العقد السياسي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العقد السياسي
الإسلاميون والدولة والمسألة الديمقراطية
(19841996)

بقلم : وليد نويهض

إصدارات " الوسط "

مقدمة ثانية

في العام 1996 دعا مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية , إلى عقد ندوة في كلية سانت كاترننز في جامعة أكسفورد البريطانية لمناقشة موضوع الحركات الإسلامية والديمقراطية المواقف والمخاوف المتبادلة ". انعقدت الندوة في 31 أغسطس / آب 1996 بحضور 53 باحثا عربيا من فلسطين والجزائر و لبنان والأردن و مصر والعراق وتونس والبحرين واليمن وقطر والسودان والسعودية وتركز النقاش في ورقتين الأولي تناولت مواقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية والثانية تناولت مواقف الديمقراطية من الحركات الإسلامية .

كان الهدف من الندوة البحث في أسباب ضعف الديمقراطية في البلاد العربية ومخاوف الدول منها ولماذا تتردد الحركات الإسلامية في التعامل مع الفكرة وأدي الموضوع إلى تشعيب النقاش وتفرع البحث واتسع نطاقه ليشمل التاريخ والجغرافيا وسياسة الغرب ( آوروبا والولايات المتحدة ) وتردد الأنظمة في تبني المشروع الديمقراطي خوفا من حصول الحركات الإسلامية على غالبية المقاعد البرلمانية وبالتالي وصولها إلى الحكم .

طبيعة الموضوع فرض مادته السياسية على النقاش . فتوزعت العناوين على قسمين : الأول تطرق إلى الجوانب النظرية العامة والآراء المتداولة بشأن الدولة المعاصرة ودستورها ومفهوم السلطة وعلاقتها بالمجتمع , والثاني تطرق إلى الجوانب العملية ومسألة الصراع بين الدولة المعاصرة والإسلاميين .

كان النقاش يستهدف تعيين الطرف المسئول عن معضلة الديمقراطية في المنطقة العربية لذلك اتجه البحث إلى تأريخ الأزمة منذ إلغاء الخلافة الإسلامية رسميا في العام 1924 وردود الفعل العربية على القرار الذي اتخذه كمال أتاتورك , كذلك وثق البحث عوامل الانقسام وظروفه السياسية وصولا إلى تسعينات القرن الماضي فالأزمة ليست جديدة , ولكنها دخلت في محطات زمنية وتواصلت إلى أن دخلت الدولة في صدامات عنيفة مع الإسلاميين , وهذا الأمر لا يزال قائما حتى الآن .

مضي أكثر من 12 سنة على الندوة والنقاش النظري لا يزال يدور حول نفسه ويتنوع ويتفرع ليعود من جديد إلى نقطة الدائرة .. أما الجانب العملي فقد تغير قليلا وخصوصا في مجال التطبيق وتلك النماذج التي تطرقت إليها أوراق البحث .

تركز النقاش آنذاك على عينات عربية وإسلامية اتخذت أمثلة حسية للدلالة على الأزمة القائمة بين الدولة والإسلام , وجاءت العينات بناء على وقائع جارية كانت تعيشها مصر والسودان والجزائر وتونس وفلسطين وتركيا .

اختيار هذه الدولة ليس مقصودا وإنما القصد من اختيارها كان مجرد كان مجرد محاولة لتقريب الصورة الميدانية ( الواقع العملي ) من التصورات الذهنية , فالفكرة حتى تكون ظاهرة في تكوينها العقلي لابد أن تعزز بأمثلة حسية تنقل المشهد السياسي من المتخيل الذهني إلى واقع معاش يدركه كل متابع للأخبار اليومية .

الآن وبعد أكثر من 12 سنة ماذا حصل من تطورات إضافية على تلك الأمثلة الحسية التي قدمت نماذج عينية في ندوة أكسفورد ؟

أمور كثيرة حصلت ولكنها لا تخرج عن دائرة التجاذب السياسي بين الدولة والمجتمع في مصر لا يزال مجري الوقائع يصب في الاتجاه ذاته من دون تغيير يذكر على المعادلة , إلا أن هناك توجهات جديدة طرأت على مواقف جماعات إسلامية كانت ترفض الديمقراطية والانتخابات وتتبني العنف وسيلة شرعية وحيدة لقلب نظام الحكم ففي العقد صدرت كتابات إسلامية انتقدت عمليات الإرهاب والخطف والاغتيال وقتل المدنيين وتفجير المناطق السياحية , وشكلت هذه المراجعة النقدية التي بدأت بالتوقيع على مبادرة "موقف العنف " في العام 1997. مناسبة لعقد مصالحات جزئية أدت إلى تراجع العنف في مصر والإفراج عن عشرات المساجين , ولكن المراجعة لم تكن كافية لتطمين السلطة وإقناعها بضرورة التسليم بالوقائع والانفتاح على حركة " الإخوان المسلمين " التي أدانت العنف ورفضته منذ البداية .

المصالحة بين الدولة والمجتمع لم تكن شاملة , وهي حتى الآن لا تزال تعاني من أزمة ثقة مزمنة بين السلطة والإخوان , فالسلطة لا تزال من قمة الهرم حتى قاعدته كما هي لم تتغير سياسيا وترفض التصديق أو القبول بأطروحات الإخوان السلمية والمسالمة , وحركة الإخوان السياسية لا تزال ممنوعة رسميا حتى لو شاركت في السلطة والحركة لم يتغير المشهد السياسي خصوصا على مستوى إغلاق الصحف واعتقال الصحافيين ومداهمة مقرات واعتقال مجموعات ومحاكمة قادة في أحزاب المعارضة والنقابات .

في السودان أيضا لم يتغير المشهد كثيرا بل هناك مجموعة تطورات أسوأ من السابق , الانقلاب الذي كان مر عليه سبع سنوات وقت انعقاد ندوة أكسفورد انقلب على نفسه وانشق قادته وتوزعوا على أحزاب موالية للسلطة ومنظمات معارضة لها حتى الشيخ ( المؤسس ) حسن الترابي اختلف مع قادة الانقلاب ( الجناح العسكري ) فطرد من السلطة واعتقل وأفرج عنه ليعتقل مجددا ويحاكم بتهمة التآمر ثم يفرج عنه ليصبح أحد أبرز قادة المعارضة لنظام ساهم هو في تأسيسه .

الآن وبعد كل تلك السنوات لا تزال قمة السلطة على حالها لم تتغير في وقت يواجه السودان ( الدولة ) سلسلة مخاطر قد تؤدي إلى تشطيره إلى كانتونات سياسية تتوزع النفوذ والثروة من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب ( إقليم دار فور )

في الجزائر جرت تبديلات طفيفة على المسرح السياسي . فالسلطة لم تتراجع عن مواقفها المبدئية من العنف , ولكنها فتحت باب المصارحة والمصالحة وأعطت فرصة زمنية للتفاوض والعودة إلى الحياة المدنية , وأدي انفتاح السلطة الجزئي إلى تسهيل عقد تسوية جزئية بين الدولة والإسلاميين في عهد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة أسفرت عن الإفراج عن قادة الجبهة الإسلامية مقابل التعهد بعدم مواصلة دعم المنظمات المتطرفة التي تكفر السلطة وتدعو إلى إسقاطها وتغييرها من طريق القوة .

العنف في الجزائر تراجع نسبيا في العقد الأخير قياسا بالمرحلة السابقة التي شهدت حالات مرعبة من القتل اليومي ومجازر ارتكبت ضد المدنيين في القرى والبلدان , وبسبب تلك المشاهد الدموية التي كادت تصل إلى شفير الحرب الأهلية اقتنعت الدولة أن المصالحة هي الأسلوب السليم كذلك اقتنع قادة أكبر تنظيم إسلامي أن السلم الأهلي هو الطريق الأفضل للوصول إلى تغيير السلطة .

الخوف على الجزائر ( ماضيها ومستقبلها ) أسس مصالحة معقولة أوقفت نسبيا مسلسل الجرائم , ولكنها لم تنجح في التطور للوصول إلى تسوية تاريخية لابد من عقدها لضبط الانهيار الحاصل بين الدولة والمجتمع .

في تونس لم تتغير صورة المشهد فالمعادلة لا تزال على حالها تراوح مكانها فهي لم تتراجع إلى درجة العنف ولم تتقدم إلى درجة المصالحة , الآن وبعد 12 سنة لا تزال السلطة من قمتها إلى قاعدتها كما هي لم تتغير ولم تبدل نظرتها أو علاقاتها مع الإسلاميين ومختلف تنظيمات المعارضة الأخرى .. كذلك لا يزال زعيم حزب النهضة الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي في المنفي وغير مسموح له بالعودة إلى بلاده وممارسة حقوقه المدنية وحقه في الاعتراض على سياسات السلطة .

في فلسطين تدهور الوضع كثيرا بعد رحيل مؤسس السلطة ياسر عرفات , فالزعيم الفلسطيني الراحل نجح بحدود نسبية في ضبط العلاقة المتوازنة بين القيادة والقوى السياسية , واستطاع بسبب خبرته التقليدية في إدارة الصراع بين " فتح " و" حماس " من دون التورط في مواجهات دموية أو صدامات مسلحة .

هذه العلاقة المتأزمة بين "فتح " و" حماس " مرت في محطات صعبة شهدت أحيانا تجاوزات سياسية في التعامل مع المؤسسات المدنية والمنظمات الأهلية , ولكنها حافظت على الحد الأدني المطلوب لضبط الوحدة الفلسطينية ومنع الاحتلال من استغلال الثغرات والتحكم في المسار العام للمفاوضات مع " إسرائيل ".

رحيل عرفات قلب المعادلة وترك فراغات سلبية أدت إلى تعديل الكثير من المشهد السياسي الفلسطيني , فاليوم تبدو الصورة متعارضة ومنقسمة إلى سلطتين واحدة تقودها " حماس " في غزة وأخري تقودها " فتح " في الضفة .

انهيار المشهد الفلسطيني جاء في سياق تراكمات أدت إلى تمزيق الصورة في النهاية , فـ " حماس " دخلت الانتخابات التشريعية تحت سقف سلطة اتفاقات أوسلو . ولكنها حاولت اختراقها بعد نجاحها في العملية الديمقراطية , وهذا ما عزز الانقسام بينها وبين " فتح " وصولا إلى الدخول في مواجهات دموية لم تتوقف ألا بعد تقسيم السلطة إلى قوتين في ظل احتلال يحاصر ويترصد الفرص للانقضاض .

تركيا هي الدولة الوحيدة التي تغيرت جزئيا ودخل فيها المشهد السياسي في محطة جديدة تحتاج إلى وقت للتبلور والاستقرار تركيا الآن اختلفت عن تلك الصورة التي ظهرت فيها خلال عقد ندوة أكسفورد , آنذاك كانت تمر في حال من الانقسام السياسي والتجاذب الأيديولوجي بين رأس الدولة العلماني ورئيس الحركة الإسلامية نجم الدين أربكان الذي فاز حزبه بغالبية مقاعد البرلمان , اضطر الإسلامي أربكان أن يصافح العلمانية تانسو تشيلر وبعقد معها مصالحة لتشكيل حكومة ثنائية , ونجحت المصافحة مؤقتا , ولكنها انهارت بسبب ضغوط المجلس العسكري الحاكم فخرج أربكان من الحكم إلى السجن وتقاعدت تشيلر قبل الأوان .

الحركة الانقلابية لم تكن موفقة . فهي من جهة أفشلت تجربة ولكنها من جهة فشلت في منع نمو تجربة مشابهة وتكرارها في أطر سياسية وتنظيمية مغايرة .

ما حصل في تركيا لاحقا يعتبر من النماذج الواقعية والمعقولة التي تريد تأسيس تسوية تاريخية بين الدولة والمجتمع تقوم على فكرة المصالحة بين سلطة علمانية وحركة إسلامية .. فالحركة الإنقلابية أدت إلى انقسام حزب أربكان وخروج الثنائي طيب رجب أردوغان وعبد الله غول ( قادة تيار الشباب ) على الشيخ المؤسس وإعادة تشكيل حركة إسلامية معاصرة تقبل بالقوانين الجمهورية وليست متطرفة في نزعتها الدينية .

في المقابل اكتشفت السلطة أنه لابد من الاعتراف بالواقع والتعامل بعقلانية مع حركة الشارع وهوية المجتمع المسلمة , وأدي هذا التنازل المتبادل إلى تلوين السياسة التركية بالديمقراطية وتقاسم مواقع الدولة من دون اللجوء إلى العنف وأسفر هذا الوعي التاريخي المتقدم عن إطلاق مسار جديد في تجربة نموذجية تستهدف في النهاية إعادة تجسير العلاقة بين الدولة والمجتمع , وهذا ما حصل بالضبط حين نجح الإسلاميون الجدد في الانتخابات وقاموا بتشكيل حكومة حققت نجاحات اقتصادية رفعت من شعبية رموز الحركة الإسلامية .

الآن دخلت تركيا في تجربة نموذجية تحتاج إلى وقت للتبلور . وفي حال أخذت السلطة المركبة من قوتين مجالها الزمني ولم تتعثر محليا وإقليميا ودوليا يتوقع أن تلعب هذه المصالحة السياسية دورها المطلوب للتأثير على مسارات " الديمقراطية " في البلدان العربية وما تقتضيه من ضرورات وشروط ومستلزمات لإنجاح ما اتفق المشاركون في ندوة أكسفورد على تسميته " الديمقراطية التوافقية " التي تقوم على فكرة تسوية تاريخية بين الدولة المعاصرة والإسلام المعاصر .

قبل أكثر من 12 سنة بحثت هذه القضية على الصعيدين النظري والعملي , حتى الآن لا تزال التجربة عاثرة وتحتاج إلى وعي تسووي يقرأ التاريخ ويستفيد من التجارب والعبر , فكيف كان أمر الدولة والحركات الإسلامية آنذاك وكيف تعاملت مع بعضها واقعيا وكيف تعاطت منهجيا مع مقولات نظرية بعاد إنتاجها وتكرارها من دون تقدم "

البحرين سبتمبر / أيلول 2008

مقدمة أولي

من الصعب حصر مواقف الحركات الإسلامية العربية من مسألة الديمقراطية والفكر العاصر , فهناك عقبات تمنع تحقيق الهدف المذكور عنها :

أ‌- تنوع التنظيمات وتطور أفكاره وتعارض توجهه السياسي بين فترة وأخري .

ب‌- اتساع المساحة الجغرافية لعمل المنظمات الإسلامية واختلاف استراتيجياتها بين دولة عربية وأخري .

ت‌- انقسام التنظيم الواحد وتعدد مصادر كل طرف الفكرية والثقافية والاجتماعية .

ث‌- صعوبة الحصول على وثائق مختلف المنظمات نظرأ إلى تنوعها من جهة ولجوء بعضها إلى العمل السري من جهة أخري .

حتى يتم حصر البحث كان لابد من توزيع عمل الجبهات الإسلامية إلى فريقين كبيرين : الأول يشارك بنسب متفاوتة في برلمانات بعض الدولة العربية وحكوماتها الأردن ولبنان والمغرب مثلا ) والثاني يناهض الأنظمة العربية ويحاربها سياسيا في بعض المناطق , وعسكريا في مناطق أخري .

بعد تقسيم الجبهات إلى فريقين تم إهمال الأول لسبب بسيط وهو عدم وجود مشكلة لديه مع الدول العربية التي يتحرك في داخلها , الأمر الذي يسقط مبرر البحث وهو المسألة الديمقراطية .. وتم التركيز على الفريق الثاني بسبب وجود تلك المشكلة وهي سلبية التنظيم من الديمقراطية أو سلبية الدولة وحساسيتها من التنظيم .

بعد أن تم تحديد الفريق الإسلامي المطالب بتوضيح وجهة نظره من الديمقراطية كان لابد من مراجعة المسألة في ضوء نقاط ثلاث .

الأولي , تطور الفكرة واختلافها داخل التنظيم نفسه بالتركيز على أدبياته الصادرة حديثا في الثمانينات ومطلع التسعينات ( 1984 -1996 ) .

الثانية , التنازع بين المنظمات الإسلامية واختلاف تفسيراتها للمسألة الديمقراطية

منظور سياسي لأنها في النهاية هيئات تنشط في المجتمع , الأمر الذي يغلب على عملها الجانب السياسي على الديني .

نتيجة غلبة السياسي على الديني في أنشطة المنظمات الإسلامية كان من الصعب فصلها عن البيئات التي تتحرك فيها وتحديدا نمط علاقتها بالدولة الوطنية ( المعاصرة والحديثة ) وموقف الدولة نفسها من مسألتي الديمقراطية والإسلام فالبحث في أفكار الهيئات الإسلامية يبقي قاصرا إذا لم يتم تناول المحيط السياسي الذي تنشط فيه . كذلك ستكون الأفكار مجرد آراء عامة معزولة عن حركة الواقع ومناخاته الاجتماعية والثقافية فقضاء الحركات الإسلامية في النهاية قضاء سياسي ولابد من قراءة صفتها بالواقع لفهم اضطراب علاقاتها بالدول العربية .

بسبب تلك الصلة كان لابد من الاطلاع السريع على مواقف الدول العربية المعنية نفسها بسياسة المجتمع ومسألة الديمقراطية, فالمشكلة ليست من جهة واحدة بل من جهتين , وحتى تكتمل القراءة كان لابد من فهم تعقيدات العلاقة بين الطرفين التي تشهد أحيانا فترات هدوء واستقرار ثم تشهد أحيانا أخري فترات اضطراب وتشنج.

خوفا من اتساع الملف تم تجاوز الكثير من القضايا المتعلقة بأسباب إخفاق أسلوب التحديث والتنمية وعجز الدول المعنية عن تطوير الإنتاج وزيادته ليتناسب مع ازدياد السكان , كذلك تم القفز عن إهمال الدول لقضية تطوير المجتمع وأهمية إطلاق الحريات لدفع الوعي السياسي إلى مرتبة أعلي تتناسب مع نمو وعي الناس بهوياتهم ومشكلاتهم ومطالبهم , وبما أن الحرية لا تنمو في دولة استبدادية , كذلك لا يمكن تطور فكرة الديمقراطية في دولة لا تعترف بها وترفض الخضوع لشروطها السياسية والإنسانية .

نحن إذا لسنا أمام فريق يرفض الديمقراطية وأخر يقبل بها , بل إننا أمام وضع لا سياسي ممنوعة فيه كل أشكال التعبير . الأمر الذي يجعل البحث في مسألة الديمقراطية مجرد ترف فكري لا علاقة له بمجرد حركة الواقع , وصلة الأخير بصراع الأفكار , وربما تكون النقطة الأخيرة أهم ما حاول البحث إبرازه من خلال صدمات عربية عنيفة شهدتها المنطقة في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات والصدمات الأخيرة ليست معزولة عن تداعيات شهدتها المنطقة في مطلع القرن الماضي .

أكسفورد آب / أغسطس 1996

الفصل الأول الإسلاميون والصراع على المسألة الديمقراطية

الإسلاميون والصراع

على المسألة الديمقراطية

الدولة الحديثة وإلغاء الخلافة

في العام 1924 أصدر محمد فراج المنياوى مجلة باسم " المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر , ردا على إلغاء كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية قال إنها " مجلة علمية دينية دورية للدعوة إلى عقد المؤتمر " وذكرت المجلة في مقالها الافتتاحي أنها تهدف إلى نشر الدعوة , إلى مؤتمر يبحث في شئون الخلافة " وأن " المسلمين لا يريدون سوى عقد مؤتمر يحضره ممثلو الأمم الإسلامية لحل مسألة الخلافة ".

وأدلي في المجلة المذكورة ( العدد الثاني , نوفمبر / تشرين الثاني 1924 ) الشيخ محمد رشيد رضا برأيه في الدعوة إلى مؤتمر ووجد فيه فرصة سيقرب " بين المخلصين من الواقفين على الطرفين فيجذبهم إلى الوسط " وسيدحض " شبهات الذين يظنون أن الشرع الإسلامي يحول دون ارتقاء الأمم إلى أرقي معارج القوة والعزة وأوج الحضارة كان الشيخ رضا يرد في مقالة على تيارين : المتمسك بالقديم من دون غيره المتمسك بالجديد من دون غيره , وهو يري أن " لا سبيل إلى الجمع بين الأمرين , وجعل نظام الخلافة متفقا عليه من الفريقين : إلا بإظهار الشرع الإسلامي بقسمية التنزيلي والاجتهادي في أسلوب من البيان , يعلم موافقته لحال هذا الزمان في كل مكان " يرفض رشيد رضا في المقال تيار : المتشددين في المحافظة على القديم المألوف وينكرون كل محدث وإن كان معروفا ويسكتون على القديم وإن كان منكرا " وضدهم تيار الغلاة في طلب التجديد فهم يحبذون كل جديد وإن كان قبيحا , يقبحون كل قديم وإن كان حسنا .

كتب الشيخ محمد رشيد رضا هذا الكلام قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات ( توفي في العام 1935 ) وما زلنا وبعد 82 سنة من كتابة المقال نقرأ ما يشبه أفكاره التي أعيد صوغها بأسماء مختلفة وبأساليب متعددة , فالموضوع الفكري هو نفسه يعاد إنتاجه وتكراره ثم يكرر وينتج من دون تراكم معرفي في وقت يستمر الزمن في جريانه غير مكترث لتلك الأطنان من الكتب والأوراق , المأزق بدأ حين تلاشت الخلافة وبدأت الهوية الإسلامية الجامعة بالضياع والتمزق على هويات متخالفة قوميا ولغويا وثقافيا .

إذا هناك مشكلة وهناك ما يشبه الاتفاق على وجودها , هناك حل , وهناك ما يشبه الاختلاف عليه , والسؤال : هل هناك خلافات فعلية على الحل بين ما يسميه رضوان السيد تيار الصحوة وتيار الإصلاح في دراسته عن " التأصيل والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر ؟

نظريا يمكن أن نلاحظ الاختلاف بين النزعتين وعلميا يلاحظ أن هناك تشابها في قراءة المشكلة وحلها , تيار الصحوة يقوم على فكرة استدعاء النص وتيار الإصلاح يقوم على فكرة استيراد النص .

الأول يقول : ما فينا يكفينا , والثاني يقول : " ما ناسب غيرنا يناسبنا ".

إذا هناك مشكلة يريد تيار الصحوة معالجتها بالنص , ويريد تيار الإصلاح معالجتها بالنص أيضا . الفريقان يريدان معالجة المشكلة بحلول ذهنية ( نصوصية) بينما حقيقة المشكلة واقعية ( تاريخية ).

ربما تبدأ أزمة الفكر المعاصر ( عربيا وإسلاميا ) من هذا الخلل المنهجي في قراءة الواقع التاريخي وتحليل أسباب التفاوت القائم بين العالم الأوروبي والعالم العربي .

أدي الخلل المذكور إلى قراءة نصوصية لمشكلة واقعية فاعتبرت المدارس الفكرية أن الحل هو في الفكرة وليس في التاريخ , الأمر الذي دفعها إلى محاولة تغيير النص لا تغيير الواقع , فانشق عن المحاولة من يدافع عن النص في وجه من يريد استبداله .

إذا حاولنا اليوم اختزال ذاك الكم الهائل من النقاشات يمكن إدراجها تحت عنوان مشترك يؤكد اتفاق تيار الصحوة مع تيار الإصلاح في منهج التفكير .

اعتمد تيار الصحوة على اقتباس النصوص وتركيب فقرات على بعضها بعضا محاولا استدعاء الحلول للرد على المشكلات المعاصرة , واعتمد تيار الإصلاح على المنهج ذاته فاكتفي باقتباس نصوص مترجمة وحاول إعادة تركيبها فقرات مختارة من هذا الفيلسوف الفرنسي أو العالم الاجتماعي الألماني , أو ذاك المفكر الاقتصادي الانجليزي , ظنا منه أن الإكثار من التشكيلات الفكرية يسرع من عمليات الإصلاح والتحديث .

لا شك في أن التيار الأول افتقد القدرة على وعي المشكلة بينما الثاني كان يعوزه وضوح الحل , وبين ضعف الوعي وقلة الوضوح دار أطول اشتباك فكري في تاريخنا وهو ما زال يكرر نفسه على أكثر من جهة وجبهة نار .

يحاول رضوان السيد في بحثه المذكور أن يلتقط عناصر الأزمة فيلاحظ أن الإصلاحية الإسلامية تحالفت موضوعيا مع رجالات عصر التنظيمات العثمانية في مجال إقامة منظومة جديدة تستوعب المتغيرات العالمية التي أحدثتها صدمة الغرب , لكن التحالف أنهار في مطلع القرن الماضي عندما بدأ الفكر الإسلامي المعاصر " الظهور بشكل متدرج في عشرينات القرن العشرين .

وعلى خلفية قطيعة تدريجية أيضا مع فكر وممارسات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت في أقطار السلطنة العثمانية , في فترات من القرن الماضي , وهكذا " بدأ أن خللا ما بدأ يظهر في مجالين : مجال علاقة الإصلاحية الإسلامية بالغرب أو نظرها إليه , والمجال الآخر علاقة أو تحالف الإصلاحيين بالدولة ورجالاتها .

أدي الخلل الأول إلى تعزيز شك النخبة الإسلامية العربية في الغرب وأخذت تربط بين السياسي والثقافي وخصوصا بعد الكشف عن اتفاقية سايكس – بيكو وصدور وعد بلفور وما قيل عن تراجع مكماهون عن وعوده للشريف حسين .

وأدي الخلل الثاني إلى تعزيز شك النخبة الإسلامية العربية في رجال الدولة المعاصرة ( القومية ) وباتت تجد في كل محاولة تحديث مؤامرة على الأمة وتاريخها , وانفجر الوضع بين رجال الإصلاحية الإسلامية ورجال الدولة عندما عمد مصطفي كمال أتاتورك – كما يذكر رضوان السيد – إلى " الفصل بين السلطنة والخلافة العام 1921, ثم ألغي الخلافة العام 1924, وأقام نظاما قوميا علمانيا متشددا فصل بمقتضاه الدين عن الدولة (....) مع عدائية صريحة ضد الإسلام ومؤسساته ورجالاته .

من هنا يمكن فهم لماذا أقدم محمد فراج المنياوى على إصدار مجلة في العام 1924 تقتصر مهمتها على الدعوة إلى عقد إسلامي لإعادة الخلافة واختيار خليفة .

آنذاك كان محمد رشيد رضا من رجال التيار الإصلاحي , وعندما كتب مقالة في المجلة المذكورة كان في بداية طور الانتقال إلى تيار الصحوة والتمسك بالسلف الصالح .

يشرح رضوان السيد تلك الفترة بالقول :" لعل أبرز مظاهر تلك الأزمة , التي تخلق في رحمها الفكر الإسلامي المعاصر : تحولات رشيد رضا ونشوء حركة الإخوان المسلمين " إذ " أحدثت الأزمة حيرة وضياعا انعكسا خوفا على الذات والهوية وخصوصية الإسلام وأصالته "

ثلاث محطات للفكر الإسلامي الحديث

يمرحل عبد الله فهد النفيسي في دراسته عن " تقويم الفكر الحركي للتيارات الإسلامية " ( مجلة العلوم الاجتماعية صيف 1995 ) تطور حركة الإخوان المسلمين من التأسيس (1928) إلى اغتيال مؤسسها حسن البنا (1949) على محطات ثلاث : الأولي (1928 -1939) وهي :" مرحلة التعريف بالجماعة ومبادئها العامة وشعاراتها " والثانية (1939 -1945) وهي :" مرحلة استكمال البني التنظيمية والإدارية للجماعة " والثالثة ( 1945 -1949) وهي :" مرحلة الفعل والتأثير في الحوادث المصيرية , وانتهت بمقتل البنا .

تمر حركة الإخوان – بحسب تحليل النفيسي – بمرحلة من الاضطراب لمدة تقارب السنوات الثلاث " حتى تسلم حسن الهضيبي القيادة في 19 أكتوبر / تشرين الأول 1951"

وفي أقل من سنة حصل انقلاب 23 يوليو / تموز 1952 الذي انتهي إلى التصادم مع جمال عبد الناصر في العام 1954 وأدي إلى حل تنظيم الإخوان ووضع قادته في السجون .

في المرحلة المذكور حصل أهم تطور في حياة الإخوان ليس في نهج السياسة وإنما في الثقافة , عندما انتقل فكرها من الدعوة إلى التربية وإصلاح المجتمع وعدم تعارض النظام الإسلامي مع النظام النيابي واحترام إرادة الأمة وضرورة وضع تصورات وأنظمة لمستقبلها إلى الدعوة للإنقلاب والثورة على الحكم , وهي الدعوة التي صاغ نظريتها السياسية سيد قطب بين 1954 , 1965 .

ركز قطب على فكرتين جاهلية المجتمع والحاكمية ورأي أن الحكم يسبق الإصلاح , بينما ركز حسن البنا على مسئولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها وأن الإصلاح يسبق الحكم أو يمهد له .

ويري رضوان السيد أن كتابات سيد قطب أربكت الفكر الحركي الإسلامي وما استطاعت تلك الكتابات العودة لشئ من التوازن حتى مطلع الثمانينات " حتى استتبت الصحوة الإسلامية على المستوى الثقافي والاجتماعي وهي تناضل الآن من أجل مساحة على الساحة السياسية .

لكن عندما نضج فكر الحركات الإسلامية المعاصرة وقيلت بمنظومة التعايش مع الغرب والتصالح مع الدولة ( المعاصرة القومية ) فتح الغرب معركته وعاد التصادم بين الدولة والجماعات الإسلامية .

قبل قراءة هذه الفترة وتحليل أسباب تصادم الدولة مع الجماعات لابد من العودة قليلا إلى مراحل التكوين التاريخي للفكر الإسلامي المعاصر وصولا إلى التسعينات وسنكتفي بمرجعين كتبا حديثا (1995) للمفكرين عبد الله النفيسي ورضوان السيد تناولا مجموع تلك القضايا الخلافية بين الإسلاميين .

يمكن طرح السؤال بشأن القضايا الخلافية كالآتي : كيف تطور الفكر الحركي الإسلامي من مرحلة التأسيس 1928 إلى مرحلة إعادة التأسيس في 1954 , ثم العودة في الثمانينات إلى مرحلة العشرينات ؟

لا يختلف تحليل النفيسي كثيرا عن تحليل السيد , الأول يقرأ الأفكار حزبيا ويضعها في سياقها السياسي وظروفها العامة , ويقرأ الثاني الأفكار كفترات زمنية تنتقل سياسيا من محطة إلى أخرى حاملة معها بصمات المرحلة السابقة .

يصنف النفيسي الفكر الحركي الإسلامي إلى مدارس فكرية , فهناك مدرسة حزب التحرير ( الشيخ النبهاني ) ومدرسة الإخوان في رموزها الفكرية الثلاثة البنا وقطب و سعيد حوى , ومدرسة تنظيم الجهاد ومرجعها محمد عبد السلام فرج وكتابه " الفريضة الغائبة , ثم يضع حزب الدعوة الإسلامي ( العراقي الشيعي ) إلى جانب التنظيمات الحركية الفكرية التي انتشرت في الأوساط السنية كمصدر من مصادر الفكر الإسلامي المعاصر .

يبدأ النفيسي من حزب التحرير على رغم أن تأسيسه جاء بعد عقدين من تأسيس حركة الإخوان , ويري أنه يركز على الفكر ويهمل موضوع التربية ومسألة الحرية ويشدد على عودة الخلافة الإسلامية وذلك عن طريقين العمل الثقافي والعمل السياسي , ومتي وجد الخليفة وجدت الدولة , لأن الدولة الإسلامية هي الخليفة , لذلك تميز حزب التحرير عن غيره بتركيزه على الدولة وقيامها فسارع إلى وضع مشروع دستور لها يتألف من 182 مادة تناولت مهمات الرئيس ( الخليفة ) والولاة والقضاة والجهاز الإداري والجيش ومجلس الشورى والنظام الاقتصادي وحقوق المرأة الاجتماعية والسياسية وغيرها من تفاصيل تتعلق كلها بمهمات الدولة ووظائفها .

ينتقل النفيسي إلى حركة الإخوان ويستعرض تطورها التاريخي ابتداء من المحاضرات والدروس وإصدار المجلات والرسائل والاتصالات للتعريف بالجماعة وتشكيل لجان الدراسات الفنية " لصياغة القوالب النظرية التي تمثل الإسلام في حياتنا العامة , ويري أن البنا كان يتقيد بالأهداف المرحلية بشكل صارم , ويحاول أن يدخل في الإخوان هذه الموهبة السياسية إزاء الحماس والتدافع بينهم لخدمة الدعوة , واستمر الأمر في السياق المذكور إلى أن نشأ الجناح العسكري للجماعة الذي عرف بـ" النظام الخاص " وهو الذي ورط البنا والجماعة في شبكة من المأزق السياسية الخطرة , التي عرضت البنا للاغتيال , والجماعة للحل , فالبنا كان يتجنب المعارك الجانبية ويعقد المؤتمرات لإعادة النظر ومراجعة الخطط ( مؤتمرات 1933 , 1935 , 1937 , 1939 ) وأخيرا ممارسة النقد الذاتي .

بعد رحيل البنا بدأ الصراع بين الجناح السياسي للإخوان برئاسة المستشار حسن الهضيبي ورئيس الجناح العسكري بقيادة عبد الرحمن السندي , الأمر الذي أربك الإخوان وجعلهم يتخبطون في أولوياتهم ما أتاح لنظام عبد الناصر ضربهم بعد دخولهم في صراع مباشر معه .

غاب فكر الإخوان بغياب قادة الحركة في السجون ولم يظهر في تلك المرحلة سوى كتاب " معالم في الطريق " لسيد قطب فقلب النظريات السياسية السلمية لحسن البنا , وعرض الإخوان مرة أخري للملاحظة وإعدام قطب .

أدي إعدام صاحب كتاب " المعالم " إلى انتشار أفكاره وتحولت مقولاته إلى مرجع لكثير من الجماعات الإسلامية , التي نشأت فيما بعد , كجماعة الجهاد ,وجماعة المسلمين , التي اشتهرت باسم التكفير والهجرة .

دخل الإخوان في فترة غيبة فكرية وسياسية إلى أن بدأت الفترة الجديدة بعد الإفراج عن المعتقلين في عهد السادات مطلع السبعينات وهي مرحلة تميزت بنمو فكر جديد بقيادة المفكر الإخواني السوري سعيد حوى وغياب أى نشاط فكري لفرع الإخوان في مصر في الفترة الممتدة من 1970 إلى 1981 على رغم أن إعادة تأسيس الفرع بدأت في 1973, ويري النفيسي أن " هذه الحزبية البارزة لدي سعيد حوى تعكس حالة فكرية وثقافية ونفسية مختلفة تماما عن الحالة الفكرية والثقافية والنفسية التي كان يكتب في إطارها المؤسس حسن البنا مع ذلك " فهو يقبل مبدأ المشاركة في الوزارة , حتى لو لم تكن الدولة إسلامية أو عادلة .

يلاحظ النفيسي أن حركة الإخوان في مصر شهدت تحولا منذ السبعينات وهو " العزوف عن العنف بكل أشكاله , والالتزام بنهج العمل السلمي والتعددي , وهي على رغم خلافها مع السادات في مسائل عدة ( زيارة إسرائيل 1977 , و كامب ديفيد 1978 والمعاهدة مع " إسرائيل " 1979 ) التزمت " بالمعارضة السلمية لكل ذلك " يري " أن فكر الإخوان الحركي في مصر قد استقر على خيار العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالأساليب الدستورية القانونية المتاحة وليس خروجا عليها " وتمثل التحالفات الانتخابية والنقابية نماذج للعمل السلمي الإخواني كما حصل في دورتي 1984, 1987.

ينتقل النفيسي إلى فكر تنظيم الجهاد ونظرية " الفريضة الغائبة " التي تطالب بضرورة الجهاد من أجل إقامة الخلافة كهدف نهائي للتحرك , ويختلف فكر الجهاد كثيرا عن فكر حركة الإخوان حتى تلك التي انشقت عنها كجماعة التكفير والهجرة فالأخيرة تري أن الحاكم والمحكوم يعيشان في مجتمع جاهلي لابد من تفويضه بالهجرة عنه ثم فتحه بعد تكوين نواة الجماعة الأولي , بينما تنظيم الجهاد يري أن مصدر الفساد " يتركز في النظام السياسي الحاكم وليس في المجتمع ,والجهاد عنده هو وسيلة عملية لتقويم وضع لا يتمتع بالشرعية الإسلامية كما يفهمها التنظيم , ويري النفيسي أن فكر تنظيم الجهاد يمثل بكل المقاييس التجسيد والتجسيم المتكامل للفكر الاقتحامي ".

يأتي النفيسي أخيرا إلى فكر حزب الدعوة الذي تأسس في 1977 قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران بسنتين و لذلك يبدي الحزب تحفظه على " مفهوم ولاية الفقيه , ويعلن عدم التزامه بالمرجعية" ويستند إلى كتب السيد محمد باقر الصدر وأوراق البيانات والوثائق التي تحدد رؤية الحزب لقضايا التنمية والصناعة والتجارة والنفط والسياسات الخارجية والداخلية والمالية ودور الدولة في المجتمع والمواقف من القومية والمشكلة الكردية ولا يستبعد استفادة الحزب من تقنيات الثورة الإيرانية على رغم التوتر بينهما .

لا يتعارض تحليل النفيسي مع تحليل رضوان السيد العام في تقييمه لنمو الاتجاهات الفكرية المعاصرة في الحركات الإسلامية ومدارسها يبدأ السيد من الفكر إلى السياسة , بينما ينطلق النفيسي من السياسة إلى الفكر ويصلان معا إلى تشابه في قراءة حركة الفكر الإسلامي وتطوره المعاصر .

يقول السيد في بحث بعنوان :" حركات الإسلام السياسي والمستقبل , إن " مشكلة المشاكل في الإسلام السياسي المفاضل أنه ظهر واستتب في بيئات خلت من الثقافة والسياسة منذ أواخر الخمسينيات , تستخدم " حركات الإسلام الإحيائي أو الصحوى في مقاربتها للنصوص الدينية منهجا جديدا ما عرفه الفقهاء التقليديون ولا الإصلاحيون المحدثون ويظهر ذلك في تعبيراتهم التي لا تخلو من المقارنة بين نهج السماء ونهج الأرض والنهج الإلهي ونهج التراب والدم والجاهلية والإسلام , وعبودية العباد وعبادة رب العباد , وينتهي إلى تقويم غير محدد لفكر هذه الحركات فيقول :" ولست أجد مقياسا رب العباد , وينتهي إلى تقويم غير محدد لفكر هذه الحركات فيقول :" ولست أجد مقياسا أقبس به هذه الثقافة أهي عصرية أو متخلفة أو ماضوية أو مستقبلية كما أنني لا أري معني لذلك .

يري السيد أن المشكلة الفكرية بدأت مع ما كتبه سيد قطب في السجن وخارجه بين العام 1954, 1965 ولم تنته بإعدامه مع ثلاثة آخرين في العام 1966, وعلى رغم أن قادة الإخوان ناقشوا أفكار قطب في النصف الثاني من الستينات فإن تيار الشبان مال إليه " حتى إذا أخرجهم الرئيس السادات من السجن العام 1971 انصرفوا لتكوين تنظيمات مختلفة يجمعها كلها القول بضرورة التغيير للأوضاع القائمة بالقوة , أما التيار الرئيسي في الإخوان رفض فكرة " الحاكمية والجاهلية " وقام بنقدها ونشر النقد في كتاب مشترك , كتب في النصف الثاني من الستينات وصدر العام 1977 بعنوان " دعاة لا قضاة " بينما تمسكت جماعات التطرف بكتابات قطب وعبد السلام فرج وبرزت منها تنظيمات مختلفة مثل " الفنية العسكرية " في 1974, والتكفير والهجرة في 1977, وجماعة الجهاد في 1979.

يحدد السيد سمات الفكر الإسلامي بين الأربعينات والسبعينات في بحث " التأصيل والتجديد " على النحو الآتي :

أولا : مشاركة دائرة واسعة من المثقفين العرب والمسلمين ( من غير الإخوان ) في حملة تأكيد الذات والهجمة على الغرب والاستشراق .

ثانيا : تفاوت المضامين والقيمة المعرفية للفكر الإسلامي المقارن والنقدي ما بين الأربعينات والسبعينيات.

ثالثا : ترمي تلك المؤلفات كما تصرح إلى إحداث قطيعة كاملة بين الغرب والمسلمين أو الثقافة الإسلامية .

ويستنتج أن هذه كانت " جوامع في الجانب الهرمي أو النقدي في الفكر الإسلامي المعاصر حتى السبعينات في المجال الثقافي والحضاري أما " الجانب السياسي فقد تأخرت الكتابات فيه نسبيا , بسبب من الطبيعة الإحيائية والأخلاقية العامة للفكر الإسلامي المعاصر ".

يري السيد أنه مع الثمانينات " أقبل الإسلاميون على القيام بجهود بنائية في مختلف المجالات الثقافية والفكرية , على رغم أن وعيهم بالذات والتمايز لا يزال قائما وقويا " وما يزال هناك التباس لديهم بين الشريعة والقانون وبين الشريعة والفقه , لكنه يلاحظ أن " النزعة التوليفية ذات البعد البنائي تتقدم في صفوفهم , بينما تنكمش الأصالة وتتراجع ".

كان لابد من قراءة طويلة في نصين كتبا حديثا عن تطور الفكر الإسلامي المعاصر وخصوصا في جانبه السياسي / الحركي ليتم التعرف على مسألتين : تطور الواقع السياسي للمجتمعات وتحول طموحها من محطة إلى أخري واختلاف أولوياتها بين مرحلة وأخري ثم تطور الفكر السياسي للجماعات وانتقال وعيها من سياق إلى آخر ثم انشقاقه واندفاعه إلى الأمام وأخيرا عودته لإعادة تنظيم نفسه , وهو أمر يؤكد أن الحركات الإسلامية تنظيمات سياسية قبل أن تكون دينية.

يمكن الاستنتاج من الحركتين حركة الواقع وحركة الفكر أن الثبات ليس سمة من سمات التنظيمات الإسلامية كما أن الوحدة الفكرية ليست متوافرة بينها , فهناك أفكار إسلامية على عدد التنظيمات كذلك هناك اتجاهات مختلفة فكريا في التنظيم الواحد وكل هذه التنويعات في اللوحة السياسية الحزبية للتظيمات الإسلامية المعاصرة وتؤكد مسألة مهمة وهي حيوية تلك الحركات وقدرتها على التفاعل وأحيانا الفعل في الحوادث وأخيرا وهذا هو الأهم مرونتها السياسة واستعدادها للتكيف مع المستجدات مطمئنة إلى شرعيتها التاريخية وثقة الجماهير بصحة خيارها العام : الإسلام .

إلا أنه إذا كنا نريد أن نستكمل التحليل فعلينا ألا نقف في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات كذلك يجب ألا نكتفي بقراءة تطور الأفكار في ضوء تحول الوقائع , فالمسألة ليست فكرية كما تظهر في المشهد السياسي وليست مجرد حلول ذهنية ( نصوصية ) لمشكلات شديدة التعقيد والتداخل .

لابد من قراءة عامة للمعضلة لا تكتفي بشرح وفهم نظريات الإسلاميين عن الدولة والمجتمع والموقف من الحريات العامة بل تعيد قراءة مواقف الحكومات وخصوم الحركات الإسلامية ومفهوم تلك المنظمات السياسية للحركات العامة وتحديدا حرية الإسلاميين في العمل التنظيمي والشعبي , وحقهم في خوض التجارب الانتخابية وصولا إلى المشاركة بالسلطة وانتهاء بالوصول إليها والقبول بتداولها , فما هو حق لغير الإسلاميين هو حق للإسلاميين أيضا .

في السياق المذكور كيف تقرأ الحركات الإسلامية المسألة الديمقراطية ؟ كذلك كيف ترى بعض الأنظمة المسألة , وكيف تقرأ الفكر الإسلامي والتكوين الاجتماعي للحركات الإسلامية ؟

الديمقراطية والخلاف على تعريفها

تطغي على مفهوم الديمقراطية والخلاف المطروح في ساحة التداول الأيديولوجي نظرة إرادية تقوم على منهج تركيب يغلب معطي النص على تعقيدات الواقع , فهناك أسئلة مثل كيف تعرف الديمقراطية ؟ وكيف نطبقها ؟ وهل نريدها ؟ ومن أين نأتي بها ؟ وهل هي مصطلح مفهومي أم معرفة ؟ وهل للمعرفة – المصطلح علاقة بالتاريخ والثقافة أم هي نظرة مجردة يتم إنتاجها في المعاهد العلمية ويعاد تسويقها وتصديرها على أنها فكرة هلامية تصلح لكل زمان ومكان ؟

هل الديمقراطية نظريا هي مجرد هيكل تنظيمي يقوم على فكرة أن الشعب مصدر السيادة وتشكل العلمانية أحد مكوناتها الأساسية ( المواطن والصوت الواحد ) ؟ وهل الديمقراطية عمليا هي مجرد تطبيقات سلوكية وإجرائية تتطلب وجود حكومة تمثيلية ودستورية وسلطة قضائية مستقلة ؟ وهل هي أخيرا مجرد فكرة عامة ومبسطة تقول بالتعددية وتداول السلطة سلميا : ما يفترض وجود أحزاب وتنظيمات وهيئات مستقلة ومتنوعة يعترف بعضها ببعضها الآخر , وتتنافس على كسب الصوت الانتخابي ؟ ( مجلة شئون الأوسط " العدد الثالث , ربيع – صيف 1993 , ص 73-75 ).

إذا كان الأمر كذلك يمكن إذا تدريس الديمقراطيات في المعاهد والجامعات على صورة معلبات فكرية وجاهزة يعاد صوغها في برامج أو نصوص قانونية , وما على الشعب سوي تعلمها وحفظها وأخيرا ممارستها فتنتهي المشكلة بعد جيل أو جيلين ويقضي الشعب – أى شعب – حاجة تاريخية كان لابد منها لصنع تطوره .

لابد أن تكون المسألة أعقد من ذلك لأن مثل ذلك التبسيط يسقط التاريخ من عملية التطور – الديمقراطية وغير الديمقراطي – بالقفز عن شروط المكان والزمان والقواعد التي يتأسس عليها الفكر فالتبسيط الأيديولوجي لفكرة الديمقراطية لا يقل خطورة عن أفكار تلك التيارات التي ترفض الديمقراطية لأنها ترفض استخدام المفرد أو المصطلح , أو أنها تجد فيها فكرة مستوردة لا تناسب هذا التاريخ أو ذاك.

لابد من قراءة الديمقراطية قراءة واعية ومركبة تضع فكرتها في سياق تطورها التاريخي , فالديمقراطية لم تولد جاهزة ولا بقرار ولم تتسلل إلى التاريخ من المعاهد والجامعات هي أساسا خلاصة أنماط من التنظيمات الإدارية أدخلت عليها التعديلات والتطويرات إلى أن انتهت إلى ما انتهت إليه بصيغتها الحالية , والصيفة الحالية ليست نهائية كذلك , بل هي قابلة للتطور التاريخي والإضافات والتعديلات لتتناسب مع المراحل المقبلة المتغيرة زمانيا ومكانيا .

يطرح علينا الإشكال السؤال الآتي : هل التطور الاجتماعي – السياسي في أوروبا مثلا جاء نتاج الديمقراطية أم أن الديمقراطية بصفتها أسلوب حكم جاءت نتاج التطور الاجتماعي – السياسي ؟

إذا كانت الديمقراطية هي سبب التطور يكفي تطبيقها في أى بلد متخلف اقتصاديا واجتماعيا في العالم الثالث وما علينا إلا الانتظار لنري النتائج , وبالتالي على " النخبة " أن تلخص برامجها في فكرة واحدة وتصبح الديمقراطية هي المفتاح السحري لكل المشكلات حتى تلك الناجمة أصلا من تسلط الدول الديمقراطية الكبري واستبدادها واحتكارها مصادر الثروة والقوة .

أما إذا كانت الديمقراطية هي نتاج التطور فلابد إذا من قراءة مختلفة لأزمات الدول المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا في العالم الثالث , وتصبح الديمقراطية فكرة يمكن إدراجها في بناء الوعي المركب الذي يربط درجات التطور بتصور برنامجي يحدد أولويات مشروع النهوض والتقدم لهذه الأمة أو تلك .

كان لابد من وضع إطار عام لحدود الإشكال المعرفي المتعلق بفكرة الديمقراطية حتى نستطيع الدخول إلى الموضوع من سياق مختلف عن القراءات المتداولة فهناك فارق كبير بين أن تكون الديمقراطية فكرة أيديولوجية جاهزة ومعطي نهائيا يقدم على كونه نموذجا سحريا للشعوب والأمم , وبين أن تكون صبغة تاريخية قابلة للتعديل والإضافة والتطور , فالمدخل الأول سالب في علاقته مع الآخر المختلف يحاول أن يأتي التطور من نهايته التاريخية الراهنة , على حين المدخل الثاني إيجابي ومتفاعل مع الآخر المختلف , إذ يحاول أن يرافق التطور بالتكيف مع الموروث التاريخي ويتصالح معه في سياق حركته المكانية والزمانية .

إذا كانت الديمقراطية صيغة قابلة للتطور فإذا يمكن تطويرها لتتناسب مع درجات التطور الاجتماعي – السياسي واختلاف نسب التقدم بين الأمم , أما إذا كانت معطي نهائيا وجاهزة للتصدير وهي سلطة أنتجها الغرب وما علينا سوى تعلمها في جامعات أوكسفورد وكمبريدج والسوريون ونقلها نموذجا بضاعيا , ولا حاجة بنا إلى العقل والتاريخ لصوغها من جديد وفق معطيات مختلفة في مكانها وزمانها . فإن المسألة تصبح خارج الفعل البشري .

المستشرق البريطاني – الأميركي برنارد لويس يسخر في مقالة " قراءة جديدة للشرق الأوسط " من التيار العربي الذي كان يريد أن " السبب الجذري لجميع الشرور والاخفاقات في العالم العربي هو فقدان الحرية , وأن في الديمقراطية وحدها حلولا لمشكلاتهم , ويربط لويس بين الديمقراطية وشعوب أوروبا فهي مسألة صعبة " بل لعلها الأصعب في إدارتها والمحافظة عليها بين جميع أنواع الأنظمة المعروفة وقد نشأت في منطقة محدودة بين شعوب أوروبا الغربية والشمالية الغربية , ثم نقلها هؤلاء معهم إلى مستعمرات وراء البحار ( راجع مجلة " قراءات سياسية نقلا عن مجلة " فورن أفيرز " ألسنة الثالثة " العدد الثاني , ربيع 1993 ) .

العقل والنقل

بين العقل والنقل يفضل العقل , وبين السلعة البضاعية والصيغة التاريخية بفضل التاريخ مصنعا بشريا للتطور الإنساني الذي لا يقف عند حد نهائي وأخير.

والأسئلة التي طرحها لويس طرح الكثير من علماء الاجتماع أسئلة مثلها عن هوية الديمقراطية ومصدرها الأساسي : هل هي يونانية – أوروبية الأصل ( مركزية المنشأ ) أخذت تنتشر كونيا مع انتشار المركزية الأوروبية أم هي عالمية الأصل قامت بأشكال مختلفة وابتكرت آليات خاصة تنسجم مع اختلاف ثقافات الشعوب , وأخذت تتطور ذاتيا بتطور العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية ؟ وهل هي فكرة ( منهاج وممارسة ) يتم استيرادها أم أنها بصفتها نواة موجودة في كل المجتمعات والمطلوب تجديدها لتأخذ موقعها الخاص في العملية السياسية ؟

للإجابة عن تلك الأسئلة حاول بعض علماء الاجتماع التمييز بين الحياة السياسية في مجتمع مندمج وموحد دينيا وعرقيا ومذهبيا و وبين مجتمع مفكك وغير موحد في تركيبه الديني والعرقي والمذهبي واللوني , فالديمقراطية في المجتمع المتجانس اجتماعيا والموحد قوميا تختلف عن الديمقراطية في مجتمع غير متجانس وتنقصه الكثير من العناصر المشتركة لتعزيز وحدته القومية في المجتمع الأول تنهض الديمقراطية بكونه إطارا سياسيا يعزز الوحدة ويطورها سلميا على حين في المجتمع الثاني لابد من ديمقراطية توافقية تحترم حقوق الأقليات المختلفة عن الأكثرية القومية أو الدينية أو المذهبية حتى تضمن مصالحها الخاصة في سياق مطلة كبري تضم كل الأعداد الطائفية والأنواع القبلية حتى لا يقع علماء الاجتماع في تعميمات قانونية ودستورية وضعوا قواعد يقوم عليها الاختلاف بين ديمقراطية تأسس على تماس الجماعة الواحدة وتجانس الدولة القومية )( فرنسا مثلا ) وبين ديمقراطية تحاول تأسيس نفسها على جماعة غير موحدة ودولة غير متجانسة قوميا ودينيا ( لبنان والعراق مثلا ).

لعل الاختلاف المذكور بين المستويين يفسر نجاح الديمقراطية في البلدان المتجانسة قوميا , دينيا ومذهبيا , إذ تعتمد الدولة قانون أحوال مدنية ( شخصية ) موحدا وإخفاق الديمقراطية في البلدان المتنوعة والمتعددة قوميا ودينيا وقبليا ولكنها تعتمد قوانين مختلفة للأحوال المدنية ( الشخصية ) المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها لاستيعاب التنوع والتعدد ضمن التجانس السياسي .

حتى الدول المتجانسة قوميا والمتماسكة اجتماعيا والناجحة في السيطرة على مصادر العنف الداخلي أخفقت في السيطرة على مصادر العنف الخارجي فهي من جهة ديمقراطية داخليا وغير ديمقراطية خارجيا , وهناك بعض الدول الديمقراطية تحارب الديمقراطية في دول أخرى إذا شكلت خطرا على مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي , وهناك بعض الدول تمارس الديمقراطية بين مواطنيها وتتبع أساليب غير ديمقراطية ضد غيرها أو ضد المختلف من مواطنيها تصل إلى حد العنصرية كما كان الأمر في جنوب إفريقيا وكما هو الأمر في فلسطين المحتلة .

الديمقراطية إذا ليست جوابا سحريا عن كل الأسئلة , إذ يجب أن يسبقها تأسيس الدولة وتأسيس الجماعة , وتأسيس التقاليد , وربما تكون الدولة هي اللاعب الأول في تأسيس السياسة من حيث كونها تملك قوة القانون الذي يعيد ترتيب العلاقات السياسية بين المجموعات الأهلية بالمستشرق لويس يضع في مقالة عن الشرق الأوسط شرطا أساسيا لنجاح أى نوع من المؤسسات الحرة هو " مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي المطلوب لدعم هذه المؤسسات فالعقبة الكبرى في رأيه هي في " المشكلات الاقتصادية الكبري في المنطقة , كالفقر والتخلف الاجتماعي والتكنولوجي , ومن دون حل هذه المشكلات يرجح أن يبقي سرابا كل احتمال لقيام ديمقراطية سياسية حقيقية " ( المصدر نفسه ) ويذهب زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي في اتجاه لويس في قراءة التكوين التاريخي لفكرة الديمقراطية والمتطلبات الاجتماعية لإعادة تأسيسها إذ يقول : " ينبغي الاعتراف بأن المؤسسات السياسية الديمقراطية نشأت في الشمال ( يقصد أوروبا) بعد مرحلة معينة من التقدم الاقتصادي الاجتماعي , لذلك فإن بلاد الجنوب ( يقصد العالم الثالث ) المتطلعة للديمقراطية قد تجد نفسها مضطرة لوسائل مرحلية توفق بين الديمقراطية التعددية وحركة البناء الاجتماعي " ( تحديات التسعينيات .

شركة النيل للصحافة والنشر , القاهرة 1990 , ص 135) ويلاحظ المهدي في كتابه المذكور أن " النظم الديمقراطية الحديثة أضافت جانبا مهما هو أنها وضعت للمبادئ السياسية ضوابط مؤسسة لممارستها بدقة والحيلولة دون الانحراف الذي ينحدر إليه الطبع البشري , ويري أن التعاليم الإسلامية السياسية خلت من تلك الضوابط ( ص197).

لا شك في أن الديمقراطية هي من الوسائل المرنة التي تلطف اصطدام والمصالح وتحد من عنفه ولكنها في النهاية ليست قادرة على إلغاء الاصطدام وعدم حصوله , فالمصالح شئ والديمقراطية بصفتها ألة تنظم تضارب المصالح شئ آخر ( لبنان نموذجا على تضارب الديمقراطية بالطائفية ) فالديمقراطية في النهاية مجرد ألة لا واعية لتنظيم خلافات الناس سلميا وترتيب اختلاف وجهات نظرهم ومصالحهم في سياق لا عنفي فهي ليست دولة ولا نظام حكم ولا تشريعا ولا تمت بصلة للعلمانية والليبرالية .

هناك سؤال غريب هل تستطيع الديمقراطية أن تلغي نفسها إذا قررت الغالبية السكانية أن المصلحة العامة تقضية ذلك ؟ إذا كان الجواب لا فمن هي الجهة التي تمنع قرار إلغاء الديمقراطية ؟ وهل من شروط الديمقراطية أن تكون ديمقراطية أم أن صلاحياتها مطلقة تصل إلى حد إلغاء نفسها ؟ هل الديمقراطية هي حكم الشعب أم حكم الغالبية ؟

إذا كانت حكم الشعب فهل معني ذلك أنها حكم الوحدة الذي لا يقبل الانقسام , وإذا كانت حكم الغالبية فهل تعني أنها حكم الانقسام الذي يؤكد الوحدة ويحترم تمثيل الآخر المختلف ؟ لنفترض مثلا أن 51 في المائة من الشعب قرر قتل 49 في المائة بذريعة أن الآخر يخفف من التزايد السكاني ويدفع عجلة الاقتصاد إلى التقدم والنمو , هل ينفذ الأمر , لأن الغالبية قررت ذلك ولأن مصلحة من تبقي من الناس تقضي ذلك ؟

لنفترض أيضا أن 51 في المائة من الإسرائيليين قرروا طرد الشعب الفلسطيني من أراضي 1948 المحتلة والضفة الغربية وقطاع غزة فهل تنفذ حكومة تل أبيب رغبة غالبية الشعب ؟ لنفترض أيضا وأيضا أن 51 في المائة من الاسرائيليين صوتوا لصالح احتلال دمشق أو بيروت أو عمان أو المدن الثلاث فهل يبادر الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ رغبة الغالبية الإسرائيلية ؟ وأخيرا لنفترض أن الغالبية قررت هدم الكنائس والمساجد وتحريم الحلال وتحليل الحرام بداعي أنها مؤسسات اجتهادات " ظلامية " تعطل " التقدم والتنوير " فهل تنفذ الدول رغبة الغالبية ؟ وإذا كانت الديمقراطية مشروطة فمن يحدد تلك الشروط ؟ وكيف ؟

أسئلة " ثقيلة الدم " ولكنها في النهاية أسئلة تضع من جهة علامات استفهام عن معني الديمقراطية كذلك تلقي من جهة أخرى الضوء على التباسات ومخاوف عدة يمكن أن تنشأ عند جهات سياسية وأقليات من " مخاطر " الديمقراطية الفالتة من الضوابط الدستورية والثوابت الإنسانية , لنتذكرها هنا أن أدولف هتلر لم يأت السلطة من طريق الانقلاب العسكري بل بواسطة التصويت والاقتراع وصناديق الانتخاب .

تطرح الالتباسات سلسلة مخاوف ما يفرض إعادة تعريف الديمقراطية , هناك الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع رفضوا فكرة الديمقراطية , لأنها تعني في النهاية سلطة الغوغاء الهائجة التي لا تعرف ماذا تريد وحكم الجماهير المزاجية التي تتقلب في خياراتها وتتأثر بالإعلام والمال وأجهزة الدعاية واشترطوا عليها الإكثار من الضوابط حتى يمكن السيطرة عليها وإدارتها في قنوات لا يجوز كسرها وإلا تحولت الغالبية المنتخبة إلى عدوان على الأقليات السياسية غير المنتخبة .

إذا لابد من احترام الأكثرية الأقلية , كذلك على الأقلية أن تحترم الأكثرية , ولكن مسألة الاحترام المتبادل تطرح إشكالا دستوريا : من هي الجهة التي تشرف على ضبط التوازن السياسي بين الأكثرية والأقلية ؟ وما صلاحياتها ؟ وما يعيّنها ؟ وهل تنتخب ؟ وما مدي صلاحياتها ؟ وكيف تنفذ قراراتها ؟ وهل هي سلطة أعلي من البرلمان أم أنها من البرلمان أم تنتخب من خارجه ؟

تطرح هذه اللوحة من الاعتراضات جملة أسئلة لتحديد معاصر وأدق لمسألة الديمقراطية وفي الآن تكشف عن الخلل المنهجي في التعاطي مع الفكرة على المستويين : الدولة وأجهزتها المجتمع وهيئاته .

كان لابد من هذا المدخل لنفهم التحديات الموضوعية للعملية الديمقراطية وتطورها الزمني كذلك لندرك أكثر المعني الضمني لمخاوف الحكومات من الانتخابات ونتائجها وتردد الكثير من المنظمات السياسية في تبني الديمقراطية إطارا وحيدا وجامعا لتنظيم العلاقة بين قوى المجتمع ومراكز الدولة .

حاول على خليفة الكواري مثلا إعادة تعريف خصائص الديمقراطية المعاصرة في مقال له نشر في مجلة " المستقبل العربي " استنادا إلى نقطتين : بأنها منهج وليست عقيدة " وهي " ممارسة دستورية " هي منهج " لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها , ومقيدة " بدستور يراعي الشروط التي تتراضي عليها القوى الفاعلة في المجتمع وتؤسس عليها الجماعة السياسية إجماعا كافيا , وهي " تأخذ عقائد وقيم المجتمعات في الاعتبار , لذلك وهنا النقطة الثانية , هي مقيدة وليست مطلقة " إذ لابد من دستور " تتراضي القوى الفاعلة على أحكامه , وتقبل الاحتكام إلى شرعيته ( العدد 168 فبراير / شباط 199).

حتى يتجنب الكواري تلك الأسئلة التي طرحت أعلاه أكد نسبية الديمقراطية , أنها عملية تاريخية متدرجة , وغاية لا نصل إليها , وهي في النهاية مؤشر على توازن القوى ,ونجاح المجتمع في السيطرة على مصادر العنف وإدارة الاختلاف سلميا , وإخضاع السلطة لمزيد من الضوابط من خلال قيود دستورية أو تكييفها مع شرائع المجتمع وقيمه ويستعرض الكواري بعدها محاولات واجتهادات رواد ما يسمي النهضة العربية في مقاربة الديمقراطية ومقارنتها بالشورى وتوافقها معها , ثم يشير إلى نواقص الديمقراطيات المعاصرة في الممارسة والمشاركة وتوزيع الثروة والعلاقات الدولية , وعلى رغم تلك الثغرات تبقي الديمقراطية أفضل وسيلة للإستجابة لمقتضيات التغيير من دون أن تصل إلى الكمال , إذ تلعب الممارسة دورها في تطويرها وتعديلها , وشرط نضج الديمقراطية وتقدمها هو توافر " المساواة السياسية بين المواطنين " والتوافق أو التراضي بين فعاليات المجتمع على " صيغة دستور ديمقراطي " ويتجه الكواري نحو تبني تعريف روبت دال للديمقراطية بأنها نظام حكم الكثرة "

يستدرك الكواري في نهاية مقالة مخاطر فكرة " حكم الكثرة في مجتمعات غير موحدة دينيا وسلبيات " الديمقراطيات العددية في بلدان متنوعة عرفيا فيشير من دون أن يحلل إلى " إشكالية استبداد الأغلبية في منطقة تتنوع فيها الديانات والمذاهب والسلالات والتركيبات الاجتماعية التقليدية ". ( مجلة المستقبل العربي العدد 168 فبراير 1993) .

لعل الفكرة الأخيرة في مقال الكواري هي الأهم : لأنها الوحيدة التي تخرج الديمقراطية من عالم الأفكار إلى عالم الواقع وتؤسسها على الاجتماع والتاريخ لا على الفطريات المجردة فالفكرة الأخيرة تفتح النقاش على حقائق تاريخية ووقائع زمنية تسقط الكثير من الأوهام .

إعادة إنتاج الديمقراطية

يؤكد الاختلاف على تعريف الديمقراطية أن المسألة تتجاوز التعريف وتفرض ضرورة العمل على إعادة إنتاج الفكرة على مستويين : الأول , المعرفة , والثاني , التاريخ , فإعادة إنتاج الديمقراطية في ضوء المعرفة يساهم في تطور منظومة الأفكار التي تتغير بالتجربة وتطور حالات الزمان واختلاف المكان : ما يساعد على ربطها بتاريخ البشر ودرجة التطور وبنية الجماعة السياسية .

لاحظ الأمر المذكور الكثير من المفكرين العلمانيين والقوميين والمسلمين من عرب وغير عرب , وحاول بعضهم تقديم اقتراحات وأحيانا إجابات لتوضيح الالتباسات وتجديد الجوانب الاجتماعية إلى جانب الإطارات القانونية والتنظيمية والدستورية والفقهية وساهمت تلك المحاولات في وضع المضامين الاجتماعية إلى جانب المفاهيم المعرفية لإعادة بلورة صيغة خاصة لتلك الآلية غير الواعية التي تلعب الدور الأساسي في إنتاج السياسة المعاصرة وتقرير مصير الدولة والمجتمع .

يشير جورج طرابيشي في مقالة عن " الديمقراطية والقومية والأقليات " إلى محاولات الدول الأوروبية توسيع مفهوم الديمقراطية ويري أن " حتى منتصف القرن العشرين كانت الديمقراطية تعني حصرا , وطبقا للتقاليد البرلمانية للثورة الإنكليزية والتقاليد الجمهورية للثورة الفرنسية , احترام التعددية الحزبية والسياسية ضمن نطاق الدولة القومية الواحدة لكن هذه التعددية لم تعد في العقود الأخيرة محصورة بالنطاق السياسي , بل باتت شاملة للثقافة كما في الولايات المتحدة الأميركية , أو للغة كما في إسبانيا ما بعد الفرانكوية , أو للإثنية كما في فرنسا التي صار مباحا فيها الكلام على الشعب الكورسيكي أو البلد الباسكي "( مجلة " أبواب " العدد , 9 , ص 150).

يحاول إيليا حريق في مقالة " الثورة الإثنية والاندماج السياسي في الشرق الأوسط " التمييز بين الإثنية والعرق والطائفة , فالطائفة الإثنية تشترك في خصائص متماثلة مثل لغة متميزة أودين أو ثقافة أو تجربة تاريخية قائمة بذاتها , وهي في الآن تعي " اختلافها عن الطوائف الأخرى بفضل هذه الخاصيات نفسها فالباحث إيليا حريق يربط بين خصائص الجماعة ( أقلية أو أكثرية ) وبين وعي الجماعة لاختلاف خصائصها , ويقول حريق إن الأمر المذكور لم يكن موجودا وعند منقلب القرن التاسع عشرة لأن الإسلام عمل " على مرّ السنين على تلطيف الاختلافات الإثنية بين شعوب الشرق الأوسط " وعندما صعد تيار القومية العلمانية إلى جانب الأصولية الدينية أخذت الصورة تتغير وبدأت " السمة الإدماجية للدين الإسلامية والثقافة الإسلامية " بالتغير والاهتزاز ( مجلة " أبواب " العدد 9.ص195).

بسبب حداثة المشكلة لم يلحظ فكر تيار القومية ( العربية . التركية , الفارسية ) المسألة وتأخر في اكتشاف أن الديمقراطية إطار تنظيمي ضروري ليس فقط للتعددية في أحزاب الأمة وتياراتها السياسية بل كذلك التعددية في إثنياتها ولغاتها (....) فضلا عن التعددية في شخصياتها القطرية ... ( طرابيشي , مجلة , أبواب , العدد نفسه , ص 151).

على رغم وجاهة ملاحظة طرابيشي , فإنه لا يعير اهتماما لاختلاف النمو التاريخي بين تطور الدولة في المجتمعات الأوروبية التي قادت التحولات الاجتماعية في القرون الخمسة الأخيرة ونجحت في تأسيس المجتمع السياسي القادر على حسم خلافاته إلى حد كبير .

سلميا من دون اللجوء إلى العنف  وبين مجتمعات لا تزال في طور التشكل السياسي وتلعب الدولة ( النخبة) فيها دور المعرقل للتحولات الاجتماعية وتقمع السياسة والتعدد .

تساعد ملاحظة الاختلاف على فهم اختلاف النظرة إلى الآخر فالدول القومية الأوروبية أنجزت تاريخيا مهمة توحيد الجماعة السياسية وفرضت حالات من التجانس الاجتماعي في تركيب المجتمع باستثناءات قليلة لا تزال موجودة في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وغيرها من دول غرب القارة الأوروبية وهي استثناءات على رغم قلتها وضعفها تشكل في أحيان كثيرة عقبات تثير المشكلات السياسية .

إذا كان هذا هو حال معظم دول أوروبا الغربية فكيف هو حال أوروبا الشرقية ( وتحديدا البلقان ) وكيف هو أمر الدول العربية التي لا تزال تعاني مشكلات الهوية والتنمية وتحديد شخصية المواطن ؟

بفتح المأزق المذكور باب الحوار على معني الديمقراطية ومساحتها السياسية وعمقها التاريخي – الاجتماعي .

حاول محمد فريد حجاب في " أزمة الديمقراطية الغربية وتحدياتها في العالم الثالث "

أن يميز بين الديمقراطية المثالية التي تقوم على المساواة بين " المواطنين ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة , وبين الفكرة الواقعية التي تقوم على التمييز " بين أولئك الذين يمثلون جمهرة لا حكم لها ولا تقدير (....) والذين يساهمون حقا , وهم قلة برأي ذاتي موجة يتجاوبون مع المثل الأعلي للديمقراطية " ( مجلة , المستقبل العربي " العدد 164, 1992 , ص 69 -70).

يفسر راشد الغنوشي في حوار أجري معه مسألة الاختلاف تلك بالقول :" الظواهر الاجتماعية , ظواهر معقدة لذلك عندما نقول ديمقراطية نعطي انطباعا وكأن هناك نظاما محددا لا اختلاف حوله , على حين أن هناك ديمقراطيات , ليست هناك ديمقراطية واحدة , ويميز الغنوشي بين ديمقراطية وأخري ويربط الفكرة الديمقراطية بمسألة الهوية ويفصل بين الليبرالية بصفتها نظاما اقتصاديا والليبرالية بصفتها نظاما سياسيا, ويلاحظ أن الديمقراطية الأوروبية لا تعترف باختلاف قوانين الأحوال الشخصية وحق الجماعات الدينية والأقليات في التمثيل السياسي , لأنها تقوم على التمثيل الأكثري فقط .

ويذهب عقد مقارنة لافتة للنظر " نحن في تاريخنا رغم أنه ليس كل تاريخنا يمثل الفكرة الإسلامية , عرفنا للأقليات حقوقا لم تصل إليها حتى الديمقراطية المعاصرة حتى الآن لم تعرف رغم وجود عشرة ملايين مسلم في أوروبا , لم نسمع حتى الآن بنائب واحد مسلم في برلمان , لم نسمع بسفير مسلم أو بوزير مسلم , بل في هذه الديمقراطيات تثأر ضجة من أجل قطعة قماش تحملها مسلمة على رأسها " ( حوارات مع راشد الغنوشي , قصي صالح درويش , طباعة خليل ميديا سرفس , لندن 1992 , ص 65, 68).

انطلاقا من الهوة المذكورة يحاول محمد فريد حجاب قراءة اختلاف الديمقراطية ومعضلاتها في العالم الثالث استنادا إلى تفاوت التطور السياسي وعدم انسجامه الاجتماعي –الديني فيتحدث عن تخلف التصنيع وضعف التنظيم المهني والحزبي وانتشار الأمية والانقسامات الإقليمية والطائفية والعشائرية وعدم مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعمل إلى نهوض المؤسسات القانونية في دول العالم الثالث من أعلي والتأثيرات السلبية للتجربة الاستعمارية ويري – وهذا هو الأهم – أن " تكوين الأمة في الغرب سبق بوجه عام تكوين الدولة , والأمر على خلاف ذلك في العالم الثالث حيث ظهرت الدولة قبل تشكيل الأمة ". ( مجلة المستقبل العربي " العدد 164, ص80).

يرد حجاب إخفاق الديمقراطية في العالم الثالث إلى التكوين غير الكامل للأمة , لأن مسألة الديمقراطية تفترض مفهوم " تأميم السلطة " وأن يقبل الحكام ذاك المفهوم , و" يقرّوا برقابة الشعب على سلطتهم " , ويشير إلى التخلف وتزايد الهوة بين العالم الثالث والعالم الأوروبي – الأميركي وخطورتهما على الديمقراطية , فالعالم الثالث " مملوء بالتناقضات ويختلف تماما عن البلدان الديمقراطية في العالم الغربي , لذلك لابد من تقديم المساعدات إليه وبذل الجهود للخروج به من التخلف بعدها تظهر الديمقراطية " تلقائيا إذا ما اكتملت مقوماتها الأولية (....) لأن الديمقراطية لا تفرض بقرار من السلطة , أو بمطالبة شعبية فورية " ( العدد نفسه , ص 84 ) .

يطرح الغنوشي فكرة مهمة في سياق مشروعه لحل المأزق وردم التفاوت بين الواقع الاجتماعي المتخلف والوعي السياسي لمشكلة السلطة وعلاقتها بهوية المجتمع وثقافية فيذكر في حوار أجري معه في أغسطس/ آب 1989 " أن التنظيم الاجتماعي للحرية في شكل دولة يفترض وجود أرضية معينة يتحرك عليها العمل السياسي وتكون هي الإطار الجامع للجماعات السياسية طالما أن الجماعات السياسية ليست مجرد تراكم أفراد , وإنما هي جماعة سياسية تشترك في هوية شخصية جامعة , وبالتالي الحرية السياسية تفترض , أو الديمقراطية تفترض مضمونا ثقافيا , فلا يمكن الحديث عن الديمقراطية في أى بلد إلا بالحديث عن هوية , عن المضمون الثقافي الذي يتحرك في إطاره الجهاز الديمقراطي , وفي رأيه أن الإكراه غير ممكن وبالتالي " فإن حرية المعتقد هي حكم وجودي (...) وخصم الإسلام الألد هو الاستبداد ومصادرة حرية التفكير وحرية التعبير " لذلك يربط الغنوشي الديمقراطية بالثقافة والهوية , ويجد أن الديمقراطية ليست نوعا واحدا , بل سلسلة أنواع تقوم على تعدد الثقافات والحضارات والقوميات والديانات , و" عندما نتحدث عن الحرية بالمعني السياسي , تنظيم المجتمع فإن تنظيم المجتمع يقتضي أرضي ثقافية , وفي المجتمعات الإسلامية تكون هذه الأرضية الثقافية هي الإسلام " ( حوارات,ص 32, 33)

في السياق الذي ذهب الغنوشي إليه , يدفع المفكر المصري فهمي هويدي مسألة الديمقراطية إلى نهايتها عندما يؤكد أن الديمقراطية هي تطوير أوروبي لنظام النحل والملل الإسلامي , ويشير إلى تلك المفارقة في كتابه " الإسلام والديمقراطية " إذ يري " أن فكرة التعددية لم تعرفها أوروبا إلا من خلال احتكاكها بالدولة العثمانية , التي طبقت نظام الملل منطلقة من سعة الإسلام , فأفسحت لكل آخر مكانا ومكانة , حتى أمنت وحتمت كافة التمايزات الدينية التي حفلت بها البلدان الداخلة في نطاق الإمبراطورية , قبل النموذج العثماني لم تكن فكرة شرعية الآخر واردة في التجربة الأوروبية , لكن الاحتكاك العثماني الأوروبي كان كفيلا بانتقالها ضمن ما جري تبادله من خبرات وأفكار بين الجانبين خلال القرون الخمسة التي هي عمر الإمبراطورية العثمانية " ( فهمي هويدي , الإسلام والديمقراطية , مركز الأهرام للترجمة والنشر , القاهرة , الطبعة الأولي , 1993 , ص 71 -72 ) .

الإسلاميون والمسألة الديمقراطية

يعتقد البعض بأن الديمقراطية كمنهج كفيلة بتذليل كل العقبات والمشكلات التي تعترض التقدم والنمو والتنمية وتزيل كل ألغام الحروب الأهلية والصراعات الدموية والتوتر الاجتماعي والعوامل الدافعة للعنف , هذا نصف الحقيقة بينما النصف الآخر يجد تفسيره في عوامل أخري ربما تزيد أو تنقص من أهمية الديمقراطية كآلة تنظيم سلمية لتعارض مصالح البشر .

كيف قرأ الإسلاميون هذه المسائل ؟ ولماذا انقسموا عليها بين رافض للفكرة إذا كانت تعني محاربة العقيدة وقابل لها إذا كانت توافقها ؟

قبل قراءة الخلاف على الديمقراطية في الحركات الإسلامية المعاصرة لابد من التأكيد أنها تلعب سلسلة أدوار متفاوتة بين بلد عربي وآخر , فهناك تنظيمات إسلامية مشاركة في البرلمان وموجودة بنسبة عالية في خمسة برلمانات عربية ( الأردن , الكويت , اليمن , البحرين , ولبنان ) وهناك تنظيمات حاكمة أو مشاركة في الحكم بنسب متفاوتة ( السودان واليمن ) , ومجرد القبول باللعبة الديمقراطية وممارستها سياسيا , والدخول كطرف مشارك في الحكم أو الحكومة يعني نظريا أن الإسلاميين يوافقون عموما على اللعبة وشروطها ويحتكمون للاختيار وصندوق الاقتراع وفكرة التداول السلمي للسلطة .

يحاول الباحث الأردني هاني حوراني شرح خلفيات وظروف ونتائج انتخابات 1993 الأردنية , فيذكر أن الدولة حاولت " لجم الحركة الإسلامية والقوى السياسية الأخرى المعارضة للمفاوضات السلمية مع إسرائيل " بينما حاولت الحركة الإسلامية " تكريس شرعيتها وتجنب المواجهة مع الحكم (...) والعمل تحت ظلال الشرعية والعلنية , ( قراءات سياسية , السنة الرابعة , العدد الثاني , ربيع 1994 ).

لعل التجربة المذكورة , توفر علينا الكثير من الجهد النظري في نقاش فكرة قبول الديمقراطية أو رفضها .فالمشاركة تذلل الكثير من العوائق الأيديولوجية وتطرح السؤال على الأنظمة التي ترفض الديمقراطية وتقمع المجتمع السياسي , وتلاحق المعارضة على اختلافها كما حصل ويحصل في الجزائر ( حين حرم الإسلاميون عن حق اكتسبوه عن طريق الاقتراع الشعبي ) وكما حصل ويحصل في تونس ( حين منع الإسلاميون من حق تشكيل حزب سياسي والمشاركة في الانتخابات ) وكما حصل ويحصل في مصر ( حين اعتقل الإسلاميون الذين تقدموا بطلب ترخيص لإنشاء حزب الوسط بمشاركة الأقباط وغيرهم من قوى سياسية غير إسلامية ) .

هذا الوضع المتأزم دفع الكاتب فهمي هويدي , إلى نعي التجربة الديمقراطية في مصر في مقالة " إجهاض الحلم الديمقراطي و تعليقا على القانون الجديد للنقابات المهنية في مصر الذي أصدره مجلس الشعب , ويذكر أن المجلس تشكل بنسبة 10 في المائة من أصوات الناخبين وقاطع أو لم يصوت في الدورة 90 في المائة , كذلك تراوحت نسبة المشاركة في انتخابات المحليات بين 5 , 6 في المائة , ويري هويدي أن الديمقراطية في مصر " تعاني من أزمة عميقة , أطلق عليها البعض وصف الجفاف السياسي معناه أيضا أننا نتعامل مع الديمقراطية كمستهلكين لا كمشاركين " ( قراءات سياسية , السنة الثالثة , العد الثاني , ربيع 1993).

إذا السؤال يجب أن يوجه إلى الأنظمة التي تقمع الحريات السياسية وتمنع تداول السلطة في وقت نحاول أن نقرأ الفكرة الديمقراطية ( نظريا وسياسيا ) في أيديولوجية الحركات الإسلامية , فمن يحرم من حقوقه السياسية ويطارد ويلاحق ويمنع من تشكيل حزب سياسي يرفض العنف ويدينه , ويهاجم تصرفات حركات التطرف ويقبل بأسلوب الاقتراع والانتخاب وتداول السلطة سلميا لا يطالب بشئ محروم منه بل المطالب بالرد على السؤال هو الأنظمة التي تخاف الحرية خوفا على نفسها .

مع ذلك يمكن قبول المعادلة ولو كانت معكوسة حتى يمكن التوصل إلى صيغة مركبة تحاول قدر الإمكان تسوية المأزق سلميا , فما هو مفهوم الديمقراطية في صيغة المتداولة في عقل وأطروحات التنظيمات الإسلامية ( تحديدا المفكرين والقادة من بينهم ) وكيف تصنف تلك المنظمات السياسية فكرة الديمقراطية . وكيف تقرأ ألياتها؟

يستعرض زكي أحمد تاريخ فكرة " الديمقراطية في الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر , فيذكر أنها كانت حاضرة في أعمال الإسلاميين الفكرية " منذ حركة الإصلاح الإسلامي , في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي إلى هذا الوقت (...) إلا أنه حضور محدود وعرضي ومتأثر بظرف الزمان والمكان ( المستقبل العربي العدد 164, ص 113 ).

ويصنف زكي أحمد تلك الأعمال الفكرية في حقل الديمقراطية إلى مدارس أربع :

الأولي , حاولت أن تبرز ديمقراطية الإسلام مقابل ديمقراطية الغرب , وتأتي محاولة الأديب المصري عباس محمود العقاد ( توفي العام 1964) في الطليعة حين أصدر كتابه " نشأة الفكر السياسي وتطوره في الإسلام " لمحمد جلال شرف , و" الفكر السياسي في الإسلام – شخصيات ومذاهب " لعللي عبد المعطي محمد ومحمد جلال شرف, و" الحرية السياسية في الإسلام " لأحمد شوقي الفنجري وبعد العقاد صدر كتاب المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي ( توفي العام 1973 ) تحت عنوان ," حول الديمقراطية في الإسلام " أكد فيه على الشورى ودلالاتها السياسية .

الثانية , حاولت أن تبرز نظرية الشورى في الإسلام مقابل الديمقراطية في الغرب , وأبرزها محاولة حسن الترابي في كتابه " نظرات في الفقه السياسي " وكتاب عبد الحميد الأنصاري " الشورى وأثرها في الديمقراطية ".

الثالثة , حاولت التشكيك بالهجوم على ديمقراطية الغرب وأبرزها محاولة خالد محمد خالد في كتابه " الديمقراطية ... أبدأ " وكتاب محمد قطب " مذاهب فكرية معاصرة ".

الرابعة , رفضت الديمقراطية واعتبرتها فكرة لا تمت للإسلام بصلة ,أبرزها كتاب كاظم الحائرى , أساس الحكومة الإسلامية " وكتابات " حزب التحرير الإسلامي , ومؤسسه الشيخ تقي الدين النبهاني ( المستقبل العربي العدد 164, صفحات 113, 114, 115 ).

من جهة تقديم فكرة التعددية وتراجعها يربط فهمي هويدي الأسباب بالواقع الإسلامي وعصور " التراجع والاستبداد السياسي " ويلاحظ أن جماعة الإخوان المسلمين وضعت تحفظاتها على فكرتي الحزبية والديمقراطية في وقت مبكر , كذلك كان الموقف التقليدي للجماعة الإسلامية في الهند وباكستان ويشير إلى محاضرة مؤسس الجماعة الشيخ أبو الأعلي المودودي التي ألقاها سنة 1939 وأكد فيها أن " الإسلام يأبي أن يتحزب أهل المشورة " وجاء الدستور الإسلامي الذي أقره علماء شبه القارة الهندية (31 فقيها ) في العام 1951 وشمل 22 نقطة ليتجاهل مسألة الديمقراطية , لكنه أشار إلى " حرية إبداء الرأي وحرية التنقل وحرية الاجتماع " ( راجع الإسلام والديمقراطية , صفحة 72 -73 ) .

يرى هويدي أن موقف الجماعتين الإسلاميتين في الهند وباكستان اختلف في الثمانينيات والتسعينيات , حين قبلتا بفكرة التعددية ,كذلك حصل التطور نفسه في فكر جماعة الإخوان في مصر , كذلك نص دستور حزب التحرير الإسلامي على قبول فكرة التعددية الحزبية في مشروعه الذي صدر مطلع الستينات , ويربط هويدي التطور المذكور يتطور الفكرة نفسها واختلاف ظروفها المكانية والسياسية , ويشير إلى جهود الكثير من الفقهاء مثل " محمد عبده و رشيد رضا إلى الشيخ محمود شلتوت , في موضوع نظام الحكم أو رؤية الإسلام السياسية (...)

وما قاله الشيخان عبده ورضا عن الشورى في تفسير المنار , وما ذكره الشيخ سشلتوت بصدد المبادئ الأساسية في الحكم , يزيل كل التباس في الموضوع وعيتبر هويدي أن تطور الفكرة جاء في سياق التصالح معها , فبعد أن زالت تأثيرات الاستباط مع الغرب الاستعماري تصرف العقل الإسلامي " بوعي كاف حين ميز بين ما هو حضاري في الغرب وبين ما هو سياسي " ( الإسلام والديمقراطية , صفحة 123 -124).

يناقش هويدي أفكار الجماعة الإسلامية المحظورة في مصر التي تعتبر أن " الديمقراطية على النقيض من الإسلام " ويري في كلامها " شذوذا على الخطاب الإسلامي العام " ويثبت فتوى " الفقيه الأصولي المعروف " الشيخ يوسف القرضاوي التي صدرت في نهاية الثمانينيات ونشرها في كتابه لتأيكد أن التيار العام والأساسي مؤيد للديمقراطية والتعددية .( راجع كتاب القرضاوي " فتاوى معاصرة , صفحة 636).

تمتد فتوى القرضاوي على 14 صفحة وفيها يؤكد جوهر الجيمقراية التي تشمل لانتخاب والاستفتاء العام وترجيح حكم الأكثرية وتعدد الأحزاب السياسية وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة واستقلال القضاء , وغيرها من الشئون والمسائل , ويري أن الإسلام قرر " الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية , وأوجب على الحاكم أن يستشير , وأوجب على الأمة أن تنصح حتى جعل النصيحة هي الدين كله ( ....) كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة (...) وأن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها , وينتهي في فتواه لتأكيد أن الشورى الإسلامية تقترب من روح الديمقراطية أو جوهر الديمقراطية يقترب من روح الشورى الإسلامية ( راجع الإسلام والديمقراطية هويدي , صفحات 135 -149).

جاءت فتوى الشيخ القرضاوي لتحسم الخلاف وترجح وجهة نظر على أخري , لكنها حتى الآن لم تقطع دابر النقاش , لأن الآراء السياسية والفقهية متنوعة وتختلف باختلاف الظروف والبيئات , وتتركز معظم السجالات على المصطلح وشرعية استخدامه , وعلى المفهوم ومضمونه العقائدي , الصادق المهيد مثلآ , يذكر في كتابه " تحديات التسعينيات " أنه " ليس في الإسلام نظامحكم معين والنظم التي أقامها المسلمون في تاريخهم نظم بشرية اختاروها بحسب ظروف زمانهم ولا يوجد ما يلزم بها الآخرين , لكنه يعود فيؤكد أن الإسلام جاء بمبادئ سياسية مثل الحرية والعدالة والمساواة وضرورة الحكم للجماعة , ألا يعاقب أحد إلا بقانون ألا يعاقب أحد بجريمة غيره أن يكون الأمر شورى ( مشاركة ). وينتهي إلى القول " هذه المبادئ التي أتي بها الإسلام منذ خمسة عشر قرنا تطورت حتى ما ثلتها النظم الديمقراطية الحديثة " ( ص 197).

وظيفة الديمقراطية

تلعب أحيانا مسألة اختلاط المفاهيم دورها في تقرير الكثير من المواقف الفكرية وربما تؤدي إلى سجالات أيديولوجية لا تنتهي , في وقت تكون الآراء متقاربة .

يمكن أن نلحظ ذاك الاختلاط على غير مستوى , وأحيانا يلعب المفرد أو المصلطلح ( الكلمة ) دوره في إحداث التشويش بسبب عدم انسجام بنية اللغة مع بنية العقل , ويكفي تدوير المصطلح أو مقارنته بما يقابله من مفرد في اللغة حتى يزول اللبس .

أكثر ما نجد الاختلاط المذكور في فكرة الديمقراطية (كأسلوب عمل ومنهج علاقات ) حين يتم تناولها كمفهوم تتداخل فيه مسائل الفقه والحكم والتشريع والليبرالية والعلمانية والتغريب والغرب , فالبعض يتناول فكرة الل الديمقراطية ويخلطها من دون وعي منه بقضايا أخرى لا علاقة لها بها مثل الليبرالية والدولة والعلمانية أو الفقه , وهناك من يري الديمقراطية وسيلة من أدوات السيطر الأجنبية وهي " جهاز واع " لمصالحه غير منفصل عن سلسلة حلقات من المفاهيم المترابطة تبدأ بالاختيار الحر وتنتهي بتدخل الدولة في شئون المجتمع وحرية الفرد ومعتقداته فتقوم عن طريق الإكراه , الديمقراطي " بفرض قناعات يري أنها غير شرعية ومشروعه ولا تنسجم مع دينه .

إلى الخلط الفكري بين الديمقراطية كآلية تنظيم الخلافات وبين المفاهيم الأيديولوجية المتعلقة بالعلمانية والليبرالية يلاحظ أيضا الالتباس نفسه بين فكرة الديمقراطية ونظم الحكم وتشريعاته , لكن يمكن ملاحظة مسألة ذات شأن وهي أن النقد العنيف الذي نجده عند مختلف التنظيمات الإسلامية في مقارعة التغريب والعلمانية والالحاد وغيرها لا نجده بالحدة نفسها عند مناقشتها فكرة الديمقراطية , وكأن هناك ما يشبه الانفاق على قبولها كمضمون لا كمفرد أو مصطلح وعلى شرط ألا تتعرض لمعتقدات الفرد الإيمانية , فالفكرة مقبولة بشروط وضوابط مثلها مثل الاشتراكية فهي مرفوضة كمفرد ومصطلح ومقبولة إذا كانت تعني العدل والععدالة والمساواة بين البشر , بينما نجد غيرها كذلك نجد الخلط نفسه بين التحدث كضرورة تاريخية وحاجة بشرية والحداثة كمنظور قيمي للأفراد وكنظرة إلى الحياة والفن . مع ذلكم يمكن تلمس ما يشبه التمييز بين التحديث بمعني الإصلاح والتجديد وبينن الحداثة كقطع مع القديم والماضي فالأول مقبول والثاني مرفوض.

على هذا الأساس يمكن قراءة الكثير من المتشابهات والمتقابلات بين التراث والحداثة في سياق متناقض بين خطين الأول يقبل بها لأنها أساس موجودة في التراث وهناك ما يقابلها في تجارب الماضي والثاني يرفضها لأنها غير موجودة وما هو موجود لا ينسجم مع المعروض .

لا شك في أن الخلاف النظري القائم بين الاتجاهين ليس جديدا بل هو يستمد عناصره من الماضي والتراث أيضا , إذ نجد الكثير من الحالات المشابهة في السجال نفسه في عصرنا بين أهل الإصلاح وأهل السلف وبين من يريد التوفيق بينهما بذريعة أن الشرع لا يعترض على التجديد , والإصلاح لا يتناقض مع السلف إذا أخذنا شروط اختلاف المكان والزمان في الاعتبار وهو ما يسميه الشيخ راشد الغنوشي " اختلاف البيئات ".

يبقي الخلط عند بعض الإسلاميين بين الديمقراطية كآلة تنظيم العلاقات والخلافات سلميا وبين مفاهيم الليبرالية والعلمانية وغيرها أهون بكثير من أخطر خلط قد يحصل في التفكير الإسلامي وهو ذاك القائم بين الحكم الإلهي والحكم بما أنزله الله على البشر , فهناك من لا يقدر المسافة بين المسألتين ويعتبرهما مسألة واحدة ويلاحظ أنهما تختلفان في درجات.

أحيانا لا نجد هذا التمييز بين الحكم لله وبين الحكم بما أنزله الله , فهناك بعض الاجتهادات التنظيمية لا يقيم مسافة بين الحكم والحكام ويعتبر أن الحكم بما أنزله الله هو نفسه حكم الله , متجاهلا تلك القناة الفاصلة بين الله عزوجل وبين أدوات التنفيذ وهم البشر , وتجاهل الفارق عند بعض الفصائل الإسلامية بين المستويين يثير التباسات عدة ويدفع به إلى رفض كل أشكال الحوار مع المختلف والآخر حتى لو كان من المسلمين المؤمنين المتعبدين .

هناك من الإسلاميين من يقيم مسافة بين إيمانه ومستوى تعبده وبين غيره من الناس ( مسلمين وغير مسلمين ) الذين يندرجون في تقواهم ويتفاوتون في مستويات التزامهم بالمنهج الإسلامي في حياتهم اليومية , وهناك من الإسلاميين مني يلغي المسافة بينه وبين غيره ويفترض نظريا أن التقوى والالتزام والتعبد هي على درجة واحدة ويجب أن يتساوى الناس في مدى تلبيتهم لشروط الشرع في حياتهم اليومية .

يعكس الاختلاف المذكور بين الإسلاميين في فهم الشريعة ومناهج تطبيقها نفسه على مستوى السياسة فيقبل الفريق الأول الحوار مع الآخر المختلف , بينما يرفض الفريق الثاني الحوار ويكفر الآخر ويدعو إلى هجرته حاكما أو محكوما بذريعة أنه ينتمي إلى الجاهلية ويشرك ما أنزله الله بما صنعه البشر , ويمكن ملاحظة هذه المسألة أكثر ما يكون في حوارات الإسلاميين ضد بعضهم وخصوصا عند تناولهم موضوعات التعددية والحزبية والبرلمانية والائتلاف مع الأحزاب والمنظمات المختلفة أيديولوجيا وفكريا .

في مقال تحت عنوان " دروس من تجربة الحركة الإسلامية " نشرته مجلة " الإنسان الصادرة في فرنسا , يأتي الشيخ راشد الغنوشي على تناقض الإسلاميين فيذكر " أن الإسلامي بصفة عامة واقع في مفارقة عجيبة , فهو من ناحية ضحية القمع والإقصاء العلماني ولذلك فهو يطالب بالحرية وقد يعتمد حتى على مبادئ حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية في الضغط على الحكام المستبدين ولكن كأني به هو الآخر يحمل عقلية إقصائية لخصومه أو هو يخشي تلك الحرية التي يطالب بها ولذلك بمجرد أن يظفر بها حتى يخنقها ويضيق نطاقها , ويتابع رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية " حتى لتري كثيرا من الإسلاميين كأنهم لا يشعرون بالتناقض بين مطالبتهم الأنظمة العلمانية بأن تعترف لهم بحق العمل الحزبي وحريات التعبير والتنافس على السلطة بينما هم لا تقر كتبهم بتلك الحقوق لمواطنيهم العلمانيين ( العدد التاسع . ديسمبر / كانون الأول 1992 ) .

يصف الشيخ الغنوشي ذاك الموقف بـ " لا أخلاقي , كيف أطالب العلمانيين بحق أحرمهم منه لحظة التمكن ؟ ".. وعلى الأساس المذكور يطالب باستحداث " ثقافة إسلامية جديدة تستوعب ثقافة العصر " لأن الدعوة حتى تنجح في بيئة جديدة " لا مناص من تفاعلها مع ظروف تلك البيئة " ويحدد شروط نجاح الثقافة الجديدة بنقاط عدة أبرزها تحققه أساليب العمل السلمي كثيرا ما فاقت جدواها المغامرات , ويرفض الاستراتيجيات المتناقضة داخل التنظيم الواحد والدمج بين " إستراتيجية التغيير السلمي والتغيير العنيف " ويؤكد أخيرا على الحوار في مختلف أشكاله والتداول السلمي على السلطة وتنظيم الأمة في مؤسسات شعبية قوية تدار بالشورى ( مجلة , الإنسان , العدد التاسع , السنة الثانية . ديسمبر 1992 ) .

يمكن أن نقلب كلام الشيخ الغنوشي الصارم في نقده لعقلية الحركات الإسلامية وتسأل : أليس من العيوب أن ترفض الأحزاب التي تسمى نفسها " ديمقراطية " وعلمانية " و" ليبرالية " وغيرها أن يرخص للأحزاب المختلفة معها أيديولوجيا ؟

يفتح نقد الشيخ الغنوشي الذاتي والقاسي النقاش عن موضوع الديمقراطية على مستوى مختلف , لذلك حتى تكون القراءة موضوعية ومتوازنة لكيفية تداول الحركات الإسلامية فكرة الديمقراطية واختلاف مواقفها منها لابد من وضع التصورات المنعكسة في سياق زمني لا أيديولوجي وإلا ضاعت الفكرة في متاهات نصوصية لا تفيدنا , ولا نستطيع أن نصل معها إلى نتيجة منطقية , فالنصوص المنقولة تحاول ترجمة المعطي النهائي وتحويله إلى نماذج خالص يمكن تركيبه نظريا على الأوراق وطباعته في الكتب . لكن من الصعب تطبيقه على الواقع المغاير , وإسقاط العملية التاريخية وطرد النزعة التجريبية من فمرة الدينقراكية وتطورها الزمني وتقدمها من محطة إلى أخرى يعطل علينا فهم الحركات الإسلامية وقراءة مواقفها من الكثير من المسائل وخصوصا المأسلة الديمقراطية فالحركات الإسلامية ليست متفقة على الفكرة على رغم اتفاقها على موضوعة الحرية واحترام الآخر , بسبب إشكالية المفرد أو المصطلح , الحركات الإسلامية ليست معادية للفكرة على رغم أن بعضها يتجنب الإشارة إلى الموضوع الديمقراطي , لا بسبب رفض الفكرة بل بسبب اقتناعه بوجود ما يقابلها في موروثنا التاريخي ( النصوص والتجارب والشواهد ) كذلك لا تجتمع الحركات الإسلامية على برنامج أولويات موحد , بل هي مختلفة متعددة في برامجها وأساليب عملها , فهناك من يرفض اللجوء إلى التصويت ولا يقبل بالانتخاب كأسلوب سلمي للإختيار والمفاضلة , وهناك من يقر التصويت ويقبل بالانتخاب كأسلوب للتداول والاختيار والمفاضلة , وهناك من يعتمد العنف وهناك من يرفضه وهناك من يرفض الدولة بداعي جاهليتها وهناك من يقبل بها , وهناك من يرفض المجتمع بذريعة جهليته وهناك من يتعاكي معه ويؤكد ضرورة استخدام أساليب التوعية والتربية الطويلة النفس .

يحاول على كريم سعيد في كتابه " أصول الضعف " دراسة في الميل العربي المشترك " أن يفسر المسألة بالقول :" رغم أن المسلمين متقفون على مبدأ اختيار حكامهم بالبيعة لكنهم لم يضعوا لها شكلا محددا , وقد تفنن المسيطرون عبر التاريخ في أساليب انتزاع البيعة وأخذها , ويري أن رفض بعض الإسلاميين مصطلح الديمقراطية كشكل ومحتوى ومقابلتهم له بالشورى سياسيا " فيه دقة كبيرة ومنطق عملي لأسباب ثلاثة عددها الباحث كالآتي : أولا . أن الديمقراطية هي مصطلح ( كلمة ) يمكن أن يوضع لها تعريف إجرائي يحدد الشكل والمحتوى الذي ترغب فيه , أو يرغب فيه هذا الطرف أو ذاك .

ثانيا لم يدع فلاسفة الديمقراطية أو اليبرالية الغربية أن مفهوم الديمقراطية الذي ينادون به وتمارسه دولهم يوفر نظاما كاملا ومتكاملا تام الفاعلية في تحقيق الحرية الإنسانية وأدني بكثير معا يروم الإنسان تحقيقه لنفسه , ثالثا , أن الشورى كمفهوم سياسي إسلامي أو لغوى , ما زال وعاء شبه فارغ , أو لنقل غير ممتلئ ويقترح على كريم سعيد أن يجري تحقيق الديمقراطية عن طريق عدم إملائها بمحتوى وتعريف وإنما بتقديمها كإطار فارغ ويتنوع بالآراء والمواقف المختلفة ... ( دمشق , دار النشر وتاريهخ الطباعة غير محددتين صفحات 154 , 155, 182 , 184 , 187)

ويصل في صفحة 180 إلى نتيجة وضعها في الهامش تقول , في ظل غياب طريقة محددة للشورى فإن المسلمين يمكنهم تأسيس شكل سياسي يكون نابعا من الشعب ويسود فيه البرنامج الذي تصوت عليه الأكثرية وذلك سيوفر الحافز – الميكانزم – التنافسي بين فئات الشعب المتنافسة لاختيار قائد ديني – ثم لاختيار مجلس شورى شعبي – يترك له حق انتخاب رئيس للدولة أو يتم انتخابه من الشعب مباشرة ( على سعيد كريم , أصول الضعف – دراسة في الميل العربي المشترك , دمشق , دار النشر وتاريخ الطباعة غير محددين ) فالمسألة إذا مسألة مصطلحات ومفردات وتنتهي الإشكالية إذا استبدلت الكلمة بكلمة وأعطيت مضامين مختلفة ومتكيفة مع واقع الناس ومناخهم .

في حوار طويل أجراه محمد عبد الجبار مع السيد محمد حسين فضل الله وصدر في كتاب بعنوان " المشروع الحضاري الإسلامي " أبدي العلامة فضل الله تحفظه على المفرد – المصطلح وذكر أنه عندما يتحدث عن الديمقراطية يقصد ," ضد الإستبداد " أى " أننا مع الديمقراطية بمعني أننا ضد الاستبداد , لكننا لا نستطيع أن تلتزم بكل نتائجها على مستوى القضايا الإسلامية , ويضيف في مكان آخر :" إننا كإسلاميين لا نعتبر أن الديمقراطية هي الخط الذي يعطي الشرعية للقضايا المطروحة في حياة الناس ولا سيما إذا كانت هذه القضايا تتصل بالتشريع , لأننا نعتبر أن الناس لا دخل لهم في مسألة التشريع ..." السيد فضل الله لا يرفض الديمقراطية كمفهوم يعزز الحرية ضد الاستبداد , لكنه يرفضها إذا تجاوزت حدها وأخذت تتدخل بمعتقدات الفرد وإيمانه وقضايا التشريع الديني , فالسيد فضل الله يريد أن يضبط فكرة الديمقراطية في إطار مفهومي ويقنن حدود تدخلها , فهو يقبلها كإطار لتنظيم الخلافات السياسية بين الناس ويرفضها إذا تحولت إلى أداة تتدخل في شئون الناس الاعتقادية ( محمد عبد الجبار . المشروع الحضاري الإسلامي – حوار مع السيد محمد حسين فضل الله , مؤسسة العارف , بيروت , الطبعة الأولي , 1991 , ص 125 و126).

العنف الاجتماعي وتنظيمات الجهاد

تختلف الآراء في تحديد الفترة الزمنية التي نشأت فيها تنظيمات الجهاد والجماعات الإسلامية فهناك من يعود بها إلى الخمسينيات , وهناك من يحددها في مطلع الستينيات وهناك من يؤخرها إلى السبعينيات .

يرجّح الباحث المصري هشام مبارك في كتابه " الإرهابيون قادمون " أن أول حلقت خط الجهاد نشأت في مصر العام 1960 " بتشكيل مجموعة من الشبابب المسلم الذي تأثر بكتاب ( الفتاوى ) الفقهية الإسلامية ابن تيمية , وترجع النشأة إلى محاولات الشاب نبيل البرعي (...) لإقناع المحيطين به من الشبابا المتدين بأفكار معلمة ابن تيمية وفتاويه , وتمحورت فكرته حول موضوعة الجهاد ونجخ في تنظيم حلقة ضمت مجموعة من الطلاب أبرزهم طلال الأنصاري وإسمايل طنطاوى وأيمن الظواهري واقتصر نشاطها على الدراسة والتعمق في الفكر الإسلامي ولم تنشط سياسيا إلا في مطلع السبعينيات ( ص 141 )

يرجّح أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة حسنين توفيق إبراهيم أن بدايات " التطرف الديني " ظهرت في " السجون والمعتقلات خلال الستينات و وذلك نظرا لعمليات التعذيب الجسدي والمعنوي التي تعرض لها المعتقلون من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في تلك الفترة التي دفعت بعض شباب الجماعة إلى تبني أفكار سيد قطب عن الجاهلية والتكفير والعنف والجيل القرآني ( شؤون الأوسط , العدد 50, مارس / أذار 1996) بعدها تطورت الأفكار وتبلورت في تنظيمات متخاصمة في مطلع السبعينات وأخذ التيار المتشدد يعلن نفسه " بشكل سافر اعتبارا من العام 1975 عندما قامت في ذلك العام الجماعة المعروفة إعلاميا بـ ( جماعة الفنية العسكرية ) بمحاولة لقلب نظام الحكم عن طريق اقتحام الكلية الفنية العسكرية , وعام 1977 عندما قامت جماعة ( المسلمون ) المعروفة إعلاميا بـ " جماعة التكفير والهجرة " باختطاف الشيخ الذهبي وقتله " ( شؤون الأوسط , العدد 50).

تكاد تجمع معظم الدراسات على أن بداية فكرة العنف تأسست وسط الجماعات الإسلامية في السجون المصرية في مطلع الستينات خلال فترة ما يعرف بـ المحنة الثانية " التي بدأت العام 1965 , عندما تعرضت حركة الإخوان لحملة اعتقالات انتهت بإعدام سيد قطب , وهناك من يعتبر أن النواة الأولي لفكرة العنف تأسست قبل ذلك عندما ألف قطب كتابه " معالم في الطريق " في فترة المحنة الأولي " وتسربت فصوله من السجن في العام 1962 .

عندما أفرج الرئيس جمال عبد الناصر عن قطب بعد وساطة قام بها الرئيس العراقي عبد السلام عارف في العام 1964باشر قطب تأسيس تنظيم مستقل عن حركة الإخوان ويقال إن بداية فكرة التنظيم الجديد انطلقت من السجن أيضا في العام 1957 عندما " التقي أحمد عبد المجيد مع على عشماوى واتفقا على ضرورة تجميع الإخوان مرة أخري , ( مبارك , الإرهابيون قادمون ص 65) آنذاك لم تكن أفكار قطب الخاصة تبلورت في صيغة بديلة أو مناقضة لأفكار المؤسس حسن البنا , ولكنه أخذ يغير من برنامج القراءات التربوي الذي كانت تتبعه حركة الإخوان فحذف رسائل حسن البنا وأبقي على واحدة فقط وهي " رسالة العقائد " وأضاف إلى البرنامج " رسالة العبودية " وكتاب " الإيمان " لابن تيمية , وأربعة كتب لأبو الأعلي المودودي , وستة كتب لسيد قطب , وخمسة تتحدث عن مخاطر الصهيونية والاستعمار .

آنذاك تطور الانقسام على أفكار سيد قطب , ورد تيار المرشد العام للإخوان حسن الهضيبي على أفكاره وبلورها في كتاب مضاد صدر تحت عنوان " دعاة لا قضاة " وأهم ما في الأمر أن أفكار الهضيبي كتبت في السجون أيضا .

بعد خروج قطب من السجن (1964) عمد إلى تأسيس مجموعة مستقلة عرفت لاحقا باسم " تنظيم 1965 " أشرف على تربيتها بالتعاون مع علي عشماوى والشيخ عبد الفتاح إسماعيل , واعتقل قطب ثانية وأعدم مع ثلاثة من مجموعته وتم تحطيم التنظيم في العام 1966.

أثار إعدام قطب الانقسام على أفكاره مرة أخرى بعد أن أخذت تنتشر في صفوف الجيل الشاب من حركة الإخوان , ويلاحظ الباحث مبارك أنه لا يجد في كتاب " معالم في الطريق " أى " أثر لحسن البنا على عكس المنهج المتبع في كتب جميع قادة الإخوان المسلمين (....) وفي الواقع لا توجد نقاط تماس واضحة بين فكر سيد قطب , وفكر الإخوان المسلمين في ما يتعلق بمقولات التحليل الثلاث التي اعتمدها قطب وهي الجاهلية والحاكمية ودار الحرب (ص88 , 89, 90) وتطور الخلاف إلى أن انتهي إلى انشطار الإخوان فوضعت الحركة سلسلة شروط للعضوية منها أن " على من يخالف ما جاء في كتاب دعاة لا قضاة أن يبحث له عن جماعة أخرى (...) وأصبحت الموافقة على ( دعاة لا قضاة ) شرطا أساسيا لعودة أى من أفراد تنظيم 1965 إلى جماعة الإخوان ( ص 105).

منذ تلك الفترة تبلورت في صفوف المجموعات الإسلامية ثلاث تيارات أخذت تبتعد عن بعضها إلى درجة التناقض والمواجهة :

الأول خط الإخوان المعتدل ( البناالهضيبي )

الثاني : خط الجهاد باتجاهاته المختلفة .

والثالث خط سيد قطب الذي بلوره " شكري مصطفي عقب خروجه من السجن " واعتمد على فكرة التكفير والهجرة . ويعتبر شكري مصطفي " أول من أسس جماعة منظمة ذات عضوية يمتد بها على أساس خط التكفير الذي برز في نهاية الستينات عقب المناقشات التي جرت لأفكار سيد قطب ( مبارك , ص 106) .

عرفت المجموعة باسم " التكفير والهجرة " بينما اسمها الحقيقي " جماعة المسلمين وهي تبلورت في السجن أيضا في العام 1969 , وانطلقت تنيظيما بعد الأفراج عن شكري مصطفي في العام 1971 , ونجح شكري في ضم أكثر من ألفي عضو إلى أن تم اعتقاله وأعدم في العام 1977 .

في وقت كانت أفكار الجماعات وتنظيمات الجهاد تتبلور في حركات مستقلة سياسيا , اتجهت حركة الإخوان إلى المصالحة مع النظام , فجاءت قرارات الإفراج عن قياداتهم في مطلع عهد الرئيس أنور السادات بعد اتصال تولته في العام 1971 " قيادات الإخوان في المنفي " وحوار جرى , داخل السجون بين الإخوان ومسئولين في أجهزة الأمن كان أبرزهم اللواء فؤاد علام ( ص 112 )

واستمرت اللقاءات بين 1971 , 1973 وتم الاتفاق على " ثلاثة تلتزم بها الدولة وهي الإفراج عن الإخوان وإسقاط القضية ضدهم وعودتهم إلى أعمالهم , وعدم التعرض لهم في نشر الدعوة والسماح لهم بالخطابة على المنابر ونشر الدعوة بالكلمة , " ثلاثة يلتزم بها الإخوان " وهي نبذ العنف , وعدم محاربة الحكومة وعدم رفع السلاح في وجه الدولة , وأقرت الحركة بالاتفاق وبدأ " الإفراج عن الإخوان المسلمين على فعات كان آخرها في 22 مارس 1975 ( الإرهابيون قادمون , ص 112 -115).

خرج المرشد الثاني حسن الهضيبي من السجن في العام 1971 وعندا سافر لأداء فريضة الحج في العام 1973 " عقد أول اجتماع موسع للإخوان في الخارج وجري الاتفاق على تشكيل لجان للعضوية تعويضا عن الكشوف التي ضاعت خلال الاعتقالات " ثم تطورت شبكة الاتصالات إلى أن كانت سنة 1977 وما تلاها نقطة انطلاق جديدة لحركة الإخوان .

في هذه الفترة تصاعد الخلاف بين حركة الإخوان والجماعات الإسلامية الأخري ونجحت الحركة منذ العام 1977 في استقطاب قادة الجماعة في القاهرة وافسكندرية وتمكنت من السيطرة على أجنحتها الرئيسية في العاصمة وبحري وبعض جامعات الصعيد على " حين استمر قادة الجماعة الإسلامية في أسيوط ( والمنبا ) بمفردهم ورفضوا الانضمام للإخوان ( مبارك , ص 138 -139) كذلك أخذت مجموعة نبيل البرعي تشق طريقها المستقل بعيدا عن حركة الإخوان والجماعة الإسلامية وتؤسس لنفسها قوة تعتمد على الجهاد وحده .

اختلطت في تلك الفترة الكثير من الأمور , وبات من الصعب تمييز المجموعات الجهادية المختلفة من بعضها , كانت هناك " مجموعات تذوب في بعضها لتظهر مجموعات أخرى , وهكذا في حركة دؤوبة " ( مبارك , ص 142 ) فانشق مصطفي علوي في العام 1973 عن نبيل البرعي وأسس تنظيم الجهاد وانضم إليه الملازم عصام القمري , وأنشأ وكيل النيابة يحيي هاشم تنظيما في الإسكندرية في العام 1975 , وأنشأ بين 1977 , 1979 مصطفي يسري تنظيما مسلحا في القاهرة وأنشأ أيمن الظواهري ( أصبح لاحقا الرجل الثاني بعد أسامة بن لادن في قيادة تنظيم " القاعدة ) حلقة تنظيمية في العام 1975 متزعما مجموعة نبيل البرعي , وأسس الفلسطيني صالح سرية بعد وصوله إلى القاهرة في 1971 بحلقة تنظيمية مستفيدا من نشاطه في حزب التحرير الإسلامي واتصالاته بالإخوان والجماعات , فاستقطب الطالب في الكلية الفنية العسكرية كارم الأناضولي والطالب في كلية الطب طلال الأنصاري وبدأ يتصل بحلقة البرعي بهدف استقطابها فانضم إليه حسن الهلاوى , وهكذا انتشرت حلقات تنظيم الجهاد في جامعات القاهرة والإسكندرية والأزهر والكلية الفنية , وأصدر سرية وثيقة من تأليفه أطلق عليها " الإيمان " وتعتبر أفكارها العامة من الأسس الأيديولوجية لحركات الجهاد ,وتختلف في خطوطها عن فكر حركة الإخوان وتتميز عن أفكار سيد قطب بالمزيد من التطرف مع أنها متأثرة بالكثير من آراء صاحب " معالم في الطريق " ويري الباحث مبارك أن " تنظيم صالح سرية تأثر بشكل واضح بأفكار سيد قطب بعكس المجموعات الجهادية الأخري مثل مجموعة الظواهري ومحمد عبد السلام فرج ( الإرهابيون قادمون ص 150) .

تعرض تنظيم سرية للملاحقة وتمكن أحد عناصره الأردني الجنسية سالم الرحال من الهرب إلى الإسكندرية وهناك نجح في تنظيم الطالب في كلية الهندس محمد عبد السلام فرج , وتمكنت الأجهزة الأمنية من اكتشاف التنظيم الجديد فاعتقلت سالم الرحال وأمرت بترحيله في العام 1979 ونجح فرج في الإفلات وشرع في تأسيس تنظيم جديد يقوم على فكرة الجهاد التي صاغها فرج في كتاب شهير هو " الفريضة الغائبة " كتاب فرج تحول إلى دستور عمل لمختلف حلقات الجهاد ,إذ فند فيه التجارب السابقة ونقضها وخصوصا تجارب الإخوان المسلمين وجماعة المسلمين التي تعرف باسم " التكفير والهجرة " رفض فرج في كتابه مقولة التكفير المرحلي ( الاستضعاف ثم التمكن) واستخدم تعبير " القلة المؤمنة ) التي تستطيع وحدها قلب نظام الحكم من طريق الجهاد , وهكذا أخذت " مجموعات الجهاد وعبر حلقاتها الثلاث تبتعد خطوة خطوة عن التراث النظري والحركي لسيد قطب ,ويري مبارك أن مجموعات الجهاد التي نشأت منذ الستينات حتى تنظيم فرج في العام 1979 الذي قام بالتخطيط لاغتيال السادات في العام 1981 كانت " مستقلة عن جماعة الإخوان المسلمين " ويرد على مقولات بعض الدارسين الذي يردد أنها جاءت من " عباءة الإخوان المسلمين " ويري أنه " لا تربطها أية صلة مع الإخوان " ( الإرهابيون قادمون , ص 150 -156).

بعد العام 1979 حصلت متغيرات كبيرة في مصر والمنطقة تمثلت في الصلح مع " إسرائيل " واندلاع الثورة في إيران , وقيام الاتحاد السوفياتي باحتياح أفغانستان ,وأخذت التطورات تنعكس على الجماعات الإسلامية , فانقسمت بين اتجاهين حملت الاسم نفسه " الجماعة الإسلامية " في وقت نجح تيار الجهاد في السيطرة على خلايا الصعيد .. عاني تنظيم الصعيد من ضعف في رؤيته الفكرية والحركية إلى أن النقي مسئول الجماعة في محافظة المنيا كرم زهدي بمحمد عبد السلام فرج , وتم الاتفاق على دمج المجموعتين وأخذت مقولات كتاب " الفريضة الغائبة " تسود جماعة الجهاد , بينما حافظت الجماعة الإسلامية الأخرى على وثيقتها الفكرية المعروفة باسم " ميثاق العمل الإسلامي "

بسبب سرية التنظيمات تداخلت العلاقات وتشابكت بشكل غامض فحصلت لقاءات مباشرة وغبر مباشرة بين مجموعات أيمن الظواهري وعبد السلام فرج وعبود الزمر وعصام القمري , وتم إعداد خطة كلف عبود الزمر بتنفيذها وصدرت في وثيقة بعنوان " مقومات الاستمرار " دعت إلى اعتماد " استراتيجية التحرك الانقلابي , وبعد أن اكتمل البناء الحركي للتنظيم توجهات المجموعة إلى أستاذ التفسير في جامعة الأزهر الشيخ عمر عبد الرحمن وأقرت بالتوافق معه على " الخطة العامة لتنظيم الجهاد " وأفتي الشيخ بـ " جواز قتل السادات , وقضت الخطة بتنفيذ الاستراتيجية على ثلاث سنوات , إلا أن إقدام السادات على إصدار قرارات أدت إلى اعتقال 1536 من السياسيين المصريين من بينهم 9 من قيادات " مجلس شورى التنظيم عجلت بتنفيذ الخطة بعد شهور على وضعها .

اقترح الملازم خالد الإسلامبولي خطة الاغتيال والاستيلاء على السلطة ووافق عليها فرح وقيادات التنظيم فنجح في خطوته الأولي ( اغتيال السادات ) وفشل في الثانية ( إسقاط الحكم ) إذ تمكنت أجهزة الدولة في العام 1981 من إلقاء القبض على أكثر من 70 في المائة من التنظيم قدرتهم الشرطة بنحو 1200 شخص , بينما ذكرت مصادر الجهاد أن عدد المعتقلين فاق 5 آلاف ( مبارك , ص 160 -169) .

يري حسنين توفيق إبراهيم أنه " بعد تسلم الرئيس محمد حسني مبارك مقاليد السلطة اتبع سياسة مزدوجة من التعامل مع الحركات الإسلامية المسيسة فانتهج خطا متسامحا تجاه جماعة الإخوان المسلمين التي نبذت العنف وقبلت بالعمل في ظل أسس وقواعد النظام القائم (....) في المقابل انتهج النظام خطا متشددا إزاء التنظيمات المتطرفة " ( شؤون الأوسط , العدد 50) .

أدي فشل التنظيم في انقلابه واعتقاله بالكامل إلى انقسام في صفوفه وكانت المصادفة أن يحصل الخلاف في السجون والمعتقلات , كما حصل الأمر نفسه مع الإخوان في المحنتين الأولي 1954 والثانية في 1965 ودب الانقسام بين خطين الأول تزعمه عبود الزمر الذي يحمله التنظيم فشل الخطة العسكرية التي وضعها , والثاني قادة الشيخ عمر عبد الرحمن ( المعتقل حاليا في الولايات المتحدة بتهمة التحريض على العنف ) وبسبب ذاك الخلاف واستمرار الملاحقات شهدت الثمانينات " ظهور الكثير من التنظيمات المتشددة التي كان بعضها مجرد انشقاقات عن تنظيمات أكبر , ومن هذه التنظيمات على سبيل المثال " التوقف والتبين " و" جماعة الشوقيين " و" الناجون من النار " ( حسنين إبراهيم , شؤون الأوسط , العدد 50) .

يذكر مبارك في كتابه أن الخلافات داخل التنظيم انفجرت بعنف في سجن ليمان طرة وانقسم إلى مجموعتين واحدة كانت أقرب إلى فرج وتضم عبود الزمر وطارق الزمر ونبيل المغربي وعصام العمري وأيمن الظواهري , وأخري أقرب إلى الشيخ عبد الرحمن وتضم كرم زهدي وناجح إبراهيم وأسامة حافظ , وهكذا انتهت الوحدة التي تأسست في الصعيد بين الطرفين وعاد كل فريق إلى مجموعته الأولي , وتركزت أهم نقاط الخلاف على ثلاث , إمارة التنظيم , العذر بالجهل , والسرية في العمل الإسلام ( الإرهابيون قادمون , ص 179 -188)

انقسم تنظيم الجهاد في العام 1984 إلى تيارين :

الأول : الجماعة الإسلامية ويقودها الشيخ عبد الرحمن وأبرز قياداتها : كرم زهدي و ناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة وأسامة حافظ وطلعت فؤاد قاسم وعلاء محيي الدين وصفوت عبد الغني وممدوح على يوسف وضياء الدين فاروق وعزت السلاموني وأحمد عبده سليم ومحمود شعيب وجمال فرغلي وحسن غرباوي ورفاعة أحمد طه ومصطفي حمزة ( معظمهم قتل أو أعدم أو معتقل أو ملاحق ) .

الثاني :" حركة الجهاد الإسلامي بقيادة عبود الزمر وتضم عصام القمري ومحمد الأسواني ( قتلا في العام 1988 ) وأيمن الظواهري ( ملاحق ومطلوب دوليا ويعيش الآن في أفغانستان ) ويقال إن تنظيم " طلائع الفتح " – الذي قبض على 800 شخص من أعضائه للتحقيق معهم في العام 1994 – على علاقة بحركة الجهاد ( مبارك , ص 192 -193 ), يؤكد حسنين توفيق إبراهيم " باستثناء تنظيم الجهاد وتفرعاته التي ظهرت خلال التسعينات ( تنظيم طلائع الفتح ) والجماعة الإسلامية فإن التنظيمات الأخرى أنهكتها الضربات الأمنية للنظام ولم يعد لمعظمها أى تأثير في ساحة العمل الحركة , وعموما بقيت الجماعة الإسلامية في التنظيم الأكثر فاعلية في تحدي النظام الحاكم , والدليل على ذلك أنها ارتكبت أكثر من 90 في المائة من أعمال العنف والإرهاب التي استهدفت الدولة والمجتمع منذ العام 1987 ( شؤون الأوسط , العدد 50)

يلاحظ من السرد الزمني تحركات الإسلام السياسي وتفرعاته أن الظاهرة ليست جديدة وأن نجاح الأنظمة في تطويقها والتضييق عليها ليس جديدا , فالظاهرة تعيد إنتاج نفسها في كل فترة زمنية في سياقات سياسية مختلفة : ما يدل على أن مصدر " العنف الأصولي " أساسه " العنف الاجتماعي " وهو بالضبط ما يجب على الأنظمة أن تبحث عن معالجته بأساليب السياسة والتنمية لا بأدوات الضبط والقمع وبسبب هذا القصور النظري في التعامل مع الظاهرة السياسية نجحت لاحقا شبكات التطرف في الامتداد التنظيمي وإنتاج مقولات عنيفة تركت تأثيرها السلبي على نمو أفكار المصالحة والانفتاح , ففي التسعينات انتكست شرائح من تلك الجماعات وانقلبت على مفاهيم التعايش والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة التي قال بها الجيل المؤسس للإخوان .

مسلمون وإسلاميون وما بينهما

تختلف كتابات المفكر الإسلامي عن التنظيمات الإسلامية فالمفكر يمزج بين علومه وأهدافه التنظيم ويقدم أطروحاته السياسية بشكل تحليلي ومنهجي , بينما أفكار التنظيمات تكوين أكثر مباشرة ووضوحا وهي أقرب إلى البرنامج العملي المختصر في نقاط محددة ولابد من ملاحظة هذا الفرز بين كتابات المفكر وأفكار التنظيم حتى تنجلي صور المواقف وألوانها .

كذلك تختلف آراء التنظيمات الإسلامية وتفترق على غير محور , ولا تقتصر الاختلافات على تصور المسائل بل في تحليلها وتحديد معالجاتها أيضا وتصل الخلافات أحيانا إلى حد التناقض في منهج المعرفة ومداخل قراءة المشكلات وأساليب حلها وطرق تذليلها , ولا يقتصر الاختلاف على الأسلوب فقط بل يطال جوهر القضايا كالديمقراطية والحوار مع الآخر والاعتراف به والائتلاف الحزبي مع أحزاب ليست إسلامية ودور البرلمان والتشريعات الرسمية وغيرها من النقاط الحساسة التي تغطي هموم المواطن ومتطلباته .

يمكن التمييز بين خطين إسلاميين كبيرين يتنافسان على تأكيد شرعية التمثيل ومشروعية الفكر والمنهج وهما : تيارات الإخوان المسلمين التي تمثل التوجه العقلاني والمعتدل والواقعي , وتيارات الجماعات الإسلامية ومنظمات الجهاد , التي خرجت إلى الساحة السياسية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي , وهي ترفض الأسلوب السلمي وترجح الجهاد وقتال السلطة وتخون " الإخوان " بسبب تساهلهم ومرونتهم وقبولهم بمبدأ التفاوض مع السلطة والتعاون معها .

إذا قمنا بجردة سريعة لمنشورات تيارات الجماعات والجهاد نلاحظ أن معظم المقالات والبيانات والتصريحات المنشورة تركز على مهاجمة سلوك الإخوان وفكرهم أكثر من تركيزها على نقد السلطات ومهاجمتها , بل نجد كثيرا من النقد الجارح الممزوج بالشماتة والسخرية من مواقف الإخوان ومراهناتهم على السلطات وتعاونهم معها ومجاراة الحكومات في نقدها للعنف والتطرف والإرهاب , وكثيرا ما تستعين جماعات الجهاد بمواقف الحكومة المصرية ( رفضها إعطاء تصريح لحزب إسلامي ) وتجربة الجزائر ( الانقلاب على الانتخابات ) إلى مواقف السلطات وسلبيتها مع الإخوان وتستخدمها ذريعة تعمل لمصلحة إستراتيجية الجهاد وفي الآن نفسه تستغلها لحث الإخوان والضغط عليهم نفسيا للإقلاع عن الأسلوب السلمي الديمقراطية واللجوء إلى السلاح كلفة وحيدة في " السياسة الشرعية " الواجب اتباعها في مخاطبة الحكومات وهكذا تصبح حركة الإخوان " رهينة المحبسين " فهي مطاردة من السلطات بذريعة كثرة إسلاميتها وملاحقة من تنظيمات الجهاد والجماعات بذريعة قلة إسلاميتها .

أهم مفارقة يمكن ملاحظتها بين توجه الإخوان وتوجه حركات الجهاد والجماعات أن الأولي علنية تتبع أسلوب المكاشفة والمصارحة وتعتبر نفسها مسئولة عن أعمالها وسياساتها وهي تدين تصرفات غيرها لأنها لا تتفق معها , بينما الثانية سرية وغير علنية على رغم صراحة أفكارها ووضوح مواقفها , إذ أن البيانات والتصريحات الصادرة عن الجماعات والجهاد سرية وأسماء قياداتهم مستعارة وعناوينهم مجهولة ومراكزهم غير معروفة .

لعل اختلاف أسلوب عمل كل فريق يفسر اختلاف تفكير ومنهاج عمل كل طرف فحركة الإخوان مسئولة عن كل كلمة لذلك تزنها قبل أن تقولها , بينما لجوء حركات الجهاد والجماعات الإسلامية إلى الاستعارة وسرية العناوين والأسماء يترك مساحة أوسع لقول كل الأشياء لأن المسئولية ستقع في النهاية على مجهول أو مجهولين , فمن يعيش في عالم من السرية المحكم إلى درجة الانغلاق تصبح الأفكار محكومة بذاك العالم الداخلي المغلق على نفسه وغيره وتصبح لغة المخاطبة محصورة في " مجتمع مغلق " يخاطب نفسه ولا يكترث كثيرا لوقع الكلمة ومسئوليتها وتأثيرها في جيل أو أجيال , فأسلوب الإخوان سلمي ّ وتربوي طويل النفس بينما أساليب الجماعات وحركات الجهاد انقلابية وتعبوية ودعاوية تعتمد على تواصل التضحية وضمير الأمة من دون أكتراث للمكاسب الراهنة والمؤقتة ولعل الاختلافات المذكورة توضح تلاوين الصورة السياسية للمفكرين وقيادات الإسلاميين خصوصا من مسائل العنف والديمقراطية والتعاطي مع الآخر المختلف .

التدين والسياسة

يري رئيس " الجبهة الإسلامية القومية " حسن الترابي في مقال له نشرته مجلة الإنسان أن التدين أصبح " نسبة إلى الإسلام لا إيمانا بالدين , أصبح الفقه محفوظات من الآثار ثم أصبحت الأمة تاريخا " ( ص 13 ) ويقترح الترابي حتي يعود الإسلام إلى لعب دوره التاريخي اعتماد الخطوات الآتية " إحياء التوحيد تطوير الاقتصاد , بعث حياة اجتماعية لا تقوم على العصبية خروج المرأة من عزلتها , تحديث العلم وتوحيده , تجديد الفقه , اعتماد الشورى والرأي واختيار الحاكم الصحيح , وبناء علاقات دولية قانونية .

يطلق الترابي على تصوره تسمية " النظام المركب " إذ لابد " للحركات الإسلامية اليوم أن تبدل هذه الأصول وتعود مرة أخري لقرار الشورى الذي يسمي الاجتماع , ويطالب المسلمين أن " يتصلوا ببعضهم عبر العالم قاطبة , لأنهم " إخوان في الأمة " كذلك يطالب " الاتصال بالغرب عبر الحوار والدعوة قصد هدايتهم , ويقترح أيضا تقديم نموذج للنظام " العالمي العادل " لأن نظام الأمم المتحدة " مؤسس على غير العدل ولا يراعيه , وهو مخالف حتى للنظم الديمقراطية الغربية , ويري الترابي أن " البرلمان في أوروبا أقوى من السلطة التنفيذية لكن مجلس الأمن أقوى من البرلمان العالمي بما فيه الدول العظمي "

لا ينكر الترابي الشورى والرأي والاختيار فهي واردة لكنها تأتي بعد التوحيد والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي وحقوق المرأة والعلوم والفقه , فبرنامج الأولويات تحدده في النهاية الحاجات وشروط المكان والزمان ( مجلة الإنسان , العدد التاسع , السنة الثانية , ديسمبر / كانون الأول 1992 , مقال " العمل الإسلامي المعاصر : نظرات وعبر")

في كتابهما عن " حقوق الإنسان في الإسلام " يشرح إبراهيم مدكور وعدنان الخطيب وجهة نظرهما بشأن نظام الحكم في الإسلام فيذكرا أن " لا شك فيه أن الإسلام لم يأت بنظام معين من أنظمة الحكم , وإنما وضع مبادئ عامة تصلح لكل زمان ومكان . كالشورى والعدالة , والحرية , والمساواة , وفي عمومها ما أكسبها مرونة تفسح المجال للتطور والتجديد , ويحدد الباحثان مصادر التشريع في الإسلام وهي كما هو معروف , القرآن وهو المصدر التشريعي الأول في الإسلام يخاطب العامة , ولا يدخل في التفاصيل والجزئيات , وتشريع السنة , وهو المصدر الثاني , ينصب على أحداث لها ظروفها الخاصة , ولا تحول دون مواجهة أحداث أخري في ضوء ظروف جديدة ويؤكد أن ألإسلام لم يعرف مبدأ فصل السلطات , وكثيرا ما اجتمعت هذه السلطات في يد واحدة وعند تعددها قد لا تلتزم بما رأته سلطة أخري " وبعد اتساع رقعة الإسلام " تكونت مدارس تشريعية متعددة وحاول الفقهاء والمجتهدون أن يضطلعوا بالعبء وأن يسدوا الفراغ , وهكذا لم يقف التشريع الإسلامي عند النصوص وحدها بل كان للرأي فيه مجال وينتهي الباحثان إلى اقتراح شرعة لحقوق الإنسان انطلاقا من فكرتهما التي تقول إن نظام الحكم في الإسلام " لم يرسم له نظام معين وأفسح نسبة المجال للاجتهاد واختيار الملائم على شريطة أن يقوم الحكم أساسا على الشوري والعدالة والحرية والمساواة , ( دار طلاس , دمشق , الطبعة الأولي 1992 . ص 38 -44 ) .

بعد أن يضعا مسودة دستور مقترح لحقوق الإنسان يؤكد أن أشد النظم المعاصرة قربا من المبادئ التي جاء بها الإسلام في الشورى والصالح العام هو نظام الحكم الديمقراطي , ويطلبان الأخذ بها خصوصا تلك التي تتفق والمبادئ المقررة في الإسلام مع اجتناب عيوبها التي تخالف المبادئ الإسلامية ( إبراهيم مدكور وعدنان الخطيب حقوق الإنسان في الإسلام , دار طلاس , دمشق , الطبعة الأولي , 1992 صفحة 84).

إذا كان راشد الغنوشي وحسن الترابي والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم من المفكرين الإسلاميين يؤكدون مسائل الشورى والرأي والاختيار مع وجود اختلاف بينهم على استخدام المفرد أو على تفسير المصطلح , نري هناك من يقول بالشورى لكنه يشكك بالديمقراطية وصحة خيارها بسبب خللها التنظيمي والتمثيلي , فالأستاذ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية محمد طي قرأ صلاحيات الحاكم في العصر الحديث و وقارنها بصلاحيات الحاكم في الإسلام بأسلوب مخالف للرأي المتداول حين وجد أن " الأديان السماوية في مقدمها الدين الإسلامي قضت ومنذ البدء على الحاكم أن يحكم بما أنزل الله " فالحاكم ليس مطلق الصلاحية وعليه التزامات تجاه الشريعة والناس " حتى يستطيع بالمقابل أن يطلب من الناس طاعتهم ومؤازرتهم في تحقيق خططه " ( مجلة , العرفان , تشرين الثاني / كانون الأول 1994 ).

انطلاقا من المبدأ المذكور يأخذ الباحث بنقد ثغرات النظام البرلماني وعدم صلاحياته التمثيلية لأن البرلمان " ليس هو الواضع الحقيقي للتشريعات " لذلك يلجأ أحيانا إلى " منح الحكومة صلاحية اتخاذ المراسيم الإشتراعية " لأن البرلمان " يتلهي بالنقاشات والمزايدات لإرضاء ناخبيه , فيما الحكومة بحاجة إلى بث المسائل بسرعة نظرا لسرعة وتأثر التطور ".

يوافق الباحث الحقوقي على أن مسألة الانتخاب " إنجاز عظيم في القوانين الوضعية غير أنها لا تكشف " عن إرادة الشعب بكامله ولا حتى بأكثريته " بسبب عدم مشاركة جميع المسجلين في الاقتراع ولأنّ البرلمان حين يصوّت " لا يصوت بوعي وحرية كاملين بسبب انتماء الأعضاء للأحزاب أو أن أكثريته تمثل في الحكومة وتأتمر بأوامرها " ولأن التصويت واختيار المرشحين يتأثر بعاملين " الأيديولوجية والقيم من جهة وبقوى الضغط القائمة في المجتمع من جهة أخري , ويبقي المحروم قابعا في محيطه الضيق مهما تكن كفاءته وقدراته القيادية والتمثيلية". والنتيجة برأي الحقوقي اللبناني " أن الشعب لا يمكن أن يحكم أو يقرر على الأقل في كل بلدان العالم اليوم "

لذلك يقترح أن يثقف الشعب " بالثقافة الإسلامية " حتى تتفق خياراته , مع ما يقرره الشرع الحنيف " ويطالب بأن يختار المسلمون " لأنفسهم إماما " على أن تختار الإمام " مجموعات العلماء والمكلفين بالإشراف على الترشيح وقبول ترشيحات من تتوافر فيهم الشروط التي حددها الإمام " ( العرفان , نوفمبر / ديسمبر 1994) .

هكذا بعد أن ميز الأستاذ في كلية الحقوق بين صلاحيات السلطة الاشتراعية ( البرلمان ) وصلاحيات السلطة التنفيذية ( الحكومة ) اختصر الاقتراع على اختيار هيئة من العلماء تقوم بانتخاب الإمام صاحب الصلاحيات الواسعة الملزمة بالشورى والشرع , لأن السلطة تقوم بانتخاب الإمام صاحب الصلاحيات الواسعة الملزمة بالشورى والشرع : لأن السلطة في الإسلام تعود برأيه إلى الله وهو الذي " يمنحها للحاكم مقيدة بالأحكام التي وضعها كأصول وأحيانا كتفاصيل , ولا يخشي من الشطط : ما دام العلم والعدالة متوافرين لدي الحاكم وما دام القاضي محميا ماديا , ومعنويا " ( العرفان , ص 109 -121 ) .

لا يمكن فهم تحليل أستاذ الحقوق في إطاره المجرد لأن الخلاف على مثل تلك المسألة لا يقوم على النص بل على أدوات التنفيذ , فهو يفترض من جهة نسبة عالية من الوعي والإدراك والنزاهة والتجرد ويقترح من جهة أخرى درجة تمثيلية شديدة الاختصاص تتوسط صيغة الحاكم المطلق والبرلمان المشرع على مختلف الضغوط والأهواء , مثلا يوافق على اختيار المسلمين إمامهم بواسطة مجموعة العلماء والمشرفين لكنه لم يحدد اختيار هؤلاء , هل يتم ذلك عن طريق الاقتراع وصناديق التصويت أو تقوم " صفوة " مختارة من " نخبة " المجتمع باختيار الإمام بمعزل عن الناس ؟ فالصيغة الغامضة تدل على ذاك الالتباس الذي يخلط بين الحكم والحكام والحكومة , فالقوى التي تنفذ أحكام الدستور سواء في حكومى إسلامية وغير إسلامية هي عناصر بشرية لابد من وجود ألية أو هيئات تقوم باختيارها أو انتخابها , وهذا لا يتم برد الاختيار إلى صفوة بمعزل عن إرادة الناس وحقهم في الاختيار , وهذا النوع من الاختيار " النخبوي " مالت حركات الجهاد والجماعات الإسلامية إلى تأييده حين صنفت الناس ورفضت الانتخاب واسطة للإختيار .

التمييز بين المسلم والإسلامي

من هم الناس , وما هي أصنافهم ؟ وكيف يراهم بعض المنظرين لفكر بعض حركات الجهاد والجماعات الإسلامية ؟ وكيف يتم التمييز بين المسلم والإسلامي ؟

يقسم " أبو عبد الله " في مثال جاء تحت عنوان " في السياسة وفقه الواقع " الناس إلى " ثلاث مدارس رئيسية تفرع عنها من أخذ باثنين من هذه الأسباب ولم يكتمل الحال إلا لمن وفقه الله للأسباب الثلاثة , وحدد المدارس الثلاث كالآتي :" قوم جعلوا القوة مقصورة على تصحيح الاعتقاد والالتزام بالسلوك (....) بلا جهد ولا نصب وطالبوا العقول أن تقبلها ونعتوا كل منكر لها بأوصاف الانحراف والضلالة والقصورة ", " وآخرون جعلوا القوة هي فهم الواقع وإدراك اللعبة السياسية المحلية والدولية والتحرك فيهامش المصالح بلا ضوابط من دين الله فنشأت مدارس للعمل الإسلامي أوصلت أصحابها للشرك والضلال ضوابط من دين الله فنشأت مدارس للعمل الإسلامي أوصلت أصحابها للشرك والضلال أو كادت كل يحسب ممارسته , " وفريق ثالث ومعظمهم من الشباب المخلص ظنوا نتيجة عجز هؤلاء وأولئك أن القوة هي الرمي مع حظ ما من القوة الأولي وشبه جهل مطبق بالقوة الثانية فقدموا نماذج على الإخلاص وقوة الاستشهاد في إطار من الفشل المتكررة .

يري " أبو عبد الله " أن شباب الفريق الثالث " أكثر الفرقاء إخلاصا وأفهمهم قبولا وقربا من النجاة والنجاح " ويقترح " أبو عبد الله " على الشباب حتى يأخذوا حظهم بالنجاح أن يأخذوا من القوة الأولي " صحة المنهج والاعتقاد " ومن الثانية " فهم السياسة والواقع ليكتمل لهم المسار ".

يبدأ " أبو عبد الله " يشرح فكرته التي تجمع بين مناهج الفرقاء الثلاثة : صحة العقيدة والالتزام بالسلوك , فهم الواقع وإدراك اللعبة السياسية المحلية والدولية والإخلاص والعمل والجهاد وقوة الاستشهاد ( الفجر , العدد 15 , السنة الثانية , 1996 , تصدر عن مركز الإعلام الإسلامي الدانمرك ) .

يلاحظ من التقسيم المذكور أن فرز الناس يتم على أساس السياسة ومنهج الاعتقاد ولا يقيم أى أهمية للمصالح والعلاقات , وعلى أساس الفرز العقائدي يظهر أن مجال الاختيار محصور في دائرة ضيقة يخرج منها كل من لا تنطبق عليه الشروط الثلاثة التي حددها " أبو عبد الله " فالديمقراطية غير واردة , لأنها أصلا لا تدخل في سياق التقسيم أو الاختيار بين الناس وفئاتهم .

هذا الغموض لا نجده في مقال " مصطلح الثابت والمتغير في ميزان الأصول والواقع " كتبه الشيخ " أبو قتادة " رد فيه على كتاب صلاح الصاوي " الثواتي والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر " الذي حاول أن يفسر اختلافات الحركة الإسلامية في العمل الإسلامي مستخدما المنهج القرآني والسنة النبوية ومدارس الفقه .

اتهم الشيخ " أبو قتادة" الصوى بأنه " تجاوز في كل كتابه البحث عن التوصيف الشرعي لواقع الحكومات والدول التي تعيشها الحركات الإسلامية وهو توصيف يجب الاتفاق عليه ويجب أن يكون من الثوابت لأن هذا التوصيف متعلق بالثوابت والمحكمات في قضية الإيمان .."

ويرد الشيخ " أبو قتادة " على جعل الصاوي " مسألة الدخول في البرلمان والاشتراك في العملية الديمقراطية من باب المتغيرات ومن مجارى الاجتهاد التي يتفاوت الناس في تقديرها , ويؤكد أن هذه النقطة " من المسائل المختلف عليها بين الإسلاميين (...) وهو خلاف يدور بين موجب ومجوز ومانع , والمانع بين حاظر مؤثم ومكفر مضلل ."

ويشير الشيخ المجهول الهوية والعنوان إلى شروط الدكتور لدخول المجالس النيابية منها " الاجتناب والبراءة حتى يعلم قيامها على الإسلام والتزامها حالا ومقالا بسيادة الشريعة الإسلامية (....) والدعوة إلى هذا الأصل الجامع ونصرة الدين الحق وإقامة الحجة على المرتابين "

يسخر الشيخ " أبو قتادة " من شروط الصاوي إذ " كيف يمكن للنائب في البرلمان أن يدخل هذا البرلمان بهذا الشرط ؟ ويعلق " فهلا قلت لنا لا يجوز وكفي لأن مثل هذا البرلمان غير موجود , ويري الشيخ " أن ما تقوم به على أرض الواقع جماعات العمل السياسي (...) هو استجابة واقعية ( بغض النظر عن النية والقصد ) لمطالب الجاهلية " ( الفجر , العدد نفسه ).

يلاحظ من قراءة الشيخ " أبو قتادة " أنه لا يرفض فكرة البرلمان بالمطلق لكنه يرفض البرلمانات القائمة حاليا ويهاجم القوة الإسلامية التي وافقت على الدخول بلعبتها على رغم علمها بجاهليتها لكن الشيخ لا يحدد شروطه أو يرسم مواصفات البرلمان المقترح وهيئاته وأساليب انتخابه , ويرجح أنه يرفض فكرة الانتخاب ويفضل مسألة الحشد ..

يوزع الكاتب عمر عبد الحكيم في مقال تحت عنوان " الحركات الجهادية ... وعملية الحشد والتجنيد , المدارس الإسلامية السياسية على ست :

الأولي : الحركة التي يحب أصحابها أن يسمّوها الأم " ويسخر من حركة الإخوان التي تخلت عن شعاراتها السابقة وباتت تطرح الآن " الديمقراطية دستورنا , والبرلمان سبيلنا والحصول على مقعد في وزارة طاغوت أسمي أمانينا "

الثانية " التجمعات والمدارس التي رفعت شعار ( أهل السنة والجماعة ) وتبنت ( منهج السلف ) وانتمت حتى اسميا لهذا المسمىّ الشريف ( السلفية ) ويتهم قادة هذا التيار بأنهم تخلوا عن منهجهم وأصبحوا " عباد الشيوخ والأمراء (...) بعد أن سوغ كبيرهم كل الموبقات وأبشع المؤامرات .."

الثالثة " طرحت نظرية تحتوى على كثير من جوانب الخير منهجا وتربية , منطلقين من تصحيح ( الولاة والبراءة ) والتركيز على توحيد الحاكمية لبناء ( قاعدة صلبة ) مؤهلة ... " ويتهم قادة هذه المدرسة بأنها تعيش مصلي جدالات ( بيزنطية ) ما تفتأ تدور وتعيد في حلقات البحث المجرد ".

الرابعة " ترخصت وتوسعت في طرح نظريتها على حساب أساسيات معتقدات هذا الدين الحنيف لتواكب مستوى الفهم والممارسات السياسية بزعمها وتعتمد التثقيف والتربية السياسية والواقعية أساسا لتعبئة قواعدها , ويرد عليها بأنها خرجت على " القرار الصائب والممارسة المجدية "

الخامسة وهم الذين اهتدوا " إلى أن الطريق هو ( التبليغ والدعوة) ويري إذا ضربنا صفحا عن القصور والعوج في منهجهم من الناحية الشرعية والواقعية وجئنا لنقارن في زاوية الخير التي لديهم والنتيجة التي حصلوها (...) ونظرنا إلى عملية التبليغ والدعوة (....) لوجدنا أن الله هدي ببركات الجهاد (....) عشرات أضعاف ما حصلوا بجهودهم المشكورة ".

السادسة , وهم أولئك الذين " نسبوا أنفسهم إلى ( السلوك والتربية ) بزعم التصوف وتزكية النفس , ويري أن هذه الفئة انحرفت وضلت وخرجت على شعاراتها .

يخلص الكاتب " عمر عبد الحكيم , إلى أن المدارس الست انتهي دورها " على اختلاف بعدها وقربها " ويري أن حركات الجهاد المسلح , قد ورثت واقعا ومنهجا جوانب الخير وجوهر الشعارات الخيرة المرفوعة في كافة مناحي ما سمي بالعمل الإسلامي أو الدعوة الإسلامية أو الصحوة وتجاوزت ما وقعت به من قصور وعوج , وينتهي أخيرا إلى وضع برنامج من تسع نقاط للحركات الجهادية لترث " الحشد البشري لسلسلة الجهود الخيرة لمشروع الصحوة عبر القرن الأخير لأن " التجمعات الجهادية " يجب أن تثنيه إلى عظم المسئولية وتشعبها , ومنذ لك ومن أهمه وضع نظرية مستقيمة مدروسة لعملية ( الحشد والتعبئة ) قبل أن يفاجئها نصر بفعلها أو بفعل الظرف فنجد نفسها عاجزة بحكم واقعها عن قيادة أمة ( نشرة الفجر , العدد 15 , السنة الثانية , 1996)

يلاحظ من نصوص الإسلاميين أن لكل حال مقاما . وأن شروط المقام ( المكان والزمان ) تحدد إلى حد كبير وجهة التفكير , فالحقوقي اللبناني يعدد أخطاء البرلمان القانونية ويقرأ ثغراته التمثيلية ليركز السلطة في هيئة واعية تقع عليها مسئولية اختيار الحاكم , وهذا ما يخالف رأي رئيس البرلمان السوداني السابق حسن الترابي الذي يري أن سلطة البرلمان وصلاحياته القانونية أقوى بكثير من سلطات الحكومات التنفيذية وصلاحياتها .. والشيخ المطارد والملاحق راشد الغنوشي يشدد على الديمقراطية ويطالب بالحريات واحترام الرأي وحق الاختلاف ووجود تداول السلطة سلميا , ويلتقي الترابي مع القوى الجهادية في رفضها للنظام العالمي واستبداده الدولي لأنه يطوق السودان ويحاصره ويضيق عليه حريته وحقه في اختيار نظامه وسياساته ولكنه يختلف معها في الأسلوب وإستراتيجية المواجهة , بينما تتجه الحركات الجهادية ( الجماعة والجهاد ) إلى رفض فكرة البرلمان لسببين : الأولي : لأنها جاهلية , والثانية : لأنها لا تسمح للإسلاميين بدخوله , لذلك تدعو تنظيمات الجهاد والجماعات الإسلامية إلى عدم إضاعة الوقت ورفض المساومة أو الصلح أو التسوية والاستمرار في الكفاح ضد الأنظمة , فالتعبئة والحشد والمواجهة المباشرة هي البدائل عند الحركات الجهادية عن خوض انتخابات غير مجدية يتم تداولها باسم الديمقراطية .

الاختلاف لا يقتصر على قطاع محدد وإنما يشمل كل الفئات فالحركات الإسلامية ( الشيعية ) تتشابه في هذا المضمار مع الحركات ( السنية ) في الكثير من الجوانب السياسية وتنقسم بدورها على جبهات لا تتفق على الوسائل والأهداف , ففي منشور أصدرته " الكتلة الإسلامية في العراق في يوليو / تموز 1991 بعنوان في العمل الإسلامي المعاصر – رؤية نقدية" نجد محاولات لتحديد برنامج عمل يختلف إلى حد كبير عن المنظمات الإسلامية العراقية السابقة ’ إذ تعتبر الكتلة الإسلامية أن الأمة اخترقتها الجاهلية وأن أوضاع المسلمين مفروضة عليهم وغير إسلامية وتعتبر أن " الحلقة المفقودة في حياتهم هي الدولة الإسلامية , لذلك فإن قضيتهم الأول هي قضية سياسية تتطلب عملا حركيا " لإقامة دولتهم الشرعية بديلا عن الكيانات الجاهلية المقامة في بلدانهم ( صفحة 15 – 16) وتؤكد الكتلة الإسلامية في منشورها أن المشكلة الأساسية ليست في المستعمر بل في خلل العمل الإسلامي , وبعد أن تصنف العمل الإسلامي المعاصر إلى منهجين الأول إصلاحي والثاني تغييري ثورى تعلن انحيازها للخط الثاني لأنه هو " الإسلام الحق والدين القيم والنهج الصحيح ( صفحة 24 ) .

كل هذه الخلافات لم تنشأ بين القوى الإسلامية فجأة ودفعة واحدة بل تدرجت تاريخيا وعبرت مراحل ومحطات إلى أن انفجرت ووصلت إلى حد الصدامات في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات , والتصادم الدموي العنيف يؤكد على أن الخلافات عميقة وتجاوزت حدود التفاوض السلمي بين الطرفين .

الاختلاف على الديمقراطية بين الإخوان والجهاد

أهم تطور حصل في التيارات الإسلامية هو انتقال الخلاف من الخصومات العقائدية في نهاية السبعينات إلى المواجهات السياسية والاشتباكات بين الطرفين وخصوصا بين الجماعة الإسلامية وحركة الإخوان في الثمانينات والتسعينات .

ازدادت الصدامات عندما بدأت الحكومة المصرية تفرج عن قيادات الجماعة الإسلامية في العام 1984 , وأخذت الأخيرة تنشط وتعيد تنظيم نفسها فاندلعت المواجهات وانتقل الخلاف إلى الجامعات والمؤسسات والمحافظات ووصل أحيانا إلى الاشتباك واستخدام السكاكين و الخناجر والجنازير وأسياخ الحديد كما حصل في أسيوط في عامي 1986 و1988 , وانتهت المواجهات إلى إصدار كل طرف بيانات يتهم فيها الآخر بالاعتداء وتطورت حرب المناشير إلى صدور بيانات توثق الخلافات وتقوم على تأصيلها عقائديا وسياسيا .

بصدور البيانات العقائدية تأسست خطوط أيديولوجية متناقضة تختلف على معظم المسائل المتعلقة بالناس والتعامل مع المجتمع , وأبرز وثيقة أصدرتها الجماعة الإسلامية كانت تلك التي تحمل عنوان " نحن والإخوان " شرحت فيها بالتفصيل خلافاتها مع الإخوان ورفضها لمواقفها السياسية وخلطها المفاهيم الإسلامية بالشوائب العلمانية وتساهلها مع النظام المصري مشاركة الإخوان في البرلمان ( هشام مبارك , الإرهابيون قادمون ص 222 ).

يشير الصادق المهدي في هذا الصدد إلى تعارضات القوى الإسلامية واستخدامها الدين بحسب الظروف والأهواء إذ يقول : " للأسف درجت بعض هذه التيارات التقليدية الإسلامية للمناورة وبصورة لا تليق بنهج إسلامي , ففي ظروف ينطلقون من موقفهم التقليدي ويقولون إن نظام الحكم الإسلامي يؤيد نظام الاتجاه الواحد ويمنع وجود الأحزاب لأنها تفرق الكلمة , وفي ظروف أخري يقولون العكس وإن النظام الديمقراطي الحديث هو تطبيق لنظام الشورى الإسلامي وهكذا مناوروات وتناقضات حول قضايا الاقتصاد والسياسة الخارجية " ( تحديات التسعينات , ص 130) .

في هذا المعني الذي أشار إليه زعيم حزب الأمة السوداني شكل الهجوم الذي شنته الجماعة الإسلامية على الإخوان بداية قطع ليس مع قيادة الإخوان آنذاك بل مع تاريخ الحركة , وتحديدا مؤسسها حسن البنا , ففكرة دخول البرلمان والمشاركة في الحياة النيابية ليست جديدة وليست بدعة اخترعها قادة الإخوان في دورة 1984 ( التحالف مع حزب الوفد ) ولا في دورة 1987 ( التحالف مع حزبي العمل والأحرار ) حتى يستنكرها قادة الجماعة فكرة المشاركة في الدورات الانتخابية قديمة ويعتبر حسن البنا أول من أسسها آنذاك حزب الوفد , وبلغ وقتها " عدد مرشحي جماعة الإخوان سبعة عشر مرشحا وعلى رأسهم المرشد العام حسن البنا نفسه في دائرة الإسماعيلية , وركز دعايته على تطبيق الشريعة الإسلامية , وفي تلك الآونة وقع صدام بين الوفد والإخوان عندما رفض النحاس باشا زعيم الوفد ترشيح حسن البنا في الانتخابات على أساس أن الإخوان جماعة دينية ولا تعمل بالسياسة ( ...)

وفي محاولة أخرى وبعد إقالة وزارة النحاس باشا في تشرين الأول / أكتوبر 1944 وحل مجلس النواب الوفدي , رشح حسن البنا نفسه مرة أخري في انتخابات كانون الثاني / يناير 1945 , وفي دائرة الإسماعيلية أيضا , ووقتها أفتي الإخوان بأن الدين يبيح دخول الانتخابات ما دام ذلك يؤدي إلى نشر الإسلام ( الإخوان في البرلمان محمد الطويل , ص 45 , 46).

تؤكد الخلافات الطارئة بين حركة الإخوان وحركات الجهاد والجماعات الإسلامية أن وجهات النظر لم تتناقض بسبب آراء قادة الحركة وقبولهم المساومة والتسوية بل بسبب حصول تطور في التعارض انتهي إلى القطع مع ماضي الحركة ومؤسسها : مما يشير إلى وجود تيارين ينقسمان أيديولوجيا ويختلفان في الرأي والإجتهاد والممارسة , وتحتل مسألة الموقف من العنف والأسلوب السلمي نقاط تماس تعيد إنتاج التوتر بين الطرفين في كل فترة زمنية , ( يقدم كتاب محمد الطويل , الإخوان في البرلمان فكرة عامة عن دور القوى الإسلامية في مجلس الشعب المصري ومشروعاتهم واقتراحاتهم ومناقشاتهم , الناشر المكتب المصري الحديث , الطبعة الأولي , القاهرة 1992 , ص360) .

بدوره بمرحل الباحث مبارك تطور الفكرة الديمقراطية عند جماعة الإخوان , ويري أنها كانت قبل العام 1952 , تدعو إلى حل الأحزاب جميعها بدعوى " أنها تؤدي إلى تمزيق وتشتيت وحدة الأمة , إلا أن حركة الإخوان أعادت النظر في موقفها السابق بعد تعرضها للحل والملاحقة والاضطهاد في فترة الحكم الناصري الذي امتد إلى العام 1970 ( ص 339) .

يعد المصالحة المشروطة مع النظام بدأت الحركة إصدار مجلة " الدعوة وأخذت منذ العام 1971 تتحدث عن الديمقراطية ورفض الفتنة واحترام الدستور , وعلى رغم الاتفاق على مضمون الفكرة , استمر النقاش في الأساليب وأشكال تحقيق الأهداف سلميا , ويستعرض مبارك آراء قيادات الحركة عن الفكرة الديمقراطية ويسجل تصريحات عبد القادر عودة الذي يري أن الإسلام سبق التشريعات المدنية في مسألة الديمقراطية حين " أسس نظرية الشورى لتكميل الشريعة ورفع الجماعة ودفع أفرادها على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر والسيطرة على الحكام ومراقبتهم , ويري أن نظام الحكم في الإسلام ليس دينيا ولا ديمقراطيا لأنه " يقيد الحاكمين والمحكومين بما أنزل الله " ويخالف مأمون الهضيبي رأي زميله ويري أن حركة الإخوان اختارت الديمقراطية " باقتناع وإيمان " ويؤكد أنها الأساس الأول " للبناء الاقتصادي والاجتماعي وهي أرض الأقوياء الذين يلتزمون بالدستور ويقيمون التوازن بين الحقوق والواجبات ويسعون بين الرأي والرأي الآخر لتحقيق مصالح المجتمع , ويتجه عصام العريان , وسيف الإسلام حسن البنا , الاتجاه نفسه ويطالبان بالمزيد من الديمقراطية وإلغاء , جميع القوانين المقيدة للحرية , وخصوصا تكوين الأحزاب والجمعيات والاتحادات والنقابات والهيئات والأندية ( ص 340 , 341 ).

يعلق مبارك على عدم ظهور أى مواقف متعارضة مع الديمقراطية حتى الآن عند جماعة الإخوان لكنه يلاحظ أنه " يمكننا أن نرصد تشوشا وخلطا بين الديمقراطية والشورى , ويستنتج أنه مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية في مصر " أصبح للإخوان المسلمين رؤية تكاد تكون متناقضة تماما مع ما كان يدعو إليه حسن البنا من قبل " ويفسر مصطفي مشهور ( مرشد الإخوان السابق في مصر ) الخلاف بين التصورين , لأنه " نحن في الأصل جماعة ولسنا حزبا وقد ظهرت فكرة مطالبتنا بحزب لكي نستطيع ممارسة نشاطنا بشكل شرعي ( ص 341 , 342 ).

يخلص مبارك إلى " أن قادة الإخوان يرون إمكانية للتوفيق بين الديمقراطية والشورى ويتقبلون التعددية الحزبية بشرط عدم تعارضها مع المبادئ الدينية , على حين – والرأي له – لا " تكتفي حركة الجهاد الإسلامي برفض الديمقراطية ولكنها توجه انتقادات حادة للإخوان المسلمين لتبنبهم لها ( هشام مبارك , الإرهابيون قادمون – دراسة مقارنة بين موقف الإخوان المسلمين وجماعات الجهاد من قضية العنف ( 1938 -1994 ) مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحافية الطبعة الأولي , القاهرة 1995 . ص 343 ).

تهاجم وثيقة " معالم العمل الثورى " قبول حركة الإخوان فكرة الديمقراطية وتدعو بدلا عنها إلى وحدة فصائل الحركة الإسلامية وحشدها " لمواجهة الجاهلية " وترفض مجلة " الفتح " الناطقة باسم حركة الجهاد اللعبة الديمقراطية لأنها " فكرة غربية تمخضت من الخبرة التاريخية للمجتمعات الأوروبية , وتؤكد أنها لا تلتزم " إلا بالشرع الإلهي , والتشريع مصادره معروفة وهي الكتاب والسنة والاجتماع والقياس لأن الناس في الإسلام " ليس لهم أى حق تشريعي حتى لو وافق كل الشعب على قضية ما " وتطالب بعدم إهدار " الطاقات المؤمنة في هذا الطريق المسدود , وتميز حركة الجهاد بين الشورى والديمقراطية وتراهما مختلفتين ثم تميز بين المعارضة في النظام الديمقراطي والأخذ بالرأي الآخر في النظام الإسلامي و نجد أن الأولي تعني تعدد الأحزاب , وتعني الثانية تعدد الآراء وتنتهي الجهاد إلى رفض النظام الحزبي وتري أن الشورى واجبة ( تعدد الآراء ) ولكنها غير ملزمة فالحرية في رأيها ليست سائبة بل مضبوطة .

تتجه الجماعة الإسلامية بدورها إلى تبني المنهج نفسه الذي تعتمده حركة الجهاد من مسائل الديمقراطية والتعددية والأكثرية والانتخاب والائتلاف والتفاوض مع السلطة , وتري أن " الديمقراطية تخالف الإسلام " وترفض التعددية , لأن " تعدد الأحزاب لا ينشأ إلا عن تعدد الأيديولوجيات , وهذا في رأي الجماعة الإسلامية ممنوع في الدولة المسلمة وتري الجماعة أن الديمقراطية " هي الإبن المدلل للعلمانية" وتساوى بين الكفر والإيمان و" تقر حكم الأغلبية " على حين " ليست الأغلبية على الحق بالضرورة , وترفض الجماعة محاولات الإخوان ربط الديمقراطية بالشورى وتنتقد موقف " الجبهة الإسلامية للإنقاذ , في الجزائر لموقفها من الديمقراطية وقبولها خوض المعركة البرلمانية وموافقتها على الشروط الدستورية لمشروع الانتخابات ( ص 344- 348).

تكرر " الجماعة الإسلامية " وحركات الجهاد الموقف نفسه من الانتخابات والمشاركة في البرلمان وتعيب على المشاركين في اللعبة من حركات الإخوان والتنظيمات الإسلامية الأخرى لأنها تقع " في المحاذير الشرعية أثناء الدعاية الانتخابية من الوعود الكاذبة والتدليس مما يكون له أثره السيئ على الدعوة والدعاة ( ص 356).

يلاحظ من البيانات والوثائق والتصريحات الصادرة أو المنسوبة إلى قادة الجماعات والجهاد طغيان المواقف والأفكار الطهرانية ( التطهرية ) في محاولتهم الابتعاد عن التلوث السياسي الذي قد يصيبهم في حال إتباعهم الأسلوب المرن والبراغماتي الذي تنتهجه حركة الإخوان في مصر أو الذي انتهجته " الجبهة الإسلامية للإنقاذ " في الجزائر ,

ومن الواضح أن قادة الجماعات وحركات الجهاد يرفضون التكيف مع أى حال من الحالات , فالنصوص عندهم مطلقة ولا يجوز تفسيرها أو إعادة تفسيرها بحسب الأصول ووفق قواعد القياس والسنة والشروط التي وضعها أو اتبعها سابقا , وفي حالات أخرى أو متشابهة , عشرات الأئمة ومئات الفقهاء , فهم يعتبرون أن الحكم الإسلامي حكم ألهي وليس بشريا ولا يميزون بين الحكم والحكام الذين هم من البشر ويجب اختيارهم لا فرضهم بالقوة على الناس , ويسبب عدم تمييزهم بين حكم الشرع وحكم البشر فإنهم يخلطون بين أحكام الله والحكم الذي يمارسه وينفذه البشر وليس الله , ويفسر عدم وضوح ذاك التعارض المذكور بين المسألتين إقدامهم على احتقار الناس واستنكار فكرة الغالبية والأكثرية في وقت تدعو منشوراتهم هؤلاء الناس إلى الحشد والالتحاق بهم للإطاحة بالحكومات الجاهلية وغير الشرعية , ويمكن القول إن مثل هذه الأفكار متأثرة بالفكر الأوروبي الذي ساد القارة في القرون الوسطي ( وقبل عصر التنوير ) أكثر بكثير من الفكر الإسلامي وتجارب الدولة الإسلامية وترائها السياسي الغني بالعبر والدروس , وهو تراث لا يشير إلى الحكم الإلهي بل إلى الحكم الشرعي والعادل .

ربما يوضح الفارق المذكور بين المفهومين أن مصادر تفكير الجماعات الإسلامية وحركات الجهاد أقرب بكثير إلى التجارب الأوروبية ومناهجها من التجارب الإسلامية ومناهجها كما يدل الفارق على مسألة مهمة وهي إن معظم قادة التيارات الإسلامية المعاصرة درس تعاليم الإسلام في المعاهد والجامعات الحديثة أو السجون وربما تعلمه بجهده الخاص ولم يتعلمه بكونه قواعد وأصولا كما تذهب مناهج الأزهر وتطبيقاته التدريبية والتعليمية .

على خط مواز يتجه الصادق المهدي في كتابه " تحديات التسعينات " إلى اتهام الجبهة الإسلامية السودانية بأنها استمدت " كل فكرها الديني من حركة الإخوان المسلمين في مصر , واستمدت كل فكرها السياسي السوداني من حزب الأمة , وكل أساليبها التنظيمية من الحزب الشيوعي السوداني ( إصدار شركة النيل للصحافة والطباعة والنشر , القاهرة , 1990 ,ص 205) ويتهم حزب الأمة السوداني في كتاب " الديمقراطية في السودان " الجبهة الإسلامية أيضا باستخدام الأساليب الشيوعية الانقلابية ويسمي " السيد أحمد سليمان الذي كان شيوعيا بارزا العام 1969 وأضحي قياديا بارزا في الجبهة الإسلامية أيضا العام 1989" بتوريط الجبهة في الانقلاب كما سبق له أن ورّط الحزب الشيوعي في انقلاب أيار / مايو 1969 . ( مركز أبحاث ودراسات الأمة , أكتوبر 1990 , ص 15).

الإخوان .... والتأسيس الثاني

لعب اختلاف الجذور الاجتماعية والأيديولوجية ومنابت التربية السياسية دوره في تحديد انتماءات العناصر الحزبية وافتراق توجهها في قراءة التحولات الدولية والتعاطي مع الأزمات الإقليمية والمحلية . إلى ذلك يضاف موضوع الخبرة التي تعمق التجربة وتزيدها نضجا وهي مسائل مشتركة لا تتوافر عند الجماعات الإسلامية الحديثة العهد في حين إنها موجودة في تكوين حركة الإخوان وإن تفاوتت بين فرع وآخر .

لا يكفى التفسير المذكور لفهم الخلاف بين الإخوان والجماعات لكنه يساعد على وعي الاختلاف بين الطرفين وعلاقته بالجذور الاجتماعية والأيديولوجية والتربوية لكل فريق وبسبب ذاك الاختلاف اختار كل طرف طريقه الخاص والمستقل , فاتجهت الجماعات نحو العنف والمواجهة المسلحة انطلاقا من تحليلها الذي لا يسمح بالمساومة مع حكومات جاهلية لا تأتمر بالشرع , بينما اتجهت حركة الإخوان نحو الحلول السلمية ورفض العنف وتأكيد الطابع القانوني لعملها السياسي والنقابي انطلاقا من تحليلها الذي لا يتعارض مع المساومة والتسوية , لأنها أصلا لا تعتبر الحكومات جاهلية وتري أن مهمتها تقتصر على النصيحة والدعوة ولا علاقة لها بإصدار الأحكام المطلقة ضد الناس من دول وشعوب وطوائف ومذاهب .

نتجت عن اختلاف التحليل في إدراك الواقع المعقد وفهم المشكلات المعاصرة سلسلة سياسات متناقضة , فمن يرفض التعاطي مع الحكومات العربية بذريعة أنها جاهلية يقاتل الأقباط مثلا بحجة أنهم كفرة , والذي يفسر الأزمة الاجتماعية لأسباب تتعلق بالمسلك الفردي للمسئولين يلجأ إلى الأسلوب الإرادي للاقتصاص المباشر من عناصر الحكومة والشرطة والسياح , بينما الذي يطالب الحكومة بالحوار وتعزيز الديمقراطية وفتح الباب للنقاش تظهر عنده بوادر التعايش مع مختلف الجماعات الدينية التي يتكون منها المجتمع , كذلك يلجأ إلى تحليل الأزمة المعيشية بطريقة موضوعية لا تقتصر مسئوليتها على الأفراد وعناصر الحكومة والشرطة والسياح لذلك تميز فكر الإخوان وخصوصا منذ مطلع التسعينيات بالحكمة والموعظة ورفض العنف في مختلف أشكاله .

في مقابلة نشرتها صحيفة " الحياة " مع المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر المرحوم محمد حامد أبو النصر يربط العنف بقلة الحرية وبالعوامل الاجتماعية ويشير إلى حل شامل " لأسباب العنف " وفي رأيه إن معالجة الأسباب تبدأ بإطلاق " الحريات واحترام حقوق الإنسان وكرامته , وإجراء إصلاحيات اجتماعية واقتصادية ومحاربة الفساد المادي والمعنوى ".

ويعرب عن أسفه لإصرار " السلطة على الاكتفاء بالمواجهة الأمنية حتى تمادت وقابلت العنف بالعنف وتكرر الفتل الرسمي بمجرد الاشتباه , فتعقدت المشكلة وزادت خطورتها , وعن علاقة الإخوان بالأقباط أجاب أبو النصر : " علاقتنا بالأقباط كانت وما زالت طيبة وعلى مدي السنوات السبعين الماضية , منذ نشأة الجماعة لم يقع أى حادث يعطر صفوها , وكان للإمام حسن البنا مستشارون من الأقباط وكان عدد من الأقباط يحرص على حضور محافل الجماعة حين أبعد الإمام البنا إلى قنا كتب القساوسة هناك مذكرات إلى الحكومة تتصفه ( محمد حامد أبو النصر " الحياة "4 سبتمبر / أيلول 1995 ).

لا شك في أن السنوات التسعينات ( العقد العاشر من القرن العشرين ) كانت حاسمة في كسر إمكانات اللقاء بين حركة الإخوان وتنظيمات الجماعة ففي حين اتجهت الأخيرة نحو تصعيد العنف والمواجهة المسلحة مع السلطات المصرية اتجه الإخوان نحو تنضيج فكرهم السياسي وتطوير خطابهم الأيديولوجي وتحديثه ليتناسب مع ظروف مرحلة الانتقال التي تمر بها المجتمعات العربية والإسلامية فأصدروا ثلاث وثائق تعتبر الأهم والأخطر في تاريخهم السياسي منذ عودتهم إلى النشاط الإعلامي في منتصف التسعينيات ( هذه دعوتنا – بيان للناس, ورسالة المرأة , رسالة الشورى , لندن , أكتوبر / تشرين الأول 1995 ) .

يمكن اعتبار الوثائق الثلاث " التأسيس الثاني " لحركة الإخوان لأنها حسمت بشكل واضح وقاطع الإجابة عن ثلاثة أسئلة : الأول , مفهوم المواطن والمساواة بين المجموعات الدينية والمذهبية , الثاني , مفهوم المرأة ومساواتها بالرجل وحقها في الممارسة السياسية وتولي المسئوليات العامة والرسمية الثالث , وهو الأهم حدد إن الأمة هي مصدر السلطات وقطع الطريق على المفهوم المضاد الذي يتمسك بالشرع والشريعة فقط مصدرا للسلطات .

نظرا إلى أهمية الوثائق الثلاث التي تم جمعها في كتيب صدر في أكتوبر 1995 لابد من قراءة نصوصها التي تحسم توجه الإخوان القديم وتعيد بلورته وإنضاجه في ضوء أسئلة المرحلة المعاصرة .

تتناول وثيقة " بيان للناس " – صدرت في القاهرة في 30 أبريل / نيسان 1995 – الموقف العام من المسلمين وغير المسلمين وعلاقة الدين بالسياسة والعمل السلمي ورفض العنف واستنكار الإرهاب وتأكيد حقوق الإنسان فتذكر عن المسيحيين " لهم ما لنا وعليهم ما علينا وهم شركاء في الوطن , وإخوة في الكفاح الوطني الطويل , لهم كل حقوق المواطن , المادي منها والمعنوي , المدني منها والسياسي , البر بهم والتعاون معهم على الخير فرائض إسلامية لا يملك مسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها ومن قال غير ذلك أو فعل غير ذلك فنحن براء منه ومما يقول , يفعل , وتؤكد أن " التعددية في منطق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر. كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري على يديه من حق وخير ومصلحة , وتميز بين الشريعة والحاكم في مجال علاقة الدين بالسياسة , فإقامة شرائع الإسلام فريضة من فرائضه " لكن الحكام – في نظر الإسلام – بشر من البشر .

ليس لهم على الناس سلطة دينية بمقتضي حق إلهي ... وإنما ترجع شرعية الحكم في مجتمع المسلمين إلى قيامه على رضا الناس واختيارهم وترفض الوثيقة العنف وكل أساليب القسر وجميع " صور العمل الانقلابي الذي يمزق وحدة الأمة , والذي قد يتيح لأصحابه فرصة القفز على الحقائق السياسية والمجتمعية ولكنه لا يتيح لهم أبدا فرصة التوافق مع الإرادة الحرة لجماهير الأمة وتعلن الوثيقة البراءة من شتى أشكال العنف ومصادره وتستنكر شتى أشكال الإرهاب ومصادره لأن " الذين يسفكون الدم الحرام أم يعينون على سفكه شركاء في الإثم واقعون في المعصية "

وأخيرا تؤكد احترامها والتزامها حقوق الإنسان وتطالب بممارسة الحرية في إطار النظم الأخلاقية تؤكد احترامها والتزامها حقوق الإنسان وتطالب بممارسة الحرية في إطار النظم الأخلاقية والقانونية إيمانا بأن حرية الإنسان هي سبيله إلى كل خير " وإلى كل نهضة وكل إبداع " ( ص 6, 7, 8, 10).

تذهب وثيقة " المرأة المسلمة في المجتمع المسلم " – التي صدرت في القاهرة بتاريخ مارس / آذار 1994 – في الاتجاه نفسه إذ تؤكد حقها في العمل عموما ومشاركتها في الانتخابات وترشيحها واختيارها في المجالس المنتخبة وتولي الوظائف العامة والحكومة , وتأتي وثيقة " الشورى في الإسلام وتعدد الأحزاب " لتحسم أى لبس في موضوع خيار حركة الإخوان السلمي وقبولها بالتسوية السياسية والمساومة مع المختلف معها أيديولوجيا .

استندت الوثيقة الثالثة من أوراق حركة الإخوان , التي اعتبرت خطوة باتجاه التأسيس الثاني , إلى الأولي في توضيح موقفها , إذ كان " بيان للناس " قد أوضح أن " للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام , فإنها تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي الذي يضع زمام الأمور في يد أغلبية الناس دون أن يحيف بحق الأقليات على اختلافها في أن يكون لها رأي وموقف آخران , وأن يكون لها حق مشروع في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة إلى ذلك الموقف , وتعتبر المسألة المذكورة أهم إنجاز سياسي حققته حركة الإخوان في تطوير فكرة الديمقراطية إذ أنها لا تعتبر الديمقراطية هي مجرد حكم الأكثرية ( الغالبية السكانية أو الانتخابية ) بل أيضا حكم الأقلية ومشاركتها في القرار أو الاعتراض عليه , ثم تعيد التذكير بأن الإخوان شاركوا في بعض المجالس النيابية والانتخابات التشريعية و" استبعدوا خلال بعضها الآخر عن تلك المشاركة , ولكنهم ظلوا على الدوام ملتزمين بأحكام الدستور والقانون حريصين على أن تظل الكلمة الحرة الصادقة سلاحهم الذي لا سلاح غيره .."

انطلاقا من تلك القناعات صاغ الإخوان فكرتهم الجديدة التي تعتبر خطوة حاسمة في تحديد مفهومهم للشورى ومصدر السلطات وهي الفكرة التي تم إيضاحها في الوثيقة الثالثة .

يؤكد بيان " الشورى في الإسلام وتعدد الأحزاب " أن الأمة هي مصدر السلطات فهي التي تولي من تثق في دينه وأمانته وخبرته وعلمه ومواهبه وكفاءته ما تحدده له من أمورها ليقوم عليها بالعدل والإحسان والإنصاف وتوجز تاريخ الشورى في الإسلام وتوضيح فكرة تعدد الأحزاب في المجتمع المسلم وتؤكد أن الخليفتين أبا بكر وعمر ( رضي الله عنهما ) لم يدع أى منهم " عصمة أو ارتفاعا عن احتمال الخطأ , بل قال كل منهما على الملأ إنه بشر كسائر البشر يصيب ويخطي وإن من حق أفراد الأمة أن يصوبوه إذا أخطأ ( ص 7, 8 , 9 , 24 , 25 ) .

تنطلق الوثيقة من فكرة فقهية وهي " الدين هو الأساس والسلطان حارس , لذلك فإن " الأمة هي مصدر السلطان (....) وإن الشعب هو الذي له الحق أن يولي باختياره الصحيح من يرتضي دينه وأمانته وعلمه وكفاءته , ليقوم على ما يحدده له من أمور الدولة , وتطالب الوثيقة بتوازن مؤسسات الدولة وجعل الحكم مشورى استمدادا من سلطة الأمة ويحدد مسئولية الحكام أمام الشعب , وكيفية محاسبتهم وتصويبهم , وحتى تكتمل الصورة تؤكد " وجود مجلس نيابي له سلطات تشريعية ورقابية ذات فعالية تتمثل فيه الإرادة الشعبية الحقيقية نتيجة انتخابات حرة ونزيهة وتكون قراراته ملزمة ".

بعدها تنتقل الوثيقة إلى نقطة لا تقل خطورة وهي صلاحيات السلطات التنفيذية والرئاسية فتذكر أن رئيس الدولة " ما هو إلا وكيل عن الشعب , وتطالب بـ " أن تكون رئاسة الدولة لمدة محددة , ولا يجوز تجديدها إلا لأمد محدد , وذلك ضمانا لعدم الطغيان , وتنتهي إلى إعادة تأكيد حق الاختلاف وتنظيم المباح وتعدد الآراء والتسامح وسعة الأفق والبعد عن التعصب وضيق النظرة وتختم حركة الإخوان وثيقتها بقبول فكرة تعدد الأحزاب , " وقبول تداول السلطة بين الجماعات والأحزاب السياسية وذلك عن طريق انتخابات دورية " ( ص 26 , 27 ) .

رد السلطة

السؤال كيف تعاطت السلطة في مصر آنذاك مع هذا التطور الحاسم في فكر الإخوان ؟

شنت السلطة حملة اعتقالات واسعة وأعلنت إحالة 45 من قيادات الإخوان إلى القضاء العسكري كانت اعتقلتهم في 22 يناير / كانون الثاني 1995 ( مجموعة أمين مساعد نقابة الأطباء عصام العريان ) ومجموعة رئيس نادي أعضاء هيئة التدريس في جامعة أسيوط محمد حبيب ( اعتقلت في 18 يوليو / تموز 1995 ) وتم حبسهم جميعا على ذمة القضية رقم 136 لسنة 1995 , ثم طورت هجومها على الإخوان فأقدمت على إقفال مكتبهم الإعلامي في القاهرة بذريعة أن الحركة محظورة بموجب قرار صدر في العام 1954 , وتعزز هجوم السلطة بشن حملات ضد معسكرات الشباب الكشفي ( المرخص من قبل وزارة الداخلية ) في منطقة العامرية في الإسكندرية واعتقلت 200 شاب , كذلك أخذت بمحاربة الإخوان ومنعهم من المشاركة أو تحمل مسئوليات نقابية ومهنية بتعطيل المؤسسات المدنية ومنع كل أنشطة الهيئات الأهلية وخصوصا في الأحياء الشعبية , وأدي موقف السلطة إلى استنكار واسع من القوى السياسية والنقابية التي طالبت بإلغاء قرار تحويل الإخوان إلى محاكم عسكرية , كذلك استنكرت صحيفة حزب التجمع ( اليساري ) المنافس لحركة الإخوان واعتبرت أن الخطوة " ظاهرة خطيرة تدعو إلى القلق الشديد ومؤشر غير مريح على نوع الأساليب التي تنوى الحكومة استخدامها ضد المعارضين في الانتخابات التشريعية القادمة ( أمينة النقاش , صحيفة الأهالي 20 سبتمبر 1995 ).

من الواضح إن تعاطي السلطة الأمنية في مصر بهذا الأسلوب الانقلابي ضد مبادرات الإخوان يعزز خط التطرف الذي تقوده تنظيمات الجماعات الإسلامية ويؤكد في الآن نفسه أن التوافق على مسألة الديمقراطية لا يكفي أن تحسم جهات المعارضة موقفها منها بل على الدولة نفسها أن تحسم خيارها أيضا من المسألة فالانغلاق على المعارضة والانقلاب على المجتمع ومحاولة السيطرة عليه وصد كل المنافذ أمام الناس للتعبير عن مواقفهم وطموحاتهم تغلق باب التطور نحو تأسيس مجتمع سياسي وتكرس استبداد النخبة وتحكمها في الحياة العامة المدنية والأهلية التي هي من أبسط حقوق المواطن , وتتحول الدولة من قوة دافعة تقود التحولات إلى قوة معرقلة تعطل إمكانات التوصل إلى صيغة تسوية تاريخية تنقذ المجتمع من التفكك والانهيار الشامل , ولا شك في أن تيار الاستئصال العلماني في السلطة المصرية لعب دوره الخفي لتوريط الدولة في مشكلات أمنية داخلية لا نهاية لها في وقت هي بأمس الحاجة إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية – السياسية لمواجهة المخاطر المتأنية من تصلب المشروع الصهيوني وتهديداته المستمرة للمنطقة عموما وموقع مصر ودورها المجتمع المدني – الأهلي وملاقاة الدولة على منتصف الطريق , الأمر الذي يبرهن بالملموس فكرة أن " إسرائيل " هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة بعد أن حلت نكيات الحروب الأهلية في لبنان وحصل ما حصل في السودان والجزائر وتونس وغيرها من البلدان العربية.

هذا بالضبط ما تريده مجموعات الضغط في الولايات المتحدة فالمستشرق برنارد لويس يبذل جهده لتأكيد فكرة أن " إسرائيل " هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط – إلى جانب تركيا – ليشير إلى ضرورة استمرار التحالف الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة لمواجهة الحركات الإسلامية الأصولية في " الشرق الأوسط الجديد الذي برأيه اتسعت مساحته الجغرافية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي, ويؤكد لويس في مطالعاته الاستشراقية مرارا أن الديمقراطية الإسرائيلية أسستها غالبية " أوروبية من المكان في أعقاب الإدارة الاستعمارية البريطانية وهي استمرت بشكل ملحوظ رغم التغييرات الديموغرافية والسياسية , ولم تسقط رغم ضغط عقود من حالة الطوارئ العسكرية , فالمستشرق لويس يلمح إلى أن " إسرائيل " ديمقراطية لأنها أوروبية في تكوينها السكاني , بينما الدول العربية ليست كذلك , لأنه ينقصها المجتمع المدني الحقيقي الذي يحافظ على تماسك الدولة وتفتقر إلى " حسّ حقيقي بهوية وطنية مشتركة أو ولاء مطلق للدولة - الأمة ( مجلة قراءات سياسية قراءة جديدة للشرق الأوسط , ربيع 1993 ) .

الفصل الثاني الإسلاميون ومأزق السياسة

الإسلاميون ومأزق السياسة

في مجال الممارسة

" فقه " الترابي وصدمة السودان في العام 1989

أدي الانسداد السياسي في المنطقة العربية إلى ردود فعل متباينة في أوساط المعارضة وترافق الاحتقان مع سلسلة أزمات وانهيارات اقتصادية واجتماعية وإخفاق متتابع على المستويين الوطني والتنموي , مما عكس نفسه أكثر ما يكون على التنظيمات والهيئات الإسلامية بصفتها أكثر دوائر المعارضة التصاقا بالأحاسيس الشعبية وقربا لها .

مع تراكم الأزمات كان لابد لها من الانفجار في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات سالكة قنوات أيديولوجية وسياسية متباينة تلونّت بالمناخات الإقليمية وظروف كل دولة عربية وفي النهاية شكلت تلك الانفجارات صدمات عميقة أحدثت موجات زادت من تباعدها .

لم تتفق القوى الإسلامية على موقف موحد وكان لابد لخلافاتها الفكرية والتنظيمية السابقة أن تتصاعد وتأخذ سلسلة أشكال أيديولوجية تفترق على أكثر من فكرة وسياسة .

لعبت ثورة الإنقاذ العسكرية التي هبت في السودان في العام 1989 دورا خاصا في إعادة إنتاج الخلافات السابقة ووضعت الإسلاميين للمرة الأولي في تاريخهم أمام خيار صعب إما تأييد الانقلاب العسكري وهو أمر يتنافي مع تربيتهم العقائدية التي ترفض الأسلوب المذكور لأنه في النهاية يولد كتلة عسكرية – أيديولوجية حاكمة من طريق القوة والاستيلاء وإما معارضة الانقلاب وبالتالي محاولة تفسير جديد لعلاقات القوى وموازينها ومسألة السلطة ودور الدولة والأسلوب السلمي في كسب الغالبية العددية .

حتى الآن تنفي " الجبهة الإسلامية القومية" التي يتزعمها الشيخ حسن الترابي مسئوليتها عن التخطيط للانقلاب وتصر على أن الجيش هو الذي نفذه بسبب الفوضى السياسية التي دبت بين أجنحة الحكم الديمقراطي ونتيجة عجز حكومة الصادق المهدي عن الدفاع عن السودان وحدوده مما

الفصل الثالث العقد السياسي نحو تسوية تاريخية بين الدولة والمجتمع

العقد السياسي

نحو تسوية تاريخية بين الدولة والمجتمع

الإسلاميون كما تراهم الدولة

في حديث صحافي جري في مطلع التسعينات في القاهرة نشرته صحيفة " الحياة " الصادرة في لندن مع وزير داخلية عربي ذكر فيه أنه " لاحظ أن شباب الجماعات الإسلامية يتحدثون لغات أجنبية ويرتادون الأندية ودور السينما والمسرح ويلبسون الجينزات ويمتطون السبدرينات ويحلقون ذقونهم , واكتشف الوزير " العبقري " من الملاحظات التي وردته من الأجهزة الأمنية , " أن هناك مؤامرة أصولية خبيثة تريد التمويه على رجال الأمن من خلال تغيير أشكال وملابس وأحذية شباب الجماعات الإسلامية لتنفيذ عملياتهم الإجرامية "

يقدم كلام الوزير فكرة شاملة عن الفهم الخاطئ لأصول الجماعات الإسلامية المعاصرة ومصادرهم الأيديولوجية , فالوزير اكتشف مؤامرة لأنه فشل في تحليل المشكلة وتفكيكها وبسبب سوء التحليل استنتج أن هناك قرارا سريا اتخذته الجماعات الإسلامية وطلبت من شبابها اللجوء إلى أساليب الاحتيال لتمويه النشاطات .

من حق وزير الداخلية أن يعلن اكتشاف مؤامرة ولكن ليس من حقه أن يقف تحليله على عتبة ذاك الاستنتاج الخرافي كان عليه أن يقلب تفكيره ويقول إن شباب الجماعات الإسلامية يفعلون ما يفعلون لأنهم هم كذلك .

تطرح معضلة الوزير إشكالا فكريا عن الحركات الإسلامية المعاصرة وتعيد فتح باب النقاش في الظاهرة بصفتها نتاج تحولات اجتماعية أيديولوجية تتحكم فيها ظروف المكان وعوامل الزمان .

إذا قلبنا كلام الوزير وقلنا إن أشكال وملابس شباب الجماعات الإسلامية ليست مؤامرة فما هذا إذا ؟ السؤال يفرض علينا تحليل الظاهرة وقراءة عناصرها وتفكيك عواملها حتى تصل إلى تقديم جواب معقول عن مشكلة يقال إنها تواجه الأنظمة والحكومات العربية .

إذا لابد أولا من إسقاط فكرة المؤامرة , ولابد ثانيا من دراسة الظاهرة في سياقها التاريخي وهنا تقفز ملاحظات الوزير إلى واجهة التحليل مرة أخرى , إذا كانت " مؤامرة شباب الجماعات الإسلامية ليست مؤامرة فلماذا يتحدث هؤلاء الشباب لغات أجنبية ويرتدون الأزياء الأجنبية , جواب أنهم هكذا ليس كافيا , لأننا نستطيع أن نسأل : لماذا هم هكذا ؟

لابد إذا من قراءة الواقع , لفهم حركية شباب الجماعات الإسلامية , لا نستطيع الآن نغوص في التاريخ وتفاصيله , ولكن يمكن القول على صيغة جواب سريع إن هؤلاء نتاج أزمة التحديث في العالم العربي , هم كتلة حديثة أفرزتها سياسات تحديثية فوقية تم تطبيقها بأساليب تجريبية مختلفة في الكثير من الدولة العربية على امتداد أكثر من قرن .

هؤلاء الشباب – بكلام سريع – هم نتاج أزمة الحاضر وليسوا من إفرازات أزمة الماضي , وهم في النهاية أولاد عصرهم ومكانهم وزمانهم قبل أن يكونوا أبناء عصر غيرهم ومكان غيرهم وزمان غيرهم و لذلك يجب البحث عن مشكلة هؤلاء في الحاضر وليس في الماضي , ينبغي في النهاية أن نعمل على تغيير الحاضر وتحسين شروطه وليس تغيير الماضي لأن الماضي مضي ولن يتغير .

يتحدث هؤلاء لغات أجنبية ويستعيرون مناهج أجنبية , ويرتدون أحيانا ملابس أجنبية لأنهم في النهاية كتلة حديثة تعلمت في معاهد بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وجامعاتها وربما في الاتحاد السوفياتي سابقا , وإذا لم تسافر هذه الجماعات إلى الغرب فإنها على الأقل تعرفت إليه وعايشته وتعايشت معه في بلدانها من خلال المدارس الأجنبية والمصارف والشركات والمسرح ودور السينما فالكتل السياسية المذكورة لم تتشكل قبل الاحتكاك بل تشكلت بعد حصوله , ولم تتكون في سياق تاريخي مستقل عن المجتمع بل إنها تكونت في سياق مشترك فأزمتها من أزمة المجتمع وأفكارها هي نتاج التلاقح الصدامي الذي حصل بسبب ذاك التأزم , وفكر بعض الجماعات المأزوم هو أصلا نتاج الأزمة العامة للمجتمعات العربية بل ربما هو أفضل تعبير عن ذاك التأزم .

تأتي إلى السؤال المفارق , كيف تسني لهؤلاء الدمج بين فكر الماضي ولغة الحاضر ؟

وكيف أمكن إنتاج تركيب معقد يجمع بين زمنين ومكانين متغايرين تاريخيا ؟

هنا بالضبط يقع إشكال المعرفة وهو إشكال معقد كان من الصعب على ذاك الوزير أن يفهمه , فالإشكال ليس مؤامرة وفي الآن ليس نتاج الماضي فالبحث عن عوامله وأسبابه يجب أن يتم في الحاضر ومشكلاته التي تبدأ بالبحث عن هوية والدفاع عن ثقافة وتاريخ وتنتهي بأزمات اجتماعية واقتصادية وتنموية .

تعقيدات خطاب الأصالة والأصولية تبدأ من هذا السؤال المفارق الذي يشير إلى جواب مركب يجمع بين عناصر قوة الموروث والحاضر المأزم .

هذا لا يعني أن حداثة خطاب الأصالة هو نتاج فشل التحديث بل ربما هو نتاج التحديث بعينه وبقدر ما تتوغل في التحديث تتوغل في البحث عن الماضي وبقدر ما يتقدم التحديث فسيتقدم خطاب الأصالة , إنها مفارقة تاريخية تقوم على معادلة متناقضة ولكنها أساسا ليست متناقضة بل منطقية جدا فالشئ كما نعلم ينتج ضده والنقيض لا يستقيم إلا بنقيضه وهو نتاج النقيضين والضد بحاجة إلى ضده ليتقدم .

إذا ترجمنا هذه المعادلات المنطقية ( والمثالية ) نجد ما يشبهها في الواقع التاريخي فالتاريخ أيضا هو نتاج حركة بين المتناقضات والجدل بين الحداثة والأصالة هو جدل بين حداثيين متفارقتين وما يحصل اليوم في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وخارج البلدان العربية والإسلامية من نمو أصوليات مفارقة هو نتاج ذاك التصور المأزوم عن عالم الماضي وعالم المستقبل , وسيبقي الجدل قائما من دون حل , لأن حل التأزم يعني وقف التقدم وإلغاء مسار الزمن في تطوره إلى الأمام وما يحصل اليوم ليس جديدا بل قديما قديم الزمان .

إذا كان الجديد ليس جديدا , فما الحل ؟ طبعا الحل ليس على طريقة وزير الداخلية المذكور الذي اعتقد أن هناك مؤامرة خبيئة , وطلب من الأجهزة الأمنية ملاحقتها وكشفها , وإذا تم الأمر وأخذ كلام الوزير بجدية فمعني ذلك أنه يعلن الحرب على المجتمع كله , وهي حرب دموية طويلة لن تنتهي إلا بتفكيك المجتمع نفسه وذره مجددا إلى قبائل وأقوام تتنازع في ساحات الدولة التي ستتحول بدورها إلى " دول " متنازعة تقضم بعضها بعضا كما حصل ويحصل في الصومال أو العراق أو أفغانستان .

إذا لابد من البحث عن حل آخر يبدأ أولا يتجاوز كلام المؤامرة , ويباشر ثانيا في قراءة عاقلة للإشكال المفارق ,وإذا اعتبرنا ما يحصل مسألة عادية نستطيع أن نبدأ البحث عن حل عقلاني وواقعي وهو حل مؤقت مثل أية معالجة لا تدوم إلى الأبد فهي ما إن تنتهي وظيفتها يعاد من جديد البحث عن حل لمأزق آخر .

المعالجة إذا ليست صعبة , فإذا كان الحل الأمني سيؤدي إلى حرب طويلة ضد المجتمع لن تنتهي إلا بتفككه يبدو إذا الحل السلمي الجواب المنطقي لمعالجة المشكلة , فالحل السلمي هو في النهاية معالجة واعية لأزمة واقعية تجد جذورها في الحاضر الراهن .

أول هذه الحلول تصحيح التحديث قام التحديث في البلدان العربية والإسلامية تاريخيا بقيادة الدولة , فالدولة كانت دائما متقدمة على المجتمع وهي التي تخطط لاستيعاب الجديد وإعادة إنتاجه محليا في سياق مندمج مع تطور الجماعات الأهلية لذلك كانت الدولة جزءا من البنية التحتية تتقدم فتدفع علاقات المجتمع إلى الأمام , استمر التجاذب التاريخي بين البنيتين يتوازن إلى مطلع القرن الماضي عندما بدأت المنطقة تشهد ما يشبه الانقلابات ضد السلطة أو على السلطان كما جرت ضد عبد الحميد الثاني , آنذاك كانت الساحة واحدة وما يحصل في رأس السلطة لابد له أن ينعكس في أطرافها ومحيطها , لا شك في أن السلطنة العثمانية شهدت انقلابات كثيرة , ولكن معظمها تم بالتفاهم مع السلطان وبواسطته , وأحياننا كان السلطان نفسه يقوم بالانقلاب ضد عوائق كان يري أنها تعطل حركته وإصلاحاته , إلا أن انقلاب جمعية " الاتحاد والترقي " في العام 1908 كان من نوع جديد , إنه أولا : انقلاب ضد السلطان نفسه ,وثانيا : إنه انقلاب ضد السلطنة وشرعيتها التاريخية , باختصار لم يكن انقلاب " الاتحاد والترقي " مجرد انقلاب اجتماعي لتحديث السلطنة بل كان أول انقلاب قومي ضد تركيبة السلطنة التاريخية , ومنذ تلك اللحظة التطور , بل تحول إلى أسلوب لتبرير سياسة الانقلاب نفسه , وبدأت منذ تلك المرحلة ما يمكن تسميته " انفصال الدولة عن المجتمع , فالدولة انتقلت من قوة تحتية دافعة للمجتمع إلى سلطة فوقية تحاول السيطرة عليه من طريق العنف والقمع , أدي هذا النوع من التحديث الفوقي القسري ( الانقلابي ) إلى انكفاء المجتمع على نفسه والبحث عن أسلوبه الخاص في استيعاب الحداثة والتحديث , وهو أمر أدي مع مرور الزمن إلى تعميق الهوة بين مؤسسات الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع الأهلية فكل طرف له حداثته , فهناك حداثة النخبة المسيطرة وهناك حداثة المجتمع المهمش .

لجأت دولة النخبة الانقلابية إلى حل مشكلتها بزيادة رقابتها على المجتمع والقبض عليه من طريق تفكيك مؤسساته الأهلية , وبدلا من أن تحل النخبة الحاكمة مشكلتها تضخمت الأزمة بعد أن أخذت تركز موازنتها على أجهزة الأمن وسيلة وحيدة لفرض الانضباط على المجتمع من طريق القوة , وشهدت المنطقة انقلابات وانقلابات , كل نخبة تتقلب على أخري ثم تنقلب على نفسها في وقت كان المجتمع يعيش مغيبا وأحيانا على هامش الصراع , قمعت السياسة في المجتمعات العربية وجرد المجتمع من أدواته الأهلية بالنيابة عن المجتمع وباسمه , على حين المجتمع كان يزداد غربة عن دولته ( نخبته ) ولكن قانون التاريخ أقوى من قانون القوى , فالمؤسسات التي قامت دولة النخبة بتركيبها بديلا عن مؤسسات الأهل تم استيعابها لاحقا من المجتمع الذي استخدم أجهزتها ليعيد إنتاج حاجاته الفعلية بعيدا عن وظائفها المرسومة , وأخذت مؤسسات الدولة مع تقدم الزمن تتحول إلى مؤسسات أهلية تخدم المجتمع لا النخبة , والمعركة التي نشهدها الآن في أكثر من بلد عربي هي معركة محاولة الدولة استرداد مؤسساتها وأجهزتها من المجتمع أى أنها معركة إعادة مصادرة حرية المجتمع وطرد أهله من المؤسسات الرسمية والمدنية ولا شك في أن هذه المعركة – إذا استمرت من دون ضوابط عقلية ووعي تاريخي 0 ستؤدي إلى نهاية مأسوية وستقود إلى فوضى شاملة تعبر عن نفسها بتشطظي المجتمع إلى أجسام متناحرة وتفكك الدولة إلى دويلات , وقبل أن نصل إلى تلك النهاية المظلمة لابد من تصحيح التحديث , وجعله التيار المشترك للدولة والجماعات الأهلية , وهنا نصل إلى الحل الثاني .

يقضي الحل الثاني باستفادة الدولة من القديم الموروث لتنظيم التحديث واستقراره على قواعد عادلة ومتوازنة , وأيضا لابد من استفادة المجتمع الأهلي من مؤسسات الدولة الحديثة واستخدامها لتنظيم التطوير في سياق تعايش سلمي بين قوة القديم والحاجة إلى الجديد .. فالتحديث في النهاية حاجة تاريخية وليس أمرا حزبيا تفرضه نخبة انقلابية صادرت الشرعية السياسية , وتحاول مصادرة تفكير الناس وأسلوب حياتهم وعلاقاتهم فالدولة بحاجة إلى الناس لاستكمال عملية التحديث , والتمدين أيضا بحاجة إلى ناسه مادة بشرية منتجة ودافعة إلى الأمام , والناس أيضا بحاجة إلى الجديد لتطوير شئون حياتهم ومعيشتهم .

المشكلة عندنا أن الدولة عمدت إلى تحويل التحديث إلى نوع من التسلط الفوقي على حين هو أساسا عملية تاريخية عادية تطورية لابد للمجتمع أن يمر بها ليس مرة واحدة وإنما لمرات ومرات كلما قضت الحاجة بذلك , مشكلة دولة النخبة أنها تعتقد أن التحديث يحصل مرة واحدة وإلى الأبد , على حين هو حاجة دائمة يحصل باستمرار ويعبر الزمن من محطة إلى أخرى كعملية تطورية داخلية , ما إن ينتهي من دورة حتى تبدأ أخري وتعتقد دولة النخبة أن شرط نجاح التحديث هو أن يتم بالضد من المجتمع , على حين الواقع التاريخي يؤكد أن التحديث لا يتم إلا بواسطته , وما عدا ذلك فهو مجرد هدر الموازنات لبناء السجون وهي في النهاية مهما تضخم حجمها وأعدادها ليست كافية لاعتقال المجتمع بأسره قد تنجح النخبة في تخويف المجتمع وإرهابه ولكنها في النهاية لن تنجح في تنحيته عن صنع تاريخه , وهنا نصل إلى الحل الثالث .

يقوم الحل الثالث على فكرة مثالية واحدة , وهي وقف تدخل الدولة في تفاصيل حياة الأهل وتخفيف قبضتها الحديد والحد من محاولات سيطرتها على المجتمع فالنخبة تعتقد أنها باستخدام أسلوب القمع والملاحقة توحد الناس بإراتها الخاصة , على حين الحقيقة تكون كمن يزرع الريح ليحصد العاصفة إن ترك الدولة هامشا للمجتمع يتحرك فيه ويتنفس من خلاله يريحها كثيرا ويعطيها الوقت الكافي للتفرغ لتنظيم شئون نفسها وإعادة بناء مؤسساتها بشكل عادل يحقق التوازن بين حاجاتها ووظائفها فالدولة في النهاية وظائف وحاجات , وعندما تتجاوز حدودها وتعتدي على حاجات أهلها ووظائفهم تكون كمن يرسم عن عمد خطوط نهاياتها , فهي في الوقت الذي تعتقد أنها تقوم بتنظيم عملية دفاعية عن نفسها تكون كمن تسهل القيام بانقلاب على نفسها , فالخطر على الدولة في البلدان العربية ليس من المجتمعات بل من الدولة نفسها , فالمجتمعات لا تقود الانقلابات بل نخب الدولة .

إذا ما السبيل لمعالجة هذه الحلقة ؟ الجواب السهل , يجب البحث عن صيغة تعايش بين الدولة والمجتمع , ولكن كيف ؟

إذا اعتبرنا أن بنية الدولة تتطور وبني المجتمع تتطور لابد أن تكون الحاجة إلى التطور هي المنطقة المشتركة للطرفين , ولكن الحاجة ليست متطلبات اجتماعية ومادية فقط , بل أيضا لغة مشتركة وما تعنيه اللغة من وعي ومفردات ومصطلحات , فاللغة المطلوبة هي تحويل الحاجة إلى صيغة تعايش تقوم على مفهوم تاريخي يؤسس منطقة محايدة تفصل بين مهمات الدولة ووظائفها وحاجات المجتمع وأدواته الأهلية , وحدود الفصل المقترحة تتمثل في ترك المؤسسات المدنية تنمو من جهة الدولة مقابل ترك الهيئات الأهلية تنمو من جهة المجتمع , وبمرور الوقت تتحول منطقة الفصل ( صيغة التعايش ) إلى ساحة تفاعل بين مهمات الدولة ( المركزية ) وحاجات المجتمع ( المركبة لا مركزيا ) .

حتى الآن أجوبتنا نظرية وليست عملية ,فالتطبيق بحاجة إلى قيادة واعية تلجأ إلى الحلول العقلانية لفك الاشتباك بين طرفين , ومثل تلك القيادة لا تخترع في المختبرات الطبية بل هي بدورها نتاج تطور تاريخي تكتشف – بسبب تلك الحاجة – ضرورة التوفيق بين المؤسسات المدنية والهيئات الأهلية فتقوم بتركيب عاقل ينظم المصالح وفق قسمة عادلة , وشروط هذا الحل التوفيقي يرتبط بمدى قابلية الدولة على القيام بمهمتها التاريخية هي صاحبة المصلحة في قيادة التحول نحو التحديث والسلم الاجتماعي في أن .

نعود إلى السؤال , لماذا تلجأ دولنا ( نخبنا ) إلى الحرب كما ذهب وزير الداخلية في كلامه وتفضل قتال المجتمع وتميل إلى القمع لا السلم في سياق محاولاتها معالجة معضلات تاريخية شديدة التعقيد ؟

يقودنا الجواب  إلى تحليل آخر يقرأ بنية الدولة ( الدول ) العربية المعاصرة التي تقودها نخب انقلابية غير منتخبة من المجتمع , أو نخب تم اختيارها , وتمتاز بعقلية انقلابية لا تنسجم مع منطق التطور التاريخي ولا ترى الأمور إلا من منظار الحسم الدموى لا التسوية التاريخية , فالتطور بالنسبة إليها مؤامرة تشبه تلك التي تخيلها وزير الداخلية في شرحه حداثة الجماعات الأصولية , وبما أن التطور عند هذه النخبة المختارة أو التي اختارت نفسها لتنفيذ مهمات تعتقد أنها تاريخية  هو نوع من المؤامرة فإذا لابد أن تبدو لها معضلات المجتمع كأنها من نتاج الماضي  لا ردة فعل على سياسات الحاضر , وهكذا تعلن " النخبة " الحرب على الماضي وتستمر الدولة في سياسات الحاضر , وهو أمر نشهده ونلاحظه في أكثر من مكان عربي وكلام الوزير عن ملابس الجماعات الإسلامية يمثل عينة عن قراءة بائسة , ربما لا نفتري على الحقيقة إذا قلنا : إن نخبنا الانقلابية إذا واصلت سياستها الراهنة إلى فترة طويلة فستدفع المجتمع والدولة معا إلى مرحلة التفكك الشامل في وقت تظن أنها تقوم بمشروع إنقاذي وتوحيدي .

الديمقراطية التوافقية والعقد السياسي

لا شك في أن الحوادث الصعبة التي مرت بها المنطقة العربية – الإسلامية في العقود الثلاثة الماضية تساعدنا على النقاط مفارقات يمكن من خلالها ضبط المشترك السياسي بين الدولة والمجتمع كذلك المشترك التاريخي بين جماعات الدولة نفسها فقراءة فكرة الديمقراطية في الوطن العربي وتطور منظوماتها الأيديولوجية ليست قراءة نظرية تقوم على ترجمة النصوص وتركيب فقرات دستورية بل هي أساسا قراءة تاريخية ترتبط بتطور فكر الجماعات السياسية ودور الدولة في قيادة التحول الاجتماعي والاقتصادي والدستورى للبلاد .

يحيلنا الأمر المذكور على إعادة قراءة المشكلة انطلاقا من محاولة الإجابة عن سؤالين : تحليل طبيعة الدولة ( الدولة العربية ) ودورها في تلبية حاجات المجتمع ومدي استعدادها للقيام بوظائفها الاجتماعية والدستورية والثاني تحليل طبيعة المجتمع وصولا إلى تفكيك أيديولوجية الجماعات السياسية وموقفها من الدولة الوطنية .

يلاحظ من قراءة حوادث الثمانينات ومطلع التسعينات التي أحدثت صدمات سياسية في مصر والسودان والجزائر وتونس والسلطة الفلسطينية أن الدولة أخذت تفقد وظيفتها التوحيدية وبدأت تنزلق إلى طرف سياسي في مواجهة مكشوفة مع المجتمع أو على الأقل مع أكثرية من جماعاته , الانزلاق المذكور نحو المواجهة ليس جديدا بل نجد تفسيره في نشأة الدولة الوطنية ( المعاصرة والحديثة ) وتكوينها الاجتماعي التي قامت أساسا على فكرة الانقلاب النخبوي ( الحزبي الأيديولوجي العسكري ) على الجماعات والاندفاع نحو تأسيس نزعة سلطوية لا تحترم كثيرا التكوين التاريخي للمجتمع , وخصوصا تلك الموروثات التقليدية والهيئات الأهلية التي تشكلت في فترات زمنية متباعدة وتقوم بوظائف حياتية مستفيدة من شبكة العلاقات الاجتماعية ومنظوماتها المتوارثة .

تصورت النخبة ( الدولة المعاصرة ) أنها تستطيع باسم التقدم والحداثة أن تحقق قفزات اجتماعية بمعزل عن الجماعات السياسية وهيئاتها الأهلية ومنظوماتها المتوارثة تقليديا , وبسبب ذاك التصور لجأت إلى ابتكار , وأحيانا ابتداع , أساليب قسرية في صناعة التحول , ولم تدرك أن التغيير بحاجة إلى قوة بشرية تمتلك الإمكانات ومقتنعة بأن التقدم حاجة يخدم مصالحها ولا يصب في إطار تعزيز سلطة النخبة وسيطرتها الكلية على حركة المجتمع وتوازنه الطبيعي .

ساهم ضعف الوعي التاريخي عند النخبة الانقلابية في تكوين تصورات , هي اقرب إلى الأوهام , لصوغ العلاقة مع الناس وإعادة إنتاج التقدم في سياقه الزمني , فالنخبة اعتقدت أن التقدم الأوروبي حصل في لحظة زمنية قصيرة وأنه يمكن تقليده إذا ترجمنا دساتيره ومنظوماته المعرفية وقمنا بتطبيقها كأمر واقع , ولم تنبته النخبة إلى مسألة التاريخ والطبيعة الثقافية للجماعات الإنسانية , فالدستور لا يستورد بل هو أصلا نتاج التطور الداخلي للشعب ويعبر عن روحيته التاريخية ونظرته إلى الحياة والكون كذلك الديمقراطية لا تترجم نصوصها وهي مثل قوانين الأحوال الشخصية وغيرها من مسائل تتعلق بالتربية والمعيشة وأسلوب الحياة والتنظيم المتوارث

وخطأ كما أتاتورك الأساسي أنه تصور أن مشكلة تركيا بعد حصول الانقلاب على السلطان هو في السلطنة والشريعة الإسلامية والأبجدية العربية والآذان والحجاب والصيام وغيرها من أنظمة الملل والنحل التي كانت تعتمدها إسطنبول في تنظيم جماعاتها القومية والدينية والمذهبية فأقدم على إلغاء السلطنة وشطب الشريعة وبدل الأبجدية ومنع الآذان بالعربية وحارب الدين والتدين واعتمد ترجمات مختلفة للدساتير الأوروبية ظنا منه أن تلك الخطوات ستدفع بتركيا إلى مصاف الدول المتقدمة وتصبح خلال سنوات قليلة على مرتبة واحدة من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا كانت النتيجة عكس ما تصور , إذ تراجعت مكانة تركيا وتدهورت سياسيا واجتماعيا ,أدي أسلوبه الانقلابي إلى تكوين فجوة زمنية قطعت تاريخ البلاد إلى نصفين وسلخت الجماعات عن هوياتها الثقافية وحولت الناس في أقل من يوم إلى أميين بسبب تغيير اللغة إلى الحرف اللاتيني واضطر أتاتورك إلى محاربة الجميع يقصد توسيع القاعدة الاجتماعية للدولة وتوحيد مختلف الجماعات في تصور واحد وساهم الأمر في دفع الدولة العلمانية إلى ارتكاب مجازر ضد الأرمن والمسيحيين والعرب وطرد الآلاف منهم بذريعة عدم انسجامهم مع الدولة القومية التركية , وبدلا من تحقيق التقدم المنشور لعب الزمن دوره المعاكس إذ انتهت الدولة إلى عزلة سياسية بعد أن توسعت دائرة صداماتها مع الأقليات الأقوامية والمذهبية التي يتكون منها المجتمع , الأمر الذي ترك تأثيره في النمو الاجتماعي والتطور الاقتصادي .

يبذل المستشرق البريطاني - الأميركي برنارد لويس جهده لتأكيد فكرة أن " إسرائيل " هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط – إلى جانب تركيا – ليشير إلى ضرورة استمرار التحالف الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة لمواجهة الحركات الإسلامية الأصولية في " الشرق الأوسط الجديد " الذي اتسعت برأيه مساحته الجغرافية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ويؤكد مرارا أن الديمقراطية الإسرائيلية أسستها غالبية " أوروبية من السكان في أعقاب الإدارة الاستعمارية البريطانية , وهي استمرت بشكل ملحوظ على رغم التغييرات الديمغرافية والسياسية , ولم تسقط على رغم ضغط عقود من حال الطوارئ العسكرية فالمستشرق لويس يلمح إلى أن " إسرائيل " ديمقراطية لأنها أوروبية في تكوينها السكاني , بينما الدول العربية ليست كذلك لأنه ينقصها المجتمع المدني الحقيقي الذي يحافظ على تماسك الدولة , وتفتقر إلى " حس حقيقي يهوية وطنية مشتركة أو ولاء مطلق للدولة – الأمة ( قراءات سياسية قراءة جديدة للشرق الأوسط , ربيع 1993 ) .

يعتبر لويس في مقاله ( قراءة جديدة للشرق الأوسط ) أن تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي " استمرت فيها الديمقراطية تعمل وتنمو على رغم الصعوبات والعقبات ففي تركيا لم تأت الديمقراطية موروثة من حكام إمبرياليين , ولا مفروضة من أعداء منتصرين كانت اختيارا حرا من الأتراك أنفسهم ( قراءات سياسية نقلا عن مجلة " فورن أفيرز" السنة الثالثة , العدد الثاني , ربيع 1993 ).

ليس صحيحا قول لويس أن تركيا هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط إلى جانب " إسرائيل " فتركيا دولة أتاتوركية وخياراتها السياسية ليست ديمقراطية بدليل أن أية قوة تفوز بالانتخابات عليها أن تستجيب لشروط حارس الدولة ( الجيش ) والخضوع للدستور الذي لم تتم كتابته بالاتفاق ومن خلال الإرداة الحرة للناس , ولولا حكمة الإسلامي أربكان وحاجة النخبة الحاكمة لحارس مساعد لكان حصل في تركيا ما يشبه الكارثة التي وقعت في الجزائر , كذلك " إسرائيل " لا يمكن أن نضعها في خانة الدولة الديمقراطية لأنها أصلا تقوم على احتلال أراضي الغير وممارسة التمييز الديني وأحيانا القومي ضد أصحاب البلاد الأصليين ليس القصد هنا الحديث عن أسباب إخفاق الأتاتوركية وطبيعة " إسرائيل " وتكوينها ودورها في المنطقة بل محاولة الاستفادة من ذاك الإخفاق الذي تكرر للأسف في الوطن العربي بعد أن أخذت النخب العربية تقلد النهج الأتاتوركي في تركيب الدولة واستيراد المنظومات المعرفية والدستورية متجاوزة بذلك الناس والتاريخ .

هناك الكثير من التشابه بين الأتاتوركية والنخب العربية الحاكمة مع اختلاف أساسي واحد وهو أن تركيا استخدمت وسائل السلطة لتحقيق مشروع انقلابي يلغي الأسس التاريخية للدولة السلطانية بينما النخب العربية حاولت تأسيس سلطة جديدة بدأت أحيانا من الصفر لنقوم بمهمة الدولة على الطريقة الأتاتوركية .

كانت النتيجة أن الأتاتوركية نجحت في تأسيس الدولة الحديثة لكنها أخفقت في توحيد المجتمع فأخذ يتفكك وتتدهور علاقاته ومنظوماته بينما انتهت الدولة الحديثة في البلدان العربية إلى إخفاق في تحقيق الوحدة ( الدولة القومية ) فانعزلت في داخل كياناتها السياسية محاولة إعادة صوغ المجتمع وفق تصورات فوقية انقلابية مستخدمة القوة لتنظيم التجارب الأيديولوجية ( في تركيا والوطن العربي ) فأدي الأمر إلى تحول الدولة إلى قوة معرقلة لتقدم المجتمع في وقت اعتقدت النخبة أن سلوكها السياسي سيدفع الناس إلى الحداثة والتطور , ويمكن هنا قراءة التشابه بين الإخفاقين الأتاتوركي , في تركيا والنخب الحاكمة العربية في الأساليب والنتائج , فالأتاتوركية , لم تفصل الدين عن الدولة بل حاولت السيطرة على الدين من خلال إلقاء القبض على المجتمع وفرض التجانس القسري على الجماعات المتفاوتة كذلك نخبنا الحاكمة لم تفصل الدولة عن الدين بل حاولت توسيع وظائف الدولة لتهيمن على الدين من خلال الهيمنة الأهلية وتغيير طبيعته الاجتماعية وتزييف هويته الثقافية من طريق القهر والتسلط , فالدولة الحديثة ( الدول العربية ) المعاصرة تحولت إلى دولة تسلطية تعرقل التطور من خلال تعطيلها لأدوات المجتمع ومؤسساته الأهلية الأمر الذي زاد ويزيد من عزلتها وربما يؤدي الأمر إلى تفككها ( العراق نموذجا ) كما كاد يحصل في الدولة الأتاتوركية ما اضطرها أخيرا إلى التراجع لإفساح المجال لتمثيل خيارات الناس في السلطة والحكومة مع الاحتفاظ بحق الإشراف العام على الدولة والتدخل إذا اقتضت الظروف .

أزمة الدولة المعاصرة

تنقلنا أزمة الدولة العربية الحديثة وعلاقتها السلبية مع المعارضة إلى السؤال عن طبيعة التكوين التاريخي – الثقافي للمجتمع ودور الأخير في صوغ مستقبله .

أدي ضعف القاعدة الاجتماعية للدول العربية الحديثة إلى لجوء الدولة إلى الاستبداد السياسي لتعويض النقص في الشرعية الدستورية والتاريخية فأقدمت على تشكيل قوة سياسية متراصة أيديولوجيا تعتمد المركزية الشديدة في تنظيم المجتمع وترتيب وظائفه وإخضاعه لرقابة السلطة وإشرافها الدائم ( العراق نموذجا ) فضعف بنية الدولة كان الدافع الأساسي نحو تعويض الضعف الاجتماعي بالاستبداد السياسي وتعزيز السلطة المركزية ومنع حرية الجماعات بقصد توحيدها لتوسيع قاعدة الدولة الاجتماعية فانتهي الأمر إلى إلغاء حق المعارضة في التحرك المستقل ضمن سياق المشترك بين الناس والدولة, فباتت الدولة أشبه بالقوة الغربية التي تمارس سياساتها بمعزل عن حركة المجتمع وتحولاته الداخلية , وبدلا من أن توحد الدولة الناس وتوسع قاعدتها الاجتماعية من خلال تأسيس وظائف جديدة أقدمت من وعي منها أو إدراك لحاجات الناس إلى إضعاف البنية الاجتماعية التقليدية وعزل وظائفها ودفع الناس نحو المزيد من التفكك وتعطيل الاندماج والتوازن الطبيعي المتوارث وأخيرا انكفاء الجماعات إلى هوياتها الثقافية في أضيق حلقاتها الأمر الذي يفسر اتساع دائرة اضطراب العلاقات بين السلطة والكثير من الجماعات السياسية .

ليس دقيقا القول إن بنية المجتمع الضعيفة أدت إلى نشوء دويلات مركزية تعوض ضعف المجتمع بقوة الدولة أحيانا ساهمت الدولة المركزية في إضعاف المجتمع من خلال تدمير نسيجه المتوارث وهيئاته الأهلية وشبكة الوظائف التقليدية ولم تنجح محاولات الاستبداد السياسي والمركزية التنظيمية في تعويض ضعف بنية الدولة بل ساهمت في دفع الجماعات نحو العزلة والانكفاء إلى آلياتها الخاصة التي عملت على إعادة تنظيم نفسها في سياقات مستقلة عن الدولة المعاصرة ( الحديثة ) فالدولة العربية ألغت القديم ولم تؤسس الجديد فأدي الأمر إلى نشوء شكلين اجتماعيين يتنافسان على الشرعيتين التاريخية ( الهوية والثقافة ) والسياسية ( التمثيل النيابي والنقابي والمهني ) في مرحلة انتقالية شديدة التداخل وكثيرة التوتر .

بدأت الأزمة المزدوجة ورافقتنا طوال القرن العشرين وأطلت معنا إلى القرن الواحد والعشرين وتبقي الأجوبة مطروحة على سؤال ماذا يعني التقدم وكيف يحصل ؟

قرأنا الكثير من الكلام عن الدستور والديمقراطية والهوية والثقافة والتنمية والحرية ودور الدولة وحكم الأكثرية وتنظيم الخلافات وابتكار الآليات المعاصرة لإنتاج السياسة وقرأنا القليل من الكلام عمن يصنع الدستور ومن أين تأتي الديمقراطية , وما هي الهوية وكيف تتكون الثقافة وكيف تحصل التنمية وماهية الحرية وطبيعة الدولة ودورها في قيادة التحول وتنظيم التقدم وكيف تصاغ علاقات الحكم بين الأكثرية والأقلية , ولماذا يجب أن تصاغ أدوات إنتاج السياسة جنبا إلى جنب مع تطور أدوات الإنتاج الاقتصادي ؟ وأخيرا كيف تستخدم الهوية في صناعة الحاضر والمستقبل وكيف يستفاد من الموروث الثقافي والمنظومات المعرفية والاجتماعية لتحقيق الحياة العصرية والحديثة ؟.

كثرة الكلام عن الجانب الأول وقلته في الجانب الثاني يفسر أصول الخلل في الفكر العربي المعاصر الذي اعتمد على الترجمة والاقتباس والنقل والتوفيق بين المتناقضات وتأخر في اكتشاف منظومته المعرفية وإعادة إنتاجها في سياق النقاط لحظات التقدم ومعرفة أسبابها وعواملها .

لنتصور ماذا يحصل في بلجيكا مثلا إذا قررت الحكومة في أسبوع واحد تعليق الدستور واعتماد الشريعة الإسلامية كقانون وحيد للمجتمع لنتصور مثلا ماذا يحصل لبريطانيا إذا قررت الحكومة فجأة إلغاء الحروف اللاتينية واعتماد الأبجدية العربية أساسا لكتابة اللغة الانجليزية , لنتصور مثلا ماذا يحصل للولايات المتحدة إذا قررت إدارة واشنطن إلغاء الأنظمة الليبرالية ومصادرة الدولة للتجارة الداخلية والخارجية وإشرافها العام على القطاعات الاقتصادية والمالية وإعادة توزيع الثروة وفق المنظومات الاشتراكية .

لسنا بحاجة إلى القول إن هناك كوارث اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وإنسانية ستحصل في بلجيكا وبريطانيا وأمريكا , وربما تؤدي إلى ثورات وانتقاضات ستلعب دورها في إضعاف المجتمعات وتفككها وتمزقها , وستنعزل الدولة في أضيق حلقاتها وستضطر إلى تعويض ضعفها باستخدام الإرهاب والاستبداد لإعادة توحيد الجماعات وضبطها وهو أمر سيدفع نحو المزيد من الدمار الداخلي والحروب الأهلية الدائمة , وأخيرا انهيار التجربة وسقوط دولة النخبة المستبدة وتراجع الدولة وعودتها نحو المساومة ومصالحة الواقع وإعادة تأسيس العلاقات مع المجتمع من جديد بشكل يحقق الانسجام بين الدولة ( كنظام سياسي ودستور ومنظومة علاقات ) مع المجتمع كثقافة وهوية ودين واجتماع وتاريخ .

فالدولة إذا لابد أن تكون نتاج الجماعة , والمجتمع هو الذي يحدد هيكل الدولة وهويتها الثقافية والحضارية وأحيانا تلعب العلاقات التقليدية دور القيادة في تحقيق التقدم والتحول .

يمكن القول إن الأمثلة المذكورة لن تحصل وهي أشبه بفرضيات خرافية لكن يمكن الاستفادة منها لفهم ماذا حصل في المنطقة العربية – الإسلامية عندما أقدمت النخبة على الانقلاب على الدولة ( السلطان والسلطنة ) تمهيدا للانقلاب على المجتمع ومحاولة تكوين شخصية تاريخية تنسجم مع تصورات النخبة ومتصادمة مع ثقافات الناس وهوياتهم .

الخرافة التي افترضنا أنها لا تحصل ولن تحصل في بلجيكا وبريطانيا والولايات المتحدة حصلت فعلا في تركيا الأتاتوركية , واستمدت النخبة العربية إلى حد كبير ذاك النموذج الانقلابي الاستبدادي لتعميمه وفرضه على الجماعات الأهلية باسم التقدم والحداثة والمعاصرة , فالخرافي في أوروبا هو واقعي في المنطقة العربية وما لا يمكن تصور حصوله في بلاد الغرب حصل في بلاد الشرق وانتهينا إلى ما انتهينا إليه .

لسنا هنا في صدد مراجعة التاريخ وإعادة قراءة حوادثه لكن الخلاصة تؤكد أن النتائج الكارثية هي نتاج الانقلابات الفوقية على المجتمع ومصادرة حركة آلياته المتوارثة تقليديا .

قيل الكثير عن أن الديمقراطية أوروبية المنشأ ومركزية النشوء وقيل أيضا إنها عالمية المنشأ وتعددية النشوء , وبغض النظر عن صحة الكلام عن أوروبية الديمقراطية أو إسلامية الديمقراطية أو كونفوشيتها أو بوذيتها فإن الأساس هو تاريخيتها الزمانية والمكانية ودور الجماعات الأهلية المعنية بآلياتها في ربط حركتها العمياء بإرادة المجتمع وتكوينه الثقافي وهويته والعناصر التي يتركب منها فما يصح في بلجيكا أو سويسرا أو النمسا ليس بالضرورة يصح في المنطقة العربية والعكس صحيح , وما هو صالح في الشرق الأدنى ليس بالضرورة صالحا لفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة فالدستور والديمقراطية والبرلمانية هي أدوات مرنة وغير محددة في أطر قانونية ثابتة ولا يمكن سحبها في تركيبها الكلي على مختلف الشعوب والحضارات والثقافات وذلك لسببين :

الأول : أن كل دستور يمثل في النهاية الحد المشترك لتطور جماعة من الجماعات وبالتالي لا يمكن استيراده وتصديره فهو ليس سلعة بضاعة كالسيارة أو جهاز الهاتف الثاني , أن كل دستور قابل للتعديل بما ينسجم مع خصوصية الجماعات الأهلية وأسلوب حياتها وطريقة تفكيرها ومنظومة علاقاتها وأدواتها التقليدية المتوارثة .

نصل هنا إلى منطق التسوية أو التصالح الذي اعتمده أربكان في تركيا واقترح راشد الغنوشي اعتماده في تونس , والدافع على نشوء المنطق المذكور هو أساسا دافع تاريخي أساسه الحرص على عدم دفع المجتمع والدولة نحو المزيد من التفكك والانهيار وأيضا محاولة الاستفادة من أخطاء التجارب والكوارث , فالحرية تتطلب المناخ السياسي المعتدل الذي يساعد على اكتشاف قوانين المصالحة من خلال النقاط خصوصية المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة وهي فترة تجمع ما بين الجديد والحديث والتقليدي والمعاصر والموروث .

بعد مرور أكثر من 80 سنة على الانقلاب الأتاتوركي لا يمكن الرد على ذاك الانقضاض الوحشي على هوية الجماعات وثقافتها بانقلاب نخبوي مضاد كما حاول حسن الترابي في السودان من خلال وضعه لتصورات دستورية معاصرة يعتقد أنها ستساهم لاحقا في صنع شخصية تاريخية حديثة للمجتمع الإسلامي فالدستور يصاغ ولا يترجم كذلك هو نتاج اتفاق توافقي ولا يفرض بالقوة من طريق الاستيلاء على السلطة .

بما أن الانقلاب الإسلامي على الانقلاب النخبوي لن يؤدي إلى تعديل التاريخ ولا تعديل التعديل بل سيؤدي إلى كسر الجماعات إراديا ومحاولة دمجها بالقوة في سياق زمني مضاد للفترة السابقة التي امتدت على عقود القرن العشرين وبالتالي ستعود المنطقة من جديد إلى حرب عصابات سياسية بين الدولة وبعض اتجاهات المجتمع الإسلامية , فالحل الواقعي هو تحقيق التسوية ( عقد سياسي ) بين المؤسسات المدنية ( الدولة ) والهيئات الأهلية لإعادة تركيب هيكلية تنظيمية تنسق المصالح وتقيم توازنها في إطار سلمي , وإذا نجح الأمر يصبح الخلاف على تسمية ذاك الإطار من الأمور الثانوية فالاتفاق على الاسم ( ديمقراطي , شورى, برلماني , دستوري ) ليس الجوهر بل هو الشكل الذي يتم من خلاله حل أزمة التمثيل السياسي ومعالجة مسألة السلطة وأسلوب الحكم .

نحو تسوية تاريخية

أوصل الاستبداد الدولة العربية المعاصرة ( الدول العربية ) إلى لعب دور المعرقل للتحولات بعد أن افترضت النخبة الانقلابية الأيديولوجية والعسكرية أنها تقود التقدم ووصلت الآن إلى نهاياتها التاريخية وفقدت وظائفها وأحيانا مبرر وجودها ولم يعد أمامها من حل سوى التسوية والتوصل إلى صيغة توافقية وتصالحية مع الجماعات السياسية وبدلا من أن تستوعب النخب العربية دروس الماضي أخذ بعضها يمعن في الكارثة ويدفع التناقضات إلى نهاية مأسوية كالانقلاب على الانتخابات في الجزائر واحتكار السلطة في تونس واللجوء إلى قوانين الثقافية في مصر لتعطيل المؤسسات المدنية والمنظمات الأهلية وتشديد قبضة الدولة على حركة المجتمع , بعض النخب أخذ يتجه نحو المزيد من النهج الانقلابي ليس على المجتمع فقط بل على الدولة أيضا , وهذا قد يؤدي إلى تكوين مجتمع مغلق يحيط به سور الاستبداد وستكون نتائجه كارثة على الجماعات الأهلية , إذ يرجح أن تندفع نحو المزيد من التمسك بحلقاتها الضيقة التي ستساهم في زرع بذور التفرقة في هيكلية الدولة وهيئاتها المدنية , الأمر الذي سيسرع في تفككها بما يتوافق مع تفكك المجتمع الأهلي وتتوزع على هوياته وثقافته المتنوعة فالدولة ( النخبة ) في بعض البلدان العربية لم تعد تلعب دور القيادة للتطور السياسي بل أخذت تنقلب على فرضية تأسيسها الأول لتلعب دور المعرقل وأحيانا المعطل للحياة السياسية والنيابية والنقابية والثقافية بقصد تطويل فترة سيطرتها على السلطة وهو أمر قد يقود إلى كارثة أكبر وهي اختفاء تلك الدول من خريطة الجغرافيا السياسية ونهوض دول بديلة منها قد تكون بأحجام صغيرة أو كبيرة ( العراق نموذجا ) .

تتطلب المرحلة الانتقالية مشروعات إنقاذية تتجاوز مفهوم الإصلاحات ولا يكفي هنا إلقاء المسئولية على مؤامرات خارجية وتبرير الكوارث باتهام الأخر بارتكاب الأخطاء فالمسألة تتطلب المزيد من الوعي التاريخي الذي يعيد تركيب السياسة بما يتناسب مع مستوى تطور المجتمع وحاجاته وبما يتجانس مع ثقافاته وهويته الحضارية , المسئولية هنا مشتركة بين الدولة والجماعات السياسية التي يفترض أنها تمتلك الوعي الذي يتجاوز الحدود المذهبية والطائفية الضيقة وتقرأ التحولات بمنظار تاريخي واستراتيجي .

حتى تصل التسوية إلى ذاك المستوى الواعي للأزمة في وقت تمر المنطقة في مرحلة انتقالية شديدة التعقيد والتركيب لابد من إعادة التصحيح بتصحيح الفهم لتلك العلاقة بين الدولة والناس وفهم السلطة لطبيعة دورها ووظائفها الاجتماعية وكذلك فهو الجماعات السياسية لموضوعة الدولة والتقاط أهمية السلطة العادلة في التخطيط للتقدم وقيادة التحول – فالتطور يحتاج إلى منظومات معرفية يعاد تأسيس أدواتها من خلال الهوية الثقافية لتاريخ الجماعات ولا شك ستساعد تلك المنظومات في لعب دورها على تصحيح الخلل .

تصحيح الفهم يبدأ من معالجة الخلل العام , وأما تلك التصرفات السلبية الصغيرة التي تبرز في السلوكيات الاجتماعية والسياسية فيمكن تصحيحها من خلال تشجيع إعادة حركة بناء المنظومات التقليدية والمراكز الثقافية وتعزيز المؤسسات الأهلية وتطوير منظمات المجتمع المدني , كما يقال في الأيديولوجيات المعاصرة فدعم الهيئات الخيرية ودور الحضانة والتعليم والتربية والنقابات والجمعيات والأندية والاتحادات ورعاية منظمات الإغاثة والطبابة ومساعدة الأسر المحتاجة وتقديم المعونات الإنسانية وإنشاء المشروعات الخيرية وغيرها من المسائل الضرورية كلها عوامل تخفف الضغط وتنمي المشاعر المشتركة في سياق أهلي – مدني متوازن في التنمية العامة التي تقوم بها الدولة على مستوى المجتمع كله , فالأعمال الصغيرة إذا تراكمت تؤدي إلى نوع من الوعي المتقدم للعلاقات وتعطي بعض المعني لدور الفرد في البناء , وتسقط بالتالي تلك التصورات الخاطئة التي تنشأ عن تصرفات سلوكية ناجمة أصلا عن تبطل المجتمع وعدم اشتراكه أو مشاركته في لعب دور أهلي – مدني ولو صغير في عملية التنمية الكبيرة .

تتطلب سياسة إعادة الحياة إلى المجتمع تأسيس أدوات تعيد له الحيوية ليقوم بالتحرك بالاتجاه الصحيح , وهذا لا يتم إلا باتخاذ القوى السياسة خطوات جذرية نحو التصالح مع الدولة ومستجدات الواقع .

حركة الإخوان المسلمين مثلا مرت قبل أن تبلور مفهومها للديمقراطية في محطات زمنية لعبت دورها في إنضاج الفكرة وإخراجها بصيغة نهائية في منتصف التسعينيات سابقا لم تكن " النظرية " واضحة وإذا وجدت كانت تشكل هما ثانويا مثلها مثل الحركات السياسية العربية المعاصرة ( العلمانية والقومية واليسارية ) التي تأسست في مطلع القرن الماضي .

ركزت الحركة الإخوانية في بداياتها التأسيسية على مفاهيم الأمة والجماعة والدولة وشكل النظام والعلاقات العربية والإسلامية والنظرة إلى القضايا الدولية وغيرها من المسائل المتعلقة بفلسطين والهوية والتاريخ والثقافة والأيديولوجيات الأوروبية , وتركيز الاهتمام على المسائل الكبرى لم يمنع حركة الإخوان من التفكير بالمسائل الدستورية والتشريعية والقضائية والتربوية ودور الدولة في المجتمع ووظيفة الشرع كإطار ينظم علاقات البشر ويقنن الأنظمة التي يتم التعامل بها على مستوى الاقتصاد والتجارة والمال .

لا شك في أن عدم وضوح هوية الإخوان في بداية التأسيس لعب دوره في تأخير حسم الكثير من المسائل المتعلقة بمهمات الحركة وأولويات برنامجها , وهو أمر واضح في رد مؤسسها الإمام حسن البنا على أسئلة تتعلق بهيئة الإخوان التنظيمية , فأجاب بأن الإخوان " دعوة , وجمعية خيرية , ومؤسسة اجتماعية , وحزب سياسي , وأدي عدم وضوح هوية الحركة السياسية إلى تعطيل الكثير من أنشطتها التي تراوحت بين العمل الاجتماعي والدعوة إلى الدين والقيام بمهمات خيرية والتصرف كحزب سياسي منظم وأحيانا كهيئة تحاول الوصول إلى بعض مقاعد البرلمان لإيصال صوت دعوتها ولم نطمح في الوصول إلى السلطة , لذلك حسمت الحركة موقفها باكرا من مسألة خوض الانتخابات وترشيح الأعضاء للبرلمان والاحتكام إلى صندوق الاقتراع لاختيار العناصر الصالحة التي يجد فيها الشارع الفئة الجديدة القادرة على خدمة الأمة , لكنها تأخرت في حسم موقفها من الديمقراطية فالبرلمانية وسيلة من وسائل التمثيل الشعبي القائم على الاختيار الحر لأعضاء المجلس النيابي بينما تعتمد الديمقراطية على منهج عمل وممارسة تراهن على آلية غير واعية لإعادة تشكيل المجتمع وتحديد الموقف من الآخر المختلف وتفترض القبول باللعبة السلمية لتداول السلطة وحق الأقلية في التعبير عن نفسها سياسيا .

على رغم الفارق بين المسألتين شكلت خطوة القبول بالبرلمانية بداية سياسية للإخوان أدت لاحقا إلى قبول الحركة بالديمقراطية وشروطها التنظيمية التي تتطلب الحد الأدني من البرنامج التسووى وعقلية المساومة وما تقتضيه من تحالفات مع الخصوم السياسيين أو الائتلاف مع قوى لا تتفق أيديولوجيا مع خط حركة الإخوان وطموحاتها , وساهمت الملاحقات والاعتقالات والضربات العنيفة التي تلقتها الحركة منذ تأسيسها في تأخير الكثير من المسائل , إذ كانت القيادات تتصرف إلى حماية نفسها بدلا من إنضاج أفكارها المتعلقة بقضايا المواطن وحقوقه السياسية وخصوصا مسألة التعددية .

إلى ذلك ساهمت الظروف الدولية والإقليمية وأنماط الأنظمة العربية ( النخبوية الانقلابية ) التي لا تقبل بالمعارضة في تعطيل فرص نمو الفكرة , فانعدام وجود المجتمع السياسي عطل إلى حد كبير نضج فكر سياسي يتطور سلميا وبهدوء كما يحصل في المجتمعات الأوروبية فالديمقراطية لا تنمو في مجتمعات غير سياسية ترفض الأنظمة فيها حرية الحركة للخصم وحقه في التفكير ولا تكترث بالرأي العام ودوره في صوغ القرارات الرسمية .

على الدولة الحديثة ( النخب الحاكمة في الدولة العربية ) استيعاب الأزمة المركبة وفهم أهمية دور المعارضة السياسية في المشاركة بحلها كما يحصل في تركيا فالمعارضة في النهاية ليست عدوة للدولة بل هي شريك في الحياة العامة وتقرير مصير المجتمع وما يصيب المجموع يصيبها وهذا ما حاول حزب النهضة التونسي توضيحه من خلال تطوير مفهومه لفكرة الديمقراطية وربطها بالهوية الثقافية والتنمية الاجتماعية وكذلك تطوير فهمه لموضوع حكم الأكثرية فالقول إن الديمقراطية ليست حكم الأكثرية أو الغالبية السياسية فقط بل هي حق الأقلية السياسية أو الدينية في المشاركة في صنع القرار السياسي .

أيضا هو خطوة صحيحة في الاتجاه التصالحي لطمأنة الدولة والقوى المعارضة الأخرى وعدم تخويفها بالأكثرية السياسية والغالبية العددية .

ربما فكرة الديمقراطية التوافقية التي تقوم على مبدأ التراضي ( العقد ) السياسي في سياق تأسيس صيغة برلمانية – دستورية تضمن لكل الفعاليات والجماعات حقها في التمثيل عن طريق تعديل خصائص الاقتراع وتطوير أشكاله لاستيعاب الخلافات واحتواء الاختلافات الدينية والمذهبية والأقوامية والجهوية حتى القبائلية , تشكل خطوة مرنة ومتقدمة تلبي طموحات الغالبية من دون أن تغبن حقوق الأقليات السياسية والعقائدية وتخيفهم لابد من إعطاء الضمانات ودفع العلاقات نحو الطمأنة المتبادلة إلا أن التسوية أو المصالحة بحاجة إلى فريقين لا فريق واحد , والتراضي هو توفيق بين سياستيني وهذه مشكلة الدولة ( النخبة ) وليست مشكلة المجتمع ( الأهل ) .

نحو عقد سياسي

فرض البحث في موقف الإسلاميين من مسألة الديمقراطية ومأزق الأحزاب الإسلامية في مجال الممارسة السياسية التوقف أمام موقف السلطات العربية من المسألة ذاتها وأسلوب إدارة الحكومات للصراع السياسي , لذلك كان لابد من قراءة مفهوم الديمقراطية على المستويين الدولة والمجتمع وفي إطارين نظري وواقعي وتحديد الفترة الزمنية بين الثمانينيات والتسعينيات حتى لا يخرج الموضوع عن سياقه العام .

مع ذلك لابد من الاعتذار عن نقطتين الأولي , التطويل , وهو شر لابد منه لقراءة المشكلة من جوانبها المختلفة , والثانية , التقصير إذ اقتضي الأمر إهمال الكثير من القضايا واختصار الكثير من التنظيمات ( حزب الله في لبنان مثلا ) والدول العربية ليتم التركيز على نقاط التماس الساخنة .

بشأن تعريف مفهوم الديمقراطية تبين أن هناك سلسلة وجهات نظر عن المسألة وهو أمر واقع الإسلاميين أنفسهم في تعريفات مختلفة للمفهوم فهناك من يأخذ به ويرفض استخدام المصطلح وهناك من يأخذ بالمصطلح والمفهوم معا وهناك من يرفض المفهوم والمصطلح معا , فالبلبلة في وسط الإسلاميين نتجت أصلا عن البلبلة في المفهوم نفسه إذ تختلف المدارس الغربية ( الأوروبية ) بدورها على تقييم مشترك للمسألة الديمقراطية فهناك من يعزلها عن التاريخ والجغرافيا والثقافة والاجتماع وهناك من يربطها بكل تلك القضايا وهناك من يعتبرها أوروبية الأصل ومن الصعب تعميمها على مجتمعات غير أوروبية , وهناك من يعتبرها عالمية المنشأ وإن اختلفت درجات نموها وتطورها بين منطقة وأخرى , وبالتالي يمكن تعميمها إذا جرى تطويعها أو تكييفها أو تأصيلها مع ظروف المجتمعات ومستوى تطورها الاقتصادي والسياسي .

إلى جانب الاختلاف على مضمون التعريف النظري وتاريخيته هناك خلافات على تحديد شكل الديمقراطية فهناك من يري أنها مجرد آليات لا واعية يمكن سحب نظامها العام على مختلف المجتمعات من دون اعتبار لخصائصها الثقافية وهناك من يري أن آلياتها واعية ولا يمكن سحبها إلا بتوافر الوعي والثقافة المتسامحة والإرادة المشتركة الحرة للجماعات السياسية .

إلى الاختلاف على المضمون والشكل هناك خلافات على تقييم الديمقراطية كتجربة تاريخية , فهناك مناطق نجح النموذج فيها وهناك مناطق أخفق فيها النموذج بسبب اختلاف بنية الجماعات السياسية , ويلاحظ أن المجتمعات المتجانسة ( قاعدة الدولة الاجتماعية ) أسهل عليها تطبيق الديمقراطية العددية ( حكم الكثرة ) بينما تواجه الديمقراطية العددية ( الأكثرية والأقلية ) صعوبات في المجتمعات المتعددة قوميا ودينيا ومذهبيا وطائفيا الأمر الذي يفرض إعادة قراءة المسألة في تجارب المجتمعات غير المتجانسة ( لبنان والعراق مثلا ).

بعد عرض وجهات النظر في تعريف الديمقراطية وتحديد شروطها كان لابد من مناقشة ما يسمي بإعادة تعريف الديمقراطية وينحاز البحث إلى ثلاث نقاط أنها تتمتع بآليات غير واعية , أنها ليست أوروبية المنشأ أنها تختلف بين مجتمع وآخر في تجربة التطبيق , وقبل أن يتوقف النقاش بشأن هذه المسألة تم تثمين دور التيار الداعي إلى إعادة التعريف , مع تأكيد ضرورة تجاوز حدود التعريف إلى إعادة إنتاج فكرة الديمقراطية على مستويين المعرفة ( تأصيل المفهوم ) والتاريخ ( ربط الفكرة بالتطور الاجتماعي وتراث المنطقة ) .

بعد هذا تمت قراءة مواقف الإسلاميين والتمييز بين طروحات المفكر الإسلامي والتنظيم الإسلامي كذلك تمييز طروحات الإسلاميين وفرزها إلى ثلاث مدارس الأولي ترفضها شكلا ومضمونا والثانية تقبلها شكلا ومضمونا , والثالثة تقبلها شكلا وترفضها مضمونا .

إلى ذلك بالإمكان ملاحظة ما يشبه الإجماع بين الإسلاميين على قبول أفكار التسامح والتعدد والاختلاف شرط ألا تتجاوز المسألة حدودها وتعتدي على حرية المعتقد الشخصي للمسلم وحقه في ممارسة شعائره الدينية .

إن أساس الخلط القائم عند الإسلاميين الذين يرفضون الديمقراطية كمفهوم وآلية يعود إلى عاملين :

الأول , الخلط بين الحكم لله وبين الحكم بما أنزله الله , وهو أمر يؤدي إلى التباس بين الأحكام العامة وبين الهيئة ( البشر ) التي تريد تنفيذها , الثاني , الأصول الاجتماعية والثقافية والتربوية لجيل الإسلاميين الجدد , وهو جيل في معظمه من نتاج التحديث وأصوله حديثه بينما سياسته ردة فعل على الحداثة , وهو يختلف من ناحية تكوينه الأيديولوجي والزمني عن الرعيل الأول من الإسلاميين العرب .

بسبب الخلط النظري والأصول الاجتماعية والتكوين الأيديولوجي كان لابد من قراءة الاختلاف بين الرعيل الأول والثاني من الإسلاميين إذ تباينت وجهات النظر وتعددت وتفرعت وتنوعت بحسب اختلاف البيئات المكانية والزمانية وظروف كل دولة عربية الأمر الذي زاد من صعوبة ملاحقة أفكار التشتت النظري بين الكثير من التنظيمات الإسلامية وإعادة حصرها في دائرة واحدة .

يؤكد الاختلاف المذكور مسألتين الأولي , أن المنظمات الإسلامية منظمات سياسية قبل أن تكون دينية , الثانية , أن مشكلاتها الخاصة يمكن بلورتها وتنضيجها لو توافرت الظروف السياسية والمناخات الديمقراطية .

لا شك في أن الدول العربية ( النخب الحاكمة ) تتحمل مسئولية إقفال أبواب التطور السياسي في المنطقة العربية فالنخبة ( السلطة ) تحولت من طرف يقود التحولات الاجتماعية والاقتصادية إلى هيئة مستبدة تعرقل التطور الاجتماعي وتحد من نمو المجتمع السياسي الأمر الذي سيعرض المجتمعات العربية لاحقا إلى مزيد من الانكفاء إلى الحلقات الصغرى من الهويات الثقافية الضيقة كذلك سيعرض الدولة نفسها إلى الحصار والتفكك السياسي .

لإثبات وجهة النظر المذكورة تم تقديم نماذج سياسية عربية متفجرة بدأت منذ عقدين من الزمن ( النصف الثاني من الثمانينيات والنصف الأول من التسعينات ) وهي مصر السودان , الجزائر , وتونس والسلطة ( الحكم الذاتي ) في بعض فلسطين , فمن خلال قراءة النماذج المذكورة هناك ما يشبه التجانس بين السلطات العربية حتى لو اختلف خطابها الأيديولوجي والسياسي أو تباينت في مستوى تطورها وتجربتها الزمنية ومستوى العلاقات بين الدولة والمجتمع وأدي انزلاق النخب الحاكمة من إدارة الدولة إلى المواجهة المباشرة مع بعض الأطراف الإسلامية إلى إضعاف دور السلطة القيادي ودفعها إلى قوة معرقلة للتقدم الاجتماعي والتوحيد السياسي .

إن تعدد وجهات نظر المنظمات والهيئات الإسلامية واختلاف مواقفها من مسألة الديمقراطية ودور السلطة ( النخبة ) في تعطيل المجتمع السياسي ومنع تبلور الاجتهادات في مناخات سلمية اهتز أخيرا بعد مصافحة العلمانيين والإسلاميين في تركيا فالنموذج الأتاتوركي كان سابقا قدوة للنخب العربية العسكرية والحزبية الانقلابية وانتهي أخيرا إلى الانصياع للأمر التاريخي والقبول بصيغة ائتلافية تنتج ما يشبه التوافق والتراضي بين عناصر المجتمع وتكويناته .

انطلاقا من التجربة التساكنية التي آلت إليها تركيا لابد من الاستفادة والدعوة إلى ما يشبه التسوية التاريخية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لا تندفع الدول العربية في مغامراتها العسكرية إلى حدودها القصوى , وينعزل المجتمع ثقافيا يرتد إلى حلقاته الضيقة الأمر الذي سيزيد من شدة الانغلاق والممانعة تستند الدعوة لعقد التسوية التاريخية إلى مسألتين الأولي أن التحديث القسري الفوقي أدي إلى إنتاج شكلين اجتماعيين الأول حديث وتغريبي والثاني قديم وتقليدي , والثانية أن الانقلاب ( التقليدي ) على الانقلاب السابق ( التحديثي ) غير مجد وسيؤدي إلي زعزعة المجتمعات وربما السقوط مجددا في الحروب الأهلية والتفكك الشامل .

المطالبة بإنتاج صيغة توافقية ( عقد سياسي ) لابد أن تقوم على التراضي بين الفريقين شرط أن توفر الدولة المناخ السياسي الحر وحرية الأفكار والمعتقدات لإنضاج فكرة التسوية مقابل أن تقبل القوى الإسلامية بحرية المختلف وعدم تخويف الأقليات السياسية والأيديولوجية بالأكثرية العددية , وحتى ينهض ما يشبه الوعي التاريخي المركب لابد من إفساح السلطة للناس دور المشاركة في التنمية والبناء وإطلاق الحياة السياسية ليلعب المجتمع دوره في بناء الدول التي لا تزال غريبة عنه , فالدولة تستطيع أن تلعب دور التوحيد السياسي إذا شاركت المجتمع في عمليات التنمية والتحديث .

إن الديمقراطية في النهاية لا تتطور في دولة ديكتاتورية مستبدة لذلك لابد من ديمقراطية توافقية ( لا عددية أن حكم الكثرة فقط ) تقوم على التراضي والتساكن ونحترم الأكثرية الأقلية السياسية وغير السياسية وتشاركها في أخذ القرار المشترك حتى لو كانت في المعارضة وهذا لا شك يتطلب المزيد من الوعي المركب وهو مطلب مثالي , لكنه في النهاية فيه جوانب واقعية يمكن انتزاعها من الجهتين الدولة والمجتمع وأساس واقعية الطرح حاجة النخبة للمجتمع لحماية مواقعها ودورها وحاجة المجتمع إلى الدولة لتوفير الحريات التي تطلق العقل من الأسر وتدفعه إلى المزيد من التفكير والاجتهاد .

افترضت النظريات الحديثة أن النموذج الأوروبي سينجح بسرعة في التغلب على النماذج غير الأوروبية من خلال سياسة إلحاق الأطراف ( العالم ) بالمركز ( أوروبا ) ولكن ما حصل أن النموذج الأوروبي فشل في " مهمته التاريخية " ولم تؤد محاولاته لاجتثاث المجتمعات العريقة تاريخيا , التي سبقت نشوء العلاقات الرأسمالية , أو ما يسمي بنهضة أوروبا , إلا إلى مزيد من الانهيار الذي عبر عن نفسه بمزيد من الانقسام والتفكك في هذه المجتمعات القديمة , وبدلا من " الوحدة " قامت " الثنائية " فنشأ إلى جوار " المجتمع القديم " المتأصل في جذوره الدينية والتاريخية والثقافية وسلوكه الاجتماعي ( علاقات , عادات وتقاليد ) ما عرف بـ " المجتمع الحديث " المرتبط بالنموذج الأوروبي .

في إطار هذا الانقسام يمكن تفسير الكثير من تعقيدات الصراع القائم في منطقتنا الإسلامية – العربية كما نستطيع من خلاله فهم وتركيب هذا الصراع وتراتبه ( جواني وبراني , شرق وغرب . إسلام ومسيحية , سيطرة وتمرد , تبعية واستقلال , تحديث وتقليد , غني وفقير , استعمار وثورات أحزاب وعصبيات ) أمام هذه الثنائيات المتداولة لابد من عقلية تسووية تلبي حاجات الأمر التاريخي الذي يتمثل في إعادة إنتاج نموذج خاص يعتمد معادلة العقد السياسي ( التساكن والمصالحة ) بين الدولة والمجتمع ." .