الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية


أوراق في النقد الذاتي

مكتبة أفاق2012م

إهداء

إلى الذين نحبهم ولكن نختلف معهم نقول:

إن الحركة التي لا تريد أن تراجع أو تدرك أخطاء ماضيها من الممكن أن يتحول حاضرها إلى كومة من الأخطاء ومستقبلها إلى كارثة .الحل يكمن في نقد الماضي ومراجعته وتحديد أخطائه من أجل تلافيها في الحاضر وتوظيف ذلك معرفيا موضوعيا في المستقبل .ع .ن

تنويه

  • الآراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن مجموع المشاركين فيه .
  • جميع المراحل الزمنية المشار إليها هي مراحل وفقا للفترة التي تمت فيها كتابة هذه المقالات وذلك في أواخر الثمانينيات من القرن المنقضي .

مقدمة

  • يشمل هذا الكتاب 14 ورقة تبحث في موضوع واحد: الحركة الإسلامية وموقعها في المستقبل. قمت بتحرير هذا الكتاب والمشاركة بورقة لى فيه (الإخوان المسلمون في مصر: التجربة والخطأ) سنة 1989 .
  • المشاركون في هذا الكتاب على صلة وثيقة بالموضوع بشكل أو آخر ويتفقون في أوراقهم على أن الحركة الإسلامية بحاجة لمراجعة منطلقاتها الفكرية وأبنيتها التنظيمية وآلياتها في العمل والتجمع والتأثير .

وينطلق المشاركون في هذا الكتاب في نقدهم وتصحيحهم للحركة من منطلق الحرص على حيوتها وأمنها ودمجها في عملية التنمية والنهضة المطلوبة في وطننا العربي والإسلامي أما المشاركون فهم:

د توفيق الشاوي ود. حسان حتحوت ود. حسن الترابي ود . عبد الله أبو عزة ود. فتحي عثمان ود. عبد الله النفيسي ومنير شفيق وصلاح الدين الجورشي و د. طارق البشري ود. محمد عمارة ود. محمود أبو السعود والأستاذ فريد عبد الخالق وعدنان سعد الدين وخالد صلاح الدين والميزة في هذا الكتاب أن الإسلاميون يقومون بنقد ذاتي للحركة الإسلامية وهذا ما يعطيه فرادة تاريخية وقيمة فكرية وأهمية موضوعية .

توطئة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله شهادة المذنب المعترف بذنبه والمقصر الراجي لعفو ربه وشهادة عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء الله تعالي .

وبعد .. يحاول هذا الكتاب أن يطرح موضوع الحركة الإسلامية من منظور مختلف . نقصد أن موضوع الحركة الإسلامية قد تناولته العديد من الأبحاث والكتب والأوراق تناولا مجتزأ أى بمعزل عن سياقه الحضاري والتنموي والتغييري والمستقبلي لقد كانت معظم الكتب والأبحاث والأوراق تركز على السياق السياسي للموضوع وكانت معظم المعالجات في كنهها وخلاصاتها سياسية محضة .

بمعني أن معظم الأطراف الذين تناولوا الموضوع قد حددوا ابتداءا الغاية السياسية من تناوله وكانت المعالجات إما أن تفضي إلى تبرئة الحركة الإسلامية أو إدانتها سياسيا لن تكون هذه مهمة هذا الكتاب

برغم أن معظم أو كل المشاركين فيه هم من أبناء التيار الإسلامي ولعل هذا هو الجديد في الأمر سيلاحظ القارئ أن بعض المشاركين هم من مؤسسي الحركة الإسلامية المعاصرة سجنوا وضحّوا وشردوا عن ديارهم وأهليهم من أجلها

ومع ذلك هاهم أولئك يضعون أصابعهم على مكامن الخلل ويغوصون في النقد الذاتي وهي عملية جديدة في الحظيرة الإسلامية لأنها جديدة وغريبة في ساحة العمل الإسلامي فقد تثير من ردود الأفعال ما قد لا تثيره في غيرها من الساحات ورغم ذلك فهي عملية ضرورية: شرعا وسياسة ومنهجا ومصلحة .

يقول د. خالص جلي في كتابه القيم:(في النقد الذاتي:ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية) مؤسسة الرسالة بيروت 1984 ص 164:

" إن النقد الذاتي حركة ديناميكية حية متطورة نامية وأداة إنضاج للوعي إن هذه الأداة سترافق الإنسان حيث أعمل عقله سواء في رؤية برنامج تليفزيون قراءة قصة تناول بحث فك علبة طبخة ركب سيارة إنها أداة نفض مستمرة للوعي لكي يبقي نشطا حيا .
إنها أداة يقظة للوعي الداخل وتطهير أخلاقي في مستوى الفرد . وهي بناء أسرة متماسكة والعيش في جو جماعة صحي وتطهير للوسط السياسي من الإرهاب والتسلط وبناء علاقات حسنة بين الجماعات البشرية " انتهي .

يكفي أن أشير هنا أن بعض التنظيمات الإسلامية تحظر على أنصارها قراءة هذا الكتاب لما فيه من تشريح علمي لمكامن الخلل في مسيرة الحركة الإسلامية سواء على صعيد القيادة أو المناهج أو الفكر أو المفاهيم أو التفاعل بين الظروف والنصوص والمدنس والمقدس والواقع والمرتجي جلبي مرة أخرى:

" مفهوم النقد الذاتي يعتبر غريبا على المسلمين كما ذكرنا فهم لا يرون فيه مصطلحا إسلاميا ولا يفهمون تحته إلا التشهير وهذا يجب تعديله قطائفه ترى أنه مصطلح غير إسلامي لأنه لم يأت في كتب القدامى!
أو لم يرد باللفظ في الحديث أو القرآن؟ وكأن كلمة الضمانات الاجتماعية جاء بها الحديث القدسي أو تكررت في عدة سور ؟ فأما أن اللفظ لم يرد بنصه الحرفي في الحديث أو القرآن؟ وكأن كلمة الضمانات الاجتماعية جاء بها الحديث القدسي أو تكررت في عدة سور ؟
فأما أن اللفظ لم يرد بنصه الحرفي في الحديث أو القرآن فهذا صحيح لكن الألفاظ والمصطلحات هي ليست كل شئ وإنما ما تحمله من مفاهيم فالأصح إذن هو عموم مفهوم القرآن وروحه واتجاهه فالعبرة هي بالفكر الذي يدور بين نصوصه فمفهوم النقد الذاتي بمعني مراجعة النفس أو النشاط فرديا كان أو جماعيا ثم محاسبتها هو روح القرآن المكثفة .
فالآية القرآنية: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) فيها معنيان الأول: العملية والثاني: تشكل الخلق في هذا الصدد فهي أولا عملية مراجعة ومحاسبة ولوم النفس لما حدث ويقسم الله فيها لأنها مستوى عظيم في وصول الإنسان إليه وهي ثانيا لفظة تشديد " لوامة " أى أن هذه النفس أصبح لها هذا الأمر خلقا عادة وطبعا تطبعت عليه بمعني أن ممارسة النشاط أصبح مرتبطا بشكل عضوي بهذه العملية " (ص 2 -21) انتهي .

تنبيه الحركة الإسلامية لبعض الثغرات

غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد

حجم الحركة الإسلامية وانتشارها ومصداقيتها لدي الجمهور العربي الإسلامي والإمكانيات البشرية وإلى حد ما المادية الضخمة المتاحة لها يسهل مهمات الانطلاق والبناء العلمي للحركة غير أن التعقيدات التي تنجم عن أساليب وآليات المعالجة للمشاكل التي تعترض الحركة تحول دون ذلك؛

فالحركة إذن بحاجة ماسة لمراجعة أساليب عملها ومن هنا صار لزاما عليها أن تطرح أزمتها الإدارية للحوار على الأقل داخل إطاراتها لأن الاستمرار هكذا ورهن الجمود الإداري الذي تعاني منه هو ضمان أكيد لتراكمات الأخطاء والحؤول دون تصحيح المطلوب؛

ويبدو أن القيادة السياسية للحركة تركز جهودها في محاولة التصدي للأحوال الطارئة أكثر من التخطيط للمستقبل فجميع مؤسسات الحركة غارقة إلى أكثر من قامتها في أعمالها اليومية .

هذا الأسلوب في العمل يقلص إمكانيات التفكير المنهجي ذي المدى البعيد ويشجع على أسلوب حل كل مشكلة بعد نشوئها لا الاحتياط من نشوئها وإذا استمرت القيادة على أى مستوى في العمل بهذه الكيفية فلا شك أنها ستظل ضمن هذه الحلقة الشريرة من المشاكل الطارئة بدون التفكير على المدى البعيد وبدون التفكير المنهجي المرتكز على الرؤية التخطيطية يتزايد ضغط المشاكل الطارئة وهذا الضغط بدوره يعرقل التفكير على المدى البعيد .

بلورة نظرية علمية للاتصال بالجمهور

لأن الحركة الإسلامية انشغلت في يومياتها عن التفكير المنهجي ذي المدى البعيد صار من السهل احتواء الحركة وبتر علاقاتها السياسية أو الاجتماعية حسبما تقتضيه مصالح الأطراف المضادة

وتفيد الدراسات المتخصصة في علم الاجتماعي السياسي أن الجمهور لا يتحمس لمساندة أى تيار إلا إذا تحقق فيه شرطان :

الأول: أن يفهم الجمهور مقاصد التيار وأهدافه
والثاني: أن يجد الجمهور لدي التيار حلا لمشاكله الحقيقة التي يعاني منها

لذا ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعرض نفسها على الجمهور في صورة واضحة ومفهومة وميسرة وعليها من جانب آخر أن تحدد بعلمية وموضوعية مشاكل الجمهور وفق معطيات الواقع لا وفق خيالات الحركة وأن تطرح الحلول لها والقيام بتعبئة الجمهور وتحريكه لصالح الحلول التي تطرح .

إن وضوح صورة الحركة الإسلامية عقل الجمهور أمر في غاية الأهمية ونقصد بوضوح الصورة أن تتأكد الحركة الإسلامية في أن الجمهور قد فهمها وعرف ما تريد وإلام تهدف .

إن أى خلل في الصورة التي تترسب في لا شعور الجمهور من شأنه أن يعيق العمل الإسلامي لفترة طويلة من الزمن لذا كان من الضروري بدون كلل أو ملل توضيح المقاصد التي تروم تحقيقها المؤسسة الإسلامية لابد من توضيح تلك المقاصد وتحديدها واختصارها عبر كل الأنشطة الإعلامية للحركة .

ويجب أن تكون عملية التوضيح بسيطة ومباشرة وبأسلوب لا نفرة فيه ولا غلظة ولا أستاذية ولأن أعداء الإسلام في عقل الجمهور لذا فإنهم يتهافتون دائما على تشويه صورة العاملين للإسلام ومحاولة محاصرتهم وتطويقهم في زاوية حادة من التهم والتلفيقات والدعايات ؛

لا يعني هذا أن كل ما يكتب من نقد للحركة الإسلامية ولأدائها يمكن أن يندرج في إطار التلفيقات والدعايات هذه نقطة ينبغي التنبه لها حتى لا تصم الحركة الإسلامية آذانها إزاء نداءات التصحيح والترشيد وحتى تكون الحركة الإسلامية واضحة ومفهومة لدي الجمهور يجب أن تكون القضايا التي تتبناها الحركة قضايا مفهومة وواضحة ومعاصرة وذات وزن في هم الجمهور ؛

من هنا كان لزاما على الحركة أن تتحاشي الغرق في الخلافات الفقهية المتعلقة بقضايا عفا عليها الزمن ولا علاقة لها بشأن الناس ومن هنا كان لزما الابتعاد عن فخاخ الجدل حول التاريخ الإسلامي

وينبغي الانتقال من العقلية الماضوية التي تحوم حول الماضي إلى العقلية المستقبلية التي تشرئب للمستقبل حتى يدرك الجمهور أن الإسلام هو مشروع نهوض المستقبل هذه الصورة الحيوية الدينامية التي من المطلوب أن تجسدها الحركة الإسلامية يجب ترسيخها تريد من الجمهور أن يساندها فعليها أولا أن تبادر باحتضان قضايا الجمهور .

ولذا لابد من التحديد العلمي والموضوعي لمشاكل الجمهور وطرح الحلول العلمية والموضوعية لها وتعبئة الجمهور لصالح تلك الحلول وقد تكون قضية الجمهور تتعلق بالخدمات المباشرة مثل التموين أو المواصلات أو المدارس أو التطبيب وغير ذلك ؛

فلا يحقرن العمل الإسلامي هذه الهموم اليومية لأنها في معظم الأحوال هي مفاتيح الدخول لقلب الجمهور والتأثير فيه إن بلورة نظرية علمية للاتصال بالجمهور والاحتفاظ به وتوظيفه لصالح المشروع الإسلامي لهو من المهام الكبيرة التي تنتظر الحركة الإسلامية ؛

وإن أى إهمال في هذا الأمر سوف ينعكس إن لم يكن قد بدأ على شعبية الحركة ومصداقيتها وشرعيتها الواقعية إن الابتعاد عن الجمهور يؤدي إلى طغيان مركبات الفشل والكراهية وروح الانعزال فتتحول الحركة في النهاية إلى (فرقة) أو طائفة دينية وعندها تتبخر فعالية الحركة وتنقرض أدوارها التاريخية .

الحلقة المفقودة في التصور الاستراتيجي للحركة

والذي يتأمل نتاج المطبعة الإسلامية و (فكر الدعوة) إذا جاز التعبير يلحظ بعض التصورات الخاطئة المبثوثة بين الإسلاميين ومنها إن هذا العالم يعيش في حالة (فراغ) فكرى وروحي وقيمي وحضاري

وأن الحركة الإسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ وتسده كذلك تنتشر بين الإسلاميين مقولة مؤدّاها أن العالم يعيش حالة من الفوضى الفكرية والثقافية والقيمية وأن الحركة الإسلامية مناط بها تصحيح هذه الفوضى ووضع الأمور في نصابها الصحيح ؛

وهذه تصورات في حاجة إلى مراجعة فالحركة لا تتحرك في فراغ بل في عالم مكتنز ومزدحم وربما أكثر من اللازم أكثر من طاقته الاستيعابية بالأفكار والقيم ومشاريع الخلاص الروحي والمادي والوطني ومن ضمن العوامل الرئيسية التي تعيق الحركة الإسلامية من تحقيق أهدافها الاستراتيجية هو هذا الاكتناز والازدحام والندية التي تملأ العالم؛

ثم إن هذا العالم موضوعيا يعيش اليوم أرقي درجات التنظيم والنظام وربما تكون هذه هي العبقرية البارزة لهذا العصر وبقي أن تتجه هذه العبقرية في اتجاهات لا تروق لنا لا يعني البته أن العالم يعيش في حالة من الفوضى العامة؛

هناك (نظام) يتحكم في هذا العالم نظام عالمي له (قلب) يتحكم في مسيرته ويتكون من عدد محدود من الدول الغربية (بشقيها الرأسمالي والشيوعي) ويفرض سياساته على (الأطراف) وهي بلدان العالم الثالث حيث العالم الإسلامية ولدي دول القلب وسائل تحكم عديدة بدول الأطراف منها القوة العسكرية من حيث استخدامها في العدوان المباشر أو التهديد به ؛

أو من حيث ربط جيوش دول الأطراف بتصدير السلاح إليها أو منعه عنها وهناك عوامل القوة الاقتصادية (الصناعة ،التكنولوجيا ،المال) كوسائل للتحكم والضغط بمسارات التنمية في العالم الثالث

وهناك أخيرا سيطرة دول القلب على وسائل الإعلام والاتصال واحتكار خمس وكالات (عالمية) لمصادر الأخبار التي تنشرها صحفنا المحلية إلى السينما ومواد التليفزيون والإعلانات مما يعيد تشكيل الأذواق والآراء والقيم في عالمنا الإسلامي وفق المشروع الغربي للتنمية والتطور ؛

لقد ذهب (منتدي العالم الثالث) في دراسة قيمة له نشرها (مركز دراسات الوحدة العربية) في بيروت وهو يشخص حالة التبعية التي تعاني منها دول الأطراف إلى القول :

(إن النظام العالمي يشبه النظم الفلكية يتوسطه نجم كبير الحجم ومشع تدور في فلكه الكواكب السيارة بحكم قوانين الجاذبية ولذلك وهذا ما يعنينا هنا ما لم تحاول مجموعات من دول العالم الثالث أن تشكل لنفسها مستقبلا أكثر استقلالا وأقل خضوعا للاستغلال فإن مسيرة النظام العالمي فضلا عن أشكال التدخل المباشر أو غير المباشر ستحدد لها المستقبل الذي يتفق ومصالح القوى المسيطرة في القلب من النظام العالمي).

إزاء ذلك يحق لنا أن نسأل ما هي نظرية الحركة الإسلامية وتصورها للخروج من دائرة التبعية هذه؟ وهذا ما نعتقد أنه يشكل الحلقة المفقودة في التصور الاستراتيجي للحركة أى غياب (النظرية المتكاملة) في السياسة الدولية والحراك الاجتماعي وتوزيع الثروة والتعايش مع القوى والأنظمة المتباينة والتي يعج بها هذا العالم المتحركة القلق المتحول؛

إن من يتتبع ما تنشره الحركة الإسلامية المعاصرة بشتى راياتها ومسمياتها يلحظ أن جله يتناول نظام القيم وهو ديدن الخطاب الإسلامي خلال أكثر من نصف قرن ولكن ما نحتاجه الآن وبشكل ملح هو تحديدا نظام للمفاهيم وبدون التحديد العلمي الموضوعي لمفاهيم لا يمكن بلورة النظرية الإسلامية المتكاملة التي نطالب بصوغها

والإسلام في خلاصته وهيكليته الأساسية الاجتماعية نحو الأفضل والأمثل في كل مجالات الحياة بمعني آخر إن للإسلام وظيفة اجتماعية كبيرة ولذا كان لابد من أيديولوجيا إسلامية أى نظرية إسلامية متكاملة تضع مواصفات التغيير الاجتماعي المطلوب على كافة الصعد في المشروع الإسلامي

إذن ينبغي فرز فريق عمل من الكفاءات الإسلامية التي تزخر بها إطارات العمل الإسلامي للقيام بصوغ تلك الأيولوجيات إذ أن كثيرا ما يؤدي ضباب الرؤية إلى هدر في الأرواح والأموال والأوقات .

الحركة الإسلامية في حاجة ماسة إلى منطق سياسي شرعي وعصري على ضوئه تحلل الأوضاع والظروف التي يمر بها هذا العالم أى في حاجة أكيدة إلى (نظرية) تسترشد بها في تفسير المجتمعات والقوى المحلية والعالمية وقد يخلط البعض فيقول أن (الدين الإسلامي) هو نظرية الحركة الإسلامية فلماذا المناداة بذلك ؟

وفي رأيي أن هذا تعبير يعوزه الدقة فالدين أشمل من النظري وإن كانت النظرية بمعناها العام جزء من الدين . أقصد أن الدين من حيث هو جملة من التعاليم والأوامر والنواهي وغير ذلك لا يزود الحركة الإسلامية بما يمكن أن نسميه بالنظرية ولكن بالإمكان استنباط النظرية التي نقصد من الدين .

النظرية بكلمة أخرى مضمنة في الدين وهي لكي تظهر وتتضح في حاجة استنباطها وفصلها عن (النّص) وعرضها من حيث هي النظرية الإسلامية لتحليل المجتمع وحركة التاريخ هذه قضية هامة للغاية لا يدركها إلا قليل من الناس ؛

وأهميتها تكمن في هذا الضياع الذي تعاني منه الحركة الإسلامية والأحداث من حولها تتلاطم وتحار في تحليلها وفهمها واستيعابها (لغياب النظرية) فتتبني تحليلات وفهومات المدارس الفكرية الأخرى التي قد تكون مدارس لا دينية في رؤيتها الاجتماعية والكونية .

واستنباط النظرية الإسلامية لتحليل المجتمع وحركة التاريخ من (النص) الديني وفصلها عنه وعرضها وتوضيحها ورصّ وشرح مفاهيمها ومصطلحاتها في بناء فكري متناغم وموحد هذه العملية من التنظير في حاجة لجهد جماعي غير بسيط على الحركة فيما أري والله أعلم أن تعني بتنظيمه .

أين التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية

خذ مثلا فصيل من فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة كالإخوان المسلمين (تأسس في 1928) فرغم مرور ما يربو على الثمانين عاما لهذه الجماعة لا نجد في المكتبة العربية الإسلامية كتابا واحدا أصدرته الجماعة من حيث هي الجماعة أى رسميا وباسمها لا باسم أفراد بتناول بالتقويم الموضوعي هذه الفترة الطويلة من الزمن والعمل والتحرك .

حركة بهذا الاتساع الزماني والمكاني (للإخوان تنظيمات في معظم الأقطار العربية والإسلامية) أليس من المطلوب أن تقدم للأمة التي تتحرك في إطارها تفسيرا رسميا لسلسلة المحن التي مرت بها والحلقات الإخفاق التي تكررت في تاريخها وصور عن النجاحات التي حققتها ودورها ؛

كما تراه في حاضر الأمة ومستقبلها وأهدافها الاستراتيجية التي تروم تحقيقها وما هي المراحل التي قطعتها صوت تلك الأهداف وكم بقي من المراحل لكي تصل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية وما هي آليات وسبل الانتقال من الأوضاع الراهنة بما تنوء به من مشكلات وتناقضات إلى الآفاق الجديدة التي تبشر بها إذ لا قيمة ولا فعالية ولا إيجابية للتصورات والرؤي الاستراتيجية ما دام لا يرافقها وضوح مواز للآليات والدروب الانتقالية ؟

أليس من المؤسف أن تفرز قوى سياسية إسلامية محلية دولية اللجان والمكاتب والأجهزة والأضابير والأراشيف والاختصاصين لرصد التيار الإسلامي ومدارسه ورموزه وتحركاته وغير ذلك وتنشر بعض الدراسات الهامة والغنية والقيمة التي بدأ الإسلاميون يقبلون عليها لإشباع جوعتهم لتفسير ما هم فيه؛

وفي الوقت نفسه لا نجد جهدا يبذل من الحركة الإسلامية في هذا الإطار ؟ إن كتابة التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية الصادر منها واسمها مهم للغاية في إطار كوادرها وأنصارها وهو مهم للمراقبين المحايدين الموضوعيين الذين يهمهم معرفة الحقائق كما حدثت وتطورت وهو مهم للرد على الافتراءات والأكاذيب التي ينشرها أعداء أى تحرك إسلامي ؛

وهو مهم للعالم أجمع لكي يعرف أن هذه الحركة تخاطبه وتناشده وتعرض ما عندها عليه بعلمية وموضوعية وتجرد ودون اعتساف وهو مهم للمستقبل كي لا تقع الأجيال المسلمة القادمة فيما وقعت فيه الحركة الإسلامية من أخطاء سواء على صعيد التجمع أو الفكر أو الحركة .

عين على الحاضر وعين على المستقبل

العالم اليوم يعيش حالة مستمرة من التغير الواسع النطاق لنأخذ مثلا حول حاضر الإنسان العربي ونرصد التغيرات التي طرأت في محيطه العربي فقط خلال العقدين الأخيرين (1965 -1985) كما جاء في (التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي)

والذي نشره مركز دراسات الوحدة العربي في أكتوبر 1988 ففي العقدين الأخيرين (1965 -1985):

تضاعف متوسط الدخل مرتين وتضاعف الحجم المطلق للشرائح المتوسطة مرتين وتضاعف الحجم المطلق للطبقة العاملة الحديثة مرتين وتضاعف عدد أجهزة الراديو عشر مرات وارتفع عدد أجهزة التليفزيون عشرين مرة وانفجرت في المنطقة أربعة حروب ممتدة وتضاعف عدد المسافرين العرب إلى خارج الوطن العربي عشر مرات وزادت ديون بعض أقطار الوطن العربي في الخارج أربعين مرة .

لا شك أن هذه تغيرات كبيرة وعميقة في ساحة عمل الحركة الإسلامية فكيف انعكس ذلك على برنامج حركتها وتصورها للعمل ؟ وهل وظفت هذه التغيرات لصالح مشروعها؟ وهل طورت من أساليب عملها للتناغم مع هذه التغيرات ؟

وهل أثرت هذه التغيرات على ترتيب الأولويات وشبكة العلاقات السياسية الشعبية والرسمية ؟ وهل انعكست على الخطاب الاجتماعي الذي تحمله الحركة ؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تنطرح ونحن نتأمل خطورة وأهمية هذه التغيرات البنيوية التي حدثت في المحيط العربي ما بين 1965 -1985.

يطرح هذا الأمر نقطة جوهرية وهي وجوب رصد اتجاهات تلك التغييرات أى ضرورة استشراف المستقبل واتخاذ كافة الإجراءات للمواءمة معه والاحتياط له والاستعداد لتوظيفه ودراسته البدائل المتاحة في هذا الإطار والمقارنة بينه لا نعني بالاستشراف تقرير ما سيحدث بالضبط فذلك خارج عن قدرة الإنسان

لكننا نقصد بالاستشراف رصد التغيرات الحالية وتحديد توجهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئة والعسكرية والثقافية وغير ذلك والخروج من كل ذلك بتصور مستقبلي يشتمل على عدة (سيناريوهات) أى مشاهد وتوقعات واحتمالات ودراستها والتحوط في ذلك للمواءمة معها وتوظيفها لصالح المشروع العام للحركة الإسلامية وهذا أمر أجزم أن الحركة لا تضعه حتى في آخر سلم أولوياتها وهذه ثغرة ينبغي التنبه لها .

لقد بدأ العالم الغربي (بشقيه الرأسمالي والشيوعي) ... تدارس مواقعه ومواقفه وتكويناته وتشكيلاته ونظمه واقتصادياته وأولوياته وفنونه وآدابه وموارده البشرية والمادية واتجاهاته الاجتماعية والسياسية والثقافية وعمليات صنع القرار في حكوماته يفعل ذلك وهو في قمة سطوته وسيطرته المادية والثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية على العالم أجمع وذلك في محاولة منه لاستشراف المستقبل والاحتياط له

لقد بلغ الأمر إقصاء لدي غورباتشوف في كتابه القيم "بيريسترويكا" (عملية إعادة البناء) فأقرأ له إن شئت التالي :

"نجد أنفسنا أمام المفارقات فمن ناحية حل مجتمعنا وبنجاح قضايا تأمين فرص العمل وقدم الضمانات الاجتماعية الأساسية ومن ناحية ثانية لم نتمكن من تحسين ظروف المسكن وتأمين الموارد العدائية كما وكيفا وكذلك تنظيم عمل وسائط النقل وفق المستوى المطلوب وتحسين الخدمات الطبية والتعليمية "
" أخذ ينشأ وضع غير معقول إنتاج ضخم من الفولاذ والمواد الخام والطاقة والوقود لا مثيل له في العالم وفي الوقت ذاته نقص في هذه المواد بسبب التبديد وقصور الاستخدام لدينا أكبر عدد من الأطباء وأسرة المستشفيات بالنسبة لكل ألف مواطن ومع ذلك نعاني نواقص خطيرة وتدنيا في مستوى العناية الصحية وصواريخنا تشق طريقها بدقة متناهية نحو مذنب هالي وتسرع لموعدها مع كوكب الزهرة ولكن رغم هذا النصر للفكر الهندسي والعلمي فإننا نلحظ تخلفا واضحا في استخدام النجزات العلمية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية "
" إن عرض الواقع (خاليا من المشاكل) قد ارتد إلى نحر أصحابه ونشأت هوة بين القول والعمل ساهمت في تكريس السلبية الاجتماعية وعدم الإيمان بالشعارات المطروحة ومن الطبيعي أن تهتز الثقة في وضع كهذا بكل ما يقال من فوق المنابر وعلى صفحات الجرائد والكتب المدرسية وبدأ الانهيار في الأخلاق الاجتماعية الانهيار في أحاسيس التضامن العظيمة فيما بين الناس وتلك الأحاسيس التي أرساها زمن الثورة البطولي وسنوات الخطط الخمسية الأولي والحرب والوطنية وفترة الانبعاث فيما بعد الحرب .
وارتفع تعاطي الكحول والمخدرات والجريمة كما ازداد تغلغل الأنماط " الثقافية الهابطة " الغربية عن المجتمع السوفيتي والتي تكرس الابتذال والذوق الوضيع والخواء الروحي "
" أما الاهتمام الحقيقي بالناس بشروط حياتهم وعملهم بمزاجهم الاجتماعي فغالبا ما كان يتم استبداله بالنفاق السياسي وبالتوزيع الجماعي للمكافآت والألقاب والجوائز وتراكمت حالة عامة من التغاضي وتدني مستوى حث الجماهير والانضباط والشعور بالمسئولية ؛
وقد حاولوا التستر على ذلك كله عن طريق تنظيم الاحتفالات الاستعراضية وتكرار المناسبات اليوبيلية سواء في المركز أم في النواحي وشيئا فشيئا اتسعت الفجوة بين عالم الحقائق اليومية وعالم الازدهار الاستعراضي ؛
ولم يمكن بمقدور العديد من المنظمات المحلية أن تحافظ على مواقعها المبدئية وأن تخوض نضالا حازما ضد الظواهر السلبية وضد استباحة الأشياء والتستر المتبادلة وإضعاف النظام وتكررت حالات انتهاك مبدأ المساواة بين أعضاء الحزب واستثني من دائرة الرقابة والنقد العديد من الشيوعيين الذين يحتلون مراكز قيادية الأمر الذي أدي إلى إخفاقات في العمل ومخالفات خطيرة " انتهي

تجاوز العتبة الحزبية

جلبي مرة أخرى وأخرى:

" من كوارث العمل الإسلامي وارتداده وانقلاب نشاطه هو الفكر الحزبي فعندما يكسب تنظيم ما عضوا يدين بالطاعة ولا يناقش ويتابع الأوامر فهذا يعتبر منتميا والعكس بالعكس وكان من نتائج هذه الطريقة التربوية أنه خرج جيل أو مجموعة كبيرة من الشباب تنتظر الأوامر فقط وبذلك حرمت من ميزة الإبداع والحركة الذاتية والإبداع هو سر تفوق الدعوات ؛
وعلى العكس خسرت بعض التنظيمات أهم عناصرها وأنشطتها وأكثرها إبداعا العكس خسرت بعض التنظيمات أهم عناصرها وأنشطتها وأكثرها إبداعا بل والأدهي أنها عندما لم تستطع تسخير هذه الإمكانات فإن هذه الطاقات عندما لا تمشي في مساراتها الصحيحة وتستهلك وتقع في صراعات داخلية لأن الطاقة لابد لها من تصريف فإن لم يكن بمحور ذي اتجاه داخل التنظيم إلى خارجه فليكن مكرسا إلى داخله ؟ ولقد عانت بعض التنظيمات الإسلامية في الفترة الأخيرة من تبديد الطاقة هذه " ( ص 228 - 229)
" إن الإنسان في الأجواء الحزبية يعمل في بعض الظروف ضد قناعاته وهذا ما صرح به رجل بارز في اتجاه إسلامي حيث اعترف بأنه يعمل ضد قناعاته لأنه إن لم يفعل ذلك فسوف يتهم بالخيانة ؟ فإذا حلت الكارثة بعد ذلك كان مشجب المهازل جاهزا سبحانه وتعالي عما يصفون ما هو الجواب ؟
إنهم بذلوا جهدهم ولكن إرادة الله كانت شيئا آخر أما أنهم أخطأوا فلا كما حصل مع المؤذن الذي ذهب إلى الجامع متأخرا والناس راجعون في صلاة الصبح فلما سئل عن سبب تأخيره قال أنا لم أتأخر
ولكن الشمس أشرقت اليوم باكرا أى أنا افتراض حصول تغيرات كونية عظيمة خلاف سنة الله أسهل علينا من مراجعة أنفسنا من جملة الأمثلة الجديرة والمجسدة هي اللعبة التي أجراها بعض الأذكياء مع بعض الشبيبة المتحمسين لفكر سيد قطب والمتعصبين ضد فكر مالك بن نبي حيث قام بذكر فكرة هي لمالك نسبها لسيد فاستحسنها الشباب فلما فعل العكس أنكروا فما أعاد كل فكرة إلى محلها شعروا بشئ من الحرج والأسف "
" إن تسلّح الحزبي بآراء محددة يجعله يقاوم إلى اللحظة الأخيرة في التمسك بها ونظرا لأن حلقات التدريس الداخلية عمدت إلى تكريس وتعميق هذه الآراء من وجهة نظر واحدة كانت هدفها تثبيت وتعميق هذه الآراء والدفاع عنها ومحاولة إضعاف ما يخالفها
فإن عقلية الحزبي تشكلت ذات اتجاه واحد وليس من طبيعة العقل المقارن ولذا فإن الحزبي يميل يفعل تكوينه النفسي إلى الاجتماع برفقائه السيكولوجيين بمعني رفاق نفس المدرسة وإذا حصل أن اجتمع بأناس يخالفونه الرأي فهو معزول عنهم بحاجز نفسي قبل كل شئ فإذا بدأ البحث كانا مضنيا شاقا وإذا تطور إلى وضع نزاع كان استقصاء . لذا كان جو اللقاء بين مجاملة وتمضيه وقت .
ويترتب على هذا نتيجة فإما أن يبقي الحزبي عنصرا تنفيذيا لا يفكر كثيرا أو أن يقع في دوامة الإجترار والتراجع أو التوقف عن النشاط وترك الحزب وظيفيا أى بحكم الواقع وليس الإعلان الرسمي أو أن يتطور فيتجاوز العتبة الحزبية؛
إما من خلال تطوير الحزب أو ترك الحزب إلى بعد جديد خاصة فيما يتعلق بأصحاب الدراسات الإنسانية . وفي الساحة الفكرية يجتمع الإنسان بالعديد من أصحاب الأقلام الذين كانوا في سوابقهم عناصر حزبية تجاوزت العتبة الحزبية "
هذه الفقرات من جلبي لا تعني إطلاقا أننا ضد تشكيل الأحزاب فالأحزاب ممكن أن تقوم بوظائف إيجابية كبيرة تخدم الجماهير شرط أن تتوفر البيئة السياسية الصحيحة لذلك ما نحن ضده أن يتحول الانتماء لحزب اتجاها عقليا في التفكير لدي المنتمي
فلا ينظر للظواهر السياسية والاجتماعية إلا بمنظار الحزب ولا يري إلا ما يراه الحزب وأن داخل الحزب مقدس وخارج الحزب مدنس وهذا ما حصل في التنظيمات الإسلامية الحزبية وهو يعيق تقدم الحركة الإسلامية والعمل الإسلامي ويشوه الدعوة الإسلامية من حيث هي دعوة إنسانية رحبة .

لقد كان من المتصور عقلا وشرعا أن يصبح " التنظيم" (الحزب) وسيلة من وسائل الدعوة الإسلامية لكن من الملاحظ أن "التنظيم" أصبح من حيث هو فكرة غاية وهدفا وإن تحول لبعض الظروف الذاتية والموضوعية إلى مع معيق للدعوة هذا ما حدث وهذا ما ننادي بمراجعته .

تجاوز الصراع مع السلطة

ثمة خلط واضح في صفوف الحركة الإسلامية بين مفهوم "المعارضة للسلطة ومفهوم" الصراع " مع السلطة وربما على السلطة إن بعض النظم السياسية تتقبل ظاهرة المعارضة لها لكنها لا يتوقع منها أن تقبل أن تتحول المعارضة إلى طرف ينافسها على السلطة عدد كبير من الأنظمة السياسية بدأ يتفهم مشروعية الحركة المطلبية للمعارضة ؛

وبدأ يواكبها ويسترضيها بطريقة أو أخرى وفي هذا لا شك تقدم جيد وحسن ولكن ليس من المتوقع أن يتقبل أى نظام تحول المعارضة إلى فريق منافس على السلطة يبغيها ويحاول أن يقتنصها ذلك ما ينبغي أن يتوضح في صفوف الحركة الإسلامية ؛

ومن يتتبع تاريخ العمل العام الذي تمارسه الحركة الإسلامية المعاصرة يجد أنه يتركز في بعدين أساسين :

البعد الخيري والبعد السياسي في الأول ثمة تركيز مشروع على استنهاض الخيرية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي عبر المناشدة المستمرة لإخراج الزكوات والصدقات وكفالة اليتيم وغير ذلك من أوجه الخير وقد تمكنت الحركة من خلال ذلك على تنمية حضورها الاجتماعي وتطوير اتصالاتها بالجمهور (مع غياب النظرية العلمية الموضوعية في هذا المجال)
أما في البعد السياسي فلم توفق مثل التوفيق الذي حالفها في البعد الأول وذلك نظرا لغياب الرؤية السياسية الواضحة والدليل النظري الذي تسترشد به فمن الواضح في هذا المجال استعدادها الغريزي للصدام مع الفرقاء السياسيين وضعفها في مقاومة الاستدراج للمعارك السياسية الجانبية التي أكلت منذ 1945 معظم طاقاتها الحركية
أضف إلى ذلك الاستخفاف التام الذي تبديه تجاه (الآخر) في الساحة والجهل الواضح بموازين القوي الفعلية وسيطرة الخطباء في صياغة العقل العام للحركة عوضا عن الموجههين الفكرين .

كل هذه العوامل تساعد في حشر الحركة في زاوية الصراع مع السلطة وهو صراع لم تحصد منه الحركة سوى المر والعلقم لابد من مراجعه كافة المقولات الفكرية والتخريجات النظرية التي تناولت هذا الموضوع في كتب وكراسات الحركة في اتجاه حل هذه المعضلة حلا يوفر على الحركة مزيدا من الهدر في الدماء والأرواح

وحلا يفتح أمام الحركة إمكانات التحرك السياسي السلمي ضمن معادلات الممكن ودون القفز لعوالم المستحيل مطلوب شئ من التواضع في هذا المجال على صعيد الطموح وشئ من الوعي بالذات المرتكز على أرضية من العلمية والموضوعية والواقعية .

بين الفكر والخطابة

برأيي أن مجّرد وجود المسلم المعاصر في حد ذاته في هذا العالم الماّدي يعبر دون شك عن حالة الوعي للقضية الإسلامية واستمرار المسلم المعاصر ونجاحه في هذا العالم رغم المعوقات الجسيمة الذي تعترضه لا شك رهن بحالة الوعي هذه ؛

وحتى يستمر الوعي لابد أن يعمل المسلم المعاصر على تكاملية رؤيته الفكرية وتحصينها من الثغرات من هنا صار لزاما على الاختصاصيين في العلوم الإنسانية من الإسلاميين صياغة رؤية فكرية موحدة يستطيع المسلم المعاصر أن يسترشد بها نظريا ليفسر الأحداث من حوله ؛

وينبغي أن تكون هذه الرؤية الفكرية مبنية على أساسين ضروريين :

أولهما أن تنبثق من دراسة مستمرة للمجتمع بتطوراته المتلاحقة وهذا يؤدي دون شك إلى ارتباط وثيق بضية الجمهور وتحسس جيد لنبضه
وثانيهما أن تتولّد هذه الرؤية الفكرية من خلال التلازم مع التطور العلمي للقضية الإسلامية وسياقها الاجتماعي والسياسي وليس بمعزل عن ذلك

يقول هيرمان كان في كتابه القيم الذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت بعنوان (العالم بعد مائتي عام) التالي :

" إن رسم صورة مقنعة لمستقبل عملي ومنشود أمر في غاية الأهمية لروح معنوية عالية ودينامية في العمل وإجماع في الرأي وضمان بوجه عام لمساعدة دولاب المجتمع على الدوران في هدوء وسلاسة " انتهي .

وهذا ما أقصد هو رسم صورة للمسلم المعاصر مقنعة للمستقبل وعملية حفاظا على روحه المعنوية وديناميته العملية لمساعدته على الحراك الاجتماعي في هدوء وسلاسة. والعالم اليوم يعيش في حالة من الضوضاء ويضج بالحركة الفكرية المناقشة وتمحيص المفاهيم وسيرها ووضع البرامج وصياغتها وتشخيص القضايا وتحليلها التي تتطلب جهدا فكريا منظما ؛

ولا يستطيع المسلم المعاصر أن يحقق نجاحا في هذا المعترك الفكري والحضاري بمعزل عن هموم وقضايا ذلك المعترك فهو لا يتحرك في فراغ ولا يتجهة إلى فراغ ولذا ليس أمام المسلم المعاصر إلا أن يتناغم مع هذه الحركة الفكرية التي يضج بها العالم المعاصر ؛

وليس التناغم معناه التبعية الثقافية والفكرية لما هو شائع ومكرر بين الناس من ثقافات وأفكار ولكن المقصود هو القبول بالمزاحمة الفكرية والتعدّدية والثقافية وحركة الحجة والبرهان والحوار في هذا السباق أجد أن الحركة الإسلامية سفينة المسلم المعاصر في هذا الخضم المتلاطم في حاجة أكيدة للتوجيه الفكرى السليم أكثر من الخطابة ؛

إذ ليس من شك في أن للتوجيه الفكري مناخه وآفاقه وهو مناخ وأفق يختلف شكلا ومضمونا عن أفق ومناخ للتوجيه الخطابي الذي كثيرا ما يتعرض له المسلم المعاصر اليوم من هنا على الحركة الإسلامية أن تعي الحد الفاصل بين الفكر والخطابة وتقدّر حاجتها للموجه الفكرى قبل الخطيب التوجيه الفكري يركز على البناء العقلي بينما التوجيه الخطابي يركز على البناء العاطفي وينشط في مناشدة العاطفة ويستحضر لها لوازمها الدرامية .

التوجيه الفكري يتعامل مع المصطلحات والمفاهيم والمناهج بينما الخطيب يتعامل مع الروايات والوقائع والتاريخ في إطار من العاطفية المشبوبة التوجيه الفكري يبذر بذاره على مهل وفي دأب ومثابرة أما التوجيه الخطابي فيعبئ ويستجيش ويناشد ويحرض في سخونة وحرارة وعجلة

غير أن بذرة التوجيه الفكري أدوم أثرا وأمضي سلاحا من عبوة التوجيه الخطابي (زمانا ومكانا) إن حاجة الحركة الإسلامية لصف من الموجهين الفكريين أكثر إلحاحا من هذا الكم الهائل من الخطباء مطلوب الاهتمام بإعداد الموجه الفكري لأنه الحارس الأمين للجبهة الأيديولوجية التي تتحصن بها الحركة .

إشكالية التنظيم:كالميت أمام الغاسل

أصبح " التنظيم " من حيث هو إدارة بشرية علم يدرس في الجامعات والمعاهد العليا وصارت اليوم " المسألة التنظيمية " تحتل مكانة بارزة في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والأحلاف والأحزاب والنقابات والجيوش وجماعات الضغط (بأنواعها) والدول وصار لهذه المسألة خبراؤها ومؤرخوها ومهندسوها؛

وذلك لأن (النظم واللوائح) التي تحكم مسار أى تنظيم من أى نوع تنبئ وتفصح عن مستواه واتجاهه وحيويته فالنظم واللوائح هي التي تحدد أهداف ووسائل التنظيم وشروط العضوية (الحقوق والواجبات) وتسلسل الهيئات الإدارية في التنظيم المعني وشكل العلاقة بينها : كيف تجتمع ومتى وكيف تتخذ القرارات ومن يلزم وكيف يلغي القرار ومن هي الجهة التي تلغيه .. الخ ؟

والمشكلة الأولي في "التنظيم الإسلامي" أن النظم الأساسية واللوائح الإدارية تعامل وكأنها سر من الأسرار فالقاعدة العريضة من أعضاء التنظيم الإسلامي ربما تقضي العمر كله "في الصف" دون أن تطلع على النظام الأساسي الذي يحكمها مجرد إطلاع ؛

دع عنك مناقشته أو مراجعته أو اقتراح التعديلات عليه والمفترض وهذا من حق كل أعضاء التنظيم أى تنظيم إسلامي كان أم غيره أن يطبع النظام الأساسي واللوائح الإدارية في كراسة صغيرة وتعطي نسخة لكل فرد ينضم لإطارات الحركة لكي يكون الأعضاء على بينة من أمرهم وعلى دراسة بتوجهات وغايات وآليات ووسائل ودروب السفينة التي تحملهم؛

لقد تأثرت كل إطارات الحركة الإسلامية في العالم بالظروف الاستثنائية التي عايشتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر والسرية مبررة في تلك الفترة بالذات وإن كانت هذه المسألة محل نقاش أيضا فهي غير مبررة في الأقطار العربية التي لم تضطهد حكوماتها الاتجاه الإسلامي بل إن بعض الحكومات العربية تتيح للتنظيمات الإسلامية ما لا تتيحه لغيرها فعلام السرّية إذن ؟

والمشكلة الثانية في "التنظيم الإسلامي" هذا التداخل الخطير والملحوظ بين الدين وأمره ونهيه من جهة والتنظيم كإدارة بشرية وأمره ونهيه من جهة أخرى بحيث أن الحد الفاصل بين الدين كأمر رباني والتنظيم كأمر بشري لم يعد واضحا بالنسبة للقاعدة العريضة من الأتباع وهذا أمر ينبغي توضيحه اختلال هذا الأمر أضفي على التنظيم (وهو جهد بشري محض) اللبوس الديني؛

بحيث يشعر العضو بـ (الإثم) لو خالف أمرا تنظيميا أو اعترض عليه خاصة مع وجود بعض (رجال العلم الشرعي) الذين يسخرهم التنظيم في الدفاع عن تأويلاته وتخريجاته ومن الملاحظ أيضا أن الاجتهادات الشرعية والعلمية التي لا تساير الخط العام لقيادة التنظيم الإسلامي تقمع وتتعرض لكثير من التشويه والتشكيك في أدبيات الحركة الإسلامية .

والمشكلة الثالثة في "التنظيم الإسلامي" أنه يطالب أعضاءه بتأدية واجباتهم تجاهه دون أن يسمح لهم بالمطالبة بحقوقهم عليه خذ مثلا " النظام العام للإخوان المسلمين " المعمول به والصادر في 9 شوال 1302 هـ الموافق 29 تموز 1982 والذي أثبتناه في ملاحق هذا الكتاب وتأمل مواد الباب الثالث الذي يغطي العضوية وشروطها ؛

ويلاحظ أن منطوق المواد كلها تؤكد على واجبات العضو : ابتداء بعهد البيعة (مادة 4) مرورا بدفع الاشتراك المالي (مادة 5) وصولا إلى الإجراءات الجزائية الذي يتخذها التنظيم في حق العضو الذي يقصر في واجباته بما فيها الفصل (مادة 6) دون أن نجد مادة تعطي الحق للعضو في التظلم ودون أن تحدد مادة أخرى الجهة التي يتظلم إليها العضو.

هذه الثغرة الخطيرة في "النظام العام للإخوان المسلمين" فتح الباب على مصراعيه أمام القيادة لفصل وإعفاء وتجميد عناصر كثيرة اختلفت معها في شأن من شؤون الجماعة ولق خسرت جماعة الإخوان أعدادا كبيرة من أعضائها النابهين المؤسسين جراء خلو "النظام العام" من المؤسسات العدلية التي تكبح إساءة استعمال القيادة لسلطتها

والسؤال الذي يطرح نفسه:

كيف يحق لجماعة من الجماعات أن تطالب الحكومات العربية والإسلامية بتحقيق العدالة والحرية لمجتمعاتها وهي تحارب ذلك في صفوفها ؟.
هذه بعض الثغرات البارزة في مساق الحركة الإسلامية رأينا أن ننبه لها نظرا لأثارها السلبية الكبيرة على صورة وجدوى وأداء ومصداقية العمل الإسلامي الذي تقوم به ولقد تطرقت الأوراق المنشورة في هذا الكتاب لبعض المهتمين بشأن الحركة الإسلامية كل حسب رؤيته ومنظورة ودون إلزام للآخرين أو اتفاق بينهم لبعض هذه الثغرات عسي أن يكون في ذلك فائدة وتبصير وتنوير لمن يعنيهم الأمر والله نسأل أن يوفقنا لرؤية الحق والالتزام به والموت عليه . أمين
د. عبد الله فهد النفيسي الكويت 1/1/ 1989

إستراتيجية علمية للتيار الإسلامي

للدكتور توفيق محمد الشاوى

إن الصحوة الإسلامية الحالية هي أهم ثمرة حققتها الحركات الإسلامية وغذاها الفكر الإسلامي الذي قاد نهضتها في العصر الحديث وفي نظرنا أن الفكر والعلم هو الذي تستطيع به الحركات الإسلامية أن تضمن نمو الصحوة الإسلامية واستمرارها وتحقيق أهدافها المستقبلية .

والأهداف المستقبلية في نظرنا تختلف عن الأهداف التي حققها الفكر الإسلامي في المرحلة الماضية .لقد تميزت المرحلة الماضية في بداية نهضتنا بأن مجتمعاتنا ومجتمعات العالم الثالث بصفة عامة استيقظت فوجدت أن الشعوب (البيضاء) الأوربية والأمريكية قد فرضت هيمنتها على العالم وعلى أقاليمه وقاراته جميعا (بما فيها العالم الإسلامي والعالم الثالث) نتيجة ما وصلت إليه من تفوق في مجال القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية والصناعية والتقدم العلمي والثقافي .

لقد كان "رد الفعل" الذي سيطر على كثير من المفكرين وعامة أبناء العالم الثالث هو وجوب " أن يلحقوا" بالعالم المتقدم لكي يصلوا إلى ما وصل إليه من تقدم وحضارة وتفوق

وقد أدي هذا إلى تمكين الدول المتقدمة من استخدام نفوذها الثقافي والسياسي لإيجاد أعوان وعملاء مصابين بمركب النقص واستغلوهم لإيهام شعوبنا الناهضة بأن عجزهم عن اللحاق بالشعوب " البيضاء " الأوروبية والأمريكية ناتج عن الخصائص والمقومات الأصلية التي تميزها عنها فلابد أن تتخلي شعوبنا عن أصالتها ومقوماتها وتقبل التبعية والاندماج في المجتمعات الأوربية رغم أنها تستعبدها وتستغل ثرواتها وتستذل شعوبها .

لمقاومة هذه العقدة النفسية بذل الفكر الإسلامي مجهودا كبيرا في الدفاع عن مقوماتنا العقيدية والتاريخية وأصالتنا الإسلامية لكي يبرهن على أنها لا تقل عما توصل إليه الغرب في تطوره في العصر الحديث بل أنها تماثل ما لديه من نظريات ونظم أو لا تبعد عنها على الأقل .

إن كثير من الدراسات والكتابات التي قدمها فقهاؤنا وعلماؤنا ومفكرونا وزعماؤنا كانت تدور حول إبراز عناصر التماثل والتشابه (أو التقارب على الأقل) بين مبادئنا الإسلامية الأصلية والمبادئ التي قامت عليها الحضارة الغربية الأوربية والأمريكية المعاصرة .

وهذا المجهود الذي بذله فلاسفتنا ومفكرونا كان يعطي ضمنا للعالم الإسلامي ولشريعته ونظمها فضلا غير منازع فيه على المدينة الأوربية لأنها سبقتها إلى تلك المبادئ وأن الحضارة الأوربية قد اقتبست منها هذه المبادئ واستفادت منها أكثر مما استفادت منها شعوبنا نفسها .

لكن المرحلة القادمة في مستقبل الصحوة الإسلامية سوف تقدم للعالم وجها جديدا للفكر الإسلامي بعرض فيه المبادئ الإسلامية الأصيلة التي يحتاج غلبها العالم كله لمواجهة الأخطار المحيطة به والتي يعترف بها جميع زعماء العالم ومفكروه وفلاسفته .

إن العالم اليوم يمر بمرحلة من الخوف والقلق على مستقبله لأنه يقاسي من عدة آفات تقوده إلى الفناء الكامل إذا لم يعالج العوامل التي سببت هذه الأخطار المحيطة به .

والخطر الأول: الذي يواجهه العالم هو سيطرة المذاهب التوسعية الأنانية المادية في الدول المقدمة التي استطاعت أن تملك من أسباب الدمار وأسلحة الفناء ما يكفي لتدمير العالم إذا بقيت لها الهيمنة على مصائر العالم ومستقبل شعوبه.

في نظرنا أن خطورة هيمنة هذه الدول المتقدمة ناتجة عن المذاهب والنظم الأوربية ذات الجذور الوثنية التي قامت عليها الفلسفات البونانية والحضارة الرومانية وورثت منها النظم الأوربية نسميه الآن سيادة الدولة وسلطتها المطلقة التي لا حدود لها .

في اعتقادنا أن الشريعة الإسلامية هي وحدها التي يمكن أن تقدم للعالم استراتيجية عملية تحرره من هذه الفلسفات الوثنية والمذاهب المادية والنظم الاستقلالية التي بنيت عليها وما ترتب عليها من هيمنة للدول التوسعية الاستعمارية وطغيانها وتهديدها لمصير البشرية بأسلحة الدمار الجماعي والإبادة للإنسانية ذاتها .

أننا نرى أن المرحلة القادمة للفكر الإسلامي (إضافة إلى ما قدمه الفكر في المرحلة السابقة) ستحتاج إلى مجهود كبير لاستنباط المبادئ الإسلامية الأصلية وعرضها على العالم على أساس أنه هو ونظمه المعاصرة والإنسانية كلها في حاجة إليها لمقاومة الأخطار والآفات التي تهدد مستقبل الإنسانية .

وسوف نعرض بعض المبادئ الإسلامية الأصلية في نظام المجتمع والحكم التي يمكن للفكر الإسلامي أن يقدمها للعالم ليثبت أن لديه هو مفاتيح مستقبل أمن العالم وسلامته الذي تهدده هيمنة الدول التوسعية التي تتحكم في شعوبها وتستغل الشعوب الأخرى كذلك .

وقد يعترض علينا كثيرون بأن واقعنا الحاضر لا يؤيد القول بفاعلية هذه المبادئ التي يقدمها لنا الإسلام ونعتبرها من أصوله فيما يتعلق بنظم المجتمع والحكم ولا شك أن استعراض تاريخنا السياسي والفكري يشهد بأننا ابتعدنا كثيرا عن هذه المبادئ الأصلية وتخلينا عنها؛

وأن ذلك هو الذي أدي إلى تخلفنا الذي مكن الاستعمار من السيطرة علينا عسكريا وفكريا وثقافيا وأن ما حصلنا عليه في الماضي تقدم وحضارة كان بسبب التزامنا بهذه المبادئ وأن تخلفنا نتج عن تعطيل بعض المبادئ أو تخلينا عنها .

صحيح أننا قد عطلنا مبدأ الشوري في ميدان الحكم بعد عهد الخلفاء الراشدين , ولكنه بقي حرا في نطاق الفقه والاجتهاد بالإضافة إلى أربعة مبادئ أساسية أخرى كانت محترمة ونافذة في جميع عصور الخلافة الزاهرة وهي التي مكنت أمتنا من أن تبني أكبر حضارة عالمية في تلك العصور خلال أربعة عشر قرنا .

هذه المبادئ الربعة

أولها: وحدة الأمة والدول الإسلامية
وثانيها: سيادة الشريعة وهيمنتها
وثالثا: استقلال الفقه والعلم عن الدولة
وأخيرا: استقلال الأمة العربية ودولها عن السيطرة الأجنبية والنفوذ الأجنبي .

منذ بدأ السيطرة الاستعمارية استطاع الاستعمار أن يوجد له عملاء في ميدان التشريع والثقافية والسياسية والحكم يساعدونه في القضاء على هذه المبادئ التي كانت أساس الاستقلال التشريعي والعلمي وحصن الحضارة الإسلامية خلال أربعة عشر قرنا .

لقد عمل البعض لترويج الفكرة الاستعمارية القائلة بأن الحل الوحيد للخروج من حالة التخلف هو التخلي عن جميع المبادئ الإسلامية والتنكر لها من أجل الاندماج في الثقافة الأجنبية والمجتمعات الأوربية وتبني نظمها ومبادئها وأفكارها (بخيرها وشرها ،وحلوها ومرها ،ما استحب منها وما يكره ،كما قال أحد كتابهم)

بعبارة أخرى أن مركب النقص لدي بعض مفكرينا وقادتنا استخدم لإدخال شعوبنا في دائرة التبعية والاندماج في المجتمعات المعادية لنا والتنكر لمبادئها الأصلية .

لكن مقاومة المفكرين ودعاة النهضة الإسلامية قد نجح في وقف تيار دعوة " التغريب " فقوي التيار الشعبي الذي جعل المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية هدفا للكفاح الشعبي مما اضطر بعض الحكومات للتجاوب مع هذا التيار وإعلان التزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية سواء جاء هذا الإعلان جديا مبينا على الاقتناع أم كان مجرد إجراء سياسي للتهدئة أو لكسب الوقت أو للحصول على تأييد شعبي لأهداف أخرى وكان ذلك ثمرة الصحوة الإسلامية المعاصرة .

إن القاعدة الشعبية للصحوة الإسلامية أوسع بكثير من القواعد التي تقوم عليها الحركات الإسلامية المتعددة والمختلفة وهي بلا شك كانت ثمرة الدعوة التي قام بها المفكرون والإسلاميون والحركات الإسلامية معا وأكثر من ذلك فإنها كانت ثمرة التضحيات التي بذلها الإسلاميون الذين صمدوا في وجه كل أساليب الاضطهاد والقمع التي سلطت عليهم من بعض الأنظمة والحكومات والقوي الأجنبية التي تشجع هذا الاضطهاد ؛

وتجعله في بعض الأحيان شرطا لتعاونها مع بعض الدول والحكومات المختلفة ذلك أن أعدائنا أيقنوا بأن العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية كانت وما زالت وسوف تبقي دائما الينبوع الذي يغذي الاتجاه الشعبي لمقاومة السيطرة الأجنبية الاستعمارية في الماضي والقوي العالمية التوسعية في الحاضر والمستقبل .

وعلينا الآن أن نفكر في مستقبل هذه الصحوة وأن نخطط لذلك علي أساس علمي:

أن دور العلماء والمفكرين المعاصرين متمم لدور الذي قام به أسلافهم في الماضي وهو تزويد القوى الإسلامية والتيار الشعبي المؤيد لها بالخطط الاستراتيجية العلمية لتمكين الصحوة الحاضرة من أن تواصل مسيرتها وتقوم بدورها العالمي لا لصالح شعوبنا فقط وإنما لصالح الشعوب في العالم ونأمل أن يكون هذا البحث أحد الروافد التي تغذي هذه الخطط المستقبلية .

إذا أردننا أن نستخلص من مقارنة أوضاعنا الحاضرة بما وضعه فقهاؤنا من أصول قامت عليها حضارتنا وثقافتنا في الماضي فإننا سنجد أن هذه الأصول في مجال النظام الاجتماعي والسياسي يمكن تركيزها في خمسة مبادئ أهمها استمرار الالتزام بمبدأ الشوري الحرة في الاجتهاد والفقه (خلافا للشائع في كتابات المعاصرين الذين يقولون أن الشوري قد عطلت بعد عهد الخفاء الراشدين)

فإننا يجب أن نلاحظ أن الاستبداد السياسي لم يعطل بقاء مبدأ الشوري حرا وسائدا في مجال الفقه والاجتهاد طوال العصور التي بقيت فيها دولة الخلافة وأنه لم يعطل في هذا المجال إلا في عصورنا الحديثة إلى جانب تعطل المبادئ الأولية الأخرى .

إن تاريخنا يشهد بأن تعطيل مبدأ الشوري في الحكم الذي وقع بعد نهاية عهد الراشدين كان في نظرنا أول العوامل التي أبعدت المجتمع الإسلامي عن الالتزام بالشريعة ومبادئها وتفرعت عنه عوامل أخرى عديدة أدت إلى ما أصاب مجتمعنا من ابتعاد عن الالتزام بمبادئ الشريعة ؛

مما أدي إلى تخلفه وفساده الذي كان من أهم الأسباب التي مكنت أعداءه من إحراز انتصارات عديدة كان أهمها انتصارهم في الحرب الكبرى الأول على الدول العثمانية الذي أدي إلى انهيارها وتخليها عن " الخلافة " وعن الوحدة الإسلامية وتبعتها في هذا التخلي الدول الوطنية التي نشأت في القطار العربية والإسلامية على أنقاض الدولة الإسلامية الموحدة .

هذا الانحراف عن الشوري (رغم خطورته) كان محصورا في تعطيل تطبيق الشوري في نظام الحكم فلم تعطل الشوري في الفقه والتشريع بسبب التزام السلاطين (الذين استولوا على الحكم بالقوة) بالخضوع لحكام الشريعة والالتزام بتطبيقها

(فيما عدا مبدأ البيعة الحرة كأساس لولاية الحكم) باعتبارها التشريع الوحيد الذي يسود في العالم الإسلامي كله ويمنحه بذلك وحدة ثقافية وفكرية وقانونية استمرت طوال أربعة عشر قرنا من تاريخنا وإذا كان الفقه واجه بعض الضغوط التي مارسها الحكم والسلاطين في عهود الخلافة منذ عهد الأمويين فإن أثمة الفقه قاوموا هذه الضغوط فلم يترتب عليها تغيير في المبادئ الأساسية التي يمتاز بها الإسلام في مجال التشريع (لا الحكم) والتي بقيت سائدة في فقهنا بل وفي مجتمعنا كذلك.

وهذه المبادئ هي:

  1. استمر مبدأ الشوري والحوار الحر في الفقه والاجتهاد معمولا به (رغم تعطيل الشوري في مجال اختيار الحكام ومحاسبتهم) وبقي الاجتهاد الفردي حرا كما بقيت المشاورات في مجال العلم والفقه حرة بعيدة عن تدخل الحكام إلى أقصي حد ممكن وقد نجح فقهاؤنا في ذلك بسبب التزامهم بمبدأ الابتعاد عن الحكام والاستقلال عن ذوي السلطان مهما كلفهم ذلك من مصاعب ومتاعب واضطهادات وهذا هو ما يسمي في العصر الحديث بمبدأ الفصل بين السلطات ..
  2. مبدأ هيمنة الشريعة وسيادتها في جميع نواحي الحياة الاجتماعية والسياسة فيما عدا مبدأ البيعة الحرة وخضوع الحكام لرقابة الأمة وأهل الحل والعقد وتمنع هؤلاء بالحرية الكاملة في محاسبة الحكام ووقف اعتداءاتهم على الأفراد الذي عطله حكام القوة والسيطرة الذين خرجوا عن الالتزام بمبدأ الشوري التي فرضها الإسلام .
  3. مبدأ استقلال الشريعة والفقه عن الدولة وعدم تمكن الحكام مهما تكن سطوتهم من التدخل في التشريع لتغيير أحكام الشريعة أو "تطويرها" وبقيت الشريعة هي الملاذ الخير للجماهير يستنجدون بها لتوقف طغيان الحكام في حالات كثيرة مما اضطر سلاطين القوة إلى إعلان التزامهم بالشريعة واحترامهم لها من الناحية النظرية وإن كانوا قد عطلوها عملا فيما يخص مبدأ الشوري كأساس لولاية الحكم .
  4. مبدأ استقلال الأمة الإسلامية في دار الإسلام وعدم خضوعها لسيطرة أجنبية أو نفوذ أجنبي والتزامها بإقامة دولة عظمي موحدة دافعت عن إمبراطوريتها خلال قرون طويلة تضمنت للشعوب الإسلامية عزتها وذاتيتها الحضارية وتفوقها في جميع مبادئ العلم والثقافة .

لقد شهد العالم الإسلامي فترة تخلف في أواخر عهد الدولة العثمانية لكن بدأ الصحوة الإسلامية في الميدان الفكري على يد روادها منذ عهد جمال الدين ومحمد عبده والكواكبي قبل انهيار دولة الخلافة بل كانت في كثير من الأحيان تأخذ صورة نذد لها ومطالبة بإصلاحها بعلاج العيب الكبر الموروث؛

وهو تعطيل الشوري ومقاومة الاستبداد في السلطة والحكم ولم يكن ذلك يعني بأى حال من الأحوال التخلي عن المبادئ الأساسية الأخرى الذي دافع عنها الفقه الإسلامي طوال عصور التاريخ حتى بقيت سائدة في مجتمعنا خلال العصور التي بقيت فيها دولتنا مستقلة موحدة وأهمها المبادئ الخمسة التي ذكرناها .

لكن الغزو العسكري لكثير من أقطارنا وما تبعه من سيطرة استعمارية قد عزل دعاة التيار الإصلاحي الإسلامي عن مراكز القيادة السياسية والفكرية معا وعطل نمو الصحوة الإسلامية في ميادين الفكر والعلم والثقافة وانشغل قادتها وتلاميذهم بصورة أكبر بالدعوة للمقاومة الجهادية والسياسية للاحتلال والسيطرة الاستعمارية ؛

وكانوا هم وتلاميذهم رواد الكفاح الوطني ضد الاستعمار فترة طويلة في كثير من أقطارنا ويكفي أن نذكر منهم الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي والسنوسيين وعلى رأسهم عمر المختار والحاج أمين الحسيني والمهدي في السودان وأمثالهم وسار على نهجهم رواد الحركات الإسلامية الحديثة مثل المودودي وحسن البنا وسيد قطب .... الخ .

لكن القوى الاستعمارية استطاعت الالتفاف حول قوي المقاومة الإسلامية في كثير من أقطارنا فأدخلت فرقا من عملائها لتحتل ميادين الصحافة والثقافة والتعليم العصري ومكنتها من ترويج مادي وأفكار تلائم سياستها وتمكنها من إخضاع مجتمعنا لنوع من الاستعمار الفكري والثقافي يدعم سيطرتها السياسية ويكون دعامة لنفوذها بدلا من الاحتلال العسكري الذي زادت تكاليفه وخسائره بسبب المقاومة الإسلامية " الوطنية وكفاح شعوبنا ضد الحكم الأجنبي الذي كان أساسه المبدأ الإسلامي الذي فرضته شريعتنا وهو عدم جواز قبول حكم غير المسلمين لبلد إسلامي .

إن واقعنا الحاضر يمكن وصفه بأننا استطعنا التخلص من الاحتلال الأجنبي في أغلب أقطارنا مع استمراره في أقاليم معه مثل فلسطين وكشمير وأريتريا وأمثالها لكن مجتمعنا ما زال يقاسي سيطرة الاستعمار الفكري الذي لابد من مقاومته والذي تتصدي له الصحوة الإسلامية المعاصرة .

وقبل أن نستعرض مساوئ الاستعمار الثقافي والتشريعي الذي بدأنا في مقاومته والتصدي له يجب أن نلاحظ ما يلي :

  1. أن واقعنا في العصر الحاضر لم يعالج عيوب الماضي (الموروثة) التي أشرنا إليها فيما يتعلق بحرية الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم والإشراف عليهم بواسطة ممثليها ولا داعي للإفاضة في ذلك فإن كل مسلم عليه أن يحكم بنفسه على مدى ما يتمتع به جماهير شعبه من حرية في تطبيق الشوري في مجال الحكم أى أننا لم نستطيع إلى الآن معالجة الانحراف الذي ورثناه من عهد التخلف (الناشئ عن استيلاء الحكام على السلطة بالقوة والغلب) السابقة على الاحتلال العسكري الأجنبي والغزو الثقافي الاستعماري .
  2. وأسوأ من ذلك أننا لم نكتف باستمرار تعطيل الشوري في الحكم بل أن واقعنا قد أضاف إلى ذلك أننا تخلينا عن المبادئ (الأربعة الأخرى) التي احتفظت بها أمتنا وبقيت سائدة ونافذة فيما يتعلق بالتشريع خلال أربعة عشر قرنا وتمتعت بها شعوبنا حتى في أشد عصور التخلف قبل انهيار الدولة العثمانية ويكفي أن نستعرض موقف مجتمعاتنا منها لنري كيف كان تعطيلها سببا في تدهور أحوالنا في "العصر الحديث "
  3. لقد عطلنا مفعول الشوري في الإجماع وحرية الاجتهاد في الفقه رغم أن علماءنا وفقهاءنا قد استطاعوا أن يدافعوا عنه قرونا طويلة وقاوموا محاولات السلاطين والحكام المستبدين للتدخل فيه صحيح أنه كان قد أصيب بشلل نصفي نتيجة قفل باب الاجتهاد لكن الاجتهاد في الدول الوطنية الحديثة فقد معناه وأثره وفاعليته بسبب استغناء حكامنا عن تطبيق الشريعة وتخليهم عن الالتزام بها و " تحررهم " من سيادتها عليهم وعلى مجتمعهم بحجة إقامة دولة حديثة ذات تشريع " عصري " وأدي إلى سيطرة الحكم الشمولي الذي يضربون فيه معارضيهم وشعوبهم بالقوانين الوضعية الظالمة " العصرية ".
  4. تعطيل مبدأ هيمنة الشريعة وسيادتها في المجتمع لأن الدول الوطنية أو القومية المتعددة التي قامت علي أنقاض الدول الإسلامية الموحدة قد تخلي معظمها عن تطبيق الشريعة الإسلامية واستعارات قوانين وضعية مستوردة من الدول الأجنبية ولم يكن هذا التخلي اختياريا بل أنها كانت من ضمن التركة الاستعمارية التي سبقت الاستقلال في الدول التي كانت خاضعة لاحتلال أجنبي وجارتها التي قلدتها وسارت على نهجها وبذلك تعطل تطبيق الشريعة وسيادتها من حيث المبدأ (وأن كانت بقيت سائدة في حدود معينة استثنائية) وكان هذا التعطيل لصالح الاستعمار في الأمر إذ أن الحكم الأجنبي لم يكن يريد أن يلتزم بالخضوع لشريعتنا (لأن أول مبادئها عدم جواز الخضوع له) فأدخل الاستعمار معه الفكرة الأوربية التي تعتبر القانون من صنع الدولة لتحل القوانين الوضعية التي تصنعها الدولة التي تسيطر الأجنبية ففقدنا بذلك مبدأ سيادة الشريعة بل وسيادة القانون وسيادة شعوبنا وأمتنا في كثير من أوطانها .
  5. زوال استقلال الشريعة عن الدولة إذ لم يعدله معني طالما أن تطبيقها قد عطل فخسرنا بذلك مبدأ آخر من أهم مبادئ الشريعة وهو مبدأ استقلال التشريع عن الدولة وهو مبدأ سيكون له أهمية كبري في مستقبل العالم لو تمسكنا به وقدمنا للعالم بثقة واعتزاز .
  6. لقد خسرنا الوحدة الشاملة لدار الإسلام لأن القوى الأجنبية التي فرضت سيطرتها على بلادنا اقتسمت هذه القطار فيها بينها وتعمدت يمزيقها وفرضت علينا التجزئة التي فصلت كل قطر من أقطارنا عن جيرانه وشركائه وإذا كانت الحركات الوطنية قد قاومت السيطرة الأجنبية فإن هذه المقاومة كانت في إطار " وطني " في حدود القطر الذي تمثله لكن أساسها ومنبع قوتها كانت في العقيدة والعزة الإسلامية .
  7. لقد حصلت بعض أقطارنا على استقلالها في حدود إقليم وطني صغير لا يستطيع مقاومة النفوذ الأجنبي والسيطرة التي تفرضها الدول الكبرى التوسعية والاستعمارية وحاول الاستعمار وحاول الاستعمار وعملاؤه إيهامنا بأن الاستقلال "الوطني" يغنينا عن الوحدة الشاملة لكن الفكر الإسلامي تصدي لهذه الخطط الاستعمارية وبدأت الدعوة للوحدة كمرحلة تالية للاستقلال لكي يكون استقلالا كاملا لدار الإسلام كلها وقد حاول البعض الدعوة للقومية العربية ليكون الاستقلال في نطاق القطار العربية وحدها لكن الوحدة الإسلامية التي تجاوزت مرحلة الوطنية والقومية معا و وتعتبرها من المطالب المستقبلية التي لم تدخل بعد في نطاق مطالب الحكومات أو الأحزاب الوطنية أو القومية .
  8. كان أول ما خسرناه بسبب انهيار وحدثتنا هو سيادتنا الكاملة ففي عهد الخلافة كنا نشكر من استبداد حكامنا المسلمين وما زلنا حتى الآن نعيب عليهم الانحراف عن مبدأ الشوري لكنهم مقابل ذلك دافعوا عن استقلالنا وصدوا الهجمات المتتالية للدول الاستعمارية على شواطئنا وأقطارنا المختلفة ونجحوا في ذلك في أحيان كثيرة لكن هذا الحال تبدل بعد الحرب العالمية الأولي إذ احتل المستعمرين جميع أقطارنا واحد بعد الآخر وسلبوا شعوبنا حريتها واستغلوا ثرواتها .

نحن لا ندعي أن حكام الماضي لا يتحملون مسئولية ما نتج عن أخطائهم من تخلف مجتمعاتنا وعجزنا عن مقاومة العدوان الذي نتج عن هذا التخلف لكن ما نريد أن نقوله الآن أننا وجدنا أنفسنا بعد انهيار دولة الخلافة نواجه سيطرة أجنبية على أكثر أقطارنا حرمتنا من استقلالنا وسادتنا في بلادنا التي أصبحت مجزأة ومنفصلة بعضها عن بعض وفي أغلب الأحيان كان حكامها مختلفين ومتنازعين ومتخاصمين مما أثر على العلاقات بين شعوبنا .

صحيح أن شعوبنا قاومت العدوان الاستعماري وما زالت تواجهه لكننا حتى الآن لا نستطيع أن نعتبر أن جميع أقطارنا قد تحررت من السيطرة الأجنبية المباشرة أو غير المباشرة أو أنها قد حققت استقلالها "الوطني" بعد أن حرمت من وحدتها .

فضلا عن ذلك عطلنا مبدأ استقلال الشريعة وسيادتها على الدولة وتخلينا عن مبدأ الشوري في الإجماع وحرية الاستنباط في الفقه كما أوضحنا سابقا.

إذا كنا قد حرصنا على بيان المبادئ الأساسية التي أدي واقعنا المعاصر إلى تجاهلها وانحرافنا عنها فذلك لأن هذه المبادئ هي في نظرنا مفاتيح الاتجاهات المستقبلية التي يبحث عنها العالم اليوم بعد أن فشلت محاولاته وتجاربه في تحصين المجتمعات من خطر الاستبداد والشمولي الذي انتشر في كثير من الدول وخاصة في إقاليم العالم الثالث .

إن طغيان الحكام في كثير من دول العالم المتقدمة والمتخلفة يرجع سببه الأول إلى تضخيم سلطة الدولة وتغولها وإهدار لحقوق الأفراد وحرياتهم وهذا ناتج عن إعطائها سلطة مطلقة في التشريع الوضعي اعتمادا على النظريات الأوروبية التي تبنت فكرة أن القانون هو إرادة الدولة؛

هذه الفكرة تجعل الكلام عن سيادة القانون مجرد محاول للحد من سلطة الموظفين العاملين بالدولة لكنه لا يحد من سلطة الدولة ذاتها ومن يسيطرون عليها ويتكلمون باسمها (بالحق أو بالباطل) لأن أمامهم بابا واسعا هو تغيير القوانين والدساتير وإلغاؤها وإصدار النصوص التي تسمح لهم بكل ما تريد تحت ستار زائف من الشعارات الكاذبة الزائفة .

إن الشريعة حررتنا وهي قادرة إذا تمسكنا بها أن تحرر العالم كله من هذا المبدأ الأوروبي (والذي أدخله علينا الاحتلال الأجنبي ثم الاستعمار التنكري الذي نتج عنه) لأن سيادة التشريعية وطابعها الإلهي تقيم سدا منيعا يوقف تغول الدولة وتضخم سلطاتها (عن طريق استعمال التشريع سلاحا للتضييق على حريات الأفراد والجماعات ولتقيد حقوق الإنسان) .

إن مبدأ سيادة الشريعة وهيمنتها على المجتمع وعلى الدولة بكلمة المبدأ الثاني وهو استقلال التشريع عن الدولة والمبدأ الثالث وهو " الإجماع " كمصدر للفقه الذي يعطي سلطة التشريع للأمة وأفرادها من المجتهدين والعلماء لا للدولة .

أما مبدأ الوحدة الإسلامية فهو دعامة لسلطان الأمة فكلما كانت الأمة كبيرة زاد وزنها وقوي سلطانها إن وحدة الأمة في عصرنا الذي فرضت علينا فيه تجزئة الدولة وتعددها تساعدنا على مقاومة ضعف الدول ذات السيادة المحدودة في نطاق جزئ ضئيل من دار الإسلام أو العالم الإسلامي الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية الموحدة وتطبيق الشريعة يستلزم وحدة الأمة في الإجماع؛

وفي نطاق الاجتهاد وبذلك يجب علينا أن يكون للأمة الكبيرة الموحدة بعض الاختصاصات في نطاق التشريع والحكم عن طريق وجود منظمات دولية أو مجامع عملية تمثلها.

ثم إن استقلال الأمة بتشريعاتها عن الدولة الوطنية التي تحكمها يساعد تلك الدولة (أو الدول) على مقاومة ضغوط القوى الأجنبية التوسعية التي تستعمل ضد كل دولة من دولنا وتجعلها مضطرة لإرضائها لكن الأمة الكبيرة تستعصي على تلك الضغوط ولا تخضع للنفوذ الأجنبي بسهولة كما تخضع الأقطار الصغيرة وحكوماتها في حدودها " الوطنية "

هذه هي صورة نظرية لواقعنا كما نراه في مرآه في الفقه ومبادئه ولكن هذه الصورة قد تعرضت لتشويه أكثر بما أقحم علينا من أفكار مسمومة وشعارات زائفة مستوردة تحل محل مبادئ الصالة وتبعدنا عن الاعتزاز بشخصيتنا التاريخية التي تميزت بالاستقلال والعزة والاعتماد على الذات أهم هذه الأفكار المستوردة إعطاء الدولة سيادة مطلقة وعدم خضوعها لأحكام الشريعة وعدم التشريع عنها واعتبار القانون الوضعي من صنعها وتعبيرا عن إرادتها وإحلاله محل الشريعة ذات المصادر السماوية .

كانت المهمة الأولي لهذه الأفكار المستوردة هي أن تشغل المكان الذي كانت تشغله المبادئ الأصلية التي نعتز بها وبذلك تحول دون الدعوة للعمل بها بزعم أنها دعوة للرجعية والجمود والتخلف وعهود الظلام

وما إلى ذلك مما يكرره مروجو التبعية الفكرية ودعاة الذيلية والاندماج في ركاب العدو الذي تركت جيوشه العسكرية قواعدها في بلادنا بعد أن اطمأن فلاسفته وأعوانه إلى أنه ترك لنا أفكار مسمومة يلتقطها تجار المخلفات الاستعمارية لكي يكسبوا من ورائها مالا وجاها ونفوذا وسلطانا أو ليتخذوا من هذه التجارة وسيلة لمشاركة القوي الأجنبية المستفيدة منها في الغنائم التي يحصلون عليها من استغلال لثرواتنا وسيطرتهم على بلادنا .

إن بعض هذه الأفكار المسمومة قد أصبحت " موضة " عصر النهضة الحديثة التي يتباري ذو النفوذ والسلطان في التباهي بها وترويجها بل يفرضونها على أطفالنا وأجيالنا الصاعدة لتحل محل مبادئنا الأصلية لكي تقتلع من عقولنا ونفوسنا كل سبب يدفعنا إلى ثقفتنا بأنفسنا أو اعتزازنا بشخصياتنا التاريخية ومقوماتها ومبادئها الأصلية .

إن الحقيقة التي يحاربها أعداؤنا وعملائهم هي أن مبادئ الشريعة التي أشرنا إليها هي مفتاح التطور والتقدم في مستقبلنا ومستقبل العالم كله وأن أعمالها وتنفيذها هو ضمانه لشعوبنا وللفقه الدستوري في العالم الحديث الذي يبحث عن علاج لمشاكل النظم الدستورية المعاصرة وانحرافاتها التي يشكو منها العالم في جمع قاراته وأقاليمه .

إن الصحوة الإسلامية سوف تدخل الآن مرحلة جديدة تقدم فيها المبادئ التي تتميز بها الشريعة الإسلامية عن النظريات والنظم المعاصرة التي تحتاج إلى التزود من شريعتنا بالمبادئ التي ستسود في المستقبل لأنها تقدم العلاج الذي يبحث عنه العالم لحماية المجتمعات من الطغيان المولي المبني علي احتكار الدولة لسلطة التشريع إلى جانب سلطة التنفيذ واعتبارها القوانين الوضعية حقا من حقوقها المستمدة من سيادتها .

إننا بذلك نحيط المحاولات التي بدأها عملاء الاستعمار الفكرى والغزو الثقافي الذي يعطي النظريات الأوربية المستوردة قداسة باعتبارها تمثل الفكر العصري أو العالمي أو التقدمي وهي صفات يقصدون بها طمس معالم الفكر الإسلامي والقضاء عليها وإبعادها عن المجتمع بحجة أنها في نظرهم من آثار الماضي ؛

فلا تتمتع بصفات المعاصرة أو الحداثة أو المتقدم التي تحتكرها في نظرهم الأفكار التي يصدرها لنا العرب والتي بيني بعضهم لنفسه مركز قوة من الثقافة أو الإعلام أو الاقتصاد أو السياسية بالترويج لها ويعتبر أنها بعيدة عن كل ما يحالفها هو من آثار الماضي الذي لا مجال له في عصرنا .

إن من يروجون للأفكار المستوردة هم أقلية من الطوائف المحددة التي مكنها الواقع الاستعماري والنفوذ الأجنبي الناتج عنه في ميادين السياسة والثقافة من الحصول على مغانم ومناصب لا يستحقونها فهم يتمتعون بمراكز القوة والنفوذ في المجتمع باعتبارهم يمثلون النفوذ الفكري والثقافي والسياسي الأجنبي الذي ما زال له الدور الأول في بقاء كثير من النظم ؛

وكثير من الحكومات الأجنبي الذي ما زال له الدور الأول في بقاء كثير من النظم وكثير من الحكومات في بعض أقطارنا إنهم فعلا سعداء لأنهم يستغلون المبادئ المستوردة للحصول على مغانم شخصية على حساب مصالح شعوبهم وأمنهم بل وعلى حساب تقدم العلم والفكر وتطوره في المستقبل .

إن الصحوة الإسلامية الحالية إنما هي دليل على فشل هؤلاء العملاء في محاولتهم لفرض الأفكار وهدفها أن نبدأ حركة التطور الدستورى في المستقبل على أساس المبادئ المشار إليها التي نفخر بها ونعتز بشريعتنا لأنها سبقت جميع النظريات الأوربية والأجنبية في تقديم العلاج الضروري لإخراجنا من الأوضاع التي تشكو منها شعوبنا ويشكو منها العالم كله نتيجة تضخم سلطة الدولة وتغولها واستبدادها بحريات الفرد وحقوق الإنسان.

إن المروجين للأفكار الاستعمارية والمستفيدين منها من أبناء شعوبنا ليسوا إلا حاملي الميكروب أو ناقلي العدوي لكن موطن الداء الحقيقي ومنبت الخطر هو ما يواجهه العالم من سيطرة القوى الكبرى التي تستغل شعوب العالم وتعمل كل ما تستطيع لبقاء سيطرتها واستغلالها وهي تفرض إرادتها على المستوى الدولي عن طريق ما تسميه " منظمات عالمية " تتخذها مجرد وسيلة لفرض سياستها على دول العالم وحكوماته وتعاديها وتحاصرها وتقضي عليها إذا خرجت عن سيطرتها وتمردن على نفوذها .

ثم إنها تعامل الدول والحكومات القائمة في جميع قارات العالم على أنها مجرد أدوات لتنفيذ خططها كما هو الحال في نظرها إلى المنظمات الدولية العالمية .

وما دامت الدول الوطنية والمنظمات الدولية في نظر تلك القوى الاستعمارية العالمية هي الأداة التي تستعملها لتنفيذ القرارات التي تريد تنفيذها (وتعطيل القرارات التي لا ترغب في صدورها أو في تنفيذها بعد صدورها)

فإن ذلك يستلزم أن تبقي هذه الدول هي صاحبة السلطة المطلقة على شعوبها وأن تكون قادرة على فرض ما تريد من خطط وقرارات على تلك الشعوب بواسطة قوانين " وضعية " حتى تنفذ للدول ما تفرضه عليها بواسطة هيمنتها العالمية أو بواسطة المنظمات العالمية التي تسيطر عليها .

إن فكرة الدولة صاحبة السلطة المطلقة في التشريع كما هي في التنفيذ والمال والاقتصاد هي في الأصل فكرة استعمارية حيث غايتها وهدفها ومن حيث المنبع وما زالت كذلك حتى اليوم وستظل كذلك طالما كانت هناك قوة كبرى تريد تسيير شعوب العالم كله وفق هواها ومخططاتها وما تعتقد أن مصالحها العليا لأن الدولة الصغيرة وحكوماتها وقوانينها الوضعية ستبقي هي الأداة التي يمكن لها بها أن تفرض إرادتها على شعوبنا دون حاجة للاتجاه إلى الاحتلال العسكري .

إن فكرة حق الدولة في إصدار قوانين وضعية إنما بدأت في كثير من بلادنا على يد المستعمرين أنفسهم الذين احتلوا هذه الأقطار أو كانوا يخططون لاحتلالها ولم يكونوا راغبين في أن تبقي سلطة الحكومات (التي يفرضونها على شعوبنا) سلطة محدودة في نطاق تنفيذ الشريعة ؛

ولا أن تبقي تلك الشريعة مهيمنة على المجتمع ومستقلة عن الحكام الذين تستطيع القوي الأجنبية توجيههم والضغط عليهم إن السياسة الاستعمارية لا يمكن أن تفرض إلا بواسطة قوانين وضعية يصدرونها لنا هم أو يفرضون وضعها على الحكومات الخاضعة لهم أو التي يجب أن تكون خاضعة لهم .

إن منطلق السياسة الاستعمارية نفسه يستلزم أن تكون الحكومات الخاضعة لإرادة المستعمر ذات سلطة مطلقة لا تتقيد بشريعة لا يعرفونها ولا يريدون أن يعترفوا بها ولا يريدون أن يكون سلطانها فوق سلطانهم أو فوق سلطان حكام يمكنهم أن يفرضوهم علينا ؛

أو يفرضوا عليهم ما يريدون في البلاد التي تخضع لنفوذهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن لهم مصلحة في أن يبقي كل حاكم محلي في بلادنا مطلق السلطة قادرا على أن يفرض علينا ما يفرضونه عليه أنهم بذلك يفرضون بواسطته إرادتهم عن طريق سيطرتهم الكاملة عليه وسيطرته الكاملة علينا وكلاهما لا يريد أن يكون محدودا أو مقيدا بحدود شريعتنا وأصولها .

إن من يتأمل أوضاع العالم في الوقت الحاضر تتكشف له هذه الحقيقة وهي أن قوى السيطرة العالمية هي التي تفرض على الدول الصغيرة التي تريد استغلالها حكومات مطلقة السلطة وعلى حد تغييرهم " تملك أن تفرض على الشعوب قرارات لا ترضي بها تلك الشعوب "

هذه هي الحقيقة الثابتة رغم كل تمويه ولا يتجاهل هذه الحقيقة إلا الذسج والمنتفعون الذين لديهم الاستعداد للعمل لصالح أى حكم سواء كان حكما أجنبيا أو وطنيا وسواء كان عادلا أو ظالما لأن هدفهم هو الانتفاع والسير في ركاب الحكام وتزويدهم بأساليب التمويه لخداع شعوبهم وتضليها ليس فقط عن طريق القهر والكبت والعنف وإنما أيضا عن طريق التضليل الإعلامي والتمويه الثقافي والتزييف الفكري .

إن حاجة الدول الأجنبية إلى إطلاق سلطة الحكومات في أقطارنا المختلفة هو السبب الحقيقي الذي يدفعها إلى اتخاذ جميع الأساليب المشروعة وغير المشروعة (بما فيها الاغتيالات الانقلابات) لمنع هيمنة الشريعة في بلادنا .

إن معركتنا من أجل تطبيق الشريعة وسيادتها هو أكبر مساهمة لنا لإقامة مستقبل العالم على أساس تنفيذ سلطة الحكومات والدول وحصرها في نطاق تنفيذ الشريعة الإلهية ومبادئها ومنعها تنفيذ ما تمليه عليه القوى العالمية التوسعية من قرارات وإجراءات تخالف سيادتنا وشريعتنا وإرادتنا ولا يكون ذلك إلا بنزع سلاح القانون الوضعي من يد الحكام والدول .

إن بعض حكامنا وقادتنا يعتقدون أن لهم مصلحة شخصية أو رسمية في تعطيل تطبيق الشريعة لأنهم لا يعرفونها أو لأنها تقيد سلطانهم أو تحرمهم من " حرية " إصدار القوانين التي يريدونها وهؤلاء يجب أن يعلموا أن من " حرية " إصدار القوانين التي يريدونها يجب أن يعلموا أن مصلحة القوي الأجنبية في " تحرير " القوانين الوضعية من سيادة الشريعة وهيمنتها أكبر بكثير من مصالحهم الذاتية

وأننا عندما نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية لا نقصد معارضتهم إلا لأن الشريعة هي سلاحنا لنقاوم السيطرة العالمية للقوى الاستغلالية والاستعمارية التي تستفيد من موقفهم والتي لا ترضي باستقلال شريعتنا عنهم لأن ذلك معناه أنهم لا يستطيعون أن يفرضوا سيطرتهم في حالة التزام الشعوب بها واعتقدوا أن ذلك يخالف مبادئ الشريعة وأصولها .

أما نحن فأننا ندعو إلى ما قرره الإسلام من أن السيادة للشريعة ومصادرها الإلهية المستقلة عن الدولة تماما والواقع أن مبدأ سيادة الشريعة واستقلالها هو الاتجاه المستقبلي الذي يتجه نحو العالم تحت اسم " سيادة القانون " لكن لا قيمة لها في العمل إذا لك يكملها استقلال الشريعة (القانون) عن الدولة بحيث تكون هناك جهة مستقلة عن الدولة هي التي تملك سلطة التقنين بصفة أساسية .

قد يقول قائل أن الدول الكبرى المتقدمة تمارس سلطة التشريع في بلادها ولكن يرد على ذلك بأنها تسير في هذا الاتجاه ففي النظام الأمريكي لا تملك الدولة سلطة التشريع وإنما يملكها " الكونجرس " الأمريكي لكنه مع ذلك يتقيد بالدستور الذي تحرسه المحكمة العليا إنها أكثر منا الآن اعترافا بمبدأ التفرقة بين الأمة والدولة ؛

ثم أنهم يسيرون نحو مبدأ استقلال سلطة التشريع (مع بقائه وضعيا أو بقائه صادرا من إحدى سلطات الدولة) ويكفي أن نذكر النظام الرئاسي في الولايات المتحدة حيث الهيئة التشريعية مستقلة تماما عن " الإدارة " التي يمثلها " الرئيس "

بل أنها هي التي تهيمن على الشئون الهامة للأمة ويؤكد أنهم لا يستعملون كلمة " الدولة " إطلاقا في الإشارة إلى الولايات المتحدة كلها وإنما يصفونها بأنها " الاتحاد " أما الدولة فهي ما تسميه بالعربية " الولايات "

إن سلطة التشريع في " الولايات المتحدة " ليست للولايات (الدول) المتحدة ولا لإدارة الاتحاد (التي يمثلها الرئيسي) بل للكونجرس الذي يضم ممثلي الشعب وممثلي الولايات (الاثنين وخمسين) ويملك سلطة التشريع كاملة .

معني ذلك أن أكبر الاتحادات في العامل وهو (الاتحاد الأمريكي) قد أوجد هيئة متميزة تتمتع بقدر من الاستقلال لتمارس سلطة التشريع فلا تملك إدارة الاتحاد ودولة (الولايات) مثلا سلطة وضع القوانين الاتحادية والفرق بين ما وصل غليه هذا النظام الرئاسي الأمريكي؛

وبين ما وصل إليه فقهاؤنا ما يأتي:

الأول: أن الكونجرس الأمريكي مطلق السلطة في التشريع غير مقيد بشريعة سماوية وعقيدة دينية (علماني لا ديني) أما إذا وجدت هيئة إسلامية تتولي التشريع ومستقلة (عن الحكومات والدول) فإن هذه الهيئة تكون سلطتها عقيدة بالمصادر الشرعية وبمعني أنها تلتزم بالمبادئ الأساسية في الكتاب والسنة وبذلك يكون للشعب الحق بما فيه العلماء والمجتهدون في مراقبتها ومحاسبتها ووقف طغيانها.
الثاني: الذين يتولون استنباط الأحكام في الإسلام هم علماء وخبراء وفقهاء أى أن المجلس التشريعي في الإسلام أعضاؤه لابد أن يكونوا على قد كاف من الفقه والعلم والخبرة في التخصصات العلمية والاجتماعية المكملة للفقه فلا يكفي أن يتم انتخابهم من الولايات ومن الشعب بل يجب توفر قدر من الكفاءة العلمية (الاجتهاد) في الفقه والدستور .
الثالث: أن هذه الهيئة علمية بحتة ولا تمارس سلطة سياسية أن العالم كله إنما يقف أمام مشكلة كبرى هي إيجاد مصدر للقانون يكون أعلي من الدولة وقد حل الإسلام هذه المشكلة بتقرير أن مصدر التشريع هو الخالق سبحانه وتعالي وإرادته متجسدة في الكتاب والسنة والعلم والفقه هو المترجم والمفسر لهما والمستنبط للأحكام منها
وبهذا سبق الإسلام النظم والنظريات الحديثة إلى إيجاد أساس إلهي وسماوي وعقيدي لتقيد سلطة الهيئة التي تستنبط التشريع سواء كانت إحدى سلطات الدول أو مستقلة عنها وفضلا عن ذلك فإن هذه الهيئة لها طابع علمي وفقهي ولا تملك سلطات سياسية مما يجعل فصل السلطات في شريعتنا أقوى منه في أى نظام عصري في العالم كله .

إن الدول الكبرى ذاتها متجهة جديا إلى التفرقة بين حقوق الأمم وسلطة الدول ومعترفة بمبدأ التوسع في حقوق الأمم والتضييق في سلطة الدول ومما يؤسف له أنها لا تسمح للدول الصغيرة أن تسير في هذا الاتجاه لأنها تريد أن تبقي الدول الصغيرة لعبة في يدها تحركنا بواسطة حكام لا حدود لسلطاتهم .

أننا وجميع الدول الصغيرة المتخلفة تسير في اتجاه عكسي للتيار العالم نحو توسيع سلطان الأمة وحقوقها ويزداد هذا الاتجاه الرجعي وضوحا كلما كان الحاكم مغتصبا ولا ثقة في أمته فيه فهو يستعين بفرقة من الفلاسفة الذين يقيمون له " وثيقة الدول " التي تملك كل شئ وتستطيع أن تعمل كل شئ بالقانون الوضعي الذي لا يلزم بشريعة سماوية .

لابد من وقف هذا المد الرجعي نحو التوسع في سلطات الدولة باحترامنا المبدأ الإسلامي الأصيل وهو تقييد سلطة التشريع للدولة وإيجاد هيئة مستقلة تمارس هذه الولاية ممثلة للأمة في صورة هيئة اتحادية أو منظمة إسلامية تكون وحدها مختصة بشئون التشريع والفقه بطريق الإجماع أو الاجتهاد على أساس المصادر الإلهية للشريعة الإسلامية ولا يكون للدولة اختصاص في هذا المجال .

إن النظريات الأوربية بدأت في بيئة وثنية وكان منطق هذه البيئة أن تكون السلطة المطلقة بشرية وإنسانية وقد اكتفوا بأن أعطوها للعامة (أى أغلبية الأمة أو الشعب) وبرغم هذه البداية الوثنية إلا أنهم سائرون بخطى عملية جدية نحو الفصل بين سلطة التشريع وسلطة الحكم كما بينا ومن واجبنا أن نساعدهم في ذلك ونسبقهم إليه التزاما بمبادئ شريعتنا التي يجب أن تتمتع باستقلال كامل عن الدول .

لقد زودتنا عقيدة الإسلام بالبداية الصحيحة التي تفرض علينا في جميع الظروف والأحوال ألا نعترف بالسلطة المطلقة لأي جهة إنسانية لأن السلطة المطلقة أى السيادة الكاملة لا يملكها إلا الله وحده وهذا وهو المبدأ الذي يجب أن نقدمه على أنه مفتاح التطور الدستوري في المستقبل وإن كان بعض كتبانا يتنكرون له بحجة أنه من مخلفات " الماضي ".

وتطبيقا لهذا المبدأ فإن فقهنا (في الماضي الذي يشهرون به) نجح في إبعاد الحكام عن التشريع والفقه وإخضاعهم للشريعة (سواء كانت مستمدة من مصادر إلهية أو مصادر اجتهادية) لكن الاستعمار أدخل علينا النظريات الأوربية (العصرية في نظرهم) ذات الجذور الوثنية وابتلانا بها لمصحته رغم تعارضها مع مبادئنا ؛

ومما يؤسف له أن بعض من تسمم بالفكر الأوربي ما زال يواصل الدفاع عن هذه المبادئ المستوردة ذات الأصول الوثنية حتى أن بعضهم يهاجم مبادئ شريعتنا الإلهية بل أن منهم من ينتقد الطابع الإلهي للشريعة مسايرة للفكر الأوربي (الذي يطلق سلطان الدول بحجة ممارسة السيادة) وهذه المسايرة ليست نتيجة فكر أو بحث وإنما هي نتيجة مرضي نفسي ومركب نقص بصورة للمصابين به أن كل ما عند أعداهم هو أفضل بحجة أنه أحدث أو أنه عصري .

إن فكرة العصرية و " الحداثة " التي ينسبها بعضهم لكل ما يستوردن من أفكار أجنبية إنما تعني في نظر دعاتها وجوب التشبه بأعدائنا وكل ما يجبلونه لنا من نماذج وفلسفات وأفكار ونظريات اجتماعية ذات أصول وثنية .

إن هؤلاء لا يريدون منا أن نختار بين ما نأخذ بين ما نأخذ وما نترك من المستوردات الفكرية التي يروجونها بل يتركون أعدائنا المسيطرين علينا ليكونوا هم الذي يختارون ما يجلبونه لنا وهم يختارون لنا نظرياتهم في العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع ؛

وما يتصل بها مما يذيب شخصيتنا ويبعدنا عن أصولنا ويصرفنا عن التباهي بأمجادها التاريخية حتى لا نفكر في الاعتزاز بما قبل عهد الاحتلال بحجة أنه من مخلفات العصور الوسطي التي كانت في تاريخ أوربا عهود ظلام أوروبا في القرن الوسطي كان يقابله في عالمنا الإسلامي أكبر حضارة شهدها العالم في تلك المنطقة ؛

فضلا عن أنه كان عصر سيادتنا واستقلالنا ووحدتنا أن ترويج فكرة ظلام أوروبا في العصور الوسطي لا يهمنا بأننا كنا معها في هذا الظلام متعمدة له هدف استعماري وهو تدعيم المبررات التي قدمها المستعمرون لشعوبهم عندما قرروا الهجوم على أقطارنا واحتلالها إذ زعموا لهم أن الجيوش التي غزت بلادنا قدمت إلينا لنقوم بعملية تمدينية ...

وما زالوا يدعون أن سيطرتهم ونفوذهم في بلادنا تقوم بهذه المهمة التمدينية حتى أن الدعاية الصهيونية هي أيضا ترفع هذا الشعار بأنها اغتصبت فلسطين لتكون واحة للتقدم والحرية وسط مستنقع الظلام والتخلف في العالم العربي وما زال دعاة فكرة "العصرية" والحداثة أول عملائها وحلفاءها سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا .

والغريب أن شعوب الدول الاستعمارية ذاتها لم تعد تصدق هذا المبرر الزائف ولكن عملاءهم في بلادنا ما زالوا متشبثين به ومروجين له بل أصبحت عندهم حالة مرضية حتى أصيبوا بمركب النقص أو " عقيدة الانهزامية " التي تصاب بها النفوس الضعيفة للمغلوبين: وتدفعهم إلى أن يقلدوا الغالبين تقليدا أعمي فيما لديهم من خير وشر أو نافع وضار .

تشخصيات ووصايا للحركات الإسلامية المعاصرة

الأستاذ الدكتور حسان حتحوت

من تلاميذ الإمام الشهيد حسن البنا الأقربين وله يدين بصياغة شخصيته الإسلامية وكان من المتطوعين لفلسطين عام 1948 وعمل بالكويت ربع قرن من الزمان وكان أستاذا ورئيسا لقسم أمراض النساء والتوليد بكلية الطب بجامعة الكويت منذ إنشائه عام 75 حتى استقال عام 1988 ليصرف جهده إلى العمل الإسلامي في أمريكا؛

راسخ القدم في ثقافيته العربية والإنجليزية وله بجانب منشوراته العلمية التي تقارب المائة مؤلف باللغتين منها ديوانه الشعري جراح وأفراح وكتابه بالإنجليزية عن الجوانب الإسلامية لعلم أمراض النساء والتوليد إذ أدخل ذلك ضمن المقرر الدراسي لطلابه بجامعة الكويت وعدة كتب أخرى .

عضو مجلس الأمناء للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وعضو لجنة أخلاق المهنة للإتحاد الدول لأمراض النساء والولادة وعضو بعديد من الهيئات الطبية العربية والدولية من أهل الفكر والقلم واللسان والاتزان ويقفها جميعا على خدمة الإسلام .

تشخيصات ووصايا للحركة الإسلامية المعاصرة

في قصد الله ومشيئته أن يخلق الإنسان ليضيف إلى الخلائق التي يحملها هذا الكوكب الأرضي مخلوقات يختلف عنها ويسمو عليها وليس مناط هذا التفرد اختلافا في تركيب جسم الإنسان فهو كغيره من المخلوقات مركب من تلك العناصر التي تشتمل عليها طينة الأرض ؛

وإذا قارناه بما يسمي الحيوانات العليا وجدناه يشاطرها نفس الوظئاف من دورة دم وتنفس وتغذية وحركة وتناسل ومع ذلك فلسنا بحيوانات نحن أعلي منها لا بتركيب كيميائي ولا بوظائف بيولوجية ولكننا وحدنا صعدنا خطوة لم تصعدها الحيوانات هي أننا رغم جسمنا الطيني جاونا عالم البيولوجيا إلى عالم القيم ...

وفي هذا العالم زودنا بمفهوم الخير والشر وبطاقة العلم والتعلم وبملكة التحليل والاجتهاد ثم بالإرادة التي تختار اختيارها الحر الذي يقضي بها إلى موقف المسئولية الإنسان إذن مسؤول عن تصرفاته في حدود طاقته والموقف الإسلامي صرح في تثبيت هذه المسئولية ؛

فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره و من شار فليكفر والنبي مذكر لا مسيطر ولا إكراه في الدين ولا تزر وازرة وزر أخرى وما دمنا نؤمن بالحساب (إن إلينا إيابهم (1) ثم إن علينا حسابهم) فلابد إذن من أن نؤمن بداهة بالحرية لأن فكرة الحساب وعدالته تسقطان أن لم يكن المحاسب حرا, حرا في صواب عمله وحرا في خطأ ارتكبه ...

وأساس الحساب إذن الحرية والإنسان إذن ليس مخلوقا مبرمجا بغرائزه ولكن بأعمال عقله فيها وإنفاذا إرادته الحرة فمن قسره على شر أو على خير كان هذا القسر عدوانا على إنسانيته لأنه عدوان على حريته.

وإذا كان على القوانين الوضعية أو الشرعية أن تأخذ مجراها من حيث هي ضرورات لتنظيم المجتمع فما هي ببديل عن الضمير المستجيب لهدي الله والمتجاوب مع الحكمة والموعظة الحسنة وفي كافة الأحوال تظل فكرة الحساب معتمدة على فكرة الاختيار ويظل جوهر الإنسانية هو الحرية .

بهذه المقدمة أنظر إلى الجماعات الإسلامية على وجه الإجمال فيخيل لى أنها في الغالب الأعم لم يتضح لها هذا الموقع المحورى للحرية في أصل خلق الإنسان كما أراد الله له وكما بينه القرآن الكريم .

ولا زال الكثيرون في غموض من أن طبقة الأوامر والنواهي لا تلغي غاية الحرية في نواة جبله الإنسان ولقد أدي غياب الفهم الصحيح لهذه الحقيقة إلى محاذير لعل أهوتها التمهيد للملحدين أن يتهموا الدين بأنه يصادر الحرية مع أن الدين يعلمنا أن الله قصد بخلق الإنسان أن يخلق كائنا حرا ولهذا فهو مسئول ..

أو كائنا مسئولا فلهذا هو حر والحرية والمسئولية في منطق الدين المنزل والعقل والمجرد والفطرة السليمة وجهان لعملة واحدة ولهذا وجدنا لدي الجمعيات الإسلامية أفراد أو جماعة ضيقا بالرأي الآخر وتضييقا عليه من لم يكن رأيه نسخة طبق الأصل من رأي الجماعة فهو إما منشق عليها أو معاد لها .

ورأينا كثيرا من الاجتهادات المخلصة تثير الهجوم الحاد أو الدفاع الحاد ويصنف أصحابها في مراتب منها الخيانة أو العمالة أو المروق من الدين أو ابتغاء الفتنة أو تفريق الصف في غياب كامل لمفهوم الحوار الموصل الهادئ الذي ينشد الحقيقة ويرى أن لها أكثر من باب وأن للطرف الآخر حقا في رأي آخر ولا بأس بذلك وما لم ينكر معلومات من الدين بالضرورة أو يحل حراما أو يحرم حلال وأن الطرفين قد يتبادلان وجهات النظر ؛

فإذا لم يتفقا فلا بأس ولا حرج ولا خصام ولا قطيعة وما زالت البسمة على الثغر والإخوة في القلب والتعاون قائما فيما سوى ذلك ومداه طويل وعريض وننزه اللسان المسلم والقلم المسلم والقلب المسلم عن اللجاجة والطعن والتجريح وإفساد ذات البين فذاك هو الحالقة لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين .

رأينا كثيرا من الجمعيات كبيرة وصغيرة تحشد الإتباع والأنصار وتأخذ منهم العهد على السمع والطاعة لا على تكريم الإنسان والمطالبة بحريته ... وآنسنا في البعض منها تكريسا للولاء للجمعية ينافس الولاء للإسلام مع أن الإسلام غاية والجمعية وسيلة من الوسائل ..

ولو سئلت رأيي في مسألة السمع والطاعة لأجبت بما صارحت به في الأربعينيات من أن مفكرا واحدا هو للدعوة خير من ألف جندي وإنما تجب السمع والطاعة في جيش يحتشد لحرب أو يخوض معركة عسكرية أما في سياق الدعوة الطويل فالمطلوب إعداد رأي عام مسلم لا قوة ضاربة مسلمة ولعل التفكر المتدبر لدروس الماضي القريب والبعيد يدرك أن هذا هو الطريق الوحيد وإن كان الطريق البعيد ..

ولكننا نكاد نحرم أنفسنا من الاستفادة من دروس الماضي القريب والبعيد ... ليس من اهتمامات الحركات الإسلامية إن تنظر نظرة علمية تحليلية دراسة إلى حركات إسلامية سابقة لنري أين أخطأت وكيف داست على الألغام التي وضعت لها في طريقها وكيف كان من الممكن أن تتقي وتستنبط من ذلك هاديا ليومها وغدها .. وحتى لا تكون الحركات الإسلامية موجات من الفرش تندفع مجذوبة لبريق النار فيكون نصيبها الاحتراق .

موجة إثر موجه إثر موجة ... وإذا كان هذا مقبولا في عالم الفراش فليس بمقبول لدي البشر .. إن الاكتفاء باتخاذ موقف المعصوم الذي لم يخطئ أو موقف الحتمية في ما كان فليس في الإمكان إلا ما كان يحرم الإسلام من الاستفادة من التجارب كما يحرم الجماعة من التخطيط السليم للمستقبل وهذا خطأ شائع في بلادنا فما رأينا حكومة ولا حزبا ولا جماعة تعترف بخطأ  سابق ؛

ومن المزعج أيضا أن المؤرخين الذين تصدوا للكتابة عن الحركات الإسلامية كتبوا من منطلق أحكام مسبقة فكان أما محامي دفاع أو محامي هجوم بحسب موقف العتيد من الإسلام أو من الحركات الإسلامية ولعل الحركات الإسلامية القادرة والمستنيرة تحسن صنعا لو حشدت أو استأجرت من يقوم بهذه الدراسات المجردة والمتخصصة ولو من خارج صفوفها ومن خارج أعدائها كذلك مع شئ من التواضع من القيادات إن لم تكن ذات دراية بالدراسات التاريخية أو التحليل السياسي ومع الحكمة والإخلاص اللازمين لمواجهة النتائج ثم الاستفادة منها .

ونعود فتؤكد أنه لا مستقبل للحركات الإسلامية إلا إذا كان أسلوب إدارتها وتعاملها مبنيا على نظام عام لا على أفراد وقراراتها صادرة عن المشورة والحوار لا على أمر القيادة فردا أو أفردا ويجب أن تكون القاعدة الشعبية ذات كلمة مسموعة ومطاعة في تسيير الأمور واستنباط النظام الذي يكفل ذلك .

والقاعدة دائما غنية بالمثقفين والعلماء والمقتدرين ممن لا يسمح الاتجاه الهرمي بوجودهم في قمة القيادة الضيق والذي رأيناه في بعض الأحوال يقع في غلطة الاستحواذ على السلطة ... إن اتجاه السمع والطاعة يجب أن يتغير فيصب من القاعدة إلى القيادة وليس العكس

وإلا استحالت القاعدة إلى عناصر سلبية تستسهل أن تأتمر بعبء التفكير وحق التفكير على القيادة وتنفض عنها العناصر الفعالة والايجابيات الفكرية المفيدة التي تحترم نفسها ولا تستطيع الإبداع والإثمار خلال نظام ديكتاتوري ...

ويظل صحيحا أن ما ننتقده في حكوماتنا نمارسه نحن فيما بيننا وفيما بيننا وبين غربنا وظللنا نبذل الوقت والطاقة والجهاد نعالج أمور الإسلام وأمور الأمة وأمورنا دون أن نتصدى للداء الأصيل والمرض الأساسي الذي يؤودنا وهو الاستبداد .

ومن الأمور الأساسية بالنسبة للعمل الإسلامي أن يدرك القائمون به أن تاريخ الاستبداد لدينا طويل . لقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان وقد حرره فعلا .

ولكن دعونا نتصارح ونعترف بأنه منذ الفتنة الكبرى بين على ومعاوية وقعت الأمة في قبضة للديكتاتورية فلم تزل في قبضتها إلى الآن الملك الذي أقامه السيف محروسا بالسيف قد يكون الحاكم صالحا فتنصلح الأمور وقد كان ذلك فعلا في فترات من تاريخنا؛وقد يكون الحاكم غير ذلك فتسوء الأمور ؛

ولكن على الحالين كان الحاكم هو السيد المطاع والأمر الناهي على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواحد من المسلمين لا يتحرج أن يراجع الرسول في تصرفه كما حدث قبيل بدر ويسأله إن كان وحيا فيطاع أو رأيا فيراجع ؛

وكان الرسول يتقبل ويستمع ويمتثل للرأي الوجيه ثم انتقل الرسول إلى جوار ربه فانتقلت القيادة إلى أبي بكر بعد نقاش ا وحوار وتقليب للرأي واختلاف فيه ثم مبايعة من قبل من حضر السقيفة من المسلمين على اعتبار أنهم يمثلون من ورائهم فلم يتمرد على تلك البيعة أحد .

وتم استخلاف عمر وعثمان وعلى بصور مختلفة ولكن الدرس المستوعب منها أنه لا يوجد قالب معين على الأمة من بعد أن تتقيد به فلها أن تتخير الأصلح وأن انتقال السلطة من يد إلى يد لم يكن عنوة وأن الحاكم أجير لدي الأمة ؛

وأنها رقيبة عليه لا تتورع عن تقويمه كمثال المرأة التي ردت قول عمر وهو يحث على اختصار المهور والرجل الذي أنبأه أن لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا وكانت البيعة مشروطة ومفيدة كما قال أبو بكر أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لى عليكم فاستقر بذلك أن الأمة التي تعطي البيعة تملك أن تسحب البيعة .

انتفض ذلك كله بقيام الحكم الأموي . ومن يومها وكرسي الحكم محروس وانتقال السلطة من يد ليد بمعزل عن رأي الأمة ... واستمر ذلك حتى يومنا هذا وبينما تمكن الناس في أوروبا ومن بعدها أمريكا على استنباط وسائل تكفل انتقال السلطة سلميا وبدون انقلابا وبدون إراقة دماء واستنادا إلى اختيار الأمة عن طريق ممثليها بقي ذلك عندنا معطلا؛

ولا يخالجني ريب في الأمة الإسلامية لو استمرت في تطورها الطبيعي دون أن تعترض الفتنة الكبرى لاستنبطت نظاما قد يكون أشبه الأشياء بالديمقراطية المعاصرة لولا أنه يؤمن بالله ويلتزم بالإسلام بعكس الديمقراطية الغربية التي لا تحلل ولا تحرم إلا على أساس أغلبية الأصوات

وفي هذا المناخ الديمقراطي فعلا المفاهيم الإسلامية بما فيها الحرية وكرامة الإنسان والسعة للآراء المختلفة وسلامة الحوار ومباشرة الأمة لشؤونها لا إسنادها للفرد وعبء الأمة ينبغي أن تحمله أمة لا فرد .

وقامت حضارة الإسلام فرأت كل المجالات من علم ولغة وفن وفقه وفلسفة ولأفرادها .. فظلت هذه النقيصة هي المرض الكامن الذي سيفعل فعله مهما طالت فترة الحضانة والقنبلة الموقوتة التي انفجرت فيما بعد فأدت إلى المظالم وإلى الانقلابات المسلمة وإلى تفتيت الدولة إلى دويلات وإلى ذواء معاني الخلافة لصالح مطامع الملك الدنيوية التي لم تجد عليها رقيبا ولا حسيبا ؛

ومرت قرون نسيت فيها الأمة حقوقها وسلطانها ودورها ولقنت أن الاستسلام للسلطان الظالم أجدر بها من إيقاظ الفتنة وتعريض دماء المسلمين للإهدار بدلا من تذكيرهم بقول النبي إذا جاء على أمتي يوم لا تقول فيه للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ولبطن الأرض خير لهم من ظهرها.

وتمر القرون ويتقدم الناس ونزداد اقتناعا بأن الاستبداد يئد الأمم .. وأن المستبد حتى إنعدل فهو يحرم الأمة ممارسة واجبها ويزيدها جهلا به وعجزا عنه والمصارع القوى أن كف عن التدريب والتمرين والممارسة ارتخت عضلاته ووهنت قوته وصار ضعيفا مهينا فهذا ما آلت إليه الأمة .

ولا زال هناك من الحكام من ينادي بأن أمته لم تتهيأ بعد للديمقراطية فإذا هو كإنسان يحمل طفلة على كتفه على الدوام لأن الطفل لم يتعلم المشئ وينسي أن الطفل بهذه الطريقة لن يتعلم المشئ ولا يزال هناك من يحاول أن يكسو الديكتاتورية بغلال من المناظر الديمقراطية وهو يعلم والأمة تعلم أن حقيقة الديمقراطية غائبة وإن وجدت صورتها ؛

ولا زال هناك من يقول بأن الشوري غير ملزمة للحاكم وتاريخ الإسلام كله إن أعطانا درسا بليغا واحدا فهو ضرورة إيجاد الضمانات التي تكفل الرقابة على تصرفات الحاكم وتعديلها أو تقويمها أو عزلة واستئجار غيره إذا دعت الحال فإنما كانت الفجيعة الكبرى والمستمرة من يوم أن وقعنا في براثن الاستبداد .

ولعل هناك من يستغرب أن نطنب هذا الإطناب في الحديث عن الحرية وعن الديمقراطية وموضع الحديث هو الحركات الإسلامية ولكننا لا نندم على هذا ولا نعتذر عنه وسنظل نكرره أن طيور الزينة الملونة التي استنبتت داخل أقفاصها لمئات من الأجيال أو آلاف قد لا تحسن الطيران حتى أن فتح لها باب القفص ؛

فهذا ما أوصلتنا إليه الديكتاتورية على مدي القرون والمطلوب إصلاح ذلك المصلح المطلوب هو النفساني الذي يحل هذه العقدة النفسية عقدة القفص عقدة الاستبداد والناظر إلى سجل الحكام في البلاد التي تنتسب إلى الإسلام لا يستطيع أن يتوسم أن الحكام هي التي ستؤدي هذه المهمة العلاجية ... ولو طاوعت خيالي فتصورت أن الحكم أوكل إلى الحركات الإسلامية غدا فلا أحسبها ستقدم للأمة هذا العلاج المطلوب لأن فاقد الشئ لا يعطيه.

وأحسبها على أحسن الفروض وأجمل الظنون ستكون ديكتاورية أخرى ولكن في الاتجاه الآخر ولا يشفع للديكتاتورية عندي أن تكون إسلامية فإن الديكتاتورية مرض مهما كان ينبغي أن يبرأ منه الحكم الإسلامي لا أن يصاب به . المسألة مسألة مبدأ وهو أن السيادة يجب أن تكون للأمة على الحاكم فهو موظف لديها لا أن تكون للحاكم على الأمة يأمر وينهي بما شاء .

المسألة مسألة نظام أفراد .. وتبقي بعد هذا عملية تكوين الأمة المسلمة الواعية بإسلامها والحارسة له والمسئولة عن إنقاذه .. وهو تكوين لا يمكن أن يكون بالقهر ولا بالعصا ولا حتى بالقانون بل هو ثمرة الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة وبهذا وحده كون الرسول أمة الإسلام عندما دعا إلى الإسلام .

الآن أشعر أنني رسمت الدور المطلوب من الحركات الإسلامية أن تؤديه ... وبدايته أن تفقهه وأن تقتنع به ثم أن تعمل به وتتعامل وتقدم النموذج الذي يجذب الانتباه والاقتناع وتكون المدرسة التي تقدم المعرفة به والتدريب عليه ولعلها تطبع عليه الجيل الجديد إن زاوله المسلم في بيته وأسرته أو أقامت له الجمعيات الإسلامية المدارس والمعاهد التي تهيئ الثمرة المطلوبة ...

على الجمعيات الإسلامية أن تعرف قدر الحرية فتطالب بها وتجاهد في سبيلها لأنها تدرك مغبة غيابها مهما أغرنا الإصلاح المنشود باختصار الطريق إلى الإصلاح على حساب حقوق البشر وفي طليعتها الحرية ..

ولا يخالجني ريب في أن باب الحرية إن فتح للجميع فالنصر في نهاية الطريق الطويل للإسلام لأن البقاء للأصلح ويمتاز الخبيث من الطيب فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... وإذا أقفل باب الحرب فالخاسر هة الإسلام لأن شجرته لا تنمو في غياب الحرية فإن اتفقنا على ذلك فرحنا نجمع حوله الأمة فلنعلم أن أساس الدعوة المحبة .

أن المفتاح النفسي لأكثر المنتمين للحركات الإسلامية اليوم هو أن هناك عدوا نكرهه ونهاجمه ونقاومه ونشتمه ونفرغ عليه غضبتنا ونقمتنا لابد من هذا المكروه لنكرهه ونحاربه .. وهو موقف يستحق المراجعة المتأنية ...

إن الكره سلاح فعال في الهدم ولكنه لن يعين أبدا على البقاء الكرة يمكنك من خلع ملك أو إمبراطور أو القضاء على الخصوم والمعارضين ,لكن بناء الأمم ونشر الدعوات لا سلاح له إلا الحب ... ورحم الله الأستاذ حسن البنا عندما كان يكرر ويؤكد : سنقاتل الناب بالحب .

وما دام الداعية داعية فليعلم أن سلطانه الوحيد على الناس هو أن يحبوء فيحبوا ما يدعوهم إليه من حق الدعوة على الداعية أن يكون محبوبا ... لا أقصد محبوبا من نفسه ولكن من الآخرين .. من هؤلاء الذين يراهم على خطأ وعلى ضلال ويريد أن يهديهم وأن يكسبهم للإسلام لا بأمره السامي ؛

ولكن بطول الأناة والمصابرة والمثابرة والتآلف والبسمة التي لا تخبو والإحسان الذي لا ينقطع ولقد أتيح لى في حياتي أن أشهد نماذج من هؤلاء الدعاة الهادين المهديين ولكن أنظر إلى الساحة الآن فأجد هذا الطراز أندر من الكبريت الأحمر .

ألا فليعلم أبناء الحركات الإسلامية أن غلطة السابقين ولا زالت تتربص باللاحقين هي أنهم اصطدموا وما زالوا فريقا من الأمة وكان الأجدى على الإسلام وعليهم أن يصبروا حتى يكونوا هم الأمة .

ولقد أسهمت أقلام مخلصة في نقد بعض تصرفات الجماعات الإسلامية منها إنفاق العمر والطاقة في فرعيات مختلف فيها بدلا من كليات متفق عليها ومنها الجنوح إلى العنف من غير أى سند إسلامي ومنها المرارة والغلظة وحسبانهم من أساليب الدعوة ومنها محاولة بناء البيت من أعلاه لا من أساسه بالاهتمام بالشكليات والمظهريات وإضفاء صفة الفريضة على ما ليس في الدين بفريضة

ومنها السطحية في العلم بالدين وتعلمه ومنها الانكفاء على الماضي ومآسيه والانحباس فيها دون التداعي إلى التخطيط للمستقبل وقضايا المصير ومنها الإغراق في الدعوة نظريا والتنكر لأخلاقياتها في الحياة اليومية العملية

ومنها الحساسية المرضية إزاء المرأة وضد المرأة والخلط بين ما هو تراث مظلم وبين الدين وفي رؤيانا أن أغلب العاملين في الحقل الإسلامي اليوم ما زالت على أعينهم غشاوة تحجبهم عن الرأي الإسلامي الصحيح فيما يتعلق بالمرأة .

وواضح أننا سردنا كل هذه المشاكل سردا سريعا مع أن كلا منها يصلح بابا بحالة دراسة ونقاشا وكتابة .. ولكننا قصدنا قصدا إلى استعجالها لأنها في نظرنا أعراض للمرض الأصيل . هذه أعراض الانغلاق.. وستظل معنا حتى تؤدي دينا ظل في ذمتنا قرونا متطاولة وهو أن نكتب الفصل الذي وئد من فصول فقهنا : فقه الحرية .

البعد العالمي للحركة الإسلامية التجربة السودانية

د. حسن الترابي

الدكتور حسن أحمد الترابي

  • من مواليد مدينة كسلا بالإقليم الشرقي بالسودان عام [1932]] م.
  • تلقي عن والده الذي عمل بالقضاء الشرعي نحو ثلاثين عاما علوم العربية والفقه والدين .
  • حفظ القرآن الكريم ببضع قراءات.
  • تلقي تعليمه الأولي بالمدارس السودانية الحكومية.
  • درس القانون في القانون " جامعة الخرطوم "
  • حصل على البكالوريوس في القوانين من جامعة لندن عام 1955 والماجستير عام 1957 م.
  • درس نحو أربع سنين في جامعة باريس وحصل على الدكتوراه في القانون المقارن عام 1964م.
  • يتكلم ويكتب العربية والانكليزية والفرنسية ويقرأ الألمانية .
  • عمل أستاذا للقانون الجنائي والدستوري وعميدا لكلية القانون بجامعة الخرطوم .
  • من مؤلفاته
  • الصلاة عماد الدين الإيمان المسلم بين الوجدان والسلطان رسالة المرأة المسألة الدستورية .
  • تجديد أصول الفقه الإسلامي .
  • البعد العالمي للحركة الإسلامية " التجربة السودانية "
  • الدين والمكان

إن الدين بمعني الحق هدي رباني أزلي مطلق لا يحده الزمان ولا المكان لكن الدين بمعني التحقيق إنما هو كسب بشري وسعي للتوحيد بين مثال التكليف الأزلي وحال الابتلاء الواقع .

فهو متأثر بالضرورة بظروف الزمان والمكان فالدين من حيث هو تدين كسب حادث تاريخي يبلي بالتقادم ويلزم تجديده كلما تقلبت صروف الزمان ليتصل أصله عبر المواقف الإيمانية المتجددة ويدوم جوهره من خلال الصور العملية تعبيرا عما هو ثابت وتكييفا لما هو مرن من معانيه وأشكاله

وكذلك يحاصر التدين بالمكان إطارا لإقامته في الأرض مسرح الخلافة والتمكن لكنه ما يتمكن بفاعليته في ناحية إلا وجب أن يمتد في سائر الأرض فهيئة التدين العصرية والمحلية ضرورة تحقق في الواقع الظرفي لكن جموده في تلك الهيئة عصبية تحجبه وتقطعه حتى يتجدد في الزمان ويتمدد في الأرض ليكون أبديا عالميا ..

وكما كانت الرسالات الأولي المتعاقبة ضرورة تحقق وتمكن بخصوصيتها وضرورة ديمومة بتعاقبها كانت القومية فيها تمهيدا لعالمية في الرسالة الخاتمة وكانت عالمية الرسالة الخاتمة ذاتها متحققة عبر مراحل : من إنذار العشيرة الأقربين إلى خطاب أم القرى وما حولها إلى هداية دولة التوالي والمهجر في المدينة إلى تذكير العرب كافة ومن حولهم إلى الاندياح العالمي القديم والمتجدد إلى يومنا هذا مرحلة بعد مرحلة .

ففي دين التوحيد يلزم التوازن بين المرحلية الزمانية والاتصال الأبدي وبين المحلية المكانية والامتداد الأرضي أو بين النسبية حسب ظروف الزمان والمكان والمطلقية خلودا ووجودا وبمصطلح آخر يمكن أن نقول: أن الدين توازن وتوحيد بين حرية تباين هيئات التدين ونظام وحدة الدين أو بين الواقعية والمثالية أو بين الإمكان والإحساب أو بين التجدد والأصالة أو بين التمحور المكاني والطلاقة العالمية .

ويكمن الابتلاء في مراعاة هذا التوازن بوجوهه جميعا وفي التماس الوحدة من خلال ازدواج المعاني وكما يولد الآدمي من زوجين يولد التدين من بين هذا المأزق والازدواج . فمن فرط في ربط التكليف بالابتلاء الواقع في الزمان أو المكان المعين لم يحقق دينا فعالا.

ومن أفرط حصر تدينه بالجمود أو العصبية ومن فرط توخي المثال التوحيدي انحط عن مقتضي الدين ومن أفرط أرهق تدينه وعوقه . هذه هي النظرية الزمانية والمكانية للدين .

العلاقات الحركية الإسلامية

تطور العلاقات كانت العلاقات الحركية الإسلامية أولي صور البعد المكاني الذي تجاوز المحلية إلى العالمية من حيث النظر والعمل فقد عوّلت الحركة لانبعاثها الأول على ورود تيار إسلامي عالمي قدم عليها من مصر باسم "الإخوان المسلمين" وطرح تصورا للدين شاملا وحركيا ونموذجا للجماعة المتدينين المؤسسة على تزكية الأعضاء وتنظيم الصف ؛

وكان التعبير عن الدين في ذلك بمستوى من التجريد قريب من الأصول الإسلامية الكلية الواحدة ولذلك تيسر للنمط أن يعبر الحدود والظروف الإقليمية المصرية إلى السودان ولكن هذا الوارد العالمي وافي وعزز مبادرة محلية سودانية أصلية انبعث بها الدين حين استفزه الباطل الليبرالي والشيوعي في الوسط الطلابي .

وكانت تلك المبادرة الطلابية هي " حركة التحرير الإسلامي " التي تكونت عند أول السنوات الخمسين وتمثلت الصلة العالمية تجاه الحركة في مصر أنذاك والبادئة الطلابية هي التي سادت وقادت في لاحق تاريخ الحركة

وامتدت تلقائيا عبر السودان فروعا وشعبا آتية على بعض الشعب التي أسسها قادمون من مصر فروعا مباشرة للحركة هناك وقد وقع من بعد شئ من النزاع بين الحركة الطلابية المنشأ السودانية الأصل والحركة الشعبية المنشأ المصرية الانتماء والتلقي

ثم طوى النزاع لتكون الأولي هي الوارثة ولتحمل اسم (الإخوان المسلمين) ولكن بعض الرافد العالمي لحركة السودان ورد من مصادر غير مصرية فقد استرفدت الحركة بالأدب الحركة الإسلامي للإمام المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان وبالكتابات الإسلامية القادمة من المغرب والمشرق العربي .

ثم أخذت السمة المحلية للحركة تتوطد مع تطور تفاعل الحركة بالواقع المحلي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي نقدا وحوارا ومنافسة وتعاونا ومقاومة وتقويما لذلك تأصل فكرها انفعالا مع الواقع الشعبي والسياسي والتاريخي للسودان ؛

وتأصلت المناهج الدعوية والحركة مع بيئة السودان وزاد مدي حرية الاجتهاد المحلي الخاص بالحركة مع زيادة فاعليتها وتفاعلها في ظرف الابتلاء السوداني المعين واتسع مدي تباينها مع الحركة في مصر وغيرها إذ تضاعفت السمات الخاصة المكانية وتعاظم الكسب الديني المتميز .

وخلال السنوات الخمسين والستين تجمدت الحركة الإسلامية في مصر وغالب البلاد العربية من جراء عوامل سياسية وذاتية وتخلفت الحركة في مواقع عالمية أخرى لصالح تيارات يسارية ووطنية بينما ظلت الحركة في السودان حية تنمو وحينما طرحت فيما تعد وثارت في وعي الحركة عالميا مسائل التمئ المحلي والتوحيد العالمي أو نظريات العلاقة العالمية انتبه الإسلاميون للمدي الواسع من التباين بين التجارب القطرية في المقولات النظرية والصور التنظيمية والمناهج الحركية

وعرضت شتى صيغ لنظام العلاقات بين التنظيمات الإسلامية المحلية وقامت مناظرة واعية بين دعاة المحلية من أجل فاعلية تمكن الدين ودعاة العالمية من أجل وحدة الدين وبين شبهة العصبية والتفريق للأمة بالمحلية المنغلقة وشبهة التسطيح للدين والتهميش لأهله بالعالمية المهيمنة . وكانت المناظرة على وجه الخصوص متوترة ومشوية برواسب قومية بين المركزية المصرية العربية والمحلية السودانية ولا أضيف الإفريقية .

مهما كان فالعلاقات في مراحلها الأولي حوالي السنة الخمسين تمثلت في اتصالات عفوية بين قيادات مصرية وسودانية غالبها بغير تدبير نظامي أو صيغة مرسومة . فمن جانب تمثلت في مجموعة الأستاذ على طالب الله رحمه الله التي كانت تنتسب إلى الجماعة الأم في مصر وفي طلاب سودانيين وفدوا إلى مصر والتحقوا بالإخوان المسلمين .

ومن جانب آخر تمثلت في تزاور بين الحركة الطلابية بالسودان والحركة بمصر وفي مشاعر انفعال بالإخوة الواحدة دون أدني وعي بالاستقلال من جانب السودان أو الاستتباع من جانب مصر

وكانت العلاقة الأوثق في اعتماد الأدب الإخواني المصري مرجعا والتجربة نموذجا فمصطلح الدعوة والتنظيم بغالبه كان على المثال المصري وقد استمرت الاتصالات القيادية وتسمي رأي الحركة بالسودان لحين (مراقبا عاما) على نهج تنظيم الإخوان المسلمين الفرعي العالمي لكن التأطير لعلاقة تنظيمية رئاسية لم يكن واردا .

ثم طرحت القضية صريحة في السنوات الستين وتهيأ إطار للعلاقة في قيام (مكتب تنفيذي) مشترك للإخوان المسلمين قاطبة شارك فيه السودانيون لكن على أساس أنهم لا يلتزمون ولا يلزمون إلا تنسيقا وتعاونا طوعا بين التنظيم السودان المسبق وسائر التنظيمات الإخوانية الملتزمة وشاطرهم في ذلك الموقف إخوة العراق ولكن وطأة المحنة التي كانت تحيط عموما بالحركة الإسلامية في البلاد العربية ودفع العلاقات الحركية الوثقية حفظا علاقة وفاق مجدية في ذلك الإطار الجامع .

ولئن كانت المرحلة الأولي في الأولي في العلاقات عفوا والمرحلة الثانية وعيا بنظام العلاقة فقد جاءت المرحلة الأولي في العلاقات عفوا والمرحلة الثانية وعيا بنظام العلاقة فقد جاءت المرحلة الثالثة للسنوات السبعين مرحلة خلاف ؛

إذ خرج القادة الإخوان المصريون وعرضوا على السودان وسواء الرجوع إلى علاقة توحيدية تضع التنظيمات في مختلف الأقطار بل الأمصار موضع الشعل التابعة رأسا للقيادة بمصر وفقا للإئحة تنظيمية متقادمة .

ومهما كان المرشد المرحوم الهضيبي مبديا زهده وعجزه أن يتمكن من ولاية أمر عالمي فقد رفضت القيادة المصرية مشروع تأطير للعلاقة صدر بعد موسم الحج عام 1972 م وجاء بنهج توفيقي بين نظرية الإلزام العالمي والاستقلال القطري بما يحفظ أصل الاستقلال المحلي الواسع ويوحد وظائف مركزية محدودة ويجعل شئونا آخري رهن التشاور المسبق

رجاء أن يتعزز التوجه نحو معادلة أوثق توحيدا في المستقبل ولقد اعتمدت فيما بعد مشروعات أخرى أحفظ للكينونة الفطرية من اللائحة المتقادمة ودون ما كان يتطلبه الإخوان السودانيون؛

ومن أسف ذلك التطور آذن بعهد من المفارقة إذ أخذ التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بالقيادة المصرية يشترط البيعة والاندارج التنظيمي الكامل ويعبر عن ضيق شديد جدا بالتباين بينه وبين السودان في الأفكار والمناهج الحركية

ثم عمد حين انشقت طائفة محدودة عن إخوان السودان إلى ضم المنشقين وبذلك تأسست القطيعة بل تطورت من بعد في الثمانين بالإصرار على عزل السودانيين من التنظيميات المنسقة والموحدة في مواطن الإغتراب بالبلاد العربية وأوربا .

من جانب آخر تطورت العلاقة الثنائية بين الحركة الإسلامية والحركات الأخرى المنضوبة تحت الإخوان المسلمين وغيرهم في البلاد العربية والآسيوية والإفريقية الأوربية وأصبحت من أكثف العلاقات الإسلامية العالمية ولعل مرد ذلك من بعد نزعة القطرة المؤمنة للأمة الواحدة إلى كون الحركة في السودان ذات أفق عالمي رحيب وذات التحام وثيق مع تحديات عالمية المغزي ؛

وربما كان ذلك أيضا من أن السودان بطبيعته لا ينطوى على روح وحدة أو عصبية قطرية أو قومية ثم أو نمو الحركة زاد من حاجتها وقدرتها لأن تتخذ بعدا عالميا تستعين به وتبسط ذراعا عالميا تؤثر به .

وقد انساقت هذه العلاقات الثنائية العامرة عبر ثلاث وسائل : الأولي طلابية . والطلاب كانوا روادا لأغلب كسوب الحركة الإسلامية . فكان من كسبهم لعالمية الحركة أن نشطوا في بريطانيا وأمريكا وأوربا في تأسيس جمعيات واتحادات وحركات إسلامية طلابية ؛

وأن كان لهم دور في عقد الصلات مع شخصيات وعناصر وحركات كانت تزور أوربا وأمريكا أو توجد فيها وأن أسهموا من خلال بسط أفكارهم وتجاربهم السودانية في تأسيس حركات إسلامية لأول مرة بين طلاب بعض البلاد الآسيوية والإفريقية منهم من رجع بها إلى الوطن لتزدهر هناك

وقد كان اتصال الطلاب السودانيين بسائر الطلاب العرب والأفارقة والمسلمين عامة أكبر قناة لنشر تجربة الحركة الإسلامية السودانية في العالم وكان نشاطهم عاملا مقدرا في حركة البعث الإسلامي في أوربا وأمريكا بين المهاجرين والمغتربين الوطنيين من المسلمين .

القناة الثانية كانت في حركة اغتراب السودانيين في سبيل الأمن والعيش بالبلاد العربية البترولية وغيرها فقد اتصل أولئك المغتربون بالعناصر الوطنية في تلك البلاد ونقلوا تجارب العمل الإسلامي السوداني وعقدوا علاقات تعارف وتعاون نفعوا بها حركة الإسلام هناك وعادت بالنفع على الحركة بالسودان

وكانت القناة الثالثة هي تنظيمات الحركة المتخصصة وقد كانت حرية بعض هذه التنظيمات في الامتداد الخارجي أوسع بما لوظائفها الخاصة من مغزى محدود لا يثير ريبة في التقبل أو التعامل .

فالدول لا تبالي والشعوب لا تحاذر من منظمة طلابية أو نسائية أو دعوية أو خيرية أو اقتصادية تمتد وراء حدودها أو ذات بعد عالمي تتصل بنظيراتها أو تؤدي خدماتها أو تلتمس الدعم العالمي ومثل هذا الاتصال مهما كانت أغراضه المباشرة محدودة سبب لتمهيد علاقات ذات معني أوسع وجدوى أنفع لصالح حركة الإسلام ووظائفها العامة .

أما القناة الأساسية لعالمية الحركة فقد كانت في الاتصال المباشر من مركزها القيادي نحو العالم الإسلامي تراسلا وتزاورا وائتمارا عالميا وإذا رتبنا مغازي هذا الاتصال حسب القوة فيمكن أن نذكر أولا ما كان منه اتصال أخبار فالحركة الإسلامية في السودان بكسبها ووقعها العظيم تجاوزت السودان بإشعاعها؛

وانتشرت أخبارها وأصداؤها في الصحف الإسلامية وسائر وسائل الإعلام العالمي وانتقلت أنباء مواقفها من القضايا الإسلامية عامة فغدت قريبة جدا من الإسلامي ينفي كل مكان لأن المسموع منها كثير جدا ولأن في نموذجها الحركي متأملا ومعتبرا إذ حققت بالفعل أثرا إسلاميا كبيرا بالقياس إلى أخواتها وبسطت قضايا جديدة مثيرة في الفكر والتنظيم والعمل تستفز الإعجاب أو الإنكار ثم أصبح الاتصال بالحركة اتصال اعتبار .

إذ غدت قدوتها منتصبة أمام الإسلاميين وتأثرت بها عناصر في حركات كثيرة خاصة في إفريقيا وامتدت عبرتها وراء ذلك لا سيما في مرحلة استوائها حين برزت تجاربها المتميزة في مجال العمل الطلابي والنسائي وفي منهج التنظيم ووسائل التعبئة الشعبية والتحرك السياسي وفي الكسب الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي وقد كان من علاقات الحركة ما هو استنصار استدعاء للتأييد والتضامن الإسلامي أو إسداء .

وقد استفادت الحركة من علاقاتها الإسلامية العالمية تعزيزا لمشاعر الإخوة مع الأمة عامة والاتحاد بوجه خاص مع الحركة الإسلامية العالمية عبر الأقوام والأقطار والانفعال بشتى القضايا والأحوال والتطورات التي تعني الإسلام في الساحة الدولية

وقد تلقت الحركة دعما من إخوان الدعوة والجهاد لمشروعها الإسلامي المحلي بما قدموا من القدوة والتجربة وبما أسدوا من المناصحة والمشورة وبما أدوا من المناصرة بالدعاء المرفوع والكلمة المنشورة و بما أعانوا بالمال المبذول والخدمة الميسورة .

وقد أعطت الحركة من جانبها نصرة معنوية ومادية للمستنصرين والمستضعفين من الحركات الإسلامية الممتحنة وقدمت نصحا وأهدت تجربة وبذلت عونا للدعاة والمجاهدين السالكين على طريق لانبعاث والتجدد والانتهاض الإسلامي في العالم قاطبة؛

وقد تمثل أخذ الحركة وعطاؤها بالعلاقات الإسلامية الخارجية خير تمثيل في ثنايا علاقاتها التاريخية بالإخوان المسلمين في الشرق العربي وبالجماعة الإسلامية في باكستان وبسائر الحركات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوربا فكانت لأول أمرها تأخذ ثم انقلبت تعطي أكثر أو تكافئ؛

ولكن أسرار توحد الأمة وتلازم الظاهر الدينية وتداعي نهضات الإسلام وتعاضدها عبر المكان تجلت بقوة حين الثورة الإسلامية في إيران ثم الجهاد الإسلامي في [أفغانستان[]] ففي ذلك بادرت الحركة تظاهر الثورة بتأييدها وتنصر المجاهدين وسعها باليد واللسان؛

ولكن ما عاد للحركة من جراء ذلك الاتصال كان أجل بكثير مما أعطت فمهما استغرقت الثورة أهلها أو الجهاد أهله أن يجاوبوا مددا بمدد فإن المثال والعبرة في ثورة إسلامية تتصدي لمهام التحرير والتطهير بقوة الإسلام الشعبية في وجه أعتي التحديات الطاغوتية؛

وفي جهاد إسلامي يتصدي بالقتال لحكومة باطشة تمدها حشود دولة عظمي ذات جبروت إن مثال التصدي وعبرة الانتصار لمما يلقي في نفس كل مسلم موصول ثقة بقوة الإيمان وتوكلا على الله القوي العزيز وقد نال الحركة من ذلك خير كثير تأيدت به مجاهدتها المحلية وتبينت بركات الوحدة الإسلامية .

منهج العلاقات لما طرحت بوعي قضية العلاقات الحركية العالمية اتخذت فيها الحركة موقفا فلما دار حوله الجدل تحررت حيثياته الفقهية وكانت الحركة تؤصل موقفها بما سبق من سنة تدرج الرسالات من القومية إلى العالمية ؛

ومن مرحلية تطور رسالة محمد صلي الله عليه وسلم الذي بعث للناس كافة ولكنه لم يؤمر بالسياحة في البسيطة قاطبة لينشر الدعوة فيها رقيقة وإنما أوصي في بسط الدعوة بخطاب الإطار المحلي الأقرب فالأقرب دون تجوز ولا تحيز عشيرته فأهل مكة .

فالعرب فمن حولهم وأوصي في تطبيق نظام الدين ببناء المركز الأمكن في المدينة تقتصر ولايته على المؤمنين المهاجرين إليه دون غيرهم وتؤسس فيه قاعدة للدين متينة منيعة ثم تمتد لتتوطد في جزيرة العرب قاطبة؛

ثم تنداح بالدعوة المرسلة سباقة إلى سائر تخوم الأرض تتلوها الفتوح والدولة المتمكنة وتتابع تحت لوائها وولائها الأقوام والأقاليم بل إن دار الإسلام الوسيعة الموحدة لم تؤسس عن مركزية مطلقة؛

وإنما روعي فيها تباعد الأقاليم وتباينها وتركت الأمصار تستقل بمذاهبها الفقهية دون نمطية رسمية قاهرة وبولاتها وزكواتها مع حفظ مركز الوحدة والإمامة بل دعت ضرورات الواقع الإقليمي والسياسي أحيانا إلى الاعتراف بمشروعية تعدد الأئمة .

هكذا نجد أن الإيمان الفاعل وهو الهدف مقدم على الوحدة التامة وهي وسيلة موقوفة عليه وقد يلزم فبفضله يتحد ما كان قبله مفرقا ولأنها وسيلة وثمرة من الإيمان كانت فرضا وسمة للمؤمنين فمغزاها أن تنحشد الفعاليات الإيمانية بأوسع مدي في الإمكان وأوقع أثر من التمكن ثم أن تنفتح

لاستيعاب سائر أهل التوبة إلى الإيمان ثم أهل الفطرة القابلين للإيمان من البشر والحكمة كلها في التوفيق المرحلي بين التمكن الواقعي والوحدة المثالية فتصويب الخطاب الديني أولا إلى واقع محلي معين أبلغ في الدعوة وتكوين الجماعة الدينية أولا في محيط محدودا حكم في التنظيم ؛

والبدء بأساس من الدعوة المؤثرة والجماعة القوية شرط ضرورة للبناء الإسلامي الممتد وقد يكون ذلك الترتيب أيضا هو وحده المستطاع حسب إمكانات واقع الدعاة أو هو حد المأمون في وجه ابتلاءات التعويق والكيد في الطبيعة والمجتمع ؛

فتباين ألوان الخطاب الديني ولا مركزية الصف المسلم من ضمانات نشوء حركة إسلامية فاعلة آمنة في كل موقع محلي متميز وقد يدرك المرء حكمة السيرة الإسلامية الأولي الاعتبار المحلي حين يلاحظ كيف تتباين صور خطاب الدعوة وخطط الحركة اليوم حسب العلة والحالة الدينية في كل مجتمع قطري معين وحسب ثقافته وتراثه؛

وحسب تركيب القوى العاملة في ساحته والأوضاع المادية أو السياسية في حياته وكيف يتعسر على الدعاة أن يبلغوا إلا بلسان قومهم أو يطرحوا من القضايا إلا ما يعني واقعهم أو يؤثروا إلا بالالتحام الوثيق بمجتمعهم أو يجدوا أمنا وحرية في العمل الإسلامي عبر الأقطار .

وقد راعت الحركة الإسلامية بالسودان مع وحدتها اعتبار المحلية لضمان الفاعلية في نشاطها فهي تلاحظ محليات السودان ومناحي حياته المتميزة وتتخذ في كل منها قملا إسلاميا ذا ولاية واستقلال نسبي ليختص بالثغرة التي تليه ويكيف المقولات الدعوية والمناهج التنظيمية والحركية بما يناسبه مع حفظ الأنماط الكلية المرعية في كل السودان

أما القوميات المغتربة في السودان من غير أثله لاجئة لطلب العلم أو العيش أو الأمن المؤقت فإن سياسة الحركة معها أن ترعاها حق رعايتها على أن تحفظ لها اعتبارها القومي واستقلالها الحركي الذاتي لتتفرغ لهمومها الخاصة عاجلا ولتتهيأ للاستجابة المخصوصة لتحديات بلادها آجلا مما لا يتأتي ولا يؤمن بالاندماج في نظام الحركة السودانية إلا تنسيقا وتعاونا وتوحيدا لبعض المناشط مما تستدعيه الإقامة في مواطن مشترك .

وقد لا تكون المناظرة بين المحلية والعالمية عن تقدير فقهي محض فلعل الحركة الإسلامية بالسودان لم تبرأ في توجهها المحلي من بعض الإنفعال حين منشئها بروح الاستقلال الوطني بل بتاريخ السودان المسلم المنزوي شيئا ما عن مجو النشاط الإسلامي العربي ولعل الحركة في مصر أيضا لم تبرأ حين منشئها من الانفعال بذكري الخلافة المضيعة وحين ازدهارها بمحورية مصر عامة ورائديتها للصحوة الإسلامية ولعل الحركتين لم تبرءا معا من عدوي التوتر السياسي السودان المصري الناعم .

ولكن الحركة السودانية لا تنشغل ولا تنحصر بالوقع المحلي عن آفاق العالم اهتماما بأمر المسلمين بل بأحوال العالم وإدركا أن العالم غدا رقعة واحدة وثيقة الاتصال فكما عني المسلمون في مكة وهم في قلة وذلة بأن تغلب الروم أو الفرس وفي المدينة باستصراخ المستضعفين في مكة وكما مدّ المسلمون الأوائل وهم محصورون نظرهم وأملهم نحو مرامي الدعوة والفتح وراء الجزيرة العربية ؛

فإن الحركة في السودان ما كان لها إيمانا بعالمية الرسالة الدينية التي تنزع نحو المطلق ولا يحتويها ظرف المكان وبوحدة الأرض التي وضعت وسخرت للأنام وأتيحت لمسعاهم بالحق والنفع ولابتلائهم بالخير والشر ما كان لها إلا أن تتجه نحو العالم باهتمام رجاء وخيفة ؛

وأن تقبل عليه مسلما وكافرا وليست هي في شئ من الغرور بالعصبية الوطنية أو من الجهالة بمغزي البعد العالمي بل إن سائر بني وطنها المركب الطبيعية قد سلموا من العطب بقومية أو الانغلاق في وطنية وأولعوا بتتبع شئون العالم والتفاعل مع ظواهره وقواه .

هكذا ذهبت الحركة إلى مذهب التوازن بين المحلية والعالمية أو الخصوصية والعموم وإلى أن الوحدة المتمثلة في العالمية والعموم هدف لا يبلغ بالقفز إليه رأسا بل يقارب بالمجاهدة المتقدمة في المراحل المترقية في المقامات بدءا من المحلية والخصوصية على مثل ما يبدأ الدين في كل شأنه من المبتدأ القاصر ثم يتقدم ويترقي تدرجا نحو الكمال ولذلك لم تقبل الحركة نظام التبعية والبيعة المركزية منهجا أوليا لعلاقات الحركات الإسلامية .

ولئن كان في مصطلح " البيعة " بأصله سعة ونسبية فإنه حين يطلق في هذا السياق إنما يستعمل قياسا على البيعة السياسية التامة لإمام متمكن السلطان وذلك أمر غير متحقق بالطبع إلا أن يعدل بالقياس إلى تقاليد بيعة الهيئات الصوفية والحركات الجهادية غير المتمكنة ؛

ومهما يكن فإن تاريخ المسلمين قد اكتف مصطلح البيعة بمعاني الإتباع والطاعة والتسليم لمحور شخص واحد وغالبا ما أوحي ذلك بأن الأمر كله إشارة من الإمام دون شورى من جماعة الأتباع بل غالبا ما زين لواحد بايعه طائفة من الناس أن يضفي على ذاته شرعيه مطلقة يرمي من لا ينخرط فيها بالمروق والبغي .

وقد انتهت البيعة الكبرى ذاتها إلى وضع اختلت فيه عناصر الوحدة بين صور الدين الفعلي والمثالي فأصبح الخليفة المبايع رمزا منصبا على خواء عاطلا من أسباب الوحدة المؤثرة ولم يبق له إلا أن تضرب باسمه السكة ويدعي له على المنابر؛

ولقد بدأت سنة البيعة في الحركات الإسلامية الحديثة تقليدية ومحدودة ثم تقومت من بعد بالشوري لكنها حين طمحت نحو العالمية عوقها تباعد الواقع وتباينه وخذلها العجز عن التمكن فعادت في بعدها العالمي رمزية لا تمثل محور توحيد فكري أو عملي فعال ؛

ولربما يزين اتخاذ الرمز ولو كان غير فاعل حفظا للمثال ورجاء وأملا ولكن الحركة الإسلامية بالسودان آثرت العدول إلى مصطلح (الالتزام) لا (البيعة) لاتقاء ظلال المعاني التقليدية ولحين استيفاء شروط التمكن ؛

ورأت الالتزام المركزي الشامل اليوم اعتسافا للمراحل وجنوحا بالتوازن بين الوحدة والفعالية إلى ما يوقع خللا ويحدث ضررا بالتدين المحلي فالحركة الإسلامية في العالم أولي في هذه المرحلة بأن تبقي فكرا واحدا مشتركا دون إلزاما وتجربة واحدة تتجاوب دون تقليد؛

وجبهة تتناصر دون رهق أو حرج لذا اقترحت الحركة منهجا للعدل بين التركيز المحلي تمكينا وتأمينا بغير تعصب والامتداد نحو الوحدة الإسلامية العالمية بغير تسيّب وأرادته تنسيقا وسطا بين الانقطاع الاندماج الفوري وأعلي من مجرد التعاون العفو الوارد بين أي جهتين لخصوص علاقة الحركات الإسلامية فالتعاون درجة قد يلحظ فيها الطرفان شرط تكافؤ المعارضة واستواء المنافع العائدة إليهما؛

ولكن ما يبذل المسلم لأخيه مبتغيا وجه الله عمل يجزي عنه عاجلا أو آجلا من حيث لا يحتسب وما مد المسلم أخاه بقوة إلا عادت إليه حتما ولو بوجه غير مباشر من تلقاء فطرة المسلمين الذين يدعون بالخير بعضهم لبعض ويتداعون بالنصرة ويتراءون بالقدوة ومن تلقاء فطرة الوجود التي تتلازم فيها ظاهرات الحق وتتحد مصائره في وجه اجتماع الزاهقات من الباطل فمن خلال المنهج التنسيقي يتحقق التعارف والتناصح الوثيق ويتم تبادل التجارب الحركية وتنعقد أسباب التعاون والتناصر؛

وقد طورت الحركة علاقة التنسيق من مستوى التفاهم العارض إلى الاتفاق الثنائي الموثق مع حركات كثيرة مما يشتمل على عهد ملزم يهدف لتوثيق الصلة وتعزيز التعاون في مجالات شتى ويتوسل إلى ذلك بالاتصالات النظامية تراسلا أو تزاورا وباللقاءات الدورية بين القيادات أو القطاعات المتضاهية أو اللجان المشتركة أو بتأسيس ما تيسر من الأعمال والمرافق الموحدة ؛

ذلك كله بقنوات اتصال حر دون وحدة عضوية تنظيمية أو مبايعة مركزية على أن الحركة تؤمن بأن ترتفع بمعادلة التنسيق الثنائي المرحلي المرن نحو مثال أقرب إلى الوحدة كلما واتت الظروف وتقدمت المراحل دون تبطئة يثقلها التدابر بالعصبية والتخاذل عن حق الإخوة الإيمانية ودون تعجل يجر إلى التوتر والشقاق والإضرار بواقع التدين .

وحين عمرت علاقة الحركة الثنائية بالحركات الإسلامية على نحو ما تقدم وتعاظم هم الحركة العالمي دعت الحركة وسعت لإقامة مؤتمر عالمي دائم للحركة الإسلامية وقدرت أن ذلك المشروع تجسيد وتطوير لمفهوم التنسيق لأنه ينبني بتدبير نظامي ثابت على صعيد جامع ينتظم العالم متجاوزا للدائرة الإقليمية العربية وغيرها ؛

وتصورته الحركة توفيقا بين شتى الاعتبارات إذ يراعي تعدد صور الاستجابة الإسلامية في العالم اجتهادات رأي وأنماط تنظيم وتشكيل بسبب اختلاف الرؤي أو تباين واقع البلاد كما يحاصر دواعي الانقطاع والتباعد الإقليمي والتجافي بعصبية الولاءات التنظيمية؛

ومهما كان الانتماء نظاميا راتبا يتيح محورا للتعارف والتعاون والتفاعل في شتى الأطر و المجالات فإنه غير إلزامي لا نؤسس على علاقة رئاسية مجبرة كابتة إلا أن يتمخض التشاور الائتماري عن إجماع والتزام ؛

وقد اقترحت الحركة أن يضم المؤتمر الحركات العامة والتنظيمات الوظيفية المتخصصة والشخصيات من كل إقليم بكل لغة عالمية ولو تعدد وتمايز المشاركون من البلد الواحد فلا بأس بالتعددية ما دامت الأسرة المؤتمرة كلها تجديدية النزعة جهادية المسعي شمولية التصور تؤمن بالتزكية الفردية الصادقة والتنظيم والعمل الجماعي الملتزم

هذه صورة تنسيقية جماعية سمحة تتسع لرؤي الحركات الإسلامية كافة ولا تكلف أيا منها ما لا تقبله أو تطيقه وتنفتح نحو علاقة توحيدية مرجوة بين الأمة الإسلامية .

العلاقات والسياسة الخارجية

الهم العالمي الإسلامي:

لقد استتبع الصحو الديني والانتماء الجماعي لمنشأ الحركة الإسلامية في منتصف هذا القرن الميلادي وعيا بالهوية الإسلامية وبالنسبة التي توحد الملة والأمة وتميزها عن الملل والأمم الأخرى في العالم ؛

ولئن كان لروادها الحركة من تلقاء ثقافتهم العصرية علم وبعض اهتمام بالضرورة بأحوالهم العالم وأحداثه عامة فإن همّهم الخاص إنما صوب نحو العالم الإسلامي بل نحو الصحوة الإسلامية فيه دون سائر شئونه إذ شعروا إزاءها بأخوة ورابطة مخصوصة ورأوا لها مغزي متحدا مع ما هم فيه ؛

فالكتب والمنشورات التي حملت فكر الدعوة الجديدة والإعلام الذين نطقوا بصوتها وقادوا مجاهداتها والحركات التي مثلّت وقعها في مجتمعات المسلمين ووعدها في مستقبلهم تلك كانت مواضع الاهتمام الخاص التي انجذب إليها الإسلاميون الجدد.

الذلك كانوا يتطلعون إلى أخبار أو آثار أو زوار من تلقاء مصر أو باكستان أو سوريا أو العراق أو غيرها من مراكز البعث الإسلامي .

وكانت الحركة تعني أيضا بالقضايا العالمية ذات الوجه الإسلامي الصريح وبأى نزاع دولي يمس شأن المسلمين وربما تجاوبت مع تطوراته بالتعبير عن التضامن والانتصار لجانب الإسلام فيه أو بالحملة والإنكار على الجانب الآخر ...

فمن ذلك قضايا التحرر الوطني الإسلامي الشعار في إفريقيا وآسيا (كأندوبيسيا وباكستان والجزائر) وقضايا الحركات الإسلامية وجهادها تحت وطأة النظم الغاشمة (في مثل مصر وإيران) وقضايا كفاح المسلمين لتقرير مصائرهم المتميزة في وجه طوائف أخرى (كما كان في فلسطين وكشمير ونيجريا)

ولعل من أولي القضايا التي مست الحركة مسا مباشرا هي قضيتا إرتريا وتشاد إذ تمثلنا في محنة شعب مسلم جار مغلوب على أمره سياسيا ووردتا إلى داخل الساحة السودانية بدخول اللاجئين السياسيين فوجدت الحركة نفسها تلقاء مناصرة لأصحاب القضيتين بالدعم المباشر ومعنية من جراء ذلك بالأطر والأبعاد الدولية للقضيتين .

أما وراء ذلك فقد ظلت الحركة لنحو عشرين عاما بعد قيامها لا تعني إلا بكليات الوضع الأمي ولا تكاد تميز إلا الكتلتين الغربية والشرقية لغرض الانحياز دونهما إلى الكتلة العالمية الإسلامية بدافع الولاء والانتماء لأمة المسلمين وكأن الحركة لم تكن معنية بخريطة التكتل الدولي لذاتها أو مدركة لمغازيها في مصائر العالم ؛

بل كانت تنفعل أصلا بوضعها المحلي بين تحدي التيارين اليبرالي والشيوعي المحيطين بها حين نشأتها في القطاع الحديث بالسودان فمن مقابلتها ومنافستها لهذا وذاك امتد وعيها للكتلتين الشرقية والغربية وللعالم الإسلامي من دونهما وارتفع شعارها المشهور (لا غربية ولا شرقية إسلامية إسلامية) .

فلا اهتمام ولا علاقة بغير الظواهر العالمية المتصلة بالإسلام عن وجه صريح مباشر ولا دراسة ولا سياسة ولا ممارسة للعلاقات الدولية بل كانت الحركة ترهب الدول عموما وتنفر من الدول غير المسلمة خاصة تعدية لمفهوم البراء من الكفار إلى صعيد العلاقات وعقدة من شبهة الاتصال الدبلوماسي كأنه مباشر نجس غريب أو مقاربة خطر خبيث ؛

أما ما عهدته الحركة بعد الاهتمام بالشئون والقضايا الإسلامية من علاقات إسلامية مباشرة فقد كان قاصرا على الإسلاميين والحركات الإسلامية وما كان في ذلك من عمل خارجي كبير يعمر تلك العلاقات ولا تصور منهجي لنظامها إلا انشدادا بعاطفة الإخوة والنصرة أو التماسا لفائدة المثل والعبرة .

مرحلة العمل الخارجي:

من بعد قدوم السبعينات تطور الاهتمام بالعالم من بعيد إلى بعض عمل في الساحة العالمية يعبر عن تركز التوجه الخارجي للحركة وتعزز ذارعها الممتدة خارج السودان

وقد ذكرنا صور خروج الحركة من الحدود القطرية بابتعاث الطلاب وهجرة المغتربيين وما وصله أولئك من علاقات إسلامية حية وما أسسوه من تنظيمات مشتركة وما عمروه من أسباب تعاون فعلي مع الحركات والهيئات الإسلامية وقد استوى منهم نفر طوروا علاقات مع بعض الدول المسلمة كالسعودية وليبيا .

من جانب آخر نفي جانب من عمل الحركة السياسية إلى خارج البلاد هجرة أمن ولجوء من قهر النظام المايوي أو هجرة خروج واستنصار عليه وسعي لإحكام عزلته الخارجية وقد باشر الخارجيون من عناصر الحركة الإسلامية بالتعاون مع حلفائهم الوطنيين اتصالات بجهات إعلامية عالمية للتشهير بالنظام وفظائعه وبجبهات تحريرية وثورية تضامنا وتعاونا أو معنويا أو أباحوا الاسترفاق بأرضهم أو شعبهم ضد النظام المايوي .

وهيأت هذه الضرورة السياسية للحركة الإسلامية أن نعقد صلات مع تلك الدول ز بدأت حيية تتشفع بوجاهة رجال الأحزاب الوطنية الحليفة ثم تعززت بما يتجاوز حاجة الأزمة السياسية الراهنة وزمنها المحدود وبما يضع رصيدا لتطور لاحق ؛

وإذ توافر عدد من قادة الحركة بالخارج وسدت منافذ الحرية واعتقل الرجال وعوقت الأعمال بالداخل انتقل ثقل كبير من طاقة الحركة إلى العمل الخارجي تنظيما وتعبئة للوجود المغترب المتكاثر من عناصر الحركة وتكثيفا للعلاقات الإسلامية المباشرة بمدها إلى كل مركز في العالم للنشاط الإسلامي ؛

وتدبيرا لحركة إعداد المجاهدين لمقاومة النظام السودانيا أو لقتاله بالسلاح وحشدا لكل أسباب الدعم العالمي الإسلامي لصالح الحركة الإسلامية بالسودان ونشرا لشأن الحركة ونقلا لتجاربها وعرضا لنموذجها في الخارج .

وتأكد من قيام جانب كبير من الحركة بالخارج وانشداد الجانب الداخلي إلى شطره الخارجي تأكد البعد العالمي فيها واشتد الوعي والاهتمام و تطور ذلك إلى تجارب عملية في التعرف والاتصال وإلى مشروعات فعلية من التعامل والتعاون وقد أثمر ذلك بعثا لفقه العلاقات العالمية ؛

فما كان من توجه همّ ثم عمل خارجي عفوي تلقاء العالم الإسلامي تطور إلى تفقه في منهج العلاقة الإسلامية العالمية ما كان حذرا من الدول أو نفورا من العلاقات الدولية ارتفع بداعي الضرورة السياسية واطمأن بأثر التجربة وبفضل القوة الواثقة التي أكتسبتها الحركة؛

وتحول إلى إدراك لخطر العلاقات الدولية ومغزاها وإقبال على عمرانها وتوظيفها لصالح حركة الإسلام وإلى محاولة تفهم لمسالك تلك العلاقة وتبصر لمآزقها ومشكلاتها وتحوط لمحاذيرها ومغباتها .

العلاقات العالمية:

كانت السنوات الثمانون الميلادية بما تمهد من رصيد التجارب السالفة وبما واتي من ظروف المصالحة والمشاركة السياسية والنمو والاستقرار فاتحة عهد جديد للحركة الإسلامية عامر بالعلاقات الدولية والعالمية

فقد حفظت الحركة ورعت كل صلة خارجية تهيأت سابقا مع أى شخصية أو هيئة أو حركة إسلامية أو مع جهة إعلامية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو شعبية مسلمة أو غير مسلمة

أو مع دولة أو منظمة عالمية وحيث تحولت الحركة قبيل الثمانين إلى المنهج المخطيطي الشامل في أهدافها وأعمالها كافة وأصبحت لها مصالح ومرام متعاظمة تتعدي السودان فقد كثفت صلتها نحو الإحاطة بالعالم تطويرا لكلما سبق وامتدادا شاملا بكل نحو يتيسر .

لا سيما أن تعاظم شأن الحركة وتعاظم شأن حركة الإسلام في العالم عموما وتواتر أخبارها وتظاهر آثارها دعت قوي كثيرة في العالم إلى مضاعفة مبادراتها نحو الحركة الإسلامية بقصد الاستطلاع أو التعاون أو التقيه أو الكيد

ثم إن السودان موطن الحركة وهو بلد ذو وشائج عالمية وثيقة وكثيفة بوضعه الجغرافي وتركيبه السكاني والثقافي أخذ يعتريه وما حوله الاضطراب والضعف الاقتصادي والسياسي وجعله عرضة لداخلات اللجوء والاختراق والغزو والضغوط بتصريف الدعاية والإعانة وتسليط الترهيب والترغيب وذلك مما دعا لحركة لمزيد من الاهتمام بالعلاقات الخارجية المؤثرة على السودان .

هكذا أدرات الحركة اتصالا وحوارا واسعا بالدوائر العلمية والإعلامية والسياسية في العالم حول أحوال الإسلام الناهضة وحول أوضاع السودان ومصائره لا سيما قضية الشريعة ومسألة الجنوب وأزمة الديون والمعونات الاقتصادية الخارجية وضاعفت الحركة اتصالها وتعاملها وتعاونها مع الحركات والشعوب الإسلامية بنحو ما سبقت الإشارة

ومع الشعوب والحركات والدول الأخري عربية وإفريقية وآسيوية وأوربية من أجل التعريف بالحركة ومحيطها الوطني والسعي في مصالح السودان تبادلا ثقافيا وتجاريا وتعاونا فنيا وسياسيا ؛

وفي سبيل ذلك تعددت زيارات وفود الحركة الخاصة والرسمية إلى دول عربية وآسيوية وأوربية وإفريقية واستدعت زيارات وفود خارجية رسمية وشعبية وتبادلت حضور المؤتمرات وتوزيع المنشورات ومقارنة الخبرات

وعقدت اتفاقات تنسيق نظامي مع حركات وهيئات إسلامية مختلفة ونظمت مشروعات تعاون مع جهات ودول شتى قريبة وبعيدة وأدارت حوارا حرا مع جهات بعضها مسيحية أو يسارية أو علمانية ومع دول بعضها مواد وبعضها معاد لها وللسودان .

وقد تجاوزت الحركة الإسلامية بمدى علاقاتها دوائر علاقات سائر الأحزاب والتيارات السودانية فمهما كان بعض هذه مدفوعا للخارج بتوجهاته الشيوعية أو القومية أو علاقاته التاريخية وكان بذلك مرتهنا لوجهة معينة فإن الحركة الإسلامية كانت متحررة من كل ارتهان وانحياز؛

فالاستقلال أصل في سياستها الخارجية وعامل اتساع لدائرة علاقاتها وقد تجاوزت الحركة كسب غالب الحركات الإسلامية التي قعد بها الحذر والتحفظ أو ضآلة الواقع فزهدت في العالم وزهد فيها .

وقد قدمنا ما في طبيعة الحركة السودانية من جرأة وتوكل في الفكر والعمل كما قدمنا التحامها الوثيق بمسرحها الداخلي مما يتوهم أنه قد يشغلها ويحصر لها لكنه في الواقع نبهها لخطر العامل الخارجي ومغزاه ونبه إليها العالم الخارجي .

ومهما بلغت الحركة في العلاقات الخارجية والعمل الدبلوماسي فلابد أن نذكر أن كسبها في ذلك المجال جاء متأخرا نسبيا ذلك أن الموقف الفكري الذي بدأت به مثل الأدب الإسلامي الذي كانت تتغذي به كان قاصرا على التوجه العالمي العاطفي المجمل ,فلم يهيؤها لمباشرة العلاقات الخارجية الفعلية بقوة .

ثم أن الوظيفية الخارجية للحركة إنما ترتبت عن تطور وظائفها الأخرى إذ نمت حاجتها للعالم وقدرتها في الامتداد إليه وسما قدرها عند العالمين ويحكي تنظيم الجماعة المعني بالشئون الخارجية قصة تطور وظيفة الحركة الخارجية ؛

فقدكان قيادتها يوما عاطلة من أى جهاز مخصص للشئون غير السودانية التي يتولاها القادة عفوا حين تطرأ ثم استدعي اغتراب طائفة كبيرة من أعضاء الجماعة إنشاء مكتب للإتصال وكان طبيعيا بعد تضخم العمل الخارجي في عهد مقاومة النظام المايوى ؛

وما ساق من علاقات خارجية واسعة أن يعبر تنظيم الحركة عن حجم هذا الهم المتعاظم بإقامة أمانة مستقلة للشئون الخارجية تطورت فيما بعد لتترك رعاية المغتربين لجهاز التنظيم الأساسي أو لأمانة أخرى ولتتفرغ لمهام الوظيفة الخارجية بشعابها المختلفة المعنية بالعلاقات الحركية الإسلامية أو بالعلاقات الدبلوماسية أو الشعبية العالمية عامة أو بقضايا حركات التحرير والجهاد .

السياسة الخارجية

لما تقدمت السنوات الثمانون بحصيلته الضخمة من العلاقات العالمية وتقدمت الحركة فيها نحو النضج والاستواء والنظر الاستراتيجي تطور كسب الحركة من الهم والعمل والتفاعل الخارجي إلى الفقهيات والاستراتيجيات والمنهجيات والسياسات في التوجه العالمي .

ففي جانب العلاقة بالحركات الإسلامية كان الموقف الذي يحبذ التعددية العالمية والتنسيق السوى ويأبي البيعة والمركزية الآلية قد تجسد في جملة من مشروعات التعاون العفو .

ثم انتظمت العلاقة في نمط اتفاقات ثنائية ترسم أهدافا واسعة لتعاون ممكن وتثبت التزام السعي نحوها بوسائل مقررة أما في هذه المرحلة فقد اتجهت الحركة إلى منهجية تنسيقية كلية وخطة مؤتمر عالمي للحركة الإسلامية يجمع عناصرها المتعددة في العالم ويحيط بأغراض التعارف والتعاون التناصر بينها ويستقر بوسائل السعي التوحيدي الإسلامي على نحو ما تقدم .

وقد تمحص فقه الحركة في شأن العلاقات الحركية الإسلامية من خلال المناظرات والمشاورات مع الإخوة الآخرين ليتمخض عن مذهب متكامل بأدلته الشرعية وحيثياته الواقعية ومقتضياته العملية على نحو ما تقدم أيضا وما اشتملته أوراق منشورة .

أما في السياسة والعلاقات الخارجية عامة فقد كان تحرك الحركة يندفع بدواعي الوعي والهم العالمي إجمالا لكنه في هذه المرحلة أصبح موجها بمقتضي الاستراتيجية الموضوعة للتمكن الإسلامي ومصوبا بما يقوم القوة العالمية تعزيزا لما هو موال وكبتا لما هو معاد للمشروع الإسلامي بالسودان ومحسوبا بما يسد ثغورا بادية ويتم شرائط لازمة وبما يدفع عن السودان والإسلام أو يعين .

وقد أدارت الحركة حوارا فقهيا في الشئون العالمية والدولية ووضعت من نتائج اجتهادها ورقة منشورة في السياسة والعلاقات الخارجية تؤصل المعاني على على تعاليم الدين والشرع وتصاريف الواقع المحلي والعالمي؛

وتعين الأهداف وتوجه السياسات وتحدد الوسائل وتنزل القول وتفصله في علاقات السودان والحركة الشعبية والرسمية مع العالم دولة وأهله وقضاياه وأخذت الحركة تتناول وتعالج قضايا فكرية فقهية في السياسة والعلاقات الخارجية مثل : التوحيد بين مصلحة الحركة ومصلحة السودان .

والتوفيق بين قيم الإسلام ومعايير المطلقة ومقتضيات المصلحة والضرورة الوطنية أو الحركية في التعامل الخارجي أو التوفيق بين الاستقامة والوضوح في الموقف أو المعاملات ومراعاة أعراف الدبلوماسية وطرائقها والجمع بين العلاقة الإسلامية الحركية الأخص والعلاقة بالشعوب المسلمة عامة ثم بالدول المسلمة؛

لا سيما حين تتناقض المقتضيات والتوازن بين الإيجابية المقبلة على العلاقات الخارجية مع من اتفق والتحفظات في موالاة دول الظلم أو الكفر التي لا تنفك عن كيد للإسلام والمسلمين وإن لم تثر مسائل السياسة الخارجية الفقهية خلافات أو زوابع بين أعضاء الحركة على دقة مآزقها ومحاذيرها فذاك أنها وافت الحركة وقد نضج فقهها التطبيقي في كل مجال واستوي فيها مبدأ رفع الحرج في اجتهادات السياسة الشرعية .

ومن ضوء الاستراتيجية وهدي المنهج ونظام السياسة ورشد الفقه مما تم للحركة الإسلامية أخيرا اتجه بها الأمر إلى التوازن والتوحيد بين كم عملها الخارجي المتبارك وكيفه الحكيم الرشيد بل بين كسبها الديني الداخلي والخارجي تكافؤا في الواقع وتماثلا في النهج وتعادلا بين التمحور المكاني الفعال والامتداد العالمي المطلق وتكاملا في التدين عمقا وافقا .

الاتجاه الإسلامي الموقف العام من القضية الفلسطينية نقد وعرض

بقلم: خالد صلاح الدين

  • من مواليد فلسطين ومهتم في الشؤون الإسلامية وتعبر مقالته هذه عن تيار إسلامي عامل حاليا في فلسطين

إذا كانت الثورة الفلسطينية قد أخطأت الطريق الصحيح في النتائج التاريخية النهائية بعدم الانطلاق الواضح من الإسلام فإن الحركة الإسلامية قد ارتكبت خخطأ فادحا في عدم طرح إستراتيجية الممارسة الجهادية الثورية أى أن الثورة الفلسطينية قد أسقطت التجسيد العملي الجهادي لإطارها النظري .

ولذا فإن الحركة الإسلامية حين تنحو باللائمة على الثورة الفلسطينية أو تطالبها بأن عليها أو بأنه كان عليها أن تنطلق في نضالها من الإسلام فإنها تلزم نفسها مبدئيا بضرورة أن تجسد بنفسها ما أسقطه الآخرون:

نظرا وممارسة وهذا الوضع أدي بالحركة الإسلامية إلى أن يدور موقفها من القضية الفلسطينية والكفاح المسلح في إطار :

الطرح النظري الخالص الذي يقوم على تقرير المبادئ العامة والآمال المعلقة على حتمية تاريخية إسلامية في المستقبل فالحركة الإسلامية لا تفتأ تدعو إلى الجهاد وتدين عجز الأنظمة وتخاذلها وسياساتها .
الاستراتيجية العامة للاتجاه الإسلامي العريض وأثرها على الموقف من القضية إن إستراتيجية الخط الأساسي التاريخي في الاتجاه الإسلامي تقوم في واقع الحال على خلق تيار شعبي فكري وشعوري واسع يمكن مع الزمن أن يشكل قوة ضاغطة على الأنظمة الحالية لتبني الإسلام والجهاد
استجابة للروح الشعبية الإسلامية المتصاعدة وبهذا فإن خط هذه الاستراتيجية يتجه دائما إلى " الآخرين " الذين يملكون القرار العمل أو أدوات القوة المادية الفاعلية سواء كانوا أنظمة أو منظمات ؛
وبحكم هذا المنطلق لابد أن يقتصر موقف الحركة الإسلامية على اقتراح الإطار النظري ومحاولة إقناع الآخرين به أو انتقادهم لعدم تبنيه أو الضغط الأدبي عليهم لاختياره ووضعه موضع الممارسة أو استخدام أخطاء الآخرين وفشلهم دليلا على صحة الطرح النظري للحركة الإسلامية وبإيجاز فإن موقف الحركة الإسلامية من هذا الجانب يتمثل في تقديم الوصفة لمن يملكون القدرة على تطبيقها أو عدم تطبيقها

وبعبارة أخرى: التعليق على فعل الفاعلين ما الذي يجب أن يفعلون وما الذي كان يجب أن لا يفعلوه أما أن تأخذ الحركة الإسلامية بنفسها زمام المبادرة الجهادية الشعبية فهذا مع الأسف ما تجاهلته الحركة الإسلامية أو تجنبته متذرعة بعدة مبررات منها:

إن هذا الخيار غير عملي أو غير ممكن من الناحية التطبيقية في الآونة الراهنة وضمن ظروف القمح الحالية فالجهاد الشعبي الإسلامي يجتاح إلى ظهير يحميه ويتيح له فرصة الانطلاق في صورة دولة أو نظام إسلامي وبذلك فإن انطلاقه بغير ذلك الظهير لابد أن يصطدم مع القوى الرسمية التي ستحول بين الحركة الإسلامية وبين ممارسة الجهاد .
ومثل هذا الموقف لابد أن يقود إلى ترسيخ إستراتيجية الحركة الإسلامية التي أشرنا إليها آنفا وهي العمل على توسيع التيار الفكري الإسلامي بوسائل غير عنيفة ولا تؤدي إلى الصدام مع الأنظمة في وقت مبكر على الأقل ومن ثم استخدام هذا التيار للضغط على الأنظمة والمنظمات لتبني الإسلام وإعلان الجهاد العام أو على الأقل إتاحة الفرصة أمام الإسلاميين والمسلمين المتعطشين إلى الجهاد بصدق لكي يمارسوا دورهم الجهادي .

ردود الفعل النظرية تجاه ممارسات القوى الأخرى الفاعلة في ساحة القضية

ومن نتائج هذا الموقف العام أن المواقف الفرعية المنبثقة عنه تجاه القضية الفلسطينية والكفاح الشعبي المسلح كانت تقوم في معظم الأحيان وما زالت كذلك على ردود الفعل إزاء مواقف الآخرين العملية أى التعليق النظري على الأحداث من خارج الانخراط العملي المباشر فيها ؛

مما كان دائما يضعف من مصداقية هذه التعليقات ومواقف الحركة الإسلامية بل كان يضع الحركة الإسلامية في موضع التهمة وبخاصة فيما يتعلق بتعليقات على مواقف المنظمات الفلسطينية الفاعلة وأخطائها فمهما بلغت هذه التعليقات من دقتها وموضوعيتها يسهل اتهامها بأنها محاولات لتشكيك في تضحيات الآخرين وجهودهم العملية من موقع الركود إن لم يذكر العجز.

تأجيل قضية فلسطين ريثما يتم تحقيق مقدمات العودة الذاتية الداخلية للإسلام بأساليب الدعوة الفردية وخلق تيار فكري عام والتربية والتوجيه والإرشاد .. الخ ..

ومن نتائج هذا الموقف أيضا ونظرا لاشتراط توفير الآخرين مناخا حرا للإسلاميين والمسلمين لممارسة الجهاد إن لم يعلن الآخرين بأنفسهم قبول الخيار الإسلامي العام والجهاد الإسلامي نظرا لذلك كله لابد أن تجد الحركة الإسلامية نفسها منساقة إلى تأجيل قضية فلسطين ريثما يتم تحقيق المقدمات العامة وهي بعبارة موجزة: العودة الذاتية إلى الإسلام .

ولما كان الخط الأساسي التاريخي لإستراتيجية الحركة الإسلامية كما أسلفنا لا يأخذ صيغة ثورية ويكتفي بهدف خلق تيار فكري إسلامي ضاغط على الآخرين ويتجنب استخدام ما يوصف بوسائل العنف الثوري

فلابد أن يتخذ أسلوب الدعوة إلى تحقيق مقدمات العودة الذاتية إلى الإسلام أشكال الوعظ والتنبيه والترغيب والترهيب إلى أن يصل ذلك إلى مفاهيم مبدئية مفرطة في عموميتها النظرية الوعظية من مثل المقولات المتكررة التالية:

  • إن علينا أن نعود إلى الإسلام وإلى محاسبة النفس وتنقيتها من الشوائب والأفكار الداخلية لكي نستحق النصر .
  • إن عدنا إلى الإسلام وبدأنا بأنفسنا فطهرناها من الذنوب والعيوب جاء نصر الله ودمرنا اليهود .
  • إن الله إنما يعذبنا باليهود لأخطائنا وذنوبنا .
  • أننا نستحق ما جري علينا لانحرافنا عن جادة الحق وانهماكنا في الحياة المادية الفانية ونحو ذلك .

وقبل أن يسرح البعض باتهامنا نقول: إننا لا نعارض هذه المقولات من الوجهة الدينية المبدئية.ولكن الخطأ كل الخطأ يكمن في الإطار الاستراتيجي العام الذي تصدر منه فإلى من يتوجه الخطاب في هذه المقولات ؟! إلى الإسلاميين المؤمنين؟ إن هؤلاء هم الذين يخاطبون مجتمعاتهم بهذه الأفكار . فهل يكون المخاطب بكسر الطاء هو عين المخاطب بفتح الطاء ؟ هل يكون الداعية هو المدعو ؟

إن الدعوة إلى العود إلى الدين والتطهير من الآثام والذنوب والتخلص من مظاهر الشذوذ والانحراف عن جادة الإسلام تفترض إن الخطاب فيها موجه إلى من يتمثل فيهم الانحراف والزيغ والضلال في إطار المجتمع الكلي ومن ضمنهم : الأنظمة ممثلة في مسؤوليتها والمؤسسات وأصحاب الاتجاهات الفكرية والحزبية غير الإسلامية والمسلمين بالهوية والفساق والملاحدة ...

وكل من يعتبر مسئولا عن مظاهر الانحراف العامة إضافة إلى مظاهر انحراف السلوك الفردي فهل يتوقع أن يكون أسلوب الوعظ والتنبيه والتذكير كافيا مع مرور الزمن اللا محدود لكي يتغير هؤلاء ويعترفوا بأخطائهم ويتوبوا عنها ويعودوا إلى الإسلام في صحوة عامة للضمير ؟ّ!

إن هذا النوع من التفكير ينطلق من عدة افتراضات ومفاهيم خاطئة أهمها:

الفهم المخطئ لطبيعة المجتمع ومن ثم لأسلوب تغيير فهو يفترض أن المجتمع هو مجموع الأفراد فيه وحسب سواء كانوا حكاما أو محكومين مسئولين أو غير مسئولين وبالتالي فإن تغيير المجتمع يعني أن يتغير مجموع أفراد المجتمع أو معظمهم بوصفهم أفرادا وعلى نحو كمي متصاعد .
فالقلة المؤمنة مثلا تصبح من الزمن كثرة بوسائل الوعظ والتربية والتنبيه والتذكير والإقناع الشخصي حتى يتكون من ذلك تيار عريض واسع بشكل قوة ضاغطة على أصحاب القرارات لتبني الحلول الإسلامية وإزالة مظاهر الانحراف إن لم يكن ذلك اقتناعا منهم فاضطرار أمام الرغبة العامة لتيار المجتمع العريض .

ويفترض هذا الفهم أيضا أن معظم أفراد المجتمع هم مسلمون مؤمنون بالإسلام ولكن فيهم الكثير من مظاهر الجهل الديني والانحراف السلوكي .

ولذا فإن أسلوب الوعظ والتنبيه والإقناع كفيل بإعادتهم إلى الفهم الصحيح للإسلام ومن ثم إلى السلوك الإسلامي القويم إن هذا الفهم يغفل الحقائق التالية:

إن المجتمع ليس ببساطة المجموع الكمي لأفراده إنما هو نظام اجتماعي أو تركيب اجتماعي تتمثل فيه العلاقات المادية للمجتمع والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية والقانونية ... الخ .
وهذه المؤسسات التنظيمية المختلفة مترابطة عضويا تتبادل من خلاله التأثر والتأثير وتعكس بجملتها الواقع الموضوعي العام للمجتمع .
والنظام السياسي على رأسها يجسد هذا النظام الاجتماعي ويتمثله ويمتلك أدوات القوة للحفاظ عليه ومن ثم الحفاظ على مصالحه ومصالح من يهمهم بقاء المجتمع على حاله لضمان استمرار هذه المصالح .

وهؤلاء لا تخضع خياراتهم الأيديولوجية للقناعات العقلية التي يمكن التأثير فيها من خلال الوعظ والتذكير والتأثير وإنما تخضع لمصالحهم المادية في المقام الأول وإذا كان ممثلوا النظام الاجتماعي هذا يقبلون ببعض مظاهر الإسلام في الأطر الرسمية والتنظيمية بدرجات متفاوتة فإنما يعود ذلك إلى الطبيعة الانتقائية للثقافة التي تمثل هذا النظام .

أما إن يؤخذ بالإسلام نظاما اجتماعيا عاما للمجتمع فهذا يعني القضاء على مواقعها ومصالحها وارتباطاتها . فهي لا تأخذ منه في أحسن الحالات إلا بالقدر الذي لا يهدد تلك المواقع والمصالح والارتباطات والذي يكفي لامتصاص المشاعر الإسلامية الشعبية النامية ويوحي بأن النظام لا يتعارض مع الإسلام أو أنه أكثر من ذلك يسير مع الزمن في اتجاهه .

أما إذا اشتدت المطالبة الشعبية لطرح البديل الإسلامي الاجتماعي الجذري الشامل إلى حد لا تنفع معه وسائل التطمين والامتصاص وطرح الشكليات الإسلامية الجزئية فإن ممثلي النظام يلجأون إلى وسائل القمع العنيفة كما حدث فعلا في تاريخ الاتجاه الإسلامي

حتى لو لم يظهر الاتجاه الشعبي الإسلامي أى مظهر مباشر من مظاهر العنف إذ يكفي أن يأخذ شكل المعارضة السياسية المنظمة المؤثرة أما التدين الشخصي فهذا ما لا يمانع به النظام عادة كما إنه لا يمانع بالإلحاد الشخصي إذا لم تترتب علي هذا أو ذاك أية مواقف سياسية معارضة للنظام هذا على مستوى ممثلي النظام من حكام وساس وأصحاب نفوذ .

أما على مستوى القاعدة الاجتماعية الشعبية العريضة فمنهم من يمكن أن تؤثر فيه الدعوة الفردية بدرجات متفاوتة تتراوح بين تحويلة إلى داعية فعال وبين التأثير المحدود في مشاعر العامة وسلوكه ومنهم من لا تؤثر فيه الدعوة إطلاقا

ولكن المهم أن ثمة بين أوساط القاعدة الشعبية العامة للمجتمع من لا يكتفون بعدم الاستجابة للدعوة الإسلامية الفردية وحسب بل هم يعادونها ويعملون ضمن عقائد وأطر فكرية أيديولوجية غير إسلامية منظمة وغير منظمة وهم يرون ضرورة تغيير المجتمع , ويمارسون نشاطهم في هذا الاتجاه ولكن من خلال العقائد الجاهلية المعادية للإسلام .

فكيف يتوقع إذن أن يتم تغيير المجتمع إسلامية وتحقيق مقدمات العودة الذاتية للإسلام بوصف ذلك شرطا لجهاد العدو الخارجي بوسائل الوعظ والتنبيه؟! إن تشخيص المرض واقتراح الدواء مبني على تعريف مسبق من العقيدة التي يؤمن بها الشخص وبذلك فإن ما يراه الداعية المسلم مرضا اجتماعيا أو انحرافا عن السوية لا يراه كذلك غيره من أصحاب الاتجاهات الأخرى المخالفة فهل يمكن اقتراح دواء لمن لا يعترف بوجود المرض فيه ؟!.

إننا لسنا ضد الوعظ والتنبيه والتذكير ولكن يجب أن لا نبالغ في دوره ونتائجه في عملية تغيير الواقع الكلي المتمثل في النظام الاجتماعي العام وعلاقاته ومؤسساته ومن مظاهر أسلوب الدعوة الفردية والتوجيه والتربية ذلك لا مظهر العام الذي يجري فيه النصح والإرشاد وانتقاد الأخطاء والانحرافات والمظاهر اللا إسلامية من على المنابر العامة وهذا يشارك فيه رجال الاتجاه الإسلامي المنظم ؛

ولكن بصفتهم الفردية كما يشارك فيه أعوان النظام أنفسهم فالنظام كما أسلفنا لا يعارض الإسلام بكليته بوصفه دينا وموجها للسلوك بل يعتبره مصدرا من مصادر التشريع الكثيرة في صيغة أكثر تقدما في مجاملته للحس الإسلامي طالما أن ذلك لا يأخذ صيغة المعارضة السياسية المباشرة للنظام؛

بل هو مستعد لتشجيع هذه الممارسات الوعظية التوجيهية في إطار وجوده الذاتي والأنظمة العربية كلها تقريبا تنص في دساتيرها على أن دين الدولة هو الإسلام وتفرد للأوقاف وللشئون الإسلامية وزارة رسمية وتسمح بوجود مؤسسات إسلامية خيرية أو نحوها إلى جانب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تمثل الواقع الإجمالي غير الإسلامي ؛

فلا غرابة إذن أن نشاهد رجال السلطة أنفسهم وممثلي وزارات الأوقاف وشيوخ النظام يتحدثون ويخطبون بنفس ما يتحدث ويخطب به رجال الاتجاه الإسلامي المنظم على المنابر العامة من ضرورة الرجوع إلي الدين لكي يتحقق النصر؛

ومن ضرورة أن يبدأ الفرد بنفسه ثم بغيره في نطاق مسؤوليته وضرورة إزالة مظاهر الفسق والانحراف التي عوقبنا بالعدو الخارجي بسببها ومن الممكن أيضا أن يشن رجال الدين مع تحفظنا على هذه التسمية المرتبطين بالسلطة حملة عنيفة قاسية على مظاهر الانحراف العامة من مثل وجود الخمارات والمسابح المختلطة والأزياء الخليعة والأفكار الداخلية ودور اللهو ... الخ .

وأكثر من ذلك لا يمتنع هؤلاء من الدعوة بحماس عام للجهاد والنظام لا يري في ذلك كله أى بأس , لأن هذا الاتجاه بمنطوقه الخفي العام يتضمن ما يلي:

صرف التهمة عن النظام نفسه وعن دوره في إفراز هذه المظاهر اللا إسلامية المنحرفة وفي التقاعس عن مواجهة العدو الخارجي وفي تعطيل الجهاد الشعبي والرسمي العام وتعطيل أحكام الإسلام بل التآمر على القضية والتبعية للقوي الخارجية الاستعمارية
ومن ثم تجزئة المشكلة إلى مظاهر متفرقة في سلوك الأفراد والاتجاهات الأخلافية . بحيث تتوجه التهمة إلى الناس أفرادا وبدلا من أن يتجه مطلب التغيير الإسلامي إلى النظام الاجتماعي الجاهلي برمته يتجه إلى أفراد الشعب ضمن هذا النظام فإذا كان لابد من تحميل مسئولية الهزائم لأحد .

فالشعب هو المسئول وإذا كنا نطلب النصر حقا فهذا مرهون بمدى استجابة أفراد الشعب للمواعظ الأخلاقية وإلى أن يحدث هذا فعلا فلا أمل في النصر ولا مبرر لتحميل المسئولية للسلطات النظامية وهكذا يجري تأجيل قضية الجهاد والتحرير عمليا إلى أمد غير مسمي ويتخذ من الهزائم والمصائب والانتكاسات العامة حجة على الشعب ومجموع أفراده

ويجري تدجين المسلمين بهذا الأسلوب لتقبل الهزائم وبوصفها عقوبات عادلة لأخطائهم وانحرافاتهم وينصب النقد والتقريع على المظاهر الجزئية الخارجية دون الأسباب العميقة والإطار الاجتماعي العام الذي أفرز هذه المظاهر ولابد أن يفرز غيرها طالما بقي مستمرا .

إن النتيجة النفسية التي يصل إليها هذا الأسلوب متعددة الجوانب والمظاهر في سلبيتها إذ يصرف الاهتمام عن ميدان المعركة الموضوعي الواسع الذي يشتمل في إطاره على كل الجزئيات وعوضا عن ذلك يحصر ميدان المعركة بكل عناصره المتضاربة في ذات الفرد ونفسيته فالفرد هو العدو وهو الضحية

وهو الذي يظلم نفسه وهو نفسه وهو الذي يتحمل عواقب هذا الظلم وهو المعتدي بانحرافه وضلاله وهو المعتدي عليه ولما كان العدل من مقتضي حكم الله , فإن كل ما يقع علينا من الهزائم والضربات ما هي إلا مظاهر من انتقام الله العادل؛

وبذلك يجري امتصاص مشاعر الغضب والنقمة ضد العدو ويجري تحويلها ضد الضحية وانسجاما مع هذا الموقف يستخدم مفهوم مجاهدة النفس بديلا عن جهاد العدو يزداد التركيز السلبي على أولوية جهاز النفس بوصفه الجهاد الأكبر وتعزل معاني الآيات الكريمة من مثل (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)

عن موضوعها الصحيح من سياق المنظومة الإسلامية الشاملة أما الفرد الذي يصبح عبر هذا النوع من التفكير هو ميدان المعركة وعناصرها فهو شخصية معنوية مطلقة لا تحديد لها ومن هنا تضيع حدود المسئووليات الاجتماعية والسياسية : مسؤوليات الهزائم ومسؤوليات التغيير ويغرق الناس في حالة من القدرية السلبية المستسلمة التي لا تنسجم مع روح الإسلام وشخصيته الفاعلة.

ويظهر هذا الموقف في أقسي صوره حينما يأتي في وقت يمارس فيه العدو أبشع أساليب غطرسته ووحشيته خلال الغزو العسكري والمجازر الدموية الرهيبة التي لا تنال من القوى المقاتلة قدر ما تحصد من أرواح المدنيين من شيوخ وأطفال ونساء

ويذكرنا هذا الموقف بالقصة التمثيلية المعروفة التي تدور حول رجل سرقت منه دايته فاجتمع الناس عليه يلومونه ويقرعونه لأنه لن يحسن رباطها ولم يتحوط لها من السرقة فلما بالغوا في ذلك وقتا طويلا ذكرهم بأن عليهم أن يسبوا اللص ساعة واحدة على الأقل .

فلا عجب إذن أن تشجع السلطة هذا النوع من التعبير الإسلامي وأن تستثمره للتهرب من المسئولية ولاحتواء الاتجاهات الأكثر ثورية في الفكر الإسلامي السياسي بل إن بعض الأنظمة الأكثر تساهلا ودهاء لتسمح بما هو أكثر ؛

وبخاصة في ظروف تفاقم النقمة العامة على التقصير والتخاذل فتترك للخطباء المتحمسين المخلصين وغير المخلصين أن يكيلوا الاتهامات ضد المواقف العربية العامة ومن ضمنها المواقف الرسمية بشرط أن تتسم هذه الاتهامات بالعمومية المفرطة التي تضع الجميع في سلة واحدة : حكام العرب جميعا دون تحديد والشعوب العربية جميعا دون تمييز للمواقف والمواقع

ولكن حتى في حدود هذا المظهر التعبيري العام الذي يجري من على المنابر العامة فإن السلطة لا تسمح له بتجاوز حدا معينا على الرغم من أن أصحابه ينطقون به بصفتهم الفردية فإذا ما حدث وتجرأ أحد الخطباء أو الدعاة بإدانة موقف السلطة المحلية مباشرة فإنه يصطدم مع أجهزة الزمن والقمع وهذا ما حدث مرارا وما يزال يحدث .

إضافة إلى المظهر العلني أمام العام من على المنابر العلنية والذي تحدثنا عنه آنفا يتخذ أسلوب الدعوة الفردية والتوجيه السلوكي والأخلاقي الديني صيغة أكثر تحديدا وتطورا ونعني بها الصيغة التنظيمية فالتيار الفكري الشعبي الذي يطمح الخط الأساسي في الاتجاه الإسلامي إلى تعميقه وتوسيعه يقوم على بعدين أو خطين : خط الحركة المنظمة وهي التي تشكل الجسم الأساسي المتماسك لهذا التيار وخط التأثير الشعبي العام الذي يمكن أن تثيره الدعوة المنظمة في وسطها الاجتماعي؛

ولكن إستراتيجية هذا التيار بجسمه المنظم ومحيطه التأثيري تظل تدور كما أسلفنا حول هدف خلق أداة شعبية ضاغطة على الآخرين (الأنظمة وأصحاب القرار) للمبادرة إلى اتخاذ وتطبيق القرارات الكفيلة بتحقيق مقدمات العودة إلى الإسلام

ومن ثم إعلان الجهاد المعطل أو على الأقل توفير الحرية للراغبين في الجهاد لكي يمارسوا واجبهم وقد سبق وناقشنا أخطاء هذا التصور وعمقه ويكفي هنا أن نشير أن هذا الأسلوب بمظهره التنظيمي على الرغم من أنه لا يطرح صيغة ثورية لتغيير المجتمع إلا أنه محظور في معظم الدول العربية لمجرد أنه يتخذ طابعا تنظيميا يقترن عادة بالبعد السياسي وفي الدول التي يسمح له فيها ممارسة نشاطه فإن ذلك يجري في نطاق محدود لا يسمح له بتجاوزه إطلاقا .

وقبل أن نمضي في هذا التحليل النقدي ولكي نسهل على القارئ ربط أجزائه يحسن بنا أن نلخص إلا ما شرحناه آنفا حول موقف الاتجاه الإسلامي العام من القضية الفلسطينية وما يتصل بها من موضوع الجهاد والمنطلقات الاستراتيجية لهذا الموقف

وذلك في النقاط التالية:

الطرح النظرى الخالص الذي يقوم على تحليل وتقييم مواقف القوى الفاعلة الأخرى (أنظمة أو منظمات) بمعيار الإسلام انتقادا أو لوما أو نصحا أو توجيها وبإيجاز تقديم الوصفة النظرية الإسلامية للقوي الفاعلة .
وينبع هذا الموقف من الخط الاستراتيجي الأساسي للاتجاه الإسلامي الذي يقوم على الدعوة الفردية (المنظمة وغير المنظمة) والذي يطمح في أكثر صيغة تقدما إلى خلق تيار شعبي عام يكون بمثابة أداة ضاغطة على أصحاب القرارات والقوى الفاعلة .
وينبع هذا الموقف من الخط الاستراتيجي الأساسي للاتجاه الإسلامي الذي يقوم على الدعوة الفردية (المنظمة وغير المنظمة) والذي يطمح في أكثر صيغة تقدما إلى خلق تيار شعبي عام ويكون بمثابة أداة ضاغطة على أصحاب القرارات والقوى الفاعلة لتبني الحلول الإسلامية والاستجابة لعمليات النصح والتوجيه بحيث يتوازي هذا الضغط على القوى الفاعلة وأصحاب القرار مع إشاعة الروح الإسلامية بين عامة الناس والتأثير على سلوكهم ومفاهيمهم .
أحد النتائج الفرعية لهذا الاتجاه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو تأجيل هذه القضية وتأجيل مطلب الجهاد عمليا ريثما يتحقق شرطه الاجتماعي الداخلي: عودة المجتمع إلى الإسلام أفرادا ونظاما لكي يتوافر بذلك مناخ حر لممارسة الجهاد الرسمي والشعبي أو الشعبي على الأقل دون موانع من السلطة .
وينتهي هذا الموقف إلى توجيهات وعظية عامة تنصب في معظمها على مظاهر الحياة الاجتماعية المنحرفة عن سوية الإسلام وإلى تجزئة المطلب الإسلامي الكلي وإلى تعميم الاتهام وإلى جعل الفرد ميدان المعركة .
إغفال العلاقة العضوية الجدلية بين هدف التغيير الذاتي العام وهدف التحرير الخاص .

ونتابع الآن مناقشتنا النقدية لهذا الاتجاه العريض ونسجل ابتداء أننا لا نتجاهل الدور الايجابي الذي لعبه هذا الاتجاه متمثلا بصورة خاصة في النجاح في استقطاب أعداد كبيرة من الشباب ضمن التيار الإسلامي؛

وهؤلاء كان يمكن أن ينجرفوا مع التيارات الثقافية كذلك في أحداث نوع من التوازن النسبي في المجتمع يحول دون التمادي العلني المطلق في الانجراف بعيدا عن الإسلام و لا شك أن الأعداد الكبيرة من الشباب الذين نجح هذا الاتجاه في استقطابهم سيكونوا مصدرا بشريا كبيرا في المستقبل (إن شاء الله) لصيغة ثورية جهادية أكثر تقدما

ولكن حتى الآن يجوز لنا أن نطرح التساؤل التالي :

لقد شهد هذا التيار الإسلامي اتساعا مشهودا على المستوى الكمي الأفقي ومع ذلك فإن مجمل الأوضاع الاجتماعي أو النظام الاجتماعي في علاقاته الاجتماعية الأساسية العامة ومؤسساته وتنظيماته لم يتغير
وإذا كانت القدرة على مواجهة العدو وتجنب الهزائم إن لم نقل إحراز النصر هو مقياس درجة التغيير الإسلامي داخل المجتمع فإن الهزائم المتلاحقة والمتنامية في حجمها وتأثيرها دليل على أن التغيير المنشود لا يسير في طريق التقدم الفعلي الذي يتجاوز الأفراد والاتساع الكمي للتيار الإسلامي والمظاهر الإسلامية الجزئية إلى قواعد المجتمع والنظام الاجتماعي برمته ؛

ونستنتج من ذلك أن هذه الاستراتيجية في العمل الإسلامي وفي تناول القضية الجهادية حول فلسطين إذ تؤجل الموضوع الفلسطيني الجهادي بدعوي أولوية تحقيق مقدمات التغيير الإسلامي الداخلي بأسلوب الدعوة الفردية والتجمع الكمي للتيار الإسلامي وتقديم الوصفة النظرية الإسلامية للقوى الفاعلة وأصحاب القرار فأنا تنهي إلى الفشل في كلا الهدفين .

تحقيق شرط التغيير الداخلي

وبالتالي التقدم العلمي نحو موضوع الجهاد حول فلسطين .فكما أن هذا الاتجاه يفترض أن المبادرة الشعبية الإسلامية إلى الجهاد تصطدم بالقوى الرسمية فإن عليه أن يدرك أن تغيير المجتمع داخليا يصطدم بنفس القوى ولنفس الأسباب

وإذا كانت هذه القوى في بعض الحالات الاستثنائية تسمح لهذا الاتجاه بممارسة نشاطه في خلق تيار إسلامي شعبي عريض إلى جانب التيارات الأخرى فإنها تفعل ذلك ضمن حدود معينة لضبط سلوك هذا التيار داخل إطارها العام

فإذا ما تجاوز هذه الحدود ولو بغير أن يتبني وسائل عنيفة فإنها تعترضه بكل وسائلها التي يمكن أن تصل أخيرا إلى حد القمع التام وإذا فإن تأجيل القضية الفلسطينية لم ينفع مسألة التحرير والجهاد المؤجلة كما لم ينفع في حل المشكلة الاجتماعية الداخلية المقدمة .

والقوى المعادية في كلا الحاليين واحدة : الأنظمة الداخلية والعدو الخارجي معا ونعني بذلك أن العدو الخارجي الذي سيقاوم الجهاد الإسلامي ضده بالضرورة سيقاوم بنفس القوة عملية تغيير الظروف الداخلية نحو مجتمع إسلامي قوى مجاهد

لأن هذا يشكل الخطر الأكبر عليه فلا يتوقع منه أن يصبر حتى يقوم مثل هذا المجتمع ثم يدخل معه في صراع وفي المقابل فإن الأنظمة الداخلية التي تحول بين القوى الشعبية وبين الجهاد هي التي ستقاوم عملية تغييرها بالضرورة الحتمية أيضا .

وإذن فإن القوى المعادية الداخلية والخارجية تدرك العلاقة العضوية بين تغيير الوضع العربي الفاسد وبين قضية التحرير ومجاهدة العدو الخارجي وعندما نذكر " العلاقة العضوية " فإننا نعني بذلك أن شقي العلاقة (الوضع الداخلي والعدو الخارجي) لا يسبق أحدهما الآخر مرحليا بل هما عملية واحد ة .

وإذا كانت القوى المعادية تدرك حقيقة هذه العلاقة وتنصرف بالتالي على أساس هذا الفهم فإن على الاتجاه الإسلامي أن يدركها أيضا في وضع إستراتيجية وهذا بالضبط ما فات هذا الاتجاه أو أنه أغفله ؛

ومعظم أخطاء الاتجاه الإسلامي الرئيسي في معالجة المسألة الفلسطينية ومسألة التغيير الداخلي نابعة من الفشل في فهم هذه العلاقة العضوية الجدلية ويتصل بذلك ما سبق أن أشرنا إليه من غياب الفهم الصحيح لطبيعة المجتمع ومن ثم لأسلوب تغييره .

وبناء على ذلك فنحن لا نعترض على أن تحرير فلسطين والانتصار على العدو مشروط بالعودة الذاتية إلى الإسلام ولكننا نعترض على فهم الاتجاه الإسلامي الرئيسي لطبيعة هذه العلاقة الشرطية وأسلوب تحقيقها؛

فالذي تنطق به الحقائق الموضوعية أنه يقدر ما أن العودة الذاتية إلى الإسلام شرط لفاعلية التحرير فإن الجهاد التحريري شرط في الوقت نفسه للعودة الذاتي إلى الإسلام أى أن العلاقة بينهما مزدوجة في الوقت نفسه وليس مرحلية كما تتضمن إستراتيجية الاتجاه الإسلامي الرئيسي حتى الآن ؛

وذلك مقابل الترابط العضوي بين فساد الأوضاع العربية الداخلية وبين الوجود الإسرائيلي والذي نريد أن نثبته في هذا السياق هو أن الجهاد لا يمكن أن يكون نتيجة بل هو الأسلوب أو الاستراتيجية الصحيحة للعمل الإسلامي لتحقيق كلا الهدفين المترابطين:

تغيير الأوضاع الداخلية وتحرير الأرض المقدسة ونعني بذلك أن الجهاد لا يمكن أن يكون هدفا مؤجلا يأتي نتيجة لتغيير الأوضاع الداخلية إسلامية إذ أن تغيير الأوضاع الداخلية لا يتم بغير الجهاد أنه أسلوب التغيير وليس نتيجة التغيير .

فالدعوة الفردية والتجمع التنظيمي الكمي والضغط الأدبي مع التوجيه والنصح والإرشاد لن يغير النظام الاجتماعي الكلي للأسباب الكثيرة التي أوضحناها في مواضعها سابقا .

ونعود فتذكر أن هذا الاتجاه حتى لو لم يستخدم وسائل العنف محظور في صورته المنظمة في معظم الدول العربية ويتعرض أفراده للقمع الوحشي أما إذا سمح له في بعض الحالات الاستثنائية ففي حدود مرسومة لا يجوز له تجاوزها وإلا تعرض لقمع مماثل؛

إلا إذا توهمنا أن نظاما عربيا ما سيصحو ضميره في يوما ما بخيار ذاتي خالص استجابة لتوجيهات الاتجاه الإسلامي فيثور على نفسه بنفسه وهذا ما لا يمكن أن يحدث أبدا ومجرد توهمه يدل على سذاجة متناهية وجهل تام ؛

وتاريخ الاتجاه الإسلامي رغم طوله النسبي أوضح شاهد على أن هذا الأسلوب المتبع لم ينجح حتى الآن في تغيير مجتمع عربي واحد إلى النظام الاجتماعي الإسلامي مما يستدعي إعادة النظر جذريا فيه .

الحركة الإسلامية مستقبلها رهين التغييرات الجذرية

صلاح الدين الجورشي رئيس تحرير مجلة 15- 21 في تونس

صلاح الدين الجورشي (تونس) من مواليد 1954

  • التعليم في معهد الصحافة وعلوم الأخبار يشتغل في المجال الصحفي منذ 12 سنة تحمل مسؤولية مدير تحرير ثم رئيس تحرير مجلة " المعرفة " التي كانت تنطق باسم الجماعة الإسلامية في تونس ثم رئيس تحرير مجلة " المغرب العربي" ورئيس تحرير مجلة " 15 -21 ".
  • له رسائل تم نشرها على التوالي " تجربة في الإصلاح" "مالك بن نبي" " الوعي بالذات " (صياغة جماعية وأول نقد ذاتي داخل الساحة الإسلامية) الحركة الإسلامية في الدوامة ومناقشة أفكار سيد قطب" "الانتفاضة" فلسطين المحررة أم فلسطين الإسلامية "
  • ويسهم في تنشيط مجموعة تدعي " الإسلاميون التقدميون" وهو عضو بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي (مؤسسة دستورية) ونائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .

الحركة الإسلامية مستقبلها رهين التغييرات الجذرية

لم يعد يشك أحد في أهمية الحضور الذي أصبحت تتمتع به الحركات الإسلامية داخل قطار ما يسمي بالعالم الإسلامي ويكاد يجمع الباحثون المختصون في شؤون محور (نواق شوط – جركاتا) أن كل حديث عن المستقبل السياسي والاجتماعي لهذه الرقعة الجغراسياسية يخلو من الأخذ بعين الاعتبار دور هذه الحركات هو حديث غير علمي

ولا يعتمد لهذا ليس عبئا أن تتولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في سنة واحدة (1983) التمويل الكامل أو الجزئي لأكثر من مائة وعشرين مؤتمر أو ندوة في موضوع واحد هو " الصحوة الإسلامية "

ففي ذلك دليل قاطع على تنامي هاجس الخوف من هذه الظاهرة لدي مراكز الاستخبارات والشؤون الاستراتيجية التابعة للدول الكبرى وهو هاجس بدأ منذ اغتيال الشهيد حسن البنا (12 فبراير 1949) وبلغ أقصاه بعد قيام الثورة الإيرانية لكن إذا كانت هذه تقديرات المختصين والخصوم فهل الحركات الإسلامية واعية بأدوارها وقادرة على تضمين مستقبلها؟

أى بتعبير آخر هل ترشحها أوضاعها الداخلية ومرتكزاتها النظرية وطبيعة علاقاتها ببعضها وببقية الأطراف الفكرية والسياسية إلى استدراك ما فاتها لتكون تحديات نوعية ستضاف إلى التحديات الحالية ؟.

حركات غير متجانسة

بماذا تتميز الحركات الإسلامية عن غيرها من التيارات السياسية والأيديولوجية المنتشرة في نفس القضاء الجغرافي ؟

إننا نقصد من خلال الإجابة عن السؤال إبراز هوية الحركات التي ستتحدث عنها والكشف عن مواقع القوة في خطابها والمبررات والعوامل التي تضافرت حتى تضمن البقاء والاستمرار والنمو إذ غالبا ما يقع التعرض للظاهرة دون ربطها بجذورها الاجتماعية والتاريخية أو القفز على خطابها الثقافي والأيديولوجي فتتحول نتيجة ذلك إلى موضوع خارج التاريخ لا نفقه آلياته ونعجز عن تحديد طبيعته ووظيفته .

ويجب التنبيه في البداية أن الحركات الإسلامية ليست متجانسة كما يتوهم الكثيرون فيسقطون في التعميم المخل إنها كيانات تنظيمات تختلف في برامجها ووسائلها وارتباطها ومراجعها العقائدية والفكرية كما تتباين في الحجم والأهمية من قطر آخر ومن تجربة إلى أخرى لكن اختلافها لا يمنع من التقائها حول أرضية واحدة على هشاشتها تبقي المبرر المنهجي لتصنيفها في خانة مختلفة نوعيا مثلا عن الأحزاب الشيوعية التي نشأت في نفس المنطقة وفي فترات متشابهة أحيانا .

الخطاب المعبئ

أول ما يميز هذه الحركات إلحاحها على اعتبار الإسلام " منهج حياة " كفيل بإعادة توجيه الأمة وإعادة الاعتبار إليها إقليميا ودوليا إن الإسلام لدي هذه التنظيمات أيديولوجيات أو منظمات تجيب على الأسئلة الصادرة عن الأفراد والمجتمعات ؛

وتبشر ببدائل عن المنظومات الفكرية والسياسية السائدة والحاكمة والموصفة إسلامية بـ"إسلامية" بل هذا الطموح يتجاوز حدود المنطقة ليطعن في " شرعية الحضارة المهيمنة " ويعلن عن الإسلام كعلاج لمشاكل العالم "

برز هذا الخطاب في مرحلة أخذت تتقهقر فيها المجتمعات التقليدية بمؤسساتها ومفاهيمه لحساب أنماط جديدة من التفكير والحياة لا تعطي للدين نفس الاعتبار بل تعمل في النهاية على حصره في مواقع وأبعاد معزولة وهامشية قياسا على التجربة الأوربية .

لكن وإن انهارت المجتمعات التقليدية في أكثر من مكان وانهزمت في أكثر من معركة فإن مقولة "الإسلام – الحل " اكتسبت قدرة استثنائية على التعبئة والتجييش وتجاوزت سياسات الحصار لتستمر بعد خروج المستعمر وقيام الدول "الوطنية" أو القطرية .

الصلابة الأخلاقية

وثاني ما يميز هذه الحركات تركيزها على الجوانب السلوكية والأخلاقية للأفراد والمجتمعات إنها الوريثة أو الامتداد في هذا المجال للمدارس الصوفية التي انهارت في معظم الأقطار خاصة بعد الاختراق العميق لأنماط السوق الرأسمالية فإن الحركات الإسلامية تعمل جاهدة لإخضاع الفرد إلى عمليات إعادة صياغة لذاته وذلك عبر نقل المفاهيم والقيم ومراقبة السلوك إلى درجة التدخل في جزئيات حياته الخاصة من زواج ولباس وطعام وصداقات وترفيه وتعليم وممارسة جنسية الخ .

هذا النشاط الاحتوائي والتعبوي يرمي إلى " عزل " الفرد عم المحيط " الجاهلي " أو الحد من تأثيرات هذا المحيط على الفرد وبذلك ينشأ التناقص وينمو بين الذات والواقع السائد , لينتهي في الأخير إلى مواجهة بين مجموعة الأفراد الخاضعين لمنهج محدد في " التربية " وبين المؤسسات والسلطات الساهرة على تثبيت النمط المهيمن .

- لقد أكسب البعد التربوي التيار الإسلامي صلابة وقوة مقابل بقية التنظيمات الداعية للتغيير , والتي أسقطت من اهتماماتها تربية أفرادها وفق مواصفات أخلاقية متميزة مما جعل أعضاء هذه التنظيمات مهيئين أكثر للانخراط الذوبان في نمط المجتمع الاستهلاكي بدل مواجهته بل والدفاع عنه بحكم تحولهم إلى جزء منه , حيث ترتبط مصالحهم ببقائه واستمراره لقد أغفلوا أن " الجماهير " ما زالت تؤمن بالقدوة الحسنة , وبالفعل الطيب , وبطاعة أوامر الدين واجتناب نواهيه, ومن ثم كان من السهل أن تخرج قياداتها الوطنية من أئمة المساجد , وفتوات الحارات فالقدوة الحسنة هي الرباط بين الجماهير وقيادتها وهي في الغالب قدوة حسنة خلقية .


- إن الإسلام قد يضعف ويختل توازنه , لكن ومع ذلك يبقي أكثر وفاء لقيم المشروع العام الملتزم به , نتيجة الضغط النفسي للمنهاج التربوي الذي رافق مسيرته الذاتية .


- التنظيم الدفاعي


- إذا كان التنظيم أو حالة التنظيم قاسما مشتركا بين التيارات الإسلامية وغيرها فإن طبيعة التنظيم الذي أنتهجه الإسلاميون عموما تبقي مختلفة وذات خصوصيات يكادون ينفردون بها .

- فالمعارضات التي نشأت في التاريخ الإسلامي منذ أواسط القرن الأول الهجري اختار معظمها صيغة التنظيم المحكم والمنغلق على نفسه , وكلما اشتد قمع السلطة واتسع سلطانها زادت التنظيمات المخالفة انغلاقا وسرية .


- وإذا كان الشيعة قد حافظوا على تقاليدهم التنظيمية كفرقة مستقلة لها هرميتها وهياكلها , فإن أهل السنة كأغلبية حاكمة نمت ضمنها الجماعات والطرق الصوفية كأشكال متميزة لتأطير الأفراد الباحثين عن حماية " روحية تعزلها حد عن بطش السلطة ولا عدلها ونفاقها الديني والسياسي .

- وإذا كانت الأحزاب الليبرالية والاشتراكية والقومية قد تشكلت في مجتمعاتنا في ضوء استعارات تنظيمية لمؤسسة الحزب الحديثة , فإن الحركات الإسلامية وإن اقتبست بدورها بعض الأشكال الحزبية من الغرب إلا أنه بقيت ملتصقة مفاهيميا بالتراث التنظيمي للفرق الإسلامية الرئيسية , لأصول العلاقات الصوفية ذات الأبعاد الاجتماعية والتربوية والدينية وهو ما أكسب التنظيمات الإسلامية نوعا من الجاذبية والهلامية تفتقدها بقية الأحزاب السياسية مهما عظمت ولقيت الدعم من قبل الدول القائمة .


- البحث عن الجذر الاجتماعي .

- من أهم مرتكزات العمل الإسلامي المسيّس والمنظم في واقعنا الراهن , والمعبر عنه , بمصطلح الحركات الإسلامي لكننا نبقي سطحين لو اعتبرنا هذا كافيا لتفسير الظاهرة وتعليل نموها وانتشارها أن الظواهر الثقافية والاجتماعية لا تفسر فقط من حلال تكيك بنيتها الداخلية فهي كيان غير مستقل بذاته , إنها جزء من كل وهذا الكل هو المجتمعات العربية والإسلامية التي دخلت مرحلة تاريخية جديدة منذ فقدت استقلالها ومسكها بزمام المبادرة الحضارية وتحولت إلى مجتمعات تابعة للمركزية الأوربية ثم الغربية .


- إن من عيوب الإسلامي أنه لا يسأل نفسه لماذا تستجيب لخطابه بعض الشرائح الاجتماعية أكثر من غيرها (الشباب والفقراء بالخصوص) في الوقت الذي تعرض عنه شرائح أخرى أو ربما تعاديه وتحاربه (مثل المثقفين والمترفين جدا) وإن كانت الشرائح الأخيرة وخاصة ذوي الثروات قد يلتفتون في إحدي المنعرجات ويظهرون له الاستجابة والتأييد .

- إنا إذا طرح على نفسه هذا السؤال فغالبا , ما يصاب بالنشوى ويزداد تمركزا حول ذاته , ويفسر تفسيرا , كأن الإيمان بالله وقدرته يتنافي مع الاعتقاد بالسببية وخضوع التاريخ لسنن وقوانين تحكم مسيرته ومحطاته وتقلباته .


- القيم التاريخية تقاوم

- إن الغرب في إحدي تعريفاته هو هذا النظام الدول القائم والذي حول العالم قسرا إلى مركز وأطراف يستهدف النظام الدولي إلى مركزه الثورة والقرار والمعلومات وذلك من خلال توحيد الأسواق , وإلغاء الحدود والحواجز الاقتصادية في وجه الشركات متعددة الجنسيات , والحفاظ على التوازنات العسكرية الحالية , مع تنميط المجتمعات وبنسخ الثقافات والقيم الماقبل صناعية أى التي لا تخضع للموازين الغربية .


- وقد نجح الغرب أيما نجاح في اختراق مجتمعات " الأطراف " وخلخل بناها وأسسها التقليدية , لكنه لم يستطع القضاء على قيمها التاريخية بل على العكس لوحظ وجود مقاومة شديدة لأنماط الهيمنة الغربية في مرحلتي الاستعمار المباشر وغير المباشر وتبين كذلك أن الثقافات والفضاءات الدينية القديمة والأصلية هي التي اعتمدت كأرضية شعبية لهذه المقاومة (حصل هذا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى في أوربا الشرقية : بولونيا)

- الدور الخفي للظاهرة


- فالظاهرة الإسلامية هي تعبيره رئيسية من تعبيرات الدفاع الشامل لمجتمعات تعاني من التفكك والاهتزاز مجتمعات فقدت الكثير من إرادتها المستقلة , ومن وحدتها الداخلية , وأصبحت محكومة بتناقضات حادة اجتماعيا ازدياد الفوارق (الطبقية) وسياسيا (بين الدول والمجتمع) وثقافيا (في مستويات اللغة وطرق التفكير وتعاطي الحياة) وطائفية (زيادة الانقسامات المذهبية والدينية والعرقية وكل انقسامات ما قبل الأمة) إن الظاهرة الإسلامية محاولة راعية في غالب الأحيان كل تلك التناقضات وتجاوزها وردا على الهيمنة الخارجية وفشل الدول القطرية داخليا .

- يخطي الإسلاميون عندما يعتقدون أن الصدى الذي يلقاه خطابهم مرجعه قوة الخطاب الذي أنتجوه , وينسون أن الاحتماء بالمسجد هو بحث عن الذات ودفع للخطر وتجديد للحلم وتحدي للأزمة , فالظاهرة دليل على قوة الإسلام وعمق انغراسه في المجتمع والتاريخ وليست دليل على قوة الإسلاميين وانتصار لكياناتهم إنهم يستفيدون من أوضاع لم يصنعوها ولم يفكرون فيها بشكل علمي وعميق .


- عامل آخر ساهم بقوة في دعم رصيد الإسلاميين دون أن يكون جزء من رأس مالهم , ونقصد به أزمة الأيديولوجيات المنافسة , لقد تعرضت كل من الاشتراكية ( في قراءتها الماركسية بالخصوص ) والقومية ( ناصرية كانت أو بعثية ) إلى هزات معرفية وسياسية أفقدتها الكثير من بريقها .

- إن حصيلة خمسين سنة من التجارب الاشتراكية في مواقع مختلفة من العالم بينت قصور النظرية الماركسية , ورغم التعديلات التي أجريت من هذه الجهة أو تلك وبعض المكاسب الهامة التي تحققت فإن ذلك لم يخفف من قبح النظم السياسية التي شكلتها الأحزاب الماركسية في أوربا وآسيا وأفريقيا بما في ذلك الوطن العربي والإسلامي .


- وفي نفس السياق تعيش الحركات والأنظمة القومية حالة انحسار شديدة بعد سلسلة من الأخطاء والانتكاسات والصراعات جعلت حتى الحزب الواحد غير قادر على إصلاح ذات البين بين جناحيه وإذا كان تباين المصالح واختلاف التحالفات وحصول تداخل بين القومي والطائفي هي أسباب مباشرة لهذا الانحسار , فإن ضعف البناء الأيديولوجي للطرح القومي وتورطه في نزعة تماثلية مع القومية في ثوبها الأوربي , عوامل أخرى ساهمت أيضا في إرباك الصفوف القومية لم تفقد تماما حضورها السياسي .

- وهكذا ومع حصوله هزيمة 67 عاد شعار الإسلاميين المتعلق بفشل " الحلول المستوردة " ليحتوى أزمة الآخرين , ويسقط اهتمام الشباب بالخصوص , باعتبارهم الجهة المرشحة أكثر من غيرها بحكم الشعور بالحرمان – للاشتغال بقضايا الأيديولوجيا والتغيير .


- ستون سنة من المحاولة

- تلك هي أبرز مقومات خطاب الحركات الإسلامية , وأهم العوامل التحتية التي تساهم بقوة في انتشار ودعمه وهي عوامل تدل العديد من المؤشرات على استمرارها , ورما استفحالها خلال العشرية الخيرة من هذا القرن وربما السنوات الأولي من القرن المقبل , وهذا يعني أن الحركات الإسلامية ستبقي الأوضاع والظروف ترشحها للقيام بدور المجمع للتناقضات والمصدرة في نفس الوقت بتفجيرها طيلة الحقبة الزمنية القادمة .


- لكن ليست هذه المرة الأولي التي تتوفر فيها الشروط المواتية للانتعاش وتحقيق الأهداف المعلنة من قبل الحركات الإسلامية لقد بدأت تتوفر هذه الشروط منذ تراجع الخطاب الإصلاحي لرموز النهضة , وإلغاء الخلافة العثمانية وإحاطة الاستعمار برقاب المجتمعات الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولي .

- أى أن الحركات الإسلامية لها أكثر من ستين سنة وهي تتصدر الساحة , وتعد بالتحولات وتقوم بتحركات استعراضية هنا وهناك لكن وبالرغم من ضخامة التضحيات التي قدمتها والعدد الهائل من الشباب والكتل البشرية التي احتضنتها وربتها وأصلحت الكثير من أخلاقها , ورغم إلحاحها المستمر على الإسلام مما جعله دائم الحضور ورغم الأزمة الشاملة وقوة الحصار الدولي , إلا أن معظم الأهداف التي نادت بها هذه الحركات خاصة في الرقعة السنية لم تتحقق إن لم نقل جميعها , وهو وضع لا يمكن تفسيره إلا إذا اعتبرنا هذه الحركات على حيويتها الظاهرة تعاني من أزمة هيكيلة وليست عرضية جعلتها غير قادرة على استثمار تضحياتها , فهي تقوى بالأزمات وتضعف عندما يخف ضغط الأزمات , لتعود من جديد مع تجدد حدة الأزمات إنها تحترق من أجل غيرها , لأنها لا تستمد أساسا القوة من ذاتها .


- الخلل ضمن المنظومة

- ومن المفارقات أن عوامل القوة في خطاب الحركات الإسلامية تحتوى في نفس الوقت على عوامل الضعف والانكسار أى أن الخلل المركزي الذي يفسر لنا جانبا مهما من تعثر هذه الحركات , ودورانها في مواقعها , رغم العوامل المساعدة يكمن داخل المنظومة التي تتبناها , وليس خارجها , وهو الأمر الذي لا تزال قيادتها ترفضه بإصرار حتى اليوم .


- إن هذه القيادات , إن أنكرت وجود أزمة , إلا أنها لا تستطيع إنكار وجود تعثر , وعدم توازي بين التضحيات والمكاسب وعندما تسأل من بعض قواعدها عن هذا الخلل , لا تتردد في تقديم , إجابات تستحق الكثير من التوقف والتحليل إن خطاب الحركات الإسلامية كما وفر لنفسه قواعد ارتكاز أيديولوجية ابتكر جهازا مفاهيميا لتبرير الأخطاء وتفسيرها ضمن سياق يحمي التوجهات العامة ويحافظ على المسار .

- مقومات الخطاب التبريري


- ليس هذا البحث مجال للتعرض بالتفصيل للجهاز التبريري عندي الحركات الإسلامية , لكن مع ذلك من المفيد أن نشير إلى بعض آلياته الدفاعية حتى يكون حديثنا إلى " الموضوعية " وحتى تمهد لنقد المنظومة كلها .

- يدفع " الجهاز" بقوة كل شك قد يتسرب إلى المنهج , وذلك بالقول أن الحركة تسير في طريق الأنبياء , وأن النجاح مرتبط عضويا بمدى الاقتداء بالرسول صلي الله عليه وسلم , ومنهج الدعوة عندها ليس عملا اجتهاديا , وإنما هو جزء من الوحي و هي الفكرة التي سيجها بعمق الشهيد سيد قطب , وقطع بذلك كل محاول للطعن في المنهج العام للحركات الإسلامية فما بالك بمضمون الخطاب الذي يعبر عنه بمصطلحات متداخلة لإخفاء الشرعية المتجهة نحو " التقديس " مثل " الرسالة " " الدعوة " الشرع " " الوحي " " النص " وكلها مفردات تعطل الحس النقدي , تنمي الاستعداد للتلقي والتنفيذ .


- وعندما نقفل أبواب الخطاب والمنهج , يقع اللجوء إلى " الفرد " و" المجتمع " " الدولية " و" القدرة " لتفسير النكسات والمحن والأخطاء .

- * الفرد : حيث يتسع الحديث عن " التزامه " وانضباطه , وقوة إيمانه أو ضعفه , ومدى حبه للدنيا وقيامه بالفرائض والنوافل , واستعدادته للتضحية ووعيه بتلبيس إبليس ..


- المجتمع : حيث تقع المبالغة في وصف انحرافاته وتضخيم أخطائه وجهله بالدين , وهيمنة القوى المعادية له , والتنظير لمفاصلته نظرا لمساندته وللجاهلية السياسية والاجتماعية .

- الدولة : هذا الجهاز الذي قاسي منه الإسلاميون الأمرين لهذا يحملونه مسؤولية مركزية في تعطيل مشروعهم إنه جهاز الأهواء , والطابور الخامس لأعداء الإسلاميين العالميين ومن خلالها تتسرب وتنفذ مخططات القوى الدولية المعادية : الشيوعية والصليبية اليهودية .


- القدر : هذا المشذب الخطير الذي تعلق عليه مصائب خطيرة , لقد صنعت الأدبيات الإسلامية الحديثة من خلال ما يسمي بفقه الحركة عالما وهميا للعزاء يلخص في كلمة " المحنة " فالله هو الذي قدر أن يضطهد الإسلاميون , حتى يمنحهم ويجزيهم على قدر صبرهم كأن المحن خارج السنن ولا يحاسب عن صنعها ونتائجها في التصور الإسلامي !

- هكذا وبفضل هذه الآليات وغيرها تحاصر الأزمة كلما احتدت . لبقع إعادة إنتاجها في مرحلة أو منطقة أخرى ومن أصر وتمسك بضرورة التغيير الجذري , يتم عزله , وتوجه له الأسلحة الثقيلة :" التخاذل " " الخروج على الجماعة " " حب الدنيا والخوف على النفس " " المتساقطون " طبعا مع " كشف " بالأشعة الحمراء لسلوكه وارتباطاته ومصالحه إلى آخر تفاصيل حياته الشخصية قصد إعدامه وهو حي وقاية للجسم من تسرب الخلايا المضادة .


- الشعار الفاقد للمضمون

- نعود إلى ما أسميناه بـ " مميزات الحركات الإسلامية " والتي اعتبرناها عناصر القوة في هذه الكيانات , ونعمل على تفكيكها واحدة تلو الأخرى للكشف عن الفرامل المنسوجة داخل هذه العناصر .


- ونبدأ بشعار : الإسلام منهج حياة وبديل حضاري " وهو الشعار الذي حافظ على الوحدة الداخلية للمشروع الإسلامي من حيث كونه دين تغيير وإنماء مجتمعي وكوني , لكنه مع الحركات الإسلامية لم يتجاوز مستوى الشعار ودور التعبئة والاستقطاب .

- ما الإسلام ؟ سؤال بسيط , لكنه محورى بالنسبة لحركات رشحت نفسها للدفاع عن هذا الدين وتجسيده , وبالرغم من بساطته ومحوريته ستشعر بالإرهاق وأنت تبحث له عن إجابة واضحة وشاملة ضمن الأدبيات الكثيفة للإسلاميين ستجد ما يلي : إنه " خاتم الديانات " ," الدين الحق " " كلمة الله للناس " ," والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر " قواعد الإسلام الخمسة والترقي في درجات الإحسان وتنتهي بها التعريف إلى حيث بدأت " منهج الحياة " .


- لا خلاف في أن الإسلام يشمل كل هذا لكن الاكتفاء به والحفاظ على طريقة عرضه لن يفيد في عصر يرتكز على المعني وأوجدت عشرات المناهج ليعطي للامعني بل معان وعندما تلقي العرب الوحي , لم يكتفوا بدعوته العامة للتوحيد , ولم يبقوا مشدودين إلى بنائه اللغوي ولم يبقي الرسول صلي الله عليه وسلم يتجول في الطرقات وينتقل بين المجالس ليردد كلمة واحدة " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " كما تدعي بعض الكتابات لقد تشكلت لدي العرب تدريجيا , جملة من المفاهيم الجديدة رجت العقائد الخرافية والتقاليد الموروثة لكنها بدأت تنسف من خلال ذلك نمطا مجتمعيا سائدا لتطيح بعلاقاته ومصالح فئاته الحاكمة وأخلاقيات الاقتصادية والاجتماعية ولينقله من وضع ما قبل الأمة والدولة إلى فضاءات كونية وحضارية لا عهد له بها من قبل أما اليوم فإن الخطاب الإسلامي في عمومه لم تتضح معالمه حتى لدي أصحابه , فما بالك عند النخبة والجماهير , ولهذا نراه لدي الإسلامي وعند غيره لا يخرج عن صورتين :

- - إما هيكلة ضبابية مشحونة بالعقيدة والطموح , ويغمرها الشعار والتضامن والمنزع الأخلاقي ونقد الآخر وتوظيف الأزمة والانغماس في الممارسة بتضخيم فقه الحركة على الفكر والتحليل , والمراهنة على الحلم والانتظار .

- - وإما هيكلة تاريخية مسكونة بالتراث , كل حسب فرقته ومذهبه ومراجعته ومصادره , حيث تتجمع من جديد معلومات عن أصول الدين وأصول الفقه , لتختلط بالتصوف ورواية التاريخ رواية متقطعة وانتقائية مع " تجديد " في صيغ التعبير والإخراج .


- وفي كلا الحالتين يبقي السلم مرابطا في مكانه , يكتوي بأزمة التجارب التنموية الفاشلة وينتظر من يحول أحلامه المشروعة إلى حقائق ملموسة فالدين عنده ماض جميل لكنه غير قابل للتكرار , والواقع لديه نار لم يقدر على إطفائها وأمامه غرب جميل لكنه مفترس .

- النتيجة من جنس المشروع


- إن افتقار الحركات الإسلامية إلى الوضوح والصلابة النظرية في مواجهة التحديات المعاصرة هو الذي يدفعها إلى نهايات ثلاثة :

- 1- الانغماس في كتب التراث بحثا عن أجوبة لتساؤلات الحاضر , فتقع بذلك في الانتقائية التاريخية , وتعيش على حساب المجاد العلمية للسلف , تدفع نفسها والمهتمين بها وخصومها إلى الانخراط من جديد في صراعات واهتمامات الماضي البعيد والقريب .


- 2- تسطيح الصراع الفكري والأيديولوجي الدائرة بينها وبين بقية الأطراف المختلفين معها جزئيا أو جذريا ليس فقط بسبب , إعادة طرح كميات ضخمة من إشكاليات الماضي, ولكن أيضا بالمساهمة في تغذية حرب السباب والإقصاء التي يساهم فيها الجميع مما يكشف الدرجة التي وصلت إليها العلاقات داخل المجتمع الواحد لا إيمان إلا بالذات " الأنا " ولا مكان للمغايرة ( أى للأخر ) .

- 3- وعندما تضغط الأحداث, وتجد الحركات الإسلامية نفسها مضطرة للتعريف ببرنامجها الإصلاحي تعمد إلى التلويح بتطبيق الشريعة , وتخوض معركة حامية الوطيس من أجل إقامة الحدود ومنع المحرمات كالخمر والميسر , والحيلولة دون أحداث تغييرات في قوانين الأحوال الشخصية والقضاء على الربا بالعمل على إنشاء ما يسمي بالبنوط الإسلامية , وشن الحملات الإعلامية والمسجدية ضد البرامج التلفزيون وبهذا تعمل الحركات إلى أقصي عطاءاتها الفكرية والسياسية أى الإفصاح عن بدائلها المجتمعية عندها لا تكون فقط قد كشفت عن محدودية فهمها للإسلام والتعقيدات الواقع المحلي والدولي الراهن ولكنها تحملت مسؤولية تلك الصورة المزرية التي يروجها الخصوم والشائعة جدا في أوساط جماهير المسلمين صورة المشروع الإسلامي وقد اختزل في مشاهد متفرقة : قطع أيدي تكسير قوارير الخمر , جلد الزناة , وملاحقة النساء لإجبارهن على لبس الخمار العودة إلى حياة الحريم . إلخ .


- إن ما سبق عرضه يبين الفقر الفكري الذي تعاني منه الحركات الإسلامية رغم الامتلاء الظاهري للمكتبة الإسلامية , إن فكرة هذه الحركات في حاجة إلى نقد عميق يغوص في خلفيات المفاهيم وأدوات التحليل , إلى مراجعات وإعادة تأسيس يأخذ بعين الاعتبار في الآن نفسه خصوصيات الفكر الإسلامي وتحديات اللحظة الراهنة للزمان والمكان من تراكمات ومكاسب وصراعات وفضاءات .

- حصاد التربية


- ننتقل الآن , الميزة الثانية للحركات الإسلامية والتي مثلت كما رأينا عنصر قوة , وهي تركيزها على تربية الفرد وإعادة صياغة ذاته فالحركات الإسلامية هي من التنظيمات القليلة التي تحيط بأعضائها وتحدث فيهم تغييرات جوهرية لى كل جزئية من جزئيات حياتهم الشخصية .

- وتدخلهم فعلا إلى " عالم متميز وحالم " لكنها بعد أن تصنع ذلك وتنجح فيه , تبرز للوجود شخصية فردية قوية في جوانب تحمل ثغرات عميقة في جوانب أخرى من أهمها :


- - نظرة " مانوية" للعالم , لا ترى فيه إلا خيرا وشرا , وإيمانا وكفرا إسلاما وجاهلية أنصار وخصوما ضلالا وفسادا , ونتيجة هذه النظرة بقوة إلى تنزيه الذات وتدنيس الآخر ( الخصم – المجتمع - الحاكم / الدولة – بقية العالم ) فيفقد بذلك الفرد القدرة على التحليل والتفكير , ويسقط من حسابه التضاريس التي لا يخلو منها كائن أو مجتمع أو وضح أو حتى خصم إن الحقيقة نسبية , ولا يملكها إلا الله وقد وزعها على كل عبادة بنسب متفاوتة ليحتاجوا إلى بعضهم , ويتكاملوا حتى وهم يتصارعون .

- - حرص شديد على التميز بترتيب عنه انفصال عن الواقع بتعقيداته , وابتعاد عن هموم الناس ومشاغلهم وحياتهم اليومية وغالبا ما يتساءل الإسلاميون لماذا لا تحرك جماهير المسلمين ساكنا عندما يتعرضون هم إلى التعذيب والتشرد والقتل وينسون عزلتهم عن الناس الذي لا يحتكون بهم إلا في المسجد الذي لا يجمع كل الناس إن الجماهير تبدي التعاطف والالتحاق مع من يسندها في قضاياها اليومية , ويدافع حقا عن معاشها وحرياتها وحقوقها المسلوبة , ويمد لها العون بدون من ولا ارتشاء سياسي , أما من ينعتها بالجاهلية , ويتسامي عليها , ويدعو إلى عزلتها , ويصفها بالعامة والغوغاء فبأي حق بعد ذلك أن يطلب منها العون والسند ؟...


- - طغيان خطاب " أخلاقي " يتسم بالعاطفة الوعظية , فالإسلام عموما لا يفرق بين الأخلاق " الأخلاقوية " الخلاق قيم وضوابط لا تخلو منها دعوة جدية فما بالك بحركة إسلامية أما الأخلاقوية فهي " منهج " يفسر كل الظواهر والاجتماعية بالعامل الأخلاقي .


فتفسر الطبقية والاستغلال بحب المال والتعليق بالدنيا والاستبداد السياسي بفساد خلق الحاكم وميله للسيطرة والفساد الاجتماعي بتحرر المرأة ومشاركتها في المجتمع والتبعية الاقتصادية والسياسية بهمينة اليهودة على العالم عبر التفسير التآمري للتاريخ حتى شعر الإسلاميين نادرا ما يخلو من المباشرة والحماس الوعظي.

- - إن العامل الأخلاقي مساعد في شرح ظاهرة ما وإصلاحها لكن هناك عوامل أخرى لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار كالعامل الاقتصادي والخلفيات السياسية وموازين القوى , والعامل الجغرافي والتاريخي إلى غير ذلك من العناصر التي بإسقاطها يختل التحليل العام ويفقد الخطاب عمقه وجديته ويتحول إلي وعظ وإرشاد إن الشعوب تمل من الوعظ وتكره الاستماع إلى الوعاظ – إلا إذا أجبرت , بل تشك في صدق كلامهم ونواياهم .

- السعي للتماثل وتطابق الشخصيات , بتضخيم مبدأ القدوة وتقليص الفردانية مما يترتب عنه نفي للمغايرة داخل الكيان الواحد من ذلك على سبيل المثال التخطيط المحكم لتحقيق وحدة التفكير , إلى درجة تنظيم مطالعات الفرد وعدم السماح له بحرية الاحتكاك بمصادر الفكر المختلفة خوفا عليه من التأثر والانحراف , وتكون النتيجة ضعف المستوى العام لأفراد في المجالات النظرية لأن حرية البحث والمبادرة , والإطلاع بدون حواجز على المصادر المختلفة هو الأسلوب الأمثل للإبداع والنمو .


- إن توحيد السلوك والتفكير والأذواق وتنظيم الحياة الفردية والمظهر العام وطرق التخاطب سياسة تناقض مع الحياة القائمة على التنوع والتكامل ومن الأشياء التي نادرا ما يقع الانتباه إليها , ولم تخضع للتحليل العميق من قبل الإسلاميين الكيفية التي ربي بها الرسول صلي الله عليه وسلم أصحابه إن عمر يختلف عن أبي بكر , وعثمان يختلف عن علي , وبلال مغاير بشكل واضح عن أبي ذر , ونادرا أن نجد صحابيان احتك مباشرة وعن قرب بالنبي تتطابق شخصيته مع آخر عاش معه نفس الظروف , وذلك بالرغم من وجود القدوة التي هي النموذج الأعلي كيف أنتجت القدوة الواحدة النماذج المختلفة والمتنوعة ضمن الإطار الفكري والقيمي الواحد ؟


هذا السؤال الذي يجب أن تتمحور حوله منابع التربية عند الإسلاميين فالرسول صلي الله عليه وسلم كان قدوة متعددة البعاد والمستويات وكان فعلا يفرغ صحابته ثم يملؤهم ؟ كما قال أحدهم , لكنه لم يكن يفرغهم ويملؤهم بنفس الطريقة إن المتتبع لسيرته يلاحظ أنه يتعامل معهم حالة بحالة يوحد قناعتهم وأهدافهم , وفي نفس الوقت يحافظ على خصوصياتهم الفردية لهذا عندما يقيمهم كأشخاص يبرز ما يتميز به كل منهم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ( المرونة ) وأشدهم في أمر الله عمر ( الصلابة السياسية ) وأشدهم حياء عثمان ( ليونة كبيرة وعدم مواجهة ) وأقضاهم على ( الحرص على العدل ) وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ( بعد ضروري في مجتمع يحتكم للشريعة ) وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرئهم أبي بن كعب ,ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح , وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر , أشبه عيسي عليه السلام في ورعه , قال عمر : أفنعرف له ذلك يا رسول الله ؟ نعم , فاعرفوا له ( جرأة في قوله الحق دون أطماع شخصية ) ".


- - سيادة النظرة التجزيئية للأخلاق حيث تتضخم المسائل السلوكية على حساب القيم العامة وتغليب الضوابط ( قائمة المحرمات ) على الدوافع ( عالم الحلال الواسع ) لهذا تجد الإسلامي أكثر حساسية لمشهد فيه مقدمات للزنا , من مشاهد أخرى تبرز التفاوت غير المبرر بين الناس والظلم الاجتماعي , وتراه ميال لغض البصر أكثر من حرصه على فتح العيون واسعة لفهم ما يجري في المجتمع والكون كما هو أحرص على التحرك و ربما القتال من أن يقضي سنوات في تعميق مبحث أو مراجعة مسألة نظرية .

- التنظيم سيف ذو حدين


- " التنظيم " هو الميزة الثالثة والخيرة التي تحدثنا عنها في مطلع هذا النص , وقلنا أنه بالرغم من اشتراك الحركات الإسلامية في فكرة التنظيم مع بقية التيارات السياسية إلا أن التنظيم لديها أبعاد ومضامين مغايرة لأنه يسبح في فضاءات مختلفة .

- و" التنظيم " إن كان في إحدى وجوهه عاملا رئيسيا من عوامل القوة وقناة مركزية من قنوات إحياء المشاريع التاريخية ( خاصة بالنسبة للحركات السنية ) إلا أنه من جهة أخرى جر الكثير من الويلات في مستويين : العلاقات الداخلية , والعلاقة بالأنظمة التي لا تزال تتميز بالتوتر والمواجهة .


- وأول ما يجب القيام به قبل التعرض بنوع من التوسع إلى المستويين هو التوقف قليل عند الإشارة السابقة المتعلقة بتميز الحركة الإسلامية عن الحزب .

- ما هي الحركة الإسلامية من الناحية التنظيمية ؟ إنه ليس سؤالا شكليا ولا هو نوع من الحرص على التعقيد إنها مسألة مفاهيمية جد شكليا ولا هو نوع من الحرص على التعقيد إنها مسألة مفاهيمية جد هامة , ونعتبرها مدهخلا لفهم سوسولوجي – معرفي لطبيعة هذه الحركات ولمتابعة مضاعفات التنظيم عليها وعلى المجتمع إنها ليست مجرد حركة دينية كالطرق الصوفية مثلا أو التيارات الثقافية والاجتماعية التي تشكل عادة في جمعيات ونوادي لأداء وظائف محددة وهي أيضا ليست حزبا سياسيا عاديا سواء , إذا قارناها بالأحزاب في الغرب أو بما يسمي أحزاب عندنا وهي أيضا بعيدة عن أن تكون فرقة حسب المواصفات التي لازمت ولادة الفرق في تاريخنا الإسلامي لأنها عموما ليست صاحبة مدرسة متميزة في الكلام أو المذهب ولا شبه بينها وبين الطائفة لأنها لا تمثل انقطاعا عن المحيط العام للمجتمع لكن كل هذه الأبعاد نجدها بنسب مختلفة تتقاطع داخل الحركة الإسلامية


- إنها أقرب إلى " الجماعة – الحزب " أو " الظاهرة – التنظيم) فهي ليست مجرد تشكل سياسي يهدف إلى استلاف السلطة , وإنما قراءة للدين والثقافة والمجتمع قد تجسدت في " نمط " من التربية وأشكال من التنظيم من أجل أهداف , من شدة ضخامتها تصبح مبهمة لكنها توحي بالقطع مع السائد , وتدعو إلي ولادة " جديدة – قديمة " وإلى موقف مستقبل


- كما تعيد للذاكرة معالم المتعرجات الكبرى في التاريخ , وفكرة الاحتكار الكامل للنفوذ والقوة لهذا لم يكن عفويا أن يثير حسن البنا هذا الإشكال , فقد كان واعيا به لما رفض اعتبار " الإخوان المسلمين " حزبا من الأحزاب , بل لما رفض تعدد الأحزاب أصلا وسيد قطب كان أكثر وضوحا عندما دفع هذه الفكرة إلى أقصاها إلى درجة التوحيد بين التنظيم والمجتمع " فالجماعة " انتقلت من معناها التنظيمي الضيق إلى معني الأمة أو نواة الأمة (دار الإسلام مقابل دار الحرب) وذلك عبر استعادته التاريخية لتجربة النبوة .

- أ- العلاقات الداخلية :


- لقد أوكلت مهمة التربية والتكوين – في حدود المفاهيم التي تعرضنا لها سابقا – إلى التنظيم وهكذا وجد " الجهاز " نفسه يتمتع بصلاحيات واسعة للتصرف في حياة الأفراد ومصيرهم وليحقق ذلك يعمد إلى :

- * زرع الولاء الكلي إلى " الجماعة " إلى درجة جعلها فوق العائلة والمجتمع والوطن وعندما تصبح " الجماعة " كيانا بديلا عن المجتمع والوطن يحصل خلل فظيع في سلم الأولويات لدي الأفراد ويتولد التناقض بين الأبعاد : مصلحة التنظيم المجتمع أو الشعب البعد الإسلامي مقابل البعد الوطني .


- * تضخيم القيادة وتصغير القاعدة بإضفاء التسامي على " الأمير " وإيلائه مكانة خاصة وتمكين من صلاحيات استثنائية تتنافي مع الروح الجماعية , فتصبح بذلك السلطة داخل التنظيم هي الاستمرار الضمني للسلطة التاريخية , أو إلى حد ما انعكاس غير إداري للأنظمة التي يحاربها الإسلاميون ويذهبون ضحيتها ويتضخم ذلك كلما ضاقت فرص الشوري , وغابت اللوائح والقوانين الداخلية المحددة للصلاحيات وتباعدت المؤتمرات لأسباب شتى , وقلت المؤسسات أو جمعت في أيدي عناصر قليلة واشتدت الأمية .

- * خلق ازدواجية تنظيمية : سرية – علنية , أحزمة ونواة جناح مدني وجناح عسكري , وهي ازدواجية لابد من أن تنعكس آثارها على الفرد وهو يتعامل مع المجتمع حيث يصاب بازدواجية أيضا في خطابه كلما حاول أن يكون ديمقراطيا في سلوكه السياسي , كأن يجاري الناس في شعارات لا تقرها أصولها النظرية , أو يؤمن بالتعددية الشاملة ويقر في الآن قتل المرتد؟.


- ب – العلاقة بالسلطة :

- إذا أن الأنظمة عموما لا تهتم كثيرا بالأفكار و لا ترى فيها خطرا مباشرا لهذا تراها مستعدة لتبني جوانب من الخطاب لا تكلفها كثيرا ولا تؤثر على مصالحها الحيوية ,إن أهم ما يزعجها في الظاهرة الإسلامية تشكلاتها التنظيمية وميلها إلى السرية , والتوسع التحتي , وإمكانية لجوئها إلى العنف وإلحاحها على مسألة الحكم .


- لهذا لم يخرج موقف الأنظمة من الحركات الإسلامية عن ثلاث تكتيكات: - - القمع بشراسة , سعيا للاستئصال , وفصلا للقيادات عن القواعد وقطعا للخارج عن الداخل , وتفجيرا لأجهزة التنظيم .

- - غض الطرف , إقرار الهدنة , والاكتفاء بمراقبة الجسم عن كثب , مع مناوشات من حين لآخر كعلامة للإشعار بالوجود .


- - التحالف والإيهام بتقاسم المشروع والنفوذ مع العمل على احتواء الحركة وترويضها عساها تحل تنظيمها , أو تفقده المناعة .

- فالتنظيم خلق مشاكل خطيرة للحركات الإسلامية وإذا كان من الصعب بل أحيانا من غير المفيد , إقناعها بالتخلي نهائيا عن التنظيم , إلا أنها ولا شك في حاجة ملحة جدا لمراجعة وتقويم تجاربها التنظيمية , ومضطرة كذلك إن أرادت استثمار طاقاتها بشكل أفضل إلى ابتكار فلسفة جديدة للتنظيم تقوم على التعدد وتنمية المواهب والطاقات الفردية , وتعميق وتأصيل الإسلامي في مجتمعه وغرسه في وطنه وبين الناس .


- * تنظيم يميل إلى الجبهات منه إلى النواتات الصلبة والغلقة , ويقر بالاختلاف ولا ينزعج من الأجنحة التي تربطها قواسم مشتركة وتخوض بينها صراعات ديمقراطية حول البرامج والمواقف والتوجهات العامة على أن يحسم كل خلاف بالتصويت والأخذ برأي الأغلبية مع استمرار فعالية ومشروعية الأقلية .


- * تنظيم يكون محكوما بقيادة تقترب من الجماعة وتقل فيه السلطة الفردية وتقاوم فيه البيروقراطية يهوادة وتتصدر فيه الكفاءات بقطع النظر عن السن وتاريخ الانتماء وكثرة التهجد والمدة التي تم قضاءها في السجون .

- * تنظيم يبدأ من " الداخل " لينتهي في صلب الحركة العامة للمجتمع لا أن يصبح غاية في حد ذاتها تنظيم منفتح , متفاعل , دينامكي يغير تقاليده وبنيته باستمرار حسب متطلبات الواقع الموضوعي للشعب والوطن , يحصل خلل فظيع في سلم الأولويات لدي الأفراد ويتولد التناقض بين الأبعاد مصلحة التنظيم مصلحة المجتمع أو الشعب , البعد الإسلامي مقابل البعد الوطني .


- البعد الذاتي هو الأصل

- قد تبدو في هذا الحديث قسوة ظاهرة , هو أمر طبيعي إذ كلما تعاظم شأن حركة تغييرية , عرضت نفسها أكثر للنقد من داخلها وخارجها فما بالك بحركات تطرح نفسها بديلا عالميا , وتضع في الرهان ليس فقط مئات الآلاف من أبنائها , ولكن تطرح في الصراعات القطرية والدولية مستقبل الإسلام ذاته وإذا كانت انتقادات الخصوم للحركات الإسلامية لا تخلو من بعض الأهمية والأثر , إلا أنها في الأغلب تسقط في الثلب والتشويه وتغييب الحقائق والإيجابيات إما عمدا وإما جهلا , لكني من الذين يؤمنون بجدوي النقد الذاتي , أى النقد الذي يولد وينمو ويتأسس من الداخل , أى من داخل الكيانات فبرغم من الاهتزاز الذي يحدثه , وردود الفعل التي تتبعه , والنزعة الحماسية ( الحماية عبر الإقصاء ) التي تتعامل بها الحركات مع رموزه إلا أنه يبقي الطريق الوحيد والميثاق الفعال لإصلاح مسار هذه الحركات التي لم تعد دعوتها ملكا لنفسها وهذا النوع من النقد , وإن بدت نواتاته تبرز وتتشكل هنا وهناك إلا أنه لم يحتل المساحات التي يجب بلوغها ولم يخترق المستويات والبني الأساسية للمشروع الفكري والحركي لهذه الكيانات


- وإذا كان نقد الخصوم – مهما اشتد واتسع – لن يحول دون استثمار الحركات الإسلامية وحضورها المستقبلي كما تحدثنا عنه في بداية البحث فإن النقد الداخلي إذا صلب عوده , وبلغ أبعاده , وحقق أهدافه , من شأنه أن يغير وجه هذه الحركات , أو يخلق من صلبها من يرث الرسالة ولينقلها إلى فضاءات أرحب وتحالفات أصلب , ومشاريع أعمق وبذلك ينتقل مستقبل الحركة الإسلامية من البقاء السلبي , كإفراز هام من إفرازات الأزمة من تقوى بقوتها وتضعف بضعفها , ليصبح بقاء إيجابيا , وهو بقاء يتحقق بالاستقلال إلى حد ما من الأزمة وتجسد في تحكم الظاهرة الإسلامية في صنع مستقبلها انطلاقا من مبادرتها الذاتية وتنمية رصيدها الشعبي والتغيري واكتسابها للوعي التاريخي والوضوح الاستراتيجي .

- من أجل الوضوح الاستراتيجي


- إن كل رؤية مستقبلية للحركات الإسلامية لا تأخذ بعين الاعتبار عوائقها الذاتية لا يمكن أن تكون صائبة في استنتاجاتها وتوقعاتها , كما أن هذه الحركات ذاتها , إذا لم تنجح في تحويل نفسها إلى موضوع للبحث والنقد ولو بشكل نسبي فإنها مقدمة على مزيد من الهزات والنزيف , إن العوائق الذاتية التي تحدثنا عنها وتوقفنا عندها كثيرا ولخصناها في أبعاد ثلاثة :

الفكر والتربية والتنظيم , يجب أن تحتل اهتماما مركزيا لدي الإسلاميين , إذا أرادوا أن يؤهلوا أنفسهم للتحولات الخطيرة التي ستحصل في العالم بعد أقل من عشرين سنة , وسيكون لها انعكاسات عميقة على المنطقة العربية والإسلامية , لكن وبالإضافة إلى ذلك هناك محاور أخرى , ومؤسسات لا تقل أهمية على الحركات الإسلامية أن تشغل بها  وتعمل على تحقيقها فجميعها مترابط ومتداخل بل نذهب أكثر من ذلك فنقول أن الأولي لا تتم إلا بالثانية , ولا تتحقق المحاور الدولية إلا في ضوء مراجعة المحاور الذاتية أولي هذه المحاور , بذل الجهود القصوي لاكتساب الوعي التاريخي والوضوح الإستراتيجي؛


إن العالم يتغير بسرعة مذهلة كل شئ فيه يتحول ويتبدل , والمعلومات التحالفات , وموازين القوى , المفاهيم , المصالح , القيم , قواعد اللعب , المناهج , ومع ذلك لا تزال تحليلات الإسلاميين لأوضاع أقطارهم وبلدانهم ثابتة أو تكاد وإذا كان اعتقاد جماعة " حزب التحرير الإسلامي في مركزية بريطانيا الدولية – المثال الأكثر فلكلورية فإن بقية الرؤى السائدة في الأدبيات الإسلامية – خاصة في الساحة العربية – لا تخلو من الضبابية والنظرة التجريدية والمثالية للسياسة والعالم إن إنشاء مراكز بحث مستقلة تجمع وتتابع التحولات الدولية في أهم المجالات مسألة حيوية لفهم العالم كما هو لا كما نتوهمه .


- سياسة اليد الممدودة

- المحور الثاني وطني – يتعلق باستراتيجية الحركات الإسلامية داخل مجتمعات هذه الاستراتيجية التي يجب أن تراجع في ضوء مصالح الشعوب وأولويات المرحلة التاريخية لماذا يحافظ الإسلاميون دائما على عزلتهم , ويعمدون إلى قطع صلاتهم ببقية القوي والفصائل الوطنية الأخرى بحجة التعارض العقائدي والتباين الفكري , فالحركات الإسلامية ترتكب خطأ عندما تضع مخالفيها في خانة واحدة وتعاملهم بنفس الأسلوب والحدية وتغفل التباينات الحاصلة بين هذه الأطراف من جهة والأهداف المشتركة التي يمكن أن تجمعها ظرفيا أو ربما على مدي بعيد مع جميعها أو بعضها , ولا تقصد مجرد تقاطع في حملات انتخابية أو قتال مشترك في معركة جزئية (كما يحصل في لبنان) وإنما تعني تلاقيا في أهداف ومهام خدمة للبلاد والجماهير العريضة .


- فالحريات الديمقراطية قضية مركزية تستوجب إقامة الجبهات العريضة من أجل تثبينها وحمايتها وتربية الشعوب على التمسك بها مهما كانت التضحيات .

- ودفع حركة التنمية في اتجاه تقليص الفوارق وتخفيف حدة التبعية للخارج والنهوض بالزراعة , وخلق مؤسسات التضامن الشعبي وكلها قضايا تحتاج إلى إرادة جماعية ومبادرات توحيدية وتخطيط مشترك .


- إن القضاء على الأمية المتفشية في مجتمعاتنا كالسرطان (هذه المجتمعات التي كانت أولي كلمات كتابه المقدس " اقرأ" فريضة إسلامية ووطنية كيف يمكن أن تتصدر شعوبنا العالم ونسبة الأمية تصل أحيانا 9% رغم استقلال دولها منذ عشرات السنين .

- تدعيم الهوية الحضارية من لغة , وقيم عليا , وتخفيف عقدة الدونية تجاه الغرب , ومراجعته التعليم حتى يتصالح مع التاريخ الوطني للشعوب محور آخر مهم لمعارك مشتركة بين الإسلاميين وغيرهم خاصة القوميين , إن هذين التيارين بالتحديد في حاجة لمراجعة تجاوبها الماضية وتتبع الملابسات التي حفت بولادة خصومتها على " الإخوان " أن يتخلصوا من عقدة الناصرية ومخلفاتها , وعلى العروبيين أن يراجعوا العلاقة بين العروبة والإسلام إذ لا فكاك ولا تنازع بين جناحين لطائر واحد.


- هذه بعض الأمثلة سقناها لدفع التفكير في اتجاه مراجعة العلاقات السياسية داخل المجتمع الواحد بين الإسلاميين وغيرهم وعليهم أن يبادروا بطرح التعاون لإنهاء الحرب الأهلية الصامتة في معظم المواقع والملتهبة في مواقع آخرى ولابد أن تتجاوز هذه المبادرات الإطار السياسي اليومي والظرفي وتكون مبادرات ذات أبعاد حضارية وثقافية واقتصادية مستمرة ودافعة .

- تنمية عالمية الخيارات


- أخيرا المحور الدولي فالحركات الإسلامية بحكم طبيعتها الأيديولوجية ليست مجرد تعبيرات قطرية إنها تحمل النداء التاريخي لتوحيد الأمة وهذا عامل رئيسي من العوامل التي تفسر ظاهرة اهتمام القوى العظمي بالحركات الإسلامية وملاحقتها عن قرب ومتابعة تطوراتها ودرجة نموها .

- لكن وفي مقابل ذلك نجد العلاقات الإسلامية – الإسلامية ضعيفة ومشحونة بالتواترات والصراعات وعدم الثقة وقد تبلغ درجات من تبادل الاتهامات والتلاعن مالا يمكن صدوره عن جهات تؤمن برب واحد وتنتسب إلى رسالة خالدة , وإعادة تشكيل العلاقات الدولية لهذه الحركات تستوجب ما يلي :

- - بعث منظمة عالمية مستقلة عن الأنظمة والدول تجمع كل الحركات والتيارات الإسلامية لتداول أوضاعها العامة , دون الدخول في قضاياها التنظيمية الخاصة , ومثال ذلك " الرابطة الدولية للأحزاب الاشتراكية " - وليكن مقرها في إحدى العواصم الأوربية وتسهل في تمويلها كل الحركات حسب أقساط سنوية , وتقام لها سكرتارية دائمة تتغير هيئتها المدبرة مرة كل سنتين مثلا تجنبا للاحتكار وتصبح هذه المنظمة إطار للتشاور وتنسيق المواقف وتذويب الخلافات وكسب التضامن الدولي , واكتساب مواقع كأعضاء أو مراقبين في المنظمات والهيآت الدولية .

- - العمل الجدي على تجاوز الخلافات التاريخية ذات الصبغة المذهبية هذه الخلافات التي طالما استغلها الخصوم لكسر حلقات الوحدة بين العواصم الرئيسية للعالم الإسلامي : مصر , الجزيرة العربية , تركيا , إيران , إن الإشكال اليوم ليس في صحة هذا المذهب أو اعوجاج الآخر , وإنما بناء تصور إسلامي متكامل جديد يكون قادرا على إنهاء التخلف العام للمسلمين ويجب عن المعضلات الدولية الراهنة التي تهدد البشرية بالحروب والمجاعات وحتى الفناء , إن معركة النصوص لابد أن تتطور لتصبح معارك أفكار ومقترحات وحلول وبرامج مشتركة , وما دام الخلاف قابعا في أواخر القرون الأولي بين شيعة وسنة وخوارج جدد أى سجين إشكاليات الماضي البعيد , فإن الضبابية التاريخية ستتواصل وسيتحمل الإسلاميون مسئولية نقل المنطقة إلى مزيد من التقسيمات الطائفية والنزاعات الهامشية .


- - وككل عمل يحتاج لقضية مركزية يجمع حولها الناس ولا يفترقون ولن يجد الإسلاميون قضية أفضل تجمع شملهم وتوحد صفوفهم وتذوب خلافاتهم مثل فلسطين فهي عورة انحطاط المسلمين وجرحهم النازف وكابوسهم المزعج .

- واليوم يتزامن تنامي حضور الإسلاميين في أقطار مختلفة مع الانتفاضة المباركة التي أوقدها الشعب الفلسطيني بكل فصائله وأبنائه , وانصهر فيها إسلاميون الضفة والقطاع بكل جدية وعطاء , مما يوفر فرصة نادرة لإعادة طرح شعار فلسطين القضية المركزية للحركة الإسلامية , والالتقاء من أجل ضبط خطة عالمية لدعم الانتفاضة ومؤازرة رجالها حتى النصر وستكتشف الإسلاميون لو فعلوا هذا الأهلية التي تحتلها هذه القضية في توازنات العالم المعاصر , وكيف أنها المدخل للقضايا الحيوية الأخرى التي تتشكل بمقتضاها السياسة الدولية الراهنة .


- هكذا يتبين التشابك والتكامل بين المسائل الذاتية المتعلقة بفكر الحركات الإسلامية وفلسفة تنظيماتها ومناهج تربيتها وبين مهامها الوطنية على المستوى القطري والحضارية على المستوى الدولي ولو أقدمت الحركات على إنجاز خطوات في هذه المسارات لتضاعف وزنها , ولتغيرت علاقات الأطراف بها جوهريا , ولأصبح مستقبلها فعلا ضرورة حضارية للأمة .

- الملامح العامة


- للفكر السياسي الإسلامي

- في التاريخ المعاصر


- د. طارق البشري

- - نائب رئيس مجلس الدولة .


- - من مواليد أول نوفمبر سنة 1933, وتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في مايو سنة 1953, بعد تخرجه عمل في مجلس الدولة المصري , وهو هيئة قضائية تفصل في المنازعات التي تقوم بها الأفراد وبين الدولة أو أى من وزاراتها ومصالحها والمجلس يقوم أيضا بمهمة الافتاء لجهات الحكومة وهيئاتها ومراجعة مشروعات القوانين .

- - له عدد من الكتب والبحوث في التاريخ المصري والتاريخ العربي الإسلامي في المرحلة المعاصرة منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى الآن , مع اهتمام خاص بالحركات السياسية التي نشأت في هذه المرحلة وبالتيارات الفكرية والسياسية


- له عدد من الكتب من الحركات السياسية الشعبية في مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعن الأقباط والمسلمون في إطار الجماعة الوطنية وهي دراسة عن مؤسسات الدولة والتنظيمات السياسية بالنظر إلى العلاقة بين المسلمين والأقباط من بداية القرن التاسع عشر حتى الآن, ومجموعة دراسات وكتب عن النظام السياسي ونظام الدولة من بدايات القرن العشرين من حيث مدى الآثار المتبادلة بين التكوينات التنظيمية لمؤسسات الدولة والأهداف والمشاكل التاريخية والسياسية والاجتماعية خلال هذه الفترة .

- وثمة دراسات في الفكر السياسي عن الإسلام والعروبة وعن الأوضاع التاريخية والسياسية التي أفضت إلى إزاحة الشريعة الإسلامية عن موقعها المهيمن على الشريعة في المجتمع الإسلامي .


- وذلك فضلا عن دراسات تحت النشر عن مناهج النبات والتغير في فقه الشريعة الإسلامية و عن مؤسسات الحكم في الفقه الإسلامي وفي النظم الغربية .

- الملامح العامة


- للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر

- أتصور أنه لكي نتلمّس رؤية المستقبل للحركة الإسلامية , يحسن بنا أن نطالع ملامح الوعاء الزمني الذي تعمل فيه هذه الحركة والزمان المعاصر في تاريخنا يتكون من هذين القرنين الآخرين , وقد شارف القرن الثاني منهما على نهايته وصرنا على مشارف قرن ثالث يبدأ معنا بملامح عينها التي صبغت تاريخنا المعاصر منذ بداية القرن التاسع عشر .


- أما الحركة الإسلامية في بلادنا مهام جد متعددة ومتنوعة في مجالات الفكر والفقه , والنظم السياسية والرؤي الحركية وفي تشييد المؤسسات ورسم العلاقات في هذه المجالات وغيرها أمامنا العديد من المشاكل , منها على سبيل المثال , مسألة التجديد مع المحافظة على الأصول , والتجديد يعني التحركة الفكري والمحافظة على الأصول تعني الصمود , ومنها الانفصال الحادث بين علوم الدين وعلوم الدنيا , وهو انفصال طرأت تداعياته , مما ألم بنا من توجهات الغرب في القرنين الأخريين , وعلينا أن نعيد المزج والدمج بين هذه العلوم جميعا , كما كان فقهاؤنا القدامي يعتبرون العبادات والمعاملات أبوابا من علم واحد .

ومن المشاكل أيضا تلك القطيعة بين الفكر والنظم الوافدة من الغرب والفكرة والنظم الموروثة , وهي قطيعة تتعمق في وعي الناس عبر السنين ومن ذلك أيضا هذا الازدواج في بناء المؤسسات والنظم والهيئات سواء في التعليم أو في القضاء أو في مؤسسات الإدارة والحكم أو في الاقتصاد , ومنه أيضا هذا التنوع الكبير للرؤي الإسلامية للواقع الراهن أو هذا الغموض الذي يعوق حسن إدراكنا للأوضاع المعيشية ولما يتعين علينا إتخاذه من الذرائع لحفظ الجماعة الإسلامية والنهوض بها .

ليس آخر تلك المشاكل مشكلة التفتت التي تعاني منها أوطاننا , أى هذه التجربة الإقليمية والقطرية التي صرنا إليها عبر القرنين الأخيرين , وما أدي إليه هذا الوضع من ظهور عناصر التباعد والتنافر في كل قطر إزاء غيره , حتى تكونت عوائق ذاتية صارت تكبح نمو حركات التوحد العربي والإسلامي , لأن التجزئة قد غايرت من أوضاع كل قطر إزاء غيره في أمور الاقتصاد والسياسة وبناء النظم والمؤسسات وهذه المغايرة تشكل عوائق أمام مساعدي التوحد , متى وجدت تلك المساعي وحثيما وجدت .

إن تاريخنا المعاصر بدأ بحركتين للإصلاح كانتا متضاربتين ولم يكتب لها أثر عميق فيما عرفنا من بعد من وجوه الإصلاح .

أولي الحركتين كانت حركة التجديد الفقهي والفكري التي استفتحت بابن عبد الوهاب في نجد في  القرن الثامن عشر ( 1703 -1791 ) تقوم على التوحيد المطلق وترفض فكرة الحلول والاتحاد وتؤكد مسؤولية الإنسان وتمنع التوسل بغير الله وتدعو لفتح باب الاجتهاد , ومظهر محمد بن نوح الغلاتي في المدينة ( 752 – 1803) كما ظهر ولي الدين الدهلوي في الهند ( 1702 -1762)  وفي اليمن ظهر محمد بن علي الشوكاني ( 1758 – 1834 ) ثم الشهاب الألوسي في العراق (1802 – 1854) وفي المغرب ظهر محمد بن على السنوسي ( 1843 -  1885) .
ونلحظ أن هذه الدعوات التجديدية الإصلاحية كانت ظاهرة عامة من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا , وإنه رغم الخلافات التي تبدو بين بعض هذه الدعوات وبعضها فهي جميعها تكون حركة تجديدية وهي جميعها تتفق اتفاقا عاما في دعوتها للتجديد ونبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد .

ونحن إذا نظرنا إلى مناطق قيام هذه الحركات وجدناها تظهر في الهند والعراق شرقا وفي نجد واليمن والحجاز والسودان جنوبا وفي المغرب بالجزائر وليبيا غربا , فهي حركة عامة ولكنها تتفادي منطقة القلب من الأمة الإسلامية , بحسبان أن منطقة القلب من هذه الأمة كانت تتمركز في مجال الهيمنة المركزية للدول العثمانية في ذلك الوقت , وهي المنطقة الممتدة على المحور من تركيا إلى الشام إلى مصر ( استامبول – دمشق – القاهرة ) .

وكان من الطبيعي أن تبقي منطقة المركز عصية على التغيير والتجديد لاستتباب المؤسسات التقليدية وعظم النفوذ المحافظ لهذه المؤسسات واتصالها جميعا بهيئات الحكم والسلطان ووجودها كلها في منطقة الضوء الساطع لدي أجهزة الدولة وكانت حركات التجديد الفقهي والفكري خليقة بأن تنمو ويزداد نفوذها حتى في مجال نفوذ المؤسسات المركزية ولذلك لعظم الاحتياج للإصلاح الفكري وللتجديد الفقهي في ذلك الوقت ولأن ثمة شواهد تاريخية تشير إلى أن هذه الدعوات كانت مما يحسن قبوله لدي عامة المفكرين والمثقفين في مصر والشام , ولو لم تواجه بمثل ما وجهت به من السلطة , وثانية هاتين الحركتين , كانت حركة الإصلاح المؤسسي التي قامت مع نهايات القرن الثامن عشر على امتداد محور السلطة المركزية للدولة العثمانية بين استامبول والقاهرة .

استفتحت هذه الحركة بسعي السلطان سليم الثالث لإعادة بناء الجيش العثماني على الطراز الجديد , وذلك بغية التمكن من مواجهة الأخطار الفعلية المحدقة بالدولة العثمانية سواء من روسيا القيصرية في الشمال أو من الإنجليز بأسطولهم في البحر المتوسط أو من سائر الدولة الأوربية الكبرى في ذلك الوقت , وتلت حركة سليم الثالث الفاشلة حركة السلطان محمود الثاني ( 1808 -1840 ) وحركة محمد على من مصر ( 1805 – 1848) وقامت هذه الحركات بمناسبة وقائع الغزو الأوروبي لأرض المسلمين بخاصة وللشرق بعامة .

ولم يبدأ تاريخنا المعاصر إلا وكان قد أحكم الحصار حولنا , اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح , الذي أدّى إلى تطويق العالم الإسلامي من الجنوب والشرق و فضلا عن الغرب والشمال , ونحن نذكر توسعات روسيا القيصرية في آسيا الوسطي وسيطرتها على بلدان " ما وراء النهر " ودخول بخاري وطشقند وسمرقند في حوزتها , ثم حروبها ضد الدولة العثمانية بالزحف عليها من الشمال كما نعرف سيطرة الإنجليز على الهند ووصول هولندا إلى  جزر الهند الشرقية , ثم صعود الإنجليز من الهند شمالا إلى أواسط آسيا .
وبعد تمام حركة الحصار الغربي بدأت عمليات غزو القلب مع نهايات القرن الثامن عشر وعلى مدي القرن التاسع عشر , ومن أبرز ملامحها حملة نابليون على مصر في 1798 التي كان يستهدف منها الاستيلاء على مصر وأرض الشام كلها , ثم استيلاء الإنجليز على عدن 1839 واستيلاء فرنسا على الجزائر في 1830 ثم على تونس في 1881 , واستيلاء الإنجليز على مصر في 1882 ثم  على السودان في 1899, واستيلاء إيطاليا على ليبيا في 1912 , واستيلاء فرنسا على المغرب في السنة نفسها , ثم اقتسام الشام والعراق بين بريطانيا وفرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي في 1918 وهكذا تقطعت البلاد شلوا شلوا  مما  كان له أثره العميق من بعد .

كان من الطبيعي أن تلفت هذه المخاطر أقصي انتباه من رجال الدولة والقائمين على الحكم وأن توقظ فيهم الشعور بالحاجة إلى الإصلاح , وهم المسؤولون عن الرباط وحماية الثغور والدفاع عن الحوزة , ورجال الحكم رجال عمل وتصدي تلفتهم المشاكل العملية ويبادرون في التصدي بها بالحلول العملية ووجوه الإصلاح والتجديد التي يهتمون بها هي ما يتصل مباشرة بما نسميه الآن " شؤون الأمن القومي " ونقطة البداية في ذلك مؤسسة الدفاع عن الديار وهي الجيش وفي هذا يتفق سليم الثالث مع محمود الثاني مع محمد علي .

وإذا بدأ الإصلاح في مجال الجيش , فإنه يبدأ أول ما يبدأ إصلاحا في استخدام آلات القتال كالمدافع وغيرها وإدخال أدوات القتال الحديثة يستدعي إدخال لابد من الاستفادة من خبرة الخصم الذي ثبت تفوقه فيهما , كما أن هذين المجالين يستدعيان إدخال أنماط جديدة من التعليم تتعلق بعلوم الصنائع وفنونها مما يمكن من الاستخدام الأمثل والسيطرة على وسائل الحرب الجديدة سواء الآلات وصناعتها وتركيبها واستخراجها , أو التنظيمات التي يتحقق بها التنسيق الأمثل .

كل هذه المهام يقوم على تحقيقها رجال دولة ومديرو أعمال ومنفذو سياسات وهم بحكم نوع أعمالهم وخبراتهم ذوو حسن عملي مباشر ولا ينشغلون كثيرا بالجوانب النظرية والفكرية , ثم إن الضرورة تستدعي منهم سرعة في التحرك والتنفيذ , لمواجهة المخاطر الخارجية أولا وللمناورة والالتفاف على القوي التقليدية في الجيش وفي مراكز الدولة ثانيا .

جماع هذه الأوضاع ألجأ حكام ذلك الزمان  إلى أن يتوسلوا للإصلاح بإنشاء ما يمكن أن نسميه " المؤسسات البديلة " فلم يهتموا بأن يتبنوا حركة تجديد شامل للجماعة والمؤسسات المختلفة ولم يهتموا بأن يظهر الجديد انبثاقا من القديم إنما أبقوا القديم على حاله من القدم فكرا ومؤسسات ورجالا , أبقوه على ركوده , وأنشأوا بجانبه المؤسسات الجديدة برجال آخرين وفكر آخر . ولم يجر ذلك منهم استجابة لضرورات السرعة في التنفيذ فقط , ولكنه جري تجنبا للخلاف والصراع مع مؤسسات تقليدية كانت هي نفسها من ركائز الحكم ومن أعمدة قيامه ودعامات استقراره , وذلك سواء في الجيش أو في التعليم أو في الفكر أو الإدارة المدنية .
فبقي الجيش القديم وأنشئت بجواره فرق جديدة وبقي التعليم التقليدي وأقيمت بجانبه مدارس حديثة وهكذا , وصار هذا الازدواج منهجا وتقليدا سواء في السياسات المنفذة أو في بناء عقلية الحكام المصلحين في بلادنا , ثم صار منهجا يترسم علي وجه التلقائية في إنفاذ  مطالب الإصلاح في المجالات المختلفة .
وثمن ملاحظتان يمكن الإشارة إليها هنا فإن هذا الازدواج الذي حدث  بين المؤسسات القديمة والحديثة ولم يكن من شأنه وحده أن يقيم صدعا في الجماعة أو في البيئة الاجتماعية أو الهياكل الفكرية لو أن الأمور جرت على منوالها كان الأرجح أن يتفاعل الطرفان ويتبادلون التغذية على المدى الزماني الأطول ؛

ولكن الذي حدث أنه ما أن ظهر هذا الازدواج حتى بدأ يتسرب إلينا النفوذ الأوروبي في الكثير من المجالات والأنشطة , ووجد هذا النفوذ فيما وفد علينا من مؤسسات غربية كالبنوك ومن نظم التعامل القانوني ومن فكر وعقائد ,,ووجدت هذه المؤسسات والنظم والأفكار الوافدة وجدت في الازدواج الحادث ظرفا مواتيا ورؤوس جسور لتلك النظم والأفكار الوافدة فسرعان ما ظلت هذه المؤسسة الحديثة وصرفتها عن هدفها الأصلي الخادم لحركة المقاومة الحديثة ضد مخاطر الغزو الغربي ووجهتها وجهة التلقي والتابعية والتثبيت للنفوذ الغربي بعامة , وتضرب لذلك المثل بالمقارنة السريعة لمدارس محمد على الحديثة التي أنشئت لتغذي الجيش المحارب وتقتصر على تدريس علوم الصنائع وفنونها كالهندسة والطب والحربية ... الخ

وبين مدارس الخديوي إسماعيل والاحتلال البريطاني مع نهاية القرن التاسع عشر التي صرفت همها عن تلك العلوم إلى تدريس الآداب والنظم القانونية الوافدة ... الخ ونلحظ ذلك أيضا في المقارنة المماثلة بين بعثات محمد على في أوائل القرن الماضي وبعثات الاحتلال البريطاني في أواخر ذلك القرن .

وثانية الملاحظتين أن عامل الخطر الخارجي كان هو السبب في كل الظواهر السابقة هذا الخطر الخارجي الحالي ذو الوقائع الممتدة عبر سنين القرن التاسع عشر , هو ما به توقفت حركة الإصلاح الفكري والفقهي التي سبقت الإشارة إليها , لأن مجال التجديد في الفكر والفقه كان يجري مكافحة للمؤسسات المحافظة , ولأن قيام الخطر الخارجي  المهدد لأمن الجماعة كلها من شأنه أن ينحي المشاكل الداخلية ويبعدها عن بؤرة الاهتمام , ومن شأن أن يلقي على سلطات الحكم والمؤسسات الحاكمة مهام الدفاع عن الجماعة وحماية الحوزة مما يستدعي من الكافة المساندة والالتفاف وإرجاء خلافات الداخل وهذا ما حدث منذ اشتعلت المخاطر الخارجية في بدايات القرن التاسع عشر , إذ ذوت مع حركة الإصلاح الفكري على مدي النصف أو الثلثين من بدايات ذلك القرن .

وهو ذاته هذا الخطر الخارجي الذي استدعي أسلوبا عاجلا سريعا عمليا للإصلاح اعتمد على بناء مؤسسات جديدة موازية للقديم دون أن تظهر منها ودون أن يصاحبه هذا الإصلاح حركة فكرية وحركة إحياء للقديم تواكبها وتنتقل بالمجتمع كله من حال قديم إلى حال جديد ناهض تنسجم هياكله وأبنيته وتتكامل في أداء وظيفي واحد , وهو ذاته الخطر الخارجي الذي احتل بنفوذه سائر المؤسسات المحدثة وغير من وظائفها ليجعلها باسم الحداثة قواعد تثبيت التبعية له في المجتمعات المفردة .

والحال أن لم تفتقر حركة الإصلاح المؤسسي ( الجيش والدولة ... الخ) دعم حركة الإصلاح الفقهي والفكري فقط , ولكنها حاربتها وعملت على تصفيتها وهذا ما كان من مسلك استانبول ( محمود الثاني ) والقاهرة ( محمد على ) من الحركة الوهابية في 1811 .

لذلك كان من نتائج هذه الفترة نوع من الانفصام بين  حركة الإصلاح المؤسسي وحركة الإصلاح الفكري , ونوع من الإزدواج بين الأبنية التقليدية نظما وفكرا وبين الأبنية الحديثة نظما وفكرا , فصار القديم أبتر مقطوعا لم يفض إلى جديد من نوعه ومن مادته ومائه , وصار الجديد أجنبيا لقيطا وفد من نسق عقيدي آخر ومن أوضاع اجتماعية وتاريخية مختلفة , وما حل القرن العشرين حتى كانت البيئة الاجتماعية والفكرية قد انصدعت بين قرن أبتر وقرن لقيط أعقبه , وهذا ما ورثناه حتى اليوم وما تواجهه  الحركة الإسلامية لتتعامل مع مجتمع مصدوع , عليها أن تلائم صدعه وأن تجدد قديمه وتؤصل حديثه .

وفي ظل هذا الظرف أتت الموجة التجديدية الثانية جاءت من المناطق التي عرفت من قبل بمناطق القلب , والتي آلت مع نهايات القرن التاسع عشر إلى الغزو والاحتلال الأجنبي , واستفتحت برجال مثل جمال الدين الأفغاني ( 1939 – 1869) ومحمد عبده ( 1849 -1905) ومحمد رشيد رضا (1965 -1935) وفي الوقت ذاته صار للتيار المحافظ وظيفة جد هامة تتعلق بالوقوف دفاعا عن أصول العقيدة وثوابتها في وجه رباح الغزو العاتية التي لم تترك أخضر ولا يابس وشملت الفكر والعقائد والعوائد وأساليب العيش .. الخ .

لقد صار على الحركة الإسلامية في عمومها وبمجدديها ومحافظيها أن تواجه أوضاعا متعددة تستدعي مواقف فكرية متباينة فهي لم تعد تواجه ما كان يواجهه ابن عبد الوهاب من تعصب مذهبي وبدع وخرافات وهي لم تعد تواجه أخطار الاحتلال العسكري الغربي لأراضي المسلمين إنما صارت تواجه مع كل ذلك وفضلا عنه , موجات من " التبشير " تقوم به بعثات مسيحية أوروبية وأمريكية , وتواجه أفكار الفلسفات المادية واللا دينية ونزعة التغريب في وسائل العيش والأساليب والعلاقات الاجتماعية هذا  وفي ظني هو المنشأ التاريخي الحديث للتحديات التي تواجه الحركة الإسلامية فكرا وعملا , وهي التحديات التي أشير إليها في صدر هذا المقال استحسنت أن أعرضها في سيايقها التاريخي , وأنا الآن أحاول أن أعرض حصيلة لتصدي الحركة الإسلامية لهذه المشاكل , أعرضها في سياقها التاريخي الواقعي أيضا . 

ففي ظني أن الفكر الإسلامي الحديث تكون بالتراكم الحميد عبر عشرات السنين التي مضت من نهايات القرن الماضي , وهو تكون من جهود عدد غير محصور من المفكرين والقادة والمصلحين , وهو فكر شيد وتراصت لبناته تحت خط النار وبنيت قلاعه وسط قصف مدافع الخصوم .

ونذكر هنا في عجلة الملامح العامة لحركة تراكم الفكر السياسي الإسلامي في المرحلة التاريخية المعاصرة .

ونحن إذ نختار هذا " الطريق التاريخي " لعرض مفردات الفكر السياسي الإسلامي في زماننا إنما نفعل ذلك وأعيننا على الحاضر , ولنوضح الظرف التاريخي الذي نبتت فيه أى ثمرة من ثمار هذا الفكر , وهذا يلقي الضوء على هذا " المفصل " الذي يصل الفكر الواقع من حيث الأعمال والمقاصد أى من حيث مدي احتياج جماعة المسلمين لفكرة حركية وملائمة في لحظة بعينها , ومن حيث توظيف هذه الفكرة لصالح الإسلام وجماعته في مرحلة ما .
 وهذا يوضح أيضا أن كثيرا مما نعتبره خلافا في  الرأي فنقف إزاءه متواجهين متقابلين , كان أساسه اختلاف الزمان أو المكان , ولم يكن خلاف حجة وبرهان وإيضاح هذا الأمر من شأنه أن يقرب بين المتخالفين  وألا يجعلهم في موقف المواجهة والمقابلة , إنما يجعلهم أعرف بأن ثمة حقائق إسلامية عليا ومصالح إسلامية عليا , ونحن وكل في زمانه ومكانه نتوسل إلى رعايتها وصيانتها وإعلائها بالعديد من المواقف الفكرية والحركية التي تتباين بتباين الظروف والأوضاع , ومن هنا ندرك أن كثيرا مما نسميه اختلافا هو إلى التنوع أقرب . وكل ذلك يزيدنا بإذن الله غني ومرونة في إدراك وجوه الرأي وفي التعامل به مع الواقع إعلاء للصالح الإسلامي العام .
إن لواقعنا التاريخي الحاضر جانبين . هما وفقا لتعبيرات " مالك بن نبي "
الاستعمار والقابلية للاستعمار , وأنا أقصد بالاستعمار العدوان الآتي إلينا من الخارج عسكريا كان أو سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا , أى هو أثر الخارج فينا متى كان هذا الأثر يجري بغير رضانا ولغير صالحنا . 

كما أقصد بالقابلية للاستعمار هذا الوضع الذي نكون عليه والذي يمكن من غلبة الغير لنا , أي هو ما تتصف به في وقت ما من الضعف أو الفقر أو الاضطراب أو الوهن أو الجهل أو التضارب أو غير ذلك مما يكون سببا في غلبة الطامعين فينا على أمرنا .

وبهذا تجد أن جمال الدين الأفغاني وضع اللبنات الأولي في فكرنا الإسلامي الحديث " المقاومة للاستعمار " وأن محمد عبده وضع اللبنات الأولي في هذا الفكرة " المقاومة للقابلية للاستعمار ".
لقد انشغل جمال الدين بأمر " وحدة المسلمين " ليمكنهم الوقوف في وجه ما يتهددهم من أطماع الدول الأوروبية والغربية ودعا لنبذ الخصومة بين السنة والشيعة ليمكن تأليف السلطتين الإسلاميتين الكبيرتين في وقته وهما  سلطتا استانبول وإيران , بعد أن كانت ذهبت دولة الهند الإسلامية أدراج الرياح , ومن أهم ما أكد عليه هو طرح ولاية الأجنبي عن المسلمين بحسبانه الركن الأعظم للإسلام فوحدة الجماعة الإسلامية وحدة موظفة إلى مقاومة الاحتلال ونبذ الولاية الأجنبية , واعتبار ذلك هو الركن الأعظم للإسلام في وقتنا , هذه النقطة تنطوى على جوهر دعوة جمال الدين وجوهر ما أرسي في الفكر السياسي الإسلامي الحديث .
وأهم ما أريد الإشارة إليه هنا , ذلك الجدل الذي كان يثور كل حين حول موضوع مقاومة الاستعمار وإجلائه , وموضوع الأخذ  بأسباب النهوض ومعالجة أسباب الضعف , بأى هذين الموضوعين نبدأ ولأيهما تكون الأولوية في اهتمامنا وتحركنا .
والقائلون بأولوية الاستعداد لمكافحة الاستعمار يستندون إلى أن وجود الاستعمار يرتب مجموعة من السياسات التي تتخذ لصالح بقائه , فوجوده واستمرار بقائه يضعف فين أسباب مقاومته ويقضي على إمكانيات النهوض ضده أو النهوض لتحقيق أى زمل مرتجي في المستقبل .
والقائلون بأولوية بناء القوة الذاتية وانضاج أسباب النهوض ومعالجة نواحي الضعف , إنما يستندون إلى أن ضعفنا الذاتي هو الذي سبب نجاح الاستعمار ضدنا , ونحن لم نستطع أن  نقاوم غزوه لأننا كنا ضعافا , ولأننا  كنا ضعافا , ولأننا ضعاف فلن ننجح في إخراجه , وإذا حدث أن خرج مع بقاء ضعفنا فسيعاود الكرة علينا أو يعاودها غيره .
وفي ظني أن هذا الجدل يقوم على خيار خاطئ لأنه يجري تمييزا بين أمرين كلاهما لازم , أو أنه يقيم أولوية بين الواحد منهما تجاه الآخر , رغم أنهما ذوي أولوية واحدة , ذلك أنهما معا شرطان للنهوض والتقدم والاستقلال , بوصف ذلك كله عملية واحدة , ولأن كلا منهما لازم للآخر ملزوم منه .... ومتى كان الأمر كذلك فليس من الصواب أن نطرح سؤالا مفاده أن أيهما أنفع وبأيهما نبدأ .. 

وعلينا أن نتسلح بالنظرة التكاملية التي تنظر إلى العناصر المتنوعة في تكاملها وليس في تنافرها . وأن الخيار الذي يطرح على الناس في وقت معين , والذي يتعلق بما يبدأ به من هذه العناصر إنما تؤثر فيه – وقد تتحكم فيه – ظروف اللحظة التي يطرح فيها الأمر , والاختيار الصائب هو الاختيار الذي يتلاءم مع ما تتطلبه اللحظة التاريخية ذاتها , ومدى ملاءمة عنصر ما إنما تقاس مدي إمكان تحققه في ظرف معين , أو بمدي ما يترتب عليه من أثر مطلوب في هذه اللحظة فالملائمة نجد حديها في الإمكانية والتوظيف لذلك فنحن في الحقيقة لا نختار – عندما نختارهما – بين بديلين كما لو كان سلعتين معروضتين في واجهة أحد المحال التجارية إنما ننظر في الممكن والمؤثر في اللحظة التاريخية المعنية .

وجمال  الدين عندما كان يهيئ المسلمين ويستحمسهم لمقاومة الاستعمار في كل من مصر وفارس والهند واستانبول , إنما كان يصنع ذلك في ظروف تدفق موجات الغزو الاستعماري  على ديارنا  في كل هذه الأقطار , وفي مثل هذه اللحظات فإن الخيار الوحيد المجدي هو الاحتشاد والتجمع للمقاومة , وقد ساهم محمد عبده بقدر في هذا العمل عندما نشط مع أستاذه جمال الدين وقتها .

ولكن لا شك أن جهد الرجلين لم يكن متماثلا , وكان تركيب كل منهم النفسي والوجداني والفكري متلائما مع المهمة التي قام بها جمال الدين في مقاومة الاستعمار , ومحمد عبده في مقاومة القابلية للاستعمار وقد بدأ محمد عبده نشاطه الذي تميز به بعد تمام احتلال الإنجليز لمصر في 1882 , وقد أبعد عن مصر سنوات ثم عاد بعد أن تمكن منها الاحتلال البريطاني ولم يعد من بين الخيارات المطروحة في التسعينيات من القرن التاسع عشر , أن تنحشد القوى لطرد الاحتلال , ولم يعد ثمة خيار غير العمل الدائب لمقاومة القابلية للاستعمار " ومن هنا جاءت جدوى ما صنع محمد عبده , وقد اعتني ما رآه من ازدواج يفصم الحياة الاجتماعية , وتبدت أهم ظواهره في مجال القانون والتشريع ومجال التعليم وهنا صارت دعوة الاجتهاد والتجديد لصيغة يهدف تفتيق الفكر الإسلامي وفقهه ليستجيب لمطالب النهوض والصحوة وليلتئم الصدع الحادث في مؤسسات المجتمع فيمكن القضاء على الازدواج الحادث في المؤسسات .

وصار محمد رشيد رضا امتداد لدعوة محمد عبده خلال الثلاثين عاما التي أعقبت وفاة محمد عبده في 1905 إلا أنه امتداد له تميزه وتنوعه واستجابته للأوضاع المتغيرة على مدي هذه السنين فقد سارت اجتهاداته أكثر اتصالا بفكر ابن تيمية ومن ثم قويت الآصرة أثر عميق في تحقق  الملاءمة بين الأصالة الشرعية وبين استشراف أوضاع الواقع المعيش , كما كان السيد محمد رشيد رضا  أوغل في السياسات العملية , سواء العربية أو الإسلامية , من الإمام محمد عبده , واكتمل لديه منهج التفسير المجدد للقرآن مع الربط بين قضايا الفقه وقضايا السياسة ذلك لأنه عاصر من الأحداث التالية لمحمد عبده ما كان يحتاج لهذه الانشغال بهذه السياسات الوطنية , مثل تصفية الدولة العثمانية وتقسيم بلاد الشام والعراق بين الإنجليز والفرنسيين وظهور الصهيونية في بداية القرن العشرين , كانت الحركة الوطنية في بلادنا مرتبطة بالإسلام لا تكاد تنفصل , وكانت شعوبنا العربية الإسلامية – وهي تقاوم الاستعمار  - إنما تنهض تحت راية الإسلام وتتجمع تحت جناحيه وتكافح به الاحتلال الأجنبي وظلم الاستبداد . 

ومن ذلك حركات الجزائرى في الجزائر والخطابي في المغرب والسنوسي في ليبيا والمهدي في السودان وابن عبد الوهاب في الجزيرة , وحتى حركة مصطفي كامل في مصر تنتمي إلى هذا الاتجاه الذي لا يفرق بين الإسلام وبين حركات مقاومة الاحتلال والاستبداد , ولم تكن التكوينات الثقافية والاجتماعية المتأثرة بالفكر الغربي , لم تكن تتجاوز بعض النخب السياسية من كبار رجالات المجتمع ذوي المناصب الكبيرة ؛

ولكن ما لبثت هذه التكوينات أن اتسعت وتكاثر ناسها بسبب نظام التعليم الحديث الذي لم يكتف بإدخال العلوم الحديث في الصنائع وفنونها كالفيزياء والكيمياء وغيرهما ؛

ولم يكتف بإدخال اللغات الأوروبية ولكنه نظام أسس على نمط علماني يفصل علوم الدين عن علوم الدنيا وهموم على أساس من فلسفات الغرب , والسبب الثاني يتعلق بانتشار الفكر الأوروبي الفلسفي والاجتماعي ونظرياته بين صفوة المثقفين المتخرجين من هذه المدارس أو من المبعوثين إلى الخارج , ثم هنا سبب ثالث يتعلق بوجود المجلات الشهرية والكتب التي بدأت تظهر لتروج لهذه الأفكار وتقيم قواعد إحلال فكري ونظري تعارض أسس الفكر التقليدي .

ولم تكد تنتهي الحرب العالمية الأولي ( 1914 -1918) حتى كانت الدولة العثمانية قد صفيت : وحل محلها دولة تركيا الحديث التي ألغت الخلافة الإسلامية واتخذت إجراءات بالغة الحدة لتصفية كل أثر للإسلام في تلك الديار , كنظام  للحياة وأساس للشرعية الاجتماعية والسياسية فيها , وكان لذلك وقع الصدمة الشديدة على المسلمين في العالم أجمع , ألما من ذهاب دولة بني عثمان ولكن ألما من تلك الظروف التي نقضت عقد المسلمين وشتت شملهم , فلم يعودوا يرون جهة أو هيئة يتجهون إليها كجامع لهم , وفي الوقت نفسه احتلت القوات الأوروبية ما كان لم يحتل بعد من أرض العرب والمسلمين واقتسموها فيما بينهم , وخاصة أرض الشام والعراق كما سبقت الإشارة .
وفي هذا الوقت ظهر عديد من الحركات الوطنية في العالم الإسلامي كمصر وفي غيره كالصين والهند , وكذلك حركات المقاومة في البلاد حديثة العهد بالاحتلال كسوريا والعراق كانت القوى الأساسية التي قادت هذه الحركات من أبناء المؤسسات  الحديثة في التعليم وممن تربوا على أسس علمانية بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية .

وقد تكاتفت هذه العوامل لتضع الحركات من أبناء المؤسسات الحديثة في التعليم وممن تربو على أسس علمانية بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية وقد تكاتفت هذه العوامل لتضع الحركات الوطنية التي ظهرت في هذه المرحلة الوطنية التي ظهرت في هذه المرحلة بصورة علمانية فهي تعمل على إجلاء المحتل وتطالب بالاستقلال السياسي ولكنها ترسم لمستقبل بلادها صورا مستمدة من أنماط النظم الاجتماعية السائدة في الغرب, وتستهدف بناء نظم وضعية بعيدة عن الفكر الديني وعن أصول الشرعية الدينية .

وفي البداية اندمج التوجه الإسلامي ورجاله في هذه الحركات بحسبان أن مقاومة الناصب الأجنبي أولي في الاعتبار , وأن إجلاء " يفيد القوي الوطنية كلها , وإن المتتبع للحركات الوطنية في هذه المرحلة , من بداية العشرينيات من القرن العشرين ’ يلحظ اتصالا قويا للعناصر ذات التوجه الإسلامي بهذه الحركات ومشاركة فعالة فيها .

ولكن مع نهاية العشرينيات بدا أن الفكر العلماني يعمل بإصرار أن يسيطر على أوضاع المجتمع كلها , وأن يصوغ المؤسسات الاجتماعية والفكرية ومؤسسات الدولة بطابعه , ويعمل على أن يفصل الإسلامي عن أوضاع المجتمع لينشئ نظاما علمانيا صرفا ويكمل النظام العلماني  الذي كان بدأ مع نهايات القرن التاسع عشر , وبدأ دعوة صريحة  جهيدة تطالب بتنحية الإسلام عن نظم الحياة كافة .

وفي الوقت نفسه تحررت حركات التبشير المسيحي الأوروبية والأمريكية من خوفها إزاء المسلمين , كانت هذه الحركات قد وفت إلى أقطارنا منذ منتصف القرن التاسع عشر , وكانت وقتها تنشط بين " المسيحيين الشرقيين " من مواطنينا سعيا لأن تبني لها قواعد بشرية موالية لها وقد أثار ذلك المسيحيين الشرقيين وحفزهم لمقاومة هذا النشاط ولم تكن هذه البعثات في ذلك الوقت تجرؤ على أن تقترب بنشاطها من المسلمين هذا البحر الواسع الذي إذا هاج فقد يبتلع تلك البعثات في قراره السحيق ويزيد المسلمين غضبا وحدة في مقاومتهم أى نفوذ غربي .

ولكن تغير هذا الموقف بعد الحرب العالمية الأولي , إذا انتقص عقد الخلافة الإسلامية ونشأت نظم علمانية في بلادنا وتبنت قيادات دولنا وقيادات حركاتنا الوطنية هذه النظم الوافدة , وبات الإسلام مجردا من سيفه بعيدا عن سياسة الحكومات , وكل ذلك شجع حركات التبشير أن تعمل بين المسلمين , وانعكس ذلك في مؤتمر المبشرين بالقدس في 1924 الذي ارتفع فيه شعار :" تنصير العالم في جيل واحد "

وقد قوبل هذا النشاط بصدود شديد من المسلمين  وإن الأفراد المعدودين القليلين جدا الذين استجابوا لبعثات التبشير بسبب يتم أو مرض , سواء في مصر أو في بلاد الشام أو في تركيا , هذه الحالات المحدودة قد أقامت أعاصير احتجاج بين المسلمين وحفزت روح المقاومة في الجسد الإسلامي  الكبير.
ورغم هذه الصحوة للروح الإسلامية , سياسات الصهاينة اليهود في أرض فلسطين , وفلسطين أرض القدس والمسجد الأقصي وهي إن أهاجت الحس العربي فإنها تثير معه وأقوي الحس الإسلامي تجاه بلد فيه أولي القبلتين وثالث المساجد التي يشد إليها الرجال وفيها معراج البراق , ثم هناك أيضا رد الفعل الإسلامي إزاء ما اتخذته السلطات الفرنسية في المغرب العربي من إجراءات لعزل البربر المغاربة عن الإسلام وإبعادهم عن أحكام الشريعة الإسلامية .

في هذه الظروف واستجابة لها ظهر الشيخ حسن البنا بحركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 لقد سبقت جمعية الشبان المسلمين (1927) ظهور حركة الإخوان , وقام عديد من رجالات الدعوة الإسلامية بدورهم من قبل , ولكن حسن البنا وجماعته كانا هما الاستجابة الأكثر وضوحا والأكثر تبلور لمتطلبات الحركة الإسلامية في ذلك الوقت .

و[[البنا]] والإخوان ليسوا فكرا فقط ولكنهم حركة وموقف , وأساسهم فكرا وحركة وموقفا هو " شمول الإسلام " أى الدعوة للإسلام الشامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد , وللإسلام الشامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد , وللإسلام الجامع لكل أطراف الحياة المهيمن على كل أحوال البشر عقيدة وشريعة وسلوكا  وبالعقيدة تتحدد للإنسان نظرته إلى الكون وموقعه فيه وبالشريعة تتحد له نظرته إلى غيره من الأفراد والجماعات وأساليب تعامله مع غيره وتكوينه الوجداني .

إن التأكيد على هذا المعني الشامل هو ما به تمثلت الاستجابة الإسلامية الصحيحة التي تطلبها الواقع , عندما اتجهت حركة المجتمع إلى إضمار الإسلام وحصره في نطاق العلاقة الباطنية بين الفرد وربه , وعندما ظهرت العلمانية لتقيد الإسلام في حدود العبادات وتعمل على إقصائه عن أن يكون مهيمنا على نظام المجتمع وحاكما لعلاقاته .

إن ذلك لا يعني أن الدعوة كانت رد فعل الواقع معين فقط ولكنه يعني أن أى كيان حي وكبير كالإسلام , عندما يلقي تحديا لأي من جوانبه أو عناصر وخصائصه الأساسية إنما يبرز لهذا الوجه من وجوه التحدي كل طاقته ويحشد كل قوته لمواجهة التحدي في هذه الزاوية أو الجانب الذي وقع فيه الخلل , كشأن جسم الإنسان عندما يركز كل قوته لمواجهة آثار الإصابة  الموجهة إليه في الجانب المصاب , وشبيه  لذلك مثلا حركات الاستقلال الوطني التي انتشرت في بلادنا مع الاحتلال الأجنبي لهذه الأوطان ولم تكن رد فعل بالمعني السلبي ولجوانب الخلل التي تعاني منها فشمول الإسلام خاصة أصيلة وفيه وهي ملاصقة له لا تبارحه أو لا يمس الإسلام إسلاما بغيرها وهي تتأكد في مواجهة من ينكرها .

وبما يتسق مع هذه النظرة لشمول الإسلام اندمج فكر الجماعة في عملها ونشاطها الحركي, والدعوة ليست عرضا لفكرة والدفاع عنها , ولكنها تنظيم يجمع الناس وينتظمهم في شعب ويأخذهم بالتعليم والتربية الدينية والسياسية , كما إن التكوين الفكري الوجداني للجماعة قام مزيجا من علوم الإسلام التي تدرس بالأزهر ومن القدر الموفق من جودانيات الصوفية في العبارة وربط الفرد بالجماعة كتنظيم , ومن وطنيات الحركات السياسية التي تنادي بالاستقلال السياسي والنهوض به وخاصة الحزب الوطني .

وهذه في تقديري هي الأسس العامة التي تكون هيكل الفكر السياسي الإسلامي في تاريخنا المعاصر , وهي جوانب ذات ثبات نسبي في الفكر الإسلامي المعاصر , تراكمت عبر مرحلة ممتدة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين وقد شارك فيها كثيرون من المفكرين والدعاة والعاملين لنصرة الإسلام ولكننا هنا نحدد ملامح عامة ونتكلم عن أوضح الرموز في بيان تلك الخطوط العامة .
وأهم الدلالات التي يمكن استخراجها من العرض السابق تتعلق بالترابط بين الأوضاع التاريخية التي تلابس جماعة الإسلام في وقت ما بين نوعية الاستجابة الفكرية والسياسية لها من داخل الإسلام وعادته الفقهيه.

وهذه الدلالة نستطيع أن نتتبعها مع عدد من التكوينات الفكرية الإسلامية الأقل ثباتا في خصائصها وسماتها مما سبق عرضه , ونحن نعني بذلك أن الخصائص الأكثر ثباتا في الفكر السياسي الإسلامي في هذا العصر الحديث , إنما هي خصائص تستجيب للملامح الأكثر عموما التي تتسم بها هذه المرحلة الممتدة من تاريخنا المعاصر وهي ما يمكن تسميتها مرحلة " الاستعمار ومقاومته "

ففي هذا الإطار الفسيح للفكر الإسلامي السياسي ظهرت حركات ومجموعات فكرية ذات خصائص ثانوية وأقل ثباتا مما سبق عرضه , وهي عند التحقيق لا تمثل نقضا ولا معارضة للخصائص العامة السابقة , ولكنها تمثل استجابات مرحلية أو إقليمية متغيرة لحالات طارئة أو خاصة , أو لضغوط حادة أو أوضاع غير عادية صادفت المسلمين , وهناك  ما نلحظه في حركات ودعوات مثل ما كان من سعيد النورسي في تركيا أو من جماعات التبليغ ؛

حيث ظهرت في الهند أو ما كان من فكر أبي الأعلي المودودي أو سيد قطب حيثما ظهر وتفاعل , ولكل من هذه التنوعات الفكرية والسياسية ويمكننا أن نلحظ أن هذه الدعوات جميعا ظهرت في أوضاع تاريخية وإقليمية اتسمت بحصر وتضييق على الوجود الإسلامي ؛

ولكنها تنوعت حسب نوع التضييق الحادث كما يظهر مما يلي : أولا حيثما كان الحصر والتضييق يشتد ويمتد إلى أصول العقيدة الإسلامية وتنسد المنافذ أمام التعبير عن الموقف الإسلامي في شموله ويخشي على العامة من تآكل جذور العقيدة في نفوسهم بسبب المخالطات الوثنية كما في الهند أو يسبب سياسة طغيان عارم على اقتلاع الإسلام كما في تركيا الكمالية حيثما كان الوضع صرفت الحركة الإسلامية هكذا المعنية جهدها لتثبيت العقيدة في قلوب البشر وتأكيد دعامات الإسلام في النفوس وتعتني بالأوضاع الاجتماعية المهيئة لاستقرار أوضاع المسلمين المادية والمعنوية .

وهذا ما كان من دعوة محمد إلياس الكاندهلوي الذي أنشأ جماعات التبليغ في بنية  كان المسلمون فيها أقلية غير معززة ضعيفة محاصرة محرومة وهذا ما كان كذلك من بديع الزمان سعيد النورسي الذي واجه  كل محاولات كمال أتاتورك اقتلاع أسس العقيدة نفسها  من صدور الرجال , وقد قصرت جماعات التبليغ دعوا ها على التعليم الحض على إقامة الفروض , وترك المعاصي سواء في الهند أو حيثما وجدت خطرا يهدد هذه الأصول بسبب انتشار الثقافات الغربية الكاسحة , مع الحرص  على البعد عن الدعوات السياسية حرصا على حصر الخصوم وتوسيع الأنصار , كما قصر النورسي حركته على المطالبة بتطبيق أصول الشريعة ومبادئ الإسلام والاستمساك بأركان العقيدة وغير ذلك من الجوانب الإيمانية , مع الحرص على تجنب ما يتعلق بالنظم الإسلامية وتأجيل الاهتمام بكل ما يتعلق بالقضايا السياسية .

نحن نلمح في هاتين الحركتين نوعا من الدفاع عن الخطر الأخير للإسلام خطر المحافظة على استبقاء أصل العقيدة والدفاع عن مقوماتها الأساسية .

ثانيا , وحيثما ارتجت أبواب التعمير عن الموقف الإسلامي من حيث هو نظام شامل ومصدر للشرعية لنظم الحياة والمجتمع وكانت الاستجابة داعية للمفاصلة مع النظم السائدة , وهذا ما نلحظه في فكر المودودي وقطب وبوجه خاص في فكر سيد قطب .
ونحن عندما نتحدث عن فكر سيد قطب إنما نقصد بوجه خاص ما أنتج هذا المفكر في الخمسينيات والستينيات دون ما صدر له من أعمال قبل ذلك , فإن ما يميز هذا الفكر في هذا المقام مما كان له أثر خاص في تاريخ الفكر والحركت السياسية الإسلامية  الحاضرة هو ما ورد في الصياغة الأخيرة لتفسيره " في ظلال القرآن " وفي كتابه الذي شعر بخطره أنصاره وخصومه على السواء " معالم في الطريق "
في الخمسينيات والستينات كانت الحركة الإسلامية مضروبة في رجاله وتنظيماتها , وكان الفكر السياسي الإسلامي مستبعد عن المشاركة في تحديد المفاهيم السياسية والاجتماعية ورسم السياسات , ورغم كل تحفظات قيادة الدولة في مصر وحذرها مما أسمته " استيراد الأفكار " وحرصها وحرص دعاتها على الترويح لما أسمي بالنظام المنبثقة عن واقع المجتمع وتاريخه , ورغم ذلك فقد غلب الطابع العلماني في صياغة مجمل الأفكار والمؤسسات والنظم  ورؤى المستقبل , واكتسب " المثال " الغربي قدرا كبيرا من السيادة في القيم السياسية وفي العادات وأساليب العيش , وفي هذه الظروف ظهر من تحت الرماد وميض ما عرف بفكر سيد قطب .
كان قطب يؤكد على مفهوم الحاكمية لله وحده في جميع  مجالات حياة البشر , ويؤكد أن عقيدة الإسلام لا تتحقق بمجرد القيام بالعبارات , لأن طاعة الله مطلوبة في شؤون الحياة كافة , والصلاة لا تؤدي وظيفتها إذا لم تنه عن الفواحش , والتشريع لا ينفصل عن الإيمان والشريعة لا تنفصل عن ذكر الله إن مجمل هذه الأفكار سائدة في الفكر الإسلامي بعامة ولكن سيد قطب أقام هذا الفكر على نهج فاصل وفارق ؛

فهو فيما يؤكد عليه لا يتعامل مع الأفكار المغايرة ولا يقيم معها جسورا ولا يتوجه إليها بحوار فهو فكر صيغ على وجه يهدف إلى المجانية وليس إلى التغلغل والانتشار , وقطب يبدأ بمقولة صحيحة لا ينكرها مسلم وهي أن الحكم لله وحده ولكنه يستخلص من ذلك أن كل تشريع وأى قانون نضعه إنما يتضمن معني الشرك بالله سبحانه , ومن ثم فهو مسلك جاهلي واعتبر دعوته إنما تقوم لإنشاء الدين إنشاء أى أنها دعوة لاعتناق عقيدة الإسلام حتى لو كانت بين قوم يدعون أنهم مسلمون , واعتبر موضوع التجديد في الفقه الإسلامي موضوعا مرجأ , لأن شرط التجديد أن يوجد الإسلام أولا .

لا صعوبة في بيان وجوه المغالاة في هذا الفكر الذي يحصر المسلمين في نطاق " طليعة " محدودة ويحسر هذا الوصف عن جمهور الأمة المطلوب إنشاء الدين فيها إنشاء على أننا لا نريد هنا أن نحاكم فكرا , ولا يكفينا أن نصف أى فكر أو حركة بالاعتدال أو بالتطرف ونسكت إنما علينا أن نتساءل لماذا يظهر نهج فكري وحركي معين ولماذا ينمو أو يخبو ثم علينا أن نعرف أن الاعتدال والتطرف هما حكمان ينسبان إلى ظرف معين أو وضع خاص وأن الفكرة الواحدة يتغير وصفها ومؤداها من حيث التطرف أو الاعتدال بتغير الظرف الذي تعمل فيه ؛

لأن الحكم يتعلق في صميمه بمدي الملاءمة مع واقع الحال , بل أكاد أقول أن وجهي التطرف والاعتدال قد يكونان نافعين في الظرف التاريخي الواحد , وذلك إذا توجه كل منهما إلى ما يسّر له ونحن هنا بصدد الحديث عن فكر وحركة سياسية , وفي السياسة يتوقف النجاح على حسن أعمال كل من سلاحي التشدد والتهاون كل في مجاله وفي ظرفه .

ونحن لا نحاول أن نجري تلفيقا بين فكرين , ولكننا نحاول أن نفهم وظيفة كل صيغة فكرية في إطار أوضاعها وما يلابسها وخطأ المدارس الفكرية في علاقاتها مع بعضها البعض إن كلا منها لا يدرك وظيفة الأخريات في جوانب معنية من واقع الحال , فهي تتضارب بدلا من أن تتعاون وهي تضع مقاييس الحكم على أساس من الصواب أو الخطأ المطلقين , رغم أن المعيار هنا نسبي يقاس بملاءمة الاستجابة للأوضاع القائمة وما قد تقتضيه أحيانا من تعدد الأدوار .

إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا , رحمهما الله ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة إنما يجري وصف كل فكر وظروف إعماله وفكر حسن البنا لمن يطالعه فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس بعامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعري , وفكر سيد قطب فكر مجانبه ومفاصله وفكر امتناع عن الآخرين , فكر [[البنا]] يزرع أرضا وينثر حبا ويسقي شجرا وينتشر مع الشمس والهواء وفكر قطب يحفر خندقا ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار , والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب .

لقد نشأت جماعة الإخوان كتنظيم علني منشور , ثم ما لبث أن ظهر بداخلها ما عرف باسم " النظام الخاص " وهو تنظيم أكثر إحكاما  وأوثق رباطا يمثل كتيبة صدام عندما تظهر الحاجة لكتائب الصدام سيما أن البلاد كانت محتلة ولكن وجود التنظيمين في بردة واحدة لم يكن له أن يبقي طويلا لأن لكل  من التنظيمين تكوينه المتميز والوسط الملائم الذي يحيا فيه من حيث اختيار الرجال والعلاقات التنظيمية وأدوات العمل ووجوه العطاء المطلوب  والمبذول والمفروض أن يكون لكل منهما فكر أو " فقه"  يلائم وظيفته , الانتشار أو الصدام والفكر هو ما الحياة الذي يلزم لجماعة أعدت  نفسها كتيبة صدام وعضلة امتناع ومحاربة , وليس الفكر اللازم لبناء مجلس نيابي هو عينه الفكر اللازم لبناء جيش مقاتل , ولا الرجال هم هم , ولا علاقات العمل ومستويات النظم هي هي . لذلك فقد حدث بين نظامي جماعة الإخوان ما عرفنا عن وقائع الحركة الإسلامية في نهايات الأربعينيات وبدايات الخمسينيات .

لم يكن سيد قطب في ذلك الوقت من رجال المغالات في الفكر السياسي الإسلامي ولم يعرف " النظام الخاص " ولكن ظروف الخسمينيات والستينيات من بعد والأوضاع التي خضعت لها تجربته الفكرية وملكاته الوجدانية والعقلية وكل ذلك اجتمع ليخرج من يراع هذا الرجل جوهر الفكرة الأساسية التي تقوم عليها كتائب الصدام , وقدم الرجل حياته ثمنا لهذا الصنيع .

وقد تبلور فكران فكر الانتشار وفكر الصدام وقام كل على ساقه ليؤدي الوظيفة التي ترشحها له الظروف في كل حال وتنميها الأوضاع في كل آن ونحن لا نقول إن السلام أفضل  ولا إن الحرب أوجب , هكذا الحال في الفكر الذي يغذي أيا من النشاطين : وإن الواقع الحي يعلمنا أنه لا سلام إلا مع القدرة على الحرب فكلا العنصرين مطلوب في الوقت عينه وكلاهما يغذي الآخر ويتغذي به , شريطة أن يعرف كل منهما مجاله ومجال غيره , وشريطة أن نعرف القدر المناسب من كل منهما لعلاج الأوضاع العينية في كل عصر ومصر , قصدت بهذا العرض التاريخي للملامح  العامة للفكر السياسي الإسلامي  في العصر الحديث , أن أوضح عددا من الأمور أرجوا أن أكون جلوتها بعض الجلاء .. 

من ذلك أن هذه الفكر كما يتراءى لنا الآن هو حصيلة استجابات تاريخية لهذه المرحلة من حياة جماعة المسلمين , وأنه محصلة تراكمت عناصرها لبنة لبنة بواسطة عدد غير محصور من رجال الفكر والسياسة الإسلامية في عصرنا , ومنها أن الخلافات بين الاتجاهات المختلفة إنما هي خلافات تحسمها الحاجة التاريخية والاجتماعية للأمة الإسلامية في كل حال , وأن الحاسم في الحكم على الجوانب الإيجابية لكل اتجاه إنما يتعلق بمدى الاستجابة للشكل الأساسي الذي يطبع عصرنا كله , وهو مشكل التبعية ومطلب التحرر الإسلامي من هذه التبعية للأجنبي ,,, وهذا ما يحدد وجوه التجديد ووجوه المحافظة وإنما الوحدة والتنوع وأساليب الاعتدال والغلو وملاءمات كل وجه من وجوه النشاط .

وإن إيجابيات الاتجاهات المختلفة المختبرة وفقا لما سبق يمكن أن يغذي بعضها بعضا للتراكم في إدراك الأمة كأدوار متنوعة في نسق واحد منتظم.
وإن التنوع مطلوب والكثرية نافعة  متى أمكن نظم وظائفها لتجيب على الوجوه المتباينة للواقع الحال بتعقيداته وتنوعاته فيعين بعضها بعضا ويصوب بعضها بعضا بغير تناف ..
وإن  الظرف التاريخي وأوضاع التحدي التي تقوم أمام الجماعة هي ما تولد أسلوب المواجهة للدفاع عن الإسلام والنهوض بالأمة الإسلامية بوصفها كيانا حيا وهي التي تحدد وسائل الدفاع وأدواته , ونحن نحتاج في كل ذلك إلى قدر مقدور من الوحدة مع التنوع بدرجة لا يجلوها إلا التفاعل مع الواقع  المعين 

الحمد لله طارق البشري