضا اتهام بريطانيا بعرقلة نمو القدرة العسكرية لمص كمبرر لتأجيل الجلاء على هذا فقد نصت المذكرة الثالثة التي قدمها مصطفى النحاس إلى المستر ايدن " يخول البعثة العسكرية البريطانية حق اختيار العناصر القادرة على الارتفاع بمستوي الجيش المصري عن طريق الإشراف والتدريب دون التقيد بمدة زمنية محددة ".
أعطت المعاهدة حقوقا للقوات العسكرية البريطانية من حيث الانتقال برا أو بحرا أو جوا وكذلك للمخابرات المطلقة من كل قيد سواء بالراديو أو غيره كالتلغراف أو التليفون أو آية وسيلة من وسائل الاتصال المعاصرة .
وفي الوقت الذي حصلت فيه بريطانيا على كل الحقوق التي تتمتع بها الدول الاستعمارية في مستعمراتها حرمت هذا الحق على الدول الأخرى ففيما يتعلق باستعمال الشفرة بين ممثلي الدول في مصر وبين حكوماتهم أصدرت الحكومة المصرية قانونا يحرم استعمال الشفرة إلا للدول الحليفة ( بريطانيا ) فقط مما كان موضع سؤال في البرلمان المصري تقدم به النائب الدكتور حنفي أبو العلا وعجزت الحكومة عن إيجاد رد مقنع لهذا السؤال .
وتشير الوثائق البريطانية إلى أن مشكلة التفاوض حول الأمور العسكرية قد أخذت وقتا طويلا وخصوصا فيما يتعلق بالدفاع عن مصر حيث اتجهت نية الحكومة البريطانية إلى الإبقاء على الوضع العسكري كما هو أى أن تقتصر مهمة الجيش المصري على الحفاظ على الأمن العام وان تتفرغ القوات البريطانية للدفاع عن الأراضي المصرية .
وقد تمسك المفاوض المصري بان يكون الدفاع عن مصر من مهام الجيش الوطني بحجة أن المعاهدة ستفقد الغرض منها وكان النحاس باشا أكثر وضوحا حينما أصر على أن تقوم مصر بمهمة الدفاع عن نفسها وتنمية جيشها حتى يصبح قادرا على القيام بتعهداته الدولية – ولن يتردد الشعب المصري في إجابة داعي الوطن للدفاع عن سلامته بما عرف عنه من صدق العزم وقوة الإيمان .
وقد عبر البعض عن هذه الفكرة بشكل أكثر وضوحا حيث قال " أن على المصريين أن يستعدوا على اعتبار أنهم أصحاب النصيب الأولي في الدفاع عن بلادهم داخل أراضيهم وعلى الحليفة بقية المجهود "
وعلى الرغم من التنازلات العديدة التي قدمتها جبهة التفاوض المصرية فيما يتعلق بمركز القوات البريطانية في منطقة القناة وضواحيها إلا أن هذه القضية بالذات كانت موضع استجواب في مجلس العموم البريطاني وقد أشار وزير خارجية بريطانيا إلى بعض الأسباب التي من أجلها وافقت الحكومة البريطانية على الانسحاب من مدن مصر الكبرى كالقاهرة والإسكندرية وارجع ذلك إلى عاملين :-
أو لا : أن القوات الحربية البريطانية قوات ميكانيكية يسهل عليها التحرك السريع في أى وقت وإلى أى مكان وبأقصى سرعة ممكنة .
ثانيا : أن الطيران البريطاني قد أعطي حق التحليق في أى مكان يراه لازما لأعراض التدريب كما أوضح إيدن في نهاية بيانه ( أمام مجلس العموم) أن الأماكن التي حددت لتدريب القوات الجوية في منطقة السويس هي مناطق صحية ومريحة وتتناسب مع الانتشار السريع للطيران وتمكنه من الوصول إلى أهدافه بالسرعة المطلوبة"
ومن البديهي أن هدف بريطانيا من عقدها المعاهدة هو إعطاء وجودها في مصر صفة الشرعية التي كانت تفتقر إليها منذ احتلالها لمصر سنة 1882 وفي برقية من السيد مايلز لامبسون ( سفير بريطانيا في مصر ) إلى ايدن وزير الخارجية ما يؤكد هذا المعني فهو يشير في برقيته إلى ما يقال من أن النفوذ البريطاني في مصر سيتقلص ويؤكد لامبسون أن هذا الكلام يطابق الحقيقة فإن النفوذ البريطاني ينبغي أن يزداد وأن كان من نوع مختلف حيث لم يعد هناك الآن عنصر الإملاء , وإنما النصيحة الودية التي ترمي إلى المساعدة وأن نحصل على ما نريد بكل لباقة ولكن دورنا كحماة لمصر لن يتغير بل أنه في الحقيقة قد ازداد قوة وأصبح شرعيا بالمعاهدة نبعد أن زال عنصر الأمل الذي كان كامنا سوف تكون في وضع الشقيق الأكبر مع الشقيق الأصغر أو وضع الشريكين في بيت تجاري ولو أنه بحكم طبيعة الأشياء فإن نفوذنا يجب أن يكون هو الأكبر وخصوصا في الشئون الدولية .
ولقد اقتضي تنفيذ المعاهدة المصرية البريطانية فيما يختص بالطرق العسكرية حشد مهندسي الطرق والكباري للإشراف على أعمال الطرق العسكرية وسحب الكثيرين منهم من التفاتيش التي تقوم بمشروعات الطرق في مجالس المديريات فكانت النتيجة أن وقف الجزء الأكبر من هذه المشروعات وقد رفعت مصلحة الطرق الكباري مذكرة إلى وزارة المواصلات لفتت فيها نظرها إلى تردي الحالة في هذا القطاع الحيوي الهام .
أما فيما يتعلق بالسودان فلقد أصبح السودان بموجب معاهدة 1936 مستمرة الجزية تحرسه جنود مصرية تحت امرأة حاكمه العام البريطاني ففي المادة الحادية عشرة اتفق الطرفان المتعاقدان على أن إدارة السودان تستمر مستمدة من اتفاقيتي ( 19 يناير , 10 يوليه 1899) ويواصل الحاكم العام بالنيابة عن كلا الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضي هاتين الاتفاقيتين .
فهذا النص هو إقرار مباشر اتفاقية 1899 التي انتزعت السودان من مصر وتقضي المادة السابقة بأن السلطة العسكرية والمدنية في السودان تفوض إلى الحاكم العلم الذي يكون تعيينه بناء على طلب الحكومة البريطانية ولا يفصل عن منصبه غلا برضائها .
وبناء على ذلك تبقي سلطة تعيين الموظفين في السودان وترقيتهم مخولة للحاكم العام الذي يختار المرشحين الصالحين من بين البريطانيين والمصريين عند التعيين في الوظائف الجديدة التي لا يتوفر لها سوادنين أكفاء .
ولما كانت هذه المادة قد ووجهت بموجة من الغضب سواء من جانب المصريين أو السودانيين فإن السير ستيوارت سايمز حاكم عالم السودان قد غبر عن وجهة النظر البريطانية بأن يقدم للمصريين وعدا بان تكون لهم الأفضلية في شغل الوظائف التي لا يتمكن من شغلها سودانيون أو بريطانيون ولكن – كما قال بالحرف الواحد :" أن مثل هذا الوعد سوف يكون أقرب إلى وهم كبير "
وتعد المادة الحادية عشرة من أخطر بنود المعاهدة حيث جعلت السلطتان العسكرية والمدنية معا في يد الحاكم العام فهو الذي يحكم السودان ويعين موظفيه ويقوده عسكريا وهو الذي يأمر أن تنفذ في السودان القوانين التي تصدرها الحكومة المصرية اى أنها لا تنفذ إلا بقرار منه ولذا فإنه غير مسئول مسئولية كاملة أمام الحكومة المصرية لأنها لا تعينه أو تقبله بمطلق سلطتها , فالقول بان المعاهدة قد ضمنت الحكم الثنائي في السودان هو قول لا يحمل قدرا من الحقيقة لأنها تركت الأمر كله في يد الحاكم العام يتصرف فيه كما يشاء ولا يعقب لحكمه .
فإذا قيل بعد ذلك أن المعاهدة تنص على أن الحاكم العام يعين الموظفين من المصريين والانجليز فهو قول غير مفهوم لأن الحاكم العام غير ملزم أصلا وكذلك نسبة من يعينون من المصريين إلى زملائهم من الانجليز غير محددة ولا مقررة .
ولعل النحاس باشا أو أقطاب الوفد عموما وعلى رأسهم مكرم عبيد قد فهموا المواد التي جاءت في المعاهدة عن السودان بشكلها الظاهر كما يبدو في الخطبة التي ألقاها زعيم الوفد في مجلس النواب "" للنظر في معاهدة التحالف والصداقة بين مصر وبريطانيا العظمي " فبعد استعراض المواد الخاصة بالسودان في المعاهدة أعلن النحاس باشا لقد أصبح للمصريين نصيب فعلي في إدارة السودان سواء في ذلك الإدارة المدنية أو المالية أو الحربية .
ويلاحظ أن قضية السودان قد أثارات احتجاج عدد كبير من أعضاء مجلس النواب حيث أجمع عدد كبير منهم بأن موضوع السودان سيظل الثغرة التي تؤرق مضاجع المصريين فلقد حصلت بريطانيا على كل شئ من خلال شخصية الحاكم العام الانجليزي ولم تحصل مصر على شئ يتناسب والتضحيات التي قدمها حفاظا على السودان .
ويسجل أحد تقارير قياس الرأي العام في السودان أنه " نتيجة لما تقرر بمقتضي المعاهدة من عدم وجود بديل سوي القبول بالحكومة الثنائية فإن المتعلمين السودانيين قد ضايقتهم الطريقة التي تقرر بهذه مصير بلادهم دون أى تفكير بالأخذ برأيهم وقد رأي هؤلاء أن وضعهم قد أصبح مهينا بسبب ذلك , ومن ثم فقد قرروا أن عليهم أن يظهروا شخصيتهم المستقلة سواء عن انجلترا أو عن مصر والتي بدأت في الظهور منذ سنوات تحت شعار ط السودان للسودانيين " وأن عليهم أن يعبروا عن وجهة نظر جماعية تضعها الدولتان الحاكمتان موضع الاعتبار .
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن تقول : أن قضية السودان في مفاوضات 1936 تؤكد عدم صلابة المفاوض المصري في تلك القضية الهامة والأساسية وتعد اتفاقية 1899 والتي كانت هي الأساس في مفاوضات 1936 فصلا للسودان عن مصر وجعله مستعمرة انجليزية فإقرار المعاهدة لهذه الاتفاقية هو القرار لهذا الوضع .
وقد بنت انجلترا مزاعمها في اتفاقية 1899 على ما اغتصبته لنفسها من حق الفتح وعلى أنها اشترطت مع مصر في استعادته , على أن الحقيقة الثابتة أن انجلترا هي التي منعت مصر من تثبيت سلطاتها في السودان بعد ثورة المهدي وعملت بذلك على استفحال تلك الثورة ثم أكرمت مصر سنة 1884 على إخلائه مما تسبب في استقالة شريف باشا احتجاجا على هذا التدخل ولذا فإن اتفاقية 1899 ليس لها أى سند من الحق أو القانون .
وعلى الجانب الأخر كانت هناك بعض الإيجابيات لعل من أهمها ما جاء في مطلع المادة الحادية عشرة من معاهدة 1936 من نص قائل : مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقيات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي 19 يناير 10 يوليو 1899 .
إذ يعترف هذا النص صراحة بأن الوضع القائم في السودان بعد تنفيذ المعاهدة إنما هو وضع مؤقت ثم أنه لا يحدد أمدا معينا للنظر فيه كما حدث لبقية مواد المعاهدة التي تحددت مدة عشرين عاما لإعادة النظر فيها ومعني ذلك أن مصر تستطيع في أى وقت طرح قضية الوحدة المصرية السودانية على بساط البحث . وقد نصت المادة الثالثة عشرة على أن نظام الامتيازات الأجنبية لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة وأن حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بصفتها دولة من ذوات الامتيازات وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض بتاتا في إلغاء كل قي د يقيد التشريع المصري على الأجانب وستتعاون فعليا مع الحكومة المصرية في تحقيق هذه التدابير .
ويمكننا القول أن مصر قد كسبت من وراء معاهدة 1936 بعض المكاسب وفي مقدمتها إلغاء الامتيازات الأجنبي ودخول مصر عصبة الأمم على أن إلغاء هذه الامتيازات وأن كان قد عاد على قطاع كبير من الشعب المصري بالفائدة إلا أنه لم يعد على بريطانيا بأى نوع من الضرر فلقد سقطت الامتيازات التي تتمتع بها الدول الأوربية الأخرى أما بريطانيا فقد تمتعت بمقتضي المعاهدة بحرية كاملة في علاقاتها بمصر سواء أكانت علاقات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية واستطاع كبار رجال الأعمال وبعض كبار الملاك من المصريين أن يوظفوا أموالهم في مجالات الصناعة التي انتعشت بعض الانتعاش . ولقد ساد شعور بالقلق لدي الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر بما فيها الجالية البريطانية التي لم تستطع أن تخفي قلقها من إلغاء الامتيازات وقد عقد أعضاؤها بالإسكندرية اجتماعهم السنوي حيث وقف رئيسهم السير هنري باركر ليعبر عن القلق الذي يحس به كثيرون من أفراد الجالية الذين يعيشون فيمصر ويقول : أ ن مجلس الجالية قد اتخذ التدابير ليضع أمام وزارة الخارجية البريطانية النقط التي رأي أنه ينبغي لفت نظرها إليها .
وقد علقت الصحف المصرية على هذا الاجتماع غاضبة بقولها " لماذا لا يتفضل هؤلاء الساخطون على إلغاء الامتيازات بالهجرة إلى بلد غير مصر يكون مستعدا للقائهم بأكرم من المظاهر التي تنوي معبر أو تتلقاهم بها وهي محررة من الامتيازات .
وأعتقد أن الوفد المصري قد حرص على النص صراحة على إلغاء الامتيازات على الرغم من أن عددا من الدول حاولت الضغط على بريطانيا لبقاء الوضع كما هو عليه أو النص على وجود فترة انتقالية تتفق الدول صاحبة الامتيازات على مراحلها فيما بعد.
ولقد انعكس موقف الأجانب في مصر على بعض الوفود الأجنبية في مؤتمر الامتيازات خاصة الوفد الفرنسي الذي كان اشد الوفود صلابة في المؤتمر نظرا لضخامة المصالح الاقتصادية والثقافية الفرنسية في مصر وحرص الجانب الفرنسي على أن يظل عدد الموظفين الفرنسيين في مصر كما هو وأن نلتقي فرنسا حرصا على العلاقات التاريخية التي تربطها بمصر ولقد أثار هذا الموقف نقد الصحف المصرية فعلق بعضها قائلة : يجب أن ننتظر من الفرنسيين وغيرهم من الأجانب سياسة جديدة غير سياسة استغلال موارد الثروة في مصر دون أن ينال المصريون أكثر من الفئات ويجب أن ننتظر من الفرنسيين وغيرهم معاملة غير التي عرفناها إلى اليوم وهي معاملة السادة للعبيد والخواجات للأولاد البلد فالمعاملة الأوربية يجب أن تتغير والاستقلال الممقوت يجب أن ينتهي والشركات الأجنبية يجب أن تفتح أبوابها لأبناء مصر والمعاهدة يجب أن تبدي احترامها لتقاليد مصر ولغة مصر أما أن تظل روح الماضي التي تجلت في مؤتمر الامتيازات هي الروح السائدة في المستقبل فذلك ما لا يدع بين المصريين والأجانب سبيلا إلى التعاون المنشود ولا هو مما يفيد الأجانب كثيرا ولا قليلا .
ومن الطريف أن موقف فرنسا من الامتيازات الأجنبية كان محل نقد شديد من الصحف الانجليزية .
ولما كانت المصالح الفرنسية في مصر تمثل ثقلا حقيقيا فقد عقدت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الفرنسي اجتماعا لسماع أقواله المسيو بونيه وزير خارجية فرنسا في في صدد مشروع إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر ( وهي الاتفاقات التي وقعت في مونترو 8 مايو 1937 ) وقد بسط وزير الخارجية الإيضاحات المطلوبة وأكد أن الحكومة الفرنسية لن تدخر وسيلة في سبيل الحصول من الحكومة المصرية على الضمانات التي تصون مصالح فرنسا المادية والأدبية .ولعل هذا التحالف العسكري بين مصر وبريطانيا واعتراف مصر بالحكم الثنائي في السودان هو الثمن الذي دفعته مصر في مقابل السيادة التي أضفاها عليها تمتعها بعضوية عصبة الأمم ,وإلغاء الامتيازات الأجنبية ..
ولذا فإننا نعتقد أن معاهدة 1936 كانت وليدة اصطناع القوة بحكم أن انجلترا بسبب وجود قواتها العسكرية في الشرق الأوسط كانت تستطيع مواصلة الاحتلال لمصر والسودان سواء رضي المصريون بذلك أم كرهوا كما كانت تستطيع الدفاع عن مصر سواء اشتركت مصر في هذا الدفاع أم لم تشترك ولذا تنازل المفاوضون المصريون عن نصف مطالب مصر في سبيل الحصول علي النصف الآخر .
وهكذا أدت معاهدة 1936 إلى تحديد شكل الوجود البريطاني في مصر للمرة الأولي كما تم تعميق هذا الوضع طبقا للتحالف المعقود بين الدولتين ولهذا السبب ذاته تسجل المعاهدة نهاية الاحتلال البريطاني بالمعني القانوني إلا أنها أيضا تقر واقع الاحتلال من حيث الجانب العملي.
وخلاصة القول : أن المعاهدة لم تغير كثيرا من طبيعة القهر السياسي الذي مارسته انجلترا على مصر فقد استمرت السيادة الحقيقة للإنجليز الذين لم تنقطع مؤامراتهم ضد مصر والعبث بالحياة الدستورية المصرية وأصبح الوطنيون الساعون إلى التخلص من النفوذ البريطاني يظهرون بمظهر من ينقض على مصالح بريطانيا الحيوية وبذلك أعطت بريطانيا لنفسها الحق في التدخل بالقوة المسلحة محافظة على هذه المصالح وبالتالي أصبحت القوي الوطنية التي تطالب بالاستقلال التام معادية للمصالح البريطانية وبالتالي فهي ( من وجهة النظر البريطانية ) تعمل لخدمة المخططات النازية والفاشية , وطبقا للمعاهدة فقد تعهد الملك تعهدا ضمنيا باعتبار مصالح انجلترا الحيوية مصالح حيوية بالنسبة لمصر أيضا وبذلك كادت المعاهدة أن تشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور ولذا بأننا نعتقد أن معاهدة 1936 مسئولة عن تدهور الأوضاع السياسية في مصر بالشكل الذي حتم نمو الاتجاهات الثورية التي كانت تستهدف ضرب النفوذ البريطاني وإلغاء المعاهدة التي لم تحقق كل الطموحات الوطنية التي ضحي الشعب المصري كثيرا من أجلها .
ومن الواضح أن الاحتلال وأن تغير في شكله إلا أنه لم يتغير في جوهره بناء على هذه المعاهدة والتي عدتها الوزارة المصرية في ذلك الوقت نصرا يستحق التبجيل واتخذت من يوم توقيع المعاهدة عيدا من الأعياد القومية هو في الواقع لا يخرج عن كونه عارا لحق بمصر من جراء انسياق حكامها وراء أوامر ورغبات سلطات الاحتلال .
ووفق معاهدة 1936 فإن العلاقات المصرية البريطانية قد دخلت مرحلة جديدة تحكمها معاهدة واضحة الشروط وخصوصا بعد دخول مصر في عصبة الأمم حيث امتلكت مقومات الدولة من الناحية القانونية إلا أن قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939 قد شجع بريطانيا على أن تضرب عرض الحائط بنصوص المعاهدة .
يذهب البعض إلى أن توقيع معاهدة 1936 وما ترتب عليها من ردود فعل متباينة قد أفقد الوفد قدرا كبيرا من قوته وشعبيته وبصدد ردود الفعل الناجمة عن توقيع المعاهدة فقد تباينت وجهات نظر القوي السياسية في مصر وبدا ذلك داخل الأحزاب وفي الاجتماعات التي عقدتها للنظر في المعاهدة .
وعن موقف الحزب الوطني فعلي الرغم من أنه رفض مبدأ المفاوضة إلا بعد الجلاء إلا أن قاعات مجلس النواب المصري قد شهدت العديد من الانتقادات الموضوعية والتي أبداها أعضاء الحزب الوطني بالذات على الرغم من ديكتاتورية الأغلبية ومحاولاتها التقليل من حجم تلك الانتقادات .
أما موقف الأحرار الدستوريين فقد اتسم بالتخبط فقد شن أعضاؤه حملة شديدة على المعاهدة في أول جلسة عقدها الحزب حتي شعر محمد محمود – وهو الذي كان يمثل الحزب في جبهة المعارضة – بأن الحملة ليست موجهة إلى موضوع المعاهدة بقدر ما هي موجهة إلى شخصية بالذات .
وقد اقترح الدكتور هيكل تشكيل لجنة لدراسة المعاهدة وتقديم تقرير عنها إلى مجلس إدارة الحزب .
وبعد ولادة عسرة تمخضت من قرار له مقدمة طويلة تحدد أوجه القصور في المعاهدة وخصوصا المسائل العسكرية ومشكلة السودان إلا أنه خشية الانقسامات داخل الحزب ومراعاة لموقف محمد محمود ( رئيس الحزب وعضو لجنة المفاوضة ) فقد قرر الحزب قبول المعاهدة في القوت الحالي مع العمل على تعديلها بأسرع ما يستطاع تعديلا يزيل منها ما يمس استقلال مصر وتبادل الثقة بين الطيفين خير عربون لهذا التعديل .
ولعلي محمد محمود كان في موقف لا يحسد عليه حينما عاد ليؤكد أن معاهدة 1936 لا تحقق مطالب مصر المشروعة على وجه كامل وبصورة نهائية وأنها خطوة نحو تحقيق هذه المطالب ولم ير محمد محمود في مزاياها شيئا يتحدث عنه سوي مسألة الامتيازات .
أما عن موقف حزب الإتحاد والذي نشا في أحضان القصر وتحت رعايته وكان لسان حاله المعبر عن مصالحه فإن نسبة الأعضاء المعارضين للمعاهدة لم يتجاوز الثلث فقد وافق على المعاهدة تسعة بينما رفضها ثلاثة ووقف واحد على الحياد وهو توفيق رفعت باشا لذا فقد وقف إسماعيل صدقي باشا ( رئيس حزب الإتحاد ) في مجلس النواب ليعلن موافقته بصفته الشخصية مؤكدا على أن المعاهدة هي خطوة في سبيل الاستقلال وليست الاستقلال التام .
أما الإخوان المسلمون ومعاهد 1936 فعلي الرغم من الرؤيا السياسية للإخوان لم تكن قد اتضحت بعد إلا أن الرسائل التي بعث بها الشيخ البنا إلى رئيس الوزراء ( علي ماهر ) في أكتوبر 1939 يفهم منها أن معاهدة 1936 قد وقعت تحت ضغط ظروف وأحوال خاصة لا علي أنها غاية ما ترجوه مصر ولكن أنها خطوة في سبيل تحقيق الأهداف المصرية ويضيف حسن البنا في رسالته قائلا : الإخوان فالإخوان المسلمون وهم الذين يرون في المعاهدة المصرية الانجليزية إجحافا كبيرا بحقوق مصر واستقلالها الكامل يريدون من حكومة مصر أن لا تتجاوز هذه الحدود المرسومة على ما فيها من إجحاف بأية حال .
وعلى ما يبدو فإن مجلس النواب والشيوخ في جلسته المنعقدة في 14 نوفمبر 1936 قد وافقا على معاهدة 1936 بما فيها من تجاوزات وأثقال بحجة الظروف الدولية القائمة وما كان يحيق مصر من خطر ايطاليا الفاشية ومن عدم استقرار الحالة السياسية والدستورية والاقتصادية في البد وأيا كانت هذه الظروف فهي لا تبرر التنازلات التي قدمها وفد مص والتي تتعارض بشكل واضح مع حقوق مصر الوطنية وهي تنازلات كان لها أكبر الأثر على حركة النضال المصري ضد الاستعمار بل كان راجيا على الجانب المصري أن يستمر في مقاومته ولا يقبل معاهدة تهديدا الاستقلال وتقر الاحتلال .
موقف بريطانيا من الصراع بين الوفد والقصر
في 29 يوليو 1937 بلغ فاروق الثامنة عشرة بالحساب الهلالي وأقسم اليمين الدستورية وكان من الطبيعي أن تستقيل الوزارة القائمة فهي وكيل عن الملك في ولاية السلطة التنفيذية ولذا فقد تقدم مصطفى النحاس باستقالة الوزارة إلى الملك فاروق .
ولما كان النحاس صاحب الأغلبية البرلمانية في مجلس النواب فقد عهد إليه الملك أن ألف الوزارة الجديدة وبدت الأمور وكأنها تسير في اتجاهها الصحيح وخصوصا أن العلاقات المصرية البريطانية باتت تحكمها معاهدة واضحة المعالم في الوقت الذي كان فيه الملك فاروق يحظي بشعبية عريضة وسط قطاعات الشعب المصري وزاد من شعبية الملك الخطة الناجحة التي استخدمها بعض رجال القصر في أوائل عهده ( أمثال علي ماهر وأحمد حسنين ) في أبرز صوره الملك الصالح الذي ناضل من أجل إيجاد دور لمصر الإسلامية في الوقت الذي كان فيه النحاس باشا يفقد حذره من جانب القصر تحت وهم أن علاقة التحالف الجديدة بين الوفد وبريطانيا سوف تتيح له فترة التقاط أنفاس دستورية طويلة يوجه جهوده فيها إلى إعادة بناء الدولة وتعزيز الاستقلال الذي انتزعه من الانجليز ليصبح حقيقة واقعة في المجالين الداخلي والخارجي .
وقد بلغت بمصطفى النحاس الطمأنينة أن أغفل الصدع الذي كان قد أخذ يصيب الجهاز التنظيمي للوفد ويصل إلى القيادة ذاتها بفعل الصراع على النفوذ بين مكرم عبيد من جهة وبين محمود فهمي النقراشي والدكتور .
أحمد ماهر من جهة أخري وكان النحاس باشا يصطفي إليه مكرم عبيد تحت فلسفة الوحدة الوطنية المقدسة ووسط هذه التيارات المتعددة فوجئ النحاس بحادث له مغزاه في النظام النيابي فقد رفض الملك أن يكون يوسف الجندي وزيرا وكان الجندي نائب زعيم المعارضة في ملس الشيوخ ثم كان الوكيل البرلماني لوزارة الداخلية في الوزارة السابقة وقد رفض الملك تعيينه بحجة أن نزاهته إبان وكالته البرلمانية لوزارة الداخلية لم تكن فوق الشبهات .
ولذا فقد تصاعد الموقف وتأزمت العلاقات بين الوزارة القصر وبدأ الحادث وكأنه الأول من نوعه وتناوله الناس بالحديث بين مؤيد للقصر ومعارض للوفد وبالرغم من أن الوزارة قد تنازلت عن ترشيحها حرصا منها على عدم التصادم مع الملك وهو في بداية عهده إلا أن الخلافات بين الوفد والقصر بدأت تأخذ شكلا جوهريا فعندما خلا مقعدان في مجلس الشيوخ رشحت الوزارة لهما محمود فهمي النقراشي وحسن نافع فوافق القصر على ترشيح الأول ولم يوافق على ترشيح الثاني من غير إبداء للأسباب ولما استبدلت الوزارة فخري بك عبد النور بحسن نافع ظل القصر على رفضه مقترحا عبد العزيز فهمي باشا .
ثم تعمقت الخلافات بسبب رغبة القصر في أن ينقسم الجيش يمين الولاء للملك ورأت الوزارة أن يتضمن هذا القسم يمين الولاء للدستور .
واعتقدت احدي صحف القصر أن هذا المبدأ يعني تحويل الجيش حق التدخل إذ ما انتهكت أى قوة سياسية الدستور ولما كان معلوما أن الملك هو أول هذه القوي فإن ذلك يعني أن يتدخل الجيش ضد الملك وبالطبع رفض القصر مثل هذا الاقتراح حفاظا منه على مبدأ الحيلولة بين الجيش والسياسة.
وقد تزايدت شكرك القصر بعد ما لوحظ أن وزير الحربية الوفدي – حمدي سيف النص – قد دخل في التشريفات الملكية على رأس الضباط يقدمهم إلي الملك وهو تقليد لم يتبع من قبل .
ولما كان السفير البريطاني حريصا على الاستفادة من التناقضات بين القصر والوفد بهدف أضعاف الفريقين لمصلحة السياسة البريطانية في إطار يتفق مع الوضع السياسي الدولي الذي صار لمصر بعد المعاهدة ولذا فقد كان الصراع على السلطة بين الوفد والعرش هو المدخل المناسب والمتاح للسياسة البريطانية وكان السفير على ثقة من أن هذا الانقسام بين القصر والوفد سيدخله إلى حلبة الصراع بدون أى جهد وهذا ما حدث حيث تعددت الشكاوي من رجال القصر إلى السفير اتهموا فيها الوفد بأنه يحاول إقامة ديكتاتورية على حساب الحقوق الشرعية للقصر .
ولعل شكوي القصر من الوفد كانت من بابا حبس نبض بريطانيا في محاولة كسب ودها أو على الأقل لضمان حيدتها وهي سياسة ما كره هي القصر .
ووفق سياسة الوفد في محاولة منه للسيطرة على القصر فقد تضمن خطاب النحاس باشا إلى مجلس الوصايا بمناسبة تأليف وزارته : أنه بهدف توثيق العلاقة وتدعيم الثقة بين القصر والأمة واقتداء بالأمم ذات التقاليد البرلمانية فإنه ينوي إقامة وزارة للقصر .
البريطاني في محاولة لاستثمار هذا الصراع وتنميته لمصلحة السياسة البريطانية ولعل النحاس باشا ورجالات القصر لم يقدروا حجم الخطر من جراء هذا الصراع .
وشهدت تلك الحقبة أشكالا متعددة للصراع بين القصر والود لعل أهمها ما قام به القصر من محاولات الاستيلاء على الوفد من الداخل كوسيلة لخروج الدكتور أحمد ماهر والنقراشي من الوفد على اعتبار أنهما من أكثر زعماء الوفد شعبية ويشير السفير البريطاني إلى مسئولية القصر في تنمية الصراع داخل الوفد وخصوصا فيما يتعلق بالنقراشي أحمد ماهر والأخطر من هذا أنه واكب خروج النقراشي وأحمد ماهر من الوفد دخول عناصر أخري ممن وصفوا بالإقطاعيين وهي عناصر تملك بطبيعتها مقومات إثارة النفور الشعبي أكثر مما تملك جذب الإعجاب الجماهيري.
يضاف إلى كل ذلك أن خروج هذه العناصر من الوفد قد أثار العديد من التساؤلات حول سمعة هذا الحزب الكبير في الحكم أكثر مما أثار من شكوك حول تواطؤ القصر والعناصر المنشقة ولعل السبب في هذا ما كان من تحول واضح سواء في سياسة الحزب الخارجية وخصوصا عقب توقيع معاهدة 1936 والتي أثارت العديد من التساؤلات حول تاريخ الحزب وجماهيريته المطلقة بسبب تشدده الواضح في المطالب الوطنية أو فيما يتعلق ببناء الحزب من جديد وفق المتغيرات التي أحدثها انشقاق ماهر النقراشي هذا لأبناء الذي اتسم بالعديد من السلبيات التي دفعت الحزب إلى الوقوع في سلسلة لا تنتهي من الأخطاء لعل أهمها ما وقع في 4 فبراير وما ترتب على ذلك من خروج مكرم عبيد من الوفد وما أعقب ذلك من تجاوزات لعل بدايتها كانت عقب معاهدة 1936م.
ولم تكن عين السفير البريطاني غافلة عن كل ما يجري من خلافات بين القصر والوفد ففي احدي تقاريره يلقي بقدر كبير من المسئولية على النحاس الذي " لا يبذل أى جهد لإرضاء الملك وكسب وده معتقدا بأن هذا السلوك سيكسبه قدرا كبيرا من شعبيته متناسبا أن فاروقا يحظي بشعبية كبيرة لدي المصريين ولذا فإنني أعتقد ان النحاس يرتكب أكبر خطأ ثم أخذت يتنبأ بدقة غريبة بما يمكن أن يحدث :" أنه من المتوقع وفقا لتلك السياسة الخاطئة أن تقال حكومة الوفد في الخريف القادم " وقد أرجع السفير البريطاني عداء أحمد ماهر والنقراشي لمصطفى النحاس لأسباب كثيرة منها : عنصر المنافسة وما زعمه من كراهية المسلمين لأية صورة من صور السيطرة القبطية ثم واصل السفير تحليله للموقف قارئ : أن خصوم النحاس ومكرم عبيد يلزمهم بشكل أساسي نقطة تجمع لم تعد تتوفر إلا في القصر علي ماهر هو صاحب كل تلك المؤامرات ولا يوجد من بين العناصر المعادية للنحاس من يملك مقومات شعبية لدي الجماهير إلا الملك فاروق شخصيا ويختتم السفير تقريره بقوله : ونأمل ألا يقع الملك في خطأ اتخاذ إجراءات متسرعة ضد الوفد قبل تشويه سمعته بدرجة كافية حتى لا يصور الوفد نفسه في صورة شهيد الحرية والديمقراطية .
وفي الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين الوفد والقصر تأخذ أبعادا مختلفة كانت بين السفير البريطاني الملك فاروق تزداد سوءا بدرجة عبر عنها الدكتور هيكل بقوله : لقد أتاح هذا الود المفقود بين السفارة الانجليزية والقصر فرصة ذهبية لطائفة من بطانة الملك كي يفسدوا الجو بينه وبين رئيس الوزراء.
لقد تطورت الأحداث السياسية الداخلية بصورة سريعة لدرجة أن أخذ القصر يتهيأ لأول انقلاب دستوري في عهد الملك فاروق وانتهت تقديرات السفير البريطاني للموقف إلى أنه بفضل حكومة وفدية مشاكسة على حكومة قصر موالية للفاشية .
وأدي هذا بطبيعة الحال إلى وجود تقارب بين الوفد والانجليز وهذا مما أكد الدافع وراء عقد معاهدة 1936 وحملت رسالة ملامبسون إلى حكومته في 28 يوليو 1937 أخبار العلاقات الجديدة بين السفارة والحكومة الوفدية مصورا إياها بقوله : أن الموقف يبعث على الرضا وبشر بالأمل ويسرني أن أعبر عن تقديري لموقف النحاس باشا تجاهنا بالرغم من مبالغته في تطبيق نصوص الدستور بصدد الحفل الديني عند تولي الملك العرش وأعتقد أن موقف النحاس من هذه الناحية لا يتسم بسلامة التقدير وغير خاف ان النحاس يريد أن يحد من امتيازات الملك ما أمكنه ذلك .
ويلاحظ أن العلاقات بين الوفد والانجليز قد ارتبطت إلى حد كبير بعلاقة الوفد بالقصر فكلما ساءت العلاقات بين الوفد والقصر يسارع الوفد إلى توطيد علاقته بالانجليز حماية من ديكتاتورية القصر والتي تجاوزت روح القانون والدستور ومن المؤكد أن عدم حسم الكثير من القضايا الدستورية قد شجع القصر على المعني في سياسته العدائية ضد الوفد .
ولعل ما توقعه السفير البريطاني قد حدث بالفعل حيث ذهب إليه النحاس باشا شاكيا معددا إلهي كثيرا من الإهانات التي لحقت بشخص رئيس الحكومة ويضيف السفير قائلا : أن دولاب العمل في الحكومة كاد أن يتوقف بسبب العديد من تدخلات الملك التي لا تستند إلى أى وضع قانوني ويعلق السفير قائلا : يكفي النحاس ما لاقاه من غلام عديم التجربة ناقص التعليم متغطرس.
ويبدو أن الدوائر البريطانية قد تعاملت مع الطرفين من منطلق سياسة النفس الطويل بهدف إجهاش كل من القوتين المتصارعتين وانطلاقا من هذا المفهوم فلم يحاول السفير إظهار نفسه بصورة المتضامن مع الوفد على حساب العرش أو المتضامن مع العرش على حساب الوفد وهكذا كانت سياسته في تعامله مع القصر ولعل الغرض من تلك السياسة أن بتكالب النحاس على بريطانيا وأن يلقي بكل ثقله تجاهها وكانت الحكومة البريطانية تقدر قيمة تلك السياسة اعتقادا منها بأن الوفد هو القوة السياسية الوحيد التي يمكن التعامل وقت الشدائد باعتباره حزبا يحظي بشعبية مطلقة لدي المصريين.
وهكذا أتيحت الفرصة لكي يتدخل السفير البريطاني في محاولة منه لإقناع طرقي الأزمة بتقديم تنازلات كل من جانبه وأبدت الحكومة الوفدية استعدادا طيبا سواء بحل جماعات القمصان الزرقاء أو بقبول الإبقاء على قسم الجيش دون أن يدخل عليه تعديل بأن يتضمن القسم ولاء للدستور وإن كانت قد تمسكت بحقها في تعيين أعضاء مجلس الشيوخ وأيضا بحقها في اقتراح القوانين دون موافقة مسبقة من الملك في تعيين أو فصل الموظفين على مختلف درجاتهم .
وفي الوقت الذي كانت تبدل فيه الوسطات كان الوفد يستخدم أسلوب المظاهرات الشعبية كنوع من التأثير على القصر من ناحية والتأكيد على أن الوفد يعني الشعب المصري كله من ناحية ثانية وتلك ورقة استعملها الوفد في جميع مراحل صراعه مع العرش وأخذت الجماهير الوفدية تطوف شوارع القاهرة تهتف " النحاس أو الثورة "
إلا أن الوفد قد أخطا في حساباته هذه المرة لعدة اعتبارات موضوعية من بينها :-
أولا: أن هذه المظاهرات قد اتسمت بعامل " الصنعة " التي افتعلتها فرق القمصان الزرقاء التي اصطنعها الوفد لنفسه وبدا الوضع أمام الرأي العام المصري وكأنه اعتداء على حقوق الملك الدستورية .
ثانيا : لقد أخطأ الوفد في حساباته أيضا حيث أن هذه المظاهرات كانت من الأساليب التي يلجأ إليها الوفد أمام الملك فؤاد , أما هذه المرة فإن الملك فاروق كان يحظي بشعبية كبيرة.
ثالثا : لقد أدرك لنحاس باشا أن وزارته على هبة الإقالة فالصور أن هذا الأسلوب سيحول بين القصر وبين الإقدام على تلك الخطوة إلا أن هذا التقدير كان خاطئا فلقد كانت تلك المظاهرات من أهم العوامل التي عطلت بالإقالة .
وفي الوقت نفسه سارت جموع غفيرة من الشعب المصري في شكل مظاهرة تهتف بحياة الملك واتجهت إلى قصر عابدين حيث خرج الملك لتحيتها أكثر من مرة مما يؤكد رغبته في انتهاج هذا المسلك.
ووفق حديث لامبسون ( السفير البريطاني ) مع علي ماهر عن تصاعد الموقف بين الملك والنحاس يقول لامبسون : إن هذه التصرفات من الملك تؤكد تماما اعتقادي بأن الملك عنيد ومتهور وأحمق : وقلت له ( أى أحمد ماهر ) أننا قد بلغنا ما في وسعنا لاحتواء الأزمة وإذا تدخلنا أكثر من ذلك فسوف نتهم بأننا نتدخل في شئون مصر الداخلية ولقد وصلت إلى نتيجة وهي أن ندع الفريقان يخوضان معركتهما إلى النهاية وأتمني أن يتفهم الملك طبيعة تلك المظاهرات التي تهلل له فإن هذا التهليل يمكن أن يكون مضللا ولقد أكدت للملك مرارا أننا نؤيده بشرطين أن يكون سلوكه دستوريا وأن يكون حكيما ولا أعتقد ان أيا من هذين الشرطين قد تحقق .
ولقد تطورت الأمور تطورا خطيرا وبقدر ما تفاقمت مظاهر الخلاف بين الوفد والقصر بقدر ما تدخل السفير البريطاني وهذا مما يريدنا قناعة بعدم إخلاص السفير في محاولته احتواء تلك المشاكل وفي 30 أكتوبر 1937 تدهور الموقف بشكل خطير بسبب مصادره الحكومة لجريدة البلاغ – لسان حال القصر – لنشرها نص حديث دار الملك فاروق والنحاس طلب فيه الأول حل جماعات القمصان الزرقاء .
وانطلاقا من مفهوم أن الوفد يعني كل الشعب المصري فقد بدأ النحاس باشا يفكر جديا في خلع فاروق وتنصيب الأمير عبد المنعم ملكا على مصر , ووفقا للمصالح البريطانية وتقديرا لأهمية أن تبقي الثغرات قائمة في السياسة المصرية لتتمكن بريطانيا من التدخل فلم توافق الحكومة البريطانية على خلع الملك فاروق واقترحت على النحاس أن يتذرع بمزيد من الصبر لأن الفرصة ما تزال قائمة لإصلاح الخلل القائم .
إلا أن محاولات السفير البريطاني لإصلاح الخلل القائم بين النحاس والملك لم تحقق قدرا ملحوظا من التقدم وخصوصا بعد محاولة اغتيال النحاس باشا ( 28 نوفمبر 1937) على يد عضو من جمعية " مصر الفتاة " يدعي عز الدين عبد القادر واعتقادا من النحاس باشا بأن الملك فاروق هو المسئول الأول عن هذا الحادث فلقد نقل أمين عثمان رسالة شفوية من النحاس إلى السفير البريطاني يطلب منه التدخل المباشر لإنقاذ المعاهد مما قد يحدث من تصرفات الملك المستبد ويتساءل لامبسون في رسالته إلى حكومته؟ هل نحن على استعداد لدفع الثمن المحتمل لمساندة النحاس ضد الملك فاروق ؟ وهل نحن على استعداد لأن نمضي بالأمور إلى نهايتها ؟ إن ذلك قد يعلن خلع الملك نهائيا مع الأخذ في الاعتبار أن الأمير محمد على الذى يليه في ولاية العرش صاحب خبرة كبيرة وسيكون أسلس قيادي وأكثر تقبلا للإقناع والنصح , ومن الواضح أن وجهات النظر كانت مختلفة بين الوفد والانجليز على من يخلف فاروق والملاحظ على ضوء العلاقات المصرية البريطانية أن الحكومة المصرية قد تجاوزت في علاقتها ببريطانيا حدود معاهدة 1936 فلم يكن من بين بنود تلك المعاهدة ما ينص صراحة أو ضمنا على أن تتدخل بريطانيا في شئون مصر لدرجة التفكير في خلع الملك فاروق وعلى الرغم من أننا لا نعفي القصر من المسئولية التي دفعت بالعلاقات بين الحكومة والقصر إلى هذا الحد من التردي إلا أننا لا نعفي الحكومة الوفدية من مسئوليتها في إعطاء الحكومة البريطانية فرصة التدخل في الشئون الداخلية لمصر وهو ما يتعارض مع معاهدة 1936 التي تنص على عدم التدخل بأي صور ة من الصور .
ولما كانت تلك المسائل الخطيرة تحسم في لندن فقد جاء رد الحكومة البريطانية بعدم الموافقة على خلع الملك فاروق وخصوصا في هذا الوقت بالذات كما طالبت السفير البريطاني بالضغط على النحاس ليقبل إعادة تشكيل وزارته بما يرضي كل الأطراف وطالبته أيضا بمقابلة الملك وحثه بأشد لغة على التعاون مع الحكومة الحالية مع العمل في الوقت نفسه على كسب ثقة الملك.
ومن الواضح أن موقف الحكومة البريطانية من هذا الصراع الدائر كانت تحكمه عدة اعتبارات :-
ومن الواضح أن موقف الحكومة البريطانية من هذا الصراع الدائر كانت تحكمه عدة اعتبارات :
أولا : أن العلاقات المصرية البريطانية كانت تمر بفترة اختبار لمعاهدة 1936 وإقحام بريطانيا في مثل هذه المسائل الخطيرة سيفسر على أنه ارتداد بالعلاقات إلى ما قبل المعاهدة .
ثانيا : لقد كان الملك يحظي بقدر من الشعبية لدي الرأي العام المصري والإقدام على عزل الملك قد يترتب عليه عواقب خطيرة ليست في مصلحة بريطانيا .
ثالثا : لقد قدر وزير خارجية بريطانيا أهمية الصراع بين الوفد والقصر حتى تتاح الفرصة لمزيد من النفوذ البريطاني .
ونستطيع بعد كل هذا أن نؤكد على قضية هامة وهي رغبة بريطانيا في مساندة الوفد تلك المساندة التي تفسرها العديد من الأسباب الموضوعية وفي مقدمتها :-
1- أن حكومة الوفد تستند إلى قاعدة شعبية عريضة تمكنها من تطبيق معاهدة 1936 تطبيقا يعتمد على روح المعاهدة قبل التقيد بنصوصها .
2- أن حزب الوفد بشعبيته الكبيرة هو الحزب القادر على الوقوف موقف الند ضد شعبية الملك الشاب .
3- يمكن لبريطانيا عن طريق حكومة الوفد أن تصدر ما تشاء من قرارات تتفق مع المصالح البريطانية .
وفي الوقت الذي كانت العلاقات بين الملك والنحاس تمضي إلى طريق مسدود كانت هناك بعض القوي الملتفة حول القصر بهدف أن تؤجج نيران الفرقة بين العرش والوفد ويعتبر المقال التالي والذي نشره احدي الصحف الموالية للقصر نموذجا فريدا لأسلوب الوقيعة والمزايدة لا لخدمة الأغراض الوطنية وإنما لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية , فكتبت جريدة البلاغ تقول :" حينما سافر النحاس إلى لندن لأجل المفاوضات ودعته مصلحة خفر السواحل بإطلاق المدافع وحينما عاد استقلبته بنفس الطريقة وبديهي أن إطلاق المدافع من مميزات جلالة الملك وحده بذلك جرت القواعد وجرت العادة في مصر .. فإطلاقها للنحاس في توديعه وأستقبله اعتصاب لمظهر من مظاهر تلك المميزات كان من الضروري أن يترك أثره في ذلك القلب البرئ الذي يجلس على العرش .. ثم الحفلة الدينية التي كان مزمع قيامها عند تولية الملك سلطانه ولكن النحاس ثار وزعم أن فيها اعتداء على الدستور كل هذا والملك وهو طاهر القلب و الذهن من الأشخاص لا يضمر إلا حب خالص لبلاده ثم أخذت الصحيفة تعدد على النحاس مواقفه المنافية لحقوق العرش , ففي احدي الحفلات التي أقامها النحاس في قصر الزعفران جلس النحاس بجانب الملك في الحديقة وكان الجو معتدلا ومع ذلك شوهد النحاس بخلع الطربوش ويبقي برأسه عاريا لمدة عشرين دقيقة ولم يخلع الملك طربوشه فأى معني يفهم من هذا غير أن النحاس يتململ في حضرة صاحب الجلالة واستقبل الملك مستقبليه في محطة الإسكندرية مصافحا لهم فشوهد النحاس يصافحهم هو الآخر من ورائه ولما ذهب جلالته إلى البرلمان في حفلة التولية شوهد مكرم عبيد واقفا بجانبه ويداه معقودتان خلف ظهره وهذا وذاك يتنافيان مع التقاليد .
وهكذا تمكنت بطانة السوء من تعميق الخلاف بين الملك ورئيس الحكومة ومما يؤسف له أن الصحف المصرية قد لعبت دورا خطيرا في تفاقم الخلافات وأن بعض كبار الكتاب قد انحدر إلى هذا الدرك تحت فلسفة " حقوق الملك هي حقوق الأمة "
وفي الوقت الذي انقسم فيه الشعب المصري بين مؤيد للملك ومناصر للوفد كانت الحكومة البريطانية تضع القواعد الأساسية التي تحكم التدخل في شئون مصر الداخلية وحددت أربعة أهداف تستدعي التدخل البريطاني :
أولا : إغفال تنفيذ نص المعاهدة أو روحها .
ثانيا : السعي من جانب الحكومة المصرية لتأمين نفسها بالتفاوض مع دولة أخري لعقد معاهدة أو نحوها .
ثالثا : امتناع الحكومة المصرية عن اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحسين وسائل الدفاع عن مصر .
رابعا : تدهور الوضع المالي علي نحو يترتب عليه أن تصبح مص عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها الدولية .
على هذا النحو أرست الخارجية البريطانية القواعد التي يتم بموجبها التدخل في شئون مصر الداخلية ومن المؤكد بريطانيا لا يعنيها من مصر إلا القدر الذي يحقق مصالحها سواء العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أما حقوق العرش أو حقوق الأمة أو الديمقراطية فهي قضايا تتشدق بها بريطانيا بهدف تحقيق أغراضها .
ومما يلفت النظر أن علي ماهر رئيس الديوان الملكي – قد لعب دورا مميزا في الصراع الدائر بين القصر والوفد اتسم بالدهاء والمكر ومن الطريف ما نلاحظه في خديعته للسير لامبسون ففي الوقت الذي أحس فيه السفير برغبة الملك في إقالة الحكومة نجح علي ماهر إلى درجة كبيرة في إقناع السفير بأن الملك لا يمكن أن يفكر في مثل هذه الأمور مما اضطر لامبسون أن يرسل إلى حكومته يطمئنها على بقاء حكومة الوفد .
واضطرت الحكومة الانجليزية إلى استعمال أسلوب التهديد وأبلغت املك صراحة انه سيفقد ثقة الحكومة البريطانية إذا ما استمر في سياسته وأنه يعرض عرشه للخطر .
ومن خلال هذا الصراع الدائر أعلن الدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب بيانا أدان فيه الوزارة الوفدية متهما إياها بإفساد المن والتعليم وخنق الحريات وأنها تعد من أسوأ الحكومات التي حكمت مصر
وعندما حانت اللحظة الحاسمة وعلم السفير البريطاني أن إقالة الوزارة قد تحققت تراجعت الحكومة البريطانية عن اتخاذ محدد ولعل اختيار محمد محمود باشا ليتولي رئاسة الحكومة بما عرف عنه من صادقته الوطيدة مع الانجليز كان من بين العوامل التي شجعت بريطانيا على عدم التدخل .
وبعد خطاب الملك بإقالة الوزارة أغرب خطاب إقالة لأية حكومة يؤيد طريقة الوزارة في الحكم وأنه يأخذ عليها مجافاتها روح الدستور وبعدها عن احترام الحريات العامة وحمايتها وتعذر إيجاد سبيل لاستصلاح الأمور على يد الوزارة التي ترأسونها لم يكن بد من إقالتها تمهيدا لإقامة حكم صالح يقوم على تعرف رأي الأمة الخ "
وتأصيلا للحقيقة التاريخية فإننا نعتقد أن علي ماهر قد لعب دورا خطيرا في تدعيم سلطة الملك على حساب الحقوق الدستورية واستطاع علي ماهر أن يلفت نظر املك الشاب إلى ضرورة إقالة الوزارة الوفدية بلا أى تقدير لمبدأ الشرعية الدستورية .
ويبدو أن هذا المسلك من علي ماهر كان بسبب موقف الوفد من تعيينه رئيسا للديوان الملكي ففي الوقت الذي استبشرت فيه صحف القصر لهذا التعيين واعتبرته مطابقا لمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب على اعتبار علي ماهر هو أفضل من يصلح لهذا المنصب في نفس الوقت تتحفظ صحف الوفد على هذا التعيين بل أن إحداها ذكرت أن هذا التعيين قد تم بناء على الصلاحيات التي حصل عليها القصر بمقتضي مرسوم 8 فبراير 1925 الذي أصدرته وزارة زيور باشا وأن الوزارة القائمة تنوي عرض هذا المرسوم على البرلمان بهدف تعديله أو إلغائه .
بل إن علي ماهر شخصيا هو الذي قام بكتابة كتاب الإقالة وعندما أثيرت هذه المسألة في مجلس الشيوخ سنة 1940 قال علي ماهر : إذا تساءل البعض لماذا أقيلت حكومة 1937 فالجواب أن سبب الإقالة خلاف على حقوق العرش وكان من واجبي ( أى علي ماهر ) وقتئذ أن أتقدم لإيجاد حلول بخصوص هذا الموضوع .
وهكذا تمت إقالة حكومة الوفد بطريقة مهينة على يد الملك فاروق وبتوجيه من رئيس ديوانه علي ماهر الذي ضرب عرض الحائط برغبة السفير البريطاني في بقاء حكومة الوفد في الحكم ولذا فقد اعتقد السفير أن علي ماهر هو السبب الحقيقي وراء كل المتاعب التي تلاقيها بريطانيا في مصر .
ولقد تمخضت أزمة إقالة الوزارة عن مزيد من سوء العلاقة بين علي ماهر والجانب البريطاني كما دفع السفير إلى أن يكتب لحكومته قائلا : أن علي ماهر رجل مخادع لا يمكن الوثوق فيه أو الاعتماد عليه .
وبصدد مناقشتنا لإقالة الوزارة الدستورية سنة 1937 يدفعنا هذا إلى السؤال عمن تقع على عاتقه مسئولية هذه الإقالة ؟..
ولعل التفسير الذي يتفق ومنطق الأحداث يدفعنا إلى إدانة العديد من الأطراف ولعل علي ماهر في مقدمة تلك القائمة لأنه المسئول الأول عن هذه الإقالة ولأنه سعي إلى توسيع سلطات الملك على حساب الأمة حتى يبدو بمظهر الرجل الأمين على حقوق العرش لا شك أن هذه السياسة قد أفرزت نتائج خطيرة تمثلت في فتح عيون الملك على سياسة التحدي للمبادئ الدستورية وإقالة الوزارات وتعطيل البرلمان تلك السياسة التي اكتوي بنارها حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية على حد سواء ولعل علي ماهر نفسه قد شرب من نفس الكأس حينما أقاله الملك بطريقة مهينة سنة 1952 ( مارس).
وتعد حكومة الوفد مسئولة بتصرفاتها حيث مهدت الطريق لإقالتها وذلك بسبب اعتقاد النحاس أن الملك ( شاب صغير ) يمكن احتواؤه بشكل أو بآخر وكانت معظم تصرفات النحاس تصدر انطلاقا من هذا المفهوم وأسقطت حكومة الوفد من حساباتها وجود علي ماهر في معسكر القص تلك الشخصية التي شهد لها كل من عاصرها بالمكر والدهاء وبدلا من أن تنهج حكومة الأغلبية نهجا دستوريا ابتدعت فكرة القمصان الزرقاء التي ضج منها الجميع بسبب سلوكها الإرهابي عن طريق الاعتداءات المتكررة على خصوم الوفد.
ويعتبر الملك فاروق نفسه أحد المسئولين عن هذه الإقالة فما كان عليه أن يبدأ حياته بهذا المسلك الديكتاتوري وكان عليه أن يلجأ إلى الأمة ليأخذ رأيها إذا ما أعتقد أن الحكومة لام تعد تحظي برضاء الشعب .
وإذا ما علمنا أن الملك فاروق لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة عاما بالتاريخ الميلادي فإن هذا يضاعف من مسئولية علي ماهر .
أما السفير البريطاني ومن ورائه تعليمات وزير الخارجية فلقد لعب دورا هاما وأساسيا في إفساد العلاقات بين القصر والحكومة وما كان لبريطانيا أن تقبل بأي حال من الأحوال أن يتحدد المصريون جميعا في جبهة واحدة لأن هذا معناه أن تتنبه الأمة للخطر الذي بها من جراء الهيمنة البريطانية وهناك سؤال يستحق أن يجاب عليه : كيف قبل البريطانيون أن يهزموا في أول معركة يخوضونها ضد الملك فاروق ؟...
أولا : لقد حدد وزير الخارجية البريطاني المسائل التي يمكن للسفير أن يتدخل تدخلا مباشرا من أجلها ولم يكن من بينها إقالة الحكومة الوفدية ..
ثانيا : لعل الحكومة البريطانية قد اعتقدت أن إقالة الوفد لا تستحق التضحية بمعاهدة 1936 ومن لمؤكد أن الحكومة البريطانية مصالحها في خطر .
ثالثا: أكد السفير البريطاني في حديثه مع النحاس عقب الإقالة حينما لامه الأخير على عدم تدخله ليحول بين رغبات الملك الطائشة وبين إقالة الحكومة الدستورية – أكد السفير أنه لم يكن في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك وليس من مصلحة النحاس باشا نفسه أن تتدخل بريطانيا لكي تستبقيه بالقوة .
إلا أن الوفد لم يكن ليقتنع بالحجج والمبررات التي ساقها السفير البريطاني وأخذت صحف الوفد تلوح بأن التحالف الانجليزي المصري قد أخفق وأن على مصر أن تبحث لها عن حليف جديد وأشارت الصحيفة إلى أن بريطانيا ما زالت تتعامل مع مصر بروح الاستعمار القديم والواجب على الحليفة إذا كانت حريصة على عوامل الود والصداقة أن تترفع عن استغلال محنتنا وإهدار استقلالنا.
وتساءلت صحيفة وفدية أخري : هل بلغ سوء الظن بين المصريين والانجليز إلى الحد الذي لا سبيل معه إلى إقرار الوضع بين الحليفتين على أساس من التعاون الصادق السليم ؟ وأشارت الصحيفة إلى مسئولية بريطانيا عن إقالة الحكومة الدستورية .
ولقد انتهز الوفد كل الفرص لإحراج الانجليز والقصر معا وهذا الموقف من الوفد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن موقفه من الانجليز وهو خارج الحكم يغاير موقفه وهو في الحكم فلقد أخذ زعماء الوفد يصرحون في كل مكان بأنهم ضد رغبة وتأيد جماهير الشعب المصري وترتيبا على ذلك وجد الوفد نفسه مدفوعا لمهاجمة السياسية الانجليزية وخصوصا ما يتعلق منها بتأييد المعاهدة بل والأكثر من هذا أعلن ممثلو الوفد في مجلس النواب بأن السفارة البريطانية ورئيس البعثة العسكرية البريطانية يحكمان مصر كما كان يحكمها المعتمد البريطاني والمفتش العام قبل المعاهدة .
ومن خلال الخلافات والمشاحنات بين القوي السياسية في مصر والذي كان حقل خصب لنمو النفوذ الانجليزي المدعوم بمعاهدة 1936 أعيدت صياغة العلاقات بين القوي المؤثر في السياسة المصرية على النحو التالي:
أولا : لقد اعتقد النحاس أن الملك وحده غير قادر على اتخاذ تلك الخطوة الخطيرة وهي إقالة الحكومة الدستورية معتقدا أن الانجليز كانوا وراء تلك المؤامرة ومن هنا أعلن الوفد صراحة عن عدائه للإنجليز والتلويح بنقض معاهدة 1936 .
ثانيا : زيادة حدة الصراع بين حزب الأحرار الدستوريين والقصر إلا أن هذا الصراع لم يتعد إطار التحالف ضد الوفد وهذا التصارع كان منشئوه أن القصر يريد أن يملك ويحكم وحده , وأن حزب الأحرار الدستوريين كان يريد أن يشارك الملك في الحكم , ويلاحظ أن مصدر الخلاف قد دار حول أمور سبق أن تصارعت من أجلها كل الأحزاب ضد ديكتاتورية القصر وهي حق رئيس الحكومة في اختيار أعضاء وزارته وهو ما رفضه القصر تماما .
ثالثا : أما عن العلاقات بين الانجليز والقصر وخصوصا بعد أن أهمل فاروق نصائح لامبسون بالإبقاء على حكومة الوفد فقد تزايد العداء بين الطرفين لنفس السبب السابق بالإضافة التي تزايد النفوذ الايطالي داخل القصر عن طريق البنداري باشا وكيل الديوان الملكي ومن هنا فقد دخلت العلاقات المصرية البريطانية في مرحلة جديدة اتسمت بالتصادم الواضح بين الملك والانجليز .
الوجود البريطاني في السياسة المصرية ( ديسمبر 1937 – يونيه 1940)
لقد اعتبرت الحكومة البريطانية أن تصمم الملك فاروق على إقالة حكومة النحاس وتكليف محمد محمود باشا بتأليف الوزارة الجديدة يعد انقلابا ضد الديمقراطية وعودة إلى سلوك فؤاد الاستبدادي .
وقد ألف محمد محمود وزارته في 30 ديسمبر 1937 حيث جمع فيها بعض المستقلين والمنشقين على الوفد وبمجرد الانتهاء من إجراءات تشكيل الحكومة جرت زيارتان متبادلتان بين السفير البريطاني ومحمد محمود باشا تم فيهما وضع أسس التعاون بين مصر وبريطانيا وقد حملت رسائل لامبسون إلى حكومته في لندن – رغبة رئيس الوزراء المصري في إقامة علاقات متينة تحكمها المصالح المشتركة والتعاون الصادق بين الطرفين وقد اتفق على وضع أولويات العمل المشترك فيها يتعلق بقضية الدفاع عن مصر , وما يتطلبه ذلك من نفقات وأضاف لامبسون في برقيته :ط أن محمد محمود باشا قد ابدي رغبة أكيدة في منع المظاهرات التي تحدث في الشوارع كل يوم والتي تسبب ارتباكا في كافة المصالح والمؤسسات الحكومية ويضيف لامبسون أن رئيس الوزراء المصري قد تفهم جيدا طبيعة العلاقات المصرية الايطالية وأنه مقدر تماما للإخطار القائمة وأستطيع أن أكرر أن رئيس الوزراء الجديد صديق قديم وحتما سيكون تعاوننا صادقا ومريحا .
ولعل الملك فاروق قد وضع اختياره على محمد محمود باشا بسبب علاقته الوطيدة مع الانجليز ويبدو أن الملك فاروق كان على ثقة من أن بريطانيا لن تعترض حتى لا تقع في حرج نظرا للعلاقات الوطيدة التي تربط رئيس الوزراء الجديد بالسفارة البريطانية وقد بدأت الوزارة الجديدة في تنفيذ خطة القصر باستصدار المرسوم الملكي بحل البرلمان لوفدي ( 3 يناير 1938) وقد هاج النواب الوفديون وأصروا على الاعتصام داخل البرلمان احتجاجا على تلك السياسة إلا أن الشرطة قد تمكنت من إخراجهم بالقوة .
وخلال الشهر الأول من عمر الوزارة أجريت أكبر حركة تنقلات داخل الجهاز الإداري للدولة وتمت عمليات فصل واسعة النطاق للعناصر الوفدية حتى لقد شهد السفير البريطاني باه بات واضحا أن الانتخابات " ستزيف " بواسطة الحكومة وبموافقة القصر الملكي .
ومضت الوزارة في إدخال العديد من التعديلات في الدوائر الانتخابية تم معظمها تلبية لرغبات مرشحي تلك الدوائر ووجدت الفرصة مواتية في التعداد الجديد للسكان حيث زادت عدد الدوائر الانتخابية لمجلس النواب 23 دائرة جديدة فصار عدد الدوائر 264 بدلا من 232 وتدخلت الحكومة في هذه الانتخابات تدخلا إداريا لصالح كثير من مرشحيها وأنصارها فلم تكن في جملتها انتخابات حرة أو سليمة وهذا يعد مخالفة صريحة للدستور وتزييفا لإرادة الأمة وتواطؤ مشبوها مع القص .
وكان الخارجون على الوفد يتزعمهم الدكتور أحمد ماهر والنقراشي قد كونوا " الهيئة السعدية" ولم يعتبروا أنفسهم خارجين على الوفد بل اعتقدوا أن عامة الوفدية بقيادة النحاس باشا هي التي خرجت عليهم – وعلى المبادئ الأصلية للوفد ووجد هؤلاء أنفسهم في معسكر القصر الذي يعتبر الخصم الأول للوفد وتقدموا إلى الانتخابات مع حزب الأحرار الدستوريين على أمل الفوز بمقاعد تتناسب وما أثير من أن الوفد الحقيقي هو ما يتزعمه الدكتور أحمد ماهر .
وحصلت الهيئة السعدية على ثمانية مقاعد في مجلس النواب وفضل الدكتور ماهر أن يبقي بهيئته بعيدا عن الحكم يرقب ما تأتي به الوزارة الجديدة إلا أن هذا الموقف كان موضع ريبة من الوزارة الجديدة فما زالت المساعي تبذل لتعاون الحزبين في الحكم حتي أثمرت هذه المساعي وأشترك السعديون في الوزارة في يونيه 1938 بعد أن تمكنت الحكومة بالتعاون مع القصر من إقصاء الوفد عن الحكم عن طريق تزييف الانتخابات إلى حد أن زعيمي الوفد مصطفى النحاس ومكرم عبيد – قد سقطا في دائرتيهما وعلى ضوء ما ترتب على ذلك من صراع أخذ يدب بين القصر يمثله علي ماهر ( رئيس الديوان ) وبين محمد محمود ( رئيس الوزراء ) على اعتبار أن كلا منهما يريد أن يستأثر لنفسه بقدر كبير من السلطة .
وتشير العديد من المصادر إلى أن علي ماهر باشا لم يترك الوزارة تمضي في طريقها بل عمل على وضع العديد من العقبات كوسيلة للخلاص منها حتى يقفز هو إلى موقع رئيس الحكومة .
وبقدر ما بذل علي ماهر من جهد للعمل على إضعاف الحكومة والنيل منها كان محمد محمود باشا يتردد على دار السفير البريطاني مابيا وبسخاء كل ما يري أنه ينم عن رغبة انجليزية ووفقا لمراعاة مصالح الحليفة فلقد اتخذت الحكومة المصرية قرارا بمنع الرعايا الأجانب من حمل السلاح والذي كان مقصودا به بالدرجة الأولي الإيطاليين المقيمين في مصر ومن المؤكد أن السلطات البريطانية كانت ترقب وبحذر شديد التطورات السياسية في مصر حيث كانت الأوضاع الدولية تنذر بقدوم حرب ضد ألمانيا ففي 12 مارس 1938 أقدمت ألمانيا على ضم النمسا ثم تحولت إلى إقليم السوديت الذي تفاقمت فيه الحركة النازية وقد نصحت انجلترا وفرنسا وتشيكو سلوفيا بعد لقاء ميونيخ الأول بين تشمبرلن وهتلر بالخلص من الأقاليم التي يقطنها الألمان بنسبة تزيد عن 50 في المائة وتطورت الأمور تطورا خطيرا بعد لقاء ميونيخ الثاني 29 سبتمبر 1938 وبقدر تفاقم الحالة الدولية فقد تضاعف قلق بريطانيا وزاد من رغبتها في فرض سيطرتها على مصر بحجة أن ما يحدث يرتبط بأمن بريطانيا ذاتها ومن هنا نظرت بريطانيا إلى موقف القصر بشئ من الريبة والشك ومما ضاعف من هذا الاعتقاد العلاقة الوطيدة بين القصر والجالية الايطالية التي كانت تعد أكبر جالية بعد الجالية اليونانية وكانوا منتشرين في مدن القطر ولهم منشئات مالية وثقافية ضخمة منها البنك التجاري الإيطالي والبنك الإيطالي المصري والمعهد الإيطالي وغير ذلك من المشروعات التجارية الكثيرة ولذا فقد كان الإيطاليون يشكلون عنصرا خطيرا على الانجليز في مصر ولذا فقد كان أهم ما يقلق الانجليز هو امتداد النفوذ الايطالي الفاشي إلى القصر الملكي حيث أثار الانجليز صلة بعض موظفي السراي بالطليان وأن الوزير الايطالي في مصر يحسن استقبالهم عند زيارتهم له واعتقدت الحكومة البريطانية أن من حقها وضع حد لهذا الميول وضرورة إقصاء موظفي السراي الذين لا ترضي عن وجودهم .
ووفقا لتطور الحالة الدولية بما ينذر بقيام حرب مع ألمانيا وانطلاقا من المفهوم البريطاني السائد والذي يعني أن أمن بريطانيا فوق كل اعتبار فلقد بدأت الحكومة البريطانية تعيد فهم معاهدة 1936 بما يتفق ومصالحها بالدرجة الأولي .
ولعل من بين المسائل التي كانت تثير السفير البريطاني أن يري الكونت ما تزوليني ( السفير الإيطالي ) في مدن مصر الكبرى وهو يستعرض بقميصه الأسود الشباب الفاشي ويردد شعارات الدعاية للإمبراطورية الرومانية .
ولقد خشي الانجليز مغبة توثق الصلة بين البنداري باشا ( وكيل الديوان الملكي ) وبين فيروتشي كبير المهندسين بالسراي والذي كان يعد من وجهة النظر البريطانية كادرا هاما من كوادر قلم المخابرات الايطالية بل لقد أذاع الانجليز أن فيروتشي يطلع على أوراق الدولة ووثائقها من خلال مكتب البنداري بالقصر الملكي .
وأخذت السياسة البريطانية تتحين الوقت المناسب لكي تدخل بكل ثقلها لا لوضع أسس ومبادئ تحدد العلاقة بين القصر والحكومة وإنما لوضع أسس جديدة تحدد من خلالها قواعد التدخل البريطاني , وساء في أعمال الحكومة أو في أعمال القصر واستثمر السفير البريطاني ( لامبسون ) الخلافات المستمرة سواء بين القصر والحكومة أو بين المعارضة التي أصبح يمثلها حزب الوفد وبين القصر وحكومة محمد محمود باشا من جانب آخر وقد بدأ هذا واضحا خلال ما يسمي بأزمة ( حرس الموتسيكلات ) حيث اعتاد السفير البريطاني أن يحيط به موكبه منذ كان مندوبا ساميا ( قبل توقيع المعاهدة) وكانت حكومة الوفد قد تركت هذا الأمر بصفة استثنائية بعد توقيع المعاهدة إلا أن الملك فاروق طلب إلغاء هذا التقليد وألح فيطلبه مما اضطر محمد محمود إلى مفاتحة السفير وطلب منه رفع هذا الحرس .
وعلى ما يبدو فإن السفير البريطاني لم يشأ أن يجعل من موضوع لحرس أساسا للخلافات مع القصر وإنما أراد أن يتحين الوقت المناسب حتى يرد الصاع صاعين للملك ووجد لامبسون أن الفرصة مناسبة حين طلب من محمد محمود أن يبعد كبير مهندسي القصر ( فيروتشي ) الايطالي إلا أن الملك طلب مهلة قصيرة وبعدها سيتخلص منه نهائيا .
ولعلها كانت مناورة من القصر حتى لا يصطدم اصطداما مباشرا مع السفير في الوقت الذي كان الوفد يشن أكبر حملاته ضد الانجليز والقصر معا مؤكد على أن معاهدة 1936 قد سقطت في الاختبار الأول .
وكما أوضحنا فقد كان الصراع بين القصر والحكومة من الأسباب الهامة التي أتاحت الفرصة لتدخل السفير البريطاني حتى لو كانت هذه الخلافات من أخص القضايا الداخلية وتصور برقية لامبسون التالية كيف يمثل الخلل القائم بين القصر والحكومة فرصة مناسبة لمزيد من التدخل البريطاني :" أن العلاقة بين القصر والحكومة تتأزم يوما بعد يوم مما دفعني إلى إجراء محادثات مع كل من علي ماهر رئيس الديوان وحسين سري وزير الحربية وعبد الفتاح يحي وزير الخارجية ولقد خرجت من محادثاتي بأن علي ماهر وراء كل هذه المؤامرات في محاولة للقضاء على هذه الحكومة .
وفي الوقت الذي كانت فيه الجالية الايطالية تحظي باهتمام خاص لدي فاروق كان علي ماهر يبذل جهدا كبيرا لدي بريطانيا أثناء تواجده في لندن لحضور مؤتمر المائدة المستديرة في محاولة ليبعد عن نفسه تهمة التعاطف مع ايطاليا تمهيدا لتوليه رئاسة الحكومة .
وعلى الرغم من التعاطف الواضح بين القصر والجالية الايطالية في مصر إلا أن هذا التعاطف لم يرق إلى درجة التعاون المطلق في هذه الفترة بالذات ( 1938 – 1939) وإنما كان فاروق يتعامل مع الطليان من منطلق كراهيته للسفير البريطاني والذي كان يتعامل مع فاروق باعتباره شابا متهورا وليس باعتباره ملكا على مصر .
ولقد استطاع علي ماهر بدهائه وذكائه أن يقنع الخارجية البريطانية بأهمية التغيير في مصر بحجة أن الشعب المصري قد مل هذا الطراز من الحكام وأن الملك قد اعتزم أن يسقط الوزارة القائمة وأن يعهد إليه بتأليف الوزارة الجديدة .
وعلى ما يبدو فإن اختيار فاروق لعلي ماهر لكي يمثل مصر في مؤتمر المائدة المستديرة كان قائما على أساس أجراء حوار مع الخارجية البريطانية تمهيدا لإقالة الحكومة ومما يضاعف من هذا الاعتقاد أن علي ماهر لم يكن وزيرا للخارجية ولا رئيسا للديوان الملكي ومن هنا فإن تمثيله لمصر في هذا المؤتمر يعد مخالفة صريحة للدستور والقانون حيث كان من الأولي أن يمثل مصر رئيس الوزراء أو وزير الخارجية أو أى عضو في الحكومة على اعتبار أن أي اتفاق قد يحدث في المؤتمر ستترتب عليه التزامت سياسية هي من صميم عمل الحكومة .
ولقد روي محمد محمود أنه لما اجتمع علي ماهر باللورد هاليفاكس أرسلت الخارجية البريطانية محضر الحديث إلى لامبسون في القاهرة ومن بين الحديث تلميح من علي ماهر بأنه سيترأس الحكومة وأضاف محمد محمود باشا : أن السير لامبسون قد أطلعه على هذا المحضر .
ولعل السفير البريطاني كان يهدف من راء اطلاع محمد محمود على محضر الاجتماع السابق إلى عدم مسئولية بريطانيا عن إقالته التي تمت بإيعاز من القصر وعن طريق علي ماهر .
وفي حديث لعلي ماهر أشار إلى أن إقالة وزارة محمد محمود تمت بمعاونته ولقد بذل جهدا كبيرا لإقناع كبار الساسة بالاشتراك فيها وتمكنت الوزارة عن طريق كبار السياسيين والذين بلغ عددهم ستة عشر وزيرا من توجيه الإدارة نحو إجراء انتخابات برلمانية أسفرت عن حرمان الوفد من أية أغلبية .
ومن ثم سعي علي ماهر لكي يثبت لمحمد أن وزارته ليست سوي شكلا دستوريا زائفا لحكم القصر الحقيقي على الرغم من أن الحكومة كانت تعاني من العديد من المشاكل سواء بسبب عدم الوئام بين أعضاء الحكومة أو بسبب الحملات المكثفة والتي كان يشنها الوفد متهما الحكومة بأنها لا تمثل إلا نفسها إلا أن عدم رضاء علي ماهر هو صاحب المشورة والرأي النافذ في أمر الوزارة .
وحملت العديد من الصحف الموالية للقصر حملة عنيفة على الوزارة وشجع علي ماهر جماعة مصر الفتاة على الهجوم العنيف على الوزارة ووصفها بأنها حكومة تتصف بالخمول وعدم النشاط .
وأدرك محمد محمود حجم المؤامرة التي يدبرها علي ماهر بهدف إسقاط وزارته ولعله أراد أن يفوت الفرصة على القصر عن طريق أشراك السعديين في الوزارة حتى يدعم وزارته بعناصر لها ثقلها السياسي والوطني وتمكن علي ماهر من إقناع قطبي السعديين – أحمد ماهر والنقراشي – بالاشتراك في الوزارة وتم تشكيل الوزارة الجديدة في 24 يونيه 1938م .
ولقد رحب علي ماهر بهذا التعديل الوزاري الجديد على أساس أنه جزء جديد من مخططه وهو عدم تولي الحكم إلا بعد الفراغ من كل المرشحين لتولي الحكم وإعلان إفلاسهم وعجزهم عن ملأ الفراغ السياسي الذي تركه الوفد وأخذ علي ماهر يلاحق الوزارة الجديدة ويظهر عيوبها وفلها في تحقيق النمو الاقتصادي والسياسي معلنا بأن البلاد في حاجة إلى وثبة قوية وسريعة وأن هذه الوزارة عاجزة عن تحقيق ذلك وقد وجد من جماعة مصر الفتاة ما شجعه على المضي في خطته وتبنت صحيفة مصر الفتاة الدعوة إلى مقاطعة الحكومة والعمل على إسقاطها .
وأخذت الإشاعات تنتشر مع مرض رئيس الوزراء مرة بالقول بأنه في طريقه إلى الاستقالة ومرة أخري بأنه في طريقه إلا الإجازة بل أن بعض الإشاعات حددت علي ماهر باعتباره الخليفة المنتظر .
وقد ظل الصراع بين محمد محمود وبين علي ماهر بين مد وجزر في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء يصارع المرض حتى اضطر إلى تقديم استقالته ( 12 / 8/ 1939)
وقد اختلفت الآراء حول استقالة محمد محمود فالبعض يؤكد أن الاستقالة تمت برغبة ملكية حملها سعيد ذو الفقار إلى رئيس الوزراء والبعض الآخر يؤكد أن الاستقالة تمت برغبة محمد محمود الذي عزم على تقديمها بعد أن علم علي ماهر يتصل ببعض الزعماء ويطلب منهم الاشتراك معه في تشكيل الحكومة الجديدة .
أما محمد محمود نفسه فيؤكد في حديثه للسير لامبسون أن حالته الصحية كانت السبب في استقالته حيث لم يتمكن من الجلوس في آخر جلسة لمجلس الوزراء أكثر من بع ساعة وذلك مما يضاعف من حرجه أمام أعضاء الحكومة .
وبغض النظر عن أن الملك هو الذي طلب من رئيس الحكومة أن يقدم استقالته أو أن رئيس الحكومة نفسه هو الذي بادر بتقديم استقالته فمن المؤكد أن الاستقالة قد وجدت قبولا لدي الملك فاروق .
والسؤال الذي يستحق أن يجاب عليه : هل كانت بريطانيا تعلم بأن في نية إسناد رئاسة الحكومة إلى علي ماهر ؟
أن كل الدلائل تشير إلى هذا سواء منذ زيارة علي ماهر إلى لندن حضور مؤتمر المائدة المستديرة أو مراسلات السفير البريطاني إلى حكومته حيث يفهم من احدي برقيات السفير معرفة لندن بكل التفاصيل ووفق بعض البرقيات التي بعث بها السفير البريطاني إلى حكومته ما يؤكد هذا المعني حيث يقول :" لقد أسندت رئاسة الحكومة إلى علي ماهر كما كان يتوقع الجميع ولكن المهمة لم تكن سهلة فقد توقفت الإدارة الحكومية مدة أسبوع بينما تجاهل رئيس الوزراء الجديد حزب الوفد تجاهلا تاما وسمح للسعديين والأحرار الدستوريين بالتصارع على مراكز الوزارة وهم يدركون تماما أنهم إذا لم يقبلوا شرطه فقد يستغني عن تأييدهم .
وهذا ما ضاعف من اعتقادنا من أن إسناد الوزارة إلى علي ماهر كان متوقعا وأن الدوائر البريطانية كانت على بينة من أمر هذا التغيير .
ويلاحظ أن علي ماهر قد شكل وزارته من أصدقائه المقربين ومن الشخصيات المستقلة ولم يراع في اختيارهم أن لهم أنصارا في البرلمان أو أحزابا تناصرهم وجعل كل غايته أن تتشكل الحكومة من الذين يتفقون معه في الرأي والاتجاه وممن يؤمنون بعبقريته وكتابته وهذا ما يؤكد عدم إيمان علي ماهر بالحياة النيابية السليمة حيث كان يعتقد أن القصر هو المصدر الفعلي لكل السلطات وأن أى حاكم مصري يفتقد تدعيم القصر له فقد حكم على حكومته بالمضي في طريق وعر لا نهاية له .
وعلى الرغم من أن المجئ بعلي ماهر رئيسا للحكومة كان رهنا بموافقة السلطات البريطانية إلا أنه منذ اللحظة الأولي التي باشر فيها سلطاته كرئيس للحكومة عمل على ممارسة سلطاته بعيدا عن النفوذ البريطاني ولعل عدم أخذ رأي السلطات البريطانية في اختيار أعضاء الحكومة ما يؤيد هذا الاعتقاد مما سبب ضيقا شديدا لدي الدوائر البريطانية وعلى حد تعبير الوثائق الأمريكية :" على الرغم من محاولات رئيس الوزراء الاستقلال عن بريطانيا العظمي فلن يمضي وقت طويل حتى تعمق العلاقات وتجاب رغبات بريطانيا في أكثر المسائل أهمية وفي سبتمبر سنة 1939 أعلنت الحرب العالمية الثانية وأخذ الخوف يتملك المصريين سنة 1939 أعلنت الحرب العالمية الثانية وأخذ الخوف يتملك المصريين لما يدركونه من عجز الجيش عن الدفاع عن البلاد وكذا عدم كفاية القوات البريطانية في مصر للقيام بهذه المهمة لذلك نلاحظ أن إلحاح المسئولين المصريين أخذ يزداد طلبا لزيادة القوات البريطانية في مصر – أى على العكس تماما مما قد يتبادر إلى الذهن- ولعل هذا التغيير في نظر المسئولين المصريين إلى القوات البريطانية في مصر يعد أبرز ما حمله التهديد الغاشي بقيام الحرب العالمية الثانية وبدت العيون البريطانية في مصر ساهرة ترقب تطور الأحداث وتسجل كل نبضة من نبضات الشارع المصري في حذر واهتمام شديدين .
وأدركت السياسة البريطانية أهمية حاجة مصر إلى الدفاع عن نفسها ولذا فقد بادرت الحكومة البريطانية بالإعلان عن إمداد مصر بالقوات البرية والبحرية والجوية اللازمة لضمان سلامة البلاد وتشير الوثائق الأمريكية أيضا إلى أن رئيس الوزراء المصري قد اضطر أمام تلك التطورات الخطيرة إلى أن يقطع على نفسه عهدا بأن مصر سوف تقوم بكل دقة بالوفاء بالتزاماتها تجاه الحليفة .
وهكذا بدت معاهدة 1936 محك اختبار عملي أمام السلطات البريطانية وأدركت السلطات المصرية حجم المسئولية الكبيرة التي فرضتها معاهدة 1936 واجتمع البرلمان المصري في جلسة سرية – 12 يونيه 1939م – حيث أفضي رئيس لحكومة ببيان عن سياسة حكومته وخلاصته تجنيب مصر ويلات الحرب مع التزامها بما ورد في نصوص معاهدة 1936 وكان دخول ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا من أهم العوامل التي أقنعت السلطات البريطانية بأن وزارة علي ماهر ليست هي الوزارة المطلوبة وقد يكون هذا راجعا إلى العلاقات الوطيدة التي تربط القصر بالجالية الايطالية وبالتالي فإن ولاء علي ماهر للقصر ليس موضع شك ولذا نسبت السلطات البريطانية إلى القصر وإلى علي ماهر ما يؤكد بأن لهما ميولا محورية نحو ايطاليا .
وفي محاولة من علي ماهر لتبديد مخاطر تلك الاتهامات فقد بعث بعدة رسائل إلى حسن نشأت السفير المصري في لندن لإبلاغها إلى الحكومة البريطانية يبرز فيها موقفه مؤكدا على أن السفير البريطاني في القاهرة لا يراعي المصالح المصرية وأنه يتخذ منه موقفا شخصيا يتعارض تمام مع العلاقات الوطيدة التي تربط مصر بالحليفة .
إلا أن محاولة علي ماهر واتصاله بالحكومة البريطانية لم تثمر الثمرة المرجوة ولم تلبث الحكومة المصرية قد خالفت المادة الخامسة من معاهدة 1936 وأن بقاء فاروق ملكا على مصر مرهون بتنفيذ كل المطالب البريطانية التي تتفق مع روح المعاهدة . وأدرك الملك فاروق ومن ورائه الحكومة المصرية ثقل التبعة التي ألقتها معاهدة 1936على كاهل الشعب المصري ومن هنا فقد دخلت العلاقات المصرية البريطانية دورا جديدا وخطيرا يتنافي تماما مع بنود المعاهدة وهذا مما يضاعف من اعتقادنا بأن معاهدة 1936 لم تكن إلا لعبة سياسية قصد من ورائها ما هو أبعد خطرا من نصوص المعاهدة ذاتها .
الفصل الأول : جذور حادث 4 فبراير 1942
سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب
لقد شبت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر سنة 1939 على أثر اجتياح الجيش الألماني حدود بولندا في أول سبتمبر من تلك السنة وفي 3 سبتمبر أعلنت انجلترا وفرنسا الحرب على ألمانيا بعد أن رفضت سحب قواتها من الأراضي البولندية وفي مساء أول سبتمبر الذي شهد الهجوم النازي على بولندا قابل السفير البريطاني ( سير لامبسون ) رئيس الوزراء المصري ( علي ماهر باشا ) وطلب إليه اتخاذ الخطوات لتطبيق المادة السابعة من معاهدة 1936 .
وفي الحال قطعت مصر علاقتها الدبلوماسية مع ألمانيا واتخذت كل الإجراءات التي نصت عليها معاهدة التحالف حيث أعلنت حالة الطوارئ وفرضت الرقابة على جميع دور النشر وأيضا فرضت مجموعة من القيود العسكرية والاقتصادية وتم تعيين علي ماهر حاكما عسكريا وقسمت البلاد إلى أربع مناطق عسكرية ووضعت جميع المواني والمطارات تحت تصرف بريطانيا وتم القبض على الرعايا الألمان كما تم الاستيلاء على أملاكهم .
ومن أجل أحكام السيطرة على كل المرافق المصري فقد أغلقت قناة السويس في وجه السفن المعادية ولم يلبث المرور أن أصبح قاصرا فيها على سفن الحلفاء مما ترتب عليه أن السفن المحايدة لم يسمح لها أحيانا بالمرور .
وعلى الرغم من كل تلك الإجراءات فإن السفير البريطاني طالب مصر بضرورة إعلان الحرب ضد ألمانيا على اعتبار أن فكرة الموقف الوسط بين الحرب والحياد ليست إلا فكرة وهمية وأن موقف الحياد يخلق صعوبات في مواجهة أعمال التخريب والجاسوسية ثم أشار إلى أهمية مصر ودورها الرائد في العالم العربي ولابد من إعلانها الحرب حتى تكون قدوة لغيرها من الدول العربية وخصوصا العراق .
ووجدت الحكومة المصرية نفسها في موقف شديد الخطورة وهل تعلن قيام حالة الحرب بين مصر وألمانيا وفقا لرغبة بريطانيا أن تتمسك بالحيادة ؟ لقد أثار هذا الموقف العديد من المخاوف التي قدرتها الحكومة المصرية على اعتبار أن ألمانيا لا تقهر وأن تنفيذ رغبة بريطانيا بإعلان الحرب خطير النتائج وخصوصا إذا ما اشتركت ايطاليا في الحرب بجانب ألمانيا لهذا الاعتبار ولعدة اعتبارات أخري ظل علي ماهر متمسكا بموقفه محاولا قدر طاقته أن يقنع السفير البريطاني بأن مصر ليست ضد مبدأ دخول الحرب وإنما توقيت إعلان الحرب هو مصدر الخلاف في مجلس الوزراء مسايرة للرأي العام إلى أن يعود الرعايا المصريون الذين كانوا في ألمانيا وقت قيام الحرب وإلى أن يتم التجاء السفن التجارية المصرية التي كانت في عرض البحر إلى مراسي آمنة وكذلك أشار رئيس الوزراء إلى ضرورة نقل لواء من قوات فلسطين إلى مصر كما طالب بتزويد الجيش المصري بالمدافع الحديثة وتسليح الجيش المرابط بالبنادق.
وعلى الرغم مما أبداه علي ماهر من استعداد لإجابة كل طلبات بريطانيا ما عدا فكرة دخول الحرب والتي طلب مزيدا من التريث في شأنها إلا أن الحكومة البريطانية تكونت لديها قناعة بأن علي ماهر ذو ميول محورية وأنه متآمر مراوغ لا يمكن الوثوق به ولعل السفير البريطاني قد بني اعتقاده هذا على ضوء العلاقة الوطيدة التي تربط علي ماهر بالسفير الايطالي في القاهرة مما دفع لامبسون إلى الاعتقاد بوجود تفاهم أو اتفاق سري بين مصر وايطاليا .
ووفقا لبنود معاهدة 1936 فلم يكن هناك ما يلزم مصر بدخول الحرب إلى جانب بريطانيا التي اعتبرت أن إعلان الحرب من جانب مصر يتطابق تماما وروح المعاهدة وعلى الرغم من تمسك الحكومة المصرية بمبدأ عدم إعلان الحرب – إلا أن موارد مصر وموانيها مطاراتها وكل مرافق الحياة فيها قد وضعت تحت تصرف انجلترا دون أن تكون رسميا في حالة حرب ضد ألمانيا وهكذا ظل وضع مصر الدولي شاذا إذ أن الفرق العملي الوحيد بين وضع مصر وحالة الحرب هو أن القوات المسلحة المصرية لم تكن ملزمة بالاشتراك في الحرب ولم تعط لها الأوامر بضرب الأهداف الألمانية .
ووجد علي ماهر نفسه في حالة مواجهة مباشرة مع السفير البريطاني الذي أخذ يلاحق علي ماهر في كل مكان وحاول الأخير – قتلا للوقت أن يطرح أفكارا جديدة إلا أن السفير كان يتعجل القرار ويضغط على رئيس الوزراء المصري بضرورة استصدار قرار الحرب وأمام هذا الضغط المتواصل لمتزايد وافق مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بالإسكندرية مساء 7 سبتمبر 1939 على إعلان حالة الحرب ضد ألمانيا وإنما علق على موافقته على خطاب يبعث به السفير البريطاني إلى ماهر باشا يقول فيه : أن إجراءات إعلان الأحكام العرفية في مصر وقطع العلاقات مع ألمانيا لم تعد كافية لمواجهة التدابير اللازمة للمحافظة على أمن البلاد وسلامة القوات البريطانية وأن المطلوب هو إعلان قيام حالة الحرب .
وأدرك السفير البريطاني أبعاد الدبلوماسية التي يمارسها علي ماهر فهو يريد أن يقول : " أن مصر قد غلبت على أمرها لإعلان الحرب وعلى الرغم من ذلك فقد وافقت الحكومة البريطانية على توجيه الخطاب المشار إليه . إلا أن علي ماهر قدر حجم المخاطر التي ستحلق بمصر من جراء هذا الاتجاه ولشد ما كانت المفاجأة حيث تلقي علي ماهر برقية من سفير مصر في لندن ( 7 سبتمبر ) بأنه قابل مستر بتلر ( وكيل وزارة الخارجية البريطانية ) وأوضح له المزايا التي سوف تترتب على موقف مصر الحيادي غذ أن ذلك من شأنه أن يسهل ورود السلاح والعتاد من أمريكا إلى الحلفاء عن طريق مصر , وقد عبر حسن نشأت عن ذلك بقوله : أن مستر بتلر أبدي ارتياحه لتلك الفكرة ووصفها بأنها خطة ذكية وماهرة ووعد بعرضها على لورد " هاليفاكس" وزير الخارجية .
وقد شعر السفير البريطاني بالمرارة لفشله أمام حكومته في تنفيذ ما سبق أن وعد به علي ماهر كتابة ومشافهة " دخول الحرب "
ومن الواضح أن برقية حسن نشأت ( سفير مصر في لندن ) إلى علي ماهر قد أخرجته من الموقف الذي كاد أن ينزلق إليه حيث أخذ يتذرع بأن مصلحة بريطانيا في عدم إعلان مصر الحرب وأن أعضاء مجلس الوزراء المصري قد غيروا موقفهم على ضوء رسالة حسن نشأت وأن الملك فاروق قد اقتنع بفكرة التريث حتى تتبين الحقيقة .
ولعل برقية حسن نشأت قد أعطت الفرصة للملك فاروق وعلي ماهر لكي يعيدا مناقشة الأمر بشئ من الهدوء والتروي ولا شك أن الملك فاروق كان يميل إلى عدم دخول مصر الحرب ولذا فقد طلب من عبد الحميد بدوي باشا – رئيس لجنة قضايا الحكومة – إعداد مذكرة قانونية عن موقف مصر من الصراع الدائر وفقا لمعاهدة 1936 وجاءت مذكرة – رئيس لجنة قضايا الحكومة – لتتفق تماما مع الرأي القائل بأن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب .
والسؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه في هذا لمجال : هل كان علي ماهر هو صاحب فكرة أبعاد مصر عن ميدان الحرب وهي السياسة التي عرفت " بتجنيب مصر ويلات الحرب " ؟
ومن الملاحظ أن غالبية الذين سجلوا هذه الأحداث قد تغافلوا عن دور الملك فاروق في هذا الصدد مع العلم بان علي ماهر لم يكن يستطيع أن يصمد أمام ملاحقة السفير البريطاني له لولا أن الملك فاروق كان يناصر هذه الفكرة ويدعمها من خلال تأكيداته المتسمرة لرئيس وزرائه علي ماهر ويؤكد أحد المؤرخين أن الملك فاروق قد أخبر " فيش " المفوض العام للولايات المتحدة الأمريكية في القاهرة بأن علي ماهر كان قد وعد انجلترا في مناسبات ثلاثة بإعلان الحرب على ألمانيا ولكنه " فاروق " منعه من القيام بذلك .
وتشير بعض المصادر قريبة الصلة من القصر الملكي إلى أن الملك فاروق كان صاحب فكرة تجنيب مصر ويلات الحرب إلا أن دور الملك لم يكن واضحا نظرا لأن الاتصالات كانت تتم بين رئيس الوزراء المصري والسفير البريطاني في القاهرة ومما يؤكد وجهة النظر السابقة أنه في اليوم التالي لإعلان الحرب دعا علي ماهر مجلس الوزراء للاجتماع وقال لزملائه الوزراء أنه دعاهم لاتفاق حول صيغة قرار إعلان الحرب ضد ألمانيا ؟... إلا أن عبد الرحمن عزام " وزير الأوقاف " اعترض على هذا القرار وأخذ يفند الرأي القائل بان معاهدة 1936 تلزم مصر إعلان الحرب وبعد مناقشة طويلة طلب عبد الرحمن عزام من علي ماهر أن يترك له هذه المسألة ليسويها مع السفير البريطاني ووافق علي ماهر وذهب عبد الرحمن عزام وقابل مايلز لامبسون وناقشه طويلا في نصوص المعاهدة واستطاع أن يقنعه بأن مصلحة بريطانيا نفسها عدم إعلان مصر الحرب على ألمانيا وهكذا سويت المسألة .
وعلى الرغم من التناقض الذي بدا واضحا في موقف علي ماهر بخصوص تلك القضية الهامة إلا أنني أعتقد أن علي ماهر لم يكن ينوي الزج بمصر في الحرب ولم يكن صادقا في وعوده التي قطعها للسفير لبريطاني ولعل مرد ذلك إلى أن علي ماهر كان صاحب فكرة التعاون مع ألمانيا وكان الملك فاروق وراء هذا الاتجاه .
وكان علي ماهر يحرص على عدم إظهار مشاعره الحقيقية وهي كراهية الانجليز مفضلا الألمان الذين يحققون انتصارات أسطورية على بريطانيا العدو الأول لمصر.
وأمام الانتصارات الكبيرة التي حققتها القوات الألمانية في بداية الحرب فإن الحكومة البريطانية طلبت من سفيرها في القاهرة أن يوقف الضغط على الحكومة المصرية حتى لا تحدث أثرا عكسيا ..
لقد أعتقد الدوائر السياسية البريطانية بأن المشكلة الحقيقية لم تعد وفاء مصر بالتزاماتها قبل بريطانيا بقدر ما تمكن في الثقة التي تبددت منذ اللحظة الأولي لقيام الحرب الكبرى وأن ولاء علي ماهر لبريطانيا لم يعد مثل رصيدا ايجابيا في العلاقات المصرية البريطانية وعلى ضوء ل هذه الاعتبارات كان على الحكومة البريطانية أن تعيد حساباتها من جديد وفقا لمصالحها في المرتبة الأولي .
وأعتقد أننا لسنا بصدد إصدار حكم على مشاعر علي ماهر الشخصية وإنما يكفينا أن نشرح الأسباب الكامنة وراء السياسة التي اعتقد علي ماهر أن عليه أن يتبناها لصالح مصر :
أولا : لم يكن لدي رئيس الوزراء المصري أى سبب يغريه بالانضمام إلى صف الحلفاء حيث تهاوت فرنسا واضطرت إلى عقد اتفاقية هدنة بعد اجتياح اكثر من نصف أراضيها وبعد انهيار الجيوش الفرنسية التي كانت تحتفظ بمكانة قوية منذ الحرب العالمية الأولى وظهرت ألمانيا بمظهر الدولة التي يستحيل أن تقهر .
ثانيا : لقد استطاعت الدبلوماسية الايطالية أن تقنع علي ماهر بأن يظل بعيدا عن الصراع ولم يكن الكونت ما تسوليني سفير ايطاليا في القاهرة يكف عن التصريح حتى يوليو سنة 1940 بأن بلاده لا تضمر أية نوايا عدوانية تجاه مصر وتمكنت الدبلوماسية الايطالية أن تكسب غلى جانبها ليس علي ماهر فقط وإنما الملك فاروق أيضا في الوقت الذي أعلنت فيه ايطاليا رسميا أنها تنوي أن تجر إلى صراع البلدان المجاورة مثل اليونان وتركيا ومصر .
ثالثا : لم يكن علي ماهر يستند إلى قاعدة حزبية أو جماهيرية وإنما كان دعامته الأولي هو الملك فاروق في الوقت الذي رمي فيه الملك بكل ثقله في جانب المحور اعتقدا بأن الاعتماد على الحلفاء هو من باب الرهان على جواد خاسر .
رابعا : لقد كانت الغالبية العظمي من الشعب المصري تميل إلى سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب لقد أدركت الحكومة البريطانية صدق هذه الحقيقة ولم تشأ أن تصدم مشاعر المصريين بفرض الحرب على شعب لا يميل إليها .
ولقد أدركت الحكومة البريطانية وفقا لمصادرها في القاهرة أن الملك فاروق وراء كل هذه المشاعر المعادية البريطانية ولعل الملك فاروق في محاولة منه لتقليل من هيبة بريطانيا كان لا يتذرع عن إظهار كراهيته لبريطانيا واعتزازه بألمانيا وقوتها حتى في أحاديثه مع سيفر الولايات المتحدة في القاهرة فقد عبر عن أمله في هزيمة بريطانيا واتهم الدول التي تقف إلى جانبها بأنها تفتقد الحنكة السياسية لأن الحرب أوشكت على النهاية .
وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية قد اقتنعت بأهمية عدم إعلان مصر دخول الحرب إلا أن لامبسون في محاولة منه لكشف جذور الاتجاه الموالي للمحور عاد يقترح من جديد إقالة علي ماهر إذا لم يعلن الحرب ضد ألمانيا .
ومن الواضح أن مطلب السفير هذه المرة يعد نوعا من المناورة حتى يتأكد من ميول علي ماهر يضاف إلى ذلك الخوف من إحراز ألمانيا بعض الانتصارات في المستقبل مما قد يؤدي إلى تردد مصر في الموافقة على أية إجراءات قد تقدم عليها بريطانيا أى أن بريطانيا إصرارها كانت تريد أن تقطع الطريق على ذلك وتضمن استمرار مصر إلى جانبها وارتباطها نهائيا بمعسكر الخلفاء وعلى حد تعبير لامبسون أما أن نطفو معا أو نغرق معا .
وعلى ضوء العديد من البرقيات التي بعث بها لامبسون إلى حكومته والتي أكدت جميعها أن الملك فاروق شخص لا يؤمن جانبه ومن هنا فقد بدأت السياسة البريطانية تعيد حساباتها من جديد وخصوصا فيما يتعلق بموقف علي ماهر والذي يسانده القصر وحملت رسائل لامبسون إلى هاليفاكس " وزير الخارجية" قدرا كبيرا من القلق بسبب تصرفات أعوان القصر – على حد تعبير السفير – ويضيف السفير قائلا : يجب علينا أن نضع في اعتبارنا أننا لا نستطيع أن نتخلص من علي ماهر دون أن نشهر عصانا في وجه الملك فاروق لأن ما انتابه من جنون العظمة بالإضافة إلى نفوذ علي ماهر قد جعله شخصا مكابر يصعب التعامل معه وحين نعتزم اتخاذ إجراء سيكون من الضروري أن نستعمل قدرا كبيرا من العنف وإذا قاومنا بعناد فعليه أن يذهب هو أيضا ولكن يجب علينا في هذه الحالة أن نضع في اعتبارنا اتجاه الرأي العام المصري وموقف الجيش هذا الموقف لا نقدم عليه في الظروف الحاضرة إلا إذا كنا على استعداد لتنفيذه بالقوة وهو أمر يصعب تنفيذه في الوقت الحالي والخلاصة في رأيي هو أن نرخي لعلي ماهر الحبل حتى يقضي على نفسه وستأتي اللحظة المناسبة لنا حين يزداد الشعور المعادي له إلى الحد الذي يجعل تدخلنا يبدو الشعب أمرا مطلوبا .
وفي أول يونيه 1940 تمت مقابلة بين الملك والسفير البريطاني وقد أومأ السفير إلى الدعاية الايطالية المتزايدة حول حياد مصر فوعده الملك بأنه سيتعهد المسألة بمزيد من الاهتمام بل أنه أبلغ السفير أنه ( الملك) أمر بوضع أحد أعمام الملكة فريدة تحت الحراسة نظرا لتشيعه للإيطاليين ولميوله المحورية .
وعقب إعلان ايطاليا الحرب ( 10 يونيه 1940) قابل السفير علي ماهر وأبلغه تطورات الموقف العسكري والغارات الجوية على ليبيا ومصر وراح يذكره بوعوده السابقة عندما قال : أنه إذا حدث هجوم على مصر من أى نوع فإن لانجلترا أن تعتمد على أننا سنعلن الحرب ضد الحور وهنا أجاب علي ماهر : أنه تلقي في الآونة الأخيرة أسئلة كثيرة ممن يرون أن مصر وهي لا تملك على حدودها أكثر من خمسة آلاف جندي كسف لها أن تلقي بنفسها إلى التهلكة بإعلان الحرب ؟... الأمر الذي أغضب السفير واعتبره تجاهلا للقوات البريطانية في مصر وتقديرا خاطئا لعدد الجيش المصري الذي تعلق عليه حكومة لندن أهمية كبري أملا في معاونته لها .
وأخذت العلاقات المصرية البريطانية تدخل إلى مرحلة حاسمة حيث أخذ علي ماهر برفض توجيها الانجليز وخصوصا في بعض المسائل التي تتعلق بأمن بريطانيا من ذلك رفضه أن يكون الحاكم العسكري لمناطق الحدود انجلترا كما قرر سحب القوات المصرية بضعة كيلوا مترات من الحدود الغربية تفاديا من وقوع اصطدام مباشر مع جنود المحور .
لكل ما سبق ومع تتطور أحداث الحرب في غير صالح الحلفاء اعتقد الانجليز أن علي ماهر ليس هو الشخص القادر على الاحتفاظ بمصر قاعدة صلبة تدعم من جبهة الحلفاء وكان إعلان ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا هو الصخرة التي تحطم عليها كل أمل في تعاون الانجليز مع جبهة القصر على الرغم من استجابة علي ماهر لطبلات السفير حيث أمر باعتقال الايطاليين وشرع في ترحيل وزير ايطاليا المفوض وأعضاء المفوضية والقنصليات الايطالية إلا أن ما أقدم عليه علي ماهر بشان الرعايا الايطاليين لم يخل من الضجر والضيق وكأنه تنفيذ لأمر أرغم عليه وعلى حد تعبير أحد المعاصرين : أن ما أقدمت عليه حكومة علي ماهر بشأن الرعايا الايطاليين قد بدأ وكأنه إجراء بريطاني تنفذه حكومة لا تملك الخيار.
وأمام المناورات التي استخدمها علي ماهر ببراعة شديدة لم تملك حكومة لندن إلا أن تقترح وجوب اتخاذ إجراء سريع ضد علي ماهر وتري أنه من الأهمية البحث عن وزارة جديدة تكون أكثر تمثيلا للقوي السياسية المختلفة ويكون على رأسها سياسي يقف إلى جانب بريطانيا بولاء ويجب أن يكون الجيش البريطاني يقظا لمواجهة معارضة الملك فاروق وذلك بتخيره بين الموافقة أو التنازل عن العرش وقد اقترح لامبسون الأمير محمد على ليخلف فاروق فهو موال لبريطانيا ويحظي بقدر لا بأس به من الشعبية ويمكن الاعتماد عليه بدرجة أكثر من غيره .
وعندما تأكد لامبسون أن علي ماهر لن يقبل موضوع دخول مصر الحرب في الوقت الذي كانت ظروف الحرب تشكل ضغطا كبيرا على بريطانيا خصوصا بعد سقوط فرنسا ودخول الحرب بجانب ألمانيا بدأ لامبسون يتذرع بالعديد من المواقف التي تمكنه من تحقيق كل رغباته وفي مقدمتها الإطاحة بعلي ماهر وقد أعلن علي ماهر في شهادته أثناء نظر قضية مقتل أمين عثمان أن السفير البريطاني قد طلب منه أن يعتقل الوزير الايطالي في المفوضية وأن يقوم بتفتيشها كما طالبه أن يفتش أمتعة الدبلوماسيين الايطاليين وجيوبهم وقت السفر وألا يسمح لطلياني بالسفر إلا للسفير وموظفي المفوضية ويضيف علي ماهر : لقد كان ردي : إذا اعتقلتم أنتم انجلترا الكونت جراندي سفير ايطاليا أعمل المثل أنا في مصر , وأما التفتيش فاتني أرفضه . ... وقلت : وإذا أردتم فتشوا ومن ناحيتي فلن أحتج وقلت لهم أيضا: أن هذا التفتيش في الواقع لن يكون لأن الكونت جراندي موضع التكريم في بلادكم فلن أعاملهم أنا إلا بقواعد العرف الدولي والذين يسافرون معه لن احجزهم إلا إذا تبينت موقف المصريين في روما وما يتخذ بشأنهم .
وأعتقد أن هذا الموقف من على ما هو ينم عن دهاء سياسيا فهو يريد أن تقدم بريطانيا لاتخاذ ما تراه بشأن الايطاليين المقيمين في مصر حتى يبدو أمام الطليان وكأنه مغلوب على أمره ومن جانب آخر فهو يضمن سلامة الرعايا المصريين المقيمين في ايطاليا .
وأمام الضغط المتزايد على علي ماهر فقد أشار عليه الملك فاروق بنقل القضية – دخول مصر الحرب – إلى البرلان ليتخذ بشأنها ما يشاء – ويعد قرار البرلمان صدمة أخري للسفير حيث أقر البرلمان وجهة نظر الحكومة بأن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب وأنها ستكتفي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ايطاليا ولن تعلن عليها الحرب إلا إذا اعتدت عليها بإحدى الطرق الآتية :
أولا : إذا ابتدأت القوات الايطالية بغزو الأراضي المصرية.
ثانيا : إذا ضربت ايطاليا المدن المصرية بالقنابل.
ثالثا : إذا شنت غارات جوية على مواقع الجيش المصري . وفي يوم 13 يونيه 1490 بدأ السفير البريطاني يتبع سياسة جديدة تتفق مع توجيهات الخارحية البريطانية وتحقق نفس الغرض وهو ضرورة الحصول على تعاون علي ماهر وعدم التنازل عن أى شئ أكثر من نصوص المعاهدة مما جعل لامبسون يقول عنه أن علي ماهر يتبع سياسة ذات وجهين بين بريطانيا وايطاليا وأنه يعمل على تسهيل الأمور للإيطاليين وأنه يتلاعب بطريقة مقلقة فيما يختص بالجيش المصري .
وأمام تدهور الحلفاء وخصوصا بعد سقوط باريس وتولية بيتان السلطة وطلبه الهدنة أصبح تسليم بريطانيا في نظر الكثيرين مسألة وقت ولعل هذا كان من أهم العوامل التي جعلت السلطات البريطانية في مصر تعتقد بأن علي ماهر شخص لا يمكن الاعتماد عليه بل أن السلطات البريطانية بدأت تفقد أعصابها تماما وتطلب ن الخارجية البريطانية صراحة إقالة علي ماهر بل أن السلطات البريطانية اعتقدت بأن علي ماهر على علاقة بالمحور وأن هناك اتصالات لاسلكية سرية كانت ترسل إلى وكلاء المحور وسلطاته البريطانية كل الحرص على كتمانه – كما أن هذه المحطات السرية كانت تتلقي من وكلاء المحور وسلطانه الحربية التعليمات عما يجب عمله .
وبدأت السلطات البريطانية تتلقي العديد من التقارير في الفترة من يونيه 1940 وحتى أواخر عام 1941 من أقلام مخابراته في القاهرة وتركيا ولبنان وقد جاء فيها :
1- أن سمير ذو الفقار التشريفاتي السابق – واحد أصدقاء علي ماهر – قد سافر أكثر من مرة إلى تركيا بحجة التجارة في الجلود والتبغ وأنه اجتمع بسفير ألمانيا في أنقرة عدة مرات وأنه قابل أيضا بعض وكلاء الألمان في لبنان وأنه لما عاد واجتمع بعلي ماهر وبعض كبار السياسة المواليين للقصر .
2- أن شوقي الهان , وزير تركيا المفوض في مصر قد سافر أكثر من مرة إلى تركيا بحجة مراجعة حكومته في بعض الشئون بينهما هو في الحقيقة قد سافر موفدا " من سلطات مصرية عليا " للاتصال بالسلطات الألمانية في تركيا وإبلاغها أخبارا خاصة لكي تبلغها هي بدورها غلى السلطات العليا في برلين .. كانت تركيا يومئذ أى في عام 1941 على الحياد ولكنه كان حيادا مشوبا بالميل لألمانيا وتأييد المحور .
3- أن الآنسة " دولوس" الملحقة السياسية بمفوضية أسبانيا في القاهرة كانت واسطة اتصال بين فريق الكبراء المصريين الموالين للمحور وبين سفارة ألمانيا في مدريد .
وكان على بريطانيا أن تقطع الشك باليقين أن تبلغ سفيرها في القاهرة لكي يتصل بالملك فاروق ويبلغه الرسالة التالية ؟ علي ماهر يجب أن يخرج من الحكم فورا كما أننا لا نوافق على عودته إلى منصة في القصر لأن التجارب أظهرت أن جوده في ذلك المنصب يجعل فاروق أن يحمي رئيس وزرائه واستسلم للإنذار البريطاني لكن بعد العديد من المحاولات التي بذلها القصر في محاولة منه للإبقاء على علي ماهر .
واستمرارا في سياسة كسب الوقت فإن الملك فاروق قد بعث في الثامن عشر من يونيه 1940 برسالة إلى ملك انجلترا يشكو فيها أسلوب التعسف والتشدد الذي يمارسه السفير البريطاني وفي نفس الوقت أوفد الملك أحمد حسنين ليقابل السفير ويخبره بأمر تلك الرسالة ويوضح له بأن التعديل الوزاري يتوقف على إجابة ملك انجلترا على تلك الرسالة ولعل مقابلة حسنين باشا للسفير كانت معني الوساطة كي يسمح لعلي ماهر بالعودة إلى منصبه السابق كرئيس للديوان الملكي مراعاة لكرامة الملك فاروق بعد أن بات من المستحيل الاحتفاظ به رئيسا للوزارة ولكن السفير رفض ذلك رفضا باتا وأكد في الوقت نفسه أن ليس في نية حكومة لندن التصميم على مطالبة أى حكومة مصرية بإعلان الحرب ولم تكن رسالة الملك فاروق إلى ملك انجلترا لتحدث أثرا في موقف الحكومة البريطانية فهي المسئولة عن القرار الذي اتخذته وهي السلطة التنفيذية أمام البرلمان وكل مشتغل بالقوانين الدستورية يعلم أن الملك في انجلترا يملك ولا يحكم ولم يأت يوم 22 يونيه حتى كان السفير البريطاني قد تقلي موافقة حكومته على تنازل الملك فاروق عن العرش إذا تمسك برئيس وزرائه على أن لا يترك طليقا وإنما يوضع تحت الرقابة الانجليزية حتى لا يلجأ إلى ايطاليا أو ألمانيا ليطالب بعرشه ولعل بريطانيا تبريرا منها لما سوف تقدم عليه من إجراءات عنيفة فقد اتخذت المادة الخامسة من المعاهدة كذريعة على اعتبار أن تلك المادة تقضي بتعهد مصر أن لا تتخذ في علاقاته مع الدول الأجنبية موقفا يتعارض مع المعاهدة .
وأخذ الملك فاروق يفكر في من عسي سكون الرجل الذي يعهد إليه بتأليف الوزارة وكان طبيعيا أن يكون هذا الرجل موضع ثقة السفير البريطاني ومن الأفضل أن تكون وزارة وفدية أو تحظي بتأييد الوفد على الأقل حيث تكون قادرة على التعاون مع بريطانيا إلى حد أن تقبل أن " تطفو معنا أو تغرق معنا " كما قال لامبسون .
واستقر الرأي أخير على حسن صبري باشا لكي يؤلف الوزارة الجديدة ( 28 يونيه 1940) وشهدت قاعات مجلس النواب والشيوخ العديد من الأسئلة عن الظروف والملابسات التي أحاطت بإقالة الوزارة وحمل الأعضاء على بريطانيا لتدخلها في مسائل تعد من صميم السياسة المصرية وأصدر المجلس بيانا يستنكر فيه ما حدث من اعتداء على رئيس الوزراء .
والسؤال الذي يظل قائما : هل كانت هناك علاقة بين المحور وعلي ماهر دفعت بريطانيا إلى هذا الموقف ؟
من المقطوع به أن الخلاف بين انجلترا وعلي ماهر كان السبب في استقالته وهو خلاف قائم على التشكك وفقدان الثقة من الجانب البريطاني في علي ماهر اعتقاد بأنه على علاقة بالمحور وهذا واضح من خلال وثائق وزارة الخارجية البريطانية ووفقا لما ذكره الدكتور هيكل فإن بريطانيا وجهت إلى الملك فاروق تبليغا بأن حكومته لا تقف منها موقف الصديق وأنها في ريب من نواياها . ولقد أكدت السلطات البريطانية أنها اكتشفت من بين الوثائق الألمانية التي عثر عليها أن علي ماهر كان يتلقي مساعدات من المحور عن طريق بنك درسدنر , وعلى الرغم مما تشير إليه الوثائق البريطانية من أن علي ماهر يعمل لحساب الألمان إلا أن مثل هذه الاتهامات لا يمكن أن نقبلها على أنها حقيقة مجردة وخصوصا إذا ما تضاربت المصادر البريطانية في هذا الصدد فإن اللورد ويلسون القائد العسكري لمنطقة البحر المتوسط يقول تعقيبا على هذا : أنه لما يدعو إلى الدهشة أن المعلومات التي وصلت إلى المحور من مصر كانت ضئيلة القيمة ولا أعرف حالة واحدة تضمنت معلومات عن تحركاتنا أو عملياتنا العسكرية تسربت إلى العدو في الوقت المناسب الذي يتيح له استخدام تلك المعلومات لمواجهتنا وهذا يعد دليلا لا على وجود علاقة من نوع ما بين وزارة علي ماهر والمحور بالضرورة لكنه ينهض دليلا على مبالغة الحلفاء وقت الحرب ومؤشرا على أن علي ماهر لم يعد موضع ثقة الحلفاء وقد تعمق هذا الانطباع لدي السفير البريطاني نتيجة تعامله مع علي ماهر ولم تعد قضية وفاء مصر بالتزاماتها تجاه المعاهدة هي الأساس وإنما أصبحت الثقة في ولاء علي ماهر للحليفة ومدي استجابته للمطالب البريطانية بعيدا عن نصوص المعاهدة ولما كنت تلك الثقة قد أصبحت معدومة ولذا فإنني أعتقد أن علي ماهر لم يكن جاسوسا ألمانيا بقدر ما كان سياسيا مصريا حاول أن يستغل لعبة الأمم وصراعاتها في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال وكما أوضحنا من قبل فلم يكن هناك أى سبب يشجع علي ماهر لكي يلقي بكل ثقله تجاه بريطانيا التي كانت على وشك التسليم .
وتشير الكثير من المصادر الهامة عن وجود اتصالات بين فاروق والمحور حيث كشفت الوثائق الألمانية عن جوانب متعددة من تلك الاتصالات حيث يشير المؤرخ " لوكازهيرزوير " إلى تلك الاتصالات من خلال الوثائق الألمانية والتي اعتمد عليها حيث أن القائم بالأعمال المصري في بون – عسل بك – والبرنس محمد إبراهيم, والقنصل المصري العلم في استنبول (حافظ عمرو ) والسفير المصري في طهران – يوسف ذو الفقار – صهر الملك فاروق وآخرين اتصلوا بالبيئات الدبلوماسية الألمانية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر وكانت أهم تلك الاتصالات المحادثات التي أجراها ذو الفقار باشا الذي اتصل في طهران باسم الملك فاروق شخصيا وبتعليمات خاصة منه وعبر عن عطف فاروق على هتلر واحترامه له ولألمانيا وعن أطيب تمنياته بالانتصار على بريطانيا وان الملك فاروق وشعبه يودان مشاهدة قوات التحرير الألمانية في مصر في أسرع وقت ممكن وأن المصريين واثقون من أن الألمان قد أتوا كمحررين لا كطغاة جدد .
ولا شك أن تلك الميول المحورية من جانب الملك فاروق لم تكن إيمانا منه بنزعات فاشية أو نازية وإنما كانت بسبب تطور الموقف العسكري في أوربا وانهيار فرنسا مما شجع في مصر الميول التي كانت تتعاطف مع المحور شعبية كانت أم رسمية لا على اعتبار أن المحور صادق النية فيما يتعلق باحترام السيادة المصرية واستقلال دول منطقة الشرق الأوسط ولكن على اعتبار أنه لن يكون احتلال أسوأ من الاحتلال البريطاني أو الفرنسي والذي عانت منه شعوب المنطقة سنوات طويلة هذا من ناحية ومن ناحية أخري كان هذا الميل يحمل في طياته دوافع التشفي نحو حليف أكرهت مصر على محالفته ضد رغبة شعبها كما أنه كان يتضمن في الوقت نفسه معني الإعجاب بالعسكرية الألمانية التي لا تقهر من جانب بعض قطاعات الرأي العام المصري وقادته بل وحتى الملك فاروق ذاته ولعل الملك فاروق كان يهدف من وراء اتصالاته بالمحور أن يستغل هذا التناقض الدولي القائم إلا أنه لم يستطع أن يحقق أية فائدة سواء لعرشه أو لبلاده بل على العكس فقد عرش عرشه للخطر في 4 فبراير 1942 وكادت الأمور أن تتطور إلى ما هو أسوا من الاحتلال وهو أن تحكم بريطانيا مصر حكما مباشرا وبقدر ما حرص الملك فاروق على التقرب من هتلر بقدر ما حرصت المخابرات الألمانية على تبديد أية مخاوف قد تساور الملك فاروق ووفقا لهذه السياسة التي نسجت خيوطها المخابرات الألمانية فقد تلقي الملك فاروق مذكرة عن طريق السفير المصري في طهران ( 30 أبريل 1941 ) يؤكد فيها هتلر بأن الحرب ليست موجهة ضد مصر أو اى بلد عربي وإنما ضد انجلتا وحدها وجاء في المذكرة أن دولتي المحور تريدان طرد بريطانيا من أوربا والشرق الأدنى إلى غير رجعة وإقامة نظام جديد يقوم على مبدأ المصالح المشروعة لكل الشعوب وأكدت المذكرة أيضا على أن ألمانيا ليست لها أطماع إقليمية في البلدان العربية على حين أن هتلر وموسليني يرغبان في أن يتحقق استقلال مصر وكل الأقطار العربية .
وفي 29 يونيو 1941 أى بعد فشل الهجوم الانجليزي الذي شنه الجنرال " ويفل ط على الحدود المصرية الليبية أرسل فاروق برقية إلى السفير المصري في طهران ليبلغ السفير الألماني أن لدي فاروق معلومات تؤكد بأن الانجليز سيحتلون مناطق البترول الإيرانية لكي يحموها من الهجوم الألماني المحتل من ناحية روسيا .
إلا أن فاروق قد تملكه القلق والانزعاج بسبب ما وصل إلى علمه من اتصالات كانت تجربها المخابرات الألمانية مع خديوي مصر السابق عباس حلمي والذي كان صديقا قديما لألمانيا وكانت له ادعاءات في عرض مصر منذ خلعه الانجليز في أوائل الحرب العالمية الأولى وعلى الرغم من أنه قد تنازل عن عرش مصر وأصدر بيانا بهذا الخصوص ( 12 مايو 1931 ) إلا أنه قد أوضح فيما بعد أنه يطالب بالعرش لابنه ).
ويبدو أن اتصالات عباس حلمي بالألمان قد أثارت قلقل في الدوائر الملكية المصرية مما جعل الملك فاروق يكتب إلى هتلر – عن طريق السفارة البلغارية في القاهرة – يحثه على قطع العلاقات الألمانية مع عباس حلمي وبالفعل فقد توقفت تلك الاتصالات كما قررت الحكومة الايطالية أيضا قطع اتصالاتها بخديوي مصر السابق عباس حلمي إرضاء للملك فاروق .
وأعتقد أن الملك فاروق لم يكن وحده الذي يميل إلى ألمانيا وإنما كانت الأغلبية العظمي من المصريين يميلون إلى نفس الاتجاه ولعل ذلك يرجع إلى عدة اعتبارات فقد كان أول من اكتشف فيروس البلهارسيا عالم ألماني وكان هذا المرض من الأمراض المنتشرة في مصر وكان أول من اكتشف معابد أبي سنبل عالم أثار ألماني ثم كانت هناك تلك الثقة التي تتمتع بها الآلات الألمانية بشكل واضح وكان العرب عموما معجبين بألمانيا بسبب انضباطها وقوتها والطريقة التي بنت بها كيان وحدتها من مجموعة من الدويلات ذات لغة مشتركة وتراث مشترك ولكنها كانت عديمة القوة إلى أن التحمت أواصرها وانصهرت في بوتقة الوحدة الجرمانية وعندما كان العرب ( وما يزالون ) يتدارسون تحقيق وحدتهم كان بعضها يتطلع إلى ألمانيا على اعتبار أنها قدوة يمكن الاحتذاء بها .
وعلى ضوء المعني السابق فقد اتهمت السلطات المصرية بأنها صنيعة للمحور في شخص ملكها – على الرغم من أن تلك التهمة لا تحمل قدرات من الحقيقة فالواقع أن مصر وألمانيا وجدتا نفسيهما تحاربان عدوا واحدا الأمر الذي خلق نوعا من الترابط بينهما ليس القصد منه خدمة ألمانيا وإنما قصد من هذا الترابط حصول مصر على استقلالها ولعل فاروق في محاولة الاتصال بالألمان كان يهدف إلى أن يحصل على وعد من هتلر بأن يمنح الألمان مصر الاستقلال إذا انتصر المحور في الحرب .
وعلى الرغم من أن المحور قد علن في العديد من المناسبات أنه لا يضمر أى نوايا عدوانية نحو مصر أو غيرها من الأقطار العربية وبينما الاتصالات قائمة بين الملك فاروق وهتلر لنفس لفرض فإن الوثائق الألمانية والتي اعتمد عليها أحد المؤرخين المعاصرين تشير إلى ما يسمي بتقسيم التركة – عقب انتصار المحور – حيث أرادت ايطاليا أن تحصل من هتلر على وعد بأن تكون مصر من نصيبها في نطاق السيطرة الايطالية على ساحل شمال أفريقيا وعلى الرغم من أن هتلر قد قطع على نفسه وعدا بذلك إلا أنها كانت خطة تكتيكية بهدف البقاء على جبهة التضامن متماسكة .
ويبدو أن المخابرات البريطانية كانت متيقظة تماما لكل ما يحدث في مصر وتجمعت تقارير المخابرات البريطانية وتقارير السفير البريطانية في مصر وتقارير عملاء بريطانيا سواء في مصر أو في البلدان التي تمت فيها الاتصالات بين المحور وفاروق وأجمعت كلها على أن فاروقا يلعب لعبة خطيرة ولابد من توجيه لطمة لشخص الملك الشاب المتهور حتى يعود إلى حظيرة السياسة البريطانية.
وقبل أن ننتهي من دراسة بعض المواقف التي هيأت لحادث 4 فبراير يجدر بنا أن نسجل ملاحظة هامة : لقد كان في مقدور السلطات البريطانية أن تقدر نشاط القصر لا على أنه خيانة لقضية بريطانيا وحلفائها نما على أنه إخلاص لقضية مصر واستقلالها وأن هؤلاء المصريين ذوي النشاط المحوري لا يحبون المحور لذاته ولا يكرهون الانجليز لذاتهم أيضا , ولكنهم كانوا يعملون لتحقيق ما يعتقدون بإخلاص أنه في مصلحة مصر ولقد كانت الدول المحايدة أو معظمها تؤمن إيمانا راسخا بأن النصر للمحور وأن الهزيمة ستلحق ببريطانيا .
ولم تكن هناك إذن خيانة لقضية الديمقراطية وإنما كان هناك إخلاص لقضية مصر وحرص على تحقيق أمانيها في السيادة والاستقلال ولعل البريطاني الوحيد الذي فهم هذا المعني وقدره هو الجنرال ويلسون حيث عبر عن النشاط المصري والذي يطلق عليه " محوري" بأنه نشاط بين ولاءين بين ولاء الساسة المصريين لقضية بلادهم والعمل على استقلالها وبين ولائهم لقضية الحلفاء والديمقراطية .
بريطانيا تستنفذ أغراضها من وزارتي حسن صبري وحسين سري
أولا : وزارة حسن صبري ( يونيه – نوفمبر 1940)
لم يجد الملك فاروق بدأ من الخضوع للتهديدات البريطانية الموافقة على إقالة حكومة علي ماهر ورغبة من فاروق في تدارك الموقف حفاظ على عرشه استدعي عددا من الساسة القدامى وزعماء الأحزاب إلى قصر عابدين للتشاور في الأمر , وقد رأي المجتمعون وفي مقدمتهم أحمد ماهر أنه من الخير أن تستقيل الوزارة بعد أن انعدمت الثقة بينها وبين الحكومة البريطانية ومعني بعد أن انعدمت الثقة بينها وبين الحكومة البريطانية ومعني ذلك هو الإذعان للتبليغ البريطاني وفي مساء ( 22 يونيه 1940) وكان علي ماهر قد قدم استقالته ذهب أحمد حسنين ( أمير القصر ) إلى دار السفارة البريطانية ليبلغ السفير موافقة الملك على اعتزال علي ماهر رياسة الوزارة ولن يعود إلى منصبه في القصر وفي محاولة من علي ماهر لاستثمار الموقف لصالحه ذهب إلى مجلس الشيوخ وألقي بيانا أوضح فيه أسباب استقالته مؤكدا على أن السلطات البريطانية تقدمت إليه بالعديد من المطالب وأنه استجاب إلى الكثير منها في نطاق معاهدة التحالف الأمر الذي استوجب شكر السلطات البريطانية عليها وأن بعضا من هذه المطالب قد رفضه لمنافاته لاستقلال مصر .
ويلاحظ أن علي ماهر قد لجأ إلى مجلس الشيوخ وليس إلى مجلس النواب الذي يملك وحده إعلان الثقة بالوزارة وذلك خشية المعارضة التي قد يثيرها رئيس مجلس النواب – أحمد ماهر – بسبب ما أبداه من موافقته على استقالة الحكومة .
أما المطالب البريطانية بشأن الوزارة الجديدة فقد اتسمت بالتضارب إلى حد كبير حيث كان من رأي الخارجية البريطانية أن تكون وزارة قومية أكثر تمثيلا للقوي السياسية المختلفة بشرط أن يؤيدها الوفد وتقوم بتنفيذ المعاهدة نصا وروحا وهكذا عاد الوفد إلى الظهور كقوة مؤثرة على مسرح السياسة المصرية أم لامبسون فكان يريدها وزارة وفدية خالصة أو يؤيدها الوفد على الأقل ولا أهمية لكونها قومية أو حزبية بشرط أن " تطفو معنا أو تغرق معنا " على حد تعبيره واعتقد أن اختبار حسن صبري لرئاسة الحكومة ( 28 يونيه) لم يكن استجابة كاملة لرغبات بريطانيا إلا أن الحكومة البريطانية قد اعتبرته حلا وسطا وأكد وزير الخارجية البريطانية هذا المعني في تصريح له في مجلس اللوردات إذ قال : " إن علاقة بريطانيا بالوزارة المصرية الحاضرة تدعو إلى أشد الاغتباط وأنه كان يود أن يشترك الوفد في الحكم .
ولعل واقفه بريطانيا على اختيار حسن صبري رئيسا للحكومة قد حكمته عدة اعتبارات من بينهما : صداقة حسن صبري لبريطانيا ورفض النحاس باشا الاشتراك في وزارة قومية وعدم التأكد من ولاء القوات الفرنسية بعد سقوط فرنسا ورغبة الخارجية البريطانية في حسم الأمور مع الملك فاروق بقدر من اللباقة دون حدوث انفجار .
وعلى الرغم مما عرف عن حسن صبري من ميول انجليزية إلا أن زيارته لدار السفارة البريطانية في اليوم الثاني لتوليه منصب رئيس الحكومة كانت تحمل معني كبيرا بأنه يحرص على إرضاء السلطات البريطانية بقدر يمكنه من ممارسة سلطانه كرئيس للوزراء ولذا فقد كانت هذه الزيارة موضع استنكار شديد من بعض أعضاء مجلس الشيوخ المصري .
ولم يكن من الممكن أن تتبني الوزارة الجديدة سياسة مضادة لسياسة الوزارة السابقة ولذا فقد ألقي حسن صبري بيانا في مجلس النواب والشيوخ أشار فيه إلى: أن مصر الحريصة على استقلالها وسلامتها تحرص كذلك على الوفاء بتعهداتها لحليفتها بتطبيق المعاهدة نصا وروحا وفق ما اقره مجلسكم الموقر بجلسة 12 يونيه 1940 وكان معني ذلك هو تمسك وزارة حسن صبري بمبدأ تجنيب مصر ويلات الحرب وعلى الرغم من ذلك فقد قوبل رئيس الوزراء بمعارضة قوية من بعض أعضاء مجلس النواب والشيوخ بسبب الملابسات والظروف التي أحاطت بتشكيل الوزارة على اعتبار أن الوزارة السابقة قد حظيت بثقة البرلمان بمجلسيه ( النواب والشيوخ) قبل أيام معدودات وإقالتها بهذه الطبقة بعد مخالفة صريحة للدستور والذي يقضي بأن الوزارة تستقيل إذا افتقدت ثقة البرلمان وتبقي في مناصبها إذا فازت بهذه الثقة ... وتساءل أحد أعضاء مجلس الشيوخ : فمن أى ناحية إذن جاءت هذه الاستقالة ؟ وأجاب الشيخ عبد الرحمن الرافعي : أن أمر الإقالة جاء من ناحية التدخل السافر في شئون البلاد ولذا فإن الملابسات التي أحاطت بتشكيل الوزارة الحالية واستقالة الوزارة السابقة يدعونا إلى الامتناع عن تأييد تلك الوزارة .
ويلاحظ وفقا للعديد من المصادر الهامة أن بريطانيا بدأت تعمل على إرضاء الوفد وضح هذا من خلال الوزارة الجديدة وحث الملك فاروق على أخذ رأي الوفد على اعتبار أن أية حكومة لا تحظي برضاء الوفد فلن تنال قدرا كبيرا من الأهلية التي تمكنها من الاستمرار ولذا فإننا نعتقد أن موقف الوفد وامتناعه عن تأييد هذه الحكومة على اعتبار أنها لا تحوز ثقة البلاد يعد صدمة لبريطانيا ومؤشرا واضحا إلى تلك السياسة التي أوصلت العلاقات المصرية البريطانية إلى طريق مسدود وقد بدأ هذا واضحا من خلال مقابلة لامبسون لفاروق ( 28 يونيه 1940) ولذلك فقد سعي حسن صبري جادا للحصول على تأييد الوفد تقوية لمركزه .
وعلى ما يبدو فان لامبسون كان يهدف من وراء ذلك إلى أن يظل مبدأ التعاون مع الوفد قائما وبقدر تأزم الموقف الدولي فإن بريطانيا ستعمل على عودة الوفد في الوقت الذي تري فيه أن الإقدام على تلك الخطوة مسألة تحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة ولذا فقد لفت لامبسون نظر فاروق إلى أن فشل وزارة حسن صبري ستترتب عليه نتائج خطيرة قد لا يتوقعها وهو يريد بذلك تحذير فاروق من سياسته التي اتبعت أيام وزارة علي ماهر تلك السياسة التي يري لامبسون أنها أدت إلى أزمة أفلت فاروق من نتائجها الخطيرة الصعبة .
وبصدد اختيار حسن صبري باشا رئيسا للوزراء وعدم الأخذ بنصيحة لامبسون بإسناد رئاسة الحكومة إلى الوفد أو وزارة يؤيدها الوفد يتحدث أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي والمستشار الأول للملك فاروق – يتحدث عن السبب في اختيار حسن صبري فيقول : " لقد كان رأيي دائما أن الوفد هو القوة الشعبية الوحيدة في هذا البلد وأنه بهذه الصفة أحق بالحكم من جميع الأحزاب الأخرى وأنا أعتقد أن الوفد قوة يمكن استغلالها في استخلاص حقوق البلاد من الانجليز ولقد عملت ولا زلت أعمل على إزالة الخلاف بين الملك فاروق والنحاس وهذه الخطوة لابد منها قبل عودة المياه إلى مجاريها – أى قبل عودة الوفد إلى تولي الحكم – ومن هنا كان رفضي العمل بنصيحة لامبسون – لأن العمل بهذه النصيحة كان معناه أن الوفد وهو القوة الشعبية الوحيدة " إنما يعود إلى الحكم بإرادة الانجليز وهو أمر ليس في مصلحة البلاد ولا في مصلحة الملك ولا في مصلحة الوفد نفسه ".
ويضيف أحمد حسنين قائلا : " ورأيت أن أقوم بمناورة تمويه وتضليل ذرا للرماد في العيون , فطلبت من الملك أن يوفد عبد الوهاب طلعت لمقابلة النحاس باشا في كفر عشما لكي ألفت أنظار السفارة وعيونها إلى حيث يقيم النحاس وأصرفها عما يجري في القاهرة .. وهكذا بينما كان عبد الوهاب طلعت في كفر عشما كنت أنا قد اتصلت بحسن صبري وأعضاء وزارته وأعددت المراسيم بتشكيل الوزارة وهكذا فوجئ السفير البريطاني بالأمر الواقع صحيح أن حسن صديق لبريطانيا ولقد اخترناه لهذا السبب كسرا لحدة التحدي فقد كان إغفال نصيحة السفير تحديا منا لا شك فيه "
ووفقا لهذا الرأي فإن القصر الملكي كان يحاول أن يظهر وكأنه حريص على عودة الأغلبية الشعبية في البلاد وهذا يعطي دلالة خفية على أن إسناد الحكم إلى وزارات الأقلية يعد مخالفة دستورية بحرص القصر على تجاوزها بعودة الوفد إلى الحكم تحقيقا لمبدأ الشرعية الدستورية إلا أن هذه العودة مشروطة بإيجاد نوع من التفاهم مع الوفد أى – عودة المياه إلى مجريها – على حد تعبير أحمد حسنين باشا , وهذه العودة التي يعنيها القصر تتمثل في نوع من التضامن بين القصر والوفد وهذا ما لا تسمح به بريطانيا إطلاقا لأنه يعني – من وجهة النظر البريطانية – أن ينضم الوفد إلى سياسة القصر مما يسبب كثيرا من المشاكل وإعاقة للعديد من المخططات البريطانية .
وفي الوقت الذي تولت فيه وزارة حسن صبري الحكم كان الهجوم العنيف الذي سنه الايطاليون في خريف سنة 1940 في اتجاه الإسكندرية وسرعان ما جعل مهمة الوزارة الجديدة بالغة الدقة حيث وصلت القوات الايطالية إلى السلوم في 14 سبتمبر وعقب ذلك بيومين احتلت سيدي براني ومن جديد نوقشت قضية هامة شغلت الجانب الأساسي في العلاقات المصري البريطانية ابتداء من نشوب الحرب – وهي قضية إعلان الحرب من جانب مصر على المحور – وتوترت العلاقات مع السعديين والذين كانوا يشكلون أهم المجموعات الحزبية التي تتألف منها الوزارة وبدأ الدكتور أحمد ماهر في شن حملة سياسية تستهدف أن يكون لمصر دورا هاما في الحرب بأن تعلن الحرب على المحور في القوت الذي رأي فيه حسن صبري وغالبية أعضاء وزارته أن مصر يجب ألا تعلن الحرب لمجرد اجتياز الايطاليين الحدود عند السلوم لأن القوات المصرية لم تكن ترابط هناك وبين السلوم ومرسى مطروح مسافة ثلاثمائة كيلو متر لم يحسب من قبل حساب الدفاع عنها ولا مسوغ لأن تعلن مصر الحرب دفاعا عن هذه المنطقة وهي لا تملك هذا الدفاع ولا تريد أن تجعل من إعلان الحرب مجرد مظاهرة كلامية لا حربا بالفعل وكان من رأي حسن صبري عدم إعلان الحرب من جانب مصر ولو بلغ الايطاليون القاهرة .
وكان توتر الأعصاب في القاهرة شديدا وفي دور السينما قوبلت المعلومات التي عملت السلطات البريطانية بعناية على إذاعتها بمظاهرات صاخبة كالموج وكثرت الأخبار المغلوطة وانتشرت الشائعات بأن الحرس الملكي قد دعم بعناصر انجليزية جعلت الملك فاروق واقعا تحت الرقابة المشددة من السلطات البريطانية .
وأمام الهزائم المتلاحقة لقوات الحلفاء وتحت تأثير الرأي العام المصري والذي يميل إلى عدم التورط في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل – على حد تعبير الشيخ المراغي – تمسكت حكومة حسن صبري بموقفها من الحرب على الرغم من انسحاب السعديين من الوزارة إيمانا منهم بأن فشل مصر في الدفاع عن نفسها إنما يعني الاعتراف بالحماية البريطانية عليها وأجمعت العديد من تقارير السفارة البريطانية على أن مشاعر المصريين لا تميل إلى إعلان الحرب ومن المستحيل إجبار مصر على اتخاذ قرار الحرب على ضوء اتجاهات الرأي المصري في ذلك الوقت .
وأمام الإجماع الشعبي على مبدأ عدم دخول الحرب فلقد تجاوزت العديد من الصحف المصرية حدود الرقابة المفروضة عليها ونشرت العديد من المقالات دفاعا عن حق مصر في تمسكها بالموقف الذي تقف ومصالحها على اعتبار أن ايطاليا في حالة حرب مع انجلترا وليس مع مصر وأن الهجوم الايطالي يستهدف القوات البريطانية ولم يقصد به العدوان على المدن والقوات المصرية فهي طرف حرب يخوضها طرف محارب ضد طرف محارب آخر فوق أرض طرف ثالث بعيدا عن دائرة الصراع الدائر بين المتحاربين .
وسري اعتقاد – بالحق أو بالباطل – بان انسحاب القوات البريطانية من السلوم وسيدي براني مرجعه أسباب سياسية وليست عسكرية وأن بريطانيا لم تكن لتقرر أن تجلو عن هاتين المدينتين إلا لكي تجر مصر وراءها في الحرب وذلك بأن تهيئ لدخول مصر الحرب سببا معقولا. وكان على بريطانيا وفقا لما أجمع عليه الشعب المصري من تجيب ويلات الحرب أن تواجه الموقف بدون الاعتماد على الجيش المصري لكنها ستحاول أن تعطي تفسيرا يزداد صرامة لمواد المعاهدة " 1936"كما أنها لن تردد – عندما يلوح لها أن مصالحها الفعلية في خطر – في أن تتدخل بحزم في الشئون الداخلية لمصر ولو اضطرها الأمر إلى استخدام القوة العسكرية وهذا ما حدث في 4 فبراير 1942 م.
وفي الأسبوع الثاني من ديسمبر 1940 تمكنت القوات البريطانية من إحراز بعض الانتصارات في موقف سيدي براني وأوقفت زحف القوات الايطالية على مصر ولذا فقد استرد الانجليز بعضا من أنفاسهم المضطربة مما مكن السفير البريطاني من استشارة القادة العسكريين في المنطقة حول دخول مصر الحرب وقد اجمعوا على أن الوقت غير مناسب للأسباب الآتية :-
أولا : أن وقوف مصر على الحياد ساعد على تخفيف تعرض قناة السويس والمواني المصرية للقصف من جانب ايطاليا ... ومن تلك القواعد المصرية يتدفق السلاح والعتاد إلى قوات الحلفاء .
ثانيا : أن احتمال هجوم ايطاليا من الجو على الأراضي المصرية ما يزال قائما ولدي الايطاليين في ليبيا ثلاثة أسراب مقاتلة يتكون كل سرب من 18 طائرة بالإضافة إلى سرب قاذف ناقل وأن هناك حوالي 110,000 آلاف مقاتل بالإضافة إلى وحدات البوليس الحربي .
ثالثا : أن اطمئنان القائد العام ( الجنرال ويفل – إلى هدوء الجبهة الخلفية كان عونا له في نجاح معركته الأخيرة .
رابعا : لقد بدأت الحكومة المصرية تشير إلى بعض مطامعها الإقليمية في ليبيا كمقابل لإعلانها الحرب بالإضافة إلى رغبتها في أن تمثل في مؤتمر السلام المزمع عقده عقب الحرب .
للأسباب السابقة : رأت الخارجية البريطانية صرف النظر عن هذا الموضوع بصفة مؤقتة لحين انجلاء الموقف الدولي .
إلا أن لامبسون وجد نفسه يدور في دائرة مفرغة وأن ما يكسبه من ناحية يخسره في ناحية أخري بسبب سياسة القصر , لذلك كتب غلى هاليفاكس شاكيا ما يصادفه من متاعب ومن وضع لا يبعث على الاطمئنان ولكي يمهد الطريق لما قد يطلب اتخاذه من إجراءات شديدة في المستقبل فقال أنه :ط لا يثق مطلقا في تصرفات الملك فاروق وأن هناك همسات تدور بأن الجيش المصري قد صدرت إليه الأوامر بمقاومتنا إذا أجبرناه على مقاتلة الايطاليين لذلك فقد اقتربت اللحظة التي علينا فيها أن تكون حازمين مع الحكومة المصرية ومن ورائها السراي حتى ولو وصل الأمر إلى اللجوء باستعمال القوة المسلحة .
وقد أدرك لامبسون ضعف حسن صبري في مواجهة السراي لحاجته إلى الاعتماد عليها وهكذا بدأت كل الدلائل تشير إلى أهمية عودة الوفد كضرورة تحتمها المصالح العليا لبريطانيا ولو استخدمت في ذلك من الوسائل ما يتناقض بصورة واضحة مع المعاهدة المصرية البريطانية .
وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن السياسة البريطانية قد لجأت إلى وسيلة أخري كبديل عن قيام القوات المصرية بإعلان الحرب ضد المحور حيث اقترح البريطانيون على الحكومة المصرية أن تبيعهم بعض الأسلحة المصرية خصوصا المعدات الميكانيكية والمدفعية ويشير نفس المصدر إلى أن هذا الاقتراح من الجانب البريطاني كانت تحكمه عدم الثقة في القوات المسلحة المصرية من جانب البريطانيين بالإضافة إلى افتقار القوات البريطانية إلى العديد من الأسلحة وخصوصا بعد الهزائم التي منيت بها في الصحراء الغربية .
وعلى الرغم من أن أحد أعضاء مجلس النواب قد تقدم بسؤال إلى رئيس الوزراء حول مدي صدق هذه الدعاية إلا أن الحكومة المصرية قد أعلنت في بيان رسمي عدم صدق هذا الادعاء مما يؤكد على أن بيان الحكومة كان مخالفا للحقيقة ولعل الحكومة البريطانية قد طلبت هذا المطلب من رئيس الوزراء المصري وعلى ما يبدو فإنه قد رفض هذا المطلب بسبب ما قد يتركه من أثر لدي الرأي العام وخصوصا وأن حسن صبري لا يستند إلى قواعد جماهيرية أو حزبية وهكذا تجمعت العديد من الأسباب التي تؤكد أهمية عودة الوفد باعتباره الحزب الوحيد الذي يستند إلى جماهيرية تمكن السياسة البريطانية من تجاوز معاهدة 1936 بحجة أن ضرورات الحرب تقضي بمناصرة الحليفة من منطلق الدفاع عن الديمقراطيات في العالم .
وانطلاقا من مفهوم أن الملك فاروق ذو ميول محورية وأنه يكره الانجليز فقد بدأت السياسة البريطانية تعيد علاقاتها بالقصر وفقا لهذا الاعتقاد في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تترنح من الضربات المتكررة التي تتلقاها من قوات المحور ومن المؤكد أن من أولي مهام السفير البريطاني أن يصون ظهر الجيش من أية مفاجأة قد يحدثها الملك ولابد من تهديده والزجر به .
ووفقا لما اعتقده السفير من أن علي ماهر يناصر فاروق في عدائه للإنجليز وأنهما يعملان على خلق مناخ مشبع بروح اليأس والهزيمة مما يقلل من هيبة الجيش البريطاني فقد طلب لامبسون إلى حسن صبري بوصفه السلطة القائمة على تنفيذ الأحكام العرفية أن يعتقل علي ماهر بحجة أن له نشاطا ضارا بالمجهود الحربي ويعتقد بعض المعاصرين أن السفير لم يقدم دليلا مقنعا ينهض حجة لم طلب مما جعل رئيس الوزراء المصري يلوح باستقالته إذا تشبث السفير بطلبه .
ولعل لامبسون قد خشي من الضغط على حسن صبري في هذا الموضوع بسبب ما قد يقدم عليه من أمر استقالته وعلى ما أعتقد فقد كان لامبسون حريصا على أن تبقي وزارة حسن صبري أطول وقت ممكن حتى يقتنع الرأي العام بعدم جدوي أية وزارة لا تستند إلى قاعدة شعبية وهذا يقف دليل على حجته في عودة الوفد ومن جانب آخر فلعله خشي أن يظن أنه إنما أراد أن ينتقم من علي ماهر بسبب التصريح الذي أدلي به عشية استقالته والذي حمل فيه حملة شديدة على لامبسون متهما إياه بالدكتاتورية والاستبداد وأنه يريد أن يكون الحاكم الفعلي لمصر وهذا الموقف من حسن صبري يعتبر موقفا وطنيا يتطابق إلى حد كبير مع مشاعر الرأي العام والشعبية التي حصل علها علي ماهر بسبب الظروف والملابسات التي أحاطت باستقالته .
وقد استمر الجانب البريطاني قلقا لضعف رئيس الوزراء وخوفه من الإقدام على تنفيذ المطالب البريطانية ووقوعه إلى حد كبير تحت سيطرة القصر لكن الذي كان يخفف من ذلك القلق هو ثقة الحكومة البريطانية في ولاء حسن صبري وقد تكرر تعبير الخارجية البريطانية وثقتها في نوايات رئيس الوزراء بل أن حسن صبري قد أعلن صراحة بأنه يفضل أن يستقيل إذا ما تأكد أنه لم يعد يحظي بثقة أصدقائه الانجليز مؤكدا أن وزارته موالية لهم دون تحفظ .
وإذا كان السفير البريطاني عملا بفكرة " تقليم أظافر القصر " قد تراجع عن فكرة اعتقال علي ماهر إلا أنه عاد مطالبا رئيس الوزراء بإبعاد أشخاص بذواتهم من القصر الملكي وفي مقدمتهم عبد الوهاب طلعت وكيل الديوان الملكي بحجة أنه متشبع بسياسة علي ماهر وكذلك بعض الايطاليين الذين يعملون في وظائف مختلفة بالقصر ورأي الملك فاروق في هذا المطلب من المساس بذاته ما لا يسمح بالنظر فيه وتدخل حسن صبري بهدف التغلب على صدام يوشك أن يقع بين الملك والسفير وبعد أيام قلائل صدر الأمر الملكي بتعيين أحمد حسنين رئيسا للديوان وإعفاء عبد الوهاب طلعت من خدمته داخل القصر وهكذا رضخ فاروق هذه المرة وقبل مبدأ التدخل البريطاني في أمر هو من أخص الأمور التي تدخل في نطاق السياسة الداخلية مما كان سببا في العديد من التدخلات الأخرى .
وبينما حسن صبري يلقي كلمته في البرلمان بمناسبة افتتاح دورة جديدة إذا به يقع على الأرض وقد فارق الحياة ( 14 نوفمبر 1940)
ثانيا : وزارة حسين سري ( نوفمبر 1940 – فبراير 1942 )
يعتبر تعيين حسين سري خلفا لحسن صبري دبلوماسية ماكرة ابتكرها أحمد حسنين ( رئيس الديوان الملكي ) على اعتبار أن حسين سري رجل مقبول عند بريطانيا وسوف لا يعترضون على تعيينه ولن يتمسكوا بوجوب قيام وزارة وفدية أى أن اختبار حسين سري كان تفاديا لحتمية الاصطدام بالانجليز .
وعلى الرغم من أن حسين سري كان شخصية محببة لدي الانجليز إلا أن الملك فاروق رأي فيه بعض المميزات التي تقدمه على غيره فهو أولا يكن ولاء لشخص الملك وللأسرة الملكية عموما أى أن ولاءه للبريطانيين يأتي بعد ولائه للملك وهو ثانيا قريب للأسرة المالكة( خال الملكة فريدة) وهو من هذه الناحية أحرص الناس على حقوق الملك , أما الاعتبار الثالث : فإن الوفد صاحب الأغلبية الحقيقية مقصي عن الحكم وتعيين رجل مستقل غير حزبي مثل حسين سري في رئاسة الوزارة قد يخفف ولو قليلا من حدة خصومه الوفد للقصر.
ولقد رأي أحمد حسنين أن مهمة وزارة حسين سري تعد مؤقتة تمهيدا لعودة الوفد إلى الحكم بعد أن يقدم الوفد إلى الملك الترضية الكافية والضمانات اللازمة على عدم تكرار ما فعله الوفد سنة 1937 .
ومن المؤكد أن وفاة حسن صبري كانت مفاجأة للإنجليز حالت دون دراسة الموقف دراسة جيدة تمهيدا لإقناع الملك فاروق بعودة الوفد والملاحظ أن القوتين المتصارعتين – القصر والانجليز – كانتا ترغبان في عودة الوفد لكن الاختلاف بينهما كان قائما حول الكيفية التي يعود بها بمعني أن القصر كان يشترط أن يقدم الوفد الترضية المناسبة للشخص الملك وأن يتعهد النحاس باشا بعدم تكرار محاولة التعدي على الحقوق الملكية وكان النحاس يعلم جيدا حاجة فاروق إلى تضامنه مع الوفد في وقت بدأت ملامح الصراع تتصاعد إلى الأفق بين القصر والانجليز.
أما الانجليز فقد كانت حاجاتهم إلى الوفد تشتد حينما تتأزم الأوضاع العسكرية على الجبهة المصرية اعتقادا منهم أن الملك فاروق سيطعنهم من الخلف وأن وجود الوفد هو الضمان الوحيد لكسر شوكة القصر وعلي الرغم من أن الانجليز لم يكن لديهم شروط يفرضونها على النحاس مقابل عودته إلى رئاسة الحكومة إلا أنهم كانوا حريصين جيدا على أن ظهروا أنفسهم في صورة أصحاب الفضل الأول في تلك العودة وهذا ما كان يعيه القصر جيدا ويحرص تماما على عدم تحقيقه .
وعموما فلقد كان اختيار حسين سري في وقت أحرز فيه البريطانيون بعضا من انتصاراتهم العسكرية على الجبهة الغربية سببا كافيا لتأجيل عودة الوفد وقد أبدي لامبسون ارتياحه لاختيار حسين سري ووصفه بأنه صديق للبريطانيين ورجل على قدر كبير من الناشط والتصميم شئ آخر دعا لامبسون لإبداء ارتياحه لاختيار حسين سري باشا وهو ما كان يجهر به دائما من أقوال تتسم بالكراهية لعلي ماهر العدو اللدود آنذاك للبريطانيين .
وتعتبر الوزارة الجديدة امتدادا للوزارة السابقة من حيث التشكيل ومن حيث السياسة نحو الحرب فالوزارة الجديدة قد شكلت إلى حد كبير من أعضاء الوزارة السابقة ثم أن رئيسها كان أحد ثلاثة رشحتهم السفارة البريطانية للرئاسة أثناء الأزمة مع القصر حول التخلص من علي ماهر .
أما موقف البريطانيين من دخول الحرب فقد قنعوا بالمعونة الجادة التي تقدمها لهم الوزارة المصرية مما دعا لامبسون إلى وضع قضية " إعلان الحرب " جانبا معلنا بأن المستقبل يعتمد إلى حد كبير على طبيعة سير القتال وان أى نجاح عسكري كبير قد يؤدي إلى تغيير جذري في الموقف السياسي المصري أى أن السفير البريطاني قد اقتنع تماما بأن السبب في تردد الحكومة المصرية في إعلان الحرب راجع إلى تردي الحالة العسكرية للقوات البريطانية وليس مرده إلى أن معاهدة 1936 لا تقر مبدأ دخول الحرب .
ويلاحظ أن ردود الفعل البريطانية بخصوص دخول مصر الحرب قد اتسمت بالتردد وعدم وضوح الرؤيا ولذا فقد تباينت وجهات النظر البريطانية حول تلك القضية الهامة وكان من الأولي ن تقتنع السلطات البريطانية برغبة مصر في عدم إعلان الحرب والاكتفاء بما تقدمه مصر من معونات اقتصادية وسياسية وعسكرية إلا أن هذا التردد قد تفسره المواقف العسكرية المتباينة في الصحراء الغربية فبينما تتقدم قوات المحور تطفو قضية دخول مصر الحرب على السطح وتحتل المكانة أول في المطالب البريطانية أما في حالة تقدم القوات البريطانية محققة بعضا من الانتصارات فإن القضية تتراجع لتأخذ المرتبة الثابتة في المطالب البريطانية وهكذا .
وما لبثت وزارة حسين سري أن واجهت أزمة تموينية حادة نجمت عن الصعوبات التي أحاقت بمصر بسبب الحصار الذي فرضته ظروف الحرب مما أدي إلى اضطراب في الحياة الاقتصادية المصرية ورغم ما عرضته بريطانيا من استعدادها لشراء محول القطن المصري ورغم ما بذلته الحكومة من مجهودات للمحافظة على بقاء المعدل الطبيعي للمواد التموينية إلا أن أوجه النقص التي كان لابد منها سواء في المواد التموينية أو غيرها من ضرورات الحياة قد جعل وزارة حسين سري هدفا لنقد الأحزاب ومحاولة إظهار الحكومة في صورة من العجز وعدم القدرة على استيعاب المرحلة الراهنة .
وعلى الرغم من أن القوات البريطانية قد أحرزت بعض الانتصارات في الفترة من ديسمبر 1940 وحتى فبراير 1941 إلا أن القوات الألمانية بقيادة الجنرال روميل قد استطاعت أن تحرز نصرا كبيرا حتى اجتازت حدود مصر واحتلت السلوم ثم وصلت إلى مرسى مطروح في الوقت الذي امتدت الحرب لتشمل اليونان ويوغسلافيا وبدأ وكأن انهيار الحلفاء مسألة وقت فقط وفي نفس الوقت كانت ثورة العراق بقيادة رشيد علي الكيلاني وفي سوريا قد حدثت انتفاضات متكررة مما حدا بقوات فرنسا الحرة أن تطلب المساعدة والإمدادات من بريطانيا في الوقت الذي اضطرت فيه بريطانيا إلى احتلال إيران خوفا من أن يمتد الاحتلال الألماني لمنابع البترول الإيرانية .
وهكذا بدأ واضحا أن بريطانيا تواجه صعوبات بالغة الخطورة ومما لا شك فيه أن كل هذه الأحداث تركت انعكاساتها على الساحة المصرية وخصوصا بعد القبض على عزيز المصري في محاولة منه لمغادرة مصر على متن طائرة حربية , وفي الإسكندرية كانت الغارات الجوية تبث الرعب في نفوس المواطنين مما حدا بأعضاء مجلس النواب المصري إلى مطالبة الحكومة بممارسة مسئوليتها بوضع حد لوقف الاعتداءات على مدينة الإسكندرية التي يذهب ضحيتها مئات المصريين كل يوم وبلغ توتر الأعصاب في العاصمة مداه ولنقسم الوزراء فيما بينهم مما اضطر الملك إلى دعوة زعماء الأحزاب للالتقاء بهم حيث جرت المباحثات حول الموقف الدولي والاعتداءات المتكررة على مدينة الإسكندرية وعرض الملك في هذا الاجتماع فكرة تشكيل حكومة قومية برئاسة النحاس باشا الذي اشترط حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة .
إلا أن هذه المحادثات قد فشلت بسبب مناورات القصر والتي قصد من ورائها نوعا من التمويه على بريطانيا واثبت حسن نية القصر وعدم مسئوليته عن الاضطرابات الكثيرة التي انتشرت في العاصمة وبفشل هذه المحادثات سعي رئيس الوزراء ( حسين سري ) لى التقارب مع السعديين بالغرم من تعثر هذه المساعي في البداية إلا أنه انتهي أخيرا بتشكيل وزارة جديدة عرفت " بالوزارة السرية الثانية " وغضب الوفد الذي رأي أن ضم السعديين الأعداء الألداء هو خيانة كبري قام بها القصر في لوقت الذي بدأ فيه البرلمان المصري بمجلسيه ( النواب والشيوخ) في إخراج الحكومة عن طريق العديد من الأسئلة والاستجوابات والتي أظهرت مدي التردي الذي وصلت إليه الأوضاع المصرية وفي محاولة من الحكومة البريطانية لإعادة الاستقرار والطمأنينة إلي نفوس المصريين فقد أوفد وزير خارجية بريطانيا وفدا إلى مصر برئاسة " أوليفر لتلتلون" مندوب وزارة الحرب بهدف إبلاغ الحكومة المصرية إلى أن بريطانيا مصممة على النصر مهما كانت الوسائل بالإضافة إلى تخفيف عبء المسئوليات التي يضطلع بها رؤساء الأسلحة البريطانية تزويدهم بالإرشادات السياسية العامة وأخيرا التنسيق بين بريطانيا العظمي وأقطار الشرق الأوسط .
ولعل اختيار القاهرة بالذات لكي تكون مقرا للوزير البريطاني باعتبارها مركزا وسطا لدول الشرق الأوسط وعلى اعتبار أن مصر تشهد على جبهتها الغربية أهم معركة يتوقف عليها حسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط .
وأخذ الوفد في شن حملة عنيفة على الوزارة الجديدة وعلى الانجليز أيضا بدأها النحاس بخبطة عنيفة 14 أغسطس 1941 – اتهم فيها الانجليز بخرق المعاهدة وتحطيم استقلال البلاد.
في نفس الوقت فإن النكسات المتكررة التي واجهها البريطانيين آنذاك بالإضافة إلى اشتداد الغارات الجوية على المدن المصرية قد أعطي وقودا للحملة ضد الانجليز وتحمل تقارير السفير البريطاني مع نهاية 1941 صورة كئيبة للأحداث الجارية حيث يقول لامبسون في أحد تقاريره :
" أن هيبتنا قد تدهورت إلى حد كبير والوفد يضاعف من حملاته ضد الحكومة المصرية وفاروق يغذي كل هذه الاتجاهات والأحزاب تجد في حملاتها على الحكومة هدفا وطنيا يكسبها قدرا من الشعبية وعودة الوفد قضية هامة تتعلق بمستقلنا في مصر "
وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن ما يحدث في مصر من سوء الأحوال وتفاقهم في المشاعر المعادية لبريطانيا مرجعه إلى الملك فاروق والسفير البريطاني حيث تحول العداء بينهما إلى قضية ثأر فكل منهما يريد أن يقتص من الآخر بطريقته الخاصة .
ومع نهاية 1941 ازدادت المتاعب البريطانية بسبب الارتفاع الملموس في أسعار الحاجيات الضرورية وما صاحبه من اعتقاد بين الرأي العام المصري بأن مرده إلى عمليات النهب التي تمارسها السلطة البريطانية في مصر لحساب جيوشها والقوات المتحالفة معها وصاحب كل ذلك فشل الحكومة في أن توقف موجة الكراهية ضد بريطانيا وظهرت طبقة من المرابين والمضاربين الذين قاموا بتخزين المؤن أملا في ارتفاع أسعارها وانتشرت السوق السوداء في كل مكان ويلاحظ أن كل الصحف المصرية كانت تشير من طرف خفي إلى مسئولية بريطانيا عن حدوث تلك الأزمات نظرا لاعتماد جيوشها على المواد التموينية المخصصة للشعب المصري ولقد أعلن إسماعيل صدقي باشا ( رئيس الوزراء السابق) أن وجود قوات الحلفاء هو أحد الأسباب الرئيسية في عجز المواد الغذائية على اعتبار أن الجنود البريطانيين يستهلكون في أجازاتهم بالإضافة إلى يستهلكونه في ثكناتهم ما يقرب من 50,000 أردب شهريا من القمح يصل إلى 60,000 ألف أردب في العام الواحد .
ولقد أحدث هذا القول دويا واسعا في كل الأوساط الشعبية والرسمية وانتشرت الأقاويل حول النهب البريطاني لمصر وعن المجاعة والفوضى وسوء الإدارة وتضاعف موقف الحكومة حرجا حينما تقدم وزير المالية باستقالته لأسباب غامضة ( 2 يناير 1942 ) في الوقت الذي كانت الأحوال العسكرية في الجبهة الغربية تمر بأدق وأخطر مراحلها ومن هنا فقد كان على بريطانيا ( مدفوعة إلى الحفاظ على مصالحها) أن تتدخل تدخلا حاسما لتعيد الأوضاع إلى الاستقرار مهما كان شكل هذا التدخل وكانت عودة الوفد تمثل حيويا بالنسبة لبريطانيا .
تعطش الوفد إلى الحكم
في أوائل سنة 1941 تجمعت عدة عوامل دفعت بالوفد إلى اتخاذ سياسة نشطة فيما يختص بالعلاقات المصرية البريطانية لاستغلال الموقف لصالحها فقد عرضت على الحكومة المصرية شاء جانب من المحصول بشعر أقل من السعر المعروض في الأسواق بما يقدر بخمسين في المائة (100) يضاف إلى ذلك تردي الحالة الاقتصادية والمالية وثقل الأعباء التي فرضتها ظروف الحرب وزيادة الضرائب وارتفاع الأسعار مما أثقل كاهل المصريين وخزانة الدولة حينئذ نشط الوفد لتصدر الصف الوطني مطالبا بريطانيا بتحديد موقفها من بعض القضايا التي تشغل الرأي العام وتقدم مصطفى النحاس بمذكرة باسم الوفد إلى السفير البريطاني ( أوائل أبريل سنة 1940) متضمنة عددا من المطالب الآتية :-
1- جلاء القوات البريطانية عن مصر بعد انتهاء الحرب.
2- اشتراك مصر اشتراكا فعليا في مفاوضات الصلح .
3- الدخول في مفاوضات مع مصر بعد انتهاء مفاوضات الصلح يعترف فيها بحقوق مصر كاملة في السودان.
4- التنازل عن الأحكام العرفية التي أعلنت بناء على طلب بريطانيا .
5- حل مشكلة القطن المصري وذلك بتمكين مصر من تصديره إلى البلاد المحايدة أو أن تشتريه بريطانيا بالأسعار والشروط المناسبة .
والملاحظ على مذكرة الوفد أنها مست مشاعر المصريين جميعا لأنها قد تناولت قضايا غالبية الشعب المصري وبلورت مطالب كل المصريين وأبرزتها ولذا فقد تصدر الوفد حركة النضال الوطني بعد أن اعتقدت الجموع الغفيرة من المصريين أن الوفد قد ألقي بأسلحته منذ توقيعه على معاهدة 1936 كان لذلك كله أكبر الأثر على القوي السياسية المختلفة في مصر فالحزب الوطني ومصر الفتاة قد أيدا موقف الوفد على اعتبار أن تلك المطالب تمثل الحقوق المشروعة لكافة المصريين على اختلاف اتجاهاتهم الحزبية .
أما القصر وعلي ماهر والسعديون فقد شككوا في تلك المطالب وأعلنوا اعتراضهم على أساس أنه ما كان يجوز للوفد أن يتقدم بمطالب إلى دولة أجنبيه مدعيا أنه وحده يمثل الشعب إلا أنهم أعلنوا اتفاقهم من حيث المبدأ على هذه المطالب لأنها تتفق ورغبات الشعب المصري .
أما الدستوريون فقد أعلنوا موافقتهم بلا تحفظ على الرغم من اعتراض زعيمهم محمد محمود باشا مبديا عدم موافقته متهما الوفد بالانتهازية واستغلال الفرص واقترح بعض زعماء الحزب إصدار بيان يطابق مطالب الوفد على اعتبار قومية المطالب التي أعلنها الوفد .
ويبدو أن تلك المطالب قد سببت قدرا كبيرا من الإحراج للحكومة المصرية سواء أمام الرأي العام أو أمام بريطانيا ولذا فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب باستجواب إلى رئيس الحكومة حول موقف الحكومة من مذكرة الوفد وأعتقد أن هذا الاستجواب كان بإيعاز من الحكومة بهدف أن تستصدر قرارا من مجلس النواب بطرح الثقة بها من جديد على أمل أن تقوي من موقفها سواء أمام الانجليز أو أمام الرأي العام المصري.
ولما كان نفس الاستجواب معروضا على مجلس الشيوخ للنظر فيه فقد تحدث النائب – عبد الحميد عبد الحق – متهما رئيس الحكومة بأن هدفه من مناقشة الاستجواب في مجلس النواب هو الحصول على أغلبية تؤيد الحكومة حتى تتمكن من مواجهة مجلس الشيوخ والانجليز معا ..
واعترض احد أعضاء الحزب الوطني على مناقشة الموضوع باعتباره أمرا غير دستوري وتقدم العديد من الناب بعدة اقتراحات وأخيرا وافقت الأغلبية على الاقتراحات التالية :
أولا : يعلن المجلس استنكاره لكل عمل فيه محاولة لإقحام دولة أجنبية في شئون البلاد الداخلية ولو كانت تلك الدولة صديقة أو حليفة .
ثانيا : استنكاره أيضا لمعالجة المسائل المصرية وبخاصة علاقتها بحليفتنا بغير الطريق الدستوري .
ثالثا : استنكاره أيضا لكل إجراء يقلل من الثقة القوية القائمة بيننا وبين حليفتنا في وقت فيه التعاون والتآزر واجبان لمصلحة البلدين والمجلس يؤيد الحكومة ويعلن ثقته بها .
وقد علق النائب محمد بهي الدين بركات على قرار المجلس السابق بقوله : افهم أن يستنكر المجلس عملا من أعمال الحكومة أما استنكاره عمل هيئة أو شخص خارج هذا المجلس فلا علاقة له بالأعمال البرلمانية وهكذا تحول الاستجواب من سياسة الحكومة تجاه تصريح الوفد إلى طلب منح الثقة للحكومة وهو ما كان يقصده علي ماهر .
وعلى الرغم من موقف مجلس النواب من مذكرة الوفد إلا أن الوفديين قد هزوا الرأي لعام هزة عنيفة وأيقظوه من سباته ولذا فقد كسبوا جميع الأراضي التي كانوا قد فقدوها عقب توقيع معاهدة 1936 ولما قيل لهم أنكم بهذه القرارات قد كسبتم الرأي العام في مصر ولكنكم قد تخسرون صداقة الانجليز قالوا وبلسان زعيم وفدي كبير : فقد كسبنا شيئا لم يكن كله موجودا وخسرنا شيئا لم يكن كله مضمونا .
تشير احدي التقارير الهامة إلى أن طلبة المدارس والجامعات كانوا أكثر قوي الشعب اهتماما بمذكرة الوفد حيث عقدت العديد من التجمعات الطلابية ودا النقاش حول الأسلوب الأمثل لمعارضة الوفد في موقفه وهتف الطلبة بسقوط الانجليز وسقوط المعاهدة .
على أية حال فإن موقف الوفد بتقديمه تلك المذكرة لم يكن خالصا لوجه الله الوطن وإنما قصد من هذا الموقف إحراج بريطانيا واستغلال الأوضاع العسكرية المتردية على الجبهة الغربية وكذلك سوء الأوضاع الداخلية في مصر لكي يثبت لبريطانيا أن الوفد هو القوة الوحيدة القادرة دوما على خدمة الخليفة وخصوصا وقت الشدائد والمهام الصعبة بدليل أن حكومة الوفد بعد أن ترأست البلاد في 4 فبراير 1942 لم تحاول أن تعيد تلك المطالب وإنما هادنت الاحتلال بصورة لم تشهدها مصر منذ توقيع المعاهدة .
ومع أن هذه المذكرة كما يقول أحد المؤرخين تعب بكل تأكيد عن نوع من اليقظة السياسية من جانب الوفد ألا أنها تعتبر سابقة خطيرة حيث أنها جعلت من – حق أى هيئة سياسية – أن تلجأ إلى السفير الذي يمثل الدولة المحتلة على اعتبار أنه صاحب الرأي النافذ والقول الصائب في كل ما يتعلق بقضايانا القومية والوطنية ومما يضاعف من اعتقادنا بأن الوفد قد لجأ إلى المناورة بهدف الوصول إلى السلطة أن تلك المذكرة لم تتعرض لمسألة إعلان الحرب على اعتبار أنه لو قالها في مذكرته فقد يغضب جمهرة الشعب وأن هو عارض اشتراك مصر في الحرب أغضب الانجليز فاختار طريق السلامة ولم يشر في تلك المذكرة إلى تلك المسألة الشائكة بكلمة واحدة وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن بقاء الوفد بعيدا عن الحكم سيضاعف من مشاكل بريطانيا ومن الأفضل وفقا لرأي السفير الأمريكي أن يعود الوفد إلى الحكم وإذا لم تعجل بريطانيا بتلك العودة فإن الأمور ستزداد تعقيدا أما عن موقف الحكومة البريطانية من مذكرة الوفد.
فلقد حمل الرد البريطاني على تلك المذكرة نوعا من الذكاء والبراعة في تحليل المواقف والإحداث حيث عكس الرد فهما أكيدا بأن المذكرة كانت مناورة من جانب الوفد بهدف إحراج بريطانيا في الظروف الدقيقة ومن جانب آخر فلقد حمل الرد البريطاني نوعا من إحراج النحاس بين القوي السياسية والشعبية باعتبار أن هذه المذكرة – تؤدي إلى تدخل بريطانيا في السياسة الداخلية المصرية .
ولعل بريطانيا قد قصدت إلى أن تفوت على النحاس فرصة الاستفادة من الموقف وكانت مقابلة لامبسون رئيس الوزراء المصري وتسليمه رد الحكومة البريطانية على مذكرة الوفد مما يؤكد أن بريطانيا قد قصدت إحراج الوفد أمام الرأي العام المصري وأمام الحكومة المصرية أيضا واعتراف واضح على أن الوفد لا يمثل الهيئة الرسمية التي تتعامل معها بريطانيا ويمكن القول على وجه العموم أن الرد البريطاني كان سلبيا وأنه في جملته يستند إلى أن مذكرة الوفد كانت تفتقر إلى العناصر النظامي والسند القانوني وإيمانا من بريطانيا بأهمية العلاقات المستقبلية مع الوفد فقد نوهت المذكرة البريطانية بأن الحكومة البريطانية يسرها أن يدرك زعماء مصر حقائق الموقف الدولي الحاضر وخطورة النتائج التي سوف تسفر عنها هذه الحروب القائمة وان الحكومة البريطانية تنتظر من أصدقائها قدرا كبيرا من التعاون والإخلاص في هذه المرحلة الحاسمة .
ووفقا لما جاء في الرد البريطاني فقد عقدت الهيئة الوفدية اجتماعا انتهي بإرسال مذكرة أخري لبريطانيا حرص الوفد على نفس المطالب التي ذكرها في مذكرته الأولي مبديا أسفه الشديد على تأويل القرارات بما لا يتفق مع م وضعت من أجله بل يناقضه وطالبت الهيئة الوفدية بتبليغ هذا الاحتجاج إلى وزير خارجية بريطانيا ؟
ويبدو أن النحاس قد وجد نفسه وقد تورط في تصعيد الموقف بما لا يتفق والهدف الذي كان يقصده لذا فقد زعمت بعض الدوائر السياسية – وهي ليست وفدية – أنه لما اجتمع السفير البريطاني مع النحاس ليتسلم الأخير رد الحكومة البريطانية قال السفير للنحاس باشا أنه يسمح لنفسه كصديق شخصي أن ينصح صديقه بالعدول عن هذا الموقف في الظروف الحاضرة وتزعم نفس الدوائر أيضا أن النحاس تمني لو استطاع العدول إلا أن الهيئة الوفدية قد قطعت شوطا يصعب التراجع عنه .
وبصرف النظر عن الدوافع التي كانت وراء هذه المطالب إلا أن الوفد قد أكد قدرته على الشغب وأحداث قدر كبير من القلق والاضطراب في العلاقات المصرية البريطانية ولا شك فقد انعكس هذا على الشارع المصري الذي تحرص بريطانيا على بقائه هادئا ضمانا لحماية ظهر القوات المحاربة وتحمل تقارير لامبسون عن هذه الفترة : أن الأحزاب السياسية تتباري في إظهار وطنيتها حتى تكسب أرضا جديدة على حساب الوفد في الوقت الذي يتمتع فيه الوفد بشعبية كاسحة ليس في مصر وحدها وإنما في العالم العربي كله ومن هنا فقد حرصت الحكومة البريطانية على إرضاء الوفد باعتباره الحزب الذي يحظي بشعبية كاسحة وأن أبعاده من الحكم لحساب الأحزاب التي تفتقر إلى قاعدة شعبية يتعارض مع مبدأ بريطانيا والتي تعلن دوما أنها تحارب من أجل الديمقراطيات في العالم كله بالإضافة إلى أن عودة الوفد تعني استقرار الشارع المصري وهو ما تحرص عليه الحكومة البريطانية ولذا فقد أعلن لامبسون صراحة : " بأن الوفد سيظل يمثل عامل شعب واضطراب ومن الأفضل عودته إلى الحكم .
ووفقا للمصالح البريطانية فقد درس السفير البريطاني الموقف المصري جيدا ووقف على اتجاهات الأحزاب ودسائس القصر واستطلع الرأي العام من كل جوانبه وتأكد من أن عودة الوفد تعني استقرار الأوضاع المصرية وان التطرف الوطني الذي مارسه الوفد وهو خارج الحكم يختلف تماما عن موقفه وهو في الحكم وفي نفس الوقت فإن الوفد لم يتردد في إعلان ارتباطه بقضية الديمقراطية مؤكدا على أن مصر تمد يدها للشعب الحليف ( بريطانيا ) وأن الشرف يقتضي مؤكدا من كل مصري أن يساعد الدولة الحليفة ويشد أزرها وأن تتجنب بوجه عام كل ما يمكن ان يؤخذ على أنه " طعنة في الظهر "
وما لبث الوفد أن تناسي مذكرة أبريل سنة 1940 وظل يعلن أن الوقوف بجانب الحليفة هو قضية مبدأ اقتنع بها الوفد وسيظل يدافع عنها على اعتبار أن معاهدة 1936 تحتم هذا الموقف الأخلاقي وهكذا خففت هذه السياسة من شكوك السفارة البريطانية كما جعلتها تأخذ في الاعتبار رغبات الشعب المصري والذي يميل إلى عودة الوفد وهكذا تمكن الوفد من أن يلعب بمهارة وأن يستغل الموقف البريطاني المتأزم أفضل استغلال ولذا فقد تداركت بريطانيا الموقف على اعتبار أن الحكومة التي لا تملك المساندة البرلمانية لن تستطيع أن تحكم بروح المعاهدة مع الوضع في الاعتبار بأن أى جهد يبذل في هذا الطريق لابد وأن يصطدم بمعارضة القصر ولن تستطيع أى حكومة بدون المساندة العصبية أن تحارب القصر ومعني هذا أن بريطانيا تريد حكومة تحد من نفوذ القصر سواء النفوذ الرسمي أو الشعبي في الوقت الذي كانت فيه وزارة حسين سري تتعرض لأكبر هجوم شنه الوفد على اعتبار أن الوزارة قد فشلت تماما في حل أى مشكلة بل تفاقمت المشاكل والحكومة عاجزة عن اتخاذ أى موقف .
وللحقيقة التاريخية نقول :" أن موقف الوفد من بريطانيا منذ قيام الحرب العالمية الثانية كان موقفا غير ثابت على الإطلاق ففي بعض الأحيان يعمد الوفد إلى أن يلقي بكل ثقله وراء الحليفة لتنتصر الديمقراطية وفي أحيان أخري يكون حرص الوفد على تحقيق الديمقراطية في العالم بانتصار بريطانيا وفرنسا كما أن موقف الوفد من الوزارات القومية التي تشترك فيها كل الأحزاب يكون متأرجحا مرة يقبل الوفد تشكيل تلك الوزارة ومرات أخري يرفضها مرة يمد يده لأحزاب الأقلية ومرات أخير يقبضها .
وهناك من يقول أن الوفد كان يقبل بفكرة الوزارة القومية عندما يشعر بضعف موقفه وعندما يكتشف أن الظروف تجري في غير صالحه أو عندما يتعب من البقاء في المعارضة وكان يرفض فكرة الوزارة القومية عندما يري ضعف بريطانيا في أوربا أو على الحدود الغربية .
إلا أن الوفد كان حريصا على أن يذكر بريطانيا بين حين وآخر بأن قضية الديمقراطية في مصر هي جزء من قضية الديمقراطية التي تدافع عنها بريطانيا وتحارب من أجلها في العالم كله مما سبب لبريطانيا كثيرا من المشاكل التي تمثلت في العديد من الاضطرابات والمظاهرات والعديد من مظاهر الاستياء العام .
ومزيدا من استغلال الموقف فقد تقدم الوفد – 2 يناير 1941 – بمذكرة إلى لملك فاروق استعرض فيها أثر الحرب على أحوال مصر الداخلية الخارجية وطالب بإجراء انتخابات لوضع الأمور في نصابها الصحيح من حيث الرجوع إلى الأمة باعتبارها مصدر السلطات انقاذا للبلاد من المصير المجهول .
وأعلنت الهيئة الوفدية عدة قرارات كان الهدف منها هو القضاء على الباقية من هيبة الوزارة وتمثلت هذه القرارات فيما يأتي :
أولا : أن الوفد لا يرتبط بأية نتائج أو مفاوضات تتخذها الوزارة الحاضرة ويكون فيها مساس بمصير البلاد واستقلالها أو حقوقها وأمنها .
ثانيا : ينسحب حضرات الشيوخ والنواب الوفديين من جلسات المجلسين ( النواب والشيوخ ) ولجانبهما إلى يوم 7 مايو 1941 – يوم انتهاء المدة الدستورية لعضوية الشيوخ المقترع على خروجهم – على أن يقدم استجواب أثر عودتهم يطالبون فيه بموقف لحكومة من المخالفات الدستورية التي قامت بها وعلى ضوء ما يسفر عنه هذا الاستجواب يحدد مركز الشيوخ والنواب في المجلسين ومن السهل أن يفسر هذا الموقف من الوفد على اعتبار أن الوفدين يعتبرون أنفسهم موكلين بالنيابة عن الشعب المصري وأن أى التزام من أى حكومة أخري يعتبر من وجهة نظرهم مخالفة صريحة للدستور من هنا نري أن الوفد لم يكن موضوعيا حيث حصل الحكومة أكثر من طاقاتها مستغلا بعض الأحداث التي هي بلا شك خارج مقدرة الحكومة فمثلا يحمل الوفد حملة عنيفة على الحكومة بسبب الغارات الجوية التي تقع على مدينة الإسكندرية ويحمل الحكومة المسئولية كاملة على الرغم من أن الوفد حينما عاد إلى الحكم في فبراير سنة 1942 لم يستطع أن يفعل شيئا أمام هذه المسألة بالذات بالرغم من أن القصف قد تضاعف وأصبح عدد الضحايا يعدون بالمئات في اليوم الواحد وهكذا عمل الوفد على الاستفادة من الظروف القائمة بانتهاز الفرص المناسبة التي أوجدتها الحرب ليجعل منها مناورة سياسية تقربه يوما بعد يوم من الحكم .
وفي الوقت الذي أدركت فيه بريطانيا أهمية عودة الوفد كان القصر وأعوانه يقومون بسياستهم المعهودة وهي محاولة النيل من سمعة الحلفاء عن طريق الإشاعات التي كانت تتردد ومنها أن الحرب ما هي إلا مشكلة وقت فقط وأن النصر في جانب المحو لا محالة .
وعلى ما يبدو فقد كان هناك ما يدعو إلى كثرة الإشاعات وتضخميها وخصوصا فيما يتعلق بمعنويات الجيش البريطاني في مصر حيث يذكر أحد المعاصرين قائلا :" لقد كانت قيادة الجيش البريطاني في يد الجنرال ( رئتش) والذي كان يدير المعركة بالتليفون تارة من القاهرة وتارة من الإسكندرية وإلى جواره صديقته المصرية الحسناء) يضيف صاحب هذه الرواية " لقد اشتري أحد الفلاحين في مركز منيا القمح مدفعا رشاشا من الجنود البريطانيين وأن مصطفى أمين كان يسير في الشارع بينما أحد الجنود الهنود يدفع أمامه فردتي " كاوتش" للسيارة وقد عرضهما عليه بدولارين اثنين وأن حسين أو أبو الفتح ذكر أن بعض الضباط البريطانيين أبدي استعداده لأن يورد له أى عدد يشاء من سيارات الجيش البريطاني بسعر مائتي جنيه للسيارة الواحدة .
وعلى الرغم من المبالغة في رواية الرواه إلا أن هذا يعطي مؤشرات أكيدة على أن معنويات الجيش البريطاني كانت هابطة لدرجة كبيرة وخصوصا بعد الانتصارات الكاسحة التي كان يحرزها الألمان على جبهات القتال مما حمل وزير الحربية البريطانية إلى الحضور إلى مصر وقابل معظم الزعماء المصريين واحدا بعد الآخر وخرج من مقابلاته إلى أن الملك فاروق هو سبب كل المشاكل في مصر وبشهادة كل من قابلهم من الزعماء .
ولقد اقتنعت الحكومة البريطانية بنتيجة واحدة وهي – طرد الملك فاروق – ويضيف السفير البريطاني قائلا : ما دام هذا الغلام جالسا على العرش فإننا لن نلقي تعاونا حقيقيا وسيبقي لدينا الإحساس بأنه متى ساءت الأحوال فإننا سنطعن من الخلف .
وأمام هذا الكم الهائل من المشاكل أبدي حسين سري رئيس الوزراء ) عزمه على الاستقالة حيث أعلن صراحة بأن الموقف يقتض قيام وزارة قومية تضم كل الأحزاب ويرأسها النحاس باشا وأبدي الأحرار الدستوريون موافقتهم تفاديا لأي خطر يمس سيادة البلاد أبدي النحاس باشا موافقته حينما فوتح في الأم بل أنه قبله مسرورا ويضيف إبراهيم عبد الهادي – عضو مجلس الوزراء – أن السفير البريطاني قد فاتح حسين سري بضرورة عودة الوفد وهذا ما يؤكده الدكتور هيكل في مذكراته أيضا .
واضطراب الجو السياسي عرف الناس حقيقة ما يجري وراء الستار وما أسهل إثارة الاضطرابات والمظاهرات في القاهرة والتي تنادي بسقوط الوزارة وشجعت أنباء الحرب وتقدم الألمان في أرض مصر على خلق جو ملائم لعناصر الاضطراب حيث قامت المظاهرات ترفع شعارات عدائية ضد انجلترا وذهب بعضها إلى السفارة البريطانية يسبون الانجليز بألفاظ مهينة – تقدم يا روميل – إلى الأمام يا روميل – ولم يكتفوا بترديدها بالعربية بل كانوا يقولونها بالانجليزية أيضا .
ومن المرجح أن السفير البريطاني لم يكن خالص النية في معالجة تلك الأزمة ويبدو أنه بإصراره على عودة الوفد إلى الحكم كان يرمي إلى رد الاعتبار إلى نفسه في نظر حكومته إذ كان وزير الخارجية مستر " ايدن" قد وجه إليه نوعا من اللوم لفشله في الوساطة بين الوفد والقصر سنة 1937 وهي الأزمة التي انتهت بإقالة النحاس باشا في ديسمبر من نفس العام .
والعجيب أن تقف وزارة حسين سري موقفا سلبيا من المظاهرات التي اندلعت لتشمل القاهرة كلها والحرب قائمة والأحكام العرفية معلنة ولم تحرك ساكنا وكان بإمكانها تفريق هذه المظاهرات وهذا ما لم يحدث مما يجعلنا نشك في أن حسين سري كان ضليعا في مؤامرة اتفق عليها مع الانجليز حتى يبرروا ما هم مقدمون عليه في مساء 4 فبراير وتشير مراسلات السفير البريطاني إلى حكومته أثناء تفاقم تلك المظاهرات إلى رغبة السفير في استغلال الموقف والتدخل في الوقت المناسب بهدف عزل الملك وفرض حكومة الوفد .
ويضيف أحد المعاصرين في محاولة لإلقاء اللوم على الوفد باعتباره كان ضليعا في تلك المظاهرات فيقول : " أن الجماهير التي كانت تهتف إلى الأمام يا روميل انقلبت لتحيي الوزارة الجديدة وتظهر من الابتهاج بولايتها الحكم ما أثار عجب الأجانب وإعجاب السفير لبريطاني والجالية البريطانية بأسرها فقد دلت مظاهرات الابتهاج هذه على أن للوفد من القدرة على توجيه المظاهرات ما مكنه من أن يقلب المأساة عيدا وأن يحول التيار المتدفق المعادي لانجلترا فيجعله بين عشية وضحاها تيارا متدفقا يظاهر انجلترا ويناصرها .
والسؤال الذي يفرض نفسه عند معالجتنا لتلك القضية الهامة لماذا وقع اختيار بريطانيا على الوفد بالذات ؟..
تؤكد كل المصادر الهامة بما فيها زعماء الوفد أنفسهم أن الملك فاروق قد حاول في أواخر حكومة سري الاتصال بالوفد بهدف تأليف وزارة ائتلافية أو قومية يرأسها النحاس وبالفعل فقد أبدي الوفد موافقته على الفكرة ورحب بها فإذ كان القصر يحرص على مبدأ التضامن مع الوفد معني هذا أن كل القوي السياسية في مصر أصبحت موالية للملك فاروق لأن كل أحزاب الأقلية كانت تدور في فلك القصر – من هنا فقد حرصت بريطانيا على فصم كل رابطة بين الوفد والقصر فلا يستطيع الوفد أن يصل إلى الحكم مهما كانت شعبيته إلا بواسطة الانجليز وتضيف الوثائق البريطانية – أن لامبسون قد بذل قدرا كبيرا من الجهد في محاولة لعدم تمكن الوفد من العودة إلى الحكم عن طريق القصر حتى لا يتحول الوفد إلى أداة تدور في فلك القصر مما يضاعف من حجم المشاكل التي تواجهها بريطانيا .
أما بريطانيا فقد كانت تحرص جيدا على عودة الوفد وبطريقتها الخاصة الأمر الذي يعني ارتباط الوفد بها وليس بالقصر ويبدو أن هذه القضية كانت تحكمها عدة اعتبارات استراتيجية هامة من أهمها:-
أولا : الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها الوفد بخلاف غيره من الأحزاب الأخرى وهذا يؤهل الوفد للقيام بأدق الأمور وأخطرها اعتقادا بأن أى معارضة لن تكون لها أهمية طالما بقي الوفد في الحكم .
ثانيا : أن التدخل البريطاني بهدف فرض حكومة وفدية سيقطع خط الرجعة بين القصر والوفد وهو ما تحرص عليه بريطانيا وفقا لمخططها الاستراتيجي.
ثالثا : أن اختيار الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة لتمثيل الدور الذي أعدته بريطانيا لتنقذه في 4 فبراير لم يكن بهدف المصلحة العامة للوفد بقدر ما كانت تهدف إليه بريطانيا من أن هذا الموقف سيكون بداية النهاية الشعبية الكبيرة التي يحظي بها الوفد وهذا ما تحقق بالفعل .
رابعا : لقد كان هذا الاختيار – ومن وجهة النظر البريطانية تدعيما لفكرة الديمقراطية حيث أن عودة الوفد أمر تقره الديمقراطيات التي تحارب بريطانيا من أجلها كما أن هذا التصرف سيحظي بتأييد حلفاء بريطانيا الذين يحاربون دفاعا عن الديمقراطية .
وهكذا تجمعت العديد من الأسباب لتخلق ما يسمي بحادث 4 فبراير سنة 1942م.
قطع العلاقات المصرية مع حكومة فيشي
لم تعد حكومة حسين سري موضع ثقة الملك فاروق بسبب أزمة حكومة فيشي فقد طلبت بريطانيا من حسين سري قطع علاقات مصر بحكومة فيشي التي قامت أثر انهيار الجمهورية الفرنسية الثالثة وتقسيم فرنسا إلى شطرين شطر احتله الألمان وفيه باريس وشطر يخضع لحكومة بيتان وعاصمة فيشي وكان طبيعيا أن تكون حكومة فيشي موالية للمحور وعلى أثر ذلك انقسم الفرنسيون إلى فريقين جماعة ديجول الذي فر إلى لندن ليقود حركة " فرنسا الحرة , وجماعة فرنسية أخري مؤيدة لحكومة فيشي وتتبعها سلطات فرنسية في بعض مناطق الشرق العربي سوريا ولبنان – وفي 6 يناير 1942 أقدمت وزارة حسين سري على قطع العلاقات مع حكومة فيشي بناء على طلب تقدم به السفير البريطاني ولقد ترتب على تعيين الجنرال " كاترو" " مندوبا عاما للجنرال " ديجول" في أواخر نوفمبر سنة 1940 قيام تمثيليين متناقضين لفرنسا في مصر أحدهما يرأسه جان بوتسي يمثل حكومة فيشي المتعاونة مع ألمانيا وكان على صلة وثيقة بدوائر القصر والآخر يرأسها " كاتور " ويمثل ديجول وتسانده الحكومة البريطانية ومن ثم كان من الطبيعي أن تضغط بريطانيا على حكومة حسين سري لقطع العلاقات لمصرية مع حكومة فيشي .
وبناء على رغبة الحكومة البريطانية فقد اجتمع مجلس الوزراء المصري في 5 يناير سنة 1942 لمناقشة قطع العلاقات مع فيشي واعترض مصطفى عبد الرازق من الدراسة على اعتبار أن أهمية الموضوع تقتضي مزيدا من التأني أما الدكتور هيكل وزير المعارف فقد طلب التريث حرصا على مستقبل الطلاب المصريين الذين يدرسون في فرنسا إلا أن رئيس الوزراء أصر على طرح الموضوع للتصويت ويصف الدكتور هيكل الموقف بقوله " لقد تولتني الدهشة حين رأيت جميع الوزراء يوافقون على قطع لعلاقات مع فيشي وقد امتنعت وامتنع مصطفى عبد الرازق عن التصويت .
ومن الواضح أن رئيس الوزراء قد أقدم على هذه الخطوة باتفاق مع السفير البريطاني وباتفاق سابق أيضا مع غالبية أعضاء مجلس الوزراء ولذا فقد أحدث هذا القرار دويا هائلا واندلعت الأزمة لأن القرار السابق قد اتخذ في غيبة الملك فاروق الذي كان يقوم برحلة على ساحل البحر الأحمر وما أن عاد حتي سعي علي ماهر ورجاله إلى تصوير الموقف له على اعتبار أن الوزارة قد تجاوزت اختصاصها وتعدت على حقوق الملك التي اقرها الدستور والقانون باعتبار أن السفير هو نائب الملك الأمر الذي دعا الملك فاروق إلى استدعاء رئيس الوزراء ووزير الخارجية ( صليب سامي ) وعنفهما تعنيفا شديدا وفي اليوم الثاني صدرت الأوامر لوزير الخارجية بأن يلزم داره .
ويلاحظ أن ما أقدمت عليه الحكومة يعد تجاوزا خطيرا في العلاقات مع القصر وخصوصا وأن التقاليد المتبعة كانت تقضي بأن يرسل إلى القصر صورة من الموضوعات التي ستعرض على مجلس الوزراء قبل انعقاده بوقت كاف إلا أن هذا الموضوع الخطير قد اسقط من " الرول " الذي أرسل إلى القصر وهذا يؤكد تواطؤ حسين سري مع الانجليز في هذا الأمر في وقت كانت فيه الحكومة تترنح من الأزمات الاقتصادية الخطيرة التي وصلت إلى حد أن الناس كانوا يختطفون الخبز في الشوارع وعجزت الحكومة عن وضع حلول سريعة لكثير من المشاكل التي بدت وكأنها معقدة ثم ما كان من الهجمات التي يشنها الوفديون وأحزاب الأقلية ضد لوزارة فلم يكن من المعقول والموقف هكذا أن تقدم الحكومة على اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة إلا إذا كان هناك اتفاق مبيت بين سري باشا والسفير البريطاني على اعتبار أن هذا الموضوع سيكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وأنه سيعجل بالمواجهة المباشرة بين السفير والملك فاروق وتصفية كافة الحسابات القديمة .
ويعلق أحد أعضاء مجلس الوزراء بقوله : لم أتوقع أن يكون لهذا القرار من الآثار العميقة والبعيدة بعض ما حدث ولم يخف على أحد أن انجلترا هي التي أصرت عليه .
وعقب عودة الملك من رحلته في الصحراء والبحر الأحمر – بعد ثلاثة أيام – إذ نشرت الصحف أن صليب سامي وزير الخارجية اعتكف في منزله لوعكة صحية .
ولا غرابة أن يكون الموضوع الرئيسي في الصحف المصرية في تلك الأيام هو قطع العلاقات مع فرنسا نظرا للعلاقات الثقافية الوطيدة التي كانت تربط مصر بفرنسا ولقد أحدث هذا الموقف دويا داخل البرلمان المصري حيث تقدم عدد كبير من أعضاء مجلس النواب باستجوابات إلى الحكومة تحمل نوعا من الاستنكار الشديد وعجزت الحكومة المصرية عن إيجاد رد مقنع لتساؤلات الأعضاء مما دعا وزير الخارجية إلى تأجيل مناقشة الموضوع بعد أسبوعين أو ثلاثة مما دفع بعض الأعضاء إلى القول :" أنا لا أفهم معني لتأجيل الإجابة فهل عندما أوقفت العلاقات فعلا وصدر قرار الحكومة بذلك لم تكن قد تجمعت لدي الجهات المسئولة أسباب الوقف "
ونظرا لأن قرار الحكومة قد قوبل بموجة من الاستنكار داخل مجلس النواب فقد اقترح وزير الخارجية – صليب سامي – أن يناقش الموضوع أمام لجنة الشئون الخارجية باعتبارها جهة الاختصاص في الأمر وقد قوبل هذا الرأي بعاصفة من الرفض على اعتبار أن هذا يعد تقليدا جديدا في الحياة البرلمانية المصرية. ووفقا لمحاضر مجلسي النواب والشيوخ فإن تأجيل أحد الاستجوابات قد يكون بسبب حاجة الحكومة إلى بعض بيانات يطلبها المجلس أو غيرها من المعلومات التي يصعب على الحكومة الإجابة عنها في الحال أما الموقف هذه المرة والحكومة تعلم كل الظروف والملابسات التي دعت إلى قطع لعلاقات مع فيشي ولذا يمكننا القول : أن موقف صليب سامي وزير - الخارجية – كان نوعا من المراوغة والاستفادة بعامل الوقت حتى يتأكد من مصير الوزارة التي بدا مؤكدا أنها على وشك الاستقالة .
وعلى الرغم مما لجأت إليه الحكومة من إصدار بيان في 8 يناير سنة 1941 ذكرت فيه : أن الحكومة البريطانية تلقت أنباء خطيرة دفعتها إلى المطالبة باتخاذ قرار سريع من الحكومة المصرية حول هذا الموضوع إلا أن وقع هذا القرار على المصريين كان سيئا نظرا للعلاقات التاريخية التي تربط مصر بفرنسا ولأن غالبية الساسة المصريين كان سيئا نظرا للعلاقات التاريخية التي تربط مصر بفرنسا ولأن غالبية الساسة المصريين كانوا متشبعين بالثقافة الفرنسية ولذا فإننا نرجع عدم موافقة الدكتور هيكل لهذا السبب وكذلك كان لبوتسي الوزير المفوض من قبل حكومة فيتشي – والذي كان يمثل الجمهورية الفرنسية الثالثة قبل سقوطها – صلات واسعة جدا بالساسة المصريين وصلات اجتماعية بالارستقراطية المصرية كما كان مقربا إلى حد بعيد من فاروق .
وعرف البريطانيون ما حدث مع وزير الخارجية – صليب سامي – واعتبروه عملا غير ودي وأبلغوا رأيهم إلى سري باشا الذي شعر بجسامة التبعة الملقاة على عاتقه وتذكر ما حدث من قبل لشاه إيران رضا بهلوي وخشي أن تفاجأ مصر بمثل هذه المفاجأة التعسفية وهو رئيس وزرائها ولقد أفضي سري باشا بكل هذه المخاوف إلى الملك وأشار عليه بقبول الأمر الواقع إلا أن الملك قد تمسك بموقفه من ضرورة إقالة صليب سامي وبينما كان حسين سري ير ي أن إقالة وزير الخارجية بسبب قرار مسئول عنه هو أيضا لابد وأن يصاحبه استقالة الوزارة والسفارة البريطانية تري أن إجراء قد اتخذ بناء على طلبها لا يجز تحديه من جانب القصر على اعتبار أن استقالة الوزارة لهذا السبب سيدفع الانجليز مباشرة إلى المواجهة الفعلية مع الملك فاروق باعتبارهم طرفا من أطراف الأزمة .
وفي محاولة من بريطانيا لاستثمار الموقف بهدف حسم الصراع الدائر بين القصر والانجليز فقد بالغ الانجليز في طلباتهم من حيث طرد جميع الايطاليين الذين يعملون في القصر وكل أذناب علي ماهر.
وأمام استعمال العصا الغليظة فقد تراجع الملك فاروق وطلب من أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) التوسط لدي البريطانيين حتى يتنازلوا عن مطالبهم بشأن استعداد من طلبوا استبعاده من القصر مقابل أن يبقي وزير الخارجية في منصبه وبينما الأزمة في طريقها إلى الانتهاء إذا بقوات روميل قد نجحت في إحراز انتصار كبير في الصحراء الغربية وتقدمت صوب مصر وبدأ أن القوات الألمانية لن يعوقها عائق أمام هدفها الكبير وهو سحق القوات البريطانية واحتلال مصر ومن هنا فقد اضطربت الحياة في مصر وانطلقت المظاهرات تنادي نداءات عدائية ضد الانجليز من القاهرة امتدت لتشمل باقي المدن الكبرى كالإسكندرية وطنطا وغيرهم وفي الوقت نفسه انفتح باب الأمل أمام الانجليز حيث أعلن هتلر قراره الذي أحدث دويا عالميا وهو إعلان الحرب على روسيا .
وقد ابتهج الحلفاء حيث أن فتح جبهة جديدة تحارب فيها ألمانيا من شأنه أن يخفف الضغط على قوات انجلترا وفرنسا في مصر ولذا فإنني اعتقد أن القرار الألماني بغزو الاتحاد السوفيتي يعد المقدمات المباشرة لحادث 4 فبراير 1942 فلقد كان قطاع كبير من المصريين ومن ورائهم القصر يعتقدون أن هزيمة السوفيت ستؤدي إلى اضطراب موقف بريطانيا كله في الشرق الأوسط وسينتهي بانسحابها تماما من المنطقة .
إلا أن الانتصارات الكاسحة التي أحرزها السوفيت قد أثارت قلقا كبيرا خشية انتصار التحالف السوفيتي الانجليزي لذلك لم يكن غريبا أن يعلن إسماعيل صدقي باشا أن ايطاليا تهاجم مصر لا بقصد غزوها ولكن لأن بريطانيا تحتلها وهكذا اندفعت مصر لكي تكون جزءا من الصراع الدائر بين القوي الكبرى في الوقت الذي كان الألمان ينتصرون في الجبهة السوفيتية كما تضاعفت قوة الألمان في ليبيا وكذلك دخول اليابان الحرب في ديسمبر 1941 بهجومهم المفاجئ على بيرل هاربر كل هذه الانتصارات من جانب المحور دفعت بريطانيا لكي تجعل من مصر " القاعدة الرئيسية " في الموقف وهذا لن يتحقق ما بقي القصر يلعب بمشاعر الحلفاء وعلى الرغم من أن جذور الصراع بين القصر والانجليز يمتد لسنوات طويلة إلا أن تردي الأوضاع العسكرية لقوات الحلفاء وعلى كل الجبهات قد دفع بريطانيا إلى الموقف الذي يمثل مصالحها الفعلية على اعتبار أن عودة الوفد وخلع فاروق كفيلان باستقرار الأوضاع المصرية وأيقن سري باشا أن لا مفر من أن يستقيل بعد أن فقد ثقة البرلمان وثقة فاروق أيضا كما أن الانجليز أنفسهم على الرغم من صداقتهم لسري باشا إلا أنهم قد أيقنوا جيدا أن حكومة سري قد أصبحت عاجزة تماما عن مواجهة الموقف .
والحقيقة أن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الملك فاروق كان يهدف إلى بقاء الموقف برمته كما هو نظرا للظروف العسكرية غير المرجحة لكنه الحلفاء في الصحراء الغربية حتى إذا ما تمكن روميل من أن يخترق وادي النيل فإن فاروقا يمكنه الاحتفاظ بعلي ماهر لكي يتولي رئاسة الحكومة ويكون قادرا على التافهم مع المحور بعكس أى شخص آخر نظرا لما عرف عن علي ماهر من خلافات مستمرة مع الانجليز لم تكن خافية على الألمان أو الايطاليين .
وهكذا تفاقمت الأزمة وتعددت أسبابها في الوقت الذي يقوم فيه لامبسون بتسجيل كل الأحداث أولا بأول ويبعث بها إلى حكومته ونظرا لتصاعد الموقف بشكل ينذر بالمخاطر فقد طلب من حكومته أن تعطيه تفويضا كاملا لحسم الموقف مع الملك فاروق وأدرك أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي ) خطورة الموقف وفي محاولة منه لتهدئة المشاعر الملتهبة تقديرا لما يحيق بالعرش من أخطار فقد حاول إقناع لامبسون بترك وزير الخارجية " صليب سامي " يخرج من الوزارة من أجل الصالح العام ويحاول إقناع السفير بأن مصر كلها وراء الملك الذي يحظي بشعبية كبيرة إلا أن السفير يرفض التضحية بوزير الخارجية بسبب إجراء قام به تنفيذا لقرار من مجلس الوزراء المصري وبناء على طلب من بريطانيا ولهذا أعلن السفير : أننا سنقف وراء صليب سامي حتى ولو تخلي عنه رئيس الوزراء .
وهكذا تجمعت العديد من الأسباب التي دفعت حسين سري إلى تقديم استقالته . ووفقا للوثائق البريطانية فإن لامبسون قد أدرك أهمية استقالة سري باشا ويعلق لامبسون على هذا لموقف قائلا : " لقد طلبت من سري باشا أن يرشح بعض الأسماء التي تصلح لمنصب رئيس الحكومة إلا أنه اقترح أسماء مثل : بركات باشا أحمد ماهر باشا أو الدكتور هيكل باشا إلا أنني أعرف أن هذه الأسماء غير مناسبة لسبب أو لأخر ولذا فإن عودة الوفد أصبحت ضرورة تحتمها مصالحنا العليا .
وتشير الوثائق الأمريكية إلى مسئولية حسين سري عن تازم الموقف بين فاروق والسفير البريطاني ففي الوقت الذي كانت تبذل فيه العديد من المحاولات لحل مشكلة " فيشي" كان رئيس الوزراء المصري يقوم بمحاولات مكثفة لدفع بريطانيا إلى تأديب الملك فاروق وتضيف نفس المصادر " لقد حاولنا إقناع السفارة البريطانية بخطورة المضي في هذا الطريق الذي يتناقض تماما مع مشاعر المصريين ولكنه يبدو أننا لم نحقق أى هدف ووفقا لهذه الحقيقة فإن الوثائق البريطانية تؤكد أن حسين سري كان على علم بتطور الأحداث ولم يخف كراهيته الشديدة لفاروق وكان من رأيه دائما – تأديب الولد – الذي يلعب بالنار على حد تعبيره .
ولما كان لامبسون قد بعث إلى حكومته يطلب تفويضا في حسم الموقف فقد وافقت الحكومة البريطانية على تطور الأحداث أولا بأول وتمضي رسائل لامبسون إلى حكومته حول أهمية عودة الوفد وفي احدي البرقيات يقول السفير : " قابلت حسنين باشا وقال : إن هناك محاولات تجري لتشكيل وزارة قومية ولما كان هناك خطر واضح من أن نواجه بوزارة يرأسها مرشح ل]]علي ماهر[[ فلقد عقدت اجتماعا لمناقشة الموقف برمته وحضره وزير الدولة لشئون الشرق الأوسط والقائد العام للجيوش البريطانية في المنطقة وتردد بوضوح في هذا الاجتماع أن الأزمة الحالية قد أيدت بواسطة العناصر المعادية لبريطانيا لاستغلال مصاعبنا الحالية في الشرق الأقصى وفي ليبيا وأننا إذا أخفقنا في إظهار الشدة فقد تحدث مخاطر أخري وأوضح القائد العام للشرق الأوسط أنه يفضل تجنب حدوث مواقف قد تؤدي إلى اضطرابات عامة وقد يتحرك الجيش المصري لحماية الملك وقد قمت من جانبي بالرد على هذه لمخاوف بحكم معرفتي بالأحوال العامة .. وتم الاتفاق على أن أقابل الملك فاروق في الواحدة بعد ظهر اليوم ( 2 فبراير 1942) وأبلغه بالأتي :
1- يجب أن تقوم وزارة تحرص على الولاء للمعاهدة وتقدر على تنفيذها نصا وروحا .
2- أن تكون وزارة قوية وقادرة على الحكم وتحظي بتأييد شعبي كافي .
3- أن هذا يعني الإرسال في طلب النحاس باشا بصفته زعيما لحزب الأغلبية والتشاور معه بقصد تشكيل الوزارة .
4- يجب أن يتم ذلك في موعدا أقصاه ظهر غد.
5- أن الملك سيكون مسئولا بصفته الشخصية عن أى اضطرابات قد تحدث خلال ذلك .
وفي خلال الواحدة من بعد ظهر 2 فبراير 1942 توجه لامبسون إلى الملك فاروق وشرح له أنه بصفته ممثلا للحلفاء في مصر فمن الضروري ألا يعين خلفا لسري باشا لا تكون له المؤهلات المشروطة للوفاء بالتزامات المعاهدة ووافق الملك على عودة النحاس باشا ليتولي وزارة قومية باعتباره زعيما للأغلبية وبخصوص الاضطرابات داخل العاصمة فقد أظهر الملك موافقته على عدم أحدا ث أى نوع من التظاهر وأكد السفير أن غدا - 3 فبراير – هو آخر موعد لدعوة النحاس باشا .
ولعل وجهة نظر الملك فاروق والتي أبداها دون تحفظ هو استدعاء النحاس لتشكيل وزارة قومية حيث كان الملك يعتقد أن النحاس لن يرفض هذا العرض على أساس التحسن الذي كان قد بدأ في العلاقات بينهما .
وأعتقد بعض رجالات القصر ( أحمد حسنين ) بضرورة التمهيد لتأليف هذه الوزارة القومية انتقالية على أساس أن الوفد سيكتسح كل الأحزاب الأخرى في الانتخابات مما قد يترتب عليه عدم قيام معارضة قوية بمثابة " فرملة " متي تشكلت الوزارة في آخر الأمر .
وبينما كانت الاتصالات قائمة بين القصر والسفير البريطاني بخصوص عودة الوفد كانت نفس الاتصالات قائمة بين السفارة البريطانية والنحاس باشا بواسطة أمين عثمان لنفس الهدف مع فاروق بسيط وهو أن الانجليز عرضوا على النحاس تشكيل وزارة وفدية خالصة وأصبح الوفد أمام خيارين أما أن يقبل حكومة قومية وفقا لرغبة القصير أو يقبل حكومة وفدية لحما ودما وفقا لرغبة الانجليز واختار النحاس وجهة النظر البريطانية التي كلفت مصر ثمنا غاليا من استقلالها وكرامتها وكلفت الوفد نفسه ثمنا باهظا من شعبيته وتاريخه الوطني الطويل .
وبني الوفد رفضه لفكرة الوزارة القومية أو الائتلافية على عدة اعتبارات :
أولها : أن الشعب المصري قد فقد ثقته في حكومات الأقلية وإذا قبل الوفد الارتباط بهذه الحكومات فسوف يفقد ثقة الشغب.
ثانيهما : ما كان يعرفه الوفد جيدا من الدسائس التي سيحدثها القصر ومدي ما يمكن أن يقدم عليه من إقالة الحكومة بحجة تصدع الائتلاف .
ولذا فقد فرضت وجهة النظر البريطانية نفسها على الأحداث وأعطت بريطانيا لنفسها الحق في تنفيذها بقوة السلاح وتحولت القضية إلى تصفية حسابات قديمة بين القصر والسفارة حيث اعتبرت بريطانيا أن إقامة حكومة قومية يعد انتصارا لصالح القصر وهذا ما ترفضه بريطانيا تماما .
ويلاحظ أن الملك فاروق كان تحريضا على تجاوز هذه الأزمة وعدم الاصطدام مع الانجليز أكثر من ذلك إلا أن السفير قد اعتبرها فرصته التي يستطيع من خلالها أن يحجم من دور القصر حتى لا يعاود أعماله العدوانية ضد بريطانيا مرة أخري حتى لو كان الثمن هو عزل الملك نهائيا وفي الوقت نفسه فإن عودة الوفد بهذا الشكل يحمل بعض الاعتبارات التي حرصت بريطانيا على إقراراها ومن بينها :
أولا : ضمان عدم قيام أى نوع من التعاون بين القصر والوفد مما يضاعف من حجم التدخل البريطاني .
ثانيا : إطلاق يد الوفد في كبح جماح القصر إذا ما ثبت أنه غير متعاون مع الحليفة .
ثالثا: لقد حرصت بريطانيا على أن يتعهد النحاس باشا بأن يقف مع الحليفة وأن يرجئ كل مطالبة إلى ما بعد الحرب .
وهكذا تفاقمت عوامل الصراع بين القصر والانجليز في الوقت الذي تمكنت فيه الدسائس البريطانية من استقطاب حزب الوفد سواء بقصد أو بغير قصد وقبل أن ننتهي من هذا الفصل يمكننا أن نسجل عدة نتائج يمكن استخلاصها من الدراسة السابقة وتعتبر جميعها تمهيدا لحادث 4 فبراير 1942:-
أولا : انعدام الثقة بين بريطانيا والملك فاروق وهذا ما أشارت الوثائق البريطانية في أكثر من وضع .
ثانيا : تأسيسا على الحقيقة الأولي فقد رغبت بريطانيا من خلال أحداث الحرب في التخلص من فاروق على اعتبار أن مصر لن تتحول إلى قاعدة أساسية لخدمة الحلفاء ما دام الملك على عرشه .
ثالثا : لقد أدركت بريطانيا ضعف حكومات أحزاب الأقلية التي تعاقبت على الحكم منذ إقالة الوفد سنة 1973 على الرغم من تعاونها الكامل إلا أنها افتقدت دائما إلى قاعدة شعبية وظل مركزها دائما ضعيفا على اعتبار أن حكومة لا تملك التأييد الشعبي لن تستطيع أن تحكم بروح المعاهدة المصرية الانجليزية اعتمادا على الحقيقة القائلة بأن أى جهد يبذل في هذا السبيل لابد وأن يصدم بمعارضة القصر ولن تتمكن أى حكومة بدون التأييد الشعبي أن تحارب القصر .
رابعا : إن أحدي عناصر الصراع بين الانجليز والقصر كان قائما على أساس أيهما يستطيع أن يتضامن مع الوفد وبدت القضية وكنها تسابق مع الزمن وكلما تفاقم الوضع العسكري لبريطانيا كلما ضاعفت من جهودها لعودة الوفد وعلى ضوء الدراسة السابقة فإن قضية عودة الوفد كانت تمثل المطلب الأول في العلاقات المصرية البريطانية منذ نشوب الحرب العالمية الثانية .
وهكذا تجمعت العديد من الأسباب لتخلق في النهاية مأساة 4 فبراير 1942 والتي تركت أثارا كبيرة على تاريخ مصر السياسي والاقتصادي ليس فقط إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وإنما إلى قيام ثورة 23 يوليو 1952م.
الفصل الثاني : وقائع 4 فبراير
شكل التدخل البريطاني
فكرت بريطانيا في عزل الملك فاروق أكثر من مرة كان أولها سنة 1937 (ديسمبر) حين أقدم على إقالة حكومة الوفد دون أخذ رأي السفير البريطاني وكان الأخير قد بذل جهدا في محاولة الإقناع فاروق بعدم على مثل ذلك التصرفات التي تناقض مبدأ الديمقراطية على اعتبار أن حزب الوفد هو القوة السياسية التي تحظي بالأغلبية البرلمانية وكان فشل السفير في تلك المهمة موضع لوم من حكومته وقد ترددت في تلك الأزمة فكرة تنحية الملك فاروق عن عرش مصر ولكن انطوني أيدن وزير خارجية بريطانيا لم يوافق على تلك الفكرة بحجة أن الظروف الدولية لا تشجع على الإقدام على مثل هذا النوع من التدخل .
ثم تجددت نفس الفكرة في سبتمبر 1939 حين تأكد السفير ( طبقا لما يقوله) أن هناك عناصر في القصر تميل نحو الألمان وأن الملك فاروق يشجع هذا الاتجاه وأن مصلحة الحرب تقتضي بإخراج علي ماهر من الحكم فإذا عارض فاروق وجب أن يعتزل العرش ثم عادت الأزمة مرة أخري إلى الظهور في يونيه 1940 حين دخلت ايطاليا الحرب ويومئذ اقترح السفير على حكومته تغيير الوزارة فإن عارض الملك فعليه أن يتخلي عن العرش ووجه السفير إنذارا إلى الملك بضرورة استدعاء النحاس والعمل بمشورته ووافقت حكومة لندن على تنازل فاروق عن العرش بقاء على اقتراحات لامبسون أن فاروق قد أحس بخطورة الموقف بناء على نصائح كبار مستشاريه واستدعي النحاس باشا لكن ليس من أجل عودة الوفد وإنما لكي يشاوره في الموقف عموما وأخذ الترضية المناسبة على حكومة حسن صبري وقد أشار السفير البريطاني في نهاية تقييمه للأزمة بقوله " قد تخرج من الأزمة الحالية دون حاجة إلى تغيير الملك ولكني أشك كثيرا في أنه سيبقي طويلا .
وهكذا فإن التفكير في عزل فاروق وفرض وزارة مصرية معينة وزعيم مصري معين ليتولي الحكم كان موضع تفكير واهتمام دائمين من جانب لحكومة البريطانية ومن ثم يمكن القول أن حادث 4 فبراير 1942 لم يكن نتيجة قرار سياسة اتخذت فجأة وتحت ضغط الأحداث الخطيرة وإنما كان الفصل الأخير أو الخاتمة لساسة مر سومة كان قد بدأ تنفيذها وهكذا تحققت مشورة لامبسون والتي تقدم بها إلى حكومته في يونيه سنة 1940 وهي أن تتولي الحكم وزارة يؤيدها الوفد وكان الاعتقاد السائد – كما يقول بعض المعاصرين – أن الدوائر البريطانية تري أن النحاس باشا هو وحده الزعيم الشعبي القادر على تحويل الدفة – دفة عواطف الشعب – من الاتجاه إلى ألمانيا إلى الاتجاه نحو بريطانيا وحلفائها وتعد استقالة حسين سري – 2 فبراير 1942 – والتي قدمها بناء على طلب بريطانيا من بداية لمرحلة خطيرة وفاضلة في تاريخ مصر السياسي حيث اتصل السفير البريطاني ( لامبسون ) برئيس الديوان الملكي ( أحمد باشا حسنين) وابلغه أن الحكومة البريطانية تحرص على أن تعرف اسم من سيعهد إليه بتأليف الوزارة الجديدة قبل إعلانها وعلى الرغم من أن رئيس الديوان أجاب بأن الشخص الذي يؤلف الوزارة سيكون صديقا لبريطانيا إلا أن السفير قد أكد على أن الحكومة البريطانية حريصة على أن تعرف سلفا من سيعهد إليه بتأليف الوزارة قبل أن يكلف بهذا التأليف رسميا .
ومن الواضح أن لامبسون قد حرص هذه المرة على أن يمسك بزمام المبادرة حتى لا يفاجأ حكومة لا تتفق ومصالح بريطانيا كما حدث من قبل سواء في تعيين علي ماهر ( 18 أغسطس 1939 ) أو حسن صبري ( 27 يونيه سنة 1940 ) أو حسين سري ( 15 نوفمبر 1940 ) حيث فوجئ السفير في كل تلك الحالات دون أن يكون له الرأي الأول في هذا الاختيار ولما كان موقف بريطانيا العسكري قد وصل إلى درجة كبيرة من السؤل أمام الانتصارات الساحقة التي تحرزها القوات الألمانية ولما كانت مشاعر المصريين قد بدأت تميل نحو الجانب المنتصر في الحرب فإن لامبسون قد أدرك خطورة المواقف هذه المرة ومن هنا فقد حرص جيدا على أن يكون في حالة من التيقظ الدائم حتى لا يفاجأ بغير ما يتوقع وانطلاقا من هذا المفهوم فقد تقدم إلى الملك في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم2 فبراير بمجموعة من الطلبات حددها في ثلاث نقاط :
أولا : أن الشخص الذي سيعهد إليه بتأليف الوزارة يجب أن تتوافر فيه المؤهلات المطلوبة للوفاء بالتزامات بريطانيا العظمي فترة الحرب .
ثانيا : أن هذا يعني دعوة النحاس باشا بوصفه زعيما لحزب الأغلبية في البلاد والتشاور معه بقصد تشكيل الوزارة على أن يتم ذلك في موعد أقصاه ظهر غد ( 3 فبراير )
ثالثا: أن الملك فاروق شخصيا سيكون مسئولا عن أى اضطرابات قد تحدث خلال تلك المدة وعلى الرغم مما بذله أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) من محاولات لإقناع لامبسون بأن عودة الوفد بمثل هذه السرعة يؤدي إلى عدم قيام معارضة قوية من الأحزاب الأخرى وفي نفس الوقت فقد وعد حسنين باشا باستبعاد العناصر المرتبطة بعلي ماهر من الحكومة المؤقتة ( المقترحة ) وخروجا من هذا الموقف وافق السفير بشرط استدعاء النحاس وضرورة موافقته باعتباره ممثلا لأغلبية في البلاد .
وتحرك لامسون مخاطبا حكومته في نفس اليوم ( 2 فبراير ) ليصف لها الخطة لتي بحثها واقرها كل من وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط ( وليفر ليلتون) وقائد القوات البريطانية في مصر للتعامل مع فاروق إذ ما رفض طلبات انجلترا على اعتبار أن هذا الموقف تفسره المادة الخامسة من معاهدة 1936
ووفقا لما أقره مجلس الحرب البريطاني فقد وضعت خطة عسكرية تضمنت محاصرة قصر عابدين بالدبابات ومقاومة الحرس الملكي فيما لو اضطر لاستخدام القوة وعلى ضوء هذا الإجراء يتقدم السفير مطالبا فاروق باعتزال العرش وإذا رفض يكفي بإبلاغه بأنه قد خلع عن عرش مصر ثم دعوة الأمير محمد على لكي يتولي مهام الملك فاروق وإذا ما رفض الأمير محمد على فإن بريطانيا ستحكم مصر عسكريا بمقتضي الأحكام العرفية حتى تستقر الأمور بقبول احد الأمراء ولاية العرش أو بإعداد نظام آخر .
وعلى ما يبدو فإن مجلس الحرب البريطاني قد واجه مشكلة حيث لا يوجد نص في الدستور بخصوص خلع الملك وعلى حد تعبير لامبسون " مهما حاولنا أن نظهر كحماة الدستور بينما نخرقه بالقوة فإن ذلك يقود إلى المتاعب وعلينا أن نضع ملكا جديدا على العرش ونصر على أن يعلن أن ما جرى كان دستوريا " وفي نفس الوقت فقد وافق مجلس الحرب على عدم عزل فاروق إذا ما وافق على دعوة النحاس فورا.
وتشير الوثائق البريطانية إلى أن قضية عزل فاروق قد شغلت حيزا كبيرا من اجتماعات وزارة الحرب البريطانية في الوقت الذي كان الموقف يقتضي قدرا كبيرا من السرعة والحسم معا لذا فقد وافق مجلس الوزراء البريطاني على تفويض المستر ايدن وزير الخارجية لمعالجة الموقف على ضوء ما يراه السفير البريطاني في القاهرة .
ويري بعض المعاصرين أن النحاس باشا قد فوتح في فكرة تأليف الوزارة القومية والتي تضم كل الأحزاب وقبل الفكرة بل ورحب بها إلا أن الانجليز قد أرسلوا رسولا إلى النحاس باشا وكان يمضي أياما في الأقصر يطلبون إليه أن يتولي الوزارة ويتركون له الحرية المطلقة في تأليفها . أما قد خوطب النحاس من قبل القصر في تأليف وزارة قومية فقد أصبح الخيار له بين قبول هذا العرض المصري وبين هذه الحرية التي تركها له الانجليز .
إنصافا للحقيقة التاريخية فإننا نعتقد أن الوفد قد قبل من قبل وفي مناسبات مختلفة قيام وزارة قوية بشرط أن يحل مجلس النواب وتجري انتخابات جديدة ووفقا لرأي النحاس فليس من الممكن أن يتعاون الوفد مع مجلس غالبيته من أحزاب الأقلية ولقد طرحت احدي صحف الوفد هذه الفكرة بقولها : ( أن الوفديين على أتم استعدادات لعقد اتفاق مع الأحزاب الأخرى لإجراء انتخابات هادئة أما إذا كان إجراء الانتخابات متعذر فهم في هذه الحالة يقبلون أن تحكم الوزارة القومية بدون برلمان إلى أن يحين الوقت المناسب لإجراء الانتخابات وأضافت نفس الصحيفة على لسان النحاس باشا : أننا نرحب بالوحدة على أن يكون أساسها أن لا تتحكم الأغلبية في الأقلية وإلا تتحكم الأقلية في الأغلبية وأن تحقيق الوحدة يتم بطرقتين أحدهما تأليف وزارة محايدة والأخرى تأليف وزارة قومية وأنه يجب في الحالتين حل مجلس النواب .
وفي إطار المساعي التي بذلت لإيجاد نوع من المصالحة بين القص والوفد فقد أعلن النحاس صراحة بأنه موافق على قبول وزارة محايدة تقوم بإجراء انتخابات نزيهة .
وهكذا فقد وافق النحاس على قيام حكومة يترأسها بنفسه سواء كانت حكومة قومية أو إدارية وفي كلتا الحالتين فإن إجراء الانتخابات يعد أمرا استراتيجيا يتفق تماما مع سياسة الوفد على اعتبار أنه الحزب الذي يخطي بالأغلبية التي تمكنه من الوصول إلى الحكم وفي هذه الحالة فإنه ليس لأحد الفضل في عودة الوفد مما يمكنه لبلا شك من الحفاظ على استقلاله سواء من جانب القصر أومن جانب الانجليز .
وانطلاقا من هذا المفهوم فقد استدعي الملك رؤساء الأحزاب والشخصيات العامة بما فيهم النحاس باشا والذي كان في رحلة إلى الصعيد وتم استدعاؤه على عجل وفي محاولة من الملك فاروق لحسم الموقف فقد عرض على النحاس أن يترأس حكومة قومية إلا أنه رفض رفضا قاطعا متذرعا بعدم وجود أى نوع من التفاهم مع أحزاب الأقلية .
وهكذا تعقد الموقف فقد كان الملك فاروق حريصا على أن لا يترك للوفد من الحرية إلا بالقدر الذي يمكن الملك من توجيه السياسة العامة للدولة وهذا لن يتحقق إلا باشتراك أحزاب الأقلية الموالية للقصر والحريصة على إرضائه حتى ولو كان الثمن هو توسيع سلطاته على حساب الوزارة .
ولما كان اجتماع فاروق بالزعماء السياسيين قد انتهي إلى لا شئ فقد طلب السفير البريطاني مقابلة عاجلة مع رئيس الديوان الملكي ( أحمد حسنين ) وأخبره بأن يرفع إلى الملك النصيحة بأن يكلف النحاس باشا بتأليف وزارة وفدية لأن بريطانيا ترغب في ذلك .
وعلى ما يبدو فإن السفير البريطاني قد تمسك بفكرة الوزارة الوفدية بعد أن استطلع وجهة نظر كل من حسين سري ( رئيس الوزارة الأسبق ) والنحاس باشا على اعتبار أن تشكيل حكومة انتقالية يعد مضيعة للوقت وفرصة لتآمر القصر وأن الموقف السياسي والاقتصادي غاية في السوء وأن أعضاء الائتلاف سيكونون من رجال الملك وأن النحاس لن يستطيع أن يكون مخلصا لقضية الديمقراطية التي تحارب بريطانيا من أجلها إلا إذا أطلقت يده تماما في التعامل مع القصر وهذا لن يتحقق إلا بقيام حكومة وفدية خالصة
وعلى الرغم من أن لامبسون كان يعمل وفقا لتقويض كامل من الحكومة البريطانية إلا أنه قد بعث إلى حكومته مسترشدا برأيها في تلك القضية وحملت برقيات وزير الخارجية كل الرضا عن سياسة لامبسون على اعتبار أن قيام حكومة وفدية خالصة يعد أفض الوسائل لتحجيم دور القصر والذي يلعب لعبة خطيرة .
ويبدو من تسلسل الأحداث أن موقف بريطانيا ومساندتها للوفد قد دعم موقف النحاس باشا مما جعله يتمسك بفكرة الوزارة الوفدية ضاربا عرض الحائط برغبة الملك فاروق من قيام الحكومة الائتلافية والتي سبق للنحاس باشا الموافقة عليها مرارا , وهذا الموقف يعد تراجعا في سياسة الوفد مما يدفعنا إلى لقاء مزيد من التساؤل ؟ كيف يمن لبريطانيا أن تفرض رئيس حكومة وهي لا تعرف مسبقا وجهة نظره . إلا أن هذا السؤال يمكن الإجابة عليه سواء من خلال الدراسات السابقة أو اللاحقة .
وعندما حمل أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) رسالة لامبسون إلى فاروق بضرورة دعوة النحاس ليشكل وزارة وفدية خالصة اعترض الملك ورأي أن الموقف يعد تدخلا في أخص خصائصه الدستورية وعلى ذلك لم يجب السفير إلى رغبته .
ولعل فاروق ومن ورائه أحمد حسنين لم يدركا خطورة الموقف على اعتبارا أن هذا التصادم في العلاقات لم يكن الأول من نوعه وإنما سبقته العديد من مظاهر الخلافات والتي توصل الطرفان إلى حلها عن طريق الالتقاء في منتصف الطريق تعددت الاجتماعات والمشاورات والسفير ينتظر ما تسفر عنه من نتائج مما اضطره أخيرا إلى الاتصال بأحمد حسنين لمعرفة ما أسفرت عنه هذه المقالات ولما أجاب بأن المشاورات لا تزال جارية مع رؤساء الأحزاب بهدف تأليف وزارة قومية وأنه واثق من وطنيته الزعماء والتي سوف تتغلب على كل شئ أدرك السفير خطورة ما قد تسفر عنه هذه الاجتماعات والمشاورات والتي قد تنتهي إلى نتائج مخالفة للمخطط الذي رسمته الدوائر البريطانية وهكذا تباينت وجهات النظر بين القوي الثلاثة المتصارعة – القصر والوفد والانجليز – فلقد كانت وجهة نظر القصر الموافقة على استدعاء النحاس لرئاسة الوزارة الجديدة بشرط أن تكون وزارة قومية وكان القصر واثقا من موافقة النحاس بناء على استطلاع وجهة نظرة في مناسبات عديدة .
أما عن وجهة نظر الوفد والتي تكشفت في الآونة الأخيرة سواء في لقاء النحاس مع الملك فاروق أو في اتصالات النحاس مع السفير البريطاني والتي تمت من خلال أمين عثمان هو رفض فكرة الوزارة القومية والتمسك بوزارة وفدية خالصة وذلك لسببين :
أولهما : أن المصريين قد فقدوا ثقتهم في حكومات الأقلية وإذا ما قبل الوفد الارتباط بهذه الأحزاب فسوف يفقد شعبيته العريضة ولن يتمكن من تحقيق أية مكاسب بسبب الاتجاهات المتضاربة .
ثانيهما : المكائد الحزبية إلي ستحدث نظر لقيام حكومة تفتقد إلى الألفة والوئام وهو شرط لقيام أية حكومة .
وحتى لا يبدو الوفد وكأنه في صورة المتشدد ضد الآخرين فقد تقدم النحاس باقتراحين :
أولهما : بتخصص بعض المقاعد لأحزاب الأقلية في مجلس النواب المزمع إجراء انتخابات لتكوينه .
ثانيهما : بتشكيل مجلس استشاري يختا أعضاؤه من سار الأحزاب كرمز للاتفاق بين الأحزاب ويكون رأيه استشاريا في جميع المسائل العامة .
أما وجهة النظر البريطانية – وهي التي فرضت نفسها بقوة السلاح فكانت تعني بناء على تعليمات أيدن عدم قبول أى مرشح لا يستند إلى قاعدة شعبية لأن هذا يعني انتصارا أكيدا لوجهة نظر الملك فاروق .
والموقف يقتضي بالضرورة عودة حزب الوفد باعتباره الحزب القادر في الظروف الراهنة على كبح جماح الملك وإرغامه على تحقيق وجهة النظر البريطانية حتى ولو وصل الأمر إلى حد خلع فاروق عن العرش بل وإلي أكثر من ذلك وهو إعادة النظر في النظام الملكي نفسه .
ومن المرجع أن السفير لم يكن خالص النية في معالجة تلك الأزمة ويبدو أنه بإصراره على عودة الوفد إلى الحكم كان يرمي إلى رد الاعتبار إلى نفسه في نظر حكومته إذ كان وزير الخارجية قد وجه إليه نوعا من اللوم لفشله في الوساطة بين القصر والوفد في أزمة ديسمبر 1937 والتي انتهت بإقالة النحاس باشا وفي الوقت نفسه فإن فاروق كان يسيطر عليه حماس الشباب وحويته واستهوته فكرة أن يظل( يشاغب) ممسكا بطرف الحبل بينما لامبسون ممسكا بطرفه الأخر .
وهكذا بدأت الأحداث تتطور بشكل خطير للغاية بينما تشير الوثائق البريطانية إلى الدور الهام الذي لعبه أمين عثمان والذي ورد اسمه في معظم مراسلات السفارة البريطانية والذي وصفه السفير بأنه المفاوض المصري لصالح الانجليز ويذكر لامبسون ( لورد كليرن) أن أمين عثمان قد حمل إليه رغبة النحاس باشا في التعاون مع السفارة بغض النظر عن أن معاهدة 1936 تعني التعاون التام بين الجانبين ويضف لامبسون في برقيته إذا كان قد تعاون مع السفارة في زمن السلم مرة فإنه مستعد أن يتعاون معها في زمن الحر ب عشر مرات وكل ما يطالبه هو أن تطلق يده في التعامل مع القصر وهكذا استوثق لامبسون من الأرض التي يقف عليها بعد أن وعد أمين عثمان بأن كل أطراف القضية أصبحت في متناول السفير وما عليه إلا أن يبدأ الخطوة الأولي .
وفي صباح 4 فبراير 1943 طلب السفير مقابلة رئيس الديوان وسلنه إنذار نصه ( إذ لم أعلم قبل السادسة من مساء اليوم ( 4 فبراير ) أن النحاس باشا قد دعي لتأليف الوزارة فإن الملك فاروق يجب أن يحتمل تبعه ما يحدث .
وعلى الرغم من أن الملك فاروق قد أجتمع بزعماء الأحزاب وقادة الرأي وتناقش معهم في الموقف في محاولة للخروج من تلك الأزمة إلا أن كل المحاولات قد انتهت بالفشل نظرا لإصرار النحاس على تشكيل حكومة وفدية خالصة بينما تمسك الملك بوجهة نظرة التي تعني قيام حكومة قومية .
وظهر الملك بمظهر المتحدي للمطالب البريطانية وفي اعتقادي أن هدف الملك من ذلك هو الحصول على مساندة الرأي لعام المصري والظهور بمظهر المحايد بين الانجليز والألمان حتى يظل الباب مفتوحا إذا ما تبدلت الأحوال وانتصر الألمان في بحربهم ضد بريطانيا .
وعلي الرغم من أن بريطانيا كانت قد أعدت كل الترتيبات اللازمة لمحاصرة قصر عابدين وإجبار فاروق على التنازل عن العرش إذا ما رفض عودة الوفد إلا أن الشخص الذي يخلف فاروق كان موضع خلاف لدي الدوائر البريطانية فبينما يشير أحد المؤرخين المعاصرين إلى أن بريطانيا قد وقع اختيارها على الأمير محمد على باشا لكي يخاف فاروق على عرش مصر إلا أن الوثائق البريطانية كانت متضاربة في هذا الرأي فبينما تشير احدي الوثائق إلى أن محمد على باشا هو الشخص الوحيد المناسب لهذا المنصب تشير بعض الوثائق الأخرى إلى التقليل من شأنه على اعتبار أنه طاعن في السن وغير مرغوب من الشعب المصري بالإضافة إلى أنه ليس لديه أبناء مما يسبب مشكلة بعد وفاته التي قد تحدث قريبا ولكل هذه الأسباب بدأت الدوائر البريطانية تعيد النظر في الشخص الذي يخلف فاروق .
ثم يعاود وزير الخارجية البريطاني الكتابة إلى لامبسون مقترحا قيام مجلس وصاية يرأسه الأمير محمد على ويؤكد في نفس البرقية على ضرورة الاتصال بالنحاس باشا وأخذ رأيه في هذا الموضوع الحيوي على اعتبار أنه زعيم الأغلبية ويضيف وزير الخارجية قائلا : ومن الأفضل أن نسمح بفترة للرأي العام المصري يعلن خلالها موقفه عما إذا كان من الضروري استبقاء الملكية على الإطلاق أو التفكير في النظام الجمهوري كبديل يفضله الشعب المصري .
ويذكر محمد التابعي رواية أخري مضمونها أن فؤاد حمزة الوزير المفوض للمملكة العربية السعودية قال : أنه لما كان في زيورخ سويسرا – في عام 1942 قابله اللورد الذي كان يدير قلم المخابرات البريطانية في سويسرا وقال له أن الحكومة البريطانية هالها ما يجري في مصر وفكرت في عزل فاروق والصعوبة كانت في اختيار الذي يخلفه وفكرت الحكومة البريطانية في عباس حلمي ( الخديوي السابق ) واتصلوا به في سويسرا ثم سافر إلى استانبول لكي يكون قريبا من مجري الحوادث ولكن المخابرات الألمانية أحست أن هناك شيئا مريبا وأحس الخديوي أن الألمان يشكون فيه وأن عيونهم ترقبه فخشي على نفسه وأسرع بالعودة إلى سويسرا وعندما سأل التابعي فؤاد حمزة لماذا لم يرشح الانجليز محمد على : أجاب : أن الانجليز يعرفون أنه مكروه من الشعب المصري وطاعن في السن أما عباس حلمي فقد كان محبوبا من الشعب المصري ومن هنا رأوا أن يعيدوه إلى عرضه ترضية للشعب المصري .
وعلى الرغم من أهمية هذا الرأي إلا أننا لا نميل إلى الأخذ به لسبب بسيط وهو أن المخابرات البريطانية كانت تعلم جيدا أن عباس حلمي يتعامل مع المخابرات الألمانية وأنهم يرشحونه ملكا على مصر ولم تكن هذه الحقيقية خافية عن السياسة للبريطانية فليس من المعقول أن يقع اختيارهم عليه إلا أذا كان من باب كشف نواياه لدي المخابرات الألمانية ما يضاعف من صعوبة موقفه .
ووفقا للتفسير التاريخي فإننا نعتقد أن بريطانيا لم تكن عازمة على توليه محمد على باشا خلفا لفاروق حيث تجمعت العديد من تقارير المخابرات البريطانية وبعد استطلاع رأي العديد من الشخصيات السياسية سواء مصرية أو انجليزية واتفقت كل الآراء على أن محمد على بتربيته التركية وتعاليه على الشعب المصري وبعده عن الشارع السياسي لا يصلح بأي حال لكي يكون ملكا على مصر ولذا فإننا نعتقد أن الأكثر احتمالا أن بريطانيا كانت تفكر في إعلان الجمهورية وتنصيب النحاس باشا رئيسا لأول جمهورية مصرية وهذا يتفق مع رأي فتحي رضوان والذي عاصر كل هذه الأحداث .
وعلى الرغم من خطورة الأحداث وتطورها بشكل سريع إلا أن فاروق قد تمسك بوجهة نظره وأسرع إزاء هذا الإنذار بدعوة الزعماء السياسيين بكل شئ فلا شئ يعنيني غير مصلحة مصر وكرامتها ويبدو أن فاروق لم يكن صادقا فيما يقول وإنما أراد أن يعد بهؤلاء الزعماء السياسيين مظاهرة للضغط على بريطانيا على اعتبار أن الشعب المصري كله ممثلا في هذا الاجتماع وبالرغم من كل هذا فلم يكن فاروق واثقا من أن بريطانيا ستمضي في تهديدها إلى آخر الطريق ومن هذه الناحية فإن أحمد حسنين باشا – رئيس الديوان – يتحمل التبعة الكبرى حيث كان يعلم أن بريطانيا كانت جادة في عزمها مصممة على المضي فيما اعتزمته وهذا ما يؤكده علي ماهر باشا .
ويذكر الدكتور هيكل في مذاكرته عن اجتماع الملك بالزعماء بعد ظهر 4 فبراير فيقول عندما فرغنا من مداولتنا طلب النحاس باشا الكلمة وقال ( أنه ساعة أن حضر هذا الاجتماع لم يكن يعرف شيئا مما حدث وجاء ذكره في الرسالة الملكية فهو لم يكن يعلم أن الانجليز طلبوا إليه تأليف الوزارة ولم يكن يعلم بهذا الإنذار الأخير ولم يسمع به إلا وهو في طريقه إلى القصر . أما وذلك موقفه فإنه لا يرفض تأليف الوزارة إذا عهد إليه الملك بتأليفها .
ويعلق الدكتور هيكل على كلمات رئيس لوفد بقوله ( لقد سمع الحاضرون عبارات رئيس الوفد وعلى ثغر بعضهم ابتسامة ذات مغزي معناها ( يكاد المريب يقول خذوني ) فلو أن النحاس لم يكن يعرف شيئا من هذا الذي قال أنه لا يعلمه لكانت النتيجة المرتبة عليه أنه وقد عرف ما كشفت عند الرسالة الملكية فإنه يرفض أن يؤلف الوزارة ولو دعاه الملك لتأليفها حتي لا يكون الملك قد أكره على ذلك من جانب بريطانيا أما أن يقول أنه لم يكن يعرف هذه الوقائع وأنه مستعد بعد أن عرفها أن يؤلف الوزارة إذا عهد إليه الملك فمعني ذلك في أيسر صورة أنه لا ينكر على الانجليز حقهم في هذا التدخل ولا ينكر توجيهيهم الإنذار وأنه غير مستعد لأية تضحية في سبيل رد هذا الإنذار هذا أن صح أنه لم يكن يعرف .
وتدخل الحاضرون فمنهم من نصح النحاس باشا برفض الوزارة ومنهم من طلب إليه أن يشكلها وزارة قومية وبعضهم طلب إليه أن يشكلها إدارية لإجراء الانتخابات وعرض آخرون وزارة محايدة إلا أن النحاس قد رفض كل هذه الحلول وأصر على أن تكون وزارة وفدية لحما ودما .
ويلاحظ وفقا لهذ الاجتماع أن الزعماء السياسيين قد وقعوا جميعا في مغالطة شديدة حيث أنهم تصوروا أن تشكيل وزارة قومية أو محايدة سوف يخرجهم من دائرة الإنذار البريطاني ومن الطبيعي أن رئاسة النحاس باشا للوزارة سواء كانت وفدية أو قومية بعد تطبيقا عمليا للإنذار مهما كان شكل ولو الوزارة إلا أنها العصبية الحزبية والرغبة في الحكم فالكل يجتهد كي يكون له نصيب من الوزارة المقترحة .
وبعد أن تأكد المجتمعون أن النحاس لن يقبلها إلا وفدية خالصة بدأ التفكير في رفض الإنذار وعدم العمل به من حيث المبدأ واقترح إسماعيل صدقي الرد على الإنذار بمماثل هذا نصه : أن في توجيه التبليغ البريطاني اعتداء على استقبل البلاد ومساسا بمعاهدة الصداقة ولا يسع الملك أن يقبل ما يمس استقلال البلاد ويخل بأحكام المعاهدة ووافق الحاضرون جميعا بما فيهم النحاس باشا على التوقيع على هذا الرد وحمله أحمد حسنين إلى السفير البريطاني .
ويبدو أن النحاس باشا قد وقع على هذا الاحتجاج حتى لا يقع في مزيد من الحرج وهذا ما ذكره النحاس باشا نفسه في حديثه مع رئيس محكمة النقض ( زكي علي باشا )
وأعتقد أن فاروق لم يكن ينوي الخضوع للإنذار البريطاني في بداية الأمر ولعله يقصد من وراء ذلك ارتداء ثوب البطولة كما أنه كان واثقا من إمكانية الوصول إلى حل وقف ويذكر الدكتور هيكل أن الملك قال له أثناء المقابلة التي تمت مع رؤساء الأحزاب في 3 فبراير – كل على حده – لا تبالغ في مخاوفك يا دكتور هيكل فستمر هذه الأزمة كما مرت غيرها من قبل وسنجد رئيس الوزارة الجديدة على نحو ما وجدنا حسن صبري وحسين سري ولعل فاروق كان يفكر في محمد محمود خليل رئيس مجلس الشيوخ ليشكل الوزارة ومما يؤكد هذه الرواية ما ذكره صليب سامي في مذكراته حيث يقول : أنه في نفس اليوم الذي حدثت فيه أحداث 4 فبراير وأثناء مقابلة الملك للسفير البريطاني والقادة العسكريون في ذلك اليوم كان محمد محمود خليل بالسري لابسا بدلته ( الرد نجوت) في انتظار الملك لتسليمه الأمر بتشكيل الوزارة .
وعموما فلقد كان فاروق يرفض أن يؤلف النحاس وزارة وفدية خالصة لا من أجل أن يقال أنه خضع للإنذار وإنما لأنه كان لا يريد أن يجعل مقاليد الأمور في يد خصومه الوفديين والاحتفاظ بقدر كبير من السلطة في يده عن طريق حزب الأقلية وهذا لن يتحقق في حالة وجود حكومة وفدية .
وعلى ما يبدو فإن فاروقا أراد أن يحدث نوعا من المناورة البارعة وذلك يرفض الإنذار البريطاني حتي يتطاير الخبر إلى أصدقائه الألمان حيث أ البيانات التي كانت تصله من جبهات الحرب كانت تبالغ في انتصارات المحور مؤكد على أن المعركة قد حسمت ولم يبق إلا عامل الوقت فقط .
وعلى ضوء المقابلات التي جرت بين الملك والنحاس وغيره من الزعماء السياسيين وبين لامبسون وأمين عثمان كان الخلاف ينحصر في نوعية الوزارة الجديدة وكيفية تشكيلها واعتقد أن كل هذه الخلافات والمصادمات لم ترق إلى حجم الأزمة التي انتهت إليها بل إن الأمر في حقيقته كان صراعا علي السلطة بين قوتين متعارضتين الأولي تتمثل في حزب الأغلبية يسانده الانجليز والثانية تقوم على أحزاب الأقلية يساندها القصر فكان لابد من انتصار احدي القوتين على الأخرى .
الدبابات البريطانية حول قصر عابدين
وفي الوقت الذي كانت تبذل فيه السفارة البريطانية قدرا كبيرا من الجهد لعودة النحاس باشا فإن لامبسون كان يعد العدة لإجبار فاروق على التنازل من العرش إذا ما رفض المطالب البريطانية .
وتم الاتفاق في مجلس الحرب على انه إذا لم يصل رد فاروق حتى الساعة السادسة ( من مساء 4 فبراير ) فسوف يتوجه لامبسون إلى قصر عابدين وبصحبته قائد القوات البريطانية في مصر " الجنرال ستون " وستتخذ كافة الإجراءات العسكرية وتم الاتفاق أيضا على وضع الخطة النهائية لمحاصرة القصر وإجبار الملك على التنازل واصطحابه إلى خارج القصر واقترح أميرال البحرية اعتقال فاروق في احدي سفن الأسطول البريطاني حتي يتقرر مصيره من قبل وزارة المستعمرات البريطانية .
ولعل امتناع فاروق عن التنازل عن العرش كان من بين المسائل التي شغلت حيزا كبيرا من تفكير الدوائر البريطانية على اعتبار أن معاهدة 1936 لا تتضمن مثل هذا النوع من التدخل ولا يوجد نص في الدستور المصري يمكن أن تتذرع به بريطانيا لعزل الملك ولقد أشار السفير إلى كل هذه المخاوف بقوله : وإذا ما أصر فاروق على عدم التنازل فإن خلع من جانبنا يعد عملا غير مشبوه وإن أية محاولة ونحن نبدو كحماة الدستور وفي الوقت نفسه نخرقه بالقوة فإن هذا سيضاعف من متاعبنا أمام الرأي العام المصري .
وعلى ما يبدو فقد انقسم مجلس الحرب البريطاني إزاء تلك القضية الشائكة إلا أن تطور الأحداث والخوف من حدوث أية مفاجأة غير متوقعة وخصوصا من الرأي العام المصري قد جعل فريق المترددين وعلى رأسهم " الجنرال ستو " ينضمون إلى فكرة لامبسون والتي تحبذ إجبار فاروق على التنازل بالقوة .
وبدأ التفكير في المكان الذي سينقل إليه الملك واختلفت وجهات النظر أيضا فبينما رأي البعض إرساله إلى كينيا أو سيشل فقد رأي البعض الآخر أن ينزل به إلى احدي سفن الأطول البريطاني حتي يتقرر مصيره من قبل وزارة المستعمر .
ووضعت الصيغة النهائية لوثيقة التنازل عن العرش : " نحن فاروق ملك مصر إذ نضع في اعتبارنا مصالح بلادنا نتخلي من ثم بالتسوية لأنفسنا وبالنسبة لورثتنا عن عرش مملكة مصر وجميع الحقوق الملكية والمميزات والسلطات على جميع أنحاء المملكة المذكورة وإعفاء رعايانا المذكورين من ولائهم لشخصنا "
ولما كانت السلطات البريطانية تعلم جيدا أن اجتماع الملك بالزعماء المصريين لن يحقق أى نوع من الاتفاق بالرغم من الإنذار الصريح بدعوة مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة لجأ الانجليز إلى تنفيذ الخطة المرسومة والتي تقتضي بمحاصرة قصر عابدين وجميع الطرق المؤدية إليه وعدم دخول أو خروج أحد.
وفي جميع الأزمات التي مرت بمصر كانت الحكومة البريطانية تأخذ في الاعتبار موقف الجيش المصري إلى جانب الرأي العام فعندما طلبت بريطانيا من مصر إعلان الحرب على دولتي المحور قالت أنها تقدر الأهمية البالغة للقوات المسلحة المصرية وعندما أنذرت فاروق بتغيير وزارة علي ماهر أصرت على أن تجئ الوزارة الجديدة حائزة لولاء الجيش وعند الاستعداد لمحاصرة عابدين ( 4 فبراير ) احتفظت السلطات العسكرية بأسرار العملية إلى ساعة الصفر واتخذت جميع الاحتياطات لكيلا يقع تصادم بين الجيش المصري والقوات البريطانية ووفق رواية المسئول عن أمن القوات البريطانية فيمصر " الماجور سانسوم " حيث قال : لقد كانت الحكومة البريطانية قد أصدرت أوامرها إلى " سيرما يلز لامبسون " بأن يوجه إنذار إلى الملك وكنت مرتبطا بهذه العملية عن طريقتين :
الأول : كان استشاريا فوفق معلوماتي عن الوضع داخل الجيش المصري ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لتحول بين الجيش المصري والتدخل المسلح في العملية المزمع القيام بها ؟ وبصدد هذا الإجراء فقد اقترحت أن توصد كل الطرق والشوارع لمؤدية إلى قاب القاهرة أن الضباط الصغار لا يحبون الملك ولكنهم يكرهوننا أكثر وسيكون رد الفعل عندهم عنيفا لمثل هذه والإهانة وبالفعل أغلقت جميع الطرق الموصلة بين ألماظة والقاهرة وقبل ساعة الصفر مباشرة قامت فصيلة من قواتنا بالهجوم على ثكنات الحرس الملكي في ميدان عابدين وقبضت على كل الموجودين وكذلك ثم القبض على الحراس الذين كانوا يقفون عند باب القصر وحل محله جنود بريطانيون ثم دخل لامبسون بسيارته إلى داخل القصر وكانت تصحبه مجموعة من العربات المصفحة والدبابات ويمضي سانسوم في روايته قائلا ولم تكن القاهرة .
تعلم شيئا عن الحادث وكان عدد من المارة يحملقون في الجنود البريطانيين الذين احتلوا مكان الحرس الملكي وكان المارة ينظرون إلى العربات المصفحة التي دخلت إلى فناء القصر دون استغراب أول الأمر غير أن البعض بدأ يدرك أن ثمة شيئا غير طبيعي يحدث وأخذ الناس يتجمعون حتى اضطر الجنود البريطانيون إلى إقامة كردون من أنفسهم لإبعاد الناس عن القصر في الوقت الذي كان السفير يقدم إنذاره لفاروق .
أما المهمة الثانية : هي التأكيد من أن السفير لن يصيبه ضرر وكانت أعتقد أن الخطر الرئيسي قد يصدر من ضابط ثائر من ضباط الحرس الملكي الذي قد يدفعه غضبه إلى إطلاق رصاصة على السفر ولذلك قبضنا على جميع الضباط المصريين داخل القصر إبان عقد المؤتمر بين السفير وفاروق .
ووفق رواية السفير والتي ضمنها أحد تقاريره إلى حكومته قائلا : لقد وصلت إلى قصر عابدين في التاسعة تماما وفي الطريق مررنا بطوابير المصفحات وناقلات الجنود والدبابات والتي كانت تبدو كأشباح في الشوارع المظلمة وهي تأخذ مواقعها حول القصر وكنت أستطيع وأنا بالطابق العلوي داخل القصر أن أسمع أصوات الدبابات والمدرعات مما تحدث جوا مثيرا وشك أن أصبح في رجال الديوان أنني غير مستعد للأنظار أكثر من ذلك . لذلك تأخذ استدعائي إلى غرفة الملك لمدة خمس دقائق وكفت على عندما دعيت لمثول أمام الملك وحاول كبير الأمناء ن يمنع الجنرال ستون " قائد القوات البريطانية " من الدخول إلى القاعة التي تم فيها لقائي مع الملك ولكني نحيته جانبا ودخلت والجنرال ستون معا إلى الملك .
القص وجردتهم من سلاحهم مما اضطر بعض أفراد الحرس إلى المقاومة ولكن البريطانيين تكاثروا عليهم بعد أن صدرت التعليمات الملكية بعدم المقاومة حتى لا تحدث مذبحة أمام قصر عابدين وكان قد أصيب بعض أفراد الحرس بكسور في العظام وبجروح مختلفة وفي نفس الوقت كانت الطائرات البريطانية تقف على أهبة الاستعداد للتحليق فوق ثكنات الجيش المصري ومعسكراته وقذفها بالقنابل إذا ما بدت من الجيش أية مقاومة وحاصر الجنود الانجليز أقسام البوليس في القاهرة وقطعوا جميع الأسلاك التليفونية بين قصر عابدين وخارجة كما حاصروا محطة الإذاعة المصرية لكي يحولوا دون وصول الخبر إلى الشعب المصري. ويلاحظ أن الروايات الثلاث السابقة تتفق مع بعضها في الإطار العام إلا أنها تختلف عن بعضها في كثير من التفصيلات فبينما يذكر الماجور سانسوم ( مسئول الأمن في القاهرة ) أن القوات البريطانية قامت بقطع الطرق المؤدية إلى القاهرة بواسطة العديد من الفصائل العسكرية وكذلك القبض على جنود وضباط الحرس الملكي فهو لم يذكر الإجراءات التي قامت بها القوات البريطانية فيما يتعلق بالطيران وكذلك محاصرة أقسام البوليس وقطع الاتصالات التليفونية عن قصر عابدين وكذلك محاصرة مبني الإذاعة المصرية .
إلا أننا نعتقد أن الرواية الأخيرة والتي ذكرها بعض المعاصرين تعد أقرب الروايات التي الحقيقة لعدة أسباب :
أولا : تطابق رواية محمد التابعي مع رواية حسين الشافعي والأول قريبا من دوائر القصر بحكم عمله الصحفي والثاني كان أحد الضباط الشبان والذي كانت تربطه صداقات وطيدة بعدد من ضباط الحرس الملكي والروايتان في مجملهما تتفقان مع روايات كثير من الساسة المصريين .
ثانيا : لقد استقي التابعي معلوماته عن أحمد حسنين والذي شاهد كل هذه الأحداث بحكم عمله كرئيس للديوان الملكي .
ثالثا : ووفقا للمصادر البريطانية فغن قادة كل الأسلحة قد اشتركوا في كل المؤتمرات التي عقدها السفير وهو بصدد وضع الخطة النهائية للتدخل ومن الطبيعي أن يتولي قادة الأسلحة كل في موقعه ترتيبات الأمن اللازمة سواء في مجال الطيران أو الشرطة أو القوات البرية أو غير ذلك .
إلا أن هناك بعض الروايات التي لم نجد لها سندا في أى رواية أخري حيث يذكر صاحب هذه الرواية أن السفير وهو في طريقه إلى مكتب الملك وبصحبته الجنرال ستون قد فتح غرفة الملك ضاربا إياها بقدميه .
وعلى كل فإن لامبسون قد دخل على فاروق وبصحبته الجنرال ستون بينما الضباط الانجليز يحرسون الباب وفي أيديهم المسدسات ووفقا لبرقيات لامبسون إلى حكومته فقد كان فاروق ينتفض من الخوف بينما أحمد حسنين كان يبتسم بقدر لا بأس به من الشجاعة .
ويضيف لامبسون في احدي برقياته والتي تتسم بقدر كبير من التشفي ( كان من الواضح أن الملك قد أخذ على غرة واقترح بقاء حسنين باشا أثناء المقابلة فوافقت على ذلك ودخلت في الموضوع مباشرة حيث قلت : لقد كنت أتوقع ردا بنعم قبل الساعة السادسة مساء على رسالتي التي بعثت بها هذا الصباح وبدلا من ذلك فقد بعثت إلى حسنين باشا في السادسة والربع برسالة لا أستطيع إلا أن اعتبرها رفضا . ويجب أن أعرف الآن ودون أية موارية ما إذا كان معني هذه لرسالة هو لا . وحاول الملك أن يجادل ولكني قطعت عليه الطريق بقولي : " أني أعتبر الجواب بالنفي وقرأت عليه البيان الذي أعددناه في السفارة وفي النهاية قدمت إليه خطاب التنازل عن العرش وطلبت إليه التوقيع فورا ويمضي لامبسون قائلا : لقد تردد الملك قليلا وقد كنت أظنه سيوقع الخطاب " وثيقة التنازل" إلا أن حسين باشا قد تدخل محدثا إياه بالعربية وبعد فترة من الاضطراب الشديد الذي بدا على الملك سألني بشكل يدعوا للرثاء عما إذا كنت على استعداد لإعطائه فرصة أخري مبديا موافقته الشديدة على دعوة النحاس باشا لتشكيل الحكومة فورا .
ثم ترددت ( عمدت إلى التردد ) وأخيرا وافقت على إعطائه تلك الفرصة تحدوني الرغبة في تجنيب أى تعقيدات محتملة في البلاد .
وهناك العديد من التفصيلات التي لا تنفق والغرض الحقيقي من هذه الدراسة ومنها على سبيل المثال أن السفير قد وضع وثيقة التنازل أمام فاروقا وقت قراءة البيان ومن المحتمل أن يكون الملك قد قرأها ومن المحتمل أيضا أنه لم يرها .
وببساطة شديدة فإننا نعتقد أن فاروقا قد قرأ وثيقة التنازل لسبب بسيط وهو أنه قد هم بالتوقيع عليها لولا تدخل أحمد حسنين والذي حددته بالعربية " وفقا للوثائق البريطانية " طالبا منه عدم التوقيع .
وهناك رواية أخري تقول : أن السفير قد قدم إلى الملك وثيقة التنازل عن العرش وطلب إليه توقيعها وبعد أن قرأ الملك نظر إلى قائد القوات البريطانية ( المصاحب للسفير ) وقال له " كنت أود لو أنك ما زالت في خدمة جيشي " ثم قال للسفير : أنني مستعد لتوقيع هذه الوثيقة إلا أنك توافقني على أنها وثيقة تاريخية خطيرة ولا يجوز أن تكتب على ورق عادي ومن اللائق أن أكلف من يقوم بكتابتها على ورق يليق بشخصي وعجب السفير لهذا الهدوء والذي يبدو على الملك ثم أضاف الملك فاروق : هل لى أن أسالك عن السبب الذي دعا إلى كتابة هذه الورقة ؟ ... أنا من ناحيتي موافق عل أن يشكل النحاس باشا وزارته كما يراها .
ويبدو أن الرواية السابقة لا تتفق بأى حال مع الحالة النفسية التي سيطرت على فاروق والتي وصفها السفير في برقياته من أن الملك كان يرتعد من الخوف ومن غير المعقول أن يبدو فاروق على هذه الصورة في وقت يعلم أن عرشه ومستقبله معرضان للضياع والأمل في إقناع السفير بالعدول عن هذا المسلك يبدو ضعيفا وتلك الرواية تتسم بعدم الموضوعية مما يجعلنا نعتقد أنها تحتمل تخريجات اجتهادية لا ترق إلى مرتبة التفسيرات التاريخية الجادة , وعلى هذا فرواية السفير والتي ذكر فيها أن فاروقا قد استمع إليه وبلا أى إضافات هي أقرب الروايات إلى المنطق الصحيح وأقرب في تصورنا إلى العقل .
وهكذا استسلم فاروق بعد أن انكشف الوجه الحقيقي لمعاهدة 1936 ولم يكن من باب الشجاعة أن يمضي فاروق في عناده إلى آخر الطريق حيث تأكد تماما أن مصيره ومصير أسرة محمد على بأكملها مرهونة بموافقة بريطانيا ولذا فإنني أعتقد إن الآثار النفسية التي تركها هذا الحادث على حياة الملك الشاب كانت خطيرة ويمكن القول بأنها كانت مدمرة .
وبمجرد أن انصرف لامبسون بعد أن اصدر أوامره إلى الدبابات والمصفحات بالانصراف من حول القصر صدرت الأوامر لملكية بدعوة الزعماء الذين حضروا الاجتماع الأول ( في نفس اليوم) وترأس لملك هذا الاجتماع ويصف الدكتور هيكل ما حدث في هذا اللقاء بقوله : لقد وجه الملك كلامه إلى النحاس باشا قائلا : أني أكلفك يا نحاس باشا بتأليف الوزارة وأطلب إليك أن يكون حكمك قوميا لا حزبيا كما أطلب إليك حين انصرافك من هنا أن تمر بالسفارة البريطانية فتبلغ السفير بأنني عهدت إليك بتأليف الوزارة وقال النحاس لدي سماعه هذه العبارة . أنني أتلقي الأمر من جلالتكم ولا أري ضرورة لإبلاغ السفير فكر الملك : لكني أري ضرورة في أن تمر بالسفارة وتبلغ ما طلبت إليك أن تبلغه إياه .
ولعل إصرار فاروق على ذهاب النحاس إلى قصر الدوبارة يعد نوعا من الدبلوماسية الماكرة بهدف إخراجه والتنويه على أن عودته كانت بناء على ضغط السفارة البريطانية ولقد أفصح الدكتور حمد ماهر عن هذا المعني بقوله : أنك يا نحاس باشا تؤلف الوزارة على أسنة الحراب البريطانية بعد أن رأيت الدبابات بعيني راسك وأجاب النحاس : أنا لم أر دبابات و حرابا فقال إسماعيل صدقي باشا . نعم يا باشا أنك جئت متأخرا بعد انصرفت الدبابات حتى لا تراها أمام نحن جميعا فقد رأيناها ساعة جئنا إلى القصر .
وهو ما كرره أحمد ماهر بعد ذلك في الرسالة الشهيرة التي أرسلها للسفير احتجاجا على الإنذار البريطاني وقد قال فيها مخاطبا لامبسون " أنكم لا تستطيعون أن تقنعونا بحال أن النحاس باشا لم يكن على علم بالنيات الخفية لتي اعتزمتموها وغلا فهل كان من المعقول أن تحتموا تشكيل وزارة وفدية بذلك الإلحاح البالغ وتجازفوا في هذا السبيل بتقديم إنذار تؤيدونه بالقوة المسلحة للو لم تكونوا على يقين سابق وتأكيد صريح باتفاق النحاس باشا معكم اتفاقا تاما على تلك الخطة المبيتة .
ونشرت احدي الصحف ما يسمي بمحضر اجتماع 4 فبراير وذكرت هذه الرواية وبعد أن انتظم الاجتماع في الساعة التاسعة مساء حضر جلالة وقال . أرجو أن تنسوا ما دار بينكم من الحديث وما قررتموه بعد ظهر اليوم وأني أكلف النحاس باشا بأن تشكيل الوزارة وأطلب إليه عند انصرافه من هنا أن يمر على دار السفير حيث أن هذه هي رغبة السفير الخ أما باقي المحضر فلا يختلف عما ذكرناه من قبل .
ولقد اعتبر النحاس باشا أن ما نشرته الصحيفة يعد مخالفا لمحضر الجلسة ( مساء 4 فبراير ) وذكر في روايته والتي بعث بها إلى نفس الصحيفة ما يأتي ؟ ذكرت الصحيفة أن جلالة الملك طلب إلى أن أمر بعد انصرافي من القصر على دار السفير وابلغه أني كلفت بتشكيل الوزارة لأنه طلب ذلك إلى جلالته , وهذا لا يطابق الواقع إذ لم يقل جلالة الملك ان السفير ولكن جلالته أمرني بذلك فقد كان من المتعين معالجة الموقف مع الانجليز .
وبصدد دراسة الروايات السابقة فإننا نشير إلى عدة اعتبارات؟
أولا: أن ما نشر تحت عنوان " محضر اجتماع 4 فبراير " لم يكن محضرا بالمعني الوثائقي وإنما هو عبارة عن تصوير للأحداث التي وقعت مساء 4 فبراير من وجهة نظر محمود حسن باشا كبير المستشارين الملكيين والذي حضر الاجتماعيين وعلي الرغم من أنه لم يوقع على هذا الحضر إلا أن المناقشات التي تلت ذلك في الصحف وردود الفعل الكبيرة التي أحدثها نشر هذا الموضوع كشفت عن اسمه وعرفه الجميع .
ثانيا: يختلف محضر اجتماع 4 فبراير عما ذكره الدكتور هيكل في روايته التي أشار فيها إلى أن النحاس باشا قد اعترض على ذهابه إلى السفارة باعتبار أن الأمر بتشكيل الوزارة صادر من الملك وليس من السفير إلا أن الملك كرر طلبه بضرورة ذهاب النحاس إلى السفارة وهذه الرواية تمثل إضافة لم ترد في رواية محمود حسن باشا حيث يذكر أن الملك قد طلب من النحاس أن يمر على السفارة ولم يذكر أن النحاس قد اعترض على هذا المطلب.
ثالثا : أن رواية الدكتور هيكل تتفق مع رواية النحاس باشا في عدم ذكرها قول لملك للنحاس باشا " اطلب منك أن تمر على السفارة البريطانية حيث طلب السفير إلى ذلك , ومن مقارنة رواية النحاس بما ذكره الدكتور هيكل ومطابقتها بما ذكره محمود حسن باشا تظهر أن رواية هيكل أقرب إلى رواية النحاس ولما كان هيكل يعد خصما سياسيا للوفد فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه عمد إلى الدفاع عن مصطفى النحاس .
رابعا : لم يذكر الدكتور هيكل ولا محمود حسن باشا أن النحاس كرر رفض قبول الوزارة وأن فاروقا قد بذل قدرا كبيرا من المحاولات لإقناع النحاس في الوقت الذي كان يعتقد أن عدم تشكيل الوزارة يعد نوعا من الالتزام بما اتفق عليه في الاجتماع الأول حيث وقع الجميع علي الاحتجاج المقدم للسفير البريطاني أمام إصرار الملك فقد اضطر النحاس أخيرا للموافقة .
والتزاما بالموضوعية التاريخية فإننا نعتقد أن النحاس قد تردد كثيرا في قبول الوزارة وخصوصا بعد ما علم من حصار قصر عابدين ولذا فقد تضمن خطاب قبول الوزارة ( لقد تفضلتم جلالتكم وعهدتم إلى تأليف الوزارة وأعربتم بلسانكم الكريم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة الخ )
ولما كان خطاب النحاس باشا بقبول تأليف الوزارة يعد وثيقة هامة نشرت في كثير من الصحف الوفدية وغير الوفدية وليس من لمعقول أن تتضمن إضافات لم تحدث وإلا كان القصر أول من بار بتكذيبها فإننا نعتقد أن النحاس قد حاول مرارا أن يرفض قبول الحكم في مثل هذه الظروف الدقيقة والخطيرة ووفقا لما ذكره أحد زعماء الوفد من أن رفض النحاس للوزارة كان يعني بالضرورة خلع الملك فاروق من منصبه ولذا فقد ضحينا ببعض من سمعتنا في سبيل إنقاذ الملك.
ويبدو ان الملك فاروق قد أراد أن يستنجد بالسفارة الأمريكية لحمايته من التعنت البريطاني ولذا فقد استدعي مستر كيرك ( سفير الأمريكي ) لمقابلته في منتصف الساعة السابعة من مساء 4 فبراير ليخبره بالإنذار البريطاني إلا أن السفير الأمريكي قو طيب خاطره بسبب الحالة النفسية التي كانت تسيطر على الملك وقد حاول فاروق أن يطلب من السفير الأمريكي الضغط على لامبسون لكي يحول دون عودة الوفد إلا أن إجابات ( كيرك ) قد اتسمت بالتعقل الشديد مطالبا فاروق بتنحية الخلافات الداخلية جانبا لأن ما يشغل أمريكا وانجلترا في الوقت الحاضر هو هزيمة هتلر وأنه يأمل أن يكون الملك عاملا في هذا الاتجاه .
وتؤكد الوثائق الأمريكية أن موضوع عزل الملك فاروق قد ترك أثر سيئا لدي وزارة الخارجية الأمريكية على اعتبار أن تلك الخطوة ستجعل من فاروق شهيدا في نظر الشعب المصري وقد يترتب عليها حدوث اضطرابات في المنطقة مما يضاعف من نشاط المحور ولذا فقد أعدت إدارة الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأمريكية تقديرا لتقديمه إلى الحكومة البريطانية تطلب منها أن يظل الملك فاروق محتفظا بعرضه . ووفق المصدر " أننا نأمل أن لا تؤدي هذه الأحداث الأخيرة إلى انصراف جزء من القوات البريطانية عن قضيتها الأساسية في المنطقة.
إلا أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لم تر أن مصالحها تتطلب مثل هذا التدخل المقترح لأن مصر تقع في دائرة النفوذ البريطاني كما أننا لا نسمح لحكومة بريطانيا أن تتدخل في الشئون الداخلية لاحدي دول أمريكا اللاتينية فإننا لن نتدخل في تلك القضية على اعتبار أنها مشكلة بريطانية مصرية بحتة وأن تدخلنا سيحملنا قدرا كبيرا من المسئولية إذا ما تضاعف الأحوال سوءا في مصر .
وهكذا امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية من أن تقحم نفسها في تلك القضية على اعتبار أن مصر تقع في دائرة النفوذ الأمريكي ولا أعتقد أن بريطانيا ما كانت لتسمح لحليفتها بالتدخل فعلي الرغم ن التحالف بينهما إلا أن نوعا من التوجس قد بدأ يراود وزارة الخارجية البريطانية بسبب لتفوق العسكري الأمريكي من جانب المطامع الأمريكية التي قد تبدو مؤكدة إذا ما انتهت الحرب.
وعلى العموم فقد هدأت الأمور بعد أن صدرت الأوامر الملكية بدعوة مصطفى النحاس ليشكل حكومة وفدية خالصة وعلى الرغم من الهزيمة الساحقة التي لحقت بالملك فاروق إلا أن رسالته التي بعث بها الي مصطفى النحاس بتأليف وزارة 4 فبراير تعد تراجعا أكيدا أمام التسلط البريطاني وقد يبدو هذا المعني من نص تلك الوثيقة والتي ورد ذكرها كالآتي :
( عزيزي مصطفى النحاس يسرني وقد عرفت فيكم أصالة الرأي وسداد التدبير وقوة الإخلاص أن أسند إليكم رياسة مجلس وزارتنا أن مصر وطننا العزيز لأحوج ما تكون في هذه الآونة الدقيقة إلى تضافر الجهود وضم الصفوف وجمع القوي وبذل التضحية وإنكار الذات في سبيل حفظ كيانها وإعلاء شأنها ورفاهية شعبها وذلك ما أرجو أن يكون بتوفيق الله وعظيم تأييده ... ) الخ .
والملاحظ على خطاب الملك إلى مصطفى النحاس أنه يشير وبأسلوب رقيق إلى أصالة رأي النحاس وسداد تدبيره وإخلاصه سواء للعرش أو للشعب وعلى ما نعتقد فإن هذه الوثيقة تحمل قدرا كبيرا من النفاق السياسي والذي حكمته الظروف الموضوعية والملابسات التي أحاطت بتشكيل الوزارة وعلى الرغم من المعاناة النفسية التي أحدثها هذا الموقف في نفسية الملك إلا أنه قد أراد للأزمة أن تمر بعد أن أقسم بالإيمان المغلظة أن ينتقم لشرفه ولكرامته .
وبالنظر إلى "وثيقة " إقالة الوفد سنة 1937 والتي تؤكد وجهة نظرنا السابقة حيث أشارت إلى لأعداء التقليدي بين القوتين المتصارعتين - القصر والوفد – " نظرا لما اجتمع لدينا من الأدلة على أن شعبنا لم يعد يؤيد طريقة الوزارة في الحكم وأنه يأخذ عليها مجافاتها لروح الدستور وبعدها عن احترام الحريات العام وحمايتها وتعذر إيجاد سبيل لاستصلاح الأمور على يد الوزارة التي ترأسونها لم يكن بد من إقالتها تمهيدا لإقامة حكم صالح يقوم على تعرف رأي الأمة الخ .
ويبدو من الخطابين السابقين إلى أى حد وصل التناقض في سياسة القصر ومن المؤكد أن الخطاب الأولي والخاص بعودة حكومة 4 فبراير كن يعكس قدرا كبيرا من الحالة النفسية التي انتابت الملك أثر حصار الدبابات وبعد أن تأكد الملك أن بقاءه ملكا على مصر كان رهنا بعودة حكومة بالإضافة إلى أن فاروقا كان في حاجة إلى استرداد أنفاسه حيث كان يلهث من أثر الصدمة التي بلا شك لم يكن يتوقعها وكان من الضروري أن يهادن الوفد ولو لفترة حتى يسترد بعض الواقع التي فقدها أثر هذا الحادث من هنا كان خطاب فاروق إلى النحاس لا يحمل أى إشارة ولو من بعيد إلى أن الوفد قد أفتقد الطريقة الشرعية في عودته . أما الخطاب الثاني والخاص بإقالة الوفد سنة 1937 فقد تضمن أحكاما مطلقة تعبر لبلا شك عن المشاعر الحقيقية التي تتسم بها العلاقة بين القصر والوفد وأن النحاس باشا صاحب مبدأ الانتقاص من الحقوق الملكية لصالح الحكومة وقد رسخ في ذهن فاروق أن الوفد بقيادة النحاس يخطط إلى عزل فاروق وأن خطة الوفد قائمة على استراتيجية ثابتة غايتها التخلص من النظام الملكي عموما وكان فاروقا دائم الاستماع إلى مستشاريه من أمثال علي ماهر وأحمد حسنين واللذين تمكنا من إقناعه بوجهة النظر السابقة .
ولما كانت عودة الوفد 4 فبراير قد قوبلت بردود فعل متفاوتة ليست في مجلمها لصالح الوفد فإن طريقة العودة هذه المرة تعد سابقة خطيرة لا تتناسب وتاريخ الوفد .
ووفق تطور الأحداث بشكل افقد الكثيرين من الزعماء المقدرة على التفكير الصحيح واتخاذ القرار المناسب إلا أن النحاس يحكم علاقته الوطيدة بجماهير حزبه فقد أراد أن يحدث مناورة سياسية تصحح المعلومات لدي الرأي العام والذي بدأ يعرف حقيقة حصار القصر منذ اليوم الثاني على الرغم من أن الصحف لم تتناول هذا الموضوع حيث كانت الأحكام العرفية والرقابة الشديدة على الصحف .
إلا أن كلمات الدكتور أحمد ماهر لقد قبل النحاس الحكم على أسنة الحراب البريطانية كانت قد انتشرت وتطايرت وسط جموع الشعب المصري ومن المؤكد أن هذا الشعور قد أزعج النحاس باشا قبل أى إنسان آخر على اعتبار أن الوفد يستند إلى جماهيرية شبه مطلقة وأن سريان هذا الثر قد يحدث ردود فعل خطيرة لدي الرأي العم ومن هنا فقد توصل النحاس باشا إلى فكرة ارتضاها الطرفان – الوفد والسفارة – وفي اللقاء الأول بين النحاس ولامبسون – مساء 4 فبراير تم الاتفاق على تبادل خطابين رسميين بين الوفد والسفارة يبدي النحاس اعتراضه على التدخل في شئون مصر الداخلية وتبدي بريطانيا رغبتها في عدم التدخل في الشئون المصرية والالتزام بمعاهدة 1936 ولأهمية هاتين الرسالتين فإننا نذكرهما لأهميتهما في العلاقات بين الوفد والانجليز ولأنهما دليل واضح على التناقض في العلاقات المصرية البريطانية .
رسالة النحاس إلى السفير البريطاني:
" يا صاحب السعادة لقد كلفت بمهمة تأليف الوزارة , وقبلت هذا التكليف الذي صدر من جلالة الملك بما له من الحقوق الدستورية وليكن مفهوما ان الأساس الذي قبلت عليه هذه المهمة هو أنه لا معاهدة 1936 ولا مركز مصر كدولة مستقلة ذات سيادة يسمحان للحليفة بالتدخل في شئون مصر الداخلية وبخاصة في تأليف لوزارة أو تغييرها وأتمنى يا صاحب السعادة أن تتفضلوا بتأييد ما تضمن خطابي هذا من معاني وبذلك تتوطد صلات الود والاحترام المتبادلين " .
وكتب السفير البريطاني ردا على خطاب النحاس باشا بقوله :
" يا صاحب المقام الرفيع : لي الشرف أن أؤيد وجهة النظر التي عبر عنها خطاب رفعتكم أن أؤكد لرفعتكم أن سياسة الحكومة البريطانية قائمة على تحقيق التعاون بإخلاص مع حكومة مصر مستقلة وحليفة في تنفيذ المعاهدة البريطانية المصرية من غير أن نتدخل في شئون مصر الداخلية ولا في تأليف الحكومات أو تغيرها... " الخ . واعتقد أن هاتين الرسالتين تفتقدين في مجملهما إلى الصدق وهما من قبيل الدعابة فقط تهدئة المشاعر الثائرة . ويبدو أن الشعب المصري قد أدرك بفطرته حقيقة تلك المناورة وإذا كان الوفد قد اتفق عليهما مع السفير البريطاني لتبديد الأثر الذي أحاط بمجئ حكومة 4 فبراير إلا أنني أعتقد أنها قد أحدثت أثرا عكسيا ولعلها كانت فرصة استغلتها القوي السياسية الأخرى حيث عملت على التشكيك في صدق هاتين الرسالتين على اعتبار أنها مناورة سياسية " مكشوفة " تهدف إلى إرضاء الرأي العم الثائر ضد الوفد والوجود البريطاني معا .
ووفقا لما أحاط هاتين الرسالتين من ملابسات فإننا نسجل بعض الاعتبارات ؟
أولا : أن هاتين الرسالتين قد تم الاتفاق عليهما بين النحاس باشا ولورد كليرن ( لامبسون ) في اللقاء الذي تم بينهما مساء 4 فبراير وأن كان أحد أقطاب الوفد لا ينكر هذا الاتفاق إلا أنه يعده من منطلق تمسك الوفد بحقوق مصر الوطنية وأهمية التأكيد على أن الوفد لا يتولي الحكم إلا برغبة الملك وحده وأن هذه نقطة لا تؤخذ على الوفد بل تسجل له .
ثانيا : لقد نجحت بريطانيا وحققت رغبتها في عودة الوفد على اعتبار أنه الحزب الشعبي الكبير والقادر على استتاب الأمن وإعادة الهدوء إلى البلاد حتى تتفرغ الحليفة إلى قضيتها الأولي وهي الحرب فلا مانع لديها من أن تتبادل مع النحاس هاتين الرسالتين تقديرا منها للأثر الذي أحاط بعودة الوفد وحرصا منها على أن يظل الحزب قويا مؤثرا في المجتمع المصري .
ثالثا : لقد حرصت بريطانيا على أن تبدو أمام الرأي العام المصري وكأنها الدولة الحريصة على قضية الديمقراطية وفي نفس الوقت فإن عودة الوفد باعتباره الحزب المتمتع بالشعبية لكبري يعد انتصارا أكيدا للديمقراطية التي يرضاها الشعب المصري الحليف.
ولكن لماذا فوت الوفد على نفسه فرصة التخلص من الملكية الملك ولا سيما وقد كانت الظروف مواتية في ظل أحداث 4 فبراير ؟
من المؤكد أن هذه الفكرة قد راودت زعماء الوفد وخصوصا وأن رسائل الخارجية البريطانية إلى سفيرها في القاهرة قد أشارت إلى هذا المعني ويمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال عدة نقاط :
أولا : على الرغم من الخلافات التي لم تتوقف بين فاروق والوفد منذ اعتلاء فاروق عرش مصر سنة 1937 إلا أن الوفد لم يكن من سياسته إلغاء الملكية أو التفكير في عزل فاروق ومن المؤكد أن الوفد لم يكن حريصا على الملكية كمبدأ وإنما اعتقادا بأن فاروق يحظي بشعبية من الصعب تجنيب آثرها لدي الرأي العام المصري وقد يتهم الوفد بأنه ضليع مع الانجليز في الاتفاق على خلع فاروق ولقد بني الوفد سياسته دوما على مبدأ أن العبرة ليست في لنظام الملكي أو الجمهوري وإنما الأساس هو الشكل الدستوري الذي من الممكن لو طبق تطبيقا فعليا لجنب البلاد كل الأخطار التي مرت بها .
ثانيا : على ضوء الوثائق البريطانية فإن بريطانيا قد فكرت بالفعل في إقامة نظام جمهوري وحاولت استطلاع وجهة النظر المصرية إلا أن هذه الفكرة لم تجد استجابة سواء لدي الوفد أو الرأي العام المصري وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن بريطانيا لم يكن يعنيها بأن يكون النظام ملكيا أو جمهوريا وإنما كان حرصها بالقدر الذي يمكنها من تحقيق رغباتها ويبدو أن بريطانيا قد بدأت تراودها هذه الفكرة إلغاء الملكية – ابتداء من يناير 1942 بعد أن تأكد لها عدم إخلاص فاروق لقضية الحلفاء إلا أن هذه الفكرة ما لبثت أن تلاشت سواء بسبب رفض الوفد أو لأن تجربتها سنة 1914 حين أقدمت على عزل الخديوي السابق عباس حلمي كانت ماثلة أمام أعينهما حيث عبر الشعب المصر عن غضبه في العديد من المناسبات ولعل محاولة اغتيال السلطان حسين كامل ( والذي نصب سلطانا على مصر بعد خلع الخديوي عباس حلمي ) كانت ماثلة أمام أعين الانجليز ومن هنا فقد ترددت بريطانيا كثيرا في محاولة عزل فاروق ولو استطعت أن تقدم على تلك الفكرة لكانت قد أحدثتها إلا أن السياسة البريطانية كانت حريصة وخصوصا في تلك المرحلة الراهنة على التوفيق بين رغباتها ورغبات الشعب المصري بالرغم من تجاوزات 4 فبراير إلا أنها كانت الضرورة التي تحتم " من وجهة نظرها " الإقدام على مثل هذه التجاوزات .
ثالثا : ووفقا للظروف الموضوعية التي أحاطت بالموقف فقد كان من الممكن أن يؤيد الوفد عزل فاروق لو أن هناك بديل مناسب بدلا من الأمير محمد على والذي يفتقد إلى قدر من الشعبية بل بالعكس فقد عرف عنه أنه دائم التشكيك في الشعب المصري وغالبا ما كان يفتخر بمعرفة التركي الذي يميزه عن بقية المصريين بالإضافة إلى كبر سنه كل هذه العوامل قد دفعت الوفد إلى التمسك بفاروق لكن بشرط أن يبقي رمزا للسلطات وليس مصدرا لها .
وخلاصة القول يمكن أن نسجل بعض الدوافع التي دفعت بريطانيا إلى ارتكاب حادث 4 فبراير فيما يأتي :
1- رغبة بريطانيا في قيام حكومة مصرية موالية تكون أكثر إخلاصا لمعاهدة 1936 وتتمتع بثقتي بريطانيا والشعب المصري معا خاصة بعد أن تدهور موقف الحلفاء في ميادين أوروبا والشرق الأقصى والشرق الأوسط .
2- لقد كانت بريطانيا في ذلك الوقت تفكر في إعداد خطتها لما بعد الحرب ولما كان أساس هذه الخطة يدور حول أحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الذي صار مركز الثقل في السياسة العالمية ولما كانت مصر من أهم بلدان الشرق الأوسط وتضم أكبر قاعدة عسكرية بريطانية فقد كان من الضروري قيام حكومة موالية لبريطانية حتي يمكن التعاون على نجاح هذه الخطة .
3- لما كانت مصر هي أكبر الدول لعربية عددا وعدة وأكثرها تقدما رأت بريطانيا أن قيام حكومة برئاسة النحاس باشا قد يساعد في قيام شكل من أشكال الوحدة العربية لكي ترتبط في النهاية مع بريطانيا بصورة أو بآخري .
مسئولية الوفد عن حادث 4 فبراير
قبل الحديث عن مسئولية الوفد عن حادث 4 فبراير ينبغي أن نذكر بعض الملاحظات كمدخل لهذا الموضوع :
أولا : أن قيام الحكم في الفترة من 1938 وحتى 1942 لم يقم على أساس من الشرعية الدستورية بل كان أبعاد الوفد عن الحكم 1937 يعد تحديا واضحا من القصر نحو مشاعر الجماهير ولعل انتخابات 1938 تعد أكثر تحديا لمشاعر الجماهير حيث زيفت أرادة الأمة في تلك الانتخابات .
ثانيا: لقد قدرت بريطانيا أهمية عودة الوفد منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 ومنذ هذا التاريخ وحتى 4 فبراير 1942 مرت العاقلات بين بريطانيا والوفد بعدة مراحل اتسمت في معظمها بالتصادم ويبدو هذا من خلال الدراسة السابقة إلا أن ما أقدمت عليه الحكومة البريطانية في 4 فبراير يعد بداية جديدة وصفت بأنه أقصي ما وصل إليه التفاهم بين الوفد والانجليز .
ثالثا : لقد كان اندلاع الحرب على الجبهة المصرية ودخول ايطاليا طرفا في هذا الصراع بجانب ألمانيا من العوامل التي أدت إلى فزع الجماهير المصرية بسبب الانتصارات الكاسحة التي كان يحرزها المحور وخصوصا بعد القصف المتكرر على مدينة الإسكندرية والذي راح ضحيته مئات من المصريين وعجزت حكومة حسين سري عن السيطرة على زمام الموقف في الوقت الذي اندلعت فيه المظاهرات في معظم أنحاء المدن المصرية تنادي بسقوط الانجليز وبلغ موقف الحكومة حدا من التدهور بسبب أزمة الخبز حيث أضيف إلى قائمة الهتافات التي يرددها الناس في الشوارع " تريد الخبز قبل الكساء "
وعجزت الحكومة المصرية عن حل لعديد من المشاكل اليومية والتي كان يعاني منها المواطن المصري وبسبب كل ذلك فقد أدركت السياسية البريطانية أن عودة الوفد تعني استقرار الشارع المصري ووضع حد لمؤامرات القصر على اعتبار أن عودة الوفد تعني تهدئة المشاعر الثائرة .
وتأسيسا على هذه الحقائق يمكن القول أن مصطفى النحاس ليس مسئولا عن تصور بريطانيا ورغبتها في المجئ به فقد بني الانجليز تصورهم هذا على اعتبار أن عداء الوفد الفاشية والنازية يعتبر من أهم الأسس التي تقوم عليها سياسة الوفد واندفع الانجليز يمدون أيديهم للوفد انطلاقا من الضيق الشديد بسبب النشاط الممالئ للمحور والذي كان القصر بعد بؤرته الأولي وهو ما كان يعرقل نشاط الحلفاء العسكري أو يعرضه للخطر وعلى الرغم من قيام الوفد بالعديد من المؤامرات السياسية والتي سببت قدرا كبيرا من الإحراج لدي الدوائر البريطانية سواء في مذكرة أبريل 1940 أو في خطبه النحاس باشا في مدينة الإسكندرية في صيف1941 – إلا أن بريطانيا كانت تدرك جيدا أن كل هذه المواقف تعد من باب المناورات السياسية بهدف تمكين الوفد من العودة باعتباره الحزب الحائز على ثقة الجماهير لهذا الاعتبار رأت بريطانيا الارتباط بالوفد وهي الذي يعني من وجهة نظرهم الارتباط بالشعب المصري كله.
ومجمل القول أن ما حدث في 4 فبراير كان مظهرا للصراع بين القصر والوفد في إطار الصراع العالمي بين الحلفاء والمحور وبالتالي فغن قبول الوفد للحكم في هذه الظروف بعد إسهاما من الوفد في خدمة الحلفاء .
أما القضية القائلة بحدوث اتصال بين النحاس والانجليز وأن النحاس باشا قد تأمر بليل مع الانجليز على ما حدث في 4 فبراير وعبر هذا التصور لقوله خيانة النحاس باشا يقدم خصوم الوفد العديد من الدلائل ولعل الدكتور أحمد ماهر كان أكثر لزعماء السياسيين إدانة للنحاس حيث وجه احتجاجه الشديد على الإنذار البريطاني مخاطبا لامبسون :" أنكم لا تستطيعون بحال أن تقنعونا بأن النحاس لم يكن على علم بالنيات الخفية وليس من المعقول أن يشكل وزارة وفدية بذلك الإلحاح البالغ وبهذا التمسك العنيف من غير أن يكون له يد في الأمر .
ويبدو أن هذا الاعتقاد كان موجودا لدي معظم زعماء المعارضة وكذلك القصر حيث أن الملك فاروق عندما رأي إصرار النحاس على رفض كل اقتراح لا يضمن انفراد الوفد بالحكم قال لحسنين باشا " بالانجليزية " من المؤكد أن النحاس باشا واثق من الأرض التي يقف عليها وقد عبر الدكتور هيكل عن نفسي هذا المعني حيث يشير في مذكراته ( لقد كان أمين عثمان في استقبال النحاس باشا في محطة السكة الحديد عند عودته من الأقصر في 3 فبراير ثم يتساءل الدكتور هيكل عما إذا كان أمين عثمان قد أبلغ النحاس رسالة السفير والتي دفعته إلى التشدد في موقفه وأبدي هيكل شكه من أن يكون النحاس على علم بخطة السفارة في القصر .
حتى أن مكرم عبيد والذي كان ما يزال وقت وقوع الحادث يمثل الرجل الأول في الوفد بعدد النحاس باشا ثم انشق عليه بعد الحادث بقليل فقد شنت صحيفة الكتلة حملة ضارية مؤكدة أن النحاس كان على علم بمخططات السفارة واعتمدت في روايتها على شهادة – زكي ميخائيل بشارة – والذي كان وفديا ثم انشق مع مكرم عبيد ذكر فيها أنه رأي النحاس في الأقصر في يناير 1942 وهو يلتقي ببعض كبار الانجليز وعلق مكرم عبيد على هذا الرأي من أن النحاس كان بأسوان في نفس الوقت الذي كان يزور فيه الجنرال ستون – قائد القوات البريطانية في مصر – أسوان وأن عدة لقاءات تمت بينهما .
أما موقف الحزب الوطني فقد عبر عنه عبد الرحمن الرافعي بقوله أن مسئولية النحاس باشا تبدأ من يوم أن علم برغبة الانجليز في إسناد رئاسة الوزارة إليه وقد كان ولا ريب عالما بهذه الرغبة قبل يوم 4 فبراير راضيا عنها بل مغتبطا بها متلهفا على تنفيذها وتدل الظروف والملابسات على أن أمر هذا الانقلاب قد بليل وكان السفير بين الانجليز والوفد هو أمين عثمان الذي كان موضع ثقتهما معا .
ويشير فتحي رضوان إلى العديد من الدلائل التي يفهم منها أن النحاس باشا كان ضليعا في المؤامرة مع الانجليز ويقول علي ماهر من خلال شهادته في قضية مقتل أمين عثمان : أن العملية كلها دبرت من داخل القطر المصري وأن السفير البريطاني لم يأت بها وحده بل لابد أن اشترك معه في تدبيرها بعض المصريين والنحاس باشا لا يمكن أن يشترك في هذا المسألة بأكملها وجزئياتها وأن الذي دبر ذلك من الجانب المصري هو أمين عثمان .
أما موقف بقية الأطراف المعادية للوفد فقد كان اتهامها للنحاس قائما على الاستنتاج إذ ليس من المعقول أن يتقدم السفير البريطاني إلى القصر يطلب منه استدعاء النحاس وتكليفه بتشكيل إلا إذا كان هذا متفقا عليه مسبقا بين السفير ومصطفى النحاس كان هذا هو منطق عباس العقاد وإسماعيل صدقي .
أما إبراهيم عبد الهادي باشا فقد خرج على هذا الإجماع مؤكدا أن النحاس برئ من كل تلك الاتهامات ووفق اعتقاده فغن النحاس باشا كان صادقا ومخلصا وليس من المعقول أن يقدم على هذا العمال الشنيع .
وعلى ضوء العديد من شهادات خصوم الوفد يلزم أن نتعرف على وجهه لنظر الوفدية ثم نتبع ذلك بما نعتقد انه الحقيقة على ضوء الوثائق البريطانية .
ويؤكد النحاس باشا في أكثر من بيان وأكثر من مناسبة عدم معرفته بما كان يرتبه الانجليز حيث يقول : يشهد الله أني لم أس إلى الحكم ولم تكن مظاهرة لتستهوي نفسي ولكني تقبلته في ساعة عصيبة تلبية لصوت الضمير وطاعة لأمر الملك وإجابة لداعي الوطن فلقد كانت المهمة ثقيلة ودقيقة ولكن الحمل يخف ما دام هذا لوجه الله والوطن . وفي محاولة من النحاس باشا لإلقاء التبعة على أحزاب الأقلية قال : إن المسئولية تقع على خصوم الوفد لأنهم زيفوا إرادة الأمة سنة 1938 وظلوا يتعاقبون على الحكم ضد إرادة الشعب حتى أوائل فبراير 1942 حيث تفاقمت الأحوال واضطربت الأمور ولم تكن لى أية صلة بما كان بل كنت في أسوان خالي الذهن تماما عمنا يحدث ولما تطورت الأحداث كنت أول الموقعين على رفض التبليغ البريطاني ولما طلب مني الملك تشكيل حكومة أبديت عدم رغبتي بعد أن اتفق رأينا على الاحتجاج ولكن جلالته لم يقبل اعتذاري .
أما عن شهادة النحاس باشا في قضية مقتل أمين عثمان فقد جاء فيها إننا كنا في الأقصر حين دعيت لمقابلة الملك وكان برنامج زيارتي للصعيد سيستمر لمدة شهرين أو ثلاثة إلا أن دعوة الملك أدت إلى ارتباك في نظام الرحلة وعدت إلى القاهرة واكتشفت أنني تركت مفاتيح منزلي وكانت المشكلة هي الحصول بدلة المناسبات " الردنجوت " التي سأتشرف بمقابلة الملك بها وقام الحسيني زغلول بجمع الملابس من كل مكان إلى أن أعد لى بدلة " الردنجوت "
ولما كانت قضية أمين عثمان قد تحولت سياسة تفجرت في إطارها مأساة 4 فبراير فقد حاول النحاس باشا أن يتخذ من هذه المحاكمة ما يقوم دليلا على براءته من تلك التهمة ولعل ما ذكره سواء من تركه مفاتيح منزله أو ما كان معدا من برنامج للرحلة سيستمر شهرين أو ثلاثة ما يؤكد سواء لهيئة المحكمة أو للرأي العام المصري خلو ذهن النحاس باشا من أى شكل من أشكال التأمر مع الانجليز على اعتبار أنه ليس من المعقول أن يترك الوفد مدينة القاهرة في رحلة إلى الصعيد قد تستمر شهرين أو ثلاثة في الوقت الذي تحاك فيه مؤامرة بهدف عودة النحاس رئيسا للحكومة .
ويبدو أن التناقض الذي وقعت فيه أحزاب الأقلية قد أتاح للوفد مزيدا من فرص الدفاع عن نفسه حيث يضيف النحاس لقد اتفقنا على كتابة احتجاج ثم عاد الزعماء ليقترحوا من جديد تشكيل حكومة من بين كل الأحزاب يعلق النحاس باشا على هذا الموقف قائلا : لقد اعترضت على هذا الموقف لأن هذا يعد قبولا لرأي الانجليز وتنفيذا لأمرهم فقالوا : ما دام معنا كلنا لا يعتبر تنفيذا لأمرهم .
وهكذا تمكن النحاس باشا من أن يحمل المعارضة قدرا كبيرا من المسئولية على اعتبار أنهم لا يمانعون في التدخل البريطاني شريطة أن يكون هذا لصالحهم أما إذا استقل النحاس بتشكيل حكومة وفدية فإن هذا من وجهه نظرة يعد تنفيذا للإنذار ويستشهد النحاس باشا برفضه تشكيل الحكومة عندما طلب إليه الملك ذلك ويواصل النحاس دفاعه ؟... لقد طلب مني الملك تشكيل الوزارة فقلت : ما هي الظروف التي دعت لتغيير الموقف ؟ قال ( فاروق ) أمرك قلت : ( النحاس ) لقد تعهدنا أنه إذا ما دعي أحدنا إلى تأليف الوزارة لا يقبل ولو كان ذلك من جلالة الملك قال : ( فاروق ) : أنا صاحب الشأن وأمرك وقال أحمد ماهر : أن قبل يكون على أسنة الرماح الانجليزية قلت : ( النحاس) : اخرس أنتم جئتم على أسنة الر ماح الانجليزية ووصلتم بالبلد إلى هذه الحالة .
ويضيف فؤاد سراج الدين : ( سكرتير حزب الوفد ) قائلا : لم تكن فكرة الوزارة الائتلافية واردة في سياسة الوفد فلقد جربها النحاس باشا سنة 1928 وكانت سببا من أسباب تصدع الوزارة ثم إقالتها بحجة تصدع الائتلاف ولقد كان النحاس صريحا مع الزعماء في اجتماعه معهم صباح 4 فبراير حيث ألقي كل المسئولية على حكومات الأقلية فهي التي وصلت البلاد إلى هذه الحالة من الفوضي وبناء على ذلك فلم يكن النحاس على استعداد لكي يشترك مع شخصيات أسهمت في وقوع هذه الحالة لأن وجودهم سيعرقل المهمة ويضيف فؤاد سراج الدين قائلا : ومن الغريب أنهم كانوا متقبلين للإنذار البريطاني بشرط أن يشتركوا في الوزارة وإلا يعتبر قبول الحكم خيانة وعلى أسنة الرماح البريطانية وبالرغم من كل هذا فإن النحاس باشا قال لهم : إذا قررتم الرفض فسوف أكون أول الموقعين وبالفعل كان أول الموقعين .
ويؤكد فؤاد سراج الدين أن الوثائق البريطانية التي نشرن أخيرا لا تتضمن أى اتفاق مسبق بين السفير والنحاس مباشرة أو بواسطة أمين عثمان .
ووفقا لرأي فؤاد سراج الدين فلو أن النحاس باشا صمم على رفض الوزارة وهو بالفعل كان مصمما على ذلك وخصوصا بعد حصار الدبابات وقال للملك فاروق أنا كنت موافق لكن بعد حصار القصر وحكاية الدبابات أنا أرفض تماما فتوسل إليه الملك وكرر عليه الرجاء وعمد النحاس أن يذكر ذلك في كتاب تشكيل الوزارة حتى يسجل على الملك هذا الرجاء .
ويجيب فؤاد سراج الدين بأنه لو رفض النحاس وصمم على الرفض لكانت النتيجة الحتمية هي عزل الملك ولقد أكد السفير ذلك في مذاكرته حيث يقول : لقد شعرت بيأس وخيبة أمل حيث ضاعت منى فرصة إخراج فاروق عن العرش ولو أن فاروقا كان قد عزل إلا نكون متهمين وقتها بأن هناك مؤامرة بين النحاس والإنجليز ليرفض الأول الحكم حتى يعزل فاروق وكان على النحاس أن يقبل الوزارة وينقذ العرش .
ويؤكد فؤاد سراج الدين أن رحلة الوفد إلى الصعيد برئاسة النحاس باشا والتي كان مقررا لها شهرين أو ثلاثة بدأت من منتصف يناير 1942 ما كان لها أن تقوم في هذا الوقت بالذات لو أن هناك اتفاقا مع الانجليز أن عودة النحاس بهذه السرعة وتركه زوجته ومفاتيح منزله كل تلك الدلائل تؤكد على صدق ما نقول وإذا ما نحينا كل الأدلة المادية جانبا فإن الدليل العقلي دائما هو أقوي الأدلة حيث أن إلصاق هذه التهمة للوفد من غير النظر للقرائن والملابسات التي اقترنت بالأحداث يعتبر خروجا على بديهيات يقرها العقل ويقبلها المنطق السليم .
وأعتقد أن الوثائق البريطانية لم تحسم تلك القضية الهامة والخطيرة من هنا فقد اختلفت وجهات النظر بين الباحثين والمؤرخين كل يدلي بدلوه على قدر اجتهاده فمنهم من يعتقد أن النحاس باشا حين استدعي من الصعيد لم يكن يعرف شيئا عن نية الانجليز وهنا يأتي دور أمين عثمان عميل الانجليز المعروف والذي أطلق عليه لورد ويلسون " المفاوض المصري لحساب السفارة البريطانية وقت الأزمات السياسية " ومن المعروف أن أمين عثمان قد التقي بالنحاس باشا أكثر من مرة عقب عودته من الصعيد وأنه هو الذي أبلغه تصميم الانجليز على تكليفه بالوزارة ولعل أمين عثمان هو الذي شجع النحاس باشا على تمسكه بفكرة الوزارة الوفدية .
ويعتقد أحد المؤرخين اليساريين أن العبرة ليست في مشاركة النحاس في الإعداد لحادث 4فبراير أو عدم مشاركته لأن الهدف كان واضحا وهو ضرب مخططات المحور والعناصر الموالية له في مصر وذلك في فترة تتطلب شجاعة خاصة من أى زعيم سياسيا في حين يبدو أن عدم علم النحاس بمخططات الانجليز يعد أكتر إدانة له حيث يبدو أنهم واثقون من التزامه في تنفيذ مطالبهم في أى وقت يطلب منه هذا والبعض الآخر من المؤرخين المعاصرين قد ترك الخوض في هذا الموضوع بالرغم من تناوله هذه الفترة بالدراسة وبصدد تحديد مسئولية الوفد عن إحداث 4 فبراير 1942 يلزم أن نناقش أولا تلك المقولة التي تتهم الوفد بأنه كان كان على اتصال بالانجليز أثناء النحاس رحلة النحاس باشا إلى الصعيد والتي بدأت منذ يناير 1942.
ووفقا للمصادر البريطانية فإن السفير البريطاني لم يكن على علم باتجاهات النحاس باشا هل يفضل وزارة وفدية أو من الممكن قبوله لفكرة الوزارة القومية وأن الذي اقترح دعوة النحاس لرئاسة الوزارة وإرغام الملك على قبوله هو حسين سري نفسه والذي قال للسفير " أرغموا الملك على أن يرسل في طلب الوفد وهو ما توصل إليه السفير بالفعل "
وعلى ما يبدو فإن الانجليز كانوا يريدون وزارة وفدية منذ نشوب الحرب ولعل هذا كان معروفا للوفد ولأحزاب المعارضة وللقصر أيضا ولم يكن هذا حبا في الوفد ولا رضاء عن النحاس ولكن لاعتقادهم أن حكومات الأقليات السياسية مكروهة من الشعب وهذا لا يكفل هدوء الجبهة الداخلية في مصر مما يهدد الخطوط الخلفية لجبهات القتال ومن الجانب آخر فقد اعتقدت السياسة البريطانية أن الموقف يقتضي المجئ بالرجل .
الذي وقع معاهدة 1936 ليلتزم بتنفيذها والأهم من هذا لمجابهة الميول المحورية لدي فاروق وبعض وزرائه وكثير من الشخصيات السياسية لقد كانت استقالة حسين سري ( 2 فبراير 1942 ) مدخلا عمليا لوضع حد للصراع القائم بين القصر والانجليز ولذا فقد كان لامبسون في غاية اليقظة حتى لا يفاجأ بأن فاروقا قد أصدر أمرا بتعين أحد أتباعه رئيسا للوزارة وبما أن النحاس باشا كان في الصعيد ولم يحضر إلا صباح 3 فبراير ووفق رواية السفير :" أنني أشك كثيرا في حكمه اتصالي مباشرة بالنحاس قبل مقابلته للملك ولست أعتقد أنه سيكون راغبا في لقائي في الوقت الحاضر لأن ذلك قد يحرجه بل قد يمنعه من الذهاب للقاء الملك إذا ما علم أننا ندفعه مقدما للاتفاق معنا .
ومن الواضح أن السفير لم يكن قد توصل بعد إلى أى اتفاق مع النحاس ولعل هذا واضحا من حرص السفير على عدم اتصاله بالنحاس مخافة أن يتراجع حتى لا يتهم بالاتفاق مع الانجليز .
ولقد طلب أمين عثمان أن يقابلني هذا الصباح وكنت قد نجحت عن عهد لقاءه خلال الأشهر الثلاثة الماضية لا منع أى أساس للشائعات أما الآن فقد تغير الموقف تماما وقد أصبح الآن من جديد ذا قيمة بوصفه موضع ثقة النحاس كما وافقني على أنه من الخطأ مقابلة النحاس بأن عليه أن يرفض الاقتراح القائل بتشكيل وزارة انتقالية لكن عليه أن يعرض بكل ما في وسعه لتشكيل وزارة ائتلافية وهذا من شأنه أن يدعم موقفه بالنسبة للشعب المصري وبالنسبة إلينا .
ومن الواضح وفقا للوثائق البريطانية أن مصطفي لنحاس لم يكن بينه وبين الانجليز أى اتصال قبل 3 فبراير ولديه علم بالمؤامرة أو أن الانجليز قد اتصلوا به أثناء رحلته إلى الصعيد ولا يبقي سوي أن يكون هذا التواطئ قد حدث في وقت ما بين صباح 3 فبراير وبين الساعة التاسعة والنصف من مساء يوم 4 فبراير 1942 وهي الساعة التي كانت ختام هذا اليوم العاصف .
وأعتقد أن أول اتصالات جرت بين السفير البريطاني ومصطفى النحاس كانت صباح 3 فبراير وكان أمين عثمان هو الواسطة بينهما حيث اتفق الطرفان على رفض الوزارة الائتلافية واتفقت وجهة نظر حسين سري مع وجهة نظر النحاس في أن الحكومة الائتلافية نوع من تضييع الوقت وفرصة لتآمر القصر وعاد أمين عثمان بأول رسالة حملها إلى مصطفى النحاس ومعه القرائن الآتية :
1- النحاس باشا سيرفض عند مقابلته للملك فض قاطعا تشكيل وزارة ائتلافية على اعتبار أن الوضع في البلاد سيئ جدا وأن قيام حكومة ائتلافية ستكون عرضة مؤامرات القصر .
2- أن النحاس باشا سيكون مخلصا لقضية الحلفاء بكل جوارحه فقد عمل ذلك دائما من قبل وسيفعل هذا سواء وجدت المعاهدة أم لم توجد .
3- يرغب النحاس باشا في مزيد من الوعود بأن بريطاني ستظل على مساندتها له ولن تحيد عن ذلك .
وعلى ما أعتقد فإن المساندة التي كان يطمع فيها النحاس لا يمكن أن تكون إلا مساندة معنوية تتمثل في الضغط على الملك فاروق وفي محاولة من النحاس لتقريب الهوة بين القوتين المصارعين – الانجليز والقصر – فقد أعلن أنه على استعداد لتخصيص بعض المقاعد لسائر الأحزاب الأخرى ولا مانع من قيام مجلس استشاري يختار أعضاؤه من سائر الأحزاب كرمز للائتلاف .
وعقب اللقاء الذي تم بين فاروق والنحاس صباح 3 فبراير استوثق كل من الطرفين – الوفد والانجليز من موقف الآخر رفض النحاس فكرة الوزارة القومية وأصر على رفضه وبناء على ذلك قام السفير باستدعاء أحمد حسنين رئيس الديوان وأخبره بأنه علم برفض النحاس وطلب إليه أن يرفع إلى الملك نصيحة السفير بدعوة النحاس باشا لتأليف الوزارة الوفدية إلا أن أحمد حسنين قد لجأ إلى أسلوب المناورة السياسية الوفدية لكسب مزيد من الوقت حتى يتمكن فاروق من إقناع مصطفى النحاس بالعدول عن موقفه .
ومن هنا فقد بدأت الخطوة العملية في المخطط البريطاني حيث تقدم لامبسون بالإنذار البريطاني والذي يتضمن :
إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم ( 4 فبراير) أن لنحاس باشا قد دعي لتأليف الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجب أن يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج .
ومن المؤكد أن النحاس باشا قد أدرك مدي الحرج الذي وقع فيه وفي محاولة من لامبسون لتبديد هذا الإحساس من جانب النحاس فقد حمل أمين عثمان بعض الاقتراحات إلى النحاس باشا لكي يتمكن من الرد على الملك فاروق أثناء اجتماعه به في نفس اليوم ومما يضاعف من مسئولية النحاس " من وجهة نظرنا " أن المبررات التي ساقها النحاس للرد على فاروق هي نفس المبررات التي حملها أمين عثمان والتي اقترحها لامبسون وبخصوص هذه الاقتراحات بعث لامبسون إلى حكومته قائلا : لقد اقترحت على النحاس باشا من خلال أمين عثمان أن يرد على الملك أثناء اجتماعه به اليوم بأنه لا علم له لوجود تدخل بريطاني وأن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يعين رئيس الوزارة هو الملك وأن الموقف في البلاد قد بلغ مرحلة خطيرة لأنها لا تحكم بواسطة حزب ديمقراطي حقيقي وأنه – النحاس - باعتباره ممثلا للأغلبية فلا مانع لديه من قبول رئاسة الحكومة وإنقاذ لموقف إذا عهد إليه جلالة الملك بذلك .
ولعل هذا التطابق الغريب قد يبدد المقولة التي أوردها أحد زعماء الوفد والتي تعني أن أمين عثمان لم يكن يعمل لحساب الوفد أو بتكليف منه وإنما كان يعمل لحساب نفسه فقط .
وعلى ضوء كل ما تقدم يمكننا أن نسجل بعضا من الاعتبارات ؟
أولا: أن عدم مقابلة لامبسون للنحاس باشا لا يقيم دليلا على عدم وجود اتصالات بينهما لأن رسولهما في ذلك كان أمين عثمان والذي لعب دورا خطيرا طوال اليومين اللذين سبقا الحادث ( 3,4 فبراير 1942).
ثانيا : وفي محاولة من أحد زعماء الوفد لتبديد تلك الاتهامات فقد ساق في احدي مبرراته من أن الوثائق البريطانية قد نصحت صراحة على عدم قيام أى نوع من الاتصالات الشخصية بين النحاس ولامبسون إلا أننا نعتقد أن ما ذكره الزعيم الوفدي جاء على ما ذهب ولا تقربوا الصلاة من أن يكمل بقية الآية حيث أن نص برقية السفير إلى حكومته قد وردت على النحو لتالي : عندي تحذير واحد وهو أنه لم يحدث في أى وقت خلال هذه القضية سواء في تشكيل الوزارة الجديدة أو في فكرة عزل الملك أن أجريت اتصالا شخصيا مع النحاس والنتيجة أنه لم يعد متاحا فقط للنحاس أن يذكر علنا – وهو بالقطع سينكر – أن لنا يدا في مساعدته بشئ أو أنه ملتزم بشئ ما تجاهنا وليس معنا في الحقيقة ما نلوح به في وجهة ولو بصفة سرية أنني لا أعتبر الرسائل التي تبودلت عن طريق أمين عثمان بمثابة بديل مرض على الإطلاق لأن مثل هذه الرسائل ربما لا تكون قد سلمت أو على الأقل قد سلمت في شكل مخالف تماما لما أرسلت به تلك هي نص الوثيقة التي يسوقها أحد زعماء الوفد ليقيم بها دليلا على عدم وجود أى نوع من الاتصالات بين الانجليز والنحاس باشا وعلى الرغم من أنها تنفي وجود أى اتصال شخصي بين النحاس ولامبسون إلا أنها تؤكد أن الاتصالات قد تمت عن طريق أمين عثمان والذي كانت تعتبره الدوائر البريطانية المفاوض المصري لصالح الانجليز .
ثالثا : ومن خلال هذه الدراسة يمكننا القول أن النحاس باشا لم يكن مسئولا مسئولية مطلقة حيث أن الظروف الموضعية والملابسات التي أحاطت بالقضية قد دفعت الوفد تلقائيا إلى التضامن مع الانجليز , وإذا كان هذا التضامن يمثل نقطة التقاء أعتقد أنها جديرة لكي يتضامن الوفد من أجلها وهي تحقيق الشرعية الدستورية وأن عودة الوفد تعني التجسيد الحي لتلك الشرعية باعتبار أن حزب الوفد هو الحزب الذي يحظي بالأغلبية البرلمانية وبالنظر إلى ظروف العصر وفهم العلاقات المصرية البريطانية من منطلق معاهدة 1936 وما تلا ذلك من قيام الحرب العالمية الثانية والمواقف الصعبة التي كانت تواجهها بريطانيا ووجهة النظر الوفدية التي تعني أن لتعاون مع الحليفة في شدتها تعتبر نوعا من الوفاء وتقديرا للمسئولية إذا نظرنا إلى كل هذه الاعتبارات وقيمناها تقييما موضوعيا يبدو أنه من الطبيعي جسدا أن يتضامن الوفد مع الانجليز طالما أن هذا التضامن يعد في إطار من الشرعية الدستورية وإذا ما وضعنا في الاعتبار أيضا أنن كل أحزاب الأقلية ما كانت تنكر هذا التضامن لو أنه جاء لمصلحتها .
القضية الهامة والتي اعتبرها لب الموضوع هي حصار قصر عابدين بالدبابات لأنها السبب المباشر في كل ما ترتب على هذا الحادث فوفقتا لكل المصادر التي تناولت هذا الموضوع وفي مقدمتها الوثائق البريطانية فلم أجد ما يشير ولو من بعيد إلى أن النحاس كان على علم بما يعده مجلس الحرب البريطاني ومن خلال لمراسلات التي حملها أمين عثمان كواسطة التقاء بين الطرفين المتصارعين – الانجليز والقصر – لم أجد ما يفهم من أن النحاس باشا كان ضليعا في تلك المؤامرة ولعله كان يتصور أن الموقف سيقف عند حد الضغط المعنوي على الملك فاروق وعند هذا الحد يكون التضامن مع الانجليز أمرا يبدو إلى حد كبير قضية عادية ولذا فإنني أعتقد أن المسئول الأول هو السفير البريطاني ثم تتعدد المسئوليات بعد ذلك كل على قدر دوره . وعلى الرغم من انتهازية الوفد ورغبة الكثير من أعضائه في الوصول إلى الحكم إلا أن هناك عدة عوامل موضوعية دفعت الوفد إلى مسلكه الذي سلكه في 4 فبراير :
1- العداء التاريخي بين الوفد والقصر ثم تحمس القصر المتزايد للمحور – كان يحدث أثرا مضادا داخل دوائر الوفد ويضاعف من حدة الصراع القائم بينهما.
2- لم يكن أمام النحاس إلا أن يلقي بكل ثقله تجاه الحليفة بسبب علاقة القصر بالمحور في الوقت الذي يعتقد فيه الوفد أن قضية الحرب التي يدافع من أجلها الحلفاء هي قضية الديمقراطية في العالم كله والتي هي أساس التضامن بين الوفد والاحتلال .
3- لقد اعتمدت كل أحزاب الأقلية على القصر اعتنقت فكرة " الحقوق الدستورية للقصر " والتي كانت تعني من وجهة نظرهم أن القصر يملك ويحكم وأصبح الوفد هو الهيئة السياسية الوحيدة التي تفتقد معاضدة القصر .
وهو عامل لا يمكن التقليل من شأنه حيث أن قضية الديمقراطية كانت تفسر تفسيرات خاطئة تؤدي في النهاية إلى الإطاحة بحزب الأغلبية ومن هنا فقد قدر الوفد المقولة القائلة – حرام علينا حلال على غيرنا ومن هنا أيضا كان اعتماد الوفد على الانجليز هذا الاعتماد الذي أدي إلى نتائج خطيرة ليس على سياسية الوفد وشعبية فقط وإنما على تاريخ مصر السياسي عموما .
الفصل الثالث : سياسة حكومة 4 فبراير
إعادة الانتخابات البرلمانية
لقد كان السؤال الوحيد الذي وجهه تشرشل لأنتوني أين في اجتماع حكومة الحزب عند نظر موضوع تكليف النحاس بتولي الوزارة : هل سيؤدي ذلك إلى انتخابات جديدة ؟ وكانت لندن لا تري ضرورة من إجراء الانتخابات الجديدة في ظل الجو السياسي المضطرب وف يجو عسكري يميل ميزانه لصالح الألمان .
إلا أن النحاس باشا على ما يبدو قد استطاع أن يقنع الدوائر البريطانية بأهمية إعادة الانتخابات البرلمانية على اعتبار أن الوفد لم يعط ثقته للبرلمان القائم منذ انتخابات سنة 1938 والتي قاطعها الوفد والنتيجة المنطقية أن حكومة الوفد لا يمكنها أن تمارس سياستها في ظل برلمان يميل في سياسته إلى أحزاب الأقلية وقد تحدث عملية سحب الثقة من الحكومة وهذا أمر يضاعف من حرج الوفد ويقلل من هيبته ويفقده الشرعية في البقاء وعلى ضوء كل ذلك فقد وافقت وزارة الخارجية البريطانية وعبرت عن وجهة نظرها بأن هذا الإجراء يدعو للأسف ولكن لابد لنا من احتماله والانتخابات التي يجريها الوفد أقل تزويرا من الانتخابات التي يجربها خصومه .
وهناك دلائل تشير إلى أن الحكومة البريطانية كانت تود أن يترك الوفد عددا من المقاعد البرلمانية لأحزاب المعارضة وهي بذلك ترمي إلى غرضين :
أولهما : حتى لا تترك الساحة خالية أمام الوفد وبذلك تكون بريطانيا قد ألقت بكل أوراقها في جبهة واحدة وهو أمر لا تضمن عواقبه .
ثانيا : لقد أرادت بريطانيا أن يظل الباب مفتوحا أمام أحزاب المعارضة حتى لا تتعرض المصالح البريطانية لهجمات المعارضة والقصر معا ولقد عبر ايدن عن هذا المعني بقوله : أننا لا نستطيع أن نقترح تزوير الانتخابات ولكننا نطالب بتخصيص عدد من المقاعد في مجلس النواب للمعارضة أى لا يرشح الوفد أحد من أعضائه في تلك الدوائر وهذا يعد أفضل طريقة حيث لا يستطيع الوفد إثارة نشاط سياسي في البلاد إذا اقتصر البرلمان على الوفديين وهذا ضاعف من قوة خصوم الوفد في البلاد.
ومن المؤكد أن حرص بريطانيا على قيام معارضة من نوع ما لم يكن خدمة لقضية الديمقراطية في مصر ما كانت تحرص عليه من استقرار الأوضاع وهو ما كانت ترمي إليه من وراء أحداث 4 فبراير 1942.
وعلى ضوء هذا المعني بدأت عدة اتصالات مع حزب الأحرار الدستوريين وكان مكرم عبيد هو واسطة الاتصال إلا أن النحاس قد اشترط قبل الاتفاق على عدد المقاعد التي سوف تترك خالية للأحرار الدستوريين أن يعلنوا أن مصطفى النحاس قد أدي خدمة جليلة للعرش وللبلاد بقبوله الوزارة في 4 فبراير وهذا ما رفضه الأحرار الدستوريين رفضا قاطعا .
ولما كانت هذه الاتصالات تتم من غير علم الهيئة العمة للحزب ولم يكن هناك تفويض لإجراء مثل تلك الاتصالات فقد اجتمعت هيئة الحزب واتفق الأعضاء على الدخول في مفاوضات مع الوفد بشرط أن تترك للمعارضة ثلث مقاعد النواب بلا أى مناقشة من الوفد.
إلا أن النحاس باشا لقد رفض هذا الاقتراح حرصا على بقاء الأغلبية المطلقة للوفد وحتى لا تثأر أحداث 4 فبراير في البرلمان وعاد الأحرار الدستوريون ليقترحوا رفع الأحكام العرفية أثناء الانتخابات ليقول المرشحون ما شاءوا وضربوا مثلا بما حدث في 4 فبراير مما جعل النحاس يصر على رفضه إلا أن الدكتور هيكل قد أراد أن يسجل على الوفد هذا الموقف فأرسل إلى رئيس الوزراء كتابا يطلب إليه فيه التصريح بحرية الخطابة والنشر والاجتماع خلال فترة الانتخابات إلا أن كل هذه لمحاولات قد باءت بالفشل حيث رفض النحاس رفضا قتطعا متهما أحزاب الأقلية بمحاولة إيقاظ الفتنة وتجديد الأزمة والتحريض على الإخلال بالنظام وتعكير الأمن العام ويضيف النحاس قائلا : تطلبون وقف الأحكام العرفية والرقابة الصحفية لتهيئ لكم الحكومة بأيديها جوا تفرخ فيه الدسيسة وتشب الفتنة ويمهد السبيل للكارثة التي لها تعلمون فهل تحسبون أنكم توقعون في الحرج ولزموننا الحجة بذلك العبث المفضوح ؟ أننا لو حققنا لكم غرضكم بإجابتكم ما تطلبون ؟ إننا إذن شركاؤهم وزملاؤكم في العبث .
وهكذا لم تحقق تلك الاتصالات أى نوع من التفاهم مما اضطر الدستوريون إلى الإعلان عن مقاطعة الانتخابات ولعل هذا الموقف من الدستوريين كان يحمل قدرا من التناقش فلم يكن موقفهم نابعا من مبدأ أو فلسفة فهم مستعدون لدخول الانتخابات بشرط الاتفاق على الدوائر الانتخابية أو رفع الأحكام العربية متناسين تماما انتخابات 1938 وأن الوفد قد طلب منهم التفاهم ضمانا لحيدة الانتخابات إلا أنهم قد رفضوا أن يكون للوفد أى وجود في البرلمان ولذا فقد أجمع أصدقاء المعارضة بأنها كانت انتخابات مزيفة صادرت رأي الشعب وجردته من هويته سواء فيما يتعلق بتعديل الدوائر الانتخابية لصالح أحزاب الأقلية أو في نقل رجال الإدارة بما يتفق وأحزاب الأقلية .
أما عن موقف حزب السعديين فلم يختلف كثيرا عن موقف الدستوريين حيث بادر الدكتور أحمد ماهر رئيس لحزب بإرسال خطاب إلى النحاس يطلب إليه فيه رفع الأحكام العرفية بما يتفق وحرية الانتخابات على اعتبار أن هذا مطلبا طبيعيا اتفقت عليه كل الأمم وحمل رد النحاس باشا على خطاب الدكتور أحمد ماهر الرفض القاطع على اعتبار أن الحرية التي تعنيها المعارضة هي العبث الضار بأمن الوطن وسلامة الدولة .
وأصدر الأحرار الدستوريون والسعديون قرارا بمقاطعة الانتخابات ولعل غرضهم من وراء ذلك هو المزيد من إحراج الوفد وتبريرا لموقفهم الذي ارتضوه من أحداث 4 فبراير .
والجدير بالذكر أن موضوع الانتخابات ومنذ صبيحة يوم 15 فبراير كان الشغل الشاغل للأحزاب المصرية التي تعودت أن تعطي لموضوع الانتخابات الأولوية على غيره من الموضوعات الهامة والخطيرة حتى فيما يتعلق بالقضايا المصيرية كقضية الاستقلال والتحرير وقد كان الاستعمار ورجاله قد تعودوا على أن يشغلوا الأحزاب المصرية بفكرة الانتخابات لينشغلوا بها عما عداها من الأمور بالغة الخطورة حدث هذا في عام 1923 عندما رأت بريطانيا تصفية ثورة 1919 وحدث هذا عندما التأمت الأحزاب بعد " تصدع " في نوفمبر 1925 وحدث هذا أيضا لامتصاص ثورة الشعب المصري سنة 1936 ثم هذا ما حدث بالضبط عقب 4 فبراير 1942 .
وبالرغم من أن بريطانيا كانت حريصة هذه المرة على أرجاء عملية الانتخابات نظرا لتدهور الأوضاع العسكرية على الجبهة المصرية إلا أنها قدرت في النهاية أهمية الانتخابات كوسيلة لانصراف الشعب عن التدخل المهين الذي أهان كرامة مصر وهز من كبريائها استقلالها بهدف أن تنشغل الأحزاب المصرية بمعارك جانبية .
وأعتقد أن انتخابات 1942 قد شهدت أكبر مهزلة في تاريخ الانتخابات البرلمانية حيث تسابق الناس في إظهار وفديتهم حتى أولئك الذين أوقفوا جهودهم للنيل من الوفد وتجريح زعمائه سرعان ما تحولوا بقدرة عجيبة وغريبة إلى مناصرة الوفد ومحاولة التقرب إلى زعمائه بكل الوسائل الممكنة بما فيها إراقة مياه وجوههم وسرعان ما امتلأ النادي السعدي بمرضي السياسة وهواة الانتخابات وخلت أندية الأحزاب الأخرى إلا من أعضاء مجالس إدارتها بل أن الكثيرين من أعضاء مجالس الإدارات لم يكونا – في كل حزب – وحدة واحدة بل كانوا منقسمين على أنفسهم بعضهم يدعو إلى التقرب من الوفد للحصول على نسبة محترمة من المقاعد وبعضهم يرفض هذه " الصدقة " من الوفد ويصر على الانتخابات حرصا على كرامة الحزب وعلى الرغم من اتفاق الدستوريين والسعديين على مقاطعة الانتخابات إلا أن مواقف كلا من الحزبين لم تكن أبدا متفقة حيث أن بعض قادة الأحرار الدستوريين قد حاولوا الاتفاق مع الوفد من وراء ظهر حلفائهم السعديين كرد على اتفاق أحمد ماهر من وراء ظهر الدستوريين ولكن قادة آخرين من الأحرار الدستوريين أصروا على الاتفاق مع السعديين فيما يتعلق بموقفهم من الانتخابات ذلك لأن اختلاف الحزبين المعارضين يضعفهما معا واتفاقهما يكتب لهما القوة وبالرغم من قرار المقاطعة الذي اتخذه الحزبان المعارضان إلا أن عدد المرشحين من الحزبين قد زاد على المائة كان منهم من حارب الوفد يوم أن كانت محاربة الوفد جواز المرور إلى السلطان .
وكان من بين الذين خرجوا على قرار حزبهم بمقاطعة الانتخابات من السعديين – على أيوب ومن الدستوريين عبد المجيد إبراهيم باشا ورشوان محفوظ باشا وعبد الجليل أبو سمرة باشا وسيدر خشبة باشا وقد علق الدكتور أحمد ماهر بأن حزبه لن يتخذ أى إجراء ضد من يرشح نفسه رغم أن قرار مقاطعة الانتخابات كان بإجماع أعضاء الهيئة السعدية .
أما الدكتور هيكل زعيم الدستوريين فقد صرح بأن قرار حزبه بمقاطعة الانتخابات لم يكن بالإجماع بل كان بالأغلبية وكل من رشح نفسه من الأحرار الدستوريين له مكانته في الحزب وله رأيه أيضا .
ولقد اختلف موقف بعض القوي الأخرى ذات التأثير الفعال في المجتمع المصري ومنها جماعة الإخوان المسلمين والتي أكدت من خلال مبادئها على مبدأ الشورى في الإسلام في الإسلام ولكنها اعترضت على الشكليات الفارغة والتقليدية والتي جربتها الأحزاب السياسية في مصر خلال عشرين عاما ولم يترتب عليها إلا الفرقة والخوف وتساءل الشيخ حسن البنا هل البلاد التي ليس فيها أحزاب ليست بلادا دستورية نيابية .
وعلى الرغم من موقف حسن البنا من فكرة الأحزاب وعدم إيمانه بمبدأ الحزبية إلا أنه قد نزل عل رغبة الجماعة وقرر ترشيح نفسه في الانتخابات لكن ليس من خلال حزب وإنما من خلال الدعوة إلى إصلاح المجتمع بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية ومن المؤكد أن هذا الموقف الاستراتيجي لجديد قد أزعج النحاس باشا مما اضطره إلى استدعاء حسن البنا حيث طلب منه العدول عن فكرة الانتخابات بشروط وعد الوفد بتنفيذها ومن بين هذه الشروط اهتمام حكومة الوفد بمشروع فرض الزكاة ومشروع تحسين الصحة وإلغاء الدعارة .
ويبدو أن قرار الشيخ حسن البنا بالعدول عن فكرة الانتخابات كان صدمة لأعضاء جماعة الإخوان ومن المؤكد أن حسن البنا قد عدل عن فكرة ترشيح نفسه بعد أن اتخذ معه النحاس سياسة الترهيب قبل الترغيب حيث يشي أحد تقارير الأمن العام إلى أن النحاس قد هدد باتخاذ إجراءات قاسية ضد الإخوان ولما استوضح الشيخ البنا عن تلك الإجراءات قال النحاس : إنها حل جماعة الإخوان نفي زعمائها خارج القطر وتلك هي رغبة هؤلاء الناس – يقصد الانجليز – فوافق البنا على التنازل لا خوفا من النفي ولكن حرصا على قيام جماعة واستمرارها وذهب الشيخ البنا وقدم التنازل بعد أن أخذ وعدا بعدم التعرض لأعضاء الجماعة ولنشاطاتهم وعدم مراقبتها أو التضييق عليها ووعده النحاس بذلك.
وأعتقد أن النحاس قد قرر خطورة أن يرشح الشيخ البنا نفسه من خلال الدعوة لمبادئ الشريعة الإسلامية حيث سيضاعف من إحراج حكومة الوفد بالإضافة إلى ما عرف عن الشيخ البنا من صراحة في القول ستؤدي بلا شك إلى زعزعة ثقة الجماهير في حكومة الوفد لهذا كان موقف النحاس ومساومته للشيخ حسن البنا وقد لخص البنا أسباب تنازله فيما يأتي :
1- الحرص على قيام الجماعة في مختلف البلاد
2- كسب ثقة النحاس باشا بوصفه رئيس الحكومة وزعيم الأغلبية
3- عدم الاطمئنان نتيجة الانتخابات خوفا من التلاعب واستغلال خصومهم ذلك لتشويه سمعتهم .
وعلى الرغم من أن السعديين والدستوريين بالإضافة إلى الإخوان المسلمين قد قرروا جميعا مقاطعة الانتخابات إلا أن حكومة الوفد خشيت أن يكون من بين المستقلين ن ينافس مرشحيها وقد يفوز عليهم لذلك لجأت إلى تعديل لدوائر الانتخابية تعديلا يلائم أهواء أنصارها .
ويعترف الدكتور هيكل بأن تعديل الدوائر الانتخابية من الوسائل التي لجأت إليها الوزارة المختلفة متذرعة بحجة أو بآخري وغايتها الحقيقية " إغلاق " الدوائر على مرشح بذاته .
ويؤكد أحد زعماء الوفد أن ما قامت به الحكومة لا يعني تعديل الدوائر الانتخابية وإنما يعني إعادة الدوائر إلى ما كانت عليه قبل انتخابات 1938 حيث لجأت حكومة محمد محمود إلى تمزيق الدوائر الانتخابية أو إضافة بعضها إلى بعض بما لا يتفق والحدود الجغرافية والتوزيعات السكانية للأقاليم وكان هدف حكومة محمد محمود هو توزيع الدوائر على الأصدقاء والمحاسيب.
وإنصافا للحق فإن وزارة محمد محمود والتي أجرت انتخابات سنة 1938 قد زيفت إرادة الأمة عن طريق العديد من الإجراءات ويعترف الدكتور هيكل بأن ما أقدمت عليه الحكومة سنة 1938 كان مما لا يسيغ لعقل إقراره لبعد البلد الذي يراد إضافته لدائرة أخري أو لأن السلخ أو الضم يجعل شكل الدائرة غير مقبول جغرافيا وهذا يدل على أن أحزابنا وهيئاتنا السياسية لا تفرق بين الاعتبارات القومية والمصالح الحزبية .
ولم تقتصر حكومة محمد محمود 1938 على تعديل الدائر فقط بل لجأت إلى إجراء الانتخابات على مرحلتين الوجه القبلي في يوم والوجه البحري بعد ثمان وأربعين ساعة ويعترف الدكتور هيكل أيضا بأن المحافظة على الأمن والنظام كانت الحجة والرسمية لتسويغ إجراء الانتخابات في يومين بدلا من إجرائها في يوم واحد ولعل محمد محمود كان أكثر اطمئنان إلى الوجه اقلبي فإذا جرت فيه الانتخابات وظهرت نتيجتها وكانت الأغلبية الكبري فيها لأنصار الحكومة أثر لذلك في مجري الانتخابات في الوجه البحري تأثيرا كبيرا .
وإذا كان تعديل بعض الدوائر الانتخابية له ما يبرره من وجه النظر الوفدية إلا أن ما أقدمت عليه حكومة الوفد من فصل بعض العمد والمشايخ الذين يؤازرون خصومها وتعيين العمد والمشايخ الذين يناصرنها هذا الإجراء لا يتفق ومبدأ الديمقراطية التي يزعم الوفد أنه ما جاء إلى الحكم إلا من أجلها , وتشير مضابط مجلس النواب إلى أنه قد تم فصل سبعة عشر عمدة من مركز اسنا وحده ويبدو أن هذا الإجراء قد أثار ردود فعل متباينة مما اضطر أحد أعضاء مجلس النواب إلى أن يتقدم باستجواب أجابت عليه الحكومة مستندة إلى المادة الخامسة من الأمر العالي الصادر في 16 مارس 1885 والتي أجازت رفد العمد والمشايخ بقرار من وزير الداخلية وأنها لم تعلق هذا الحق على إجراءات أو بواعث بل تركت ذلك لمجرد تقدير الوزارة التي ليست مكلفة بأن تدن الباعث على الرفت في قرارها وكان هذا الرأي في صراحته قاطعا بأن رفت لعمد من أخص خصائص السلطة التنفيذية التي ليست مسئولة أمام البرلمان إلا فيم يتعلق بالأمن العام أو مخالفة للأوضاع التي تقرها القوانين وثم خطوة أخري كان لها أكبر الأثر في الحركة الانتخابية وكانت موضوع عناية الوزارة وهي رؤساء اللجان التي تتولي الإشراف على عملية لا انتخابات والتي اختارتهم من الموظفين أنصارها حيث أن رؤساء للجان هم الذين يقضي إليهم الناخبون الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وهؤلاء يكادون يبلغون السبعين في المائة من مجموع الناخبين , ونشرت جريدة التيمز مقالا علقت فيه على انتصار الوفد في الانتخابات فقالت أن مما ساعد الوفدين أن الحزبين الرئيسيين اللذين يعارضان الوفد وهما الحزب السعدي والأحرار الدستوريين قررا عدم الاشتراك في الانتخابات ولو فرض وقرر الحزبان دخول معركة الانتخابات فإنهما كانا لا يستطيعان الفوز بعدد من المقاعد يزيد كثيرا على ما نالته المعارضة الآن . وقد حرم الحزبان من أى تأييد واسع النطاق من جانب الشعب المصري بسبب اتحادهما في سلسلة من الوزارات كانت لا تمثل أكثر من أقلية يسيرة بل لسبب أهم من ذلك وهو فشل السلطات المصرية في العهود السابقة في حل مشاكل أهم من ذلك وهو فشل لسلطات المصرية في العهود السابقة في حل مشاكل أجور العمال ومسألة التموين ويبدو أن الصعوبات التي تواجه حكومة النحاس باشا اقتصادية أكثر منها سياسة وقد يضطر الوفديون إلى اتخاذ قرارات حماسية لتقريب الهوة الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية في مصر .
وكذلك أجريت انتخابات أعضاء مجلس الشيوخ في الدوائر التي خرج أعضاؤها بالقرعة في مارس 1941 بمناسبة التجديد النصفي للمجلس فأسفرت أيضا عن أغلبية وفدية كبري .
واستصدرت الوزارة ومرسوما في 22 فبراير 1942 بإبطال مرسوم 24 مارس 1941 الصادر في عهد وزارة حسين سري فيما قضي به من تعين أعضاء المجلس الشيوخ خلفا للأعضاء المعينين الذين خرجوا بالقرعة وكانت حجة الحكومة في إسقاط عضوية الشيوخ أن تعيينهم كان يجب ألا يحدث إلا بعد إجراء الانتخابات في الدوائر التي خرج أعضاؤها بالقرعة في التجديد النصفي .
وعينت الوزارة بدلا من الذين أبطلت تعيينهم شيوخا آخرين معظمهم من الوفديين أو من الذين عرفوا بصداقة الوفد , وافتتح البرلمان بمجلسيه ( النواب والشيوخ) يوم الاثنين 30 مارس 1942 وألقي النحاس خطبة العرش والتي خلت تماما من الظروف والملابسات التي أحاطت بتشكيل وزارة 4 فبراير وهكذا أسدل ستار كثيف على مسرح السياسة المصرية حول أحداث 4 فبراير فلم يسمح لأحد بمناقشته أو التعرض إليه فالصحافة نظرا لقيام الأحكام العرفية لم تذكر شيئا على الإطلاق سوي الأمر الملكي بدعوة مصطفى النحاس لتأليف الوزارة ولما قدم أحد أعضاء مجلس الشيوخ استجوابا عن الظروف والملابسات التي أدت إلى تأليف الوزارة ثارت ضده ضجة من الشيوخ الوفديين في المجلس فقير الاستجواب في الحال حيث دفعت الحكومة بعدم جواز مناقشة قال مقدم الاستجواب : أنا لا أريد أن أتعرض لهذا الحق لأنه حق مسلم به ولكن أريد أن أتعرض لصحة الاحتيار وهل كان هذا الاختيار حرا صحيحا – أم أن هناك ضغوطا قد وقعت هذا هو موضوع الاستجواب .
وقد أثار ذلك ضجة من مقاعد الوفديين قال على اثر رئيس المجلس " أن قولك هذا يعتبر ماسا بالعرش ومخالفا لنص الدستور ولا أسمح بالاستمرار فيه "
ويبدو أن الحكومة قد أغلقت كل المنافذ لتي من الممكن أن يثأر من خلالها حادث 4 فبراير فعلي الرغم من أن موضوع الاستجواب قد أثير داخل مجلس الشيوخ وهي الهيئة النيابية الوحيدة الكفيلة بحماية نوابها من ديكتاتورية الأغلبية إلا أن هذا الحق قد سلب أيضا من الأعضاء وحرصا من الحكومة على عدم تداول هذا الموضوع لدي المعارضة فقد صدر أمر عسكري في 24 أكتوبر 1942 بتشديد العقوبة المنصوص عليها في المرسوم بقانون رقم 22 لسنة 1929 والتي جعلت عقوبة الحبس إجبارية لمن يحرض الطلبة على القيام بالمظاهرات أو تأليف لجان أو جماعات أو الاشتراك بأية طريقة في تحرير أو توقيع أو طبع أو نشر أو توزيع محاضرات سياسية أو اجتماعية موجهة إلى السلطات بشأن مسائل أو أمور ذات صبغة سياسية أو الامتناع عن تلقي الدروس أو مغادرة معاهد التعليم أو الانقطاع عنها .
وعلى الرغم من قرار مقاطعة الانتخابات والذي تم بالتضامن بين حزبي الدستوريين والسعديين إلا أن الدكتور هيكل زعيم الدستوريين قد خرج على هذا الاتفاق وقبل التعيين في مجلس الشيوخ على اعتبار أن الحزبية ليست أشخاصا وإنما هي فكرة وعقيدة وما دام رجال الحزب متمسكين بالفكرة التي أنشي من أجلها فإن خروج فرد أو أفراد على قرار من القرارات لا يعتبر خروجا من الحزب أو خروجا على فكرته فليس من الضروري أن يكون جميع رجال الحزب أو خروجا على فكرته فليس من الضروري أن يكون جميع رجال الحزب الواحد متفقين على واحد في كل مسألة من مسائل بل أن حرية الرأي هي أول مظهر من مظاهر قيام الأحزاب وأهم ميزة من ميزات الحياة الديمقراطية ويواصل لدكتور هيكل الدفاع عن مواقفه قائلا: " أن نظريتنا في قبول تعين الوزارة القائمة لنا عضوا في مجلس الشيوخ هي أن وزارة سري أصدرت في 27 مارس 1941 مرسوما بتعيين 29 عضوا في مجلس الشيوخ على أن تبدأ مدة عضويتهم في 8 مايو من تلك السنة وقد أقر مجلس الشيوخ عضوية كل من هؤلاء المعينين بعد عرضهم واحدا واحدا على لجنة الطعون فأصبح حق فصل هؤلاء من حق المجلس بمقتضي المادة 95 من الدستور وليس من حق الوزارة فإذا كانت الوزارة اعتبرت المرسوم الذي أصدرته وزارة حسين سري باطلا فإن هذا الاعتبار ليس من حقها ولذلك فإن تعيني تكرار للتعيين الذي حدث في عهد الوزارة السابقة ثم يضيف الدكتور هيكل سببا آخر فيقول : أن لى آراء سياسية أحرص على إبدائها والرقابة الصحفية تمنعني من ذلك فأي مكان آخر يمكنني أن ابدي فيه رأيي غير مجلس الشيوخ .
ومن الصعب أن نتقبل وجهة نظر الدكتور هيكل استنادا على أن هذا التعيين لا يعتبر خروجا على فكرة الحزبية أو لأن قرار التعيين أمر ملكي واجب الطاعة .
أما القول بأن هذا التعيين لا يعتبر خروجا على فكرة الحزبية على اعتبار أن حرية الرأي هي أول مظهر من مظاهر قيام الأحزاب فلا أتصور أن تكون حرية الرأي إلا من خلال الهيئة السياسية والتي يعبر عنها بالحزب أى أن من حق الأعضاء أن يختلفوا على موضوع ما إلا أنه من الضروري أن يكونوا متفقين على اتخاذ سياسة وليس من الضروري أن يتفق جميع الأعضاء على فكرة واحدة إنما المهم أن تخضع الأقلية لرأي الأغلبية وهو ما يعبر عنه بموقف الحزب أما أن يخرج الدكتور هيكل على الإجماع بحجة أن القرار لم يكن جماعيا فهو قول مردود من عدة وجوه :
أولا : على اعتبار أن الدكتور هيكل من بين الزعماء البارزين في الحزب فكان من الضروري أن يكون قدوة لحزبه .
ثانيا : أن قرار مقاطعة الانتخابات لم ينص فيه على هذا الاستثناء والذي يعني التزام الحزب بوجهة نظر الأقلية وهو ما يعتبر موقف متناقضا في سياسة الحزب .
ثالثا : أن وجهة نظر الدكتور هيكل تعتبر خروجا طبيعيا على تضامن السعديين والدستوريين وهو ما يضعف من جبهة المعارضة ولعل القرار الذي اتخذه الحزبان كان يعني مقاطعة كل شكل من أشكال الانتخابات سواء منها ما يتعلق بمجلس الشيوخ أو النواب .
أما القول بأن التعيين أمر ملكي واجب الطاعة : فيرد عليه بأن القواعد المرعية تحتم على الجهة التي تعين أن تأخذ في البداية رأي من يصدر المرسوم بتعيينه قبل إصدار المرسوم وإذا كان الملك هو الذي يصدر المرسوم فإن الحكومة هي التي تعد قائمة الأسماء ومن غير المعقول أن ترفع القائمة إلى الملك من غير أن تأخذ الحكومة رأي من وقع عليهم الاختيار وأعتقد أن هذا الموقف يؤكد من جديد تهافت زعماء أحزاب الأقلية على الفوز بمقاعد البرلمان مهما كانت الوسيلة .
ونود ونحن بصدد الحديث عن قضية الانتخابات أن ننوه إلى ما أشبع من أن حكومة الوفد زيفت الانتخابات لصالح الوفديين ونظرا لأهمية هذا الادعاء على اعتبار أنه يعد سابقة خطيرة في تاريخ الوفد فقد أعطيت اهتماما خاصا بهذه القضية وعلى ضوء العديد من المصادر وثيقة الصلة بهذا الموضوع يمكنني أن أقرر عدة اعتبارات ترقي إلى درجة الحقائق :
أولا : إذا كان الوفد قد لجأ إلى تعديل الدوائر الانتخابية فإن هذا الإجراء في مجمله كان عودة إلى التقسيمات الإدارية التي كانت قائمة قبل سنة 1938.
ثانيا : لم يثبت بالدليل المادي أن الحكومة الوفد زيفت الانتخابات بمعناها المعاصر وإنما كل الطعون التي قدمت سواء للبرلمان أو للقصر لم تستند إلى دليل واضح وإنما اعتمدت على أدلة ظنية لا ترقي إلى قوة الدليل وقد عرضت جميع الطعون على لجان مخصصة لفحص الطعون وثبت عدم صحتها جميعها .
ثالثا : لقد لجأ الوفد إلى العديد من التجاوزات وخصوصا ما يتعلق منها بالعمد والمشايخ ومديري الأقاليم لكن الوفد كانت له حجته التي يدافع عنها ووفق المصادر الأصلية فإن حكومة الوفد كانت أقل الحكومات التي لجأت إلى هذا الأسلوب كوسيلة لضمان نجاح أنصارها .
الاعتقالات السياسية
لقد عرف عن الوفد معارضته الشديدة لفكرة إعلان الأحكام العرفية وحطمت مذكرة الوفد – أبريل 1940 حملة شديدة على هذا الإجراء وطالبت بريطانيا بإلغائها بل أن أهم ما طالب به النحاس باشا في خطابه الشهير والذي ألقاه في رأس البر هو أن إعلان الأحكام العرفية قد فرض في غير ضرورة وهاجم وزارة علي ماهر بسبب اتخاذها الأحكام العرفية وسيلة لاضطهاد خصومها .
ولم يكد النحاس يتولي الحكم في 4 فبراير حتى استند إلى الأحكام العرفية واتخذ منها وسيلة لاضطهاد خصومه وخصوصا فيما يتعلق بالاعتقالات السياسية والنفي الإداري حتى بات الأحزاب وقادة الرأي في البلاد في غير مأمن على حياتهم من استخدام هذا السلاح الخطير ولم يقتصر الأمر على تكميم الأفواه من خلال الصحافة فقط بل بات البوليس السياسي يتعقب كل صاحب رأي أو فكرة في الاجتماعات الخاصة وفي الأحزاب السياسية .
واتخذت حكومة الوفد من قضية – الحفاظ على المصالح العليا للبلاد – ذريعة لاعتقال خصومها السياسيين وشهدت قاعات مجلس النواب والشيوخ العديد من اجتماعات وتقدم عدد كبير من نواب المجلسين – النواب والشيوخ – بالعديد من الاستجوابات حول المبررات التي تسوقها الحكومة لاعتقال الخصوم السياسيين إلا أن الأغلبية الوفدية قد قبرت هذا الاستجواب في محاولة منها للقضاء على صوت المعارضة داخل المجلسين ولما كان جواب الحكومة لم يقنع المعارضة فقد تكررت تلك الاستجوابات في محاولة يائسة لإحراج الحكومة إلا أن رد الحكومة كان مزيدا من الاستهانة بالمعارضة في محاولة لتبرير أمر الاعتقال بحجة دواعي الأمن التي تتعلق بالمصلحة العليا للبلاد وامتد أمر الاعتقال ليشمل طلاب الجامعة وإيداعهم في السجون من غير تحقيق معهم مما حمل النائب عبد السلام الشاذلي إلى اتهام الحكومة بأنها تزج الشباب في السجون بناء على تقارير يعدها البوليس السياسي من غير أن يتحري الحقيقة .
والحق أن وزارة علي ماهر التي أعلنت الأحكام العرفية لم تأخذه من سلاح الاعتقال ذريعة لمعاقبة خصومها حتي أنه حينما استسلمت ألمانيا وأشرفت الحرب على نهايتها أعلن النحاس باشا أن الأحكام العرفية باقية حتى تنتهي الحرب مع اليابان .
وفي خلال الشهور الثلاثة الأول من عمر وزارة الوفد فقد وصل عدد المعتقلين لدواعي المن 2136 أما المعتقلون السياسيون فقد بلغ عددهم 72 معتقلا .
وامتد الاعتقال ليشمل عددا كبيرا من الشخصيات العامة مثل علي ماهر أحمد حسين عزيز المصري النبيل عباس حليم ظاهر باشا وصالح حرب وهؤلاء جميعا تم اعتقالهم لاعتبارات سياسية وكان اعتقال علي ماهر أول مطلب من السفير البريطاني إلى النحاس يوم 7 فبراير حيث أشار لامبسون إلى ضرورة إبعاد علي ماهر إلى السودان أو أى جهة نائية أخري وبالفعل فقد قام النحاس بمقابلة علي ماهر وبعد أن شرح له الموقف ترك له الخيار بين أن يعتكف في غدارة بالقصر الأخضر ( بضواحي الإسكندرية ) أو يعين سفيرا في احدي دول أمريكا الجنوبية أو أن يرسل إلى الخرطوم وقال النحاس أن الوزارة مستعدة للإشراف على أملاك علي ماهر وشئونه المالية أثناء غيابه عن مصر ولما رفض علي ماهر كل هذه العروض استقله النحاس وصدر بذلك بيان رسمي من رياسة مجلس الوزراء في 18 أبريل 1942
ووفق المصادر البريطانية فقد تم اعتقال عدد كبير بناء على نصائح بريطانية ويشير رئيس قلم البوليس السياسي إلى أن قضية الاعتقالات كانت تحتل المرتبة الأولي في العلاقات المصرية البريطانية فقد تعددت قوائم الاعتقال حتى اختلطت الأسماء وأصبحت مهمة البوليس السياسي غاية في الصعوبة وتحولت مصر إلى مستودع اعتقال حيث جئ بإعداد هائلة من المعتقلين من الدول المجاورة أودعوا جميعا في السجون المصرية وتتابعت طلبات الانجليز حتى وصل الأمر إلى اعتقال بعض أقارب الملك فاروق بتهمة أن لهم ميولا محورية .
ويبدو أن معظم الذين اعتقلوا لدواعي الأمن تم اعتقالهم لأسباب سياسية حتى لا تقع الحكومة في مزيد من الحرج ولم يقتصر أمر الاعتقال على الرجال فقط بل تعداه إلى اعتقال بعض السيدات وفي مقدمتهن السيدة / نبوية موسي حيث لقيت في عهد حكومة النحاس أشد أنواع العسف والطغيان فأغلقت مدارسها ومنع عنها الإعانة السنوية ولأول مرة في تاريخ مصر تعتقل سيدة حيث قبض عليها وأودعت في السجن لا لشئ إلا لأنها كتبت مذكرة تدافع فيها عن المدارس الإسلامية وبالرغم من قرار النيابة الإفراج عنها إلا أن النحاس قد استخدم سلطته كحاكم عسكري وأدر أمرا عسكريا بإحالتها إلى المحكمة العسكرية حيث بقيت في السجن لمدة عشر شهور تحت التحقيق وأفرج عنها حيث لم يثبت إدانتها .
ويبدو أن الملك فاروق لم يكن يملك أن يحول دون اعتقال أقاربه فقد كانت أحداث 4 فبراير ما تزال عالقة بذهنه وتأكد أن بقاءه ملكا على عرش مصر مرهون بالرغبة البريطانية ولعل ما حدث في 4 فبراير كان حدا فاصلا بين شخصية فاروق المتقدة بالحيوية والنشاط والاهتمام بالقضايا السياسية وبين شخصية أخري قد تملكته بعد 4 فبراير – كان من أبرز سماتها اليأس واللامبالاة والانصراف نحو العبث واللهو وفقد أن الثقة في الشعب المصري حيث كان يتصور أن الشعب المصري سيثور لكي يثأر لما أصاب ملكه من جرح للكرامة وإهدار للحقوق الشرعية والدستورية إلا أن الشئ الذي لم يستطع فاروق أن ينساه أو أن يتناساه هو موقف النحاس باشا حيث أعتقد فاروق أن النحاس كان ضليعا في أحداث 4 فبراير وهذه القضية لأهميتها سوف نتعرض لها في فصل آخر .
وأمتد أمر الاعتقال ليشمل عددا ممن موظفي القصر كان على رأسهم عبد الوهاب طلعت وكيل الديوان الملكي والذي كانت تربطه علاقات وطيدة بالنحاس الذي تمكن ن إقناع السفير بالعدول عن أمر الاعتقال وأن يكتفي بإحالته على المعاش .
ونظرا لأن قضية الاعتقالات السياسية كانت على رأس القضايا التي شغلت الرأي العام المصري – حينذاك – ولأن شخصية علي ماهر والطريقة التي تم اعتقاله بها قد شغلت جانبا كبيرا من الرأي العام بالإضافة إلى منافاتها للدستور والقانون فإننا سوف نتناولها بقدر من التفصيل لتقف حجة أكيدة على ما يزعمه البعض من أن اعتقال علي ماهر هو إجراء قانوني اتخذته حكومة الوفد لحماية أرواح الملايين من الشعب المصري .
أن قضية اعتقال علي ماهر لم تكن مطلبا بريطانيا جديدا وإنما سبقته العديد من المحاولات حيث طلبت السفارة البريطانية إلى حسن صبري ثم حسين سري أن يعتقلا علي ماهر وأن الرجلين ل يستجيبا لهذا الطلب على خلاف في الطريقة التي اتبعها كل منهما .
ولعل السفارة البريطانية كانت واثقة من أن طلبها لن يرد هذه المرة نظرا للكراهية الشديدة التي يكنها النحاس باشا لعلي ماهر ولأن بريطانيا كانت واثقة من أن النحاس متفهم لإبعاد هذه القضية مقدر خطورتها ولن يتردد في اعتقال علي ماهر .
وحتى لا ينفرد النحاس باتخاذ مثل هذا القرار الخطير فقد حاول استئذان الملك قبل الإقدام على أمر الاعتقال إلا أن فاروق كان غاضبا أشد الغضب واتهم النحاس صراحة بأنه ينفذ تعليمات بريطانيا من غير تقدير لصالح مصر وأشار من طرف خفي إلى أن بريطانيا لن تظل بجانبه وإنما ستتخلي عنه في الوقت الذي تري أن مصالحها تحتم عليها البحث عن حليف جديد.
ويلاحظ أن فاروقا قد أصاب لب الحقيقة ولعل النحاس كان يقصد من وراء استئذانه الملك أن يتخذ من ذلك حجة لمواجهة الخصوم السياسيين على اعتبار أن اعتقال علي ماهر قد تم بناء على أوامر الملك إلا أن فاروقا كان يقظا لهذا المعني وعلى الرغم من رفضه إلا أن النحاس قد أقدم على اعتقال علي ماهر في قريته بالقصر الأخضر – قرب الإسكندرية – لم يطق علي ماهر أن يذعن لهذا الأمر وأعد عدته للخلاص من هذا الاعتقال ولما كان عضوا في مجلس الشيوخ فقد اعتقد أن الحصانة البرلمانية تحميه وأنه لو استطاع أن يصل إلى المجلس وأن يرفع إليه أمره فسوف تقف الحصانة لبرلمانية حائلا بينه وبين الاعتقال ولهذا تمكن من أن يفلت من حراسة وجاء إلى القاهرة ونزل في منزل لمصطفى الشوربجي عضو مجلس الشيوخ وعلم النحاس بما حدث إلا أنه آثر الحيطة حتى لا يعتدي على حصانة منزل الشوربجي وبينما علي ماهر قد وصل إلى فناء مجلس الشيوخ فقد استوقفه رجال البوليس في محاولة لمنعه من دخول المجلس إلا أن علي ماهر قد اندفع مسرعا ودخل حرم مجلس الشيوخ .
وأغلب الظن أن مهابة علي ماهر وماضيه الطويل حال بين رجال البوليس والتشبث بالقبض عليه بالإضافة إلى أن حرمة المجلس من الداخل كانت مسئولية بوليس البرلمان .
وما يلفت النظر أن رئيس مجلس الشيوخ – محمد محمود خليل قد عرف ما حدث إلا أنه تجاهل الأمر بحجة أن ما يراد الحديث عنه لم يرد في جدول الأعمال وعلى الرغم من أن علي ماهر قد وقف مرارا في محاولة مستميتة لكي يلفت نظر المجلس إلا أن رئيس المجلس قد منعه بعنف محذرا إياه بالطرد إذا ما حاول مرة ثانية .
وهذا الموقف من رئيس المجلس يضاعف من قناعتنا بأنه كان ضليعا في هذه المؤامرة حيث لم يتخذ من الإجراءات ما يحول دون القبض على عضو متمتع بالحصانة البرلمانية وعندما انتهت أعمال المجلس لم يبرح علي ماهر موقعة بل ظل محتميا بحرمة المجلس وأسرع أحد الأعضاء – عب القوي أحمد – إلى محمد محمود في إقالته وقص عليه ما أصاب علي ماهر وطلب إليه بوصفه رئيس المجلس أن يحمي الرجل إلا أن محمد محمود خليل قد تذرع بأنه لا يملك شيئا خارج حدود المجلس .
وأطفئت الأنوار في قاعات المجلس مما اضطر علي ماهر أن يغادر المجلس فلما غادره قبض عليه البوليس ليذهب به إلى معتقل جديد لا يستطيع مغادرته كما ستطاع مغادرة القصر الأخضر .
ويبدو أن رئيس المجلس إنما أعطي الحصانة البرلمانية فسحة من الوقت لأن مدة رياسته للمجلس كانت تنتهي بعد أسابيع من هذا الحادث وحرصا منه على أن تجدد الحكومة مدة رياسته هو الذي دفعه إلى أن يتصرف هذا التصرف الذي يتعارض وأبسط القواعد الدستورية ومع الأسف الشديد فقد سيطرت المصالح الشخصية على المبادئ العامة والتقاليد البرلمانية ولذا فإننا نحمل محمد محمود خليل قدرا كبيرا من المسئولية بسبب هذا الموقف الذي وقفة مع أحد أعضاء المجلس والذي يفتقد إلى أى تقاليد برلمانية ونظر لاعتقال علي ماهر بهذه الصورة المنافية لكرامة المجلس وأعضائه فقد تلقت رئاسة مجلسي النواب والشيوخ العديد من الاستجوابات وتحدث عدد كبير من النواب مؤكدين على أن الحرية في مصر أصبحت لا وجود لها وأن الدستور أصبح لا قيمة له بعد ان أهدرت حصانة عضو من أعضاء البرلمان البارزين فضلا عن كونه رئيس وزراء سابق ورئيس ديوان وصاحب مقام رفيع .
ويلاحظ أن إجابة النحاس باشا كانت أكثر تحديا للمجلسين النواب والشيوخ – مؤكدا على أمر الاعتقال بصرف النظر عن مركز المعتقل وأنه لن يتردد بوصفه الحاكم العسكري والقائم على تنفيذ الأحكام العرفية من اعتقال أى شخص يري أن له نشاطا ضارا بالأمن والنظام مهما كان مركزه والمدهش في الأمر أن رئيس الوزراء قد أعطي لنفسه حقوقا لم تقرها إجراءات الطوارئ القائمة لأن حق الاعتداء على الحريات محدود فيما يختص بالحرية الشخصية حيث أن قانون الأحكام العرفية قد أطلق يد الحاكم العسكري في عدة مسائل :
أولا : سحب الرخص بإحراز السلاح وحمله والأمر بتسليم الأسلحة على اختلاف أنواعها .
ثانيا : الترخيص بتفتيش الأشخاص أو المنازل في أية ساعة من ساعات النهار أو الليل .
ثالثا : الأمر بمراقبة الصحف والنشرات الدورية قبل نشرها وإيقاف نشرها من غير إخطار سابق هذا فيما يتعلق بالأشخاص العاديين أما أعضاء البرلمان فيجب أن تصان كل حقوقهم لأن الحصانة هي للبرلمان وهذه لحصانة لها مثيل في القضاء فاستقلال القضاء يفيد القاضي ولكن لمصلحة العدل ولمصلحة نزاهة القضاء .
وشهدت قاعات مجلس النواب والشيوخ أهم مرافعة قانونية قامت بها المعارضة مؤكدين على أهمية الحصانة البرلمانية وأنها ألزم كثيرا أثناء قيام الأحكام العرفية وهذا ما أقره علماء الفقه الدستوري وتساءل أحد الأعضاء : إذا كانت الصحافة مكممة لا تستطيع أن تقول شيئا لأنها تحت الرقابة والاجتماعات ممنوعة والأندية مغلقة كل ذلك حاصل أثناء قيام الأحكام العرفية فمن إذن يستطيع أن يعمل في هذا الجو ؟ فإذا سلب البرلمان أيضا الحصانة ضاع استقلاله إذا كان النائب وسيف الأحكام العرفية فوق رأسه فأي شئ يمكن للناس أن يتنفسوا الأحكام العرفية فوق رأسه فأي شئ في البلد يمكن للناس أن يتنفسوا منه وإذا كان الرأي العام لا يستطيع أن يتكلم أو يتنفس وكذلك الهيئات النيابية فكيف تستطيع أن نرشد الوزارة .
ولأن الموقف كان يتعلق بمستقبل الحياة البرلمانية فقد أصرت المعارضة على أن تعرف موقف لحكومة من التقاليد البرلمانية المتبعة وفي محاولة لتبديد نشاط المعارضة فقد عاد مصطفى النحاس ليلخص أسباب اعتقال علي ماهر بما يأتي :
أولا : أن الأسباب التي كانت تقضي اتخاذ إجراءات مع علي ماهر باشا التي أدت في آخر الأمر إلى اعتقاله تتعلق بأمور خطيرة وأن هذه الأمور ذات مساس بأمن الدولة وسلامتها ومن الصعب الإفصاح عنها .
ثانيا : لقد تحدثت مع علي ماهر واتفق معي على أن يترك كل نشاط ويلزم منزله تجنبا للإضرار بمصالح البلاد إلا أنه أخل بتعهده .
ثالثا : وأمم الإخلال بالوعد وإصراره على أن يذهب لأبعد الحدود فلم أر بدا من اعتقاله وأضاف النحاس أن ما تركه من أسباب الاعتقال هو ما تسمح به المصلحة العامة وعلى الرغم مما بذله النحاس باشا ليبدد الآثار الناجمة من اعتقال علي ماهر إلا أن المعارضة قد ضاعت من نشاطها في محاولة للفت الرأي العام إلى أن قضية اعتقال علي ماهر قد تمت وفقا لرغبة بريطانيا وهذا مما دفع المعارضة إلى أن تسلك طرقا أخري لتعميق هذا المفهوم حيث اجتمع زعماء المعارضة وكتبوا خطابا إلى مصطفى النحاس يطلبون فيه التحقيق مع علي ماهر وإذا ما أسفر لتحقيق عن إدانته فيكون هذا مبررا لاعتقاله وإذا ما ثبتت براءته تطمئن البلاد إلى أنها غير مهددة في أمنها وسلامتا . ولعل الهدف من وراء تلك المذكرة كان مزيدا من إحراج حكومة الوفد أمام الرأي العام ومن المؤكد أن النحاس كان يقظا لكل تلك المحاولات حيث أحاب على خطاب المعارضة بالرفض مبديا أسفه لأن التحقيق مع علي ماهر يمس سلامة الدولة وأمنها .
وهكذا اتخذ النحاس من سلامة الدولة وأمنها ذريعة لصرف المعارضة عن غرضها الحقيقي والذي يعني الأسباب الحقيقية في أمر الاعتقال وهذا مما دفع أحد الأعضاء إلى أن يعلن صراحة من أن جهة أجنبية هي التي أوحت باعتقال على علي ماهر .
ووفق مضابط مجلس لنواب والشيوخ فإن قضية اعتقال علي ماهر قد أحدثت دويا هائلا داخل البرلمان فقط وإنما امتد ليشمل الطلاب والعمال ويلاحظ أن المعارضة قد نجحت في استغلال هذا الحادث أكبر نجاح وتمكنت من أن تنقل القضية من داخل مجلس النواب إلى الرأي العام باعتباره قضية قوميه تتعلق بمستقبل الديمقراطية في مصر .
وتحدث صيحة في مجلس النواب عندما يقول النائب عبد العزيز الصوفاتي أن النحاس باشا بينه وبين ضميره لا يقر مطلقا ما نسب إلى علي ماهر وأن ديكتاتورية النحاس ستنقلب إلى ديكتاتورية برلمانية وهذا شر الديكتوريات في العالم ويحذر الصوفاني قائلا : اعلموا أن الذي تستونه اليوم قد يتخذه غيركم سلاحا ضدكم في الغد ويقول لنائب فكري أباظة لقد أعلن علي ماهر الأحكام العرفية ولكنها مع الأسف الشديد انقلبت عليه ونحن نخشي يا رفعة النحاس باشا أن تكونوا أنتم الفريسة وأن يكون تشريعكم هذا هو السيف لأن هذه الدولة منيت مع الأسف بالزلازل والبراكين لا في أرضها بل في دستورها وأن غدا لناظره قريب. وهكذا كان حادث 4 فبراير 1942 وعودة الوفد إلى الحكم على أسنة الحراب البريطانية – كما يذكر الدكتور أحمد ماهر – سببا في لعديد من التجاوزات حيث مضت حكومة الوفد تتحدي المشاعر الوطنية مؤكدة من خلال سلوكها أن بقاءها في الحكم مرهون برغبة بريطانيا وبالرغم من الرقابة الشديدة على الصحف والاجتماعات إلا أن صوت المعارضة داخل مجلس النواب والشيوخ كان يصل إلى مسمع رجل الشارع حيث تناقل الناس العديد من القضايا التي تثار داخل المجلسين ولم تستطيع الحكومة أن تكمم أفواه الناس بالرغم من أن سيف الاعتقال كان مسلطا على رقاب المواطنين حيث ملئت السجون بالمعتقلين والذين كانوا يؤخذون إليها زرافات ووحدانا ولا تسمح الرقابة على الصحف بذكر أسمائهم ولعل قضية اعتقال علي ماهر كانت البداية ثم تبعها اعتقال محمد طاهر باشا عضو مجلس الشيوخ وفي هذه المرة لم يعترض أحد ولم يستجوب أحد لأن القضية لم تعد تمثل أى مفهوم للديمقراطية وإنما الذي يحكم هو الذي يعتقل بصرف النظر عن أى اعتبار آخر .
وبالرغم من أن حكومة الوفد لم تأخذ بانتقادات المعارضة فيما يتعلق بأمر اعتقال المدنيين سواء من الشخصيات العمة أو من المواطنين العاديين إلا أن النحاس باشا في محاولة لكسب ضباط لجيش المصري عقب لعديد من حالات الاستنكار التي أعقبت 4 فبراير من هنا كان قرار الحكومة بالإفراج عن عزيز المصري وزميلاه – عبد المنعم عبد الرؤوف و حسين ذو الفقار – وأصدر مجلس الوزراء بيانا أعلن فيه أن مصطفى النحاس ( صاحب المقام الرفيع) رئيس الوزراء والحاكم لعسكري العام قابل عزيز باشا المصري والضابطان حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرؤوف وأعلنهم بأنهم منذ الأن أحرارا في الذهاب إلى منازله على أن يكونوا تحت الرقابة المؤقتة لحين الانتهاء من اتخاذ ما يلزم من الإجراءات التي عهد إلى وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الحرب في إتمامها وبالرغم من أنني لم أتمكن من تحديد الجهة التي طلبت الإفراج عن عزيز باشا المصري وزميلاه , هل هي قوي أجنبية أم أن النحاس قد بادر من نفسه لاتخاذ هذه الخطوة تهدئة للنفوس الثائرة سواء داخل الجيش أو خارجه ألا أني أعتقد أن حكومة الوفد قد أقدمت على هذه الخطوة بسبب العديد من حالات الاضطرابات التي وقعت عقب 4 فبراير 1942 لدرجة أن بعض القادة العسكريين قد تقدم باستقالته من الجيش احتجاجا على الانتهاكات الصارخة التي حدثت وجاء في صيغة الاستقالة ما يؤكد أن الملك كان يتمتع بشعبية كبيرة لدي ضباط الجيش وحيث أني أستطع أن أحمي مليكي وقت الخطر فإني لأخجل من ارتداء بذلتي العسكرية والسر بها بين المواطنين ولذا أقدم استقالتي .
ويبدو أن النحاس باشا قد وجد في الإفراج عن عزيز المصري ورقة رابحة ليكسب بها أرضا جديدة من تحت أقدام المعارضة وليس من المعقول أن يقدم النحاس من تلقاء نفسه على اتخاذ هذه الخطوة من غير أخذ رأي الانجليز لأن قضية عزيز المصري وزميلاه كانت موضع اهتمام خاص من السلطات البريطانية حيث كان قرار إحالة عزيز المصري إلى التقاعد - في عهد حكومة علي ماهر – بإيعاز من بريطانيا ولنفس السبب الذي قدرته حكومة النحاس للإفراج عن عزيز المصري فقد كانت موافقة بريطانيا أيضا .
وعموما فقد كان قرار الإفراج عن عزيز المصري وزميلاه له وقع طيب لدي جماهير الشعب المصري عموم والجيش على وجه الخصوص حيث كانت حركة الضباط الأحرار والتي كانت ما تزال في مهدها تعتبر عزيز المصري الأب الروحي للحركة الوطنية المعاصرة وكان موضع تقدير واعتزاز من الضباط الشبان .
وإيمانا من حكومة الوفد بعدم شرعية الحكومات التي تعاقبت على البلاد ابتداء من ديسمبر 1937 وحتى 4 فبراير 1942 فقد أصدرت الحكومة قانونا بالعفو عن الجرائم التي وقعت في نفس المدة ولعل الغرض هو كسب مؤيدين ومناصرين للوفد .
سياسة الوفد تجاه بريطانيا عقب 4 فبراير
لقد حرص النحاس منذ اليوم الأول لتوليه الحكم على أن يوضح للسفارة البريطانية وللرأي العام المصري أنه " لا المعاهدة المصرية البريطانية ولا مركز مصر كدولة مستقلة يسمحان بالتدخل في شئون مصر وبخاصة في تأليف الوزارات أو تغييرها ورحب اللورد " كليرن" عن طيب خاطر بهذه المناورة التي كانت تهدف إلى تناسي عمل القوة الذي حدث بالأمس في قصر عابدين كما أوضح السفير البريطاني في نفس اليوم وفي تصريح نشر في الصحف أن السياسة البريطانية تهدف إلى ضمان تعاون كامل مع حكومة مصر باعتبارها بلدا مستقلا وحليفا وذلك بتنفيذ بنود المعاهدة البريطانية لمصري دون التدخل في الشئون الداخلية لمصر أو في تشكيل الوزارات أو تعديها .
أما على الحدود الليبية فقد كانت المعارك تدور بشراسة وبدأ روميل يواصل تقدمه إلى الأمام حتى وصل إلى طبرق ( 21 يونيه 1942 ) وبسقوط طبرق تم أسر 25 ألف أسير في ايدي القوات الألمانية ثم تقدمت القوات الألمانية واجتازت الحدود المصرية وأصبح من المؤكد أن الحرب ستحسم لصالح المحور .
وعلى الرغم من كل ذلك فلم يتردد الوفد في إعلان ارتباطه ببريطانيا بحجة أن الارتباط بها يعني الارتباط بالديمقراطية في العالم كله وأن مصر ستظل تمد يدها للشعب الحليف وستقدم كل إمكاناتها صالح بريطانيا .
وعلى ما يبدو فإن موقف الحكومة المصرية قد ازداد صعوبة وخصوصا بعد أن أعلنتا كلا من ألمانيا وايطاليا التزاماتهما باحترام وضمان استقلال وسيادة مصر بل أنهما قد أكدتا أن قواتهما لن تدخل مصر " كبلد معاد وإنما ستدخلها بهدف طرد الانجليز من الأراضي المصرية وتحرير الشرق الأوسط من السيطرة البريطانية وتلقت مصر تأكيدا بأنها بعد أن تتحرر من قيودها ستتبوأ مكانها بين الدول المستقلة ذات السيادة "
وأمام الدعاية المحورية الماكرة والتي وجدت صدأها لدي قطاع كبير من المثقفين المصريين نظرا لأن عودة الوفد إلى الحكم في 4 فبراير كنت جرحا غائرا في قلوب المصريين فقد كان من الصعب على الحكومة المصرية أن تجد مبررا معقولا لكل ما يمكن أن تقدم عليه لخدمة الحلفاء وكان من الصعب على الوفد أن يخلق حوارا ديمقراطيا مع أحزاب الأقلية ليحدد من خلاله موقع مصر من هذا الصراع القائم وحتى لو أراد الوفد ذلك فقد كان من الصعب إقناع بريطانيا بهذا النوع من الحوار على اعتبار أنه قد يفسر بأن الوفد يتراجع عن مناصرة الحليفة بسبب تردي موقفها العسكري هذه واحدة أما الثانية فإن سياسة بريطانيا في 4 فبراير قد ألبست الوفد ثوبا يصعب الخلاص منه من هنا كان قرار الوفد القاطع بانتهاج سياسة التعاون المطلق وتأجيل أى نوع من المطالب القومية ريثما تنتهي الحرب .
وعلى ما أعتقد فقد كان هناك عامل آخر دفع الوفد إلى عدم التردد في سياسته تلك وهو أن الوفد قد قطع شوطا في علاقته ببريطانيا تلك لعلاقة التي كانت موضع اهتمام خاص من المحور عبر عنها " كليرن " في مذكراته بقوله :" أما أن نغرق معا وأما أن نطفو معا "
ويبدو أن تلك السياسة التي اختطها الوفد لنفسه لم تكن على قدر كبير من الصواب فقد كان من الممكن ووفقا للأوضاع المتردية لبريطانية على كل الجبهات العسكرية ان تحصل مصر على تأكيدات وثائقية تقرر حقها في الاستقلال الكامل بكل أبعاده إلا أن العلاقة بين الوفد والانجليز عقب 4 فبراير ظلت قائمة على احترام رغبات بريطانيا وسوق العديد من المبررات للدفاع عن سياستها وقد يقال أن هذا الموقف كان تأمينا لقضية الديمقراطية ضد الفاشية والنازية وبالرغم من سوق كل المبررات إلا أننا نستطيع أن نقول : أن سياسة الوفد طيلة وجوده في الحكم لم تكن تتفق والمصالح الوطنية المصرية حيث كانت الأوضاع الاقتصادية في مصر تمضي من سيئ إلى أسوأ ففي القاهرة هجم الناس على نوافذ البنوك وجرت حركة سحب جماعية للأرصدة ووصلت في يوم واحد إلى ما قيمته مائة مليون جنيه ودب الفزع في قلوب الأجانب مما دفع الكثيرون منهم إلى الهروب إلى فلسطين .
وذكر أحد شهود العيان أن أعمدة الدخان كانت تشاهد وهي تعلو في سماء القاهرة حيث أخذت السفارة البريطانية تحرق وثائقها وملأت قوافل السيارات الطرق الصحراوية حيث بدأت أكبر هجرة جماعية وبدأ الناس من كل الجنسيات وهم يلوزون بفلسطين وسوريا ولبنان وجنوب أفريقيا.
وعلى الرغم من كل ذلك فقد قام الوفد بدور هام ورئيسي في تأمين الانجليز وتقديم كافة الضمانات المطلوبة لتأمينهم وإظهار شعور الولاء والامتنان لهم في المناسبات المختلة فالنحاس يهنئ السفير البريطاني بمناسبة الإنعام عليه بلقب لورد ويستعرض معه قوات جيش الاحتلال في ميدان الإسماعيلية .
وفي الوقت الذي كانت فيه السفارة البريطانية تحزم أمتعتها وتحرق وثائقها استعدادا للرحيل كانت تصريحات النحاس باشا ودعوته إلى طمأنة الرأي العام مؤكدا بأن الأحوال العسكرية مرضية للغاية ويؤكد أحد زعماء الوفد أنه بينما كان النحاس يلقي بمثل هذه التصريحات كانت الحكومة جميعها ترقب قدوم الألمان بين وقت وآخر إلا أن النحاس كان حريصا على أن تتملكه الشجاعة لأن انهياره يعني انهيار مصر كلها .
وعلى الرغم من تدهور الأوضاع العسكرية لقوات الحلفاء إلا أن الأنباء قد تواترت عن سعي انجلترا بالسودان نحو الحكم الذاتي وتأييدا لهذا الاتجاه فقد ألقي الحاكم العام في الخرطوم بمناسبة افتتاح المجلس الاستشاري للمديريات الشمالية حث فيه السودانيين على الاستعداد لحكم أنفسهم .
وعلى الرغم من هذا التصريح الخطير والذي يهدف على ما يبدو إلى توسيع دائرة الخلاف بين مصر والسودان إلا أن حكومة الوفد لم تعلق على تراخي لحكومة في حماية مصالح مصر في القطر الشقيق كما استدعي السفير البريطاني وأبلغه ما يشعر به من القلق نحو ما يجري في السودان .
ولعل هذا الموقف من الملك فاروق قد دفع النحاس إلى إنشاء لجنة برئاسة وزير التجارة والصناعة لتعزيز العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية بين مصر والسودان وعندما حانت فرصة الاحتفال بذكري توقيع معاهدة الصداقة بين مصر وانجلترا في 26 أغسطس خطب النحاس فقال : أنه على اتصال مستمر بالحاكم العام في السودان والذي يمثل الحكومتين المصرية والبريطانية وأنه طلب إليه احترام مصالح مصر وحقوقها في السودان وعلى أثر هذا الخطاب هرع السفير البريطاني إلى النحاس باشا وحذره من مسألة موضوع السودان في الوقت الحاضر إذ أن ذلك قد يضر بالمصالح المصرية ولا يبقي لها إلا ما نصت عليه اتفاقية مياه النيل المعقودة في سنة 1929 .
ومن المؤكد أن تلك النصيحة كانت قاسية هدد فيها السفير بفصم العلاقة بين مصر والسودان ويبدو أن ما شجع السفير على توجيه هذا التحذير هو شعوره بأن له يدا على الوزارة القائمة منذ 4 فبراير وهكذا وجد النحاس نفسه في موقف غاية في الصعوبة وخصوصا وأن العلاقات المصرية البريطانية بدأت تواجه مشكلتين :
أولهما : محاولة إقناع بريطانيا بالعدول عن إغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط حيث استعدت القوات البريطانية إلى الرحيل عن القاهرة والإسكندرية والتمركز على الجبهة الشرقية لقناة السويس ووفقا لرأي القائد العام للقوات البريطانية فإن هذا الموقف يقتضي عرقلة القوات الألمانية لمدة يوم واحد على الأقل ولن يتحقق هذا إلا بإغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط.
ويعلق أحد المعاصرين والذي كان عضوا في لجنة المحادثات الخاصة بتلك القضية قائلا : لقد هاج النحاس وغضب غضبا شديدا لسماعة هذا القول من السفير البريطاني وأخذ يعدد للسفير حجم الأضرار الخطيرة التي ستلحق بالتربة الزراعية بسبب انغمارها بالمياه المالحة وقد تمسك السفير برايه على اعتبار أن ضرورات الحرب تقتضي ما هو أبعد من ذلك وهنا تدخل عثمان محرم " وزير الأشغال ط مقترحا إغراق الدلتا بمياه النيل بدلا من مياه البحر المتوسط وذلك عن طريق بعض العمليات الهندسية البسيطة . ويضيف صاحب هذه الرواية قائلا : وبعد أن خرجنا من مبني السفارة البريطانية قلت للنحاس : هل تعتقد أنهم سيستأذنونك ساعة اضطرارهم إلى إغراق الدلتا أنهم لن يستشيروا أحدا إذا ما اضطروا إلى الإقدام على خطتهم .
وهذه الرواية تتفق والعديد من الروايات التي ذكرها كثير من المعاصرين أنها تختلف عنها في بعض الجوانب ووفق هذه الرواية فإن عثمان محرم قد قدم البديل عن إغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط وهذه الرواية لم تذكرها الروايات الأخرى وأعتقد أن رواية فؤاد سراج الدين هي أقرب إلى الحقيقة حيث كان طرفا في تلك المحادثات إلا أن هذا الاقتراح الذي قدمه عثمان محرم ليس ذا أهمية على حد قول فؤاد سراج الدين وخصوصا إذا ما تأزمت الأوضاع أمام بريطانيا .
وعلى الرغم من أن عملية إغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط تبدو غير ممكنة جغرافيا إلا أن بعضا من المعاصرين قد أبدي إمكانية تنفيذ تلك الخطة بواسطة إطلاق الماء المالح في ترعة المحمودية .
ثانيا : ويبدو أن المحادثات بين الوفد والانجليز قد تناولت ما هو أبعد من إغراق الدلتا وهو تدمير جميع المدنية والعسكرية بما فيها طرق المواصلات والكباري والمطارات وإشعال النيران في آبار البترول حتى لا يستخدمها المحور .
وهكذا بدأت السلطات البريطانية تفكر في تدمير وسائل الحياة في مصر حتى تقطع على المحور كل استفادة ممكنة وهذه القضية على الرغم من خطورتها إلا أن الوفد لم ينكرها ومن المؤكد أن المعارضة كانت متيقظة لكل تلك المحادثات ولعلها حاولت أن تثير هذه القضية أمام مجلس النواب على اعتبار أن الخطر قد تخطي دائرة الحزبية وأصبحت مسألة حياة أو موت إلا أن النحاس قد رفض أن تنتقل إلى البرلمان بحجة أن المحادثات ما تزال جارية مع الجانب البريطاني.
ولما كانت المحادثات مع الجانب البريطاني لم تحقق أى قدر من التفاهم فقد حاولت المعارضة أن تجمع صفوفها وأن تتخذ موقفا قوميا يتناسب وخطورة المرحلة الراهنة فاجتمع الدكتور أحمد ماهر, إسماعيل صدقي ,الدكتور هيكل ,وحسين سري وتناقشوا في خطورة الوضع وانتهي رأيهم على إبلاغ الانجليز.
" أن تدمير ما قرروه سيضرهم ضررا كبيرا لأن جلاءهم عن مصر لن يكون إلا لفترة يعودون بعدها لنهم سيكسبون الحرب في النهاية ما في ذلك شك ومن الخير أن يعودوا إليها وهي سليمة بدلا من أن يجدوها وقد انتشرت بها المجاعة والخراب وما يتبعها من انتشار الأوبئة القاتلة , وذهب الدكتور هيكل لينقل وجهة النظر هذه إلى النحاس باشا الذي أكد أنه مدرك لكل ما تفكر فيه بريطانيا وأنه بعث بتعليماته إلى محافظ الإسكندرية ليستقبل القوات الألمانية استقبالا كريما باسم الحكومة المصرية .
وعلى ضوء الحالة العسكرية المتردية لقوات الحلفاء وخصوصا على الجبهة المصرية وأمام التضحيات الباهظة التي قدمتها مصر لتأمين ظهر القوات المحاربة ووفق ما أجمع عليه بعض المعاصرين للأحداث من أن بريطانيا بدأت تعد خطتها لتدمير كل مرافق الحياة المصرية وعلى ضوء كل هذا فإننا نعتقد أن السفارة البريطانية قد قطعت على نفسها بعضا من الوعود مثل اقتسام غنائم الحرب مع مصر أو إعادة النظر في معاهدة 1936 بما يحقق لمصر قدرا كبيرا من الاستقلال يتفق والتضحيات التي قدمتها مصر للدولة الحليفة.
وعلى ما أعتقد فإن تلك الوعود لم تكن إلا من باب أحلام اليقظة ولعل الهدف من وراء ذلك هو طمأنة الحكومة المصرية بأن تضحياتها لن تذهب هباء . ومما يضاعف من اعتقادنا بأن مثل هذه الوعود ( أن وجدت ) كانت من اختراع السفير البريطانية أن محادثات تشرشل مع النحاس والتي جرت بينهما في أغسطس 1942 قد خلت تماما من أى إشارة إلى تلك الوعود وإنما تناولت المباحثات قضايا أخري من بينها ما طلبه تشرشل من انتقال الحكومة المصرية إلى السودان ولم يقطع النحاس على نفسه وعدا بتنفيذ هذا المطلب بل أجاب بأن هذه مسألة متروكة للظروف ولرأى جلالة الملك والأمة ثم تباحثا في مسألة البترول وتدمير خطوط المواصلات وإغراق الدلتا وأبدي النحاس عدم موافقته على كل تلك المطالب ثم تباحثا في مسألة نقل النقد الذهبي خارج مصر ولم يتفقا على أية نتائج بخصوص هذا الموضوع أيضا ثم تباحثا في مسائل حربية وسياسية تتعلق برعايا أمريكا وجيوشها .
والملاحظ أن النحاس قد اقتصر في تلك المحادثات على مطلبين تقدم بهما إلى تشرشل :
المطلب الأول: تسهيل استيراد بعض المواد الغذائية.
المطلب الثاني : شراء القطن المصري ومقابل هذا فقد قطع النحاس على نفسه وعدا بأن مص لن تقطع علاقاتها بانجلترا إذا ما اضطرت إلى الخروج من مصر ولعل هذا المطلب يبدو غريبا بعض الشئ لأن بريطانيا إذا ما خرجت من مصر ودخلتها القوات الألمانية لن يكون أمام الحكومة المصرية فرصة للاختبار أو المفاضلة وقد بعث النحاس برسالة سرية إلى الملك فاروق ينبئه فيها بنتائج تلك المحادثات .
ومما يسجل الحكومة الوفد أنها كانت جادة في محادثاتها مع تشرشل ولم تقدم أى نوع من الوعود التي تتعارض مع المصالح المصرية سواء فيها يتعلق بإغراق الدلتا أو تدمير المنشآت المصرية مع قناعتنا بأن هذا الموقف يبدو عديم الأثر خصوصا إذا ما دخلت القوات الألمانية مصر وهذا لم يحدث .
ولعل تلك المحادثات تشير إلى أكثر من دلالة أهمها أن النحاس بدأ يأخذ موقفا متشددا في سياسته مع بريطانيا وأعتقد أن تفسير هذا الموقف يرتبط بتدهور الحلفاء عسكريا وخصوصا في معارك شمال أفريقيا بعد سقوط مرسى مطروح وتقديم القوات الألمانية صوب الإسكندرية ولعل هذا يفسر محاولة الاتصال بالألمان عن طريق محافظ الإسكندرية وتوضيح وجهة النظر المصرية على اعتبار أن مصر لا شأن لها بهذه الحرب .
وأمام تحرج موقف الانجليز على الجبهة المصرية إلا أن الوفد لم يحاول الماسومة على ضوء هذا الموقف فقد كان من الممكن الضغط على الانجليز واستخلاص وعد منهم بالجلاء التام عقب انتهاء الحرب .
حتى عندما أشرقت الحرب على نهايتها لم يحاول الوفد ذلك أيضا ولم يكن هناك أثر ما لبعض التصريحات التي ألقاها النحاس باشا : " أن حوادث الحرب قد غيرت الموقف كله حتى أصبح تعديل معاهدة 1936 ضرورة لابد منها ونتيجة لا مناص عنها .
وبدلا من أن يأخذ الوفد مواقف عملية لصالح القضية انصرف في مواجهة خصومة وتبديد طاقاته في مسائل فرعية لا تخدم القضية الأساسية ولو أخذ الوفد موقفا فمن المؤكد أن يجد كل الشعب المصري من خلفه يشد أذرة ويناصره ولعلها تكون مناسبة لعودة الوفد إلى مكانته الطبيعية باعتباره حزب الكفاح الوطني وخصوما بعد أن فقد رصيدا هائلا من شعبيته عقب أحداث 4 فبراير إلا أنه لم يبدأ بعامل المباغتة وإنما ترك الفرصة للمعارضة لكي تضع الحكومة هدفا لهجمات شديدة بهدف أن تعيد إلى الأذهان باستمرار ظروف مجئ الوفد إلى الحكم .
ولم يستثن بريطانيا من هذه الهجمات فقد وجهت إليها الاتهامات من فوق منصة البرلمان باعتبارها مسئولة عن الغلاء المستمر في تكاليف المعيشة وسيطرتها على الاقتصاد المصري في طريق مركز تموين الشق الأوسط.
وعلى الرغم من أن مشاعر الشعب المصري كانت تتسم بالكراهية الشديدة للاحتلال وسياسته إلا أننا نعتقد أن سياسة الوفد لم تكن متطابقة ولعل هذا الموقف قد ضاعف من حدة العداء بين القصر والوفد إذا لم ينس الملك فاروق قط ذلك الضغط الذي تعرض له في 4 فبراير 1942 كما كان يضيق
برئيس الوزراء بسبب جولاته في الأقاليم ويحظي بمظاهرات ترحيب موحي بها تهتف له " عاش النحاس زعيم الأمة"
ثم تحولت تلك المعارك الصامتة إلى صراع عنيف لأن ثلاثة من الضباط حاولوا تنظيم مظاهرة ولاء للملك احتجاجا على حادث 4 فبراير واقترح النحاس الاستغناء عن خدماتهم بينما رأي القصر تقديمهم لمحاكمة عسكرية بحيث تتاح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم فيما نسب إليهم .
ولم تتوقف سياسة الوفد عند حد القصر وإنما امتدت لتشمل كل من يناصر القصر في موقفه ضد الوفد حيث اعتقلت الحكومة كلا من الشيخ عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر والشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ سليمان نوار من شيوخ المعاهد بدعوي أنهم يحرضون طلبة الأزهر على الإضراب والسير في مظاهرة إلى عابدين لهيئة الملك بعيد ميلاده.
وأمام العديد من العقبات التي وضعتها الحكومة في طريق الأزهر وأ÷مها ما قام من خلاف على رئاسة الاحتفال بالعيد الألفي والذي كان مقرا إقامته وهل توجه الدعوة باسم رئيس الحكومة أو باسم شيخ الأزهر ( الشيخ المراغي فقد قدم الشيخ المراغي استقالته من شيخه الأزهر .
وقد رفض الملك استقالة شيخ الأزهر وأصر مصطفى النحاس – ضد رغبة الملك – على تعيين خليفة لشيخ الأزهر بحجة أن تعيين شيخ الأزهر حق من اختصاص الحكومة .
ويبدو أن هذا الموقف قد واكبه ما أقدمت عليه الحكومة من إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي مما أثار رجال الأزهر وطلابه وانطلقت المظاهرات من الأزهر منددة بالوفد وسياسته .
وتشير الوثائق البريطانية إلى مسئولية بريطانيا عن عودة العلاقات المصرية مع الاتحاد السوفيتي على اعتبار أنه ضمن جبهة الحلفاء وكان السفير البريطاني في القاهرة هو واسطة الاتصال مع الحكومة المصرية , وهكذا تحولت مصر إلى دولة مشاركة في الحرب بالرغم من أنها لم تعلن الحرب عمليا إلا أنها قد قدمت للحلفاء من خلال خدماتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية ما يجعلنا نعتقد بأن مصر قد أسهمت بدور لا يقل خطورة عن الدور الذي قامت به الدول المحاربة .
بل لقد طلبت الحكومة الأمريكية إلى الحكومة المصرية الإقرار لقواتها الحربية في الأراضي المصرية بنفس المميزات الممنوحة للقوات البريطانية بمقتضي اتفاقية 1936 واستندت الحكومة الأمريكية في تبرير وجهة نظرها إلى أن هذه الامتيازات التي تطالب بها قد منحت لقواتها في انجلترا واستراليا والهند واعترف بها أخيرا في البرازيل .
وفي محاولة لإيجاد مبررات لأعمال الحكومة فقد أبدت احدي صحف الوفد دهشتها بسبب موقف المعارضة من هذا الموضوع لأن العرف الدولي قد أكد هذه الحقوق للقوات الأمريكية في مصر حيث أن هذه لامتيازات سبق وأن منحتها الحكومة المصرية منذ بداية الحرب إلى القوات المتحالفة ( اليونانية واليوغسلافية ) والتشكيو سلوفلاكية – التي سمح لها بدخول الأراضي المصرية والإقامة فيها وقد تم الاتفاق مع القوات المذكورة بعد تبادل وجهات النظر مع السفارة البريطانية والأمر فيما يتعلق بالقوات الأمريكية مخالف لأنها مع السفارة البريطانية والأمر فيما يتعلق بالقوات الأمريكية مخالف لأنها لا تعتبر جزءا من القوات البريطانية ويعتبر هذا الاتفاق تأييدا لقاعدة من قواعد القانون الدولي فلا ينطوي على أى مساس بحقوق السيادة فضلا عن أنه لا يحمل الخال مصرية التزاما من أى نوع ولذا فهو ليس في حكم المعاهدات التي تقتضي المادة 46 من الدستور بعرضها على البرلمان ووجوب إقراره لها .
ويبدو أن ما أقدمت عليه الصحيفة من تبرير لسياسة الحكومة يعد محاولة لاقناع الرأي العام بأن مثل هذا النوع من الاتفاقيات مما لا يقضي بعرضه على البرلمان ومن المؤكد أن الحكومة قد لجأت إلى تلك السياسة حتى لا تتعرض لمزيد من الإحراج داخل مجلس النواب .
ثم صدر بلاغ رسمي عن وزارة الخارجية المصرية بإقرار هذا الاتفاق وجاء في بنود الرسائل المتبادلة :" أن الحكومة المصرية قد أعطت هذه الامتيازات للقوات الأمريكية رغبة في توكيد علاقات الود والصداقة بين البلدين وجريا على سياسة مصر منذ نشوب الحرب من تسير مهمة القوات المتحالفة الموجودة في الأراضي المصرية وهذه الاتفاقات لا تمس حقوق السيادة المصرية بأى حال .. وقد اتفق على أن تنتهي هذه المعاهدة من تلقاء نفسها بانتهاء الحرب ".
وهكذا فلم يقتصر الأمر على إن تقدم مصر أرضها واقتصادها وكل إمكاناتها بلا ثمن وبلا أى مقابل لبريطانيا لم يقتصر الأمر على هذا فقط بل تعداه إلى الدول الكبرى الأخرى مثل أمريكا .
وفي هذه المرة أيضا لا ثمن , إلا أن تكون الوعود والأمنيات الطيبة ثمنا عظيما من وجهة نظر الحكومة المصرية ودفعت مصر ثمنا باهظا من كرامتها وحريتها نتيجة لهذا التسرع الغريب على اعتبار أن هذا الاتفاق من النوع الذي لا يحق للحكومة أن تأخذ رأي البرلمان فيه .
ونظرا لأن المادة الثانية من هذا الاتفاق قد نصت على أن أفراد قوات الولايات المتحدة الأمريكية الموجودون في مصر لا يخضعون لقضاء المحاكم الانجليز والأمريكان على الأهالي المصريين وتنوعت حالات الاعتداء ما بين القتل وهتك العرض إلى اقتحام المنازل والسرقة وشهدت قاعات مجلس النواب اعتراضات مدوية بسبب سلبية الحكومة إذاء هذه التصرفات الغاشمة والتي أوجدتها سياسة الحكومة الخاطئة وعلى الرغم من أن الحكومة قد استنت هذا الاتفاق من غير الرجوع إلى البرلمان إلا أن المعارضة قد أعدت دراسة قانونية اعتبرت بمقتضاها أن هذا الاتفاق باطل من أساسه وأرجعت ذلك إلى عدة أسباب :
أولا : ورد في المذكرة الإيضاحية للاتفاق أنه جاء لقاعدة من قواعد القانون الدولي فلا يخضع الاتفاق للمادة 46 من الدستور ولا يعرض على البرلمان وهذا خطأ على اعتبار أن الحكومة لم تبين من أى وجه من الوجوه جاء هذا الاتفاق مطابقا لقواعد القانون الدولي .
ثانيا : الاتفاق في مجموعة وفي الأمر العسكري الملحق به ماس بالسيادة المصرية وهو ما يقضي القانون بعرضه على البرلمان لإقراره.
ثالثا : سبقت هذا الاتفاق حادثة قتل فيها أحد الجنود الأمريكان مصريا فماذا كانت وجهة نظر الحكومة قبل الاتفاق ؟ ولماذا تغيرت وجهة النظر ؟
رابعا: أن هذا الاتفاق يشجع على الحوادث المؤلمة وقد كثرت , وكان المجني عليهم مصريين في مختلف بلاد القطر فهل عرفت الحكومة نتائج المحاكمات وهل تعقبتها ؟
واستطاعت المعارضة أن تحرج الحكومة في هذا الموضوع لدرجة أن أحد أعضاء مجلس النواب قد وصف الحالة في مصر بأنها مخالفة لكل قانون أو دستور.
وعلى الرغم من الرقابة الشديدة على الصحف والاجتماعات وعدم التعرض من قريب أو بعيد لشئون مصر السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية إلا ان وقع الحياة المريرة على الغالبية العظمي من المصريين بالإضافة إلى المعارضة الشجاعة التي أبداها المعارضون داخل مجلس النواب والشيوخ وما كان يتناقله الناس كصدي لتلك المعارضات كل هذا قد أعطي المعارضة أرضا جديدة لصالح القصر وأحزاب الأقلية وظل النحاس مستندا إلى دعم بريطانيا له مستخفا بخصومة حيث كان يقابل الاستجوابات المقدمة إليه في مجلسي النواب والشيوخ بمزيد من الاستخفاف تمرسه بمناورات الحياة السياسية ولقيام الأحكام العرفية ولثقته أيضا في قدرته على الحصول على أصوات أغلبية المجلسين .
وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان يحاول بكل ما أوتي من فصاحة في القول أن يلقي بكل المسئولية على معارضيه على اعتبار أنهم أعداء البلاد وأعداء الدستور وعن طريق رحلاته العديد التي كان يجوب بها القري والمدن المصرية في محاولة لاحتواء الرصيد المتنامي لصالح خصومة إلا أنه لم ينجح في حصر نطاق المعارضة بل تحولت إلى رصيد هائل بانفصال مكرم عبيد والذي أقصي عن الوزارة في 26 مايو 1942 حيث كان يشغل وزير المالية .
ولقد قدرت الحكومة البريطانية مدي التعاون الذي ظل قائما بين الوفد والجيوش المتحالفة وكيف أن هذا كان دعامة أساسية في العلاقات المصرية البريطانية ولم يكن هذا التعاون قاصرا على النواحي العسكرية فقط بل شمل النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية أيضا .
ونظرا لأن مشاكل التموين كانت من أهم ما واجه حكومة النحاس وجريا على مبدأ التعاون المطلق مع الحليفة فقد شكلت لجنة مشتركة " انجليزية مصرية " بناء على اقتراح السفير .
وفي محاولة من هذه اللجنة لوضع حد للمشاكل الاقتصادية المتفاهمة فقد تقرر أن تقوم الحكومة بشراء القمح بشراء القمح المصري بسعر ثلاثة جنيهات للأردب وبيعه للجمهور بنصف تلك القيمة ثم إلغاء القيود التي كانت مفروضة علي نقل الحبوب ثم شكلت لجنة انجليزية مصرية اقتصرت مهمتها على جمع القمح إجباريا من الفلاحين وإعادة توزيعه بطريقة البطاقات التموينية إلا أن كل الجهود الانجليزية المصرية لم تثمر عن أى قدر من التقدم بل تفاقمت المشكلة الاقتصادية يوما بعد يوم حتى وصل الأمر أن الناس كانوا يتخطفون الخبز في الشوارع وظهرت الطوابير على الخبز لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر .
ويبدو أن سياسة النحاس كان لها وقع طيب لدي الدوائر البريطانية حيث أخذت الصحف البريطانية تشيد بموقف الحكومة المصرية وكتبت " التايمز" تقول : أن الكثير من الناس لا يدركون مبلغ ما تدين به الجيوش البريطانية في مصر للحكومة المصرية فلقد وضعت مواني البلاد وطرقها والكثير من مرافقها تحت تصرف الجيوش المتحالفة وقال المستر تشرشل حين مر بالقاهرة : أن مصر ولو أنها ما تزال بلدا محايدا فليس من الحق مطلقا أن يقال أنها لم تقم بدور مهم ومشرف له نتيجة لا في دفاعها عن نفسها فحسب بل في الصراع العالمي الذي أخذ الآن يتقدم تقدما عظيما نحو نهايته .
ولعل هذه المواقف من النحاس باشا قد أدت إلى عطف الانجليز عليه وتأييدهم له في صراعه مع القصر حيث تدخل السفير البريطاني وفي أكثر من مناسبة ليكبح جماع القصر لصالح الوفد ووصل الأمر إلى حد تهديد الملك فاروق بإعادة الكرة مرة ثانية – مشيرا إلى أحداث 4 فبراير – وعلى حد تعبير السفير: " أن الوفد قادر على إثارة المتاعب في حالة إجباره على الانتقال إلى صفوف المعارضة .
وهكذا بدا من المؤكد أن بريطانيا لا يعنيها من بقاء الوفد إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها ولا يعنيها أن الوفد قد دفع الثمن غاليا من شعبيته ومن رصيده الهائل .
وفي 12 أبريل سنة 1944 استدعي الملك فاروق السفير البريطاني وأبلغه بنيته بخصوص إجراء تغيير في الحكومة بحجة تفش الفساد وسوء الإدارة وأن عناصر الأمة أصبحت لا تنظر باحترام كاف للعرش واستطرد الملك فاروق مؤكدا عزمه على أن تكون الوزارة الجديدة قائمة على عناصر حزبية ومعروفة بعلاقتها الطيبة نحو بريطانيا .
وبعث السفير إلى حكومته برغبة فاروق في إقالة النحاس باشا وجاء رد الحكومة البريطانية وفحواة : أن رغبة الملك في إقالة حكومة يتمتع رئيسها بأغلبية كبيرة في البرلمان يعتبر محفوفا بالمخاطر ولكن إذا أراد الملك حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة فإن لندن لن تتدخل بشرط أن يتلي رئاسة الوزارة أحد رجال القصر أو زعيم لا يحصل على أغلبية البرلمانية .
وهكذا تداعت المقولة البريطانية التي ترددت كثيرا والتي تعني أن بريطانيا تناضل من أجل تدعيم فكرة الديمقراطية في العالم وهي نفس المقولة التي تذرعت بها بريطانيا أثناء أحداث 4 فبراير 1942 وفي الوقت الذي ألقي فيه الوفد بكل ثقله تجاه بريطانيا لمعاضدتها في الحرب بدأت الحكومة البريطانية تفكر في إعطاء الضوء الأخضر للملك فاروق لكي يقيل الحكومة الوفدية بعد أن استنفدت كل أغراضها ويبدو أن السياسة البريطانية بدأت تفكر في صياغة علاقاتها مع مصر من جديد على ضوء المتغيرات الجديدة .
ولعل في انتصار الحلفاء وزوال خطر الحرب ما شجع السياسة البريطانية على بدأ صفحة جديدة من العلاقات مع القصر أى أن بريطانيا بدأت تفكر من جديد في التخلص من الوفد بعد أن استنفذته جماهيريا وبعد أن حققت غرضها منه تماما ونجحت في تشويه صورته إلى حد كبير أمام الرأي العام المصري حيث انفصلت عنه قطاعات كبيرة من الجماهير وخصوصا الطبقة المثقفة والتي تجاذبتها تيارات سياسية أخري بعضها قديم والبعض الأخر نشأ عقب أحداث 4 فبراير .
وما أن أقبل الوفد في أكتوبر 1944 حتى أخذ موقع المعارضة وبدا يكيل الاتهامات ضد الانجليز والقصر معا على اعتبار أن هذه الخطوة لا يمكن أن يقدم عليها القصر إلا بمساعدة الانجليز.
والمدهش في الأمر أن الوفد اعترض على الدخول في انتخابات جديد عندما بدأت حكومة أحمد ماهر تفكر في الأمر وتعلل الوفد بأن الأحكام العرفية تحول دون حرية الانتخابات وأخذ يشن حملات هجومية ضد حكومة أحمد ماهر وهكذا قدر للوفد أن يذوق نفس الكأس الذي أذاق منه خصومة وبنفس المرارة وبنفس التجربة .