الإخوان المسلمون أوراق تاريخية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون .. أوراق تاريخية
IMG 0002.jpg

بقلم / إبراهيم زهمول


هداك الله يا تاريخ

  • للشاعر / محمد الأسمر
تحابي الحي أو تظلم
يا تاريخ أحيانا

فهل مثلك مأمون

على أخمار موتانا؟

لكم تروى حقيقات

أراها في الخرافات

وكم تروى خرافات

أراها في الحقيقات

وكم تذكر أخيارا

هم عندي أشرار

وكم تذكر أشرار

هم عندي أخيار

هداك الله يا تاريخ

يا شيخ الأضاليل

فما أقدر كفيك

على نسج الأباطيل

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم هذا الكتاب هو أحد فصول دراستنا المقارنة عن الجماعات السياسية ذات التسمية الدينية أو ما اصطلح على تعريفها بالأحزاب الدينية. وهو يمثل دراسة لفكر جماعة الأخوان المسلمين ، وفيه نعرض لمبادئها كما وردت في رسائلها وما نشر في صحفها المختلفة منذ بدء نشأتها حتى تاريخ حلها مع دراسة مقارنة لمشروع دستور إسلامي للدولة المصرية ومقارنته بما ورد في فقه الإسلاميين الأقدميين. نعم قد تناول هذه الجماعة دراسات شتى وهي متباينة الغرض وفقا لمشارب كتابها ، وأكثرهم غربيون تختلف نظرتهم في تقييمها ، وصهيونيون يتباينون عنها فكرا وعقيدة وأخيرا ماركسيون وجدوا في سوق الكتاب رواجا فخرجت مؤلفاتهم بعيدة عن كل تقييم علمي لما وقع فيها من ابتسار وتزييف أقوال مع ما يدينون من مذهب.

وهذه المؤلفات جميعا قد تناولت جماعة الإخوان المسلمين بنظرة تاريخية ويذهب الكثير منها إلى التعسف في سوء التأويل ليخرج بعلاقة بينها وبين أنظمة الحكم المختلفة التي وردت في تاريخ مصر وهي لا شك تخرج عن المنهج العلمي الأصيل. وقد تضاربت نظرة الكتاب إزاء الإخوان فمنهم من ثبت على رأي أقر به ومنهم من تبدل وفقا لتغير الأحوال. فذهب من الفريق الأول المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة إلى القول «الإخوان المسلمون هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع المسوخ عقيدة الإسلام الخاص وعقلية المسلم الحق. أنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة ولا الدنيا على أنا سوق منفصلة ، وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق ، وأن السوق عمارة المسجد ، وكان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان ، وفي الاقتصاد يد ، وفي الجهاد سلاح ، وفي السياسة رأي. فلهم في كل بلد من البلدان العربية أتباع ، وفي كل قطر من الأقطار الإسلامية أشياع. وما يقظة الوعي العام في مصر والسودان ، وفي العراق وسورية ، وفي اليمن والحجاز ، وفي الجزائر ومراكش إلا شعاب من هذه الروح سيكون له بعيد حين نبأ.

وذهب من الفريق الثاني أحد أساتذة التاريخ والحضارة الإسلامية ، فقد اتهمهم على صفحات مجلة «الشبان المسلمين» عام 1965 بأنهم من فرقة الحشاشين وكيف لا ومرشدها الأول ومرشدها الثاني يحملان اسم الحسن الصباح زعيم هذه الفرقة. يقول في كتابه «رحلة حياة» بعد تغير الأحوال وزوال العباد ، إن هذه الجماعة لعبت دورا إسلاميا رائعا في حياة الصبيان والشباب والرجال ، وغرست أخلاق الإسلام في الملايين وجعلت الانتساب للإسلام مفخرة يعتز بها الكثيرون ، وربطت بين المسلمين في مختلف إلا ،حاء وكونت من المسلمين قوة هائلة هزت غطرسة الاستعمار وقوى الغرب وطلائع الصهيونية ، ودفعت إلى المكاتب والمصانع والوظائف جماعات تعرف الله وتخافه ، وبالتالي تنتج بجد ، وتعمل دون رقيب من الناس ، ولا تمتد لها الشبهات ، ولا يمسها الانحراف ، كانت كلمة (من الإخوان المسلمين) طابعا للتنزه عن الصغائر ، والبعد عن الرشوة ، ومن الإهمال والحرص على أداء الواجب ، وحيثما رأيت الآن رجلا يبرز به هذا الطابع فأعرف أنه غالبا كان منتسبا إلى جماعة الإخوان المسلمين» ، وكما أختلف فيها ، تباينت أراء الكتاب في شخصيات القائمين عليها فلا كتهم الألسنة وتباري المفتون الذي يقولون بأفواههم مالا تؤمن به قلوبهم استرزاقا لرضي الحاكم ورهبة من غير رضاه.

فذهب الكاتب عباس محمود العقاد  إلى أن حسن البنا من سلالة يهودية وأن دعوته حركة إسرائيلية هادمة» ، وخرج آخرون بفتوى «أن الإخوان كالخوارج لا يقبل في أمرهم توبة ولا شفاعة .

وما زالت المؤلفات تترى في دراسة هذه الجماعة وأكثرها من الغرب ، وما زالت تدرس في مراكز الأبحاث الجامعية باعتبارها إحدى الحركات الإسلامية ذات الأثر الفعال في عالم الإسلام. وما يزال الكثيرون في البلاد الإسلامية والأجنبية على السواء يجهلون حقيقة هذه الدعوة ويجهلون غايتها ومنها جها ، وما يزال كلام كثير يقال حول سياسة الإخوان وعلاقة دعوتهم بالمسائل السياسية ، وعن حقيقة موقفهم من الشئون العامة ، وعن منهجهم في الوصول إلى أهداف الدعوة التي ينادون بها.

وقد عرضنا في هذه الدراسة باللغة العربية لهذه الغايات ، مدعمة بأسانيدها والوثائق التي تكشف الجوانب المظلمة والتي كانت تحكم الظروف السياسية ، وهي وثائق تقدم صورة دقيقة واضحة لحقبة من تاريخ مصر أسدل عليها ستار النسيان أو المغالطة أو التزوير لفتة طويلة بحيث أصبح من الممكن أن تتوه معالم التاريخ القريب في ذهن أجيال جديدة لم تعايش هذه الحقبة. ومن حق التاريخ علينا أن لا نحرف وقائعه ، بل علينا أن نتحرى الحق ، والصدق في تدوينها وتفسيرها ، ولا نشوه أسبابها ومسبباتها فإن هذا واجبنا في تحقيق الحوادث.

إن للتاريخ له حرمته ومكانته ، ومن واجبنا أن ندونه على الوجه الصحيح. ونرجو أن تكون دراستنا لهذه الصفحات المجهولة قد كتبت بنظرة موضوعية بعيدة عن افراط بعض المنتسبين إليها أو تفريط من قد حو فيها وفي القائمين عليها لأغراض شتى حزبية أو شخصية أو مراءاة لأهل الهوى والسلطان. وبعد ، ما كان ليخرج هذا المؤلف لولا صادق العون الذي منحنيه أياه المرحوم الأستاذ محمود فهمي بإمدادي ببعض هذه الوثائق من مكتبة ولده أستاذ الجامعة ببلاد الغربة حاليا وأحد الذين مسهم القرح فصبروا واحتسبوا ، قلنا فيه جميل العزاء ولذكراه الطبية عاطر الثناء...

إبراهيم زهمول

12 من جمادي الأولى 1405هـ  - 2 من فـــــــــــــبرايــــر 1985م


الفصل الأول :  في الدعوة

نعرض في هذا البحث للإخوان المسلمين ، وما يمثلون به الإسلام كدين ومنهج في السياسة والاقتصاد والاجتماع. وهم في هذا يفترقون عن جماعات شتى عملت للإسلام في مصر ولكن خلت مبادؤها من مناقشة القضايا السياسية أو الاهتمام بها ، رغم ما تؤكده من قيام الصلة بين الدين والدنيا .

كما افترقوا في ذلك عن غيرهم من العاملين في مجال الدعوة الإسلامية في الوطن الإسلامي رغم تعاصرها في النشأة ومن بينها جمعية العلماء الجزائريين المسلمين واقتصارها على النشاط الفكري والتأليف  والدعوة الوهابية التي بدت حركة دينية إصلاحية تدعو إلى تنقية معنى التوحيد من كل شوائب الشرك ظاهرة وخفية ومحاربتهم كل أنواع المنكرات وينبذون كل البدع التي رانت على قلوب المسلمين في العصور المتأخرة. بيد أن أخذ عليها أنها سعت إلى تحقيق أغراضها بالعنف واعتمدت على القوة العسكرية وحدها ولم تحاول أن تجتذب قلوب الناس ، ولم تعبأ بأصول السياسة فكان طابعها التعصب الذي لا تعترف معه بوجهة نظر الغير ولا تقبل معه مساومة ولا مفاوضة وتشددت في فهم معنى الدين فضيقت من معنى الأيمان. وقد كانت حركة محدودة آفاقها ، ركزت جهدها في ناحية خاصة من الدين ، وتركت كثيرا من الأصول والمسائل التي لا تقل عنها خطرا بل تفوقها أهمية.. لاشك أنها كانت دعوة اصلاح فقد أيقظت العقول الراكدة وحركت المشاعر الخامدة مثيلها في ذلك الحركات الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، وإذا آثرنا التعبير السياسي ، فإن هذه الحركة كانت ثورة على الاستبداد وصوت احتجاج على الضعف والانحلال الذي آلت إليه حال الأمة الإسلامية يومئذ. وهي في القرن التاسع عشر تقابل الثورة العربية في القرن العشرين ، غير أن الأولى كان طابعها دينيا والأخرى كان طابعها سياسيا ، لكن هذه الدعوة الوهابية قد قصرت عن أدراك طبيعة الإسلام كدين ودولة بعد توطيد آل سعود لحكمهم منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين. وقد مرت جماعة الإخوان المسلمين بمرحلتين :

أولاهما من تاريخ نشأتهم حتى قبيل الحرب العالمية الثانية ، وثانيهما من تاريخ المؤتمر الدوري الخامس حتى تاريخ الحل.

الطور الأول : ويبدأ من عام 1928 إلى قبيل الحرب العالمية الثانية

يرجع تاريخ نشأة الإخوان المسلمين إلى شهور ذي القعدة 1347هـ- مارس 1928 ، وقد أعقبت في ذلك جمعية الشبان المسيحية في نشأتها في يناير 1923 للقيام بالأغراض الدينية ، واقتصارها في القيام على الشئون الثقافية والرياضية والاجتماعية ، وعدم التعرض للمنازعات السياسية ، وهو ما نصبت عليه المادة الرابعة من القانون الأساسي لجمعية الشبان المسلمين «تعمل الجمعية على توثيق الصلات والروابط بين الشعوب الإسلامية ، وعلى الدفاع عن حقوقها مصالحها كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا ، ولا تتعرض الجمعية للمنازعات السياسية بأي حال».

ورغم ما قيل ن اتحاد جمعية الشبان وجماعة الإخوان في الغرض والهدف وظهورهما في كثير من القضايا الإسلامية كجماعة واحدة ، إذ أن غايتهما عامة مشتركة وهي العمل لما فيه إعزاز الإسلام وإسعاد المسلمين والعمل حتى تعلو كلمة الدنين وتنال البلاد الاستقلال ، إلا أنه تقع فروق بسيرة في أسلوب الدعوة وفي خطة العاملين القائمين بها وتوجيه جهودهم في كلتا الجماعتين.

في تلك الفترة من تاريخ جماعة الإخوان ، أخذ بنشر الفكرة العامة بين الناس ، وكان نظام الدعوة في هذا الطور نظام الجمعيات التي مهمتها الخير العام ووسيلتها الإرشاد والوعظ تارة ، وإقامة المنشآت تارة أخرى. وكان نشاطهم في تلك الفترة ينتظم هذه الأنواع.

وكانت تلك مرحلة التعريف ووسيلتها النشر والصحف والمطبوعات والمحاضرات وإصدار الرسائل والنشرات ، ومنها ما هو للإشارة إلى أعمال الإخوان الاجتماعية ، ومنها ما هو شرح لأهداف دعوتهم ، ومنها ما هو توجيه للحكومات إلى الأخذ بتعاليم الإسلام. وتلك الثلاث الأخيرة التي تستهدف التعريف بأعمالهم وأهدافهم وتوجيهاتهم لم تظهر إلا في فترة متأخرة من المرحلة الأولى.

كانت أولى هذه الرسائل «القائمين الأساسي للإخوان المسلمين» واللائحة الداخلية. ثم صدرت رسالة المرشد وظهر منها عددان فقط وكانت الرسالة الأولى بتاريخ 5 رمضان 1349هـ - 2 يناير 1931 ، والثانية في 20 شعبان 1351 الموافق 19 ديسمبر 1932 وقد تصدرت كلتاهما بتوجيه من مبادئ الإخوان المسلمين :

1- سلامة الاعتقاد والاجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى وفق الكتاب والسنة.

2- الحب في الله والاعتصام بالوحدة الإسلامية.

3- التأدب بآداب الإسلام الحنيف.

4- ترقية النفس والترقي بها إلى معرفة الله تعالى وإيثار الآخرة على الدنيا.

5- الثبات على المبدأ والوفاء بالعهد مع اعتقاد أن أقدس المبادئ هو الدين.

6- الاجتهاد في نشر الدعوة الإسلامية بين طبقات الأمة ابتغاء وجه الله.

7- حب الحق والخير أكثر من أي شيء في الوجود.

وقد رأوا أن رسائل المرشد لا تفي بنشر الدعوة وتضمن أخبارها على الوجه الذي يجب أن تصل به إلى الناس عامة فقرروا إصدار مجلة أسبوعية تسمى جريدة (الإخوان المسلمون) فظهر العدد الأول منها بتاريخ 22 صفر 1352 هجرية 24 يونيو 1933 وظلت تصدر حتى 12 رمضان 1357 - 4 نوفمبر 1938. وقد صدرت تحت عنوان جريدة أسبوعية إسلامية جامعة تصدرها جمعية الإخوان المسلمين بالقاهرة. وهي لسان حال جمعيات الإخوان المسلمين. وبينت منهاجها بأنها تخدم كل هيئة تعمل لرفعة الإسلام وإعادة مجده ، تقصي فضائل النبوة المحمدية ونشر مقاصدها ، والآداب المنقولة عنها والأحاديث الدالة على الأخلاق الفاضلة من الصدق والعفاف وحسن العشيرة الإحسان إلى الجار والقريب وكل كائن حتى الحيوان. وكان يرأس تحريرها المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ومديرها المرحوم محب الدين الخطيب أما المرحوم حسن البنا فكان يقوم على تحرير القسم الديني الذي كان يضم في بحوثه ما يتصل بعلوم الدين من تفسير وعقائد وفقه وأصول وتصوف وأخلاق ثم عظة منبرية.

وقد أسند إلى المرحوم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (والده) باب ترجمة للأعلام المشهورة في القسم التاريخي بالجريدة. وكان محدثا جليلا عكف على أمهات كتب السنة ورتب مسند الإمام أحمد بن حنبل ، وهو أجمع كتب الحديث على أبواب الفقه في عشرة مجلدات وأسماه (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني).

وتضمنت الجريدة كذلك قسما تعالج فيه الحوادث المشهورة في تاريخ الإسلام وما ترتب عليها من آثار ، وبابا يختص بدراسة العالم الإسلامي وكان يتناول مجمل أخباره وأخبار الجمعيات والأندية والمساجد والمجتمعات الإسلامية ، وقسمًا أدبيًا ، وقسمًا خاصا بروضة الأطفال والمرأة وقسما صحيا وقسما في الزراعة وقسما للطلبة ابتداء من العدد 19 الصادر في الخميس 5 شعبان 1352- 28 أبريل 1934.

وقد بدأ اهتمامها بشرح دعوة الإخوان ونظرتهم الوطنية والقومية في مقالات السنة الثانية والثالثة ثم أعقبتها جريدتان ، الأولى تحت عنوان (الخلود) وصدر عددها الأول في 24 شوال 1357- 16 ديسمبر 1938 ، وأبرزوا أنها صحيفة دينية سياسية جامعة وقد سجلت بها مقالات سبقت في جريدة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية غير أنه بدا الاهتمام فيها بالشؤون السياسية وقد أمهرت مقالاتها بتوقيع حادي الإبل .

أما الثانية الناطقة بلسانهم فكانت جريدة النذير وصدر العدد الأول منها في يوم الاثنين 29 ربيع الأول 1357 (مايو 1938) وقد ظهر منها واضحًا اتجاه الإخوان الوطني وابتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل والخارج ، ولقد استمرت النذير تصدر سنتين كاملتين تشرح فيها دعوة الإخوان وتنشر مذكراتهم إلى الحاكمين على اختلاف حكوماتهم. وتهاجم الفساد الاجتماعي في قوة ووضوح إلى أن صدرت ناطقة بلسان جماعة شباب محمد التي تكونت في 9 من ذي الحجة 1358- يناير 1940. وقد أنشق هذا الفريق عن جماعة الإخوان المسلمين ومن بينهم صاحب امتيازها. وكان لأحد إخوان المنزلة بالدقهلية مجلة تسمى (التعارف) مكثت زمنا تنطق بلسان جمعية التعارف الإسلامي ثم رأى صاحبها أن تنطق بلسان الإخوان وصدر منها بضعة أعداد انتهت بأن صادرتها الحكومة أثناء الحرب العالمية الثانية بعد أن ضغط على الإخوان وصودر نشاطهم العام. في هذا الطور ، انتشرت الشعب في القطر ونشرت في الخارج ويرجع بدء الدعوة في الإسماعيلية منذ عام 1928 عندما عين حسن البنا الذي ولد في 14 أكتوبر 1906 بالمحمودية- محافظة البحيرة مدرسا في إحدى مدارس المعارف بعد تخرجه من دار العلوم وإجازته لشهادتها ، ولقد لبث في تلك المدينة حتى عام 1932 ينشر فيها دعوته وكانت بدايتها كجمعية دينية غرضها تحقيق المقاصد التي جاء بها الدين وشرح دعوة القرآن الكريم وهي في هذه الفترة أخذت الطابع التعليمي للناس تعلمهم مناسك دينهم. فكانت دعوة عامة قوامها العلم والتربية والجهاد وهي أركان الدعوة الإسلامية. وحتى أقامته بالإسماعيلية أي حتى عام 1932كان لجمعية الإخوان المسلمين خمس عشرة شعبة وأصبحت دارهم في هذه الفترة مركزًا لقيادة الدعوة حتى نقل مؤسسها مدرسًا إلى القاهرة  وقد انتشرت الدعوة من بعد فيما يزيد على خمسين بلدًا من بلاد القطر المصري. وفي هذا الطور أخذت الدعوة في الاهتمام بالنواحي الاجتماعية ، وإقامة المشروعات. ففي الإسماعيلية أسست مسجد الإخوان وناديهم ومعهد حراء لتعليم البنين ومدرسة أمهات المؤمنين لتعليم البنات.

وفي شبراخيت أسس مسجدًا وناديًا ومعهدًا للبنين ودارا للصناعة يتعلم فيها الطلبة الذين لا يستطيعون إتمام التعليم ، كما افتتح مصنع نسيج وسجاد تابع لها ، وفي المحمودية قامت بمثل ذلك وفي المنزلة وغيرها .

وبدأ هذا الاهتمام بالأنشطة الاجتماعية والاقتصادية منذ اتخاذ القاهرة مركزًا للجمعية فبدأ اهتمام الإخوان بتأسيس مصانع في كل شعبة من شعبهم المنتشرة في أنحاء القطر من إدفو إلى الإسكندرية ، كما تأسست مطبعتهم وفقًا لما قرره مجلس الشورى العام. ولما كانت نظرتهم إلى الإخوة الإسلامية تجعل كل مسلم يعتقد أن كل شبر أرض فيه أخ يدين بدين القرآن الكريم قطعة من الأرض الإسلامية فكان من ذلك أن اتسع أفق الوطن الإسلامي لديهم. ورأوا أن الظروف مواتية لنشر الدعوة خارج مصر ، وكان ذلك مقررًا منذ الانعقاد الثالث لمجلس الشورى العام الذي عقد في عام 1352هـ- 1935 ، فأرسلوا الدعاة يخطبون في المساجد مبلغين الدعوة وموثقين الروابط وذلك باتصالهم بأقطار سوريا ولبنان وفلسطين.

وقد بدا اهتمامهم بالقضايا الوطنية والقومية مبكرًا ، وبمساهمتهم في الحركات الإسلامية كحركة مقاومة التبشير في القطر المصري التي كانت تقوم بها الإرساليات المسيحية في أوائل العقد الثالث من هذا القرن ، فدعوا إلى تشكيل لجنة مقاومة التبشير خاصة في مدينة الإسماعيلية التي انتشرت بها محاولات هذه الإرساليات لتنصير الفتيات في تلك الفترة

كما تناولوا الناحية الإصلاحية الاجتماعية بالبيان والتوجيه في الإصلاح الأزهري  ليقوم الأزهر بدوره واستخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية وتجديد الكتب الدينية بما يتناسب مع روح العصر ، وإصلاح الطرق الصوفية ، ووضع أصول وقواعد إسلامية للتوفيق بين الطوائف الإسلامية المختلفة ، وأنهم يرحبون بكل فكرة ترمي إلى توحيد جهود المسلمين في سائر بقاع الأرض وتأييد فكرة الجامعة الإسلامية كأثر من آثار اليقظة الشرقية .

كما تناولوا مناهج التعليم فدعوا إلى تقرير التعليم الديني كعادة أساسه في كل المدارس وفي الجامعة أيضًا ، ووضع سياسة ثابتة للتعليم تنهض به وترفع مستواه .

ودعوا إلى الاهتمام بالريف المصري وهاجموا سياسية الحكم تجاهه ، وهو الذي يعيش في فقر وبؤس وجهل وغفلة ، وفي القرية المصرية مرض وعاهات وفيها عادات سيئة وخرافات فاشية وكل ذلك في حاجة إلى الإصلاح الحاسم والعناية بشأنها وتنقية مياهها ووسائل الثقافة فيها وتشجيع الإرشاد الزراعي والاهتمام بترقية الفلاح من الناحية الاجتماعية .

وقد أولوا قضية الحزبية في مصر وتفرق الأمة شيعا بين الأحزاب اهتمامهم ، فدعوا إلى القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة في وجهة واحدة وصف واحد.

وكانوا يرون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعًا قد وجدت في ظروف خاصة ولد واع أكثرها شخصي ، وفي تلك الفترة بدأ اتضاح منهاج دعوتهم في شمولها وأنه ليس هناك فصل بين الدين والسياسة وأن الخطأ في نظرات الزعماء السياسيين الذين يفرقون بينهما 

وقد صاغوا هذه الفكرة في «عقيدتنا» التي تعتبر ميثاقا لكل أخ انضم إليهم وجعلت نصوصها كالآتي :

1- اعتقد أن الأمر كله لله وأن سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- خاتم رسله للناس كافة. وأن الجزاء حق ، وأن القرآن كتاب الله ، وأن الإسلام قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة. وأتعهد أن أرتب على نفسي حزبا من القرآن الكريم وأن أتمسك بالسنة المطهرة ، وأن أدرس السيرة النبوية وتاريخ الصحابة الكرام.

2- أعتقد أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام. وأتعهد بأن أكون مستقيما أؤدي العبادات وابتعد عن المنكرات ، فاضلا أتحلى بالأخلاق الحسنة. وأتخلى عن الأخلاق السيئة وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت ، وأوثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي ، فلا ألجأ إلى القضاء إلا مضطرا ، وأعتز بشعائر الإسلام ولغته ، وأعمل على بث العلوم والمعارف النافعة في طبقات الأمة.

3- أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب ، وأن في ماله الذي يكسبه حقا مفروضا للسائل والمحروم. وأتعهد بأن أعمل لكسب عيشي واقتصد لمستقبلي وأؤدي زكاة مالي وأخصص جزءًا من إيرادي لأعمال البر والخير ، وأشجع كل مشروع اقتصادي إسلامي نافع ، وأقد منتجات بلادي وبني ديني ووطني ولا أتعامل بالربا في شأن من شؤوني ، ولا أتورط في الكماليات فوق طاقتي.

4- اعتقد أن المسلم مسؤول عن أسرته وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها. وأتعهد بأن أعمل لذلك جهدي وأن أبث تعاليم الإسلام في أفراد أسرتي. ولا أدخل أبنائي أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم  ، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تناوئ تعاليم الإسلام.

5- أعتقد أن من واجب المسلم أحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه وأن راية الإسلام يجب أن تسود البشر ، وأن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام. وأتعهد بأن أجاهد في سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت ، وأضحي في سبيلها بكل ما أملك.

6- اعتقد أن المسلمين جميعا أمة واحدة تربطها العقيدة الإسلامية وأن الإسلام يأمر أبنائه بالإحسان إلى الناس جميعا. وأتعهد بأن أبذل جهدي في توثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين وإزالة الجفاء والاختلاف بين طوائفهم وفرقهم.

7- اعتقد أن السر في تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم ، وأن أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه ، وأن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون وأن فكرة الإخوان المسلمين تحقق هذه الغاية. وأتعهد بالثبات على مبادئها والإخلاص لكل من عمل لها ، وأن أظل جنديا في خدمتها أو أموت في سبيلها. وبذلك كرس هذا الميثاق غاية دعوتهم وهي الإسلامية وحدد نظرتهم الوطنية والقومية التي أصبحت أكثر شمولا في طورها الثاني ابتداء من المؤتمر الخامس المنعقد في عام 1939 والتي حدد بنودها القانون الأساسي بنصه في المادة الثانية «الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام الحنيف ومما يتصل بهذه الأغراض :

(أ) شرح دعوة القرآن الكريم شرحا دقيقا يوضحها ويردها إلى فطرتها وشمولها فيعرضها عرضا يوافق روح العصر ويرد عنها الأباطيل والشبهات.

(ب) جمع القلوب والنفوس على هذه المبادئ القرآنية وتجديد أثرها الكريم فيها وتقريب وجهات النظر بين الفرق الإسلامية المختلفة. (ج) تنمية الثروة القومية وحمايتها وتحريرها والعمل على رفع مستوى المعيشة.

(د) تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن والمساهمة في الخدمة الشعبية ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والخير.

(هـ) تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ومساعدة الأقليات الإسلامية في كل مكان وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية.

(و) قيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسها في الداخل وتبلغها في الخارج.

(ز) مناصرة التعاون العالمي مناصرة صادقة في ظل المثل العليا الفاضلة التي تصون الحريات وتحفظ الحقوق والمشاركة في بناء السلام والحضارة الإنسانية على أساس جديد من تآزر الإيمان والمادة كما كفلت ذلك نظم الإسلام الشاملة.

وهذا الميثاق «عقيدتنا» التي جعلت الأستاذ رينان أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بالسوربون يقول  «أن هذه الكلمات عميقة المبحث والمقصد وهي بلا شك مستمدة من نفس المنهج الذي رسمه محمد النبي ونجح في تنفيذه فأسس به دينا وأمة ودولة ، وقد زيد فيها بما يناسب روح العصر مع التقيد بروح الإسلام. وفي عقيدتي أنه لا نجاح للمسلمين اليوم إلا بإتباع نفس السبل التي سلكها محمد وصحبه غير أن تحقيق هذا على الحالة التي عليها المسلمون اليوم بعيد وليس معنى هذا القنوط أو القعود عن العمل».


الطور الثاني : من فترة انعقاد المؤتمر الخامس حتى الحل 

وتميزت جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الطور بخصيصتين أولاهما خاصية خاصية الشمول وثانيهما في تكوينها العضوي وهي قائمة على مبدأين :

المبدأ الأول : المركزية الديمقراطية وتمشل ما يلي :

1- انتخاب جميع هيئات الجماعة المركزية (المرشد العام ومكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية) وغير المركزية من القاعدة إلى القمة أي بشكل هرمي.

2- اللجنة التي تتولى الإدارة في كل هيئة مركزية أو غيرها (الشعب) يجب أن تقدم تقريرًا من أعمالها في أوقات دورية إلى تلك الهيئة.

المبدأ الثاني : الديمقراطية الداخلية :

ويقصد بها تبادل الرأي حول ما يهم الجماعة والنصائح والاقتراحات فيما يحقق أهدافها التي صاغتها المادة الثانية من القانون الأساسي.

الخصيصة الأولى: الشمول وهذه الخصيصة التي تميز دعوتهم واستخلصوها من الدين إذ أنهم فهموا تعاليم الإسلام أنها شاملة شؤون الناس في الدنيا والآخرة روحية فحسب. وكما سبق أن عرضنا أنه في الطور الأول اقتصرت الجماعة بالاهتمام بالنواحي الاجتماعية وتناولت ذلك مقالات في مجلة الإخوان ، كما عرضوا لفهمهم للإسلام بأنه ينتظم شؤون الحياة جميعا ووصفهم لدعوتهم أنها إسلامية بمفهومها العام منذ عام 1935 وقد عرضوا لمفهوم الإسلام فيما بعد بقولهم «إن الإسلام عقيدة وعبادة ، ووطن وجنسية ، ودين ودولة ، وروحانية وعمل ، ومصحف وسيف ، وخلقًا ومادة ، وثقافة وقانونا ، وسماحة وقوة .

وأوضحوا فكرتهم حسب المفهوم للإسلام شاملاً جميع نواحي الحياة الروحية والسياسية والثقافة والاقتصادية والاجتماعية منذ المؤتمر الخامس بمناسبة مرور عشر سنوات على نشأة الإخوان فذكر حسن البنا أنه «كان نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتفت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها ، ونستطيع أن نقول ولا حرج عليك إن الإخوان المسلمين :

1- دعوة سلفية لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينة الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.

2- وطريقة سنية لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

3- وحقيقة صوفية : لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة على العمل والأعراض عن الخلق والحب في الله والارتباط على الخير.

4- وهيئة سياسية : لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر إلى صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد.

5- وجماعة رياضية : لأنهم يعنون بجسومهم ، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : «إن لبدنك عليك حقًا» وأن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدي كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي ، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لا بد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزق ، ولأنهم تبعا لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيرًا من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها.

6- ورابطة علمية ثقافية : لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح

7- وشركة اقتصادية : لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه وهو الذي يقول نبيه -صلى الله عليه وسلم- «نعم المال الصالح للرجل الصالح ، ويقول «من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورًا له» ، «إن الله يحب المؤمن المحترف».

8- وفكرة اجتماعية : لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ، ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها. شمول هذا المعنى للإسلام قد أكسب جماعة الإخوان فكرًا متميزًا بانضمام بعض رجال الفكر إليها ، فالمرحوم الأستاذ حسن الهضيبي (1894- 1973) الذي تميز فكره بروح الاعتدال والاجتهاد قد أضفى على فكرة الجماعة تجديدًا اختلفت فيه عن غيرها من الجماعات التي عملت للإسلام وذلك منذ انتخابه مرشدًا عامًا في 19 أكتوبر 1951 ، وقد كان من بين الشخصيات التي اتصل فكرها بالإخوان منذ الثلاثينات حيث التقى بمرشدها الأول.

هذه العلاقة التي بدت منذ قديم نجد لها إثارة فيما نشرت مجلة الشهاب من صورته في العدد الثالث الصادر في يناير 1948 حيث نقرأ أنه ولد بشبين القناطر وحامل أجازته في القانون عام 1915 ، وقد شغل منصب القضاء حتى عام 1951 حين انتخب مرشدا عامًا وقد كان يشغل وقتئذ نائب رئيس محكمة النقض والإبرام ، أعلى سلطة قضائية في مصر حيث استقال ليتفرغ لما اختير له في وقت مرت فيه الجماعة بالمحن في بداية سني الخمسينات. وما كان يمثله فكر عبد القادر عودة وسيد قطب في المجال القانوني والاجتماعي دون الفصل بين النظرتين قد أعطى الجماعة أيديولوجية إصلاحية ذات بعد خالفت معها تنظيمات فكرية متصارعة على الساحة المصرية والإسلامية وما زال أثرها حتى الآن ، وقد بدأ اتصالهما بالإخوان منذ الأربعينات يدل على ذلك نشر مجلة الشهاب في عددها الثاني الصادر في ديسمبر 1947 صورة عبد القادر عودة حيث نقرأ أنه قد ولد عام 1906 ونال أجازته في القانون عام 1928 (حيث كان زميل دراسة لرئيس الجمهورية المصرية الأسبق محمد نجيب بكلية الحقوق). وقد كتب عدة مقالات في التشريع الإسلامي على صفحات المجلة وهو صاحب مؤلفات مشهورة ، مارس القضاء حتى عام 1950 حيث استقال ليتفرغ لما انتخب له وكيلا عاما لجماعة الإخوان المسلمين. والفكر الاجتماعي والعقائدي للجماعة قد زاد أثراء بلا ريب في مختلف مجالاته بانضمام سيد قطب الذي ولد عام 1906 بقرية موشا بمحافظة أسيوط وتابع دراسته العليا بدار العلوم حيث تخرج عام 1933 وعمل مراقبا عاما بوزارة المعارف.

وهو صاحب عدة مؤلفات متميزة بدأها بكتابه مهمة الشاعر في الحياة  الذي صدر بكلمة أستاذه الدكتور مهدي علام أستاذ الأدب وعضو مجمع اللغة العربية حيث اعتبره أحدى مفاخر دار العلوم. واشتغل سيد قطب بالنقد الأدبي وكان يعد من مدرسة عباس محمود العقاد الأدبية كما عمل بالصحافة حيث رأس تحرير مجلة الفكر الجديد والسوادي عام 1947 والاشتراكية وتلك جميعا كانت محل مصادرة لما كان يتناوله من موضوعات سياسية تهاجم الأوضاع القائمة حينئذ خاصة الاجتماعية وقد أبعد على أثرها من الحياة السياسية في مصر بحجة منحة تربوية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1949- 1950 وكان السبب الأصيل هو توجيه الاتهام إليه بالعيب في الذات الملكية. بيد أن اتصاله بجماعة الإخوان قد بدأ حيث نشر مقالات أدبية تنقد كتاب المرحوم الدكتور طه حسين مستقبل الثقافة في مصر على صفحات مجلة «الإخوان المسلمون» في يوليو 1939 ، لكن بدء اتصاله الفكري بهم عام 1946 حين رغب إليه حسن البنا وضع كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام».

ولما كان اتصال عبد القادر عودة وسيد قطب سابقًا فقد عدا من أعضائها وانتخبا لذلك عضوين بمكتب الإرشاد العام.

والملاحظ لهذا الوصف الذي قدمه الإخوان لجماعتهم ، انفرادهم بهذا المفهوم الواسع كما جاء به الإسلام عن غيرهم من الجماعات التي سبقت في تاريخ الإسلام ، فقد ظهرت حكات روحية وإصلاحية وسياسية في أعقاب عصر الخلفاء الراشدين وحتى أوائل القرن العشرين ، وكان كل منهما تذهب مذهبا يغاير الآخر ، أما الحركة الشاملة لهذه الحركات جميعا فهي هذه الجماعة. وصحيح أنهم لم ينفردوا في فهم الإسلام أنه دين ودولة فقد سبقهم إلى ذلك في العصر الحديث الوهابيون والأتراك أثناء الخلافة العثمانية.

إلا أن الملاحظ قصور الأول عن إدراك مفهوم الدين والدولة كما سبق البيان ، وفهم الآخرين للإسلام بأنه رابطة سياسية وذلك أثناء حكمهم للبلاد التابعة للدولة العثمانية.

ويمكن القول أنه بمراجعة المادة الثانية بفقراتها السبع يجعلون مبادئهم خمسة :

المبدأ الأول : علمي

وهو ما تنص عليه الفقرة الأولى (أ) من المادة الثانية «شرح دعوة القرآن الكريم شرحا دقيقا يوضحها ويردها إلى فطرتها وشمولها فيعرضها عرضا يوافق روح العصر ويرد عنها الأباطيل والشبهات».

وقد رأينا أنه في الطور الأول من تأسيس الجماعة وهو طور التعريف ، شرحوا حقيقة الدعوة الإسلامية بأنها فضلا عن الإيمان بنبوة كل من سبقوا محمدًا من الأنبياء ، والرجوع إلى المعاني الروحية التي جاء بها الرسل والأنبياء فإنها دين ودولة ، ومصحف وسيف ، وعقيدة لا طقوس وأعياد ، وأتباع ما نصت عليه الشرائع السماوية وبالتزام أوامرها واجتناب نواهيها والعمل في أن تكون قواعد الإسلام هي الأساس والأصول التي تبني عليها نهضة الشرق في كل شأن من شؤون الحياة ، ومنها الحياة المثالية كالتعاون المادي في شتى مظاهره. وقد رأوا أن الأسباب التي دعت الأمم الشرقية إلى الانحراف عن الإسلام واختيار تقليد الغرب دراسة قادتها النهضة الغربية ، واقتناعهم أنها لم تقم إلا بتحطيم الدين والقضاء على كل مظاهر السلطة الدينية في الأمة وفصل الدين عن سياسة الدولة العامة فصلا تامًا. وذلك أن صح في الأمم الغربية فلا يصح في الأمم الإسلامية لمخالفة طبيعة التعاليم الإسلامية غيرها لدين آخر .

ولعل الذي قصر بالمسلمين عن ركب الحياة المتحضران عنايتهم بعلل المجتمع وأمراضه كانت دون عنايتهم برزقه وثروته ومختلف شؤون حياته. ولقد كان ولا يزال بيننا نفر يعتقدون أننا لن نحترم إرادتنا وتكون لنا مكانتنا اللائقة بنا إلا إذا كانت لنا مظاهر تسابق حياة الأمم الأخرى أو تجعلها صنوا لها ، وفات هؤلاء أن الترف من ثمار الحضارة لا من مقوماتها ، وأن هذه الأمم التي نعجب اليوم بعملها وفنها وقوتها لم تهمل في أوائل نهضتها أمراضها الاجتماعية كما نهملها نحن اليوم في مستهل نهضتنا ولم تقع في الغفلة التي وقعنا فيها.. أن الأمة مجموعة متماسكة من الأفراد وكلما كان الفرد سليما كان بناء الأمة سليما..

وكلما كانت أخلاق الأمة قوية نقية كانت اتجاهاتها سليمة وهدفها مستقيما. ولعل الإسلام هو أوفى الأديان والشرائع عناية بتوازن القوى المختلفة في المجتمع وبناء الأمم بناء متراصًا لا وهن فيه ولا ثغرة ولا اختلاف. فهو يعني تنظيم حياة الناس العادة كما تعني بذلك المذاهب الاقتصادية ، ويهتم بتقويم الأخلاق الاجتماعية كأقوى ما تهتم بذلك الدعوات الأخلاقية ويبالغ في تطهير الروح وتهذيب النفس أشد مما تبالغ في ذلك الأديان الروحية ، وهو يربط بين هذه بعضها مع بعض. وما من شك في أن ما نعانيه في حياتنا الحاضرة أمراضا اجتماعية خطيرة لن تستقيم معها نهضة ولن يطرد بها سير ، وهي مختلفة المظاهر في الفرد والمجتمع. ولعل نقطة البدائة في علاج هذه الأمراض الاجتماعية يجب أن تكون من الفرد فهو الخلية الأولى في بناء المجتمع والدعوات الصالحة تبدأ طريقها من الفرد. وهذا هو السبيل الذي حدده الإخوان حيث كتب حسن البنا أن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل وواضح الخطوات ، فنحن نعلم تماما ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة.

  • نريد أولا الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته ، وفي خلقه وعاطفته ، وفي عمله وتصرفه فهذا هو تكويننا الفردي.

ونريد بعد ذلك البيت المسلم في ذلك كله ونحن لهذا نعني بالمرأة عنايتنا بالرجل ، ونعني بالطفولة عنايتنا بالشباب وهذا هو تكويننا الأسري. ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله أيضا ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت ، وأن يسمع صوتنا في كل مكان ، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار ، لا نألو في ذك جهدًا ولا نترك وسيلة. ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التي تقود هذا الشعب إلى المسجد.

وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله أبو بكر وعمر من قبل ، ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستعد منه ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها ، وسنعمل على أحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام .

وهم يعتقدون بذلك أن التعاليم الإسلامية ومعينها كتاب الله وسنة رسوله اللذين أن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا وأن كثيرًا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها ولذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي وأن يفهم الإسلام كما فهمه الصحابة والتابعون ويقفون عند الحدود الربانية والنبوية والإسلام دين البشرية جمعاء فهم يريدون العودة إلى المنابع الأصلية وحدها ، ولذلك كان وصفهم بأنهم دعوة سلفية وطريقة سنية. وكانت غايتهم من شرح دعوة القرآن جمع القلوب والنفوس على هذه المبادئ القرآنية وتجديد أثرها الكريم فيها ، وتقريب وجهات النظر بين الفرق الإسلامية المختلفة  ، فحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير المسلم به مسلما. فهم يريدون بذلك التوجه إلى المصادر الأصلية والابتعاد عن مواطن الخلاف في الفرعيات لأن الخلاف فيها أمر ضروري ، وأن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل بل هو يتنافى مع طبيعة هذا الدين ، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان ، وهو لهذا سهل مرن هين لين لا جمود فيه ولا تشديد. وكان سبيلهم في ذلك الاهتمام بتكوين الأعضاء المنضمين بالتربية وطبعهم على هذه المبادئ حتى يتكون رأي عام إسلامي موحد وينشأ جيل جديد يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ويعمل بأحكامه ويوجه النهضة إليه .

فوضعت رسالة التعاليم عام 1943 ليوحد بها فهم الإخوان وقد حدد فيها أركان البيعة وهي «الفهم ، والإخلاص ، والعمل ، والجهاد ، والتضحية ، والطاعة ، والثبات ، والتجرد ، والأخوة ، والثقة». وقد استغرق هذا المنهج التربوي الطور الأول من نشأته وهي مرحلة التعريف واستغرق أيضا نشاط الجماعة عدة سنوات وكان سبيلهم لتحقيق أهدافهم أيضا إرسال الرسائل الخاصة إلى رؤساء الوزارات يبسطون فيها دعوتهم وحال الأمة وما تعانيه من جهل ورذيلة وفقر وضعف خلقي في وقت تنهض فيه الأمم وتتوثب والعالم يجد ويعمل والدواء في تعاليم الإسلام وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

المبدأ الثاني : اجتماعي 

وهو ما نصت عليه الفقرة (ج) من المادة الثانية «من تنمية الثروة القومية وحمايتها وتحريرها والعمل على رفع مستوى المعيشة» وذلك لأن الأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى تنظيم شؤون الاقتصادية ولم يغفل الإسلام هذه الناحية بل وضع كلياتها. كذلك ما نصت عليه الفقرة (د) من تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن والمساهمة في الخدمة الشعبية ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والخير».

وقد رأينا اهتمامهم في المرحلة الأولى بإقامة المشروعات إلى جانب الشعب التي زاد انتشارها منذ اتخاذ القاهرة مقرًا للدعوة عام 1933 ، فأقامت مصانع للنسيج والسجاد في شبراخيت والمحمودية إلى جوار المؤسسات الثقافية والتعليمية. واتجهوا إلى تأسيس الشركات فأسست شركة المعاملات الإسلامية برأسمال قدره 30 ألف جنيه والغرض من إنشائها جميع عمليات استغلال المال بما أجازته الشريعة الإسلامية سواء كان هذا الاستغلال بطريق الإنتاج أم بطريق المبادلات التجارية من بيع وشراء وإيجار أو مقاولات. وكان اهتمامهم الصناعي الأول بالنسيج وأن كانت المصانع التي أقاموها لم يكن لها من الشهرة في بداية نشأتها غير أنها أثبتت كفاءتها حين عرضت الشعبة الاقتصادية إنتاجها من منسوجات وحرير في المعرض الزراعي والصناعي لسنة 1936 .

وقد تنوع إنتاج هذه الشعبة حسب وجود الشعب في الأقاليم المختلفة بما يقف الأعضاء على شؤون أقاليمهم الخاصة ومظاهر نشاطها الاقتصادي ويزيد من قدرتهم على استغلالها ويذلل لهم سبلا جديدة للانتفاع بخصائصها ومميزاتها الإنتاجية .

ثم أسسوا شركة الإخوان للغزل والنسيج يقصدون منها تحرير الاقتصاد القومي ورفع مستوى العامل -وشركة التجارة والأشغال الهندسية بالإسكندرية وعدد أسهمها 3500 برأسمال قدره 14 ألف جنيه وشركة المطبعة الإسلامية برأسمال قدره 70 ألف جنيه تحت اسم دار الإخوان للطباعة والصحافة ، والجريدة اليومية برأسمال قدره 50 ألف جنيه وقد تأسست شركة المطبعة الإسلامية والجريدة اليومية عام 1946 واعتبروه ثاني مشروعاتهم الضخمة. وصدرت جريدتهم اليومية في 5 مارس 1946 وراجت رواجا كبيرا في مصر والبلاد العربية لاهتمامها بالقضايا الوطنية والعربية القومية ، ولم تقف عن الصدور إلا في سنة 1948 بصدور الأمر العسكري في 8 ديسمبر 1948 بحل الجماعة ، ولكنها تعرضت للمصادرة ومراقبة الحكومة أبان المفاوضات المصرية البريطانية وأثناء أحداث فلسطين عام 1948 ثم صدرت لهم جريدة أسبوعية بعد إلغاء الأمر العسكري القاضي بحل الجماعة من قبل قضاء مجلس الدولة وصدر العدد الأول في 20 مايو 1954 وقد صدر منها أثناء عشر عددا توقفت بعدها حيث كانت تمر الجماعة وقتئذ بمحنتها ، كما تعرضت تلك أيضا للرقابة كغيرها من الصحف المصرية في بداية الخمسينات ومع أزمة الديمقراطية في مصر. وقد عملت شركة المعاملات الإسلامية لتشجيع المدخرات وفقا لنظام الودائع ومما يتفق مع روح الإسلام من التعاون والتكافل ، فتقوم الشركة بصرف الوديعة وقدرها أربعة جنيهات ثلاثة أرباع ربح السهم ، أما في حالة الخسارة فتتحمل ثلاثة أرباع الخسارة ، ووزعت الشركة عن عام 1946 أرباحا قدرها 6%  ، كما تألفت شركة لاستغلال المحاجر والمناجم برأسمال قدره 60 ألف جنيه لاستغلال محاجر الرخام التي كشفت عنها الأبحاث التي قامت بها شركة المعاملات ويعتبر بعضها علميًا وفريدا وقد أصدرت مصلحة المناجم للشركة تصريحا باستغلال هذه المحاجر. وتأسست شركة التوكيلات التجارية التي شعلت التجارة والنقل والإعلان وتعددت فروعها حيث قدمت مشروعات اقتصادية تعاونية تكفل السلع الاستهلاكية وأنشئت شركة الإعلانات العربية عام 1947 وكانت أعمالها تشمل النشر بالصحف ، والدعاية بالسينما وعمل الرسوم الفنية وتصميم لافتات وأغلفة المجلات .

وقد لاقت شركاتهم وعددها سبع نجاحا كبيرا ، وكان القصد منها فضلا عن المساهمة في تحرير الاقتصاد القومي أحياء أسس التكافل الإسلامي إذ كانوا يشركون العمال في رأسمالها ويحثونهم على الاشتراك ي أسهم الشركات التي يعملون فيها بمبالغ يسيرة فكانت بذلك ادخارا للطبقات الشعبية. وفي مجال الزراعة أولوها عناية فتكونت لهم مزارع أخذوا فيها بأسباب الفن الزراعي الحديث من استخدام آلات الميكنة الزراعية وقد ذكر أنه شوهد في مزرعتهم من الآلات ما لم ير مثلها ، وكانت لهم مزرعة أقيمت على أرض استصلحوها بأسوان على مساحة 800 فدان.

ولتنمية الثروة القومية وحمايتها وتحريرها والعمل على رفع مستوى المعيشة كما نصت عليه الفقرة ج من المادة الثانية من القانون الأساسي يلاحظ أنهم نادوا :

1- أن تمنع الدولة تملك الأجانب للعقارات .

2- أن من الأصول التي يقوم عليها دعائم النظام الاقتصادي الإسلامي الاهتمام الكامل بتمصير الشركات وإحلال رؤوس الأموال الوطنية محل رؤوس الأموال الأجنبية وتخليص المرافق العامة من يد غير أبنائها فلا يصبح أن تكون الأرض والبناء والنقل والماء والنور والمواصلات الداخلية ، والنقل الخارجي حتى الملح والصودا وامتياز شركة قنال السويس.. في يد شركات أجنبية تبلغ رؤوس أموالها وأرباحها الملايين من الجنيهات ، لا يصيب الجمهور الوطني ولا العامل الوطني منها إلا البؤس والشقاء والحرمان. ويجب ألا تكون في أيدي أفراد أو شركات ، ويجب أن تخضع الثروات العامة كالمعادن لتشريع يصون مصلحة الأمة .

وهي أصول لما كرسه حسن البنا حيث كتب أن الأجانب الذين احتلوا هذا الوطن بغفلة من أهله ، وتساهل من حكامه ، وظلم من غاضبيه ، أسعد حالات من أهله وبنيه ، وأنهم قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه شركات أو أفرادا ، فالصناعة والتجارة ، والمنافع العامة ، والمرافق الرئيسية ، كلها بيد هؤلاء الأجانب حقيقة ، أو الأجانب الذين اتخذوا من الجنسية المصرية شعارًا وما زالوا يحنون بعد إلى أوطانهم ويؤثرونها بأكبر أرباحهم.. وأن كثيرا من هؤلاء الأجانب مازال ينظر إلى المواطن المصري ، والعامل المصري ، والحاكم المصري نظرة لا تقدير فيها ولا إنصاف .

3- منع كل ما يؤدي إلى الاحتكار وتضخم الثروات عن غير طريق الجهد الشخصي والعمل المفيد المشروع كاحتكار صناعة السكر وصناعة المواد الكحولية واحتكار صناعة الأسمنت لأنها وسيلة تحكم في السعر والتحكم في العامل ، ووسيلة لتضخيم الثروة بطريقة جائرة لا تحقق تكافؤ الفرص للجميع وشأناه كالمرافق العامة يجب أن تبقى ملكًا للشعب .

4- للدولة عند الحاجة الماسة أن تتدخل في الثروات العامة والخاصة والمرافق الكبرى بما تقتضيه مصلحة الأمة العليا على أن لا يقضي ذلك على الملكية الفردية والتنافس الاقتصادي  ، فكل ما يؤدي إلى جلب مصلحة عامة أو دفع ضرر عام فهو واجب على السلطان ، فتطبيقا لذلك يجب على الدولة :

(أ) سحب الأموال الفائضة من أيدي أصحاب رؤوس الأموال المتضخمة.

(ب) منع الفقر بتوفير العمل لكل قادر والتأمين الاجتماعي لكل عاجز  ، هذا ما نادوا به وقد ارتبط المبدأ الاقتصادي بأهداف اجتماعية. وذهبت صحف معارضة لهم «أن في دعوة الإخوان نزعة شيوعية لأن أربعة من أعضائها قد تضمنت خطبهم ما بحث الفلاحين على المطالبة بملكية الأرض ، وأن الإخوان والشيوعيين يشتركون في الإخلال بالنظام .

ولكن دعوتهم- كما رأينا- كانت استلهاما من مبادئ الإسلام التي قامت على التعاون والتكافل بما تفرضه طبيعة الاجتماع ولكن المتخمين بالثروة يأبون أن يردوا على الفقراء والمساكين بعض حقهم الذي يوجبه الدين ، والقوانين عاجزة عن معالجة هذه الحالة لأنها لا توجد ولا وتنفذ إلا إذا رضي بها السادة الأغنياء.

وأن في مصر ماليين يكدسون الأموال عقارات ومنقولات ومشروعات صناعية ويستخدمون عمالا يكدحون ويشقون بأجور تافهة لا تقوم باللقمة الجافة والكساء الذي لا يستر العورة ، وليس في مصر قانون يلزم أصحاب الأموال أن يشركوا في أرباحهم العمال كما يقضي بذلك الإسلام ، وصاحب المال يكدس خزائنه ذهبا وفضة ، والعامل يكدس في قلبه غضبا وحقدا ينمو ويزيد كل يوم .

والأهداف الاجتماعية مرتبطة بما يتخذ من أصول اقتصادية فهدفها كما نصت عليه الفقرة د من المادة الثانية : «تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن والمساهمة في الخدمة الشعبية ، ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والتأمين واخلير «فنادوا في شأن تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي : 1- أن تؤخذ الزكاة وتنظم ليستعان بها في القضاء على الفقر والأمراض الاجتماعية ، وليس ما يمنع أن تفرض في كل ما يسمى مالا أو كسبا ، وكل ما يغل غلة ولو لم يكن من الأنواع التي فرضت فيها الزكاة على عهد النبي ، وكذلك يجوز التصرف في مصارف الزكاة -قياسا على تصرف عمر في شأن منع المؤلفة قلوبهم- فلا يعطي نقدا أو عينا لمن يصرف لهم بل تؤسس لهم به مصانع أو تشتري لهم به حصص في ممتلكات أو مؤسسات ليصبح مورد رزق دائم لهم ، ويجب على الدولة توفير المأكل والملبس والمسكن والدواء والعلاج والعلم لكل فرد من أفراد الشعب  ومن حق كل وليد أن يجد الكفاية الغذائية والرعاية التربوية ما يجده كل وليد آخر في الدولة لأن الجميع يجب أن تتاح لهم الفرص متكافئة .

2- إعادة النظر في نظام الملكيات بتحديد الملكية وتعويض أصحاب الملكيات الكبيرة وتشجيع الملكيات الصغيرة حتى يشعر الفقراء المعدمون بأن قد أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره وتوزيع أملاك الحكومة عليهم وقرروا أن يكون للفلاح حد أدنى للملكية وحق للحصول على سكن صالح وتأمين الصحة .

3- تنظيم الضرائب وفرضها تصاعديا بحسب المال لا بحسب الربح ويعفى منها الفقراء وتجبي من الأغنياء الموسرين وتنفق في رفع مستوى المعيشة

4- تيسير العمل لكل فرد وتأمين الأجر الذي يتناسب والكفاية بمطالب الطعام واللباس ، وأن يراعى الحد الأدنى للأجور وهو مراعاة مستوى المعيشة في البيئة وتحديد أوقات العمل ومنع استخدام الأحداث وتحريم تشغيل النساء إلا فيما يتفق مع طبيعتهن ووظيفتهن الاجتماعية .

أما مساهمتهم في الخدمة الشعبية ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والخير النافعة ، فقد بدء الاهتمام بها في الطور الأول وهو مرحلة التعريف بالدعوة حين أنشأوا المؤسسات العلمية والاجتماعية كالمساجد ودور التعليم كدار حراء ومدرسة أمهات المؤمنين. وقد توسع هذا الاهتمام فيما بعد فألفوا اللجان لتنظيم أعمال البر وأنشأوا أقساما مستقلة طبقا للوائح خاصة تتفق مع القانون رقم 49 لسنة 1945 .

والتفتوا إلى الناحية الصحية ، فأقبلوا على إنشاء المستشفيات والمستوصفات في مختلف المدن لعلاج المرضى من مختلف الأديان فبدأ القسم الطبي بإنشاء مستوصف في 15 نوفمبر 1944 وأعقبته مستوصفات أخرى في غير القاهرة. وبعد مباشرة نشاطهم عام 1951 أمكن حصر 17 مستوصفا في القاهرة وحدها يلحق ببعضها صيدلية ومستشفى داخلية كذلك كان إنشاء المنشآت العلاجية في غيرها من محافظات مصر وأكثروا من المجموعات الصحية بشعب الريف المصري لسد الحاجة في بيئات الفلاحين. وفي مجال التعليم أنشأوا لجنة للعناية بالثقافة تابعة للجنة التربية وألفوا لجنة لإنشاء مدارس ابتدائية وثانوية وفنية تكون ذات طابع خاص تتميز به على سائر المدارس الحرة ، وقد حققوا من ذلك:

أولا : فتح عدد من المدارس لمحو الأمية وتنمية الثقافة الدينية وقد ذكر أن عدد إحدى هذه المدارس بلغ مائة عامل

ثانيا : مكاتب لتحفيظ القرآن نهارًا ومدارس ليلية لتعليم العمال والفلاحين.

ثالثًا : شعب لتعليم الأولاد الذين حرموا من التعليم لاشتغالهم بالصناعات ودور للصناعة ملحقة بالمعاهد يتعلم فيها الذين لا يستطيعون إتمام التعليم .

وكانت هذه المدارس تقوم إلى جانب الشعب بحيث لم تكن تخلو من مؤسسات تعليمية ، وحين وضعت الحكومة منهاجا لمكافحة الأمية طلبت وزارة المعارف سنة 1946 إليهم أن يساعدوها في تنفيذ خطتها .

وأولوا عنايتهم إلى تربية الأطفال فأنشئت رياض الأطفال ومدارس الجمعة وقد بلغت هذه المعاهد والمدارس في القاهرة وحدها 11 معهدا ليليا ، ومدرستين لمحو الأمية ، 7 رياض أطفال ، 10 مدارس جمعة ومدرسة للدراسات التجارية. ولم تخل محافظات القطر الأخرى من هذا النشاط التعليمي. وقد دعوا إلى سياسة ثابتة للتعليم تنهض بمستواه وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة ، ذلك لأن التعليم في مصر يسير على لونين من ألوان التربية ، فهناك التعليم الديني الذي ينتهي إلى الأزهر وهناك التعليم المدني يتميز كل منهما بخواصه ومميزاته وهل لذلك من سبب سوى أن السلسلة الأولى أثر الإسلام الباقي في نفوس هذه الأمة ، وأن السلسلة الثانية هي نتاج مجاراة الغرب والأخذ عنه. فما الذي يمنع من توحيد التعليم على أساس التربية القومية ثم يكون بعد ذلك التخصص .

والاهتمام بالتربية الوطنية والتاريخ الوطني وتاريخ حضارة الإسلام ، كما دعوا إلى تقرير التعليم الديني مادة أساسية في كل المدارس على اختلاف أنواعها وفي الجامعة أيضا وإعادة النظر في مناهج تعليم البنات كما طالبوا بوجوب إصلاح المعلم الذي هو نصف المدرسة .

وأولوا الإصلاح التربوي والخلقي اهتمامهم ودعوا أن تعمل الحكومة على تحريم ما حرمه الله وإلغاء مظاهر الحياة التي تخالف ذلك بما نادى به حسن البنا في مقالاته إلى الأمة الناهضة «المنشور عام 1933- 1934 من القضاء على البغاء بنوعيه السري والعلني والقضاء على القمار بكل أنواعه من ألعاب ويانصيب ومسابقات وأندية وما أكده حسن الهضيبي في بيان الإخوان غداة قيام ثورة 23 يوليو 1952 .


المبدأ الثالث : وطني قومي

وهو ما نصت عليه الفقرة هـ من المادة الثانية «تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي في كل مكان وتأييد الوحدة العربية والسيرالي الجامعة الإسلامية».

ويبدو أن صياغتهم هذا المبدأ على تلك الصورة من الجمع بين تحرير وادي النيل وامتداده إلى الأقطار الإسلامية وموقفهم من الوحدة تعبير عن نظرتهم إلى طبيعة دعوتهم ، فالوطن كما كتب حسن البنا في مقالاته «إلى الأمة الناهضة» يشمل القطر الخاص أولا ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار. وأردف هذه النظرة في غير مناسبة حيث ذكر أن المصرية لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها من الكفاح والنضال. أننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها ونشأنا عليها ومصر بلد مؤمن تلقي الإسلام تلقيا كريمًا وزاد عنه.. وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟

وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع. وكيف يقال أن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعوا إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام أننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة ، وأنها جزء من الوطن العربي العام ، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام «فهم لا يؤمنون بالقومية إذا أريد بها إحياء عادات جاهلية درست وإقامة ذكريات بائدة خلت ، لذلك فإنهم لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها ولا يقولون فرعونية وعربية وفينيبقية وسورية وما فيها من الاعتزاز بالجنس : ولكن ليس يضير من أن نعني بتاريخ مصر القديم وبما ترك قدماء المصريين من آثار الحضارة والعمران وبما سبقوا إليه الناس من المعارف والعلوم والفنون ، فنحن نرحب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه عزة وفيه علم ومعرفة. ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملي يراد به صبغ مصر به ودعوتها إليه بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام (وهو ي ذلك يشير إلى ما كتبه المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل في جريدة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين من الدعوة إلى الفرعونية). فتلك أولى حلقات السلسلة ، والثانية هي العروبة «فلها في دعوتنا كذلك مكانها البارز وحظها الوافر ، فالعرب هم أمة الإسلام الأولى ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها وأن كل شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا ، فهذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدًا معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد وهدف واحد ، وجعلت من مكان هذه الأقطار جميعا أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعوبيون». وهم لا يؤمنون بالعروبة كقومية يراد بها الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى.

فالعربية (أو العروبة) ليست كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأحدكم من أب ولا أم ، وإنما هي اللسان ، فمن تكلم بالعربية فهو عربي» «وبذلك نعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش على المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة ويوحد بينهما اللسان ، وتؤلفها بعد ذلك هذه الوضعية المتناسقة في رقعة من الأرض واحدة متصلة متشابهة لا يحول بين أجزائها حائل ، ولا يفرق بين حدودها فارق ، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله».

وهم يرون هذه الحلقة هي وسطى السلسلة التي تسمو فتجعل العقيدة الإسلامية توجب على كل مسلم قوى أن يعتبر نفسه حاميًا لكل من تشربت نفسه بتعاليم القرآن فلا يجوز في عرف الإسلام أن يكون العامل العنصري أقوى في الرابطة من العامل الإيماني».

ونظرتهم إلى إطار هذه الدعوة يغلب ما نجده في أمة العرب والإسلام وقد أمعت وذهبت ريحها ، وشعوبها بعضها تارة معش رق وطورا مع غرب وأخرى قد انحازت إلى يمين وثالثة إلى يسار وما تدري لها سعة في دنيا المبادئ ثابتة.. والأخطار التي تحوط بها تترى وهي منذ قديم ينفخ فيها كل من الشرق والغرب ونحن غفل عنها بإذكائهما للانفصالية والعنصرية البغيضة والناس ينسون أنهم عرب تجمعهم رابطة لسان أو مسلمون تصلهم وشيجة عقيدة. فانظر إلى بلاد المغرب سواء ما اصطلح عليه قديما المغرب الأقصى أو المغرب الأوسط (الجزائر) تجد أذكاء لروح التعصب الذميم ، فهؤلاء عرب وأولئك بربر أو هؤلاء عرب وأولئك قبائل وما يدرون أنهم جميعا مغاربة أو جزائريون جمع بينهم تراب وطن أو أنهم جميعا مسلمون ، وينسون أنها السياسة الاستعمارية منذ قديم والتي سعت للتفرقة بينهم إذ رأت في وحدتهم والإسلام يجمعهم خطرا عليها».

ودرس آخر في انقسام الباكستاني إلى دولتين متمايزتين بعد إذكاء العصبية الممقوتة والإقليمية الضيقة ، فهذا بنغالي وذاك بنجابي ، والقوى الكبرى التي تحيك خيوط المؤامرة توقد في المرجل فإذا وقعت الواقعة كانت المذابح التي انتهكت فيها الأعراض ولم تنته بعد فصولها الدامية فتارة أخرى تثار الانفصالية فيما بقي من الباكستان لقبائل البلوخستان والتي يشد من أزرها قوى لتحقيق أهداف إستراتيجية منذ بعيد وينسى الجميع أنهم مسلمون. وهذه إيران تنفخ القوى الكبرى في مرجل الشعوبية والانفصالية لتذهب بقوتها فهؤلاء أكراد يسعون لانفصال وأولئك تركمان وآخرون من عربستان وينسى الجميع أنهم إيرانيون تجمعهم وشيجة عقيدة. ودروس من هنا وهناك والمسلمون في غفلة عما يراد بهم وهي سياسة مرسومة منذ عهود ولكن أمة العرب والإسلام لا تدرك دروس التاريخ وإذا أدركتها لا تعيها لأمية متفشية بينها وأمية ذوي السلطان فيها. وقد كاد النزاع في العالم القديم يفرغ بين القوى الكبرى على الوحدات السياسية خارج العالم الإسلامي وستبقى أرضنا ميدان صراع يساعد على هذا وضعها الجغرافي وامتدادها كالمعبر الضخم بين المحيطين الأطلسي والهادي والبترول الكامن في أرضها ، وملايين البشر الذين يضطربون فوقها والعقيدة القوية التي يعتنقها أهلها ، ولا نكون مغالين إذا قلنا أن مستقبل السلام مرتبط بالإسلام ، وإن عقيدتنا هي التي تملك -وحدها-مقومات البقاء الحقيقي لو وجدت أمة تفقه وتعي  نظرة الإخوان الوطنية تناولت نظرتهم الوطنية للقطر الخاص أوضاعه الاجتماعية والأخرى السياسية وقد عرضنا للأولى في المبدأ الاجتماعي أما الأخيرة فقد ظلوا يشيرون إلى إحياء نظام الحكم الإسلامي وتوحيد جهود الأمة وهو ما دعاهم إلى المطالبة بإلغاء الأحزاب السياسية ، إذ يرون أن هذه الأحزاب وجدت في ظروف خاصة ولد واع أكثرها شخصي لا مصلحي ويعتقدون أن النظام النيابي في غنى عن نظام الأحزاب وكان من رأيهم أن يقوم نظام تجتمع به جهود الأمة حول منهاج قومي إسلامي ومعنى ذلك أن يقوم حكم إسلامي في مصر لا مجال فيه للحزبية السياسية ولا يمنع من أن تجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها ويضع أصول الإصلاح الداخلي العامة .

وحملوا على نظام الانتخاب فدعوا إلى تعديل وإصلاح قانونه وذلك بوضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم مما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة بأن تكون لهم من الصفات والمناهج الإصلاحية في ذلك ، وكذلك شأن المرشحين الممثلين لهيئات بأن تكون لهذه الأخيرة برامج واضحة وأغراض مفصلة وإصلاح جداول الانتخاب وفرض التصويت إجباريا ووضع عقوبة قاسية للتزوير والرشوة الانتخابية ، وأن الانتخاب بالقائمة أولى وأفضل حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية في تقدير النواب .

ورأى حسن البنا عن احترام الأمة «إن الظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن اصطلاح أهل الحل والعقد ينطبق على ثلاث فئات هم :

1- الفقهاء والمجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.

2- وأهل الخبرة في الشؤون العامة.

3- ومن لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤساء المجموعات فهؤلاء جميعا يصح أن تشملهم عبارة أهل الحل والعقد .

ولمشاركتهم فيما تبنوه ومناداتهم بقيام الدولة الصالحة فقد رأوا أن يشتركوا في انتخابات مجلس النواب. وهذا الاشتراك يعود إلى ما قرره المؤتمر السادس المنعقد عام 1361هـ 1942 وقد أورد البنا الفوائد التي يرتجيها الإخوان من دخولهم الانتخابات والتي من بينها وصول دعوتهم إلى المحيط الرسمي وأن أقرب طريق إليه هو منبر البرلمان وأن الإسلام لما كان لا يعترف بالتفريق بين الحيز الديني والحيز السياسي في حياة الأمة فإنهم يطالبون بأن يعلنوا رأي الإسلام في مناحي الحياة وأن النيابة البرلمانية هي الوسيلة المثلى لتحقيق أهدافهم ومبادئهم  ورأوا أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب النظم القائمة في العالم كله إلى الإسلام وهي التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة وتنظيم حدود السلطات وواجبات الحاكمين ومسؤوليتهم.

وذهب بعض كبار العلماء  أن ترشيح بعض أعضاء الجماعة أمر واجب لأنه يفيد الحياة النيابية في مصر وأنه ليس بمانع من القسم باحترام الدستور ، وأن يسعى في تغيير بعض القوانين التي تخالف الإسلام وتجافي أحكامه.

على أن الظروف قد حالت بينهم وبين ما كانوا يطمحون إليه ، وقد ظلوا يشيرون إلى إحياء نظام الحكم الإسلامي. وقد اقتضاهم مبدئهم الذي اعتنقوه من تحرير وادي النيل أن يقفوا من الإنجليز موقف العداء ومع تسليمهم أن معاهدة 1936 غل في عنق مصر وقيد في يديها فقد رأوا أن لسان القوة هو أبلغ لسان للتخلص من هذا القيد .

وقد ثبتوا على هذا المبدأ وظلوا يطالبون بتحرير وادي النيل فكتبوا إلى الزعماء مطالبين بتوحيد صفوفهم وأيدوا علي ماهر في قراره تجنب مصر ويلات الحرب العالمية الثانية ، ولم يوافقوا أحمد ماهر وكتبوا إليه ناصحين بالعدول عن قراره بإعلان الحرب على المحور ( ، وبعد إعلان هدنة الحرب ظلوا يطالبون بتحقيق المطالب الوطنية والجلاء عن وادي النيل ومع اعتناقهم مبدأ رفض المفاوضة مع الإنجليز حتى تاريخ الحل الأول عام 1948 .

إلا أنهم أظهروا الساندة من أجل الوصول إلى اتفاق يضمن حقوقها وعارضوا اتفاقية صدقي -بيفن لتعارضها والاستقلال الصحيح واشتركوا في سعي الشباب عام 11946 في توحيد جبهة المقاومة الوطنية والتقريب بين الأحزاب ولكن هذه الحركة أخفقت وكونوا على أثرها لجنة من الجماعات الإسلامية والعربية كالشبان المسلمين والوحدة العربية وانضمت إليها بعض الشخصيات المستقلة كالمرحوم محمد علي علوبة (الوزير الأسبق) وقد أرجع المؤرخ عبد الرحمن الرافعي هذا الإخفاق لوقوف أنانية الأحزاب وبخاصة الوفد حجر عثرة دون نجاح الشباب في مسعاهم عام 1946 فقد دأب الوفد على رفض كل فكرة عثرة دون نجاح الشباب في مسعاهم عام 1946 فقد دأب الوفد على رفض كل فكرة ترمي إلى توحيد الصوف وإزالة الأحفاد من النفوس ، وكانت سياسته ولم تزل تهدف إلى هدم كل هيئة أو جماعة أو شخصية تخالفه في الرأي وتأبى العبودية التي يدين بها أشياعه وأتباعه لبضعة النفر الذين يتسلطون عليه .

وإزاء التفاوض قيدوا إجرائه في فترة زمنية قصيرة وذلك بعد التصريح لهم بمباشرة نشاطهم عام 1950 وإلغاء الأمر العسكري عام 1951. وأدى اعتبارهم تحرير الوطن من الإنجليز فرضا دينيا إلى كسب مؤازرة طوائف الشعب ، وليس من شك أنهم برزوا على منافسيهم حين أعلنوا إخفاق الوسائل السلمية في تحقيق المطالب الوطنية ودعوا إلى افتتاح معسكر للتدريب العسكري ، وعلى أثر هذه الدعوة وحين أجريت انتخابات مجالس اتحاد طلبة جامعة القاهرة (فؤاد في ذلك الوقت) اكتسحوا جميع الأحزاب فحصلوا على المقاعد الآتية :

  • اتحاد كلية الزراعة 11/ 11.
  • اتحاد كلية العلوم 11/ 11.
  • اتحاد كلية الهندسة 7/ 10.
  • اتحاد كلية الآداب 11/ 16.
  • اتحاد كلية الحقوق 9/ 10.
  • اتحاد كلية الطب 9/ 13.

وقد لفت تفوقهم في كلية الحقوق بحصولهم على تسعة مقاعد الأنظار لأن هذه الكلية عرفت بأنها معقل الطلبة الوفديين .

وفي جامعة عين شمس (إبراهيم سابقا) كانت نتيجة انتخابات مجالس اتحادات الطلبة وفقا لما يلي :

  • كلية الزراعة 9/ 9.
  • كلية المعلمين 8/8.
  • كلية العلوم 7/ 10.
  • كلية الفنون التطبيقية 8/ 15.
  • كلية الآداب 4/ 8.

وفي جامعة الإسكندرية (فاروق سابقا) لم تخرج نتائج الانتخابات عن هذا التفوق  :

  • ففي كلية الآداب 6/ 8.
  • كلية العلوم 5/ 8.
  • كلية الهندسة 6/ 8.
  • كلية الطب 6/ 8.
  • كلية الزراعة 9/9.

وقرنوا تحرير وادي النيل بتحرير البلاد العربية جميعا والوطن الإسلام بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي. فهم يرون أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده ، وأن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله. لذلك لا بد أن يعد المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين متحدين على التخلص من نير الدول المعتدية. وتنفيذا لهذه السياسة ساهموا بفعالية في قضية فلسطين التي اعتبروها قضية كل مسلم ، وأعلنوا تضامنهم التام مع إخوانهم عرب فلسطين في مطالبهم في وقف هجرة اليهود والاستقلال التام لفلسطين على أساس اتفاق شريف يضمن حقوق العرب ويعامل فيه اليهود معاملة الأقليات في جميع البلدان ، كما أرسلوا رسالة إلى رئيس الوزراء حينئذ معلنين أن العالم العربي ينتظر من حكومة مصر عملا جديا لحل قضية فلسطين. ولما بدت أحداث عام 1948 تتلاحق ووقع الصدام بين اليهود والعرب ، أرسلت جماعة الإخوان الكثيرين من متطوعيها للقتال مما دل على ظهور أثر التدريب الروحي وحسن مرانهم وسمو روحهم المعنوية وإلمامهم بفنون حرب العصابات وهو ما شهد به القائد الأول لحملة فلسطين ومن خلفه  ولم يفصل حسن البنا بين نشاط اليهود والصهيونية في فلسطين ، ودورهم في السعي الدائب والاهتمام بشبه جزيرة سيناء. فكتب قبل قيام دولة إسرائيل في فلسطين بعامين موضحا للمسؤولين المصريين الذين كانوا يفاوضون الإنجليز حينئذ أهمية هذا الجزء من مصر ويحذرهم من إهماله أو التفريط فيه ، ودعا إلى الاهتمام بسيناء وكشفت البحوث ما بها من بترول ومعادن وكنوز ، وأن أرضها عظيمة القابلية للزراعة وفي الإمكان استنباط الماء منها بالطرق الارتوازية وإنشاء بيارات على نحو بيارات فلسطين تنبت أجود الفواكه وأطيب الثمرات وأن اليهود قد تنبهوا إلى هذا المعنى ووضعوه في برنامجهم الإنشائي وهم يعملون على تحقيقه إذا سنحت لهم الفرص. وقد دعا في مقالة الحكومة لتبني بعض المشروعات في سيناء من أجل إنمائها ، ومن بينها نقل الجمرك من القنطرة إلى رفح وأن تقيم هناك منطقة صناعية على الحدود ، وأن من الواجب إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش يفد إليها طلاب المشرق مع أبناء مصر يتلقون العلم ، كما دعا الحكومة بألا تدع سيناء فريسة في يد الشركات الأجنبية وأن هذا الجزء هو مصدر خير وثراء .

كما جدد سيد قطب في مقال كتبه في جريدة الدعوة عام 1952 هذا التحذير ، وأطلقها صيحة تنبيه للغافلين شارحا أهمية سيناء وخطورتها كمجال حيوي للشعب المصري ومحذرًا من التفريط في هذا الجزء العزيز من أرض الوطن ، وأن إسرائيل تقترب يوما بعد يوم من حدود سيناء المصرية وأنهم يقيمون على الحدود استحكامات قوية وأن أمامهم ألوف الأميال المربعة في الشقة المصرية خلاء. فإذا أرادوا هم أن يزحفوا فسيزحفون من استحكاماتهم على الحدود ووراءهم العمار.

وإذا أردنا نحن -يقصد المصريين- حتى أن ندافع وقفت جيوشنا ووراءها هذه الألوف من الأميال القاحلة الجرداء الخالية من السكان. ودعا إلى الاهتمام بسيناء فهي كافية لإعاشة مليون من الناس لو وجدت من يعمرها ويرد إليها الحياة .

كما آزروا قضايا المغرب العربي فأصدروا عددين خاصين في عام 1944 ، وأقاموا مؤتمرا في المركز العام لبحث قضاياه شهده علماء الجزائر والمغرب

ومع اعتناقهم الإسلام عقيدة وعبادة ، فيرون أنه وطن وجنسية لا يعتبر بالفوارق الجنسية الدموية ، نادوا بأن وطنهم -كما قدمنا- هو كل شبر أرض فيه مسلم ، ويرون أن يعمل كل إنسان لوطنه (القطر الخاص) وأن يقدمه على سواء ويؤمنون بالوحدة العربية) يفهمونها أنها عربية اللسان ويعملون لإحيائها وتأييدها ومناصرتها.

ثم هم بعد ذلك يؤمنون بالوحدة الإسلامية. فأبرزوا أن الوحدة العربية هي الحلقة الوسطى في الوحدة الإسلامية وكتب البنا «إن الأمة تتكون قوميتها من لغتها ودينها وعاداتها وثقافتها وما إلى ذلك من مظاهر الحياة ولم يكن التأييد للدعوة العربية مناقضا للفكرة القومية ومع قرب إنشاء جامعة الدول العربية أعلن الإخوان المسلمون تأييدهم الكامل حيث أملوا أن تستيقظ الشعوب العربية من غفوتها وأن تعمل لإعادة مجدها التليد وعظمتها القديمة فتحتل مكانها اللائق في قيادة العالم وأن تتحقق أماني البلاد العربية في الاتحاد والقوة والنهوض لمجابهة الأحداث والتطورات المقبلة كتلة واحدة، وكانوا يرون ضرورة اتحاد السياسة الخارجية والعمل على توحيد السياسة الداخلية حتى تسير البلاد العربية إلى أهدافها وقد نادوا بهذا في منشور وزع على مرشحيهم لانتخابات عام 1945 دعوا فيه إلى توثيق الروابط الكاملة بالأمم العربية والإسلامية ومساعدة هذه الأقطار على استكمال حريتها واستقلالها فهم جيراننا في الوطن وإخواننا في الدين وبنو عمنا في النسب وشركاؤنا في اللغة والمصالح والآلام والآمال  وبعد قيام جامعة الدول العربية رأت جماعة الإخوان أنها توسع دائرة الوطنية أمام المصريين وتجمع لهم قلوب بني عمومتهم وتضم شتات جنسهم وتحيط وطنهم الخاص بقلاع من القلوب المحبة المخلصة فكتب حسن البنا يقول «من أول يوم ارتفع صوت الإخوان المسلمين هاتفا بتحية الجامعة العربية والإخوة الإسلامية إلى جانب الرابطة القومية والحقوق الوطنية ، وكان الإخوان يرون أن الدنيا ستصير إلى التجمع والتكتل وأن عصر الوحدات الصغيرة والدويلات المتناثرة قد زال أو أوشك ، وكان الإخوان يشعرون بأنه ليست في الدنيا جامعة أقوى ولا أقرب من جامعة تجمع العربي بالعربي فاللغة واحدة والأرض واحدة والآمال واحدة والتاريخ واحد وهكذا تحقق الأمل رسميا بتكوين الجامعة العربية  ، كما شجعت الجماعة تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلاد العربية وربط بعضها ببعض اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا ودفاعيًا

بيد أن نظرة التفاؤل التي استقبل الإخوان بها قيام جامعة الدول العربية سرعان ما تبدلت. فقد أثارت أنشطة الإخوان خلال المعارك في عام 1948 مخاوف الحكومة المصرية التي كانت تعد لحل الجماعة مما أدى إلى اعتقال متطوعي الإخوان في الميدان وتجريدهم من السلاح ، كما أثارت شكوك كثير من الحكومات التي كانت تعادي في معظمها الحركات ذات أنظمة التدريب ففترت همة جماعة الدول العربية في الدعوة لمواصلة الجهاد ودعم حركة التطوع ضد اليهود وقد رأى حسن البنا أن كل هذه الأمور تعبر عن رغبة الجامعة والحكومات العربية في تصفية القضية الفلسطينية وأن هذه الرغبة كانت من أهم أسباب حل الجماعة .

ونظرة البنا في هذا الشأن لا تختلف عن كثير من الكتاب والمؤرخين الذين أكدوا دور الجامعة السلبي الذي أزال كل ما كان يؤمل منها. ثم هم يعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام ويعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام.

وهم يرون أن الخلافة رمز للوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام ويجعلونها على رأس مناهجهم ، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات ، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات من التعاون الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها ، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية. حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الإجماع على الإمام الذي هو واسطة العقد ومجمع الشمل ومهوى الأفئدة .

ولنظرتهم إلى الوحدة القومية والعربية والإسلامية فقد سعوا إلى نشر الدعوة خارج مصر وهذا يتبين من مراجعة نص المادة الثانية بنصها أنها هيئة إسلامية جامعة ويرجع تاريخ نشر مبادئهم خارج مصر كما سبق ذكره إلى ما اتخذه المؤتمر المنعقد سنة 1935 وما أولوه من اهتمام بشؤون العالم الإسلامي.

وقد بدأ إنشاء الفروع خارج مصر ابتداء من عام 1937 حيث تأسست فروع في سوريا إلا أن انتشارهم الواسع في البلاد العربية كان في سنة 1946 حين تأسست فروع فلسطين والأردن والعراق ولبنان والسودان وتأسست لهم فروع أخرى في اريتريا والمغرب ويرجع هذا الانتشار الواسع إلى وفود الطلاب التي وفدت على مصر ينهلون العلم في معاهدها فاتصلوا بهذه الجماعة وأخذوا عنها مبادئها وانتسبوا إليها من أصقاع العالم الإسلامي قاطبة فلما عادوا إلى بلادهم كانوا نواة هذه الفروع في الباكستان وأفغانستان وإيران وغيرها..

وقد آختهم بعض الجماعات الإسلامية في تلك البلاد ومنها الحزب الإسلامي باندونيسيا والجماعة الإسلامية بالباكستان. وقد بلغ اهتمامهم بالعالم الإسلامي أن أنشأوا قسما خاصا به كان يجمع من المعلومات ما لا يتيسر في أي جماعة أخرى ، وقد عمل به أعضاؤها من مختلف البلدان ممن كانوا يقيمون بمصر حينئذ.


المبدأ الرابع: تعاون دولي

وهو ما نصت عليه الفقرة (ز) بقولها أن غاية الإخوان مناصرة التعاون العالمي مناصرة صادقة في ظل المثل العليا الفاضلة التي تصون الحريات وتحفظ الحقوق ، والمشاركة في بناء السلام والحضارة الإنسانية على أساس جديد من تآزر الإيمان والمادة كما كفلت ذلك نظم الإسلام الشاملة..

وهذا المبدأ -في رأينا- هو شطر لما نص عليه في الفقرة هـ من ذات المادة الثانية وكما عرضناها آنفا في المبدأ الثالث حيث قرنوا تحرير وادي النيل وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية ، فهم كانوا يرون الأخذ بالثمرتين أكثرهما نضجا أيدوها وباركوا قيام جامعتها لأنها عدة الحاضر وأمل المستقبل لتحتل الشعوب العربية مكانها اللائق في قيادة العالم وحيث يجمع العربي بالعربي ، فاللغة واحدة والأرض واحدة وآمال واحدة والتاريخ واحد ، وأن على رجالها أن يقدروا هذه التبعة ويعملوا على تحرير أجزاء الوطن العربي مع تنمية العلاقات فيما بينها حتى تسير البلاد إلى أهدافها

وفي هذا يتفقون وما ذهب إليه آخرون يخالفونهم دينا ولكن وحدت بينهم الوطنية والعروبة. فكتب مكرم عبيد مذكرًا بها «فالرجل يعيش لنفسه ثم لأسرته وإقليمه» ، وفي الوقت نفسه يعيش لوطنه وللأوطان التي تربطها بوطنه روابط لا انفكاك لها وأن تنظيم الوحدة العربية ممكنا قيامها مما يؤدي إلى توحيد الجهود والتضامن العربي العام

وهم مع إيمانهم بالوحدة العربية يعملون للجامعة الإسلامية. ذلك أن الخصائص التي تتمثل في الوطن الإسلامي كإقليم متصل لا توجد فيه فجوات عنصرية أو دينية هي التي تدعو إلى قيام هذا الاتحاد. فأغلب الأمم التي تدين بالإسلام قد استعربت واختلطت دماؤها بالدماء العربية أبان الفتوح الإسلامية وقيام دولة إسلامية كبرى وسعت هذه الأوطان جميعا وخضعت لعبادة واحدة معظم أدوار حياتها ، وليس هناك دولة ما في النطاق الإسلامي الممتد من اندونيسيا إلى المغرب تدين بغير الإسلام.

ثم أن الإسلام كدين قد سوى بين معتنقيه جميعا فلا فضل فيه لعربي على أعجمي ولا تفرقة فيه بين العدد الكبير من معتنقيه. وهو الدين الوحيد الذي وضع الخطوط الرئيسية لشكل الدولة الإسلامية بغيرها من الدول التابعة أو الأمم التي انطوت تحت ظلها.

أما الإسلام كحكم فقد حقق شكل الدولة بعد أن وسعت الدولة الإسلامية الكبرى أمما عديدة خضعت للحكومة المركزية سواء في دمشق أو بغداد أو القاهرة. والإسلام كرباط اجتماعي قد شد المسلمين بعضهم إلى بعض بأوثق رباط اجتماعي وعاش المسلمون إلى وقتنا هذا في ظلال الإخوة الإسلامية لا يدفعهم التعصب للدين ولكن يحدوهم إلى التعاون والتآلف والتآخي تقاليد دينهم السمح. وهم في هذا التآلف لا تجمعهم قومية إسلامية ، فللقومية خصائصها ومميزاتها وهي في حقيقة أمرها ثمرة للتفكير السياسي الحديث أخذت الدول تعدل عنها ولا تتمسك بها بعد أن لمست المآسي والحروب التي جرها التناحر القومي والأثرة القومية على العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين وما تاريخ الحرب العالمية الثانية عنه ببعيد.

ورجعت هذه الدول إلى الأخذ بنظام الاتحادات السياسية أو التعاهدية وهو شبيه بنظام الدولة الكبرى التي كانت تضم في كيانها عددًا من القوميات والأجناس يدفعها إلى ذلك التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول التي تجمعها مصالح اقتصادية أو سياسية واحدة أو متشابهة ومثال ذلك الاتحاد السوفياتي وهو يضم عددًا من القوميات والعناصر تكون جمهوريات لها ذاتيتها إلى حد بعيد ولكنها تكون جميعا ما يعرف باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ، والكومنولث البريطاني نوع آخر من الوحدات السياسية الكبرى وأن كان كل أعضائه من قبل مستعمرات بريطانية ، ويرتبط الكومنولث برباط التاج البريطاني وهو رباط رمزي أما الرباط الحقيقي فهو المصلحة المشتركة.

ومثالها أيضا في عالمنا المعاصر دول أوروبا وسعيها إلى إقامة اتحاد حقيقي يربط مصالحها المشتركة بعد أن وحدت فيما بينها المصلحة الاقتصادية والسوق الأوروبية المشتركة..

وليس هناك ما يحول دون قيام اتحاد بين الدول الإسلامية العديدة ، بل أن قيام اتحاد بين الدول الإسلامية أقرب إلى الواقع من نظام الكومنولث البريطاني مثلا وأيسر تحقيقا.. فالمسلمون لا تفصل بينهم عنصرية ولا تفرق بين أوطانهم حدود ، ولا يضعف صلاتهم اختلاف لغة أو تنوع بيئة ، والإخوان المسلمون في نظرتهم إلى هذه الوحدة أخذوا في الدعوة إليها على مراحل من التعاون الثقافي والاجتماعي والاقتصادي يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع ثم يلي ذلك تكوين عصبة أمم إسلامية. ونظموا هذه الدعوة في مبادئ بعد مباشرتهم نشاطهم عام 1950 حيث نص على أن من أغراض قسم الاتصال بالعالم الإسلامي  :

(أ) العمل على ربط الأقطار الإسلامية بعضها ببعض وتوحيد السياسة العامة لها بتوحيد مناهج الثقافة الإسلامية وتوحيد القوانين والتشريعات ورفع الحواجز الجمركية وتسهيل إجراءات الدخول والإقامة في هذه الأقطار.

(ب) تحرير الأوطان الإسلامية من كل سلطان أجنبي وذلك بتقوية الروح الوطنية ومقاومة أي عدوان داخلي أو خارجي على حقوق الشعوب وإيثار العادات والمظاهر الإسلامية والاعتصام بالوحدة العربية والإسلامية ، والتعاون على استكمال الحرية لكل قطر من الأقطار الإسلامية

(ج) إقامة حكومات إسلامية دينا ودولة في كل هذه البلاد وتكوين وحدة سياسية. وقد تكون هذه الوحدة بين البلاد الإسلامية على صورة دولة تعاهدية مما يعرفها القانون الدولي أو بدءًا بمنظمة كحال المنظمات الإقليمية.. وهم في ذلك يذهبون إلى ما رآه سابقون في اقتراحاتهم من تنظيم للأمم الشرقية (والقصد الإسلامية) كما أورده المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في رسالته عن الخلافة فهو يذهب إلى إيجاد تنظيمين ديني وسياسي مستقل كل منهما عن الآخر وتحت السلطة الاسمية للخليفة وقد أقام هذا التنظيم على ثلاث هيئات :

الأولى : الخليفة وهو ينتخب من مجلس الخلافة العام باقتراح من المجلس الأعلى.

الثانية : مجلس الخلافة العام ويتكون من كل دولة إسلامية وكل جالية مسلمة (الهند- الصين- وبولندا...) ويناقش تقريرًا سنويًا يقدمه المجلس الأعلى وله الحق في وضع توصيات ويكون مقره بمكة حيث ينعقد مؤتمره في موسم الحج برئاسة الخليفة أو من ينوب عنه. الثالثة : المجلس الأعلى للخلافة ، وأعضاؤه يمثلون كل دولة وجالية إسلامية يجتمعون أكثر من مرة في العام في مركز الخلافة ويتألف منهم خمس لجان :

1- لجنة الإدارة الداخلية.

2- لجنة مالية.

3- لجنة الحج.

4- لجنة للتعليم والإرشاد الديني.

5- لجنة للشؤون الخارجية. أما علاقة الخليفة مع الدول الإسلامية فتقوم عليها اللجان الوطنية ، وبالمقارنة بينه وما نص عليه في المادة 72 من اللائحة الداخلية للإخوان المسلمين نلحظ الدراسة العلمية التي أخذوا بها من الاهتمام بالمجالات الثقافية والاجتماعية ، وما يقرن ذلك من تحرير الأوطان الإسلامية ، وربما كان الأمر في ذلك أن الدكتور السنهوري قد سجل في رسالته زمن إلغاء الخلافة بتركيا عام 1924 بينما الإخوان قد أفادوا في دراستهم من مرور زهاء ربع قرن على ذلك وما نشأ خلالها من تكتلات. وكانوا يعتبرون أن كل دولة تعتدي على أوطان الإسلام هي دولة ظالمة ، وأن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده ، وأن العدوان على جزء هو عدوان عليه كله. لذلك لا بد أن يعد المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين متحدين للتخلص من نير الدولة المعتدية. ذلك أن قيام أحكام الإسلام يؤدي إلى تكتل المسلمين وتحزبهم ضد الاستعمار ، وقد يطبق المستعمرون أن يواجهوا بلدًا إسلاميا ولكنهم لا يطيقون أن يواجهوا وحدة حقيقية تجتمع فيها كلا بلاد الإسلام ، وأن الإسلام يبيح للمسلم دم المستعمر وماله ، لأن المستعمر ليس إلا حربيا معتديا فكل ما يسفكه المسلمون من دم المستعمرين إنما هو دم مباح ، وكل ما يأخذون من أموالهم إنما هو مال مباح ، وكل ذلك إذا ما أتاه المسلمون بنية خالصة إنما هو عمل يتقربون به إلى الله

ويربطون بين الاستعمار واستخدامه السلاح وما عجز عن تحقيقه بذلك ودور المبشرين الذين يعلمون المسلمين أن الدين شيء والعلم شيء آخر وأنهم لن يتقدموا ما لم يفصلوا بين الحكم والدين وأنهم يبغون من ذلك هدفين :

أولهما : إحلال الأفكار المادية كما تنادي بذلك الشيوعية.

ثانيهما : تحويل الإسلام إلى دين فردي كهنوتي لا علاقة له بالحياة العامة وهو وضع شاذ لم يألفه عالم الإسلام إلا في عصور التأخر فليس فيه سلطة دينية وأخرى مدنية يتنازعان الحكم والسلطان كما هو الحال في أوروبا ، وإنما في بلاد الإسلام سلطة واحدة تجمع في يديها شؤون الدنيا والدين وتقيم الدولة على الإسلام الذي مزج بينهما  وأن الغرب والشرق معا (والقصد الشيوعيون) يسعون للتبشير بمعالم حضارة جديدة لها مقوماتها الخاصة ، ومن أوضح مظاهر مناهجهم المتميزة الغزو الفكري المنظم في العالم الإسلامي ويمثله الطوفان العالي من الكتب والمجلات والمبعوثين الثقافيين ، والسعي للسيطرة باسم المعونة الفنية وما وراءها من امتداد النفوذ السياسي ودوران الدول في الفلك الاستعماري. وأن العالم الإسلامي سيكون ميدان الصراع بين المعسكرين ، يساعد على هذا وضعه الجغرافي وامتداده كالمعبر الضخم بين المحيطين والبترول الكامن في أرضه وملايين البشر الذين يضطربون فوقه.

وقد رأينا سابقا موقفهم من قضية التفاوض مع الإنجليز ، ولما لم تأت الجهود التي بذلها المفاوض المصري بنتائج ، دعوا إلى فتح المعسكرات للتدريب ولقيت دعوتهم في ذلك نجاحا على الصعيد الشعبي. ثم كانت مطالبتهم بعد 23 يوليو 1952 وفي البرنامج الذي حدوده في ظل العهد الجديد الاستقلال التام ، وعندما وقعت المعاهدة المصرية البريطانية في أكتوبر 1954 كان اعتراضهم على البند الذي ينص باستخدام القوات البريطانية لقاعدة قناة السويس في حالة الهجوم على أية دولة عضو في الجامعة العربية -وقد كان الأكثرية منها خاضعة للنفوذ البريطاني أو في الفلك الأوروبي الغربي والأمريكي رغم استقلالها الرسمي- أو ضد تركيا وهي عضو في حلف الأطلنطي.

وقد فسروه بأنه إجلاء للقوات البريطانية ناقص مما يجر مصر إلى الحرب الباردة. هذا هو الشأن في حالة تعكر صفو العلائق فما بال تلك التي تكون بين الأمم؟ ذهبوا في ذلك إلى مطالبة الدول الغربية بإزالة الوهم الناتج من أن تطبيق الإسلام يباعد بين البلاد الإسلامية والبلاد الغربية المسيحية ويعكر صفو العلاقات السياسية بينها ، بل قد ذهب حسن البنا إلى ضرورة الجلاء وعودة العلاقات الودية على ما كانت عليه من صفاء قبل الاستعمار ، هذه نظرة بلا شك كانت قبل إلغاء المعاهدة الموقعة في عام 1936 من طرف الحكومة المصرية في أكتوبر 1951.

أما بعد 1952 فقد حددوا منهاجهم بمناداتهم بحياد مصر وعدم الانضمام إلى معاهدة التحالف والدفاع عن الشرق الأوسط. وأرجعوا انتشار الشيوعية في مصر إلى عاملين؛ أولهما فساد اجتماعي والآخر فساد النظام السياسي. وأن الأول أدى إلى انحسار مستوى التعليم وانتشار الفقر والفاقة  وأن فساد النظام السياسي يرجع إلى خلو مناهج كافة الأحزاب من برامج وأهداف محددة فلا تصدر القوانين التي ترد على المساكين بعض حقهم إلا إذا رضى عنها السادة الأغنياء..

وهم في نظرتهم إلى الحضارة الغربية لم يتجنبوا إلا ما خالف مبادئ الإسلام من عادات شعوبه وأخلاقه.

أما الجانب المادي فقد أقروا أن الشعوب الغربية وصلت من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقى بالعقل الإنساني إلى درجة سامية عالية يجب أن يؤخذ عنها ، كما يجب أن يؤخذ عنها التنظيم والترتيب وتنسيق شؤون الحياة العامة تنسيقًا بديعًا ، وأن الحضارة الغربية قامت على العلم والنظام فأوصلها المصنع والآلة إلى جني الأموال والثمرات وملكها نواصي الأمم الغافلة

وأن في المدنية الغربية خيرا كثيرا وشراء كثيرا وأنه لا غنى عن الاستعانة بصناعتها وعلومها ، وأن كل تجديد نافع لا يذيب الشخصية هو قوة جديدة تدعم كيان الأمة.. وهي أقوال تدل لا شك على ثاقب النظر والإنصاف ، وأنهم ما كانوا يعادون الحضارة والأخذ عنها في شقها المادي الفني ، أو مخاصمين لها إطلاقا مما قد يؤدي إلى الانعزال العلمي والتخلف وتنفير الناس ممن يدعوا إلى سبيل النهضة.


المبدأ الخامس : نظام السياسي وهو ما نصت عليه الفقرة (و) من المادة الثانية عارضة لغايات الإخوان «قيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسها في الداخل وتبلغها في الخارج». وقد جعلهم على المناداة بهذا المبدأ منذ قديم في معرض ذكرهم للمذاهب الاجتماعية والسياسية فذكر حسن البنا أنه عجيب أن تجد الشيوعية دول تهتف باسمها وتدعو إليها وتنفق في سبيلها وتحمل الناس عليها ، وأن تجد الفاشستية والنازية أمما تقدسها وتجاهد لها وتعتز بإتباعها وتخضع كل النظم الحيوية لتعاليمها ، ولا توجد حكومة إسلامية تقوم بواجب الدعوة إلى الإسلام الذي جمع محاسن هذه النظم جميعا وطرح مساوئها

ورأى الإخوان أن الحكم الإسلامي يقوم على دعائم ثلاث :

الأولى : مسؤولية الحاكم ، فالحاكم مسؤول بين يدي الله وبين الأمة وهو أجير لهم وعامل لديهم ، فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة.

الثانية :وحدة الأمة فلا تصور الفرقة في الشؤون الجوهرية. أما الخلاف في الفروع فلا يضر ، وما كان من المنصوص عليه فلا اجتهاد فيه وما لا نص فيه فقرار ولي الأمر يجمع الأمة عليه.

الثالثة : احترام إرادة الأمة تتمثل في حقها في مراقبة حاكمها وحقها عليه أن يشاورها.. وقد عرضوا لتلك المبادئ في مشروع دستور مقترح لمصر صدر عن الشعبة القانونية صاغ مواده المرحوم الدكتور محمد طه بدوي أستاذ القانون العام بجامعة الإسكندرية في 103 مادة وراجعته لجنة مشكلة من ثلاثة أعضاء وصدر عن الهيئة التأسيسية في 25 ذي الحجة 1371 هجرية ، والموافق 16 سبتمبر 1952 ، وكما تقول ديباجته أنه قد استعد في أصوله من أحكام القرآن وسنة الرسول وأساليب الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ، كما أخذ بما صلح في النظم الدستورية المعاصرة كالنظام الرئاسي (المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية) ونظام حكومة الجمعية الذي أخذت به بعض الدساتير الأوروبية كدستور النمسا الصادر عام 1920 ، والدستور التركي الصادر عام 1924 والدستور السويسري الحالي. كما بدأ خاليا مما في تلك النظم من أوضاع أجمع على فسادها الفقه الدستوري الحديث.

وكذلك بدأ المشروع مجافيًا للنظام البرلماني الذي أخذ به دستور 1923 في مصر وذلك لما ينطوي عليه من استقلال رئيس الدولة عن الهيئة التي تمثل الأمة ، فلا يسأل أمامها عن تصرفاته في شؤون الدولة سياسيا (ولا جنائيا إن كان ملكا) إذ الأصل في رئيس الدولة (الملك) حيث نشأ هذا النظام في إنجلترا أن ذاته مصونة معصوم من الخطأ ، مؤيد موفق مسدد فاعتباره مسؤولا فيه تعد على قداسته. وقد قسم هذا المشروع لدستور إسلامي للدولة المصرية كما جاء في عنوانه على خمسة أبواب ، الباب الأول تحت عنوان في السيادة ويتضمن مادتين ، والباب الثاني تحت عنوان في الهيئة الحاكمة ويتضمن إحدى وأربعين مادة وفيه يعالج كيان الحكومة الذي يتلخص في وجود هيئة حاكمة تتكون من مجلس الأمة ورئيس الدولة.

أما الباب الثالث تحت عنوان «في توزيع وظائف الدولة» وفيه تقسيم للوظيفة التشريعية التي يتولاها مجلس الأمة وتعالجها خمس مواد ، والوظيفة التنفيذية التي يتولاها رئيس الدولة فتعالجها عشر مواد أما الوظيفة القضائية فتخصها خمس مواد.

كما نظم هذا الباب القوات المسلحة وتعالجها أربع مواد والإدارة المحلية وتتناول اختصاصها مادتان. وقد نقل المشروع عن الدستور المصري لسنة 1923 الذي كان معمولا به في ذلك الوقت بعض أحكامه الخاصة بالمالية لعدم مجافاتها لتعاليم الإسلام من جهة ولثبوت صلاحيتها في التطبيق من جهة أخرى وهذه تتضمنها سبع مواد. ونقلا عن تعاليم الإسلام فقد تضمن المشروع ما يكفل للفرد حياة كريمة في مجتمع متضامن عن طريق وضع حد لاستغلال الفرد للفرد ، والزام الدولة أن تضمن للفرد مستوى ماديا معينا ، فلا تقتصر الإفادة بهذه الحريات على فريق من الأمة دون فريق كما هي الحال في الديمقراطيات الغربية الفردية النزعة والتي كان يمثلها أيضا الدستور المصري لسنة 1923. فقد تضمن الباب الرابع حقوق الأفراد. وجعل المشروع الصدارة للحقوق الاجتماعية قبل الحريات الفردية ، مجافيا في ذلك الدساتير الغربية الفردية النزعة التي أما أن تكتفي بضمان الحريات الفردية دون الحقوق الاجتماعية ، وأما أن تجعل للأولى الصدارة على الأخيرة. وقد عولج هذا الباب في تسعة عشر مادة ويلحظ أن المشروع قد أفاد من حيث الصياغة دون الجوهر من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر عام 1948.

وتمشيا مع أحكام الإسلام ، اعتبر المشروع مقاومة الهيئة الحاكمة -إن جارت- من أقدس حقوق المواطن والزم واجباته ، وهو بذلك يخالف الدساتير المعاصرة قاطبة التي ترى في مباشرة هذا الحق الطبيعي جريمة تهدد سلامة الجماعة وأمنها وسنعرض هذه النصوص مقارنة بما ورد في الفقه الإسلامي ، ويلحظ أن هذا المشروع قد صدر بعد 23 يوليو 1952 وكانت قد سبقته مؤلفات ورسائل لبعض القانونيين المنتسبين للجماعة تبين أحكام الإسلام في نظام الحكم  ، كما أشار حسن البنا في غير رسالة ومقال إلى الأسس التي يقوم عليها هذا النظام.


في السيادة

عرفت المادة الأولى «مصر دولة إسلامية حكومتها نيابية». وهي بهذا التعريف تحدد نقطة الافتراق الرئيسية بين النظام الإسلامي وجميع النظم الأخرى ، ونقطة الافتراق هي أنه نظام رباني وأنها نظم وضعية ، ومن هذه النقطة تبدأ سائر الاختلافات بين طبيعة النظام الإسلامي ، والمجتمع الإسلامي وبين طبيعة هذه النظم والمجتمعات الأخرى..

فالمجتمع الإسلامي من صنع شريعة الهيئة ثابتة الأصول وهو متكيف بها محكوم باتجاهاتها ، بينما أن النظم الوضعية هي من صنع المجتمع يصوغها هو ويكيفها وفق ارتباطاته أو وفق تصوراته.. يترتب على ذلك أن الله وحده هو المشرع ابتداء  ، وعمل البشر قاصر على تطبيق التشريع الإلهي وتنفيذه وهم في تطبيق هذه الأحكام محكومون بالمبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة. وقد يملك فقهاء الشريعة الإسلامية وذوو الاختصاص أن يختلفوا في فهم النصوص وفي استنباط الأحكام ، ولهذا الاختلاف حدودا مرسومة فهو لا يخرج عن المبادئ الأساسية «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول» وبذلك يظل هذا المجتمع محكوما وفق شريعته فإذا انحرف عن هذا المبدأ لم يعد مجتمعا إسلاميا بقدر انحرافه عنها..

والنظام الإسلامي نظام مستقل عن سائر النظم الاجتماعية الأخرى ، مستقل في خصائصه واتجاهه على الرغم من وجود مشابهات جزئيات بين بعض أجزاء فيه وبعض أجزاء في تلك النظم ولكن هذه المشابهات هي عرضية ظاهرة فوق أنها جزئية ، ومن ثم لا يجوز أن تخدعنا فنحسب أن بينها وبين الإسلام اتصالا يتهيأ معه استعارتها للنظام الإسلامي. كذلك لا يجوز أن تخدعنا فتخلع على النظام الإسلامي بعض مصطلحاتها ذات المفاهيم الخاصة بها. فالحكم في الإسلام ليس ملكيا وارثا يورث بل قائم على اختيار الحاكم ، وهكذا يبدو نظامه لأول وهلة جمهوريا إذ رئيس الدولة يعين بالانتخاب وهو في هذا يطابق النظام الجمهوري الغربي ، ولكن ثمة خصائص يتميز بها النظام الإسلامي عن النظام الجمهوري الغربي فالرئيس في هذا النظام الإسلامي ينتخب لمدى الحياة وهو مسؤول لدى الأمة عن تصرفاته فإن أساء قوموه بل وعزلوه.

وحكمه قائم على الشورى في إدارته ، والحكم الديمقراطي الغربي قد يتجه إلى شيء من هذا ، ولكن هذه المشابهة الجزئية العرضية لا تجعلنا نقول : إن الإسلام نظام ديمقراطي ولا أن نضيف الديمقراطية إلى الإسلام.

لأن الإسلام أوسع بكثير فضلا عن اختلاف القاعدة التي تقوم عليها اتجاهاته واتجاهات الديمقراطية كما يدل عليها هذا الاصطلاح. والإسلام يبيح الملكية الفردية ، والنظام الرأسمالي يقوم على حرية الملكية الفردية ، ويدع رؤوس الأموال تتضخم ، فلا يتدخل حين يقتضي تدخله إلا بفرض الضرائب على الأرباح..

وميزة هذا النظام أنه لا يقاوم الحوافر البشرية الطبيعية للتملك ، ولا يضعف الرغبة في العمل إلى أقصى حد وبذل الطاقة إلى أقصاها مادام الفرد يحس أن جهده له وعاقبته إليه. وعيب هذا النظام أنه يدع الرغبة الجامحة في الكسب تطغي على المصالح الجماعية وتدوس على حقوق المنتجين الحقيقيين وهم العمال.. إلى آخر عيوب النظام الرأسمالي الذي تقف على نقيضه الشيوعية..

والنظام الشيوعي بصادر حق الملكية الفردية ، ويضع كل الموارد ومرافق العمل في يد الدولة.. وميزة هذا النظام أنه يمنع عيوب النظام الرأسمالي ولكن ما يشينه أنه يقاوم الحوافز البشرية الطبيعية ، ولا يحفز الفرد إلى بذل أقصى طاقة ما دام الحد الأعلى لما يحصل عليه هو مجرد كفاية وفقا لمبدأ ماركس «لكل حسب عمله ولكل حسب حاجته» وأن عيب هذا النظام هو مقاومته لحرية الفرد في العمل ، وفي الاعتقاد ، وحريته في السلوك. وهي حريات قد يصبر جيل أو عدة أجيال على فقدها ، لأنها في معركة مع النظم الأخرى ولكن البشرية بطبيعتها لا تصبر على فقدان هذه الحريات طوببلا وإذا ماتت فيها رغبة الحرية فقد مسخت فطرتها وخسرت كيانها الإنساني في سبيل لقمة الخبز. فأما الإسلام فيبيح الملكية وهذه المشابهة الجزئية العرضية لا تجعلنا نقول : إن النظام الإسلامي نظام رأسمالي لأن الأسس الأصيلة في النظامين متباينة.

فالإسلام يبيحها مع تحقيق كل المزايا التي تحققها هذه الإباحة.

ولكنه يقيدها بتحريم وسائل الكسب التي تضخم رؤوس الأموال على حساب الطبقات العاملة أو على حساب المجتمع كله. وهو يضمن الكفاية لكل من يقله الوطن الإسلامي ويحارب الشظف والترف معا ويتدخل في توجيه الإنتاج والاستثمار في بعض الحالات ويجعل للعمال حقهم في نصف الربح الناتج من العمل (استنادا إلى تصرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أهل خيبر) ، ثم هو يأخذ اثنين وصفا بالمائة من رأس المال لا من الأرباح كل عام في صورة زكاة ثم يبيح للدولة الممثلة للجماعة أن تأخذ من رؤوس الأموال ما تستلزمه الحاجة بلا قيد ولا شرط تحقيقا لمبدأ سد الذرائع أي اتقاء النتائج السيئة المحتملة ، وهما مبدآن مقرران في الإسلام.

وإلى المبدأ الأول يستند الإمام مالك في منح الحاكم حق الأخذ من أموال الأغنياء بقدر حاجة الجند إذا لم يكن في بيت المال الكفاية.. ومثل حاجة الجند للدفاع سائر الحاجات الاجتماعية التي تبرز على توالي الأزمان. وقد تأخذ الاشتراكية ببعض هذه الاتجاهات ، لكن هذه المشابهات الجزئية العرضية لا تجعلنا نقول : إن النظام الإسلامي نظام اشتراكي لأن المبادئ الأساسية في النظامين شديدة الاختلاف.. والنظام الإسلامي يقضي بتأميم المرافق العامة التي يشترك في الانتفاع بها الناس جميعا لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- «الناس شركاء في ثلاث : في الماء ، والكلأ ، والنار». ويبيح استرداد بعض الملكيات الفردية وإعادتها إلى بيت المال أو إعادة توزيعها على الجماعة الإسلامية (يرى الإمام مالك التوظيف في أموال الأغنياء أي الأخذ منها على سبيل القرض) كذلك أعلن الخليفة عمر بن الخطاب عزمه على رد فضول أموال الأغنياء على الفقراء ، ولم ينكر عليه أحد من المسلمين ، والإسلام يمنع الربا والاحتكار والشيوعية قد تتجه إلى بعض هذه الخطوات ولكن هذه المشابهات الجزئية العرضية لا تجعلنا نقول :

إن النظام الإسلامي نظام شيوعي لأن أسس النظامين لا التقاء بينهما. فالإسلامية بذلك نظام مفرد وهو نظام اجتماعي كامل يقوم على العقيدة ، وهو نظام إنساني شامل يحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات ، وبين الشعوب والحكام وهذه ميزتها الكبرى التي توحد بين عقيدة الفرد ونظام المجتمع وشكل الدولة وعلاقات البشرية.

فإذا نفذ الفرد عقيدته ، فهو في الوقت ذاته يؤدي واجبه كفرد في جماعة وفرد في دولة وفرد في إنسانية بلا تعارض بين نشاطه في هذه المجالات جميعا. والنظام الذي يقوم على أساس عقيدة ، ويستمد منها وجوده وحدوده وهو نظام أقوى وأعمق وأقدر على المقاومة ، لأنه يستمد قوته من داخل النفس ومن أعماق الضمير ، ومن سلطان لا يعلوه في النفس سلطان. والسيادة وفقا لما ورد في عنوان الباب الأول هو وصف يطلقه الفقه الدستوري نظرا لما للسلطة السياسية في الدولة من صفات ذاتية تميزها عن غيرها. فهل عرفت الشريعة الإسلامية نظرية السيادة؟

ذهب غالبية الكتاب والقانونيين المعاصرين إلى القول بأن نظرية السيادة هي نظرية معروفة في الفقه الإسلامي وقد ذهب إلى ذلك المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري «أن السيادة في الشريعة الإسلامية لله وحده» ، ولكنه أناب عنه الأمة كلها وليس فردا واحدا أيا كان ، حتى ولو كان الخليفة (أي الحاكم) أو هيئة أخرى متميزة  ، كما ذهب إليه أيضا عالم هندي اسمه عبد الرحيم في كتابه عن مبادئ الشريعة الإسلامية أن السيادة لله وحده لكنه فوضها للأمة لمزاولتها .

وهي أيضا نظرية دعاة الفكرة الإسلامية فسيد قطب يقول «الحاكمية لله وحده في هذا النظام الرباني الفريد لا حاكمية للبشر ، ولا حاكمية لأمير ولا رعية إنما الحاكمية لله وحده ، فالله وحده هو المشرع ابتداء وعمل البشر قاصر على تطبيق التشريع الإلهي وتنفيذه وهم في الأحكام التطبيقية والتنفيذية محكومون بالمبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة غير مخيرين في العدول عنها أو اختيار بعضها دون بعض  كما تبني أيضا أبو الأعلى المودودي هذا الرأي .

وهذه الدعوة تختلف عن النظام الثيوقراطي الذي كان الحاكم يتلقى فيه سلطته من رجال الدين ويدعيه بحق إلهي بوصفه ظل الله على الأرض إذ أن الحاكم في النظام الإسلامي يستمد حقه في تولي الحكم من البيعة الحرة كما يستمد طاعته من تنفيذ شريعة الله دون سواها فالله وحده هو المشرع ابتداء على أن الأمور التي لم تنص عليها الشريعة بشيء فيكون الله قد خول أولى الأمر فيها حق التشريع ، وحقهم هذا ليس مطلقا وإنما هو مقيد بأن يكون متفقا مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية

ولا خلاف أذن بين دعاة هذه النظرية وبين من يقولون أن الأمة هي صاحبة السيادة  إذ النتيجة لدى الفريقين واحدة ، فالأمة قد فوض الله إليها النظر في صالحها لما تقتضيه خلافتها. وبهذا المعنى نصت المادة الثانية من مشروع الدستور المقترح «تباشير الأمة سلطاتها عن طريق هيئة تنوب عنها» وهي بذلك لا تنتظر لنظرية سيادة الأمة أو سيادة الشعب المعروفتين في كتب الفقه الدستوري ، إذ أن كليها قد نشأتا في القرن الثامن عشر والتي تخرج عن المدلول اللغوي في اللغة العربية ، فالأمة كما ورد في لسان العرب لابن منظور هي القرن من الناس والجيل والجنس من كل حي وكما أورد حكاية عن ابن الكلبي عن أبيه أن الشعب أكبر من القبيلة.

فالأمة والشعب مصطلحان لمدلول واحد ، وكما أورد في تعريفها الراغب الأصفهاني في المفردات «الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما أما دين واحد أو مكان واحد سواء أكان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أم اختيارا» وهي دراسة تخرج عن نطاق هذا البحث.


السلطات الثلاث في مشروع الدستور المقترح

السلطة التشريعية ووظيفتها

جعل المشروع السلطة التشريعية في يد مجلس واحد وهو مجلس الأمة خلافًا لدستور 1923 الذي تبنى نظام المجلسين بنصه في المادة 73 «يتكون البرلمان من مجلسين : مجلس الشيوخ ومجلس النواب» .

نصت المادة 3 من المشروع على أن «يؤلف مجلس الأمة من مائتي عضو منتخبين بالاقتراع العقيد بشرط الأهلية الثقافية على مقتضى قانون الانتخاب» وقد خالف المشروع ما نص عليه دستور 1923 من الأخذ بالاقتراع العام وهو في تبنيه للاقتراع العقيد قد عرى ما اكتنف الحياة السياسية المصرية من تزييف لإرادة الشعب وحيث تبلغ نسبة الأميين فيه 65 في المائة. والقيد الوحيد الذي أورده المشروع هو قيد الأهلية الثقافية في الناخب.

وتلك الناحية الإصلاحية التي نادى بها الكثيرون من المهتمين بالشؤون العامة والتي تناولها المرحوم الدكتور السيد صبري أستاذ القانون الدستوري في دراسته عن واقع مصر في ظل دستور 1923 وقد أخذت فيه بالنظام النيابي البرلماني يقول رحمه الله «بأنه لم تتحقق فكرة تمثيل الأمة تمثيلا صحيحا ، وأنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية في مصر برنامج يدافع عنه أنصاره وأن قرارات البرلمان المصري في أدواره المختلفة لا تعبر عن رأي الأمة ولا عن رأي أكثريتها ولا عن رأي أقلية محترمة من أبنائها ، وإنما تعبر عن رأي نسبة ضئيلة من مجموع من له حق الانتخاب لم تصل يوما ما إلى 12 في المائة. ذلك أن مجلس نواب سنة 1936 لا تمثل قراراته- مع أنها صحية ونافذة بحكم القانون- إلا 10.75 في المائة من هيئة الناخبين ، ومجلس سنة 1929 نسبة التمثيل فيه 9.25 في المائة ومجلس سنة 1938 النسبة فيه 11.75 في المائة ومجلس سنة 1942 النسبة فيه 9.75 ...

ولنا أن نتخيل تمثيل الناخبين في حق الاختيار في السنوات المتعاقبة وإذ بلغت نسبتهم 10 في المائة في انتخابات عام 1950 وما اكتنفها من شعوذة سياسية تفشو في الطبقات الأمية من الشعب لأن الجهالة تحجب عنها نور الحقيقة والحرية حيث لا يتورع عن ارتكاب كل ضروب الضغط والتهديد والإرهاب والتزوير. كما نص المشروع على شرط حسن السمعة وهو ما يتفق مع ما نص عليه الفقهاء الإسلاميون من شرطي العدالة والعلم الواجب توافرهما في أهل الشورى فقد نصت المادة 4 على أن «يشترط في عضو مجلس الأمة أن يكون مصريا حسن السمعة ، وأن تكون سنه أربعين سنة هجرية كاملة على الأقل وأن يكون على درجة من الأهلية الثقافية يحددها قانون الانتخاب». وهي ذات المادة التي تحدد الشروط الواجب توافرها في رئيس الدولة. ومركز مجلس الأمة مدينة القاهرة إلا إذا اقتضت الضرورة اجتماعه في جهة أخرى (مادة 7)

وقد نصت المادة 8 على أن «عضو المجلس ينوب عن الأمة كلها ، فلا ينوب عن دائرته فحسب» ومدة العضوية خمس سنوات (مادة 5)

ومجلس الأمة مجلس دائم ينعقد من تلقاء نفسه بدعوة من رئيسه أو وكيله في حالة غياب الرئيس ، وفترة انعقاده عشرة شهور ، ورئيس المجلس هو الذي يفض الدورة (مادة 13)

وهو في هذا يتفق مع نظام الدستور الأمريكي حيث لا يملك رئيس السلطة التنفيذية حق حل الكونجرس. ويختلف عما أوردته المادة 38 من دستور 1923 التي أعطت الملك هذا الحق بنصها «للملك حق حل مجلس النواب»

كما أعطت دساتير ما بعد 23 يوليو 1952 رئيس الجمهورية سلطة حل مجلس الأمة (مجلس الشعب بعد). كما نصت المادة 14 على أنه يجوز لرئيس المجلس أو وكيله في غيبة الرئيس ، أو رئيس الدولة أن يدعو المجلس إلى الانعقاد في أثناء العطلة البرلمانية أن استدعت الضرورة البت في أمر من الأمور التي تدخل في اختصاصه ويصح أن يتم ذلك بناء على طلب أكثر من ثلث أعضاء المجلس ونصت المادة 15 على علنية جلسات المجلس وبجواز سريتها وفق أحكام اللائحة الداخلية وذلك عند الضرورة القصوى  ويختص المجلس بالفصل في صحة نيابة أعضائه وفق لائحة المجلس الداخلية (مادة 12) ونصت المادة 11 على أن «قبل أن يتولى أعضاء المجلس عملهم يقسمون علنا بقاعة جلساته أن يكونوا مخلصين لله ثم للوطن مطيعين أحكام الدستور نصا وروحا .

ونصت المادة 6 على أن «ينتخب المجلس رئيسا ووكيلا سنويا في آخر كل دور انعقاد عادي ، ويتم الانتخاب وفق لائحة المجلس الداخلية.

حقوق عضو المجلس :

نصت المادة 17 على أنه «لا يجوز مؤاخذة الأعضاء عما يبدون من الأفكار والآراء في المجلس

ونصت المادة 18 على «لا يجوز أثناء دورة الانعقاد القبض على عضو المجلس إلا بإذن المجلس» وقد جاء هذا النص موافقا لنص المادة 110 من الدستور الملكي السابق بل أعطى ضمانات أوسع من تلك التي تطلبتها المادة السابقة بنصها «لا يجوز أثناء دور الانعقاد اتخاذ إجراءات جنائية نحو أي عضو من أعضاء البرلمان ولا القبض عليه إلا بإذن المجلس التابع هو له وذلك فيما عدا حالة التلبس الجنائية» فنص مادة المشروع جاءت شاملة لهذه الحالة الأخيرة وهي التلبس بالجناية حيث اشترطت أذن المجلس. وقد نصت المادة 19 على «لا يجوز فصل العضو إلا بقرار مسبب من المجلس بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم  كما نصت المادة 23 على أن تحدد مكافأة عضو المجلس بقانونوالمادة 22 قد نصت على أن يضع المجلس لائحته الداخلية

وقد نصت المادة 20 من المشروع على أن «تجري الانتخابات العامة لتجديد مجلس الأمة في خلال المائة يوم السابقة لإنهاء مدة نيابته وفي حالة استحالة إجراء هذه الانتخابات في هذه الفترة فإن مدة نيابة المجلس تمتد إلى حين تمام الانتخابات المذكورة

وقد عالجت المادة 21 حالة خلو العضوية وقد نصت «إذا خلا محل أحد أعضاء المجلس بالوفاة أو الاستقالة أو لأي سبب آخر ينتخب بد له في مدى شهر من يوم خلو المكان فعلا ولا تدوم نيابة العضو الجديد إلا إلى نهاية مدة سلفه».

وقد خالفت المادة في هذا الشأن ما أورده الدستور السابق من حيث انتخاب العضو الجديد ليشغل المكان الشاغر حيث سبق للمادة 113 منه أن نصت على «مدى شهرين» وكذلك قد خالفه في شأن الإبلاغ. فنص المشروع قد حدد خلو المكان من وقت شغره فعلا أما نص الدستور السابق فقد نص «من يوم أشعار البرلمان الحكومة بخلو المحل

وقد نصت المادة 24 من المشروع المقترح على عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس الأمة وأية وظيفة عامة ويستثني من ذلك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية وينظم قانون الانتخاب طريقة اختيار ممثلي الجامعات.

وأخيرا عالجت المادة 16 القرارات التي تصدر عن مجلس الأمة بصفته السلطة التشريعية إذ هو الذي يباشر سلطات الأمة بالنيابة عنها كما حددتها المادة 9.

فنصت المادة 16 على أنه «لا يجوز أن يقر المجلس قرارا إلا إذا حضر الجلسة أغلبية الأعضاء الذين يتكون منهم المجلس ويستثني من ذلك الاقتراع على مسألة الثقة برئيس الدولة ، فإنه يشترط للنظر فيها ولاتخاذ قرار بشأنها أن يحضر الجلسة أكثر من ثلثي الأعضاء الذين يتكون منهم المجلس ، وتصدر قرارات المجلس بالأغلبية المطلقة وذلك في غير الأحوال المشترطة فيها أغلبية خاصة

وقد راعى مشروع الدستور المقترح تفرقة في تبني المجلس لقرار أو قانون. فالأول قد عالجته المادة 16 والثاني نصت عليه المادة 46.

وقد نص المشروع في الحالة الأولى على حضور أغلبية أعضاء مجلس الأمة الجلسة أي 101 عضوا ويصدر قرار المجلس بالأغلبية المطلقة للحاضرين وهو ما يمثل 52 عضوا.

ويستثني من ذلك الاقتراع على مسألة الثقة برئيس الدولة ، فيشترط للنظر فيها ولاتخاذ قرار بشأنها حضور أكثر من ثلثي الأعضاء الجلسة أي 133 عضوا ، ويصدر قرار المجلس في هذه الحالة بالأغلبية المطلقة كذلك للحاضرين أي 67 عضوا.

أما في حالة صدور القانون فقد نصت المادة 46 على أنه «لا يصدر إلا إذا أقره المجلس بأغلبية أعضائه» أي بعد مناقشته واتخاذ قرار صدوره عن 101 عضو.

الوظيفة التشريعية :

وقد عالجها الباب الثلاث تحت عنوان «توزيع وظائف الدولة».

ونصت عليها المادة 44 بقولها «الوظيفة التشريعية يتولاها مجلس الأمة في حدود تعاليم الإسلام»

ولكل عضو من أعضاء المجلس ولرئيس الدولة حق اقتراح القوانين بما لا يجافي الإسلام  (مادة 45).

وهذا الحق في حقيقته حق مشترك بيد أن هناك اختلافا هاما بين اقتراحات القوانين التي تصدر عن رئيس الدولة وتلك التي تصدر عن أعضاء مجلس الأمة ، فالأولى تسمى مشروعات القوانين ، وتسمى الثانية اقتراحات القوانين ، وهذه التفرقة في التسمية قد استقر عليها الفقه الدستوري وهي تدل على اختلاف بين هذين النوعين من الاقتراحات. فتلك التي تأتي عن طريق السلطة التنفيذية يفترض فيها أنها قد درست بشكل أوفى وأعمق من مثيلاتها المقدمة من أعضاء المجلس مباشرة. والاقتراح يقدم إلى البرلمان في شكل مشروع قانون مكتمل المواد.

ولا ريب أن الاقتراح رغم أنه لا يمثل المرحلة الحاسمة في حياة القانون إلا أنه مع ذلك ذو أهمية واضحة. فهو الذي يضع الأسس الأولى في التشريع وهو الذي يحدد مضمونه وموضوعه ، لذلك كان من المنطقي إلا تنفرد الهيئة النيابية به حتى في ظل مبدأ الفصل التام بين السلطات.

فالسلطة التنفيذية وهي تقوم على التنفيذ اليومي للقوانين وتسهر على إدارة المرافق العامة هي التي تقوم على احتياجات المجتمع وما يوجد في القوانين من نقص أو قصور لذلك كان بدهيا أن تمنح هذا الحق بما لا يجافي الإسلام. وحق الاقتراح المقرر لأعضاء مجلس الأمة لا يشمل فقط اقتراح القوانين ، بل يتضمن أيضا القرارات واقتراح الرغبات. فبالنسبة لاقتراح القرارات نجد مثلا أن لأعضاء المجلس أن يقترحوا على المجلس أن يصدر قرارا باتهام وزير أو قرار بتعديل الدستور وكلاهما قد نظمته النصوص الخاصة التي وضعت شروطا معينة في مثل هذه الاقتراحات.

أما بالنسبة لاقتراح الرغبات فلم يضع المشروع قيودا عليه ، وبالتالي فيجوز لأي عضو أن يقترح على المجلس قرارا برغبة معينة ، ومثل هذا القرار وأن كان لا يملك قوة محددة كالقانون ، إلا أنه ذو قيمة أدبية لا تنكر.

ولا يصدر قانون إلا إذا أقره المجلس بأغلبية أعضائه (المادة 46) وقد نظمت المادة 48 طريقة إصداره بأن يبعث رئيس مجلس الأمة بالقانون بعد إقرار المجلس له إلى رئيس الدولة ، فإذا لم يصدر القانون في مدى عشرة أيام أصدره رئيس المجلس وسئل عن ذلك رئيس الدولة سياسيا لدى المجلس ، إلا إذا كان الامتناع عن الإصدار لمخالفة القانون لأحكام الإسلام أو أحكام الدستور وفي هذه الحالة يتحتم على الرئيس رد القانون إلى المجلس في المدة المذكورة مشفوعا بما يوضح هذه المخالفة

ورئيس الدولة إذ يزاول حق الإصدار فإنه لا يشترك -وفقا للرأي الغالب في الفقه الدستوري - في عمل القانون. لأن القانون قد تحدد مضمونه بصفة نهائية بعد إقراره من الهيئة النيابية.

فالإصدار وأن كان لا يعد مساهمة من الرئيس من عمل القانون إلا أنه يعتبر العمل التنفيذي الأول في حياة القانون ، فبواسطته يعلن رئيس السلطة التنفيذية إلى سائر رجال هذه السلطة صدور القانون الذي يعملون على تنفيذه.

وحتى إذا اعتبرنا الإصدار جزءا من العملية التشريعية فإن الرئيس لا يعد به مشتركا فيها لأنه ليس مخيرا في إصدار القانون أو عدم إصداره وإنما هو مجبر دائما على ذلك ما دام أنه قد استوفى شروطه الشكلية ولا يحق له أن يؤجل هذا الإصدار بحجة أن القانون يخالف في موضوعه نصوص الدستور وعليه في هذه الحالة الأخيرة أن يوضح مخالفة عدم الإصدار لمخالفة القانون لأحكام الإسلام أو الدستور خلال عشرة أيام برد القانون إلى المجلس. وفي غير الحالة المتقدمة تقوم مسؤوليته السياسية.

مقارنة بين فقه الشريعة والفقه الدستوري الحديث :

ذكرنا في المبحث التمهيدي أن خاصية الحكومة في الإسلام أنها حكومة شورى ، وهي فريضة واجبة على الحاكمين والمحكومين.

وقد ذهب بعض الفقهاء أن الشورى من أصول الشريعة وقواعدها ، ورتبوا على ذلك أن من ترك الشورى من الحكام فعزله واجب دون خلاف

والشورى ليست مطلقة بل هي مقيدة بنصوص التشريع وروحه ، فما ورد فيه نص فلا يكون محلا للشورى ، إلا أن تكون الشورى مقصودا منها التنفيذ ففي هذه الحالة تجوز. وأما ما لم يرد فيه نص فكله محل للشورى وللمسلمين أن ينتهوا منه إلى ما يرون من رأي. ويمكن القول بأن الإسلام قد جاءت نصوصه بالمبادئ الكلية ، ولم تأت بتفصيل والشورى -كما قدمنا- حق الحاكمين والمحكومين. أما تنظيم هذا الحق فهو أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان.

ولما كانت الشورى حقا ، فللحاكم أن يعرض رأيه على الأمة ، ولهذه الأخيرة أن تطلب من حاكمها أن يبين رأيه ، ولها ويمثلها أهل الحل والعقد -أو أهل الشورى- أن يبنوا رأيهم. وليس من الضرورة أن يجمع أهل الرأي على رأي واحد ، وإنما الرأي ما اتفقت عليه أكثرية المشيرين بعد تقليب وجوه الرأي ومناقشة المسألة المعروضة من كل وجوهها

ذلك عن الشورى فمن هم أهلها؟ هم أهل الحل والعقد كما يطلق عليهم الفقهاء ، وتحديدهم أو طريقة اختيارهم مما يختلف فيه باختلاف الزمان والمكان. غير أن هناك شروطا أوجب الفقهاء توافرها فيمن يختار من أهل الشورى : أولها : العدالة- يشترط أن يكون عدلا. والعدالة- كما سبق تعريفها هي التحلي بالفرائض والفضائل والتخلي عن المعاصي.

ويرى بعض الفقهاء أن تكون العدالة ملكة لا تكلفا. ثانيها : العلم- والمقصود هو علم الدين وعلم السياسة وغيرهما ولا يشترط أن يكون العالم منهم ملما بكل العلوم.

وليس من الضروري أن يكونوا جميعا مجتهدين ، فيكفي أن يكون الاجتهاد في مجموعهم لا في كل فرد منهم. ثالثها : الرأي والحكمة- ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبية  ذلك مما ورد في كتب الفقهاء الإسلاميين. فماذا عن الفقه الدستوري الحديث؟ نعرض له باختصار.

فنقول قد اختلف الأمر فيه بين الفقه الماركسي وما يسعى بالفقه الدستوري الديمقراطي. وقد أخذ بالأول كافة الدول التي اعتنقت بالمبادئ الماركسية اللينينية أساس لها ومثالها الاتحاد السوفياتي وبلاد شرق أوروبا التي تطلق عليها الديمقراطيات الشعبية وغيرها في آسيا مثل الصين وفيتنام..

وقد قيدت هذه الأنظمة حق التمثيل في البرلمان لأعضاء الأحزاب الماركسية.

وهم بطبيعة الحال لا تخرج آراؤهم عما يدور في جهاز الحكم. أما ما يطلق عليه الأنظمة الديمقراطية فلا ريب يشترط لنجاحها الاستقامة السياسية وكثيرون من الناس يظنون أن الحياة السياسية ، لأن السياسة في نظرهم كذب وخداع ، ونفاق ورياء ، وتسابق على اقتناص المنافع الشخصية وهذا وهم سري من التواء السياسة في بعض الأمم وقيامها على أساس عبارات جوفاء وكلمات براقة وروابط شخصية وسعي وراء مصالح ذاتية وتلك التي أثبتت أزمتها

وقد سبق أن رأينا أن حكم أهل الشورى هو حكم الوكيل عن الأمة فكذلك نصت المادة 9 التي عرضناها وهذا ما تؤكده أيضا المادة 2 من الباب الأول «تباشر الأمة سلطاتها عن طريق هيئة تنوب عنها وهذه السلطات هي سلطة التشريع وانتخاب الرئيس وسلطة الرقابة. وقد رأينا أن حق أولى الأمر في التشريع مقيد بأن يكون متفقا مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة. وهو ما يجعل حقهم قاصرا على نوعين هما : تشريعات تنفيذية ويقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية ، وهو على هذا الوجه يعتبر بمثابة اللوائح التي خول لرئيس الدولة وضعها وفقا لما نص عليه في المادة 52 ، وتشريعات تنظيمية ويقصد منها تنظيم المجتمع وحماية الجماعة وسد حاجاتها على أساس المبادئ العامة ، وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكت عنه ، ولم تأت الشريعة بنصوص خاصة فيه.

والشريعة ليست فقط ما ورد في القرآن الكريم ، فما جاء فيه من أحكام هو يسير من التشريعات وقد نص على الحدود والقصاص وأحكام الوراثة والمعاملات وهذه قد جاءت بأحكام عامة والسنة قد جاءت مفصلة مبينة لما ورد في القرآن فهما المصدران الملزمان وهما وحدهما أساس وحدة هذه الأمة.

على أن شريعة الله في كتابه وسنة نبيه لم تلزم الناس إلا بقواعد عامة وأحكام محدودة وسكوت الشريعة عما عداها من تفصيلات هو تفويض للجماعة في تطبيق نصوص شريعتها العامة على تفصيلات حياتها وفي مواجهة كل جديد تقتضيه المصلحة وذلك من رحمة الله الذي أراد للناس السعة لا الضيق ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.

وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أمور رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها». وقد اختلف الفقهاء في التفصيلات باختلافهم في الاستدلال ورجحان الآراء وتقليب نظرهم في المسألة ، وما سكت عنه التشريع الإلهي فقد عمل فيه أهل الفقه رأيهم ولذلك كانت من مصادر الشريعة الإجماع والعرف والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ووجوه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان وقديما قال الفقهاء «حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله».. وكل رأي في ذلك إنما يوزن على قدر دليله من كتاب الله وسنة رسوله ولذلك فما رآه المسلمون حسنا- كما قال -صلى الله عليه وسلم- فهو عند الله حسن».

فليس تطبيق أحكام الإسلام أو التشريع بما جاء موافقا لأحكام الإسلام كما تنص عليه بعض مواد مشروع الدستور المقترح هو القطع والرجم والجلد وهي شبهات تفزع الناس إذا نادى مناد بتطبيق شرع الله..

فهذه الحدود لا توقع إلا بشروط كثيرة ومنها عقوبة القطع مثلا لا توقع إلا بشروط تتعلق بعضها بمادة الشيء المسروق ، وبعضها بقيمته ، وبعضها بالمكان الذي سرق منه وبعضها بالسارق نفسه وبعضها بالمالك وبعضها بعلاقة أحدهما بالآخر وقرابته منه وبعضها بالشهود وهكذا..

وصحيح أن هذه الشروط يندر توافرها وصحيح أنه لا توقع عقوبة القطع إلا حيث تنتفي جميع الشبهات فإن قامت شبهة ما لا يصح توقيع العقوبة لقوله عليه السلام «ادرءوا الحدود بالشبهات» حتى أن السارق إذا أدعى أن العين المسروقة ملكه اعتبر هذا الادعاء في نظر بعض المذاهب الإسلامية شبهة تسقط عنه القطع وأن لم يقم أية بينة على صحة ما ادعاه

وكذلك الشأن في اختلاف الفقهاء حول السرقة الكبرى وهي قطع الطريق ، والزنا له شروطه في توقيع العقوبة سواء بالرجم أو الجلد وهناك شروط خاصة بالأداة المستخدمة في الجلد. وعقوبة الزنا هي الجلد وهو حد البكر من الرجال والنساء ، وهو الذي لم يحصن بالزواج ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح فحده الرجم. ومن ثم إذا اقترف الزنا مجنون أو صبي فلا يقام عليه الحد.

كما أجمع الفقهاء على أن الرقيق لا يرجم كما أن الأمة إذا زنت فعليها نصف ما على المحصنة -الحرة غير المتزوجة- من العذاب أي الحد وهو خمسون جلدة وأن هذا الحكم شامل للعبد أيضا

وقد اتفق الفقهاء أيضا على شرط أن يكون الجاني متزوجا بنكاح صحيح وبموجبه أن من كان لم يتمتع إلا بناء على ملك اليمين أو كان عقد نكاحه فاسدا أو باطلا لا يعد متزوجا أي أنه أن ارتكب الزنا لا يعاقب بالرجم ولكن بالجلد.

أما شرط الأحصان ففيه خلاف ، فيذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو يوسف أن كل من ارتكب الزنا بعد الزواج فإنه يرجم مسلما كان أو غير مسلم ، بينما يتفق أبو حنيفة ومالك على أن الرجم إنما هو للمسلم وحجتهما ما روى عن ابن عمر أنه قال «من أشرك بالله فليس بمحصن» (رواه ابن إسحاق في مسنده والدارقطني في سننه) وحجة الأولين أن النبي قد نفذ حكم الشريعة التي لا تختلف عما ورد في التوراة. فقد ورد في الصحيحين أن الرسول لما بلغته قضية زنا اليهوديين ، سأل اليهود : «ما تجدون في التوراة من شأن الرجم؟ أو قال : «ما تجدون في كتابكم؟ فلما ثبت أن الرجم هو الحد عندهم للزنا قال فإني أحكم بما في التوراة» وفي رواية أخرى أنه لما قضى في هذه القضية قال : «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» تفرد به مسلم.

وقد ثبت الرجم بالسنة وثبت الجلد بالقرآن.

ولما كان النص القرآني مجملا وعاما وكان الرسول قد رجم الزانيين المحصنين  ، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن.

وقد ورد حكم الرجم أيضا في التوراة حيث جاء في سفر التثنية إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان.

الرجل المضطجع مع المرأة ، والمرأة فينزع الشر من إسرائيل.

«وإذا كان فتاة عذراء مخطوبة لرجل ، فوجدها رجل بالمدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما من المدينة وأرجموهما بالحجارة حتى يموتا ، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه ، فينزع الشر من المدينة».

هذا هو نص التوراة ، ولم يأت في الإنجيل ما يعارضها ، وهي واجبة على النصارى بحكم أن ما في العهد القديم -وهو التوراة- حجة عليهم إذ لم يكن في العهد الجديد وهو الإنجيل ما يخالفها ولقول المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- «ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمل» وفقا لما ورد في الأناجيل المعتمدة والمتداولة.

ويثبت الزنا بالشهادة والإقرار.

وقد اشترط في الأولى شهادة أربعة شهداء ممن لم يثبت كذبهم ولا يكونوا خائنين ولا أقيم عليهم الحد من قبل ولا تكون بينهم وبين المتهم خصومة ، ويجب اتفاقهم كما يذهب الفقهاء برؤيتهم للزانين وفرجه في فرجها كالميل في المكحلة والرشاء في البئر كما ورد في الحديث وإلا فاختلافهم في أحد هذه الأمور وفي المكان يسقط شهادتهم ، ويعدون في بعض المذاهب مرتكبي قذف.

والوجه الثاني الذي يثبت به الزنا هو الإقرار ، وهو اعتراف الجاني بجنايته وهناك خلاف يسير بين الفقهاء ، فيقول أبو حنيفة وابن حنبل وابن أبي يعلي وإسحق بن راهوية أن على الجاني أن يقر بجنايته أربع مرات بأربع مجالس ، ويقول مالك والشافعي وعثمان البتي والحسن البصري أنه يكفي أن يقر الجاني بجنايته مرة واحدة.

وإذا أقر الجاني بفعلته ثم رجع -ولو أن رجوعه بالفعل كهروبه- في أثناء إقامة الحد عليه ، يجب أن يمسك عن إقامة الحد عليه ولو كانت القرائن تدل على أن ليس السبب في رجوعه عن إقراره إلا اتقاء ألم الحد. ومصدر ذلك ما روى عن حادث ماعز بن مالك الأسلمي وقد كان غلاما يتيما في حجر هزال بن نعيم فزنى بجارية من الحي فأمره هزال أن يأتي النبي ويخبره بما صنع لعله يستغفر له.

فجاء الرسول وهو في المسجد وناداه : «يا رسول الله إني زنيت» فأعرض عنه النبي وقال له «ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه» فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال : «إني زنيت» فأعرض عنه النبي فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال : «طهرني يا رسول الله فقد زنيت».

فقال له أبو بكر : «لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله» ولكنه أبى فقال : «يا رسول الله إني زنيت فطهرني» ، فقال له الرسول : «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» قال : لا ، فسأله الرسول : «هل ضاجعتها؟ قال : نعم» هل باشرتها؟ ، قال : نعم قال : هل جامعتها؟ قال : نعم ، ثم قال له النبي كلمة لا تستعمل في اللغة إلا لفعلة الوطء خاصة وهي لم تسمع منه -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك ولا بعده ولولا أن القضية قضية نفس إنسانية لما سمعها أحد من لسانه فقال أنكتها؟ قال : نعم قال : «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال : نعم ، فقال : كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال : نعم فسأله النبي : هل تعرف الزنا؟ فقال : «نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا» فسأله النبي : أوقد نكحت؟ فقال : نعم» فسأل النبي من حوله أصحابه : أبه جنون؟ فأخبروه أنه ليس بمجنون. فسألهم أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ثم قال الرسول لهزال : «لو سترته بثوبك كان خيرا لك». فعند ذلك أمر برجمه ، فرجم خارج المدينة فلما أحس مس الحجارة صرخ بالناس «يا قوم ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي» ولكن الناس أخذوه وضربوه حتى مات.

فذكروا لرسول الله أنه فر حين أحس مس الحجارة ومس الموت فقال الرسول «هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه».

والقصة الثانية لامرأة من غامد جاءت إلى النبي فقالت : «يا رسول الله طهرني» فقال : «ويحك فارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه» فقالت : «تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك ، إني حبلى من الزنا» فقال : أنت؟ قالت : نعم ، ولما كانت حبلى من الزنا ما أطال النبي استجوابها بل قال لها : «أذهبي حتى تلدي» ، فلما ولدت قال : «أذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» ، فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت : يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها.

وما سقنا هذين الحادثتين إلا لتثبيت شفافية الضمير ورفاهية الحس في جيل قد نال من عذب الإسلام وقد أراد التطهر مما اعترى ضعفه البشري وراء لذة محرمة. ولكن سقوط القطع وحد الزنا لعدم توافر الشروط أو لقيام شبهة ما لا يعفي السارق والزاني من العقوبة ، فالشريعة الإسلامية تقرر عقوبة التعزيز في كل حالة يسقط فيها الحد متى ثبتت الجريمة بأي طريق من طرق الاستدلال وإثبات الجريمة.

والتعزير يقدرها القانون المتواضع عليه في صورة تتفاوت شدتها حسب مبلغ خطر الجريمة وحسب اختلاف مرتكبيها وما يكفي لردعهم. فهذه الحدود كقطع يد السارق  ، ورجم الزاني المحصن أو جلده ، وجلد غير المحصن وجلد السكير  قد تبدو قاسية عند النظرة الأولى وعند من لم يدرس فكرة هذا الدين الكلية وقواعده العامة. أن الإسلام لا يقيم هذه الحدود على مرتكبي تلك الجرائم إلا بعد ألا يكون لهم عذر ما في ارتكابها ولا شبهة في وقوعها. أنه يقطع يد السارق الذي لم يسرق اضطرارا ليطعم نفسه أو يطعم أهله ، فإذا كانت هناك مبررات اجتماعية أو فردية تضطر إلى هذه الفعلة فلا عقوبة ، بل ربما عاد بالعقوبة على من دفع المجرم إلى ارتكاب جريمته ، وهكذا فعل عمر مع غلمان سرقوا ناقة ، فلما علم أنهم سرقوا لأن سيدهم لا يعطيهم الكفاية من الطعام أطلقهم وغرم السيد ثمن هذه الناقة ضعفين ولما كان الجوع في عام الرمادة عطل حد السرقة.

وأن الإسلام يرجم الزاني الذي يضبطه الشهود في حالة تلبس كامل أو يجلده ، في الوقت الذي لا يبيح لأحد أن يتسور على أحد داره أو يتجسس عليه. فالزاني الذي يضبطه الشهود أذن لا يرتكب هذه الفاحشة في داره بل في مكان يستطيع الشهود أن يضبطوه فيه فهو أذن مجرم فاحش متبجح ينشر الفاحشة ويشيعها.

فأما الذين يرتكبون هذه الفاحشة متسترين ثم يعترفون طلبا للتكفير فالإسلام يرأف بهم رأفة شديدة ويحاول أن يتلمس لهم الشبهات كي يعفي هذه الضمائر المتحرجة المتطهرة من العقاب لقوله -صلى الله عليه وسلم- «أدرؤوا الحدود ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها).

هذا هو الشأن في الحدود والقصاص. فما أوردته الشريعة الإسلامية وبوصفها العام أي مصادرها المختلفة فقد جاءت رحبة متسعة الأفق بالآراء الفقهية في التفريعات المختلفة التي تعرفها التشريعات المدنية وغيرها وما زال ينقب فيها الباحثون لما فيها من الغنى ووفرة الاستدلال ولا نشيد بما تناوله البحاث المسلمون  بل نشير في ذلك إلى ما قال به فقهاء لهم من سعة العلم ما أذهب عنهم التعصب الذميم وهم غير مسلمين  فقاموا على دراسة الشريعة الإسلامية وتبحروا فيها ونقبوا عن نفائسها وما زالوا يشيدون بها وأن فيها رحابة وسعة فهي شريعة خالدة توافق نواميس البشر في كل زمان ومكان لم تبلغ العلوم القانونية المعاصرة ما وصلت إليه من آراء في تطبيقها لحياة الإنسان وتنظيمها كما يؤكده تقرير مؤتمر الأسبوع الدولي للشريعة الإسلامية الذي انعقد في باريس في الفترة من 2 إلى 7 يوليو 1951

ونص مشروع الدستور المقترح على أن يكون التشريع في حدود تعاليم الإسلام ولما جاءت صيغ المواد 10 ، 44 ، 45 مطلقة ، فأنا نرى أن المشروع قد تبنى الأخذ من المدارس الفقهية جميعا دون التقيد بمذهب معين والذي أوصل بتبني بعض الدول لهذا إلى الجمود والتعصب.

فالمذهب الغالب في مصر خاصة في مجال الأحوال الشخصية هو المذهب الحنفي وفي شمال أفريقيا المذهب السائد هو المذهب المالكي في كل من تونس والجزائر والمغرب والمذهب السائد في اليمن هو المذهب الشافعي وما أكدت ذلك أيضا المادة الثانية عشرة من دستور جمهورية إيران بنصها  الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثني عشري وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد ، والمذاهب الإسلامية الأخرى سواء الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي تتمتع باحترام كامل وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم الدينية حسب فقههم ، وتتمتع هذه المذاهب برسمية في التعليم والتربية الدينية والأحوال الشخصية (الزواج ، والطلاق ، والإرث والوصية) والدعاوى المرتبطة بها في المحاكم.

وكل منطقة يتمتع فيها أتباع هذه المذاهب بأكثرية ، فإن المقررات المحلية لتلك المنطقة تكون وفق ذلك المذهب في نطاق صلاحيات مجالس الشورى المحلية مع حفظ حقوق أتباع سائر المذاهب الأخرى».

وما درى هؤلاء وأولئك في بلاد الإسلام أن أصحاب المذاهب ليسوا إلا أصحاب رأي واجتهاد وعلم بعدوا قليلا أو كثيرًا عن عصر الرسالة واستحدثت أمامهم أقضية مختلفة في بلاد ذات عوائد ومدنيات مختلفة فكان لا بد من استحداث آراء وقواعد تحل على أساسها مشاكل الناس وهؤلاء الفقهاء لم يبعدوا عن الكتاب والحديث ولم يدعوا لأنفسهم علما خاصا إنما آراؤهم تنوعت بحسب ما توافر لدى كل منهم من أسباب الاستدلال.

فالإمام مالك يقول وهو في مسجد رسول الله «كل يؤخذ من كلامه ويرد عليه ألا صاحب هذا القبر» وأشار إلى قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والشافعي يقول : «إن صح الحديث فهو مذهبي» ومنهم من يقول «لا تأخذوا بقولنا حتى تعلموا من أين أخذنا» ولم يلزم أحد من الأئمة الناس بأتباع مذهبه ولكن أتباعه هم الذين ألزموا أنفسهم بإتباعه وحصروا أنفسهم في نطاقه. على أنه ليس ثمة أي معيار للتفضيل بين مذهب ومذهب فانتشار واحد وانزواء آخر لا يرجع إلى قوة الأول وصحة آرائه ولا إلى ضعف الثاني وسقم أفكاره ، بل أن العوامل السياسية كان لها في أغلب الأحيان الأثر الفعال في ذيوع مدرسة فقهية أو خمولها ، فمذهب أبي حنيفة ومدرسته ذاعا وانتشرا لأن السلطان احتضنه ، فمن الثابت في التاريخ أن الخليفة العباسي اتخذ أبا يوسف صاحب أبي حنيفة قاضيا للقضاة ، وكان أغلب القضاة الذين يختارهم من الحنفية ، وجاءت الحكومات الإسلامية المتعاقبة فرأت ذلك المذهب مطبقا في محاكمها فتبعته واستقرت عليه. وأصبح الجمهور كذلك ملما به عالما بأحكامه ، فالروح الديوانية أذن هي التي جعلت الحكومات تميل إلى الإبقاء عليه وظل المذهب الحنفي هو المطبق في دور القضاء حتى الدولة العثمانية دون غيره من المذاهب والمدارس الفقهية ، على أن مذهب أحمد بن حنبل لم يتح له نصيب وافر من الذيوع والانتشار لأن الظروف السياسية لم توانه.

والمذاهب بمدارسها الفقهية ليست هي الأربعة المشهورة فقد ظهرت مذاهب غيرها مثل مذهب الأوزاعي ومذهب الليث بن سعد الذي قال فيه الشافعي : «الليث بن سعد» أفقه من مالك ولكن قومه ضيعوه (أي لم يدونوا مذهبه) ، ومذهب داود الظاهري الذي بناه على أساس العمل بظاهر الكتاب والسنة وهو مذهب ابن حزم.

فهذه المواد من مشروع الدستور المقترح قد أخذت بروح الشريعة ذاتها وما قامت مذاهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وجعفر الصادق  والمذهب الزيدي  والمذهب الأباضي  ومذهب الظاهرية إلا على الاجتهاد ولا اجتهاد إلا عن مستند والمستند هو كتاب الله وسنة رسوله ، فالمشروع قد أخذ في رأينا بما في هذه المدارس الفقهية وما يلائم العصر وهو ما عبرت عنه مؤتمر القانون الدولي المقارن المنعقد في لاهاي بهولندا في عام 1932 وفي عام 1937 وانتهيا فيه إلى اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع العام واعتبارها صالحة للتطور وما عبر عنه كذلك البروفسور لويس ميو في تقرير المؤتمر المنعقد في باريس المشار إليه آنفا حيث ذكر «لا أدري كيف أوفق بين ما كان يصدر لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وعدم صلاحيتها كأساس لتشريعات متطورة وبين ما سمعته في هذا المؤتمر مما يثبت بغير شك ما عليه الشريعة الإسلامية من عمق وأصالة ودقة وكثرة تفريع وصلاحية لمقابلة جميع المستحدثات. وانتهى الأسبوع بالقرارات الآتية :

أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة تشريعية لا يماري فيها وأن اختلاف المذاهب ومدارسها الفقهية يحوي ثروة تشريعية هي مناط الإعجاب ومنها يستجيب الفقه لجميع مطالب الحياة.


السلطة التنفيذية ووظيفتها

رئيس الدولة:

وقد نصت المادة 25 على اختياره بنصها «يختار مجلس الأمة من بين أعضائه رئيسا للدولة لمدى الحياة  ، كما يجوز له أن يختار رئيسا من غير أعضائه.

وفي هذه الحالة يشترط لصحة التعيين أن يكون الاختيار بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتكون منهم المجلس وأن تتوافر في المختار ما يجب توافره في عضو مجلس الأمة (كشرط الأهلية الثقافية وأن يكون مصريا حسن السمعة وأن تكون سنه أربعين سنة هجرية كاملة على الأقل  (مادة 4).

والرئيس مسؤول لدى مجلس الأمة عن تصرفاته في شؤون الدولة سياسيا وجنائيا (مادة 29).

ويسأل سياسيا كذلك أمام المجلس عن تصرفات وزرائه (مادة 38) فالرئيس وحده في هذا المشروع المقترح يملك اختصاصات السلطة التنفيذية وهو يجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة.

والوزراء هم مساعدوه له حق تعيينهم وعزلهم كما نصت على ذلك المادة (36) وهم يسألون أمامه سياسيا (المادة 37). ويتشابه ذلك والدستور الأمريكي إذ لا مسؤولية سياسية للوزراء أمام البرلمان (الكونجرس) فهذا الأخير لا يستطيع أن يقترع على عدم الثقة بهم وأن يعزلهم.

ويرى البعض أن مركز الرئيس في الدستور الأمريكي هو أكبر شيء يجعله ذا طابع خاص يميزه عما عداه من الأنظمة الديمقراطية الغربية ، كما أن عدم المسؤولية السياسية -في نظر البعض الآخر- تعد الخاصية المميزة للنظام الأمريكي لأنها هي التي تكفل استقلال الرئيس في مزاولة سلطاته

ومع اتفاق المشروع والدستور الأمريكي على أن الوزراء مسئولون أمام الرئيس إلا أن الأمر مختلف في كل منهما.

فالرئيس في دستور الولايات المتحدة الأمريكية لا يسأل سياسيا إلا أمام الشعب عند انتهاء مدة رئاسته ، فالكونجرس يستطيع استنكار سياسته أو تصرفاته ولكن يحق للرئيس ألا يلتفت لذلك الاستنكار.

أما بالنسبة لرئيس الدولة في المشروع المقترح فقد حددت مسؤوليته سياسيا عن تصرفات وزرائه أمام مجلس الأمة الذي يستطيع دعوته لسؤاله أو لاستجوابه. وفيما نرى أن الفرق بين الاصطلاحين واضح. ففي السؤال وهو مجرد طلب معلومات أو بيانات يتفق فيه الرئيس والوزراء الذين يستدعيهم المجلس ليستفسرهم عن أمر معين (مادة 42) أما الاستجواب فنرى أن القصد منه هو المحاسبة على تصرف من التصرفات المتصلة بالشؤون العامة وكثيرا ما ينتهي بالتصويت على قرار بالثقة أو بعدم الثقة نظرا لما قدمناه من مسؤولية عن تصرفات وزرائه.

أما مسؤولية الرئيس المدنية والجنائية في غير الجرائم التي تقع بمناسبة أداء وظيفته فتكون أمام جهات القضاء العادي شأنه في ذلك شأن كل مواطن عدا أنه لا يجوز إلقاء القبض عليه ألا بعد الحصول على أذن مجلس الأمة (مادة 33) وليس لرئيس الدولة حق حضور جلسات المجلس ألا بدعوة منه لسؤاله ولاستجوابه ولكنه يستطيع مكاتبة المجلس عن طريق رئيسه (مادة 34).

اختصاصاته :

وهي ما نظمته المادة 50 في الباب الثالث بنصها على أن «رئيس الدولة يصدر القوانين أما الوظيفة التشريعية ذاتها فيتولاها مجلس الأمة بما لا يجافي أحكام الإسلام ، ولرئيس الدولة أن يضع اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها -وهو ما يتفق مع دستور الولايات المتحدة الذي خول الرئيس بصفته القائم على تنفيذ القوانين سلطة إصدار اللوائح ، وهي بذلك تنفق مع المعيار القانوني المعروف في الفقه الدستوري ، فاللائحة هي عمل إداري يخضع للقانون والمعيار القانوني الذي يتميز به هو أن رئيس الدولة بوصفه متوليا الحكم له الحق في إصدار هذه اللوائح.

المظهر الأول من هذا المعيار معترف به من الفقه الدستوري ويمثل لا فرير دو كروك وأزمين الفقهاء الذين يقولون به.

فعند هذا الأخير أن عمل اللائحة أو إصدارها لا يدخل بالضرورة في نطاق وظيفة السلطة التشريعية فاللائحة تختلف عن القانون.

فهي (اللائحة) في الواقع عمل وصفي هدفه ضمان تنفيذ القانون بتكملة نصوصه بالتفصيل دون تغييره أو تعديله في النص أو روح القانون ، فحق عمل اللوائح لا يكون من الضرورة من أعمال السلطة التشريعية بل يجب أن يعهد به إلى السلطة التنفيذية بوصفها القائمة على تنفيذ القوانين وهي بهذا تستطيع أن تصدر ما يكملها  أما المظهر الآخر الذي يكيف حق رئيس الدولة بوصفه حاكما فيقول به كل من هوريو ، مورو ، دوجي  وما أخذ به نص المادة 52 من مشروع الدستور يوافق ما جرى عليه العمل في فرنسا.

فالحكومة بدون تخويل من المجلسين تستطيع أن تصدر اللوائح الضرورية التي من شأنها تكملة القوانين بتفصيل نصوصها بحيث يمكن معها تطبيقها وتحقيق الغاية التي قصدها المشرع بإصداره لها.

وهذا من اختصاص السلطة التنفيذية بوصفها قائمة على تنفيذ القوانين كما يقول أزمين

وهذا الحق أيضا خُوِّلت السلطة التنفيذية في مباشرته في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفي غيرها.

بيد أن هذا الحق الوارد في نص المادة 52 من المشروع لا يشمل اللوائح المستقلة إذ أن من طبيعتها الإتيان بقواعد قانونية جديدة أي تشريعها ، وهذا يخرج عن اختصاصات رئيس السلطة التنفيذية وهو حق أصيل للسلطة التشريعية وحدها.

لوائح الضبط

ويقصد بها الإجراءات التي تتخذ لوضع قيود على الحريات العامة من أجل حفظ الأمن والسكينة.

وقد اختلف أيضا الفقه الفرنسي حول المعيار القانوني لهذه اللوائح. فذهب هوريو إلى أن هذه اللوائح هدفها هو تنفيذ قوانين البوليس بينما يذهب دوجي أن هذه اللوائح لا تستند إلى أي قانون محدد وهو يرجع أساسها أيضا إلى قاعدة عرفية

خلافا لهذه الآراء الفقهية التي تباينت حول المعيار القانوني والتي تأثر بها بعض الفقه الدستوري المصري في ظل دستور 1923 فأن المادة 95 التي وضعت قيودا على مباشرة الحريات قد نصت ضمنا أن لوائح البوليس تدخل في إطار اللوائح العادية اللازمة لتنفيذ أو تكملة القوانين.

والخلاصة أن رئيس الدولة في ظل هذا المشروع يخضع في وضعه لهذه اللوائح لأحكام الدستور والقوانين وفقا لقسمه الذي أوردته المادة 26 من احترام الدستور نصا وروحا. ولرئيس الدولة اختصاصات بصفته قائما على إدارة شؤون البلاد فهو الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية وله أيضا اختصاصاته بصفته نائبا عن الجماعة التي يمثلها وهي الدولة كشخصية معنوية وتمثيلها قبل غيرها وهي اختصاصات ذات صفة سياسية. ووفقا للصفة الأولى نصت المادة 53 على أن «رئيس الدولة يرتب الوزارات والمصالح العامة ويولي ويعزل الموظفين على الوجه المبين بالقوانين

وقد اختلف الفقه الفرنسي حول المعيار القانوني لهذا الحق المنوط برئيس الدولة.

فذهب عدد من الفقهاء ومجلس الدولة الفرنسي أنه ينبثق من سلطة الرئيس في وضع اللوائح اللازمة والمخولة إليه بموجب الدستور من أجل ضمان تنفيذ القوانين. ولدى هؤلاء فإن الرئيس في إتيانه عملا من شأنه ترتيب هذه المصالح العامة يكون قد مارس سلطته في وضع اللوائح إذ أن هذه المصالح من أهدافها تأمين تنفيذ القوانين.

هذا الرأي قد انتقده دوجي الذي يرى أن هذه المصالح العامة ليس من أهدافها ضمان تنفيذ القوانين بل العمل وفقا للقوانين وهذا يختلف عن المعيار الأول

ففي نظريته أن لائحة تنظيم المصالح هي لائحة مستقلة لا تستند إلى قانون وليس من هدفها تفصيل تطبيق هذا القانون ، وأن هذه القاعدة ترجع إلى عرف دستوري منذ القرن التاسع عشر

ويتفق كاربه دي مالبرج في القول مع دوجي بأن هذه اللائحة لا تستند إلى قانون ويختلف معه في المعيار القانوني حيث أنه لا يرجعها إلى قاعدة عرفية دستورية وإنما يرجعها إلى التطبيق للقوانين المنشئة لهذه المصالح العامة .

ونص المادة 53 من الدستور المقترح نجد صورا مشابهة لها في كافة الدساتير وهي إحدى الامتيازات التي خص بها رئيس الدولة ولكن هذا ليس مطلقا إذ أن في إطلاقه قد يؤدي إلى التعسف وسوء استعمال السلطة بل أنه ينبغي أن يكون مقيدا وبحيث لا يؤدي الإطلاق إلى جواز المحاباة لقرابة أو صلة التي لا علاقة لها بصلاح الشخص لتولي الوظائف العامة.

إذ أن هذه الأخيرة ليست حقا للفرد على الدولة وإنما هو تكليف على الفرد من الدولة. فميزان الصلاحية هي القدرة والكفاءة على القيام بمهام الوظيفة وهي تختلف باختلاف الوظائف التي تحدد شروط شغلها القوانين وهنا معيار المساواة أمام القانون ، فمن وجد مستوفيا للشروط حق تعيينه ومن وجد غير ذلك حجب ولو كان ذا صلة. هل هذا الحق خاص برئيس الدولة؟

الذي نستنتجه من النصوص الواردة في شأن السلطة التنفيذية ووظيفتها أن سلطة تولية الوظائف هي سلطة عامة وليست خاصة ، ومشروع الدستور لم يأت بنص صريح في هذا الشأن لكن التفسير يقودنا إلى ما قدمنا.

وهذه الطريقة في التفسير نجد مبدئها في ديباجة المشروع التي تنص على أنه وضع موافقا لأصلح ما في النظم المعاصرة خاصة والنظام الرئاسي ونظام حكومية الجمعية الذي أخذ به دستور النمسا الصادر عام 1920 والدستور التركي الصادر عام 1924 وإلى مثل هذه النصوص نستأنس الرأي من يستطيع أن يعهد إلى الرئيس وحده ، أو إلى المحاكم أو إلى رؤساء الأقسام (والمقصود الوزراء أو ما يطلق عليه هناك سكرتيرو الدولة) تولية (أي تعيين) الموظفين ونستطيع التأكيد أيضا أن هذا الحق مفهوم ضمنا من نص المادة 35 من مشروع الدستور التي تذكر يساعد رئيس الدولة في أداء وظيفته التنفيذية وزراء يتولون الوزارات المختلفة التي ينظمها القانون "فهؤلاء - أي الوزراء - يملكون تولية الموظفين وفقا لنظرية التفويض.

كما يندرج أيا تحت الصفة الأولى حق رئيس الدولة في تولية وعزل الضباط فقد نصت المادة 54 رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الذي يولي ويعزل الضباط على الوجه المبين بالقوانين".

وصفة القيادة العليا نجد إثارة لها في دستور الولايات المتحدة الأمريكية فالمادة الحادية عشرة منه تنص على أن الرئيس هو القائد الأعلى للجيش والبحرية" والمادة 33 من الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 تصف رئيس الجمهورية بأنه قائد القوات المسلحة. وهل يملك رئيس السلطة التنفيذية وهو رئيس الدولة قيادة الجيوش بصفة شخصية؟ لاشك أن الحروب الحديثة لم تعد شبيهة بتلك التي مرت على البشرية منذ أزمان غابرة وقد أقتضى الأمر نظرا لتطور الاختصاصات وتعقد أمور الحرب وجود عسكريين مختصين بهذه الشئون ولهذا نجد بعض الدساتير الحديثة تنص على أن القيادة العليا للجيوش تدخل في اختصاصات السلطة التشريعية. وهذا نلحظه في الدول التي أخذت بنظام حكومة الجمعية فهي تنيط هذه الصفة إلى تلك السلطة كشخصية معنوية ولكن تنص على أن القيادة الفعلية لهذه القوات المسلحة تباشر تحت إدارة رئاسة الأركان أو أحد المختصين وهذا ما نصت عليه المادة 80 من الدستور النمساوي لسنة 1920 والمادة 40 من الدستور التركي لسنة 1924.

وينبثق عن صفة القيادة العليا حق رئيس الدولة في تولية وعزل الضباط وفقا لنص المادة 54 ، "وهو الذي يولي ويعزل الضباط على الوجه المبين بالقوانين" والذي نلحظه أن مشروع المقترح قد تلافي النقد الذي وجه إلى نص المادة 46 من دستور 1923 الذي أغفل في مباشرة هذا الحق اقترانه بحدود القوانين ، مما خول إلى السلطة التنفيذية مملة في الملك التجاوز في مباشرة هذا الحق.

وبذلك تساوي نصا المادتين 53 و 54 من مشروع الدستور المقترح في وجوب أن يكون تولية وعزل الموظفين والضباط على الوجه المبين بالقوانين. اختصاصات ذات صفة سياسية وفقا لنص المادتين 55 و 56 من مشروع الدستور ، لرئيس الدولة الحق في اعلان الحرب. لكن الأولى قد حددت الحروب الدفاعية والثانية قد حددت الحرب الهجومية.

والأولى قد نصت عليها المادة 55 بقولها "رئيس الدولة يعلن الحرب الدفاعية ثم يعرض الأمر على مجلس الأمة". والثانية قد نصت عليها المادة 56 بقولها "وهو (أي رئيس الدولة) الذي يعلن الحرب الهجومية ويبرم المعاهدات بعد موافقة مجلس الأمة.

وهذه التفرقة التي أخذت بها أيضا المادة 46 من دستور 1923 هي منطقية. ففي الحالة الأولى واجب رئي الدولة هو الدفاع عن البلاد إزاء خطر داهم يهددها أما الثانية فنظرا لما يترتب عليها من أخطار وعواقب فقد استلزمت المادة موافقة مجلس الأمة مسبقا.

ومع سداد هذه التفرقة ، ذهبت بعض الدساتير إلى ضرورة موافقة السلطة التشريعية إزاء حالة الحرب ، من ذلك الدستور الفرنسي الصادر عام 1875الذي نص على أن "رئيس الجمهورية لا يمكنه إعلان الحرب دون الموافقة المسبقة للمجلسين" كذلك المادة 7 من دستور 1946 الفرنسي ينصها "لا يجوز إعلان الحرب دون تصويت الجمعية الوطنية والموافقة المسبقة لمجلس الجمهورية".

كذلك نص المادة 26 من الدستور التركي الصادر عام 1924 الذي لم يفرق بين الحرب الدفاعية والهجومية واشترط موافقة السلطة التشريعية في إعلان كليهما.

هذا الحل الذي أخذ به الدستور الفرنسي قد تعرض للنقد من قبل الفقهاء وخاصة دوجي والذي تثبته ظروف الحرب الحديثة التي قد تنشب دون إعلان والتفرقة التي أخذ بها المشروع سديدة غذ قد يرتبط بها مصير أمة ، لذلك اشترط إزاءها موافقة سلطتها التشريعية. ولرئيس الدولة بصفته رئيس للسلطة التنفيذية له اختصاصات ذات صفة سياسية نصت عليها المادة 56 بقولها"...

ويبرم المعاهدات بعد موافقة مجلس الأمة. وإبرام المعاهدات يتضمن بلا شك حقين : الأول هو المباحثات والثاني التصديق عليها بالتوقيع.

وهذا حق الشخصي لرئيس الدولة وامتياز لرئيس الجمهورية في فرنسا وفقا لنص المادة 31 من الدستور الفرنسي لعام 1946 والدساتير المتعاقبة ، كذلك لرئيس الاتحاد النمساوي وفقا لنص المادة 65 من الدستور النمساوي الصادر عام 1920 والدساتير المتعاقبة. وقد نصت المادة 56 من المشروع على موافقة مجلس الأمة على هذه المعاهدات ونص المادة قد جاء عاما مخالفا بذلك المادة 46 من دستور 1923 التي فرقت بين نوعين منها؛ الأولى "معاهدات الصلح والتحالف والتجارة والملاحة وجميع المعاهدات التي يترتب عليها تعديل في أراضي الدولة أو نقص في حقوق سيادتها أو تحميل خزانتها شيئا من النفقات أو مساس بحقوق المصريين العامة أو الخاصة وهذا لا تكون نافذة إلا إذا وافق عليها البرلمان ، أما غيرها من معاهدات فتستطيع السلطة التنفيذية إبرامها دون الرجوع إلى السلطة التشريعية. ويندرج تحت هذه الاختصاصات ذات الصفة السياسية حق رئيس الدولة في تعيين من يمثلون الدولة لدى غيرها في المجتمع الدولي فنصت المادة 57 وهو الذي يعين الممثلين السياسيين ويقيلهم على الوجه المبين بالقوانين.

حق العفو :

العفو سبب من أسباب سقوط العقوبة وهو وفقا لنص المادة 58 حق لرئيس الدولة فقد ذكرت وهو الذي يباشر حق العفو وتخفيض العقوبة على الوجه المبين بالقوانين والعفو الشامل لا يكون إلا بقانون وقد جمعت هذه المادة نص المادتين 43 و 152 من دستور 1923 فالأولى تنص أن له (أي للملك حق العفو وتخفيض العقوبة والثانية تنص العفو الشامل لا يكون إلا بقانون. والذي نلحظه أن نص المادة 43 قد جاء مطلقا بينما نص المادة 152 قد قيد العفو الشامل بالقانون ، ولهذا فإن المشروع قد تلافي هذا الامتياز المقرر لرئيس السلطة التنفيذية في ظل دستور 1923 مقررا خضوع حق العفو وتخفيض العقوبة على الوجه المبين بالقوانين. ومن ناحية قانونية لا ينبغي الخلط بين العفو grace والعفو الشامل amnistie ، فالعفو ذو اعتبار فردي وهو يلحق الحكم الصادر في حق الشخص ذاته والعقوبات التبعية بينما العفو الشامل ذو اعتبار عام لا يطبق على شخص معين بل على مجموعة من المخالفات المرتكبة في ظروف أو أوقات ما. وهو لا يسقط فقط العقوبة التي حكم بها بل بلغي أيضا كافة النتائج التي يرتبها قانون العقوبات في هذا الشأن.

وما هو المعيار القانوني للعفو؟ هل هو عمل قانوني أو إجراء إداري للسلطة؟ في فرنسا اختلف الفقه حول عدة نظريات :

فبارتلمي وجيز يذهبان إلى أنه ليس إجراء تنفيذيا بالمعنى الصحيح ، لكنه على الرغم من ذلك ووفقا لطبيعته فإنه من الاختصاصات التنفيذية لرئيس الدولة. فتذهب هذه النظرية إلى أن حق العقاب اختصاص دستوري تكلف به السلطة التنفيذية. فهي التي تصادر أموال المحكوم عليهم ، وهي التي تسجن وهي التي تباشر القتل .

ولكن السلطة التنفيذية في ممارستها لهذا الحق تنفيذ بالضمانات التي كفلها القانون للفرد إزاء تحكم السلطة فلا عقوبة ولا جريمة بدون نص في القانون. ومن ثم فدور القضاء هو تحديد المسؤولية في ارتكاب الجريمة ثم الحكم بالعقوبة المنصوص عليها قانونا. فوفقا لهذه النظرية ، الخاصية المميزة للعمل القانوني هو الحكم بالشيء المقضي كحقيقة مشروعة. وكل قضاء خلاف ذلك لا يعد قانونيا ، وحتى يصدر حكم لا بد أن يكون هناك طالب لإصداره.

وهذا الظرف هو السلطة التنفيذية التي تقوم بهذا الدور في المجال الجنائي مثل الدور الذي يقوم به طرف الخصومة في نزاع مدني. فالسلطة التنفيذية تباشر بذلك حقها في العقاب.

ويضيف بارتلمي إلى نظريته أن هذه السلطة عندما لا تعاقب كما خول لها القضاء هذا الحق فإنها لا تعتدي على هذا الحكم المقضي به ومثالها في ذلك الفرد الذي صدر الحكم لصالحه فيمتنع عن تنفيذه لدواع إنسانية إزاء خصمه المدين .

بيد أن هذه النظرية قد لقيت نقدا من دوجي الذي يرى أن هذا الامتياز أو الحق في العقاب لا تتمتع به السلطة التنفيذية وإنما هو حق الدولة. إذ لا يجوز في نظره أن تخول السلطة التنفيذية التي هي أحد أعضاء الدولة الاعتراف بحقها في العقاب أمام عضو ثان هو السلطة القضائية.

وهو مع قبوله لحجية الحكم في الشيء المقضي كحقيقة مشروعة يقول أن الفرد المحكوم عليه بالسجن مثلا له حق مشروع في كل تعديل يرمي إلى إعادة الحرية إليه وحق العفو يحقق ذلك  ، وهو يذهب في تحليله أن هذا الحق ذو اعتبار ظرفي. ذلك في فقه القانون الوضعي فماذا عن الشريعة الإسلامية وقد نص مشروع الدستور في غير مادة على أن يكون التشريع في حدود تعاليم الإسلام ، هل يملك رئيس الدولة وهو نائب عن الأمة أن يباشر هذا الحق في العفو؟ وما مدى سلطاته؟

إذا كان من حق ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة ، فإن حقه في العفو لا يتولد إلا بتولد سببه ، فلا يستطيع أن يعفو عن الجريمة إلا إذا وقعت هذه الجريمة ، ولا يستطيع أن يعفو عن العقوبة إلا إذا حكم بالعقوبة. فليس لولي الأمر أن يعفو مقدما عن الجرائم قبل وقوعها ، أو عن العقوبات قبل الحكم بها لأن ذلك يعتبر أباحة للأفعال المحرمة لا عفوا عن الجريمة أو العقوبة.

وحق ولي الأمر في هذا العفو مقيد بأن لا يكون مخالفا لنصوص الشريعة ، أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية كما أنه مقيد بأنه يقصد به تحقيق مصلحة عامة أو دفع مفسدة.

والعفو سبب من أسباب سقوط العقوبة وليس سببا عاما إنما هو سبب خاص يسقط العقوبة في بعض الجرائم دون البعض الآخر والقاعدة التي تحكم العفو أنه لا أثر له في جرائم الحدود وأن له أثره فيما عدا ذلك. فالعقوبة في جرائم الحدود لازمة محتمة ويعبر الفقهاء عنها بأنها حق الله تعالى ، لأن ما كان حقا لله امتنع العفو فيه أو إسقاطه .

وليس لولي الأمر أن يعفو في جرائم القصاص والدية عن العقوبات المقدرة كالقصاص والكفارة ، ولكن له أن يعفو عن أية عقوبة تعزيرية يعاقب بها الجاني وله أن يعفو عن كل عقوبة أو بعضها. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن لولي الأمر حق العفو كاملا في جرائم التعزير ، فله أن يعفو عن الجريمة وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان لولي الأمر حق العفو في كل جرائم التعزير أو في بعضها دون البعض الآخر. فرأي البعض أن ليس لولي الأمر حق العفو في جرائم القصاص والحدود التامة التي امتنع فيها القصاص والحد ، وأن هذه الجرائم يعاقب عليها بالعقوبات التعزيرية المناسبة ولا عفو فيها لا عن الجريمة ولا عن العقوبة.

أما ما عداها من الجرائم فلولي الأمر فيها أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا رأى المصلحة في ذلك بعد مجانبة هوى نفسه .

ورأى البعض أن لولي الأمر في كل الجرائم المعاقب عليها بالتعزير أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا كان في ذلك مصلحة. وللمجني عليه في جرائم التعزير أن يعفو عما يمس شخصه كما في الضرب والشتم ، ولكن عفوه لا يؤثر على حق الجماعة في تأديب الجاني وتقويمه ، فإذا عفا المجني عليه انصرف عفوه إلى حقوقه الشخصية.

وإذا عفا ولي الأمر في جرائم التعازير عن الجريمة أو العقوبة فإن عفوه لا يؤثر بأي حال على حقوق المجني عليه .

وحق ولي الأمر كما توحي به المادة 58 يتم على الوجه المبين بالقوانين وهي قد تترك له السلطة التقديرية في تقرير حق الفرد وتخفيض العقوبة إذا رأى مصلحة في ذلك. وهذا الحق في العفو يتم بناء على عرض من قبل الوزير المختص ، نستأنس في ذلك بما ورد في الدستور النمساوي لعام 1920 وقد أخذ بنظام حكومة الجمعية ونص هذا الدستور في الفقرة الثانية من المادة 65 على حق رئيس الاتحاد الفيدرالي (رئيس الدولة) في العفو وتخفيض العقوبة والعفو الشامل وفقا للقانون ويتم هذا بناء على عرض من الحكومة أو الوزير المختص وفقا للمادة 67 منه.

كذلك ما تنص عليه المادة 42 من الدستور التركي لسنة 1924 على حق رئيس الجمهورية في العفو وتخفيض العقوبة لأسباب شخصية كالعجز الدائم أو الشيخوخة ويتم ذلك بناء على عرض الحكومة. وإلى مثل هذه النصوص نستأنس في تفسيرنا وفقا لما ورد في ديباجة المشروع كما قدمنا غير مرة.

والخلاصة أن حق العفو وفقا لنص المادة 58 من مشروع الدستور المقترح يتم بناء على عرض من الوزير المختص الذي يسأل سياسيا أمام رئيس الدولة وتقوم مسؤولية الأخر عن أعمال وزرائه أمام مجلس الأمة.

انتهاء ولاية الرئيس :

عرفنا أن الرئيس يختار لمدى الحياة. وقد تنتهي فترة ولاية الرئيس أما بالعزل أو بالوفاة.

وقد نظمت الحالة الأولى المادة 30 بنصها «إذا قرر مجلس الأمة عدم الثقة برئيس الدولة انعزل عن الرئاسة. كما نظمت المادة 27 حالة الوفاة بنصها» أثر وفاة الرئيس يجتمع المجلس (مجلس الأمة) خلال عشرة أيام من تاريخ الوفاة لينتخب رئيسا جديدا وحتى يتم الانتخاب يتولى رئيس مجلس الأمة سلطات رئيس الدولة وكذلك الحال عند خلو رئاسة الدولة لأي سبب آخر-وهو العزل لعدم الثقة أو أدانته فيما يقع منه من جرائم أثناء تأدية وظيفته التي نظمتها المادة 31.

حقوق وظيفة الرئيس :

وقد نظمتها المادة 28 بنصها «لا يجوز الجمع بين رئاسة الدولة وأية وظيفة عامة ، أو خاصة بأجر أو بغير أجر. ضمانات قيامه بوظيفته وقد نظمتها المادة 33 بنصها على عدم جواز القبض عليه (على رئيس الدولة) إلا بعد الحصول على أذن مجلس الأمة وذلك عن مسئوليته المدنية والجنائية أمام جهات القضاء العادي في غير الحالة المنصوص عليها في المادة 29.

مسؤولية الرئيس للمجلس (مجلس الأمة) حق اتهام رئيس الدولة فيما يقع منه من الجرائم أثناء تأدية وظيفته ولا يصدر قرار الإدانة إلا بأغلبية ثلثي الأعضاء وهذا ما نصت عليه المادة 31.

أما محاكمته في هذا الشأن فتتم أمام المجلس وتتبع في محاكمته الإجراءات والأوضاع الواردة بلائحة المجلس الداخلية (مادة 32).

أحكام خاصة بالوزراء :

ثمة وزراء يعينهم رئيس الدولة ويعزلهم وهم تابعون له ، لا استقلال لهم ، يساعدونه في أداء وظيفته التنفيذية ويسألون أمامه سياسيا وهو شأن دستور الولايات المتحدة الأمريكية بيد أن المشروع يختلف عن هذا الأخير فقد حدد مسؤوليته سياسيا عن تصرفات وزرائه أمام مجلس الأمة (مادة 38) فهو (رئيس الدولة) الذي يعين الوزراء ويقيلهم (مادة 36) ويسأل كل وزير أمام رئيس الدولة سياسيا (مادة 37) أما مسؤولية الوزير الجنائية فتكون أمام مجلس الأمة (مادة 39) وقد نصت المادة المذكورة على أن تسري في هذا الشأن أحكام المادتين 31 و 32 وهي تلك التي تنظم الجرائم التي تقع بمناسبة أداء الوظيفة ولا يصدر قرار الإدانة إلا بأغلبية ثلثي الأعضاء.

والمادة تختلف في هذا الشأن عن المادة 66 عن دستور 1923 التي نصت على أن «لمجلس النواب وحده حق اتهام الوزراء فيما يقع منهم من الجرائم في تأدية وظائفهم ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي الآراء وبحكم قرار الاتهام في المشروع المقترح نص المادة 16 كما سبق دراستها. وقد نظمت المادة 40 الشروط الواجبة لدى اختيار الوزير بنصها على أن يشترط فيمن يختاره رئيس الدولة وزيرا ما يشترط في عضو مجلس الأمة. كما نصت المادة 41 على أنه لا يجوز الجمع بين الوزارة وبين أية وظيفة عامة أو خاصة بأجر أو بغير أجر وهي كلها مطابقة لما سبق النص عليه للشروط الواجب توافرها في رئيس الدولة. كما نصت المادة 42 على أن «ليس للوزراء حق حضور جلسات مجلس الأمة إلا بوصفهم من الجمهور ، ولكن للمجلس أن يستدعيهم ليستمع إليهم بناء على طلب منهم أو ليستفسرهم عن أمر معين وفق الأوضاع الواردة بلائحة المجلس الداخلية».

وقد آثر المشروع في هذا الشأن الأخذ بالنظام الرئاسي مخالفا بذلك النظام البرلماني أو النيابي الذي كان سائدا في مصر أو الذي أخذت به دساتير ما بعد 23 يوليو 1952.

فالوزراء لا يجوز أن يكونوا أعضاء في الهيئة التشريعية (مجلس الأمة) وليس لهم من ثَمَّ رأي معدود في المداولات .


مقارنة بين المشروع والفقهاء الإسلاميين بشأن رئاسة الدولة

معنى الخلافة :

تعني الخلافة أو الإمامة العظمى رئاسة الدولة الإسلامية.

ووظيفة الخليفة (أو رئيس الدولة) فيها هي إقامة الإسلام بإقامته للدين وقباءه بشوون الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. وهي أمور لا تتم إلا بالقوة والإمارة وولاية أمر الناس أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها.

وقد عرفت الخلافة بأنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرفت بأنها خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة .

وعرفها الماوردي بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا .

وظاهر من هذه التعريفات أنهم يعتبرون الخليفة قائما مقام النبي في رئاسته ناظرين في ذلك أن النبي كانت له وظيفتان : وظيفة التبليغ عن الله ، ووظيفة القيام على أمر الله وسياسة الدنيا به.

فلما توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- انتهت وظيفته التبليغ وبقيت الوظيفة الأخرى فوجب بأن يقوم بأدائها من يستطيع القيام بأعبائها ، ولأنه يخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر سمي بالخليفة...

ولم يشد عن ذلك من العلماء قديمهم ومعاصريهم فيما نعلم سوى المرحوم علي عبد الرازق الذي ذكر أن رسالة النبي قد انتهت بموته وكذلك زعامته فليس لأحد أن يخلفه لا في رسالته ولا في زعامته .

وأما عن الرد في ذلك ، فإنه لا خلاف بانتهاء تبليغ الرسالة بوفاة الرسول هذا ما لا يخالفه فيه أحد.

أما إذا كان يريد انتهاء موضوع التبليغ فهذا ما لا يتفق معه أحد ممن عرفنا من علماء الإسلام ، ذلك أن ما دعا إليه الرسول لم ينته بموته ، أو أن الأمة صارت بعد وفاته في غير حاجة إلى تنظيم وقد أقام الإسلام دعائمها.

والقول بغير ذلك يخرج الإنسان من دائرة الإيمان.

وثمة ما نراه أن ما قال به يرتكز على أساس أراد إثباته ، وهو أن الإسلام ليس إلا عقيدة فردية أي أنه دين فقط ، ولا صلة له أذن بالدنيا أو السياسة وهذا ما رأينا فيه وجه الخطل باستعراض خاصية الإسلام السياسية وآراء الفقهاء الإسلاميين والمستشرقين بصفته دين ودولة.

إقامة الخلافة :

وتعتبر الخلافة (أو الرئاسة) فريضة من فروض الكفايات ، فإذا قام بها من هو أهل لها سقطت الفريضة عن الكافة ، وأن لم يقم بها أحد أثم كافة المسلمين حتى يقوم بأمر الخلافة من هو أهل لها. والإثم يحلق فريقين من الأمة ، أحدهما أهل الاختبار والثاني أهل الإمامة.

والرأي القائل بوجوب الخلافة هو رأي أهل السنة جميعا ورأي المعتزلة والخوارج وكذلك رأي الشيعة إلا أن لهم وجهة نظر خاصة في فهم هذا الوجوب للخلافة.

ولم يشذ عن هذا الرأي من المعتزلة إلا الأصم ومن الخوارج فريق النجدات ، فقد قالوا بأن إقامة الخلافة ليست فريضة وإنما الفريضة هي إقامة الشريعة وحجتهم أن الأمة إذا تواطأت على العدل وتنفيذ أحكام الإسلام فلا حاجة لإمام ، وإذا لم تكن في حاجة لإمام فتعيينه غير واجب وإنما هو جائز.

مصدر فرضية الخلافة:

إذا كان العلماء قد اتفقوا على وجوب قيام الخلافة فقد اختلفت وجهات نظرهم في شأن الأدلة التي يستندون عليها. فيرى البعض أنها قد وجبت نزولا على حكم الشرع ، ورأى البعض الآخر بوجوبها نزولا على ما يقضي به العقل ، وبعض ثالث جمع بين ما قال به الأوليان فقال بوجوبها بمقتضى الاثنين معا ، العقل والشرع.

الدليل الشرعي :

يرى البعض أن نظام الخلافة (الرئاسة) يستند وجوبه إلى نصوص القرآن وأحاديث رويت عن الرسول وإجماع الصحابة :

(أ) فيما ورد من نصوص القرآن قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ وأولو الأمر- تشمل فيمن تشمل الخلفاء (أو الأمراء).

(ب) ومن أحاديث الرسول قوله : «أن من طاعة الله أن تطيعوني وأن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم».

(ج) الإجماع وهو أهم دليل يستند إليه أصحاب الرأي القائل بوجوب الخلافة ، فقد أجمع المسلمون أصحاب الرسول خاصة على أن يقيموا على رأس الدولة من يخلف الرسول ، وما أن تحقق أبو بكر من وفاة الرسول حتى خرج على الناس ليقول لهم «إلا أن محمدا قد مات ولابد لهذا الدين من يقوم به» فترك الصحابة تجهيز النبي ولم يدفنوه حتى أقاموا أبا بكر خليفة له .

الدليل العقلي :

ذهب البعض وعلى رأسهم الكثيرون من المعتزلة إلى أن إقامة الخلافة وجبت بالعقل ، وأن الإجماع الذي حدث في عهد الصحابة والتابعين على إقامة الخلافة إنما كان قضاء بحكم العقل ، وذلك نظرا لأن الكثير من الواجبات الشرعية يتوقف أداؤها على ما يقولون على إقامة خليفة (أو أمير أو إمام أو حاكم) وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب شرعا ، وأن ما يتوقف عليه الفرض فهو فرض  ، وذلك أيضا نظرا لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم منفردين. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج والمؤذن بهلاك البشر مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية .

الدليل العقلي والشرعي معا :

ويرى بعض المعتزلة أن الخلافة وجبت بالعقل والشرع معا فليس ثمة ما يحول -كما يقولون- دون القول بأن إقامة الخلافة من الأمور التي يقضي بها العقل لحياطة القوانين وحماية الأفراد ، وقررها الشرع تأييدا لمقتضى العقل. فيكون العقل والشرع متوافقين على إيجاب تولية الخليفة .

مذهب الشيعة :

ومع اتفاق الشيعة مع أهل السنة في وجوب الإمامة واتفاقهم في ذلك أيضا مع الخوارج والمعتزلة ، فإن لهم نظرة خاصة في معنى الوجوب فهم لا يرون وجوبها على الأمة ولكنهم يقولون أنها واجبة على الله .

انعقاد الإمامة أو الخلافة ومركز الخليفة:

أجمع مجتهدو الفرق الإسلامية جميعا على انعقاد الإمامة أو الخلافة -أي رئاسة الدولة الإسلامية- عن طريق واحد هو اختيار أهل الحل والعقد ، والقبول من جانب الإمام أو الخليفة لمنصب الخليفة وبهذا صرح الفقهاء «من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته» .

فالإمامة من ثم عقد له عناصره بتوافر موضوعه وأركانه وأحكامه وشروطه. وطرفاء هما أهل الاختيار والإمام أو الخليفة.

أو ما يتمثل في الإيجاب من الأول والقبول من الثاني. هذا ما ذهب إليه الأقدمون من الفقهاء حيث قالوا لا مأخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار ، فإذا بطل الأول لم يبق إلا الثاني أي الاختيار (من الأمة).

وكذلك ذهب إليه المحدثون منهم المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري  والمرحوم الأستاذ محمود فياض الأستاذ بجامعة الأزهر ، وهكذا بويع الخلفاء الراشدون.

ومركز الخليفة أو الإمام في الأمة هو مركز الوكيل عنها ، وكل أعماله تقوم على أساس نيابته عنها ، وهو مقيد فيها بالعقد الذي تم بينه وبينها ومثلها فيه أهل الحل والعقد باختيارهم له.

والأمة تستطيع أن توسع من سلطاته في مباشرة السلطات التي أوكلتها إليه وتضيق فيه أو تقيده كلما رأت إلى ذلك مصلحة ، وليس ثمة ما يمنع أن تضيق الأمة من سلطان من يخلفه وليس له أن يحتج بما منح الخلفاء من قبله من واسع السلطات ، فهو وكيل عن الأمة وهي الموكلة تستطيع إطلاق نيابته عنها أو تقيدها إذ هي مصدر السلطات ، فما جاء منه موافقا لحدود النيابة فهو صحيح وما جاء خارجا عنها فهو باطل بطلانا يجعله لا تجب له طاعة. ونيابة الخليفة عن الأمة ليست موقوتة بمدة معينة ولكنها تمتد ما طال عمره وكان قادرا على مباشرة عمله ، ولم يأت ما يستوجب عزله من النيابة.

ولقد جرت السوابق على إبقاء الخليفة في منصبه مدى حياته ما لم يرغب هو في اعتزال المنصب باستعفائه الأمة منه ، أو ما لم يعزل من منصبه بسبب طالما هو نائب أو وكيل عن الأمة التي لها الحق في عزله. وليس ثمة نصوص صريحة توجب أن يكون الخليفة في منصبه مدى حياته. ويذهب بعض الفقهاء في ذلك إلى أن إجماع الأمة على هذا يقوم مقام النص ، لأن الإجماع من مصادر الشريعة الإسلامية بيد أننا نعقب على ذلك بأنه متروك لظروف الأمة وزمانها ولما يجد من تطورات في حياتها.

واختلف الفقهاء في شأن استخلاف الخليفة لمن يخلفه بعهد منه. فمنهم من أجازها للإمام القائم أن يعقد البيعة لمن يليه ، وحجتهم في ذلك ما روى من كتابة أبي بكر حين حضرته الوفاة جاء فيه :

«أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خبرا» فأثبت المسلمون إمامة عمر بعهد أبي بكر. على أن ما استدلوا به لا يعطي الإمام القائم حق عقد البيعة لمن يخلفه لأن في قولهم رد على حجتهم. ذلك لأن عهد أبي بكر لم يجعل عمر إماما ، وإنما الذي جعله كذلك وصار به هو إثبات المسلمين لإمامته بناء على عهد أبي بكر الذي لم يكن إلا ترشيحا ، وكذلك ما قبل في شأن بيعة عمر بن الخطاب لمن بعده .

لذلك قال الفقهاء «الإمامة -أي رئاسة الدولة- تثبت بمبايعة الناس -أي لرئيس الدولة- لا بعهد السابق له».

فنظام الحكم في الإسلام إذن ليس إلا جمهورية من نوع خاص برئت من عيوب الجمهورية الحديثة وتخلصت من مساوئ النظام الملكي. فقد سوى الإسلام بين جميع من ينتسبون إليه حاكما ومحكوما.

أما في القوانين الوضعية فقد كانت القاعدة حتى آخر القرن الثامن عشر التمييز بين الأفراد حتى جاءت الثورة الفرنسية ، فجعلت المساواة أساسا من الأسس الأولية في القانون.

ولكن مبدأ المساواة بالرغم من ذلك لم يطبق تطبيقا دقيقا حتى الآن فبقيت آثاره من الماضي ومن أمثلتها تمييز رئس الدولة وخاصة في الدول ذات النظام الملكي التي تجعل ذات الملك مصونة.

والأصل في النظام الجمهوري أن رئيس الجمهورية غير مسؤول.

وكانت الشعوب تعترف بهذا الوضع لرؤساء الجمهورية حتى القرن التاسع عشر ثم بدأت تخرج عليه تحقيقا لمبدأ المساواة.

فالدستور الفرنسي يجعل رئيس الجمهورية مسؤولا جنائيا في حالة واحدة وهي الخيانة العظمى. ولا شك أن مسؤولية رؤساء الدول قد تطورت في القوانين الوضعية فبعد أن كانت القاعدة إعفاؤهم من المسؤولية إعفاء تاما ، أهملت هذه القاعدة وأصبح الكثيرون مسؤولين مسؤولية جزئية أو مسؤولية تامة.

أما النظام الملكي فهو غريب عن روح الإسلام وقد حكم الله أن تكون الشورى من شأنه ومقتضياته.

فكل أمر يفرض على المسلمين فرضا يعد مخالفا لحكم عام في الإسلام هو الشورى.

وهذا حال تعيين رئيس الدولة بالوراثة إذ هو نظام من شأنه أن يفرض على المسلمين حاكما دون أن تستفتي الأمة في أمره ، فالنظام الملكي يخالف هذا الحكم العام ، ولا يساير هذا الحكم إلا تعيين رئيس الدولة عن طريق الانتخاب.

فتلفت ذات يمين ويسار في دنيا العرب والإسلام من أقصاها في مشرق أو إلى مغرب ، ما تجد إلا أمة سلبت حريتها وإرادة شعوبها ، يتولى أمورها حكامها بملك عضوض في بعضها ، يتوارث الابن أو الأخ من سبقه ، والشعوب معدومة الرأي والاختيار رغم ما يرفع من خلالها من صور زرية شائهة عن الحكم بالإسلام وأخرى ذات أنظمة غير ملكية شكلا ولكن ألفتها موضوعا ، يتصدرها من زوروا إرادة شعوب في استفتاءات مصطنعة وقد عدمت حرية التعبير فيها. يخلفون فترة ولايتهم الواحدة بعد الأخرى انتهاكا لدستورهم واضعوه أو يستخلف أحدهم الآخر لتسلم الراية في حزب هم صانعوه.

وما يتقرب من حاكم في هذا النظام أو ذاك إلا من أدرك التزلف والرياء صنعة الوصول لغاية ، أو بالسكوت على ظلم حاكم رهبة من البطش أو رغبة في العطاء.

وهي مصيبة رزئت بها أمة العرب والإسلام منذ أضحى الحكم مغنما. وقد كان الخلفاء الأول يرغبون عنها وذاك آخر الراشدين عمر بن عبد العزيز يقول لأهل الرأي والشورى فيهم باكيا «نحوها عني.. نحوها عني» وهو يعلم أن الله سائله يوم العرض عليه فيما استرعاه من أمر الأمة.

ولكن حكام المسلمين في أيامنا يستقبلون ولايتهم فأغرى أفواههم ملء أشداقهم ، فاتحي ذراعيهم وهي الكتابة في التسلط على مقدرات أمة من البلهاء. ولكن أمة العرب والإسلام قد انحدر لديها مفهوم الطاعة لأولي الأمر إلى ذل منكر مهما أخطأ وظلم ، وهو داء قد ابتليت به منذ قديم واستشره حتى انقطعت أمة العرب والإسلام عن مباشرة شؤونها التي أمرها الله بها في كتابه ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.

وأصبحت سلبيتها وغفلتها مرتعا خصبا لسلطان كل حاكم منحرف أو مستبد ظالم ، وهي أخطاء إذا لم تصوب تزداد وتتعاقب. والظلم حين لا يجاهد يطغي صاحبه ويستحكم طغيانه وتدفع الشعوب ثمن غفلتها التي تدوم. فحيث لا رأي ولا اقتراع ، أو حيث تسمى مسخ إرادات الشعوب اقتراعا فهي الطامة في الشهادة بالزيغ على أمة رضيت بالذل وقد فرض الله عليها العزة ، ومسخت دين الله في واقعها المهين وهو دين لا شك يبرأ من أن تذوب في شخص حاكمها ليستعلي كما علا فرعون في الأرض.

وتلفت يمنة أو يسرى بين مشرق ومغرب في أمة العرب والإسلام لتحصي نسب الذين يؤمنون صناديق الاقتراع ، فتجد أن المجموع الأغلب في دنياها الذي لا يؤمها هو المجموع المؤمن الذي أقعدته اللامبالاة والغفلة مقعد المتفرج على معركة دينه ومقومات حياته. ومن عجيب أن الذين غفلوا عن تبصير أمة العرب والإسلام بواجبهم في مواجهة الباطل بالحق وفي مجاهدة الظالم حتى يعدل ، والذين أعانوا بأهوائهم أو غفلتهم على التمكين للحكام المخطئين الظالمين كانوا يجدون التكأة الكاذبة على مثل قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ مع أنهم يعلمون أن مجاهدا وابن عباس وعطاء والحسن البصري وكثيرا غيرهم قالوا في تفسير هذه الآية «أولو الأمر» هم العلماء وأهل الفقه والدين وهذا مقتضى سياق الآية يؤكده ما بعده ، ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.

أي أن الطاعة المفروضة على المؤمنين هي الطاعة لربهم فيما شرع ولنبيه فيما بلغ ولأهل العلم يطاعون فيما يحملون إلى الناس من أوامر الله ونبيه ، فإن اختلفوا فالميزان إلى كتاب الله وسنة نبيه لا في هوى أو فئة. وإلى من ذهب أن المقصود بأولى الأمر هم الحكام يعلمون أن لهؤلاء إطارا هو الحكم بما أمر به الله وبلغه الرسول ، ثم أنهم يعلمون ما ورد في الحديث «إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية الله».

وكثير من هؤلاء الذين يزينون الباطل للحكام حقا ، والظلم عدلا يقولون بأفواههم مالا تؤمن به قلوبهم. وهم على صنفين ، صنف كان عونا في التمكين لهذه الروح الذليلة بسيرهم في ركاب الظالمين ، وصنف آخر آثر الدعة والسكوت عن الظلم بأضعف الإيمان رهبة من البطش أو رغبة في العطاء..

والشعوب بين هؤلاء وأولئك انقطع بها الأمن ، تتوجس- وقد كبتت حرية التعبير فيها- أن يؤخذ بها ، وما تعلم أن قوتها في وحدتها مهما بلغ الإرهاب من حولها والترويع بأنفاسها ، أو خيل إليها من قوة الحاكم الظالم ومن ينصرونه على ظلمه. وكم تؤخذ شعوب في مشرق ومغرب ويضطهد الأحرار من بينها ويعذبون فما لانت منها قناة وما هي إلا إغفاءة ولكن لسان حالها يقول «إن في قتلى شهادة وسجني خلوة ونفيي سياحة»

إن الإسلام حين تسود مبادؤه ، يسوى بين حاكم ومحكوم وما تهضم حقوق الشعوب فيه ، ولكن يوم أن ينحي تسلب وتصبح نهبا لمن لا يرعي حقها وحق من وسده أمرها ليقوم فيها بالعدل.

وتلفت حولك يمنة ويسرة في مشرق أو مغرب من بلاد العرب والإسلام فما تجد غير أسر وقد ملكت نصاب الأمور استباحت ثروات الشعوب غضبا وفيها تسفه ، وفي أخرى تدلس عليها بمن تستوزره ويناصرها. والأمة بين هؤلاء وأولئك تتوق إلى عدل اجتماعي يحفظ لها آدميتها ولا ترتع كما يرتع الحيوان ، بينما هؤلاء يكدسون ثرواتهم ذهبا وفضة والآخرون يخزنون في قلوبهم كمدا وغصة ويهرب الكثير من أبنائها إلى خدر الحشيش ليهربوا من مواجهة الواقع السيء وهم ضحايا بريئة لهذا الواقع الأليم.

ويوم تسود مبادئ الإسلام ما يتسلق إلى درب الحاكم من يتزلفه ويزين له الباطل حقا ، والظلم عدلا ، بل يأمن الحاكم شعبه كما أمن له الأمن ويصبح قد أغمض له جفن وله في عمر بن الخطاب سيرة إذ حكم فعدل ونام فأمن.

والخليفة أو الإمام في أدائه لواجباته مسؤول عن أخطائه وسوء استعماله للسلطة الممنوحة له فضلا عما يتعمده من خروج على حدود سلطاته ، وما يرتكبه من ظلم. وهو في هذا خاضع للنصوص العامة ، لأن الإسلام يكفل حق المساواة ولا يفرق بين فرد وآخر ، أو بين حاكم ومحكوم. وهو مسؤول بالتبعية كذلك عما يقوم به وزرائه فيما استوزرهم فيه. والقاعدة في الشريعة أن الإمام يقضي منه في كل ما تعمده من جور فجار به على الناس ، فإذا قتل إنسانا قتل به.

وإذا قطع إنسانا قطع به ، سواء باشر الفعل كأن ضربه بسيف أو تسبب فيه كأن حكم عليه ظلما بالقتل أو القطع. وكما يسأل الخليفة عن عمده يسأله عن خطئه ، غير أن الفقهاء اختلفوا في ضمان الخطأ. فذهب البعض إلى أن الضمان على الإمام- أو الحاكم أو رئيس الدولة -وعاقلته ، لأنه ضمان وجب بخطئه فمسؤوليته عنه كمسؤولية أي مخطئ. ورأي البعض الآخر أن ضمان الخطأ في بيت المال ، لأن خطأ الإمام يكثر وهو يعمل للجماعة وليس لنفسه ، فلو وجب الضمان في ماله ومال عاقلته لأجحف بهم .

حق الخليفة (أو رئيس الدولة في الإسلام):

للخليفة أو الإمام في مقابل قيامه بواجباته حق السمع والطاعة ، غير أن هذا الحق ليس مطلقا وإنما هو مقيد في حدود ما أنزل الله فإذا أمر بما خالف ما أنزله الله يكون للأمة أن تعزله.

ذلك أن من شروط توليته إسلامه وهو حفظه لحدود الدين ، وخروجه عنها معصية فإذا أمر بها فلا سمع ولا طاعة له. وكما يعزل لأمره بالمعصية يعزل لفسقه وهو ما يطلق عليه في الفقه الإسلامي بالجرح في عدالته. الشروط الواجبة في الإمام (أي رئيس الدولة في الإسلام) اشترط فيمن يختار إماما أو خليفة أن تتوافر فيه الشروط الآتية :

الشرط الأول : أن يكون من أهل الولاية الكاملة (أي أن يكون مسلما ذكرا مكلفا حرا).

(أ) الإسلام : يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون مسلما ، لأن وظيفته نفسها تقضي هذا ، فمهمته إقامة أمر الله أي إقامة الإسلام. ولما كانت الدولة الإسلامية قائمة عليه ، كان للخليفة في رأي الفقهاء الإسلاميين وظيفتان :

الأولى : إقامة الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه.

والثانية : القيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام وقد سبق أن وضحنا أن الإسلام دين ودولة ، أي نظام يجمع بين شقيه المادة والروح. وهو بهذا يفترق عما جاءت به المسيحية من انفصال بينهما بما ورد على لسان المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله». ولما كان كما تبين من التعريفات التي أوردناها سلفا للفقهاء الإسلاميين في شأن الخلافة من أنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، أو أنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، ما يستطيع أن يقوم بذلك إلا مسلم يؤمن بالإسلام ويعرف مبادئه فطبائع الأشياء توجب أذن أن يكون رئيس الدولة مسلما.

فإذا كان هذا ما توجبه طبائع الأشياء ومنطق الواقع فإن الإسلام نفسه قد حرم أن يلي أمر المسلمين غير مسلم ، وقد حرم على المؤمنين أن يوالوا غير مؤمن. فقد حرم أن يجعلوه حاكما عليهم ، لأن الحكم ولاية وقوله تعالى ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ «والإمامة أعظم السبيل»

(ب) الذكورة : يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون ذكرا ، لأن الإسلام منع من ولاية المرأة يقول الرسول «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». والكل متفقون على أنه لا يجوز أن يلي الإمامة  امرأة رغم ما يجوز لها بعضهم كأبي حنيفة من قضائها فيما تصح فيها شهادتها ، أو من قضائها إطلاقا كما ذهب ابن جرير الطبري في تفسيره.

(ج) التكليف : يشترط في الإمام أو الخليفة أن يكون مكلفا أي بالغا عاقلا ، فالصغير والمجنون والمعتوه لا يصلحون لرئاسة الدولة لأن الإمامة ولاية على الغير وهؤلاء لا ولاية لهم على أنفسهم فكيف تكون لهم الولاية على غيرهم. كما أن الصغير والمجنون والمعتوه لا مسؤولية عليهم لقول الرسول «رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يصحو ، وعن المجنون حتى يفيق».

ومن لم يكن أهلا للمسؤولية عن نفسه فهو غير أهل للمسؤولية عن غيره والأهل في وظيفة الإمامة المسؤولية التامة ، وهذا ما قصده الماوردي في قوله «لأن غير البالغ لا يجري عليه قلم ، ولا يتعلق بقوله على نفسه حكم فكان أولى أن لا يتعلق به على غيره حكم.

وهو ما ذهب إليه أيضا ابن حزم من أن «جميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة ، ولا إمامة الصبي لم يبلغ إلا الرافضة فإنها تجيز إمامة الصغير ، وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب ، والإمام مخاطب بإقامة الدين .

(د) الحرية : وهو شرط نعالجه باختصار نظرا لاندثار نظام الرق منذ زمن ، ولكن نذكره لنبين حكم الفقهاء الأقدمين فيه. ولأن نقص فاقدها عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره  ، ولأن الرق لما منع من قبول الشهادة كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية. على أنه يجوز له إذا اعتق أن يتمتع بكل حقوق الولاية ولا يؤثر ماضيه على حالته وأصبح بذلك أهلا لجميع المناصب التي يرشح لها حر حتى منصب الخلافة نفسه. والرق كوضع قانوني يجرد الفرد تجريدا كاملا من حريته المدنية فلا يجوز له أجراء أي عقد ولا تحمل أي التزام وينزع عنه أهليه التملك ويجعله هو نفسه مملوكا لغيره وينزله من بعض النواحي منزلة السلعة يتصرف فيها السيد كما يشاء .

وهو وضع جاء الإسلام يجفف منه بتجفيف روافده وداعيا إلى الأخوة بين معتنقيه وداعيا إلى العتق ومن ثم أضحى الرقيق السابق أهلا للولاية.


الشرط الثاني : العلم

يشترط في الخليفة أن يكون عالما ، وأول ما يجب عليه علمه هو أحكام الإسلام لأن يقوم على تنفيذها ويوجه سياسة الدولة في حدودها ، فإذا لم يكن عالما بأحكام الإسلام لم يصح تقديمه للخلافة وهذا الشرط متفق عليه .

ويرى البعض أنه لا يكفي علم الإمام بأحكام الإسلام أن يكون مقلدا لأن التقليد عندهم نقص ، ويوجبون أن يكون مجتهدا لأن الخلافة في رأيهم تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال  ، ولكن البعض الآخر يجيز أن يكون الخليفة مقلدا ولا يستلزم أن يكون مجتهدا.


الشرط الثالث : الكفاية

يشترط في الخليفة أن يكون كافيا قادر على قيادة الناس وتوجيههم ، أي يكون ذا رأي مفض إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح  ، وأن يكون قادرا على معاناة الإدارة والرئاسة ، ذا رأي بتدبير الحرب والسلم وترتيب الجيوش وحفظ الثغور  ، متصفا بالشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة (أي الدفاع عن الأمة) وجهاد العدو .

والخلاصة أنه لا يكفي أن يكون الخليفة عالما بأحكام الإسلام بل يجب أن يكون مثقفا ثقافية عالية في شؤون السياسة والحرب والإدارة وأن لم يكن متخصصا في بعضها حيث تؤهله ثقافته على تأدية واجباته في تلك النواحي خير أداء.


الشرط الرابع : العدل

ويشترط في الخليفة أن يكون عدلا لأنه يتولى منصبا يشرف على كل المناصب التي يشترط فيها العدالة ، فكان من الأولى أن تشترط العدالة في منصب الخلافة ، والعدالة عند الفقهاء تعادل التقوى بل هذه مضافا إليها الورع كما ذكر الغزالي

ومن التعريفات التي أوردها الفقهاء في كتاباتهم نذكر أن المقصود بهذا الشرط هي التحلي بالفرائض والفضائل ، والبعد عن المعاصي واجتناب الرذائل وعن كل ما يخل بالمروءة. ومعنى ما تقدم أن العدالة تقتضي بتوافرها في الخليفة أن لا يرتكب أي ظلم سواء كان متعلقا بالمال أو الحرية أو أي حق من الحقوق وسواء أكان ظلما يقول أو فعل.. الشرط الخامس : السلامة الجسدية ويشترط البعض في الخليفة سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالعمى والصم والخرس وما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقده اليدين أو الرجلين وحجتهم أن عدم السلامة على هذا الوجه يقلل من الكفاية في العمل أو من الإتيان به على وجه تام

على أن البعض يرى أنه لا ضرر من أن يكون في خلق الخليفة عيب كما في البرص وغيره مادام يعقل ، فكل هؤلاء إمامتهم أو خلافتهم جائزة إذ لا دخل لهذه العيوب في قيام الخليفة على أمر الله بالحق والعدل ، فمن قام بالقسط فقد قام بما أمر به


الشرط السادس : القرشية

ونعالجه باختصار نظرا لتلاشي قريش وقبائلها منذ زمن بعيد. وهوي عني أن يكون الخليفة منتسبا إلى قريش. والشروط السابقة متفق عليها أما هذا الشرط فمختلف عليه ، فالجمهور يشترط أن يكون الإمام أو الخليفة من قريش ، وحجتهم في ذلك ما روى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- «الأئمة من قريش».

وقد أصبح أبو بكر يوم السقيفة على الأنصار بالحديث المروي عن الرسول فعدلوا عن المطالبة بالإمامة وعن مبايعتهم لزعيمهم سعد بن عبادة. وقد روى عن الشافعي تمسكه بذلك الشرط ، وأنه ذكر ذلك في بعض كتبه ، ورواه زرقان عن أبي حنيفة.

ولكن بعض هؤلاء من أهل السنة ذهبوا إلى نفي شرط القرشية ومن هؤلاء الباقلاني من زعماء أهل السنة في القرن الرابع والجويني  ، ويمكن أن يعد من هؤلاء ابن خلدون الذي رأى أن الإمامة جعلت في قريش لقوتها وغلبتها. لأن قريشا كانت عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم ، وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ، وأن حقها في الإمامة زال بضعفها وتلاشي عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم فعجزوا عن حمل الأمانة وتغلب عليهم الأعاجم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي القرشية واشتراطها .

أما الخوارج وبعض المعتزلة فيرون أنه لا يشترط أن يكون الإمام قرشيا ، وإنما يستحق الإمامة من قام على أمر الدين بإقامته أحكام الإسلام بالكتاب والسنة سواء كان عربيا أو غيره .

تلك هي الشروط التي ذكرها الفقهاء لتوافرها في الإمام القائم على أمر الدين وأحكام الإسلام على اختلاف بينهم في شأن الشرط الأخير وهو شرط القرشية. ولتعقيبنا على ما اشترطوه نذكر أن هؤلاء قد تجاوزوا في محاولتهم وضع أحكام قواعد ثابتة لسائل هي بطبيعتها ذات صبغة متغيرة. ونقصد بذلك ما ذكروه في شأن السلامة على اختلاف يسير فيما بينهم في شأن انعقاد الإمامة ابتداء وسلامتها. والذي نراه ما ذهب إليه الفريق الآخر ممن جوزوا إمامة من به عيب مع قدرته على إنفاذ أمر الله والقيام بما دعا إليه حكم الإسلام وأقرت به مبادؤه.

يؤيد ذلك شواهد التاريخ والمعاصر منها من إصابة زعماء دول لم تحل أمراضهم وما أصيبوا به عائق على القيام بواجبات وظيفتهم ووفقا لدساتير بلادهم. ويجدر بالإشارة إلى هؤلاء أمثال الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت الذي لم يمنعه الشلل الذي أصيب به من مباشرة مسؤولياته في سني الحرب العالمية الثانية وكذلك الزعيم الأيرلندي دي فاليرا. هذا ما ذهب إليه الفقهاء الأقدمون من شروط نصوا على وجوبها فيمن يختار إماما وخليفة. وهي كلها تتفق وروح العصر الحديث غير شرطي الحرية والقرشية .

فقد تلاشت ما كان لقريش من عصبية ونفوذ ، فلا معنى لاشتراط هذا الشرط الذي زالت علته وكذلك شرط الحرية نظرا لاندثار الرق وجفاف روافده وما تقرر من الحرية وحقوق المساواة بين البشر جميعا في العصر الحديث بما قرره إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1948 ، وما قررته الاتفاقيات الخاصة بإلغاء الرق والنظم والعادات المشابهة للرق والتي أصبحت نافذة من 30 أبريل 1957.

على أنه ليس ثمة ما يمنع من اشترط شروط أخرى إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة فيجوز مثلا اشتراط بلوغ سن معينة ويجوز اشتراط الحصول على درجة علمية معينة ، ويجوز اشتراط أي شرط آخر إذا دعت لذلك مصلحة الجماعة واقتضته الظروف المتغيرة. وللإمام في قيامه على شؤون الأمة التي أنابته في القيام بها ، أن يستعين بغيره فيما لا يستطيع أن يقوم به بنفسه ، فله أن يستعين بوزراء وغيرهم وهم أن اعتبروا نوابا عن الخليفة (الإمام) فإنهم يعتبرون أيضا نوابا عن الأمة ، وله عليهم حق الإشراف ، فمسؤوليته غير محدودة ، وهي مسؤولية تامة ، فهو الذي يضع سياسة الدولة ويشرق على تنفيذها ويهيمن على كل أمور الدولة ومصائرها ، وهو يجمع بين الاختصاصات الدينية والسياسية

والوزراء الذين يستعين بهم مسؤولون أمامه عن أعمالهم وليس لهم إلا تنفيذ ما يأمر به ، ومركزهم منه مركز النواب عنه ، يعينهم ويقيلهم وكل منهم يعتبر رئيسا إداريا على الوزارة التي يشرف عليها ، وآراؤهم وسياستهم لا تقيد رئيس الدولة ما لم يسكت عليهم ينفذوها فيتقيد بما تم تنفيذه منها. وقد جعلت الوزارة على ضربين : وزارة تفويض ووزارة تنفيذ. أما الأولى فهي أن يستوزر الإمام نم يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده ، واختصاصه عام غير أن عليه مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير لأنه مسؤول عن عمله أمامه ، ولهذا الأخير أن يقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه .

أما الثانية ، فالوزير فيها واسطة بين الإمام والرعايا والولاة ، يؤدي عنه ما أمر وينفذ ويمضي ما حكم. فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلد لها

التفرقة بين اختصاصات وزير التفويض ووزير التنفيذ الأولى : يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم وليس ذلك لوزير التنفيذ.

الثاني : يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة والموظفين وليس ذلك لوزير التنفيذ.

الثالث : يجوز لوزير التفويض الانفراد بتسيير الجيوش وتدبي الحروب وليس ذلك لوزير التنفيذ.

الرابع : يجوز لوزير التفويض التصرف في أموال بيت المال بقبض ما يستحقه له ودفع ما يجب عليه وليس ذلك لوزير التنفيذ.

ولمقارنة هذا التقسيم بما هو معمول به في الدساتير الحديثة ، نجد أن منصب وزير التفويض يكاد ينطبق على منصب رئيس الوزراء كما تعرفه الأمم الحديثة الآن. وهذا الوزير عام الولاية والنظر ويقوم مقام رئيس الدولة. أما ما يفترقان فيه فهو أن رئيس الوزراء أو ما يطلق عليه في بعض الدول «الوزير الأول» مقيد في تفويضه وفي مسائل معينة كثيرة برأي مجلس الوزراء.

أما بقية الوزراء فهم في اعتبار الفقه الإسلامي وزراء تنفيذ من حيث أنهم ينفذون قرارات مجلس الوزراء أو يمضون الأحكام أو يتخذون الإجراءات وكل واحد منهم خص بنظر في ناحية ، فهذا للتعليم وذاك للدفاع وهكذا وقد قرر الفقه الإسلامي أنهم يسمون حينئذ ولاة على أعمال مختلفة ، وهو نوع من التفويض المخصص ومن حيث اشتراكهم في النظر بمجلس الوزراء ، فأنهم وزراء مفوضون على الاجتماع لا على الانفراد. فهكذا كل حالة قد تناولها وحددها الفقه الإسلامي

وقد عرضنا سابقا للشروط الواجب توافرها في رئيس الدولة كما عالجها مشروع الدستور وقيامه على مباشرة السلطة التنفيذية كما حددتها المواد 25 إلى 43 ، وقد حددت فيها مسؤوليته عن قيامه بعمله. وهي مبنية على ما رآه الفقهاء الإسلاميون مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأمور مما تتغير بتغير الزمان والمكان. وهناك ما يثار في هذا الصدد عن حق الترشيح ، فهل يملك هذا الحق الفرد في الدولة الإسلامية؟ كقاعدة عامة أن طالب الولاية لا يولي. ومن ثم كان ترشيح الشخص نفسه لا يجوز ولكن إذا قضت به الضرورة أو المصلحة الشرعية جاز. فإن ترشيح الكفء نفسه للمساهمة في إدارة شؤون الدولة وفق الشرع الإسلامي يعتبر من قبيل الدلالة على الخير. ونحن نستأنس في ذلك بما ورد في سورة يوسف

أما ترشيح الإنسان غيره فجائز لأنه يتضمن دعوة الأمة إلى انتخاب المرشح الكفء ، ومثل هذه الدعوة جائز. أما مشروع الدستور المقترح فقد جاء خلوا من النص فيه واقتصر على بيان «يختار مجلس الأمة من بين أعضائه رئيسا للدولة.. كما يجوز له أن يختار رئيسا من غير أعضائه» وقد يكون هذا الاختيار بعد ترشيح الفرد نفسه أو من قبل غيره. قد صمتت المادة 25 ولكن أحالت في ذلك إلى قانون الانتخاب.

كما تباين في هذا الشأن كل من مشروعي الجماعة الإسلامية بالباكستان الصادر في 1952 وحزب التحرير الإسلامي الصادر في 1979.

فالأول قد ذهب إلى «لا يكون أهلا للإمارة أو لعضوية مجلس الشورى رجل ترشح لها بنفسه أو سعي لها سعيا»

أما الآخر فكلا التفسيرين السابقين محتمل لما أوردته الفقرة أ من المادة 33 منه إذ نصت «يجري الأعضاء المسلمون في مجلس الأمة حصر المرشحين لهذا المنصب وتعلم أسماؤهم ثم يطلب من المسلمين انتخاب واحد منهم»

السلطة القضائية ووظيفتها

عالج مشروع الدستور المقترح السلطة القضائية ووظيفتها في المواد 59- 63. وقد خالف في هذا الشأن ما ورد في دستور 1923 الذي جاء مفصلا في بعض مواده مما يخرجه بداهة من النصوص الدستورية ويدخله في إطار القوانين الخاصة

وهو بذلك قد تفادى الانتقادات الموجهة من قبل الفقه الدستوري إلى بعض الجوانب التي اشتمل عليها الدستور السابق. تنص المادة 59 على أن «السلطة القضائية تتولاها المحاكم وتصدر الأحكام باسم الله جل جلاله».

وقد جمعت هذه المادة ما أوردته المادتان 30 و 31 من الدستور الملكي السابقوقد خالفت الأخيرة فيما كانت تنص عليه من إصدار الأحكام باسم الملك ، أيضا ما كانت تنص عليه المادة 28 من قانون تنظيم السلطة القضائية الصادر بالقانون رقم 147 لسنة 1949. وقد عدل نص المادة في المشروع ليتلائم مع المبدأ الذي اعتنقه الإخوان بتبني النظام الجمهوري كما سبق بيانه ويلحظ في هذا المجال القضائي أنهم قد نادوا منذ قديم بتوحيد القضاء فلا محاكم أهلية ولا محاكم شرعية ولكن محكمة واحدة إسلامية مصرية على أدق النظم وأحكم الإجراءات ، عماد قانونها شريعة الله وحكم الإسلام .

ونصت المادة 60 على أن «تنظيم القضاء وتعيين القضاة ورجال النيابة العمومية يكون على الوجه المبين بالقوانين» وقد جمع نص المادة المذكورة نصوص المواد 125 و 126 و 127 و 128 من دستور 1923

وعالجت ثلاث مواد تالية مبدأ علو الدستور ورقابة دستورية القوانين بما يقرره مشروع الدستور المقترح. فنصت المادة 61 «للقاضي أن يمتنع من تلقاء نفسه عن تطبيق أي قانون مخالف لأحكام هذا الدستور نصا أو روحا» ونصت المادة 62 «وللمتقاضين أن يطلبوا إلى القاضي ذلك أثناء النظر في النزاع». ولا يقتصر هذا الأمر على طرفي الخصومة بل أن المادة 63 تنص «لكل مواطن الحق في رفع دعوى يطالب فيها بإبطال قانون مخالف لأحكام الإسلام أو الدستور أو مجاف لها أمام محكمة خاصة ينظمها القانون». ونرى أن الأذن في ذلك هو نوع من دعوى الحسبة التي نادوا باعتبارها منذ قديم .

ولا شك أن الحسبة منبثقة من الإسلام نفسه ، قائمة على القواعد الشرعية. والحسبة لغة -كما في لسان العرب- (مصدر احتسابك الأجر على الله- تقول : فعلته حسبة ، واحتسب فيه احتسابا ، والاحتساب طلب الأجر) والاسم الحسبة وهو الأجر.

وهي في الشرع كما قال الماوردي «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهى عن المنكر إذا ظهر فعله  ، وعرفها الغزالي بأنها عبارة عن المنع عن منكر لحق الله صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر  فأساس المعاملات جميعها مراقبة الله والحكم بين الناس بالعدل .

فإقرار الحق لكل مواطن في رفع دعوى يطالب فيها بإبطال قانون مخالف لأحكام الإسلام أو الدستور هو بلا شك عون على الحكم بين الناس بالعدل .

مما يجدر الإشارة به أن مشروع الدستور المقترح قد أغفل نص المادة 131 من دستور 1923 التي كانت تنص «بوضع قانون خاص شامل لترتيب المحاكم العسكرية وبيان اختصاصها والشروط الواجب توفرها فيمن يتولون القضاء فيها» والتي أخذ بها أيضا دستور 1956. وإسقاط نص المادة المذكورة من المشروع تأكيد لما نادى به الإخوان في بيانهم غداة ثورة 23 يوليو 1952 من ضرورة إلغاء الأحكام العرفية وسائر القوانين الرجعية المنافية للحرية ، فأصبحت المحاكم العادية هي صاحبة النظر والاختصاص الأصيل. كما يجدر بالذكر أن مشروع الدستور الذي أعدته لجنة الخمسين المشكلة عام 1953 كان قد أخذ بما جاء في المشروع متضمنا إنشاء محكمة دستورية عليا تتولى بمفردها عن طريق الدعوى الأصلية الفصل في دستورية القوانين ، ولكن هذا المشروع لم ير النور وحل محله المشروع الذي قدمته الحكومة وأطلق عليه دستور 1956.

المالية :

نقل مشروع الدستور المقترح عن الدستور المصري لسنة 1923 بعض أحكامه كالخاصة بالمالية لعدم مجافاتها لتعاليم الإسلام من جهة ولثبوت صلاحيتها في التطبيق من جهة أخرى مع تلافي النقد الذي وجه إلى هذا الباب.

ونصت المادة 65 «عقد القرض العام لا يتم إلا بقانون وكذلك الحال بالنسبة لأي تعهد يترتب عليه إنفاق مبالغ من خزانة الدولة في سنة أو سنوات مقبلة ، وكذلك كل التزام موضوعه استغلال مورد من موارد الثروة الطبيعية في البلاد أو مصلحة من مصالح الجمهور العامة وكل احتكار ولا يجوز منحه إلا بقانون وإلى زمن محدود .

وذكرت المادة 66 «الميزانية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها يجب تقديمها إلى مجلس الأمة قبل ابتداء السنة المالية بأربعة شهور على الأقل لفحصها واعتمادها. وتنظر الميزانية بابا بابا والسنة المالية يعينها القانون» .

ونصت المادة 67 «لا يجوز فض دور انعقاد مجلس الأمة قبل الفراغ من تقرير الميزانية».

ونصت المادة 68 «إذا لم يصدر القانون بالميزانية قبل ابتداء السنة المالية يعمل بالميزانية القديمة حتى يصدر القانون بالميزانية الجديدة».

ونصت المادة 69 «كل مصروف غير وارد بالميزانية أو زائد على التقديرات الواردة فيها يجب أن يأذن به مجلس الأمة وكذلك يجب استئذانه كلما أريد نقل مبلغ من باب إلى آخر من أبواب الميزانية» .

والمادة 70 ذكرت «الحساب الختامي للإدارة المالية عن العام المنقضي يقدم إلى مجلس الأمة في مبدأ كل دور انعقاد لاعتماده» 

وقد جمع مشروع الدستور بين القوانين المالية والميزانية في باب واحد إدراكًا للحقائق الواضحة في صدد اشتراك الشعب دافع الضرائب في الإشراف على أوجه إنفاق حصيلتها.

فالقوانين المالية إنما تحدد مضمون الميزانية ذاتها ولهذا وجب أن ترتبط بها الدراسة.

فالضرائب هي أول ما يحدد نطاق الإيرادات والقروض ذات أثر حاسم فعال على نظام الدولة المالي. وكلا من القوانين المالية والميزانية لا تخرج عن كونها قوانين تسري عليها القواعد المنصوص عليها في الوظيفة التشريعية من حيث الاقتراح وإصدار القرارات في شأنها.

1- القوانين المالية

أولا- الضرائب أن إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاءها لا يكون إلا بقانون. وهو الذي ينظم القواعد الأساسية لجباية الأموال العامة وإجراءات صرفها وكذلك حدود الإعفاء من أدائها.

وقد سكت نص مادة المشروع عما سبق وروده في المادة 134 من دستور 1923 بذكر الرسوم.

فما الفرق بين الضريبة العامة والرسوم؟ الفرق بين الضريبة والرسم أن الأولى هي قدر من المال يفرض على الشخص أن يدفعه إلى السلطات العامة دون أن تكون هنالك خدمة مباشرة قدمت له في مقابل ذلك ، أما الرسم فهو قدر من المال يدفعه الشخص مقابل خدمة معينة قدمت إليه بطريق مباشر.

والضرائب تقسم إلى عدم تقسيمات بحسب الزاوية التي تنظر إليها منها فهناك الضرائب العامة التي تذهب حصيلتها إلى الحكومة المركزية (أي الدولة) وهناك الضرائب المحلية التي تذهب حصيلتها إلى مجالس الإدارة المحلية (كمجالس المحافظات ومجالس المدن والقروى). وإن إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاءها لا يكون إلا بقانون يمر بمراحل الاقتراح والمناقشة والتصويت والإصدار والنشر.

ومعنى أنها تفرض بقانون ، أن يتدخل هذا الأخير ليفرضها بنفسه على المواطنين مباشرة دون أن تتوسط أية أداة أخرى. أما الضرائب المحلية أو البلدية فهي تفرض في حدود القانون ، أي أنها تستند إلى قانون وهذا يعني أن القانون لا يفرضها مباشرة على المواطنين بل لا بد من تدخل أداة أخرى كقرار السلطة المختصة بإصدارها كمجلس المحافظة أو المدينة.

فالقانون بالنسبة لها ليس أداة مباشرة بالنسبة للأفراد وإنما أداة غير مباشرة. ومثال ذلك إذا نص قانون الإدارة المحلية على حق المجالس في فرض ضريبة معينة فيصدر أحد مجالس المحافظات قرارا بفرض مثل هذه الضريبة. فهذه الأخيرة لم تفرض بقانون ، وإنما بناء على قانون ومستندة إليه. وكذلك الشأن بالنسبة للرسوم فيكون تكليف الأفراد بها في حدود القانون أي مستندا إليه..

ثانيا- القروض والتعهدات والأعباء المالية:

لا يجوز للسلطة والتنفيذية عقد قرض أو الارتباط بمشروع يترتب عليه اتفاق مبالغ من خزانة الدولة في سنة أو سنوات مقبلة إلا بناء على قانون وهو ما تنص عليه المادة 65 من المشروع. وهذا يعني أن تتقدم السلطة التنفيذية إلى مجلس الأمة باقتراح قرار بقانون يتضمن الأذن للوزير ذي الاختصاص بعقد القرض بشروط معينة ، فإذا وافق المجلس عليه صدر كأي قانون عادي ، ومن ثم يؤذن يعقد القرض. وموافقة السلطة التشريعية في هذا الشأن أمر جوهري حرص المشروع على أن يكون بموافقتها. ونص المادة المذكورة يشمل أيضا الأعباء المالية التي تقرر على خزانة الدولة ومثالها منح المرتبات والمعاشات والإعانات وغيرها. فليس من الضروري في هذا الشأن أن يمنح إحداها في كل مرة بقانون خاص وإنما يكفي إصدار قانون واحد يضع القواعد الأساسية ويترك للإدارة مهمة تطبيقها على الحالات الفردية.

2- الميزانية  :

والميزانية وثيقة تشتمل على حساب تقديري لمصروفات الدولة وإيراداتها خلال مدة معينة وطبقا لها يسمح للسلطة التنفيذية (الحكومة) بجباية الإيرادات وإنفاق المصروفات... والأصل في الميزانية أنها سنوية تقر عاما فعام ، وإثارة هذه القاعدة نجدها في التاريخ الدستوري الإنجليزي عقب ثورة 1688 ، أما في فرنسا فلم تظهر الميزانية بشكلها المعروف إلا بعد عودة الملكية عام 1814.

وفي مصر فلم تعرف الميزانية بمصطلحها الفني الدقيق قبل عام 1880 وكانت نشأتها بناء على توصيات لجنة التحقيق الأوروبية عام 1878.

وقد جعل المشروع من اختصاص القانون أن يبين طريقة إعداد الميزانية وعرضها على مجلس الأمة وأن يحدد السنة المالية. وقد حتم نص المادة 66 أن يكون عرض الميزانية على مجلس الأمة قبل ابتداء السنة المالية بأربعة شهور على الأقل لفحصها واعتمادها ويلاحظ أن المادة 67 نصت أنه لا يجوز فض دور انعقاد مجلس الأمة قبل الفراغ من تقرير الميزانية.

الاعتمادات الإضافية

إقرار مجلس الأمة الميزانية يترتب عليه قاعدة مضمونها أن الحكومة لا تستطيع أن تغير فيها وتبدل بعد موافقة السلطة ذات الاختصاص الأصيل عليها. فهي لا تستطيع أن تفتح اعتمادات جديدة لم ترد في الميزانية ، كما أنها لا تستطيع مجاوزة الاعتمادات التي وردت فيها ، بل ولا تستطيع أن تنقل اعتمادا من باب إلى آخر بغير الرجوع إلى مجلس الأمة نفسه. ولهذا فقد نص المشروع في المادة 69 على وجوب استئذان هذا الأخير في نقل مبلغ من باب إلى آخر من أبواب الميزانية وهو ما يعني موافقته وكذلك الشأن كل مصروف غير وارد بها أو زائد على التقديرات الواردة فيها يجب أن يأذن به مجلس الأمة.

وقد تلافى المشروع ما تعرض له دستور 1923 من نقد في هذا الشأن ، إذ ثارت بصدده مناقشات حول هذه الاعتمادات الإضافية ، وكانت نقطة البدء فيها هل يجب أن يكون استئذان البرلمان سابقا أم لاحقا ، سابقا على الصرف أم لاحقا عليه. وكان الذي أزكى الخلاف بين وجهتي النظر اختلاف النص الفرنسي للمادة 143 عن النص العربي. فهذا النص الأخير ذكر أن كل مصروف غير وارد بالميزانية أو زائد على التقديرات يجب أن يأذن به البرلمان. والأذن يقتضي أن يكون سابقا على الصرف ، وأما النص الفرنسي للمادة عينها فقد استعمل كلمة approuvee وهذه تعني الموافقة البعدية ، أي أن الأذن يمكن أن يكون لاحقا ، والرأي الذي رجحت كفته هو أن استئذان البرلمان يجب أن يكون سابقا على الصرف 

الحساب الختامي: 

إذا كانت الميزانية -كما قدمنا- هي تقدير احتمالي لمصروفات الدولة وإيراداتها عن سنة مقبلة ، فإن الحساب الختامي هو تقدير فعلي لمصروفات الدولة وإيراداتها عن سنة ماضية. والحساب الختامي بهذا الشكل هو خير وسيلة يتبين منها مجلس الأمة كيفية تنفيذ الحكومة الميزانية بشقيها ولهذا فإن الدساتير كلها تجمع على ضرورة عرضها على الهيئات النيابية ، وهو ما نصت عليه أيضا المادة 70 من المشروع بذكرها «الحساب الختامي للإدارة المالية عن العام المنقضي يقدم إلى مجلس الأمة في مبدأ كل دور انعقاد لاعتماده.

القوات المسلحة :

نصت المادة 71 «ينظم القانون قوات الجيش وطريقة التجنيد .

وقد أتى المشروع بمادتين جديدتين حيث نص على المساواة بين المواطنين في تأدية الخدمة العسكرية خلافا لما كان يجري عليه الأمر سابقا من جواز الإعفاء منها ببدل نقدي.

كما نص على عقوبة التخلف عن أداء هذا الالتزام. فنصت المادة 72 «الخدمة العسكرية إلزامية للمصريين جميعا على الوجه المبين بالقانون». ونصت المادة 73 «يحرم من ثبت فراره من الخدمة العسكرية من مباشرة حقوقه السياسية». ونصت المادة 74 «ينظم القانون هيئات البوليس واختصاصاتها» .

الإدارة المحلية:

تناول مشروع الدستور المقترح تنظيم الإدارة المحلية في مادتين ومخالفا ما أورده دستور 1923 من تنظيم يخرج عن نطاق الدستور وهو الانتقاد الذي وجهه إليه المرحوم الدكتور عثمان خليل عثمان في رسالته .

فنصت المادة 75 «تعتبر المديريات والمدن والقرى فيما يختص بمباشرة حقوقها أشخاصا اعتبارية وتمثلها مجالس المديريات والمجالس البلدية المختلفة» .

ونصت المادة 76 «يبين القانون اختصاص هذه المجالس وينظمها وينظم علاقاتها بجهات الحكومة» 

حقوق الأفراد في مشروع الدستور المقترح

قد أفاد المشروع -كما سبق أن ذكرنا- من حيث الصياغة من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948. وقد جعل هذا الباب متضمنا الحقوق الاجتماعية والفردية. ونصت المادة 77 «يولد الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق والحريات بدون أي تمييز بحسب الأصل أو اللغة أو الدين أو اللون ، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخوة».

وقد جاءت هذه المادة تنص على الحقوق والحريات بصيغة عامة فصلتها من بعدها المواد الواردة في الباب.

وهذه الحقوق هي من الحقوق العامة اللازمة للإنسان باعتباره فردا في مجتمع ولا يمكنه الاستغناء عنها وهي مقررة لحمايته في نفسه وحريته وماله 

ويقسم علماء القانون هذه الحقوق إلى قسمين ، الأول المساواة وقد تنوعت إلى أنواع منها الحرية الشخصية وحق التملك وحرمة المسكن وحرية العقيدة والعبادة ، وحرية الرأي والتعليم..

وقد أكدت هذا المعنى السابق أيضا المادة 78 بنصها «لكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وفي المساواة أمام القانون وفي أن يعيش آمنا مطمئنا».

أما الحقوق السياسية فرغم أنه لم يرد ذكرها بالنص إلا أننا نفهم من ذلك أنها من الحقوق العامة.

وهي عند القانونيين الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضوا في هيئة سياسية مثل حق الانتخاب والترشيح وتولي الوظائف العامة في الدولة  أو هي الحقوق التي يساهم الفرد بواسطتها في إدارة شؤون الدولة أو في حكمها .

وأما الحرية الشخصية لدى القانونيين فتعني حرية الفرد في الرواح والمجيء وحماية شخصه من أي اعتداء ، وعدم جواز القبض عليه أو معاقبته أو حبسه ألا بمقتضى القانون وحريته في التنقل والخروج من الدولة والعودة إليها 

ونلحظ أن صيغة المواد الثماني عشر التي يتضمنها الباب الرابع قد أوردها المشروع عامة عدا ثلاثا منها جاءت بصيغة خاصة. فالأولى قد نصت على أحقية التمتع لكل فرد مما يعني كل إنسان وطني أو أجنبي أذن له بالإقامة في البلاد والثانية قد قصرت صياغتها على حقوق المواطنة وهي الحقوق ذات الصلة بالحقوق العامة والسياسية.

تصدرت هذه الحقوق بمادتين 77 و 78 تكرس ما جاء به الإسلام الحنيف ويعلن الأخوة الإنسانية ويبشر بالدعوة إلى العالمية ويبطل كل عصبية ويسلك إلى تحقيق هذه الدعوة كل السبل النظرية والعملية..

وكلتا المادتين تبدآن بأصل الخليقة وهو الحق في الحياة. وهي تقرر وحدة الجنس والنسب للبشر جميعا كما أوضحها القرآن الكريم بقول الله سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾

ويقول ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

«فالناس لآدم ، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» والمساواة التامة هي شعار الإسلام في الحقوق والواجبات. فالجنس الإنساني مكرم كله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ والحقوق الروحية فيه فضلا عن الحقوق المدنية والسياسية والفردية والاجتماعية مقررة للجميع على السواء ، لا تختلف المرأة في التمتع بها عن الرجل وكلاهما خلق من نفس واحدة.

فالمرأة على هذا أخت الرجل ، والرجل أخ المرأة..

والذكر شقيق الأنثى ، والأنثى شقيقة الذكر لأنهما انحدرا من أب واحد وأم واحدة وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «إنما النساء شقائق الرجال» ولهذه الأخوة مقتضيات كثيرة : منها أن المرأة كفء الرجل في إنسانيته ، ومساوية له في القدر ، ولا نستطيع أن نحكم بالأخوة بينهما دون أن نقرر تلك المساواة والمماثلة.

والمرأة لا تفترق في مساواتها بالرجل أمام القانون في حكم نص المادة 78 التي أوردت «لكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وفي المساواة أمام القانون وفي أن يعيش آمنا مطمئنا».

يقودنا إلى هذا التفسير الذي نأخذ به ما ورد في مقدمة مشروع الدستور المقترح من اعتماده في جوهره على الإسلام فهو مستمد في أصوله من أحكام القرآن وسنة الرسول وأساليب الحكم في عهد الخلفاء الراشدين.

كذلك إذ فصلت نصوصه على هذا النحو بدأ مسايرا لأصلح ما في النظم الدستورية المعاصرة. فالإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات.

والتفريق بينهما في بعض منها إنما جاء تبعا للفوارق الطبيعية التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة ، وتبعا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما.

وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية كاملة وبحقوقها المدنية كاملة كذلك وبحقوقها السياسية كاملة أيضا ، وعاملها على أنها كامل الإنسانية له حق وعليه واجب ، يشكر إذا أدى واجبه ويجب أن تصل إليه حقوقه

فقد جعلها صنو الرجل في طلب العلم وهو فريضة على كل منهما كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».

وقد ضرب المثل في ذلك فيما يرويه البلاذري في «فتوح البلدان» حيث طلب إلى الشفاء العدوية أن تكمل ما بدأته في تعليم زوجه حفصه -رضي الله عنها- ابنة عمر بن الخطاب وكم تذكر لنا كتب التاريخ عن نساء بلغن شأوا في العلم إلى أن صرن معلمات يأخذ عنهن بعض الأئمة. ففيما يرويه ابن خلكان في وفيات الأعيان أن السيدة نفيسة رضي الله عنها سليلة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كانت تلقي في بيتها بمصر دروسا حيث أخذ عنها الإمام الشافعي كذلك عد أبو حيان من بين من أخذ عنهم العلم ثلاث نساء هن مؤنسة الأيوبية ابنة الملك العادل وشامية التبعية وزينب ابنة عبد اللطيف البغدادي الطبيب والمؤرخ الشهير في عصره

وليس في الإسلام ما يمنع المرأة من الاشتغال بالأعمال الحرة كأن تكون تاجرة أو محترفة لأي حرفة تكسب منها الرزق الحلال ما دامت تختار لنفسها الأوساط الفاضلة وتلتزم خصائص العفة.

وقد أعطاها الإسلام كافة الحقوق المدنية التي للرجل وهي لا تقل عنه شأنا في ممارستها ، فلها حق الوكالة والوصاية ولها كمال الحرية في قبول أو رفض من يأتي لخطبتها ولا حق لأبيها أو وليها أن يجبرها على ما لا تريده ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا تزوج الأيم حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن» والأيم هي الثيب فإذا زوجت دون أن تستأمر فالعقد باطل ، وإذا زوجت البكر دون أن تستأذن فهي بالخيار : إن شاءت أمضت العقد ، وإن شاءت أبطلته.

وما جاء في الثيب أن خنساء بنت خذام زوجها أبوها وهي ثيب فكرهت ذلك ، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرد زواجها

ومما جاء في البكر أن فتاة بكرا ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها عليه السلام.. أي جعل لها الخيار في إبطال العقد أو إمضائه.. وجاءت فتاة إليه -صلى الله عليه وسلم- فقالت «إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته.. فجعل الأمر إليها ، فقالت «قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء»

وذلك -في بابه- أول وأسمى ما نالت المرأة من الحرية والكرامة والاعتراف بشخصيتها ، وحقها في قبول أو رفض أي خاطب يتقدم لخطبتها ، في الوقت الذي كانت تباع فيه كالحيوان ، وتورث كالمتاع ، وتلعن في المعابد ولا يرعى لشخصيتها أي اعتبار.

والمرأة لها أن تتولى زواجها بنفسها إذا بلغت أهليتها ، وليس لأحد عليها من سبيل إذا كان كفؤا والمهر مهر المثل ، وأن كان يستحسن أن يتولى عنها وليها العقد كما هو في بعض المذاهب.

فإن تولت هي الصيغة ما عدت ولا ظلمت ولا أثمت ، وكلامها نافذ في حدود سلطانها. ولم يكن ذلك بدعا في الشرع الإسلامي بل له مستند من الكتاب والسنة والقياس.

والمرأة لها في الإسلام نصيب في مباشرة حقوقها في الملكية والتصرف بأموالها متى بلغت أهليتها في ذلك ، لا تفترق في ذلك الشأن المتزوجة وغيرها.

فلها أن تتعاقد وأن تبيع وتشتري وتهب وتوصي لا ينقص من ذلك الحق شرط إجازة زوج أو ولي كما ظل ينص على ذلك القانون الفرنسي من اشتراط إجازة الزوج لصحة تصرفات زوجه حتى صدور تعديل له في 13 يوليو 1965 مانحا المرأة الفرنسية الحق في ممارسة إحدى الوظائف وحقها فيما تملك ناتجا عن هذه الممارسة ثم أردفه تعديل القانون المدني الفرنسي في 5 يوليو 1974 حيث منحها الحقوق مطلقا.

والمرأة المسلمة تحتفظ باسمها لا تتخلى عنه كما أخذت بذلك القوانين الغربية وما تتبناه بعض المدعيات لحقوق المرأة في العالم الإسلامي وما يدرين أنهن بهذا التشبه ينقصن من حقوق المرأة.

وقد تنبهت هذه القوانين الأوروبية إلى هذه الحقيقة ، فبعد أن كانت المرأة المتزوجة تحمل اسم زوجها أصبح لها الحق أن تحتفظ باسمها العائلي الخاص ومثال ذلك القانون الصادر في ألمانيا الفيدرالية بتاريخ 14 يونيو 1971 والقانون الصادر في أول يوليو 1976 اللذين أعطيا الزوجين حرية اختيار اسم الزوج أو اسم الزوجة أو كلاهما معا وفي حالة الاختلاف بينهما فإن القانون يقرر إطلاق اسم أسرة الزوج.

أما القانون الفرنسي الصادر في عام 1978 فقد أعطى المرأة المتزوجة الحق في الاحتفاظ باسمها العائلي الخاص ، كذلك تسعى بعض الحركات النسائية في بلدان أوروبا الأخرى.

ونحسب أن قد صرنا في غير حاجة إلى إبداء الرأي في صلاحية المرأة لتولي وظائف الدولة ، إلا ما خصصه الإسلام من ذلك. فللمرأة أن تلتحق بالجيش وقت الحرب في أعمال التمريض والإسعاف والخدمة ونحوها..

والأصل في الجهاد أنه فرض كفاية لا يجب على المرأة فإذا تقدمت إلى ذلك فخروجها مجاز وهو غير مكروه ولقد ثبت أن النساء كن يخرجن بإذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الجيش لخدمة الرجال وتمريض الجرحى..

روى البخاري وأحمد عن الربيع بنت معوذ ، قالت «كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة».

وروى مسلم وأحمد وابن ماجة عن أم عطية الأنصارية قالت : «غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات.. أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمني».

وللمرأة أن تحمل السلاح في وقائع الحروب ولا ينكر عليها الإسلام ذلك والجهاد حين ينقلب من فرض كفاية إلى فرض عين يلحق الوجوب بالمرأة أيضا. يقول الغزالي في الوجيز في الفقه الشافعي «فإن وطئ الكفار دار المسلمين تعين على كل من له منه قتالهم حتى العبد والمرأة» ، وقال مثل هذا القول خليل «وتعين الجهاد بفجئ العدوان على امرأة.

أما الدسوقي فيرى أن كل من يعينه الإمام للجهاد فإنه يتعين عليه ولو كان امرأة ، وتخرج للجهاد ولو منعها الولي أو الزوج». وللمرأة في ذلك أن تمتشق السلاح ، وقد ورد في خبر الرميصاء زوج أبي طلحة -في صحيح مسلم- أنها اتخذت خنجرا يوم حنين ، فلما سألها زوجها عنه ، قالت «اتخذته : أن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه» قال في نيل الأوطار ولهذا بوب البخاري «باب غزو النساء وقتالهن»..

وفي تتمة هذا الخبر أن زوجها لما سمع ذلك منها ذكره لرسول الله فقال لها عليه السلام «يا أم سليم أن الله عز وجل قد كفى وأحسن» وكان ذلك في أعقاب المعركة ، ولم ينكر عليها رسول الله شيئا مما صنعت.

وهذه أم عمارة ، نسيبة بنت كعب بن عمرو تخرج في أحد تصول وتجول بين يدي الرسول ، تنزع عن القوس ، وتضرب بالسيف وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر ومسعد وطلحة والزبير والعباس وولداها وزوجها.

فكانت من أطهر القوم أثرا ، وأعظمهم موقفا.

وكانت لا ترى الخطر يدنو من الرسول حتى تكون سداده وملء لهوته حتى قال -صلى الله عليه وسلم- «ما التفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني. وأصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلاثة عشر جرحا ، ثم تخرج في خلافة أبي بكر في حروب الردة فتباشر القتال بنفسها حتى يقتل مسيلمة الكذاب وتعود وبها عشر جراحات بين طعنة وضربة في الموقعة التي اشتركت فيها وقد قطعت يدها رضي الله عنها. ذلك بعض حديث عن المرأة المسلمة لم تدع للرجال خلة يستأثرون بها دونها ، كما أن المسلمات لم يتركن سبيلا من سبل العظائم ، ولا مشرفا من مشارف المكارم إلا وكن السابقات إليه ، الواثبات إلى غايته.

وهن أن غشين الحرب لما دون القتال من إفاضة الرحمة ، وبذل المعونة ، لا يجدن بدا من انتضاء السيوف إذا أجفل الرجال ، ورجفت قلوبهم.

وكتب التاريخ الإسلامي تحفل بمواقف النساء في مخاضات الدماء ، منها خولة بنت الأزور  وصفية بنت عبد المطلب وليلى بنت طريف أخت الوليد بن طريف الشيباني بقية أبطال الخوارج الذين خرجوا على الخلفاء وقد خلفت أخاها على قيادة الجند وأطبقت بهم على جند الرشيد وقالوا لا تكون هذه ألا أخت الوليد ، لأن فعلها بفعله أشبه  وغزالة الحرورية زوج شيب بن يزيد قائد الخوارج وبطلهم.

وكانت هي وزوجها يليان قيادة الخوارج وكان الحجاج بن يوسف يستمع خبرها. فيمتلئ قلبه وهلا ورعبا.

عرضت له في جندها وهو في أربعة آلاف فما لبث أن اختلط عليه الأمر ، وولي هاربا يخلط في قوله وقد عقل قلبه ولسانه وفي ذلك كتب عمران بن حطان إلى الحجاج وكان قد لح في طلبه

أسد علي وفي الحروب نعامة ربداء تجفل من صغير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغي بل وكان قلبك في جناحي طائر

صدعت غزالة جمعه بعساكر تركت كتائبه كأس الدابر

وكان حبيب بن مسلمة الفهري رجلا غزاء للترك. فخرج ذات مرة إلى بعض غزواته ، فقال له امرأته : أين موعدك؟ قال : سرادق الطاغية ، أو الجنة إن شاء الله تعالى. قالت : إني لأرجو أن أسبقك إلى أي الموضعين كنت به. فجاء ، فوجدها في سرادق الطاغية ، تقاتل الترك.

تلك شذرات من حديث النساء في الجهاد عرضنا له في فترات متباينة في تاريخ الإسلام لنعلم أن المرأة لم تدع للرجل فضيلة يثني عطفه بها. وما كان شيء من ذلك لجفوة في الخلق ، ولا نبوة في الطبع ، وهو الخفرات اللواتي يفررن من المندية ويرتمين على الموت ، وما كانت شجاعتهن أثرا من الغلظة ، وظمأ إلى الدماء ، ولكنها كما أسلفنا قوة غاصت بها وفرة الصبر ، وابتعثتها قوة اليقين. أما توليتها الوظائف العامة فيبدو اختلاف الفقهاء فيه ، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية  أن جمهور الفقهاء على أن المرأة لا يجوز لها أن تلي القضاء مطلقا.

وحجتهم في ذلك أن الإسلام يمنع المرأة -بالإجماع- من تولي الإمامة الكبرى «رياسة الدولة» لقوله عليه الصلاة والسلام «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».. قالوا : والقضاء من الولاية العامة فهو مقيس في الحكم عليها. أما أبو حنيفة فقد ذهب إلى جواز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال والنكاح والطلاق والرجعة وما يتعلق بها قياسا على شهادتها في ذلك ، فهي تقضي فيما يجوز أن تشهد فيه

أما الطبري فيذهب إلى جواز توليها القضاء مطلقا ، إذ لا يلقي بالا إلى القياس على الإمامة ويقول في ذلك «أن الأصل هو أن كل من يستطيع الفصل بين الناس فحكمه جائز ، إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى» أي أن المرأة -كالرجل- صالحة في الأصل لتولي الأحكام ، والفصل بين الناس ، وهذا حكم عام ، لا يخصصه إلا نص ، وقد ورد النص في حديث النهي عن تولي المرأة الإمامة الكبرى ، وتم الإجماع على العمل بذلك ، ومادام النص لم يستثن إلا الإمامة الكبرى فإن إلحاق القضاء بها يعتبر تخصيصا بلا مخصص.

وهذا ما لا يقبله الطبري. كذلك هو رأي ابن القاسم وابن حزم وابن طراز الشافعي ورواية عن مالك في الإباحة المطلقة لقضاء المرأة في جميع الأحكام وحملا للقضاء على الفتيا.

والحسبة منصب من مناصب الحكم ، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإصلاح بكافة الطرق المشروعة ، وكان يشترط فيمن يتولاها أن يكون عدلا ، فقيها ، عالما بالأحكام الشرعية ، وكانت وظيفته مراقبة المكاييل والموازين مراقبا من تسول له نفسه الإمارة بالسوء الغش ببخس أو تطفيف فيها. وكان لها دار خاصة بها فكان المحتسب يطلب جميع الباعة إلى هذه الدار .

فهي أذن في أعراف وظائف الدول المعاصرة وظيفة إدارية عامة. وقد استعملت فيها النساء ، فولى الخليفة عمر بن الخطاب السيدة الشفاء ولاية السوق وقد كانت من عقلاء النساء ومن المهاجرات الأول يعرف لها ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيزورها في بيتها ويقيل عندها ، وكانت لها منزلة كبرى لدى خليفته عمر حتى أنه كان يقدمها في الرأي. كما تولت السيدة سمراء بنت نهيك الأسدية هذا المنصب أيضا وقد أدركت الرسول وعمرت طويلا وكانت تمر في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتضرب الناس على ذلك بسوط معها. ذلك شأن تولية المرأة الوظائف العامة وقد سقنا لها أمثلة لعدم تعارضها مع مبادئ الإسلام. فما بال أهلية المرأة لتبعات الحياة ومساهمتها في بناء أوضاعها الصالحة.

لا ريب أن القرآن الكريم يسوق ضروبا من أنصاف المرأة وتقديرا لا تتخلف فيه عن الرجل.

فهما من المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر «وكلاهما يشمل كل ضروب الإصلاح في كل نواحي الحياة ، والمرأة في ذلك صنو الرجل. ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يضع صلاح المجتمع أمانة بين يدي كل مؤمن ومؤمنة وهذا الواجب كما يشمل مناصحة الناس بعضهم لبعض ، يشمل مناصحة أولياء الأمور الكبار ، وكل من إليهم من ذوي المناصب والولاية وفي ذلك يقول الرسول «الدين النصيحة.. لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

وذلك يقتضي كل رجل وامرأة أن يحاول جهده الاتصال بشؤون الحياة العامة ومتابعة سير المجتمع ليستطيع أن يقدم ما لديه من رأي ونصيحة عن دراسة وتمحيص وتدبير رأي ، ورسول الله يجعل ذلك الاهتمام شارة الدخول في جماعة المسلمين بقوله «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» وشؤون المسلمين في أذهان الناس تضيق وتتسع بحسب ثقافة كل منهم وسعة آفاقه العقلية ومن هؤلاء من يهتم بإصلاح أداة الحكم بالنقد والتوجيه ، واقتراح سن القوانين وذلك هو ما يسمى بالاشتغال بالسياسة فما دور المرأة خلالها؟ في كتابه الأحكام السلطانية يقول الماوردي «الناس فريقان أحدهما : أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة ، والثاني أهل الإمامة.

فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:

أحدها : العدالة الجامعة لشروطها.

والثاني : العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها ،

والثالث : الرأي والحكمة المؤديان إلى اختبار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف»

وهو إزاء حصر هذه الشروط وعدها قد أغفل ذكر الجنس خلافا لما بين في ذكر الشروط المعتبرة في أهل الإمامة كما ذكرناها آنفا.

فهل تعد المرأة من أهل الاختيار ومن ثم هل لها ممارسة ما يعرف بالحقوق السياسية؟ ليس هناك ما يمنع المرأة ، أو من يمنعها ممارسة هذا الحق.

فهو حق قرره الإسلام ، ومارسته المرأة المسلمة على نطاق واضح أيام الخلفاء الراشدين أي خلال الحقبة التي قام بها الصحابة بوضع تقاليد الحياة الإسلامية في الاجتماع والسياسة. وقد كانت أمهات المؤمنين يبدين آراءهن في سياسة الخلفاء.

ويطول بنا القول لو رحنا نحصي حالات أمهات المؤمنين ونسائهم فيما كان لهن من آراء وأثر في السياسة والمجتمع.. فالإسلام حين قرر ما للمرأة من حق سياسي ، ما عني إلا المرأة الفاضلة التي تعتز بمثلها الروحية العليا ، وقد كانت المرأة المسلمة وهي تباشر هذا الحق تغشي أماكن العلم على شرطها ، وتلم بأندية المشاورة والتعاون على الصالح العام الذي ندبت إليه ، وليس البرلمان في صورته الإسلامية إلا أحد هذه الأندية. هذا ما سقناه من حكم الإسلام وقد ارتضيناه تفسيرا لما جاءت به مقدمة مشروع الدستور المقترح ، وبه نقتنع من أن نص المادة 78 تطبق على الرجل والمرأة سواء.

«فلكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وفي المساواة أمام القانون وفي أن يعيش آمنا مطمئنا».

يعضد ما ذهبنا إليه من تفسير ما كتبه الإخوان في جرائدهم من أن «الدين لم ينزل للرجال فقط ، وأن على المرأة واجب خدمة الإسلام ، والمساهمة بكل ما يعود بالخير على المجتمع وأن المساواة بين الجنسين قد نظمها الإسلام في الحقوق والمعاملات المالية  ، وقد عاتبوا غيرهم من الجماعات على معاملة المرأة من خلال تقاليد بالية تجعل من الرجل سجانا للمرأة يحبسها في بيته للمتعة والتوالد ، لا تعرف من دنياها إلا هذين الغرضين العظيمين وتظل كذلك إلى أن تنتقل من ظلام حياتها إلى ظلام القبور ، ورأى الإخوان أن الدين لا يقر ذلك ، وأن من الواجب أن تشفق على دين الله من أن تستبد به الآراء المتشائمة والأمزجة السوداوية

يثبت هذا التفسير أيضا ما سبق ذكره بما كتب حسن البنا في المنار عام 1940 من اعتراف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية كاملة وبحقوقها المدنية كاملة كذلك وبحقوقها السياسية كاملة أيضا». كما طالب بعلاج قضية المرأة علاجا يجمع بين الرقي بها والمحافظة عليها وفق تعاليم الإسلام حتى لا تترك هذه القضية التي هي أهم قضايا الاجتماع تحت رحمة الأقلام المغرضة والآراء الشاذة من المفرطين والمفرطين .

وبعد التصريح لهم بمباشرة نشاطهم في عام 1950 بدأت قضية المرأة تعالج برحابة. وقد صرحت رسالة المرأة بين البيت والمجتمع  بأن حقوق المرأة السياسية يقرها الإسلام ويجب أعداد المجتمع الفاضل الذي تمارس فيه.

وأن هذه الحقوق لا تقل شأنا عن تلك التي يتمتع بها الرجل ، وبذلك أخذت تحسم نظرة الإخوان المسلمين في هذا الشأن بما صرح به المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي مرشدها العام بأن الإسلام لا ينكر حقوق المرأة السياسية وأن تطبيقها يتوقف على ظروف المجتمع العامة. تلك إثارة أردنا بها بيان عناية الإسلام بتصحيح مفاهيم المؤمنين به عن الحياة وتقويم موازينهم التي يزنون بها الناس والأشياء ، وتلك لا شك نجدها واضحة في كثير من نصوص كتاب الله وسنة رسوله.

فلا غرابة أذن أو إسراف في هذه العناية من الإسلام ، لأن صحة أعمال الإنسان واستقامة تصرفاته منوطة بصحة مفاهيمه واستقامة الموازين عنده. ومن المستحيل أن يكون ما يصدر عن الإنسان صحيحا مقبولا إذا كان وراءه مفهوم فاسد أو ميزان مختل.

ومن عجب أن هذا هو الواقع المرير الذي نعيش فيه ، وهو إحدى العلل الكبار المسؤولة عما نجده لدينا من ضعف وهوان وخروج على مناهج الإسلام من قبل المحكومين والحكام على السواء ، وهي أعراض لا شك لعلل ابتلينا بها وصارت أوضاعنا الاجتماعية مختلطة تتنازعها بقية نفوذ الشريعة والتقاليد الموروثة وتقليد زاحف ، ووضع المرأة في كثير من بلاد الإسلام كمثل سائر أوضاعنا الاجتماعية ، ومن عجب أننا نغفل عن مكانها بعد أن حدثتنا الشريعة عنه وأظهرها علماء الإسلام الأقدمون بحسب ما أدركوا من النصوص ومن معانيها.

أن صورة الإسلام بهتت لدى الكثير من المسلمين لأنهم لا يعرفونه ، والصورة المرتسمة في الرؤوس هي صورة أعراف مختلطة ممسوخة في بلاد الإسلام فرضت على المرأة -كما فرضت على كثير من مظاهر حياتنا الاجتماعية- ما لم يفرضه الله ، وحرمت ما لم يحرمه الله ، وهو تطرف يقابله جموح لدى بعض نسائنا.

وهو جموح لا شك بدأ انحرافا لأسباب ، أولها بلا ريب ظلم اجتماعي عاشت المرأة خلالها حبيسة جاهلة لا إرادة لها فتمردت على هذا الظلم ثم انحرفت وجمحت : وأن هذا الظلم لا يزال إرثا في كثير من أوطان الإسلام التي تنظر إليها في بعضها نظرة المتاع أو نظرة العبد في سوق النخاسة لا رأي لها ولا إرادة. وآخر تحرم عليها ما لم يحرمه الله وتفرض عليها ما لم تفرضه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مجاوزة حدود الزي تثلم عرضها وتنتهك حرمتها ، فليست كل امرأة سافرة الوجه مثلومة العرض ، وليست كل امرأة متحجبة طويلة الذيل طاهرته. أن الإسلام قد أزال عنها محنة الظلم والكساد ورفع شأنها وقرر لها مكانها الطبيعي في الحياة.

وقد انتشل المرأة من الهوة المظلمة الدنسة وأقامها على وضح الحياة إلى جانب شقيقها الرجل على أساس من تعادل القدر ، وتماثل الخصائص والصفات وقد أعلن أنها والرجل في الإنسانية بمنزلة سواء ، لا تزيد عنه ولا تنقص. فعلينا إزاء وضعها أن نرعى كل ما أنزل الله من أمر ونهي حق رعايته في غير غلو يجاوز ما أراد الله من اليسر ، ولا ترخص يفسد همة المرء عن تعظيم حرمات الله .

كذلك تستند في تفسيرنا على شمول المادة 78 من مشروع الدستور المقترح ومساواة الرجل والمرأة في ظل نصه بما أوردته مقدمته من تفصيل نصوصه لأصلح ما في النظم الدستورية المعاصرة وقد سمت بعض تلك النظم؛ أولها نظام الولايات المتحدة الأمريكية والدستور النمساوي الصادر عام 1920 والدستور التركي الصادر في عام 1924 والدستور الفرنسي الصادر عام 1946 مع مخالفة الأخير في النظم التي تحكم السلطات فيه.

ففي الأول نجد مبدأ المساواة في حق التصويت للانتخاب وكذلك الترشيح بما تنص عليه المادة 19 المضافة إلى دستور الولايات المتحدة الأمريكية في 26 أغسطس 1920 «وهي تنص على أن حق التصويت والانتخاب لمواطني الولايات المتحدة لا يمكن تقييده بسبب الجنس». وفي ثانيهما دستور النمسا الصادر في عام 1920 تذكر المادة السابعة في فقرتها الأولى «أن جميع المواطنين سواء أمام القانون ولا يصدر امتياز قائم على الميلاد أو الجنس أو الطبقة أو الدين «كما نصت المادة 26 منه على أن البرلمان تنتخبه الأمة بالاقتراع العام المباشر يشترك فيه الرجال والنساء البالغون عشرين عاما».

كما نصت المادة 69 من دستور 20 أبريل 1924  الصادر في تركيا على أن «الأتراك سواء أمام القانون» كما نصت المادة.1 المضافة في 5 ديسمبر 1934 على أن كل تركي ، رجل أو امرأة بالغ من العمر 22 عاما له حق الانتخاب» كما نصت المادة 11 من الدستور عينه «ينتخب نائبا في الجمعية التشريعية كل تركي امرأة أو رجل يبلغ من العمر ثلاثين عاما»

أما الأخير فنجد حق المساواة قد نص عليه في ديباجته حيث ذكر أن القانون يضمن للمرأة في جميع المجالات حقوقا مساوية للحقوق التي للرجل كما نصت المادة 4 من الدستور الفرنسي الصادر في 27 أكتوبر 1946 «يعد من الناخبين كل المواطنين الفرنسيين من الجنسين ، المتمتعين بالحقوق المدنية والسياسية وفقا للقواعد المنصوص عليها في القانون»

تلك الدساتير توضح بجلاء أن حقوق المواطنين في ظلها سواء لا تختلف فيها المرأة عن الرجل وهذا ما نعده اقتناعا بالتفسير الذي أخذنا به.


الحقوق الاجتماعية

وللحقوق الاجتماعية والاقتصادية مكان الصدارة في مشروع الدستور المقترح بالنسبة للحقوق السياسية والشخصية ، فقد جعل التضامن الاجتماعي أساسا للمجتمع ونص على أن الدولة تكفل خدمات الرفاهة الاجتماعية مخالفا في ذلك بعض الأنظمة في الديمقراطيات الغربية النزعة والتي أخذ عنها دستور 19 أبريل 1923.

نصت المادة 79 «لكل فرد الحق في العمل والحرية في اختياره بشروط عادلة مجزية ، وله الحق في الحماية من البطالة- وللجميع الحق في الحصول على أجر متساو من عمل متساو».

وقد منح العاملون حقوقا مساوية في الأجر إذا تساوت أعمالهم بحسب مؤهلاتهم ومقدراتهم وسني خدماتهم. لا يختلف في ذلك من يعملون في قطاع خدمات أو مرافق عامة أو من يعملون بأجر لدى قطاع خاص.

لا يختلف هؤلاء أو أولئك وفق مشارب وأهواء الرؤساء أو صاحب المال.

وقد نصت المادة 80 «لكل من يعمل الحق في أجر عادل يضمن له ولأسرته حياة تتفق مع الكرامة البشرية ويكمل عند الضرورة بأية وسيلة من وسائل الحماية الاجتماعية» ، وفي ذلك يقول المرحوم الأستاذ عبد القادر عودة «أن كل من كان إيراده لا يكفي حاجته فهو من ذوي الحاجة ، وعلى الحكومة الإسلامية أن تأخذ من فضول أموال الأغنياء ما يرد حاجة ذوي الحاجة..

ويرى أن فريضة الإنفاق تقوم بما لم تتسع له فريضة الزكاة وقد اختلف الفقهاء في قدر الحاجة. وقد تكون من وسائل الحماية الاجتماعية المذكورة الزكاة وهي فريضة مقررة مقدرة وليست صدقة يدفعها الغني متفضلا ، وهي حق للفقراء وتصرف حيث تجبي ولا تنقل إلى مكان آخر حتى يستوفي أهل كل جهة بفقرائها الذين يعرفونهم ويعرفون حاجاتهم فيشعر الأغنياء والفقراء بأنهم متكافلون متراحمون. فإن لم تكف الزكاة لتوفير تلك الحاجات الضرورية وجب على من عنده فضل مال أن يرده على الفقراء حتى يستوفوا حاجاتهم فإن لم يفعلوا أجبرتهم الحكومة على ذلك واتخذت من التشريعات ما يكفل إصالح حال المجتمع بقدر ظهور الحاجات وبرزوا الضرورات

ونصت المادة 81 «لكل فرد الحق في أن يكون مع غيره نقابات وفي أن ينضم إلى نقابات للدفاع عن مصالحه». وهو أحد الحقوق التي نص عليها ميثاق حقوق الإنسان ، ونجد أثارة له في نظام الحسبة حيث جعلوا لأصحاب كل صنعة سوقا يختص بهم ، ونقابة تجمعهم ، وجوزوا للمحتسب أن يجعل لأهل كل صنعة عريفا من صالح أهلها ، خبيرا بصناعتهم مشهورا بالثقة والأمانة يكون مشرفا على أحوالهم ويطالعه بأخبارهم .

وحق تكوين النقابات كذلك حق الانضمام يتمتع به الوطني والأجنبي المسموح له بالإقامة والعمل فحقه في التمتع بالحقوق المدنية والاجتماعية مطلق ، سواء في ذلك بالوطنيين عدا الحقوق العامة أو السياسية فهي حقوق محصور التمتع بها بالوطنيين دون سواهم. فما بال حق الإضراب؟ قد سكت عنه في هذا الباب. والأصل أن ترك العمل حق مقيد بعدم الإضرار بالمصلحة العامة ، ولهذا قال الفقهاء «يجوز لولي الأمر حمل أرباب الحرف والصناعات على العمل بأجرة المثل إذا امتنعوا عن العمل وكان في الناس حاجة لصناعتهم وحرفهم .

فإذا قيل بأنه وسيلة للضغط على أرباب الأعمال من أجل تعديل شروط عمل مجحفة ، وأجور بخسة وأنصافا للعمال ، نرى أنه تبرير لا واقع له في الدولة الإسلامية التي من واجبها إقامة العدل باستيفاء كل حقه ، فلا يضار عامل ولا رب عمل. والإضراب كما جرت عليه قوانين بعض الدول تحرمه ومنها من ترخص به وتلزم المضربين الإعلان عنه قبل قيامهم به.

ثم نصت المادة 82 بما نراه إلزام على الدولة قبل مواطنيها فنصت على أن «تكفل الدولة لكل فرد مستوى من الحياة يضمن له ولأسرته الصحة والرخاء وبخاصة فيما يتعلق بالمأكل والملبس والمسكن والخدمات الصحية والاجتماعية الضرورية. كما تكفل الدولة للفرد الضمان في حالة البطالة والمرض والعجز عن العمل والترمل والشيخوخة وفي الحالات الأخرى التي يفقد فيها وسائل كسب قوته نتيجة لظروف لا دخل له فيها». وهو مبدأ وإلزام طالب به المرشد العام للإخوان المسلمين المرحوم حسن الهضيبي حيث نص على كفالة الدولة لكل إنسان ، وأن يكون مضمونا له العلاج المجاني من الأمراض متى لم يكن قادرا عليه فإذا كان دخله من بعد لا يكفيه أو كان غير قادر على العمل فهو في كفالة الدولة ، ويجب أن يستوفي حقه من الحاجات الضرورية وهي : بيت يسكنه ويواريه عن أعين الناس ويجعله في أمن من العادين والباغين ، وطعام يحفظ به نفسه ، وملبس للصيف والشتاء .

وهو مبدأ وإلزام نجد أثارة له في كتب الفقهاء ، فذهب أبو يوسف إلى أن الإسلام أوجب على بيت المال -والمقصود الدولة- الإنفاق على الزمن وهو العاجز عن الكسب ، وعلى الشيخ الفاني ، وعلى المرأة إذا لم يكن لواحد منهم من تجب عليه النفقة من أقربائه ، ولا يفرق الإسلام في ذلك بين المسلم والذمي

وما نجده كذلك فيما أورده نظام الحسبة «فقد جعلوا للفقير والمحتاج حقا في مال الغني وملكه. فإذا اضطر قوم لا مكان يأوون إليه إلى السكن في بيت إنسان ، فعلى المحتسب أن يسكنهم فيه ، ولو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابا يستدفئون بها من البرد أو إلى غير ذلك يبذل هذا مجانا لهم حسبما قرر ابن تيمية الذي يذهب أيضا «إن المحتاجين يعطوا على وجه التقديم على غيرهم من وجوه الصرف على رأي

كما ذهب ابن عابدين إلى أن القاضي يلزم ولي الأمر إلزاما قضائيا بالإنفاق على الفقير العاجز ، كما يلزم وليه أو قريبه الغني إذا كان له قريب غني

كما نصت المادة 83 «تقدم الدولة للأمومة والطفولة المساعدة والإعانة الكافية». وقد تكون هذه المساعدة بمعونات مادية أو عينية تقدمها الدولة للأمهات وكل مولود كما فرضها خليفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب في بيت المال أو خدمات صحية تقدمها الدولة مقرونة بالرعاية الاجتماعية وهي أمور تفرضها المساواة في الحظوظ لدى الولادة لا يختلف فيها ابن غني وابن فقير.

ثم نصت المادة 84 «لكل فرد الحق في التعليم ، وتكفل له الدولة التعليم في مختلف مراحله ويجب أن يهدف التعليم إلى تقوية الكرامة البشرية وتنمية الفضائل» فالإسلام يجعل العلم فريضة على كل فرد ومن ثم يجب على الجماعة أن تحقق له هذه الفريضة حين يعجز عنها.

هذه المبادئ السابقة تكرس لا شك مبادئ الرسالة الإسلامية التي كانت حدثا هاما في تاريخ البشرية.

لقد طلع الإسلام على البشرية بفكرة جديدة عن الحياة كلها. هي جديدة على البشرية تماما ، نابعة من معين غير بشري أصلا..

ذلك أنها كانت من وحي الله ، لتكون أمة جديدة غير مسبوقة النسق يقول عنها الله سبحانه وتعالى ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.

هذه الفكرة الجديدة عن الحياة كلها ، كانت لها آثارها في كل تصورات البشر في الحياة وفي علاقاتهم.. ومنها مسألة التكافل الاجتماعي التي تشتمل فيما تشتمل على قاعدة الضمان الاجتماعي.

أن الضمان الاجتماعي إجراء مالي تقوم به الدولة لإعانة من يعجزون عن العمل والكسب لسبب من الأسباب دائم أو مؤقت ، كلي أو جزئي. أما التكافل الاجتماعي ، والضمان الاجتماعي جزء منه صغير ، وجانب منه ضيق ، والمساعدات المالية التي تؤديها الدولة للعاجزين عن العمل والكسب ليست سوى جانب من المساعدات المالية التي يقررها النظام الإسلامي لكل فرد في الجماعة الإسلامية. أن لكل فرد في النظام الإسلامي حقا مفروضا ، وهو أن يحصل على الكفاية من مقومات الحياة ، المادية والمعنوية على السواء.

لكل فرد حق الطعام والشراب واللباس والسكني والركوب ، وحق الزواج أيضا ، بوصفها ضرورات تتعلق بحفظ الحياة وتلبية الحاجات الأولية ، ويقاس عليها العلاج والدواء ، ولكل فرد حق التعليم لأن العلم فريضة ، وحق العمل مادام قادرا عليه ، وحق إعداده للعمل وتمكينه منه. وعن طريق العمل والإعداد له والتمكين منه يتم أولا سد الحاجات الضرورية ، فمن لم يجد عملا وهو راغب فيه ، أو عجز عن العمل كليا أو جزئيا ، دائما أو وقتيا ، فهنا يجيء دور الضمانات الاجتماعية في الإسلام لسد حاجاته حتى يصبح هو بنفسه قادرا على سد هذه الحاجات. ومن ثم فالتكافل الاجتماعي في الإسلام ليس مجرد نظام للبر والإحسان إنما هو نظام للإعداد والإنتاج ثم الضمان..

ولكن هذا ليس إلا جانبا واحدا من جوانب التكافل الاجتماعي كما يعنيه الإسلام. أن التكافل الاجتماعي في الإسلام واجب عام ، على كل فرد في الجماعة الإسلامية منه نصيب ، ونصيب الدولة منه هو أحد الأنصبة أو النصيب الأخير. والنظام الإسلامي يبدأ في توزيع الواجبات والحقوق من أول درجات السلم ومن مرحلة مبكرة من مراحل الدولة. أنه لا يلقي على الدولة جمع الأعباء ، وأن كان يجعلها هي المسئول الأخير عن تحقيق هذا النظام بجزئياته وكلياته. إلى جانب التبعة على كل فرد ، وعلى كل أسرة ، وعلى كل جماعة من الأمة ثم على الأمة كلها لا يتميز فيها حاكم عن محكوم.

والقاعدة العامة في هذه التبعات المشتركة هو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» هكذا تتداخل التبعات وتتوالى ، وتشمل كل فرد حاكما أو محكوما ، والضمان الاجتماعي بمدلوله المحدود يدخل في مشتملات هذا التكافل العام.

ثم يمضي التكافل الإسلامي في مجالاته الأخرى ، حتى يشمل جوانب الحياة جميعها. وحين يولد المولود في الدولة الإسلامية تترتب له مع حق الحياة ، سائر الحقوق التي تحفظ له الحياة ، والتي تجعل الحياة كريمة لائقة ببني الإنسان ، والتي ترقي هذه الحياة وترفعها لتقبل عند الله. وعليه في مقابل هذه الحقوق التي يكفلها له النظام الإسلامي بمجرد ولادته ، واجبات لربه وواجبات لإنسانيته وواجبات للجماعة التي يعيش فيها.

هذه الواجبات متوازنة مع تلك الحقوق ، لا تظلم نفس شيئا ولا تكلف نفس إلا وسعها والجانب الاقتصادي في هذه الواجبات وفي تلك الحقوق هو أحد الجوانب لا كلها. لأن الحياة في نظر الإسلام أوسع أمادا وأبعد آفاقا من مجرد الجانب الاقتصادي- وأن كان الإسلام لا يغفل من حسابه أهمية العوامل الاقتصادية ، بل يمنحها العناية التي تستحقها في واقع حياة الإنسان.

ولقد قلنا أن المساعدات المادية المفروضة للعاجزين عن الكسب لسبب من الأسباب ليست سوى جانب من المساعدات الكلية التي يقررها النظام الإسلامي لكل فرد في الجماعة الإسلامية. فحق التعلم وحق التربية والتهذيب جعله الإسلام فريضة على كل فرد ومن ثم يجب على الجماعة أن تحقق له هذه الفريضة حين يعجز عنها.

والأطفال لا يملكون تحقيق هذه الفريضة بأنفسهم ولأنفسهم ، ومن ثم يصبح تحقيقها من واجب الجماعة الأقرب فالأقرب من أهل الطفل ، فإذا عجزوا وقع عبؤها على الدولة باعتبارها الجهة المنوط بها تشريعيا إقامة الفرائض والتربية -ويدخل فيها إعداد الفرد للحياة ، والعمل والإنتاج حق لكل فرد.

والجماعة بأجهزتها المختلفة الدرجات مكلفة بتحقيق هذا الواجب. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فرض كفاية على الجماعة الإسلامية لا بد أن تقوم به طائفة منها -وهو نوع من التربية العامة في البيئة الإسلامية وأحاديث الرسول تتوارد تترى في التوجيه إلى القيام بواجب التربية والتأديب «لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع».. «ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب حسن»..

من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، أو أختين أو ابنتين فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة»...

فأما حق العمل وتمكين القادرين عليه فتشهد له الحادثة التالية من سنن الرسول.

روى البخاري وغيره أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله مساعدة فلم يعطه مالا ، ولكنه دعا بقدوم ودعا بيد من خشب سواها بنفسه ، ووضعها فيها ، ثم دفع بها إلى الرجل وأمره أن يذهب إلى مكان عينه له وكلفه أن يعمل هناك لكسب قوته ، وكلفه أن يعود إليه بعد أيام ليخبره عن حاله..

وعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- تشريع. وهو يضع على كاهل الدولة تمكين القادرين على العمل منه ، مع ملاحظتهم لمعرفة أحوالهم في العمل. وكذلك ثبت حق العلاج والدواء من تصرف الرسول مع القوم الذين ساءت صحتهم في المدينة ، فأرسل بهم عليه السالم -إلى مكان صحي بظاهرها بجانب أبل الصدقة ليشربوا من ألبانها حتى صحت أجسامهم.. وكفالة الدولة الإسلامية لرعاياها الفقراء لا تقتصر على المسلمين فقط بل تشمل غير المسلمين بصفتهم حاملي جنسيتها أيضا ماداموا فقراء يستحقون العون ، وفي ذلك سوابق تاريخية تدل على هذه الكفالة ، من ذلك أن خالد بن الوليد كتب كتابا لأهل الحيرة جاء فيه «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنيا فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام

ولم يرد أن الخليفة أبا بكر أو غيره من المسلمين أنكر هذا الكتاب فيكون إجماعا. ثم نجد أثارة لهذه الكفالة أيضا في سوابق الخليفة عمر بن الخطاب كذلك الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي كتب إلى عامله في البصرة عدى بن ارطأة «أما بعد.. وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه ، وضعفت قوته ، وولت عنه المكاسب ، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه»

وهكذا نجد الإسلام سابقا بقرون عقلية الضمان الاجتماعي الذي ظهر في القرن الأخير.. كما نجد تقديره للحياة أرحب وأوسع ، وتقريره للحقوق والواجبات أشمل وأدق.. ولو نرجع إلى الهدى لنتبعن هذا الدين في سننه القويم ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.


الحقوق والحريات الفردية

ذكرنا سابقا أن الحرية الشخصية عند علماء القانون تعني حرية الفرد في الرواح والمجيء وحماية شخصه من أي اعتداء ، وعدم جواز القبض عليه أو معاقبته أو حبسه إلا بمقتضى القانون وحريته في التنقل والخروج من الدولة والعودة إليها. وقد نص على هذه الحقوق والحريات مشروع الدستور المقترح في المادة 85 إذ ذكرت «لا يجوز القبض على أحد أو حبسه أو نفيه بإجراء تحكمي ، ولا يجوز أن يتعرض أحد لتدخل تحكمي في حياته الخاصة أو في أسرته أو في منزله أو مراسلاته».

وحماية الإنسان بهذا المعنى لها أثارة في الإسلام الذي يحرم الاعتداء على حياته وجسمه وعرضه وقد قال الرسول «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» فالاعتداء على الإنسان ظلم وقد فرض الإسلام عقوبات على المتجاوزين والمعتدين على حياة الناس وأجسامهم وأعراضهم. وهذه العقوبات المقررة للمعتدين لا تصيب الإنسان بالظن والشكوك فالأصل براءة الذمة وبالتالي لا يجوز معاقبة الإنسان إلا إذا ثبتت إدانته وهو يتمتع بحريته في شخصه وحرمته في مسكنه فلا يدخل أحد فيه إلا بإذنه ورضاه إذ أن مسكنه موضع أٍسراره ومستقر عائلته فأي اعتداء عليه وانتهاك حرمته انتهاك لحرية الشخص ذاته.

ويلحق بهذه الحرية ، حريته في مراسلاته وهي تشمل خطاباته المكتوبة أو مكالماته الهاتفية.

كذلك فلكل فرد الحق في التنقل بحرية داخل الدولة وفقا لنص المادة 86 وما أباحه الله تبيحه الدولة ومن ثم فهي تضمن للفرد حريته في التنقل. إلا أن هذا الحق ليس مطلقا فقد تقتضي ضرورة تقييده مثل ما تجري عليه بعض قوانين العقوبات من فرض عقوبات للتدابير الاحترازية توجب بمقتضاها على بعض الأفراد المفرج عنهم عدم مبارحة مقر إقامته خلال ساعات تحددها أو عدم مغادرة موطنه خلال فترة تنص عليها.

كذلك قد تجد الدولة ضرورة في تقييد سفر مواطن خارج البلاد لسلوكه أو خطره ، فلها أن تمنع الفرد من هذا السفر والأمر كذلك في منع بعض الأجانب المصرح لهم بالإقامة من التنقل داخل بعض الجهات التي ترى الدولة ضرورة الحماية من أجل الأمن أو اعتبارات دينية

غير أن هذه الضرورات ليست مطلقة بل هي تقدر بقدرها وقد ذهب إلى ذلك الخليفة عمر بن الخطاب حين منع بعض كبار الصحابة من الخروج من المدينة ليستعين بمشورتهم. ويرتبط بهذا الحق حق آخر ، وهو أنه لا يجوز أبعاد مواطن من الديار المصرية وفقا لنص المادة 92. وقد أخذت بذلك أيضا المادة 7 من دستور 1923 بنصها «لا يجوز إبعاد مصري من الديار المصرية».

وهذا النص قد جاء مرتبطا بوصف المواطنة وحدها ويجوز بالمخالفة لما ينص عليه أبعاد أي فرد آخر كالأجنبي الذي أذن له بالإقامة إذا أتى ما يوجب إبعاده وإخلاله بشروط إقامته وسلوكه أو أن تشعر الدولة بخطر إقامته عليها.

أما حق التملك فقد نصت عليه المادة 87 بنصها «لكل فرد الحق في الملكية بصفة فردية أو جماعية ولا يجوز حرمان أحد من ملكه بإجراء تحكمي». فكما نصت عليه المادة من إطلاق الحرية للبشر -كما أطلقها الإسلام- في أن يتملكوا ما يشاءون من العقار والمنقول والأشياء ذات القيمة في حدود نظرية الإسلام في ملكية المال.

على أن هذه الحقوق والحريات لا تخضع إلا للقيود التي ينص عليها القانون لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياتهم واحترامها ولحماية مقتضيات الأخلاق والنظام العام والرفاهية العامة في مجتمع إسلامي ، ولا يجوز في أية حالة مزاولة هذه الحقوق والحريات على نحو يتعارض مع الإسلام نصا أو روحا ، وهذا ما نصت عليه المادة 94 من مشروع الدستور المقترح والذي جاء موافقا لمبادئ الشريعة.

إن الشرع الإسلامي يحمي الإنسان في ممارسة حقوقه. فلا ضمان مبدئيا على من يستعمل حقه ضمن حدود الشرعية حتى ولو أحدث ذلك ضررا للغير. وهذا معنى القاعدة الكلية أن «الجواز الشرعي ينافي الضمان». وهي قاعدة شبيهة بنظرية الضرر المباح المعروفة في القواعد اللاتينية والسكسونية.

غير أن هذا المبدأ ليس مطلقا في الشرع الإسلامي ، ولا يعني أن للإنسان أن يستعمل حقه بقصد إضرار الغير ، ولا أن هذا الاستعمال جائز متى كان ضرره فاحشا. ففي هذه الأحوال ، اعتبر الفقهاء استعمال الحقوق تعسفيا ومن ثم أفتوا بمنعه ، وهذا معروف في القانون باسم نظرية سوء استعمال الحقوق ، التي هي في الواقع تقييد اجتماعي لمدى الحقوق الفردية.

فإذا ثبتت الشريعة الإسلامية حرية التملك ، وأقر حرمة الملكية الفردية وفقا لقول الله سبحانه وتعالى ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع.. «إن دماءكم وأموالكم بينكم حرام..»..

وتفرعت عن كليهما القاعدتان الشرعيتان أنه «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي» ، وأنه «لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا أذنه».

بيد أن هذه الملكية الفردية تخضع لحقوق المجتمع العليا. فلذا أجاز الفقهاء جباية الضرائب لحاجات الدولة الضرورية ، وسمحوا للدولة باستملاك الأملاك الخاصة للمصلحة العامة ، وقد برروا ذلك بالقاعدة الشرعية أنه «يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام».

فنظرية الإسلام في المال إذن تنص على حق الملكية في الانتفاع ، على أنها مقيدة بما قد يتخذه الحكام من إجراءات الضرورة والمصلحة العامة.

فللجماعة بواسطة ممثليها من الحكام أن ترفع يد مالك المنفعة عن المال إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة بشرط أن تعوضه عن ملكية المنفعة تعويضا مناسبا إذ الإسلام لا يجيز الغصب ، ولا يحل أخذ المال بغير طيب نفس صاحبه.

فإن للجماعة بواسطة ممثليها أن تنظم طريقة الانتفاع بالمال إذ المال وأن كان لله إلا أنه جعله لمنفعة الجماعة. والقاعدة في الإسلام أن ما ينسب من الحقوق لله  إنما هو لمنفعة الجماعة وهي التي تشرف عليه دون الأفراد .

فيجوز لها بواسطة ممثليها أن تحدد ما يملكه الشخص من مال معين إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة كتحديد الملكية الزراعية بقدر معين. ومن حق الحكومة الإسلامية أن تقتطع من الثروات والأموال التي في يد الأفراد ما تراه كافيا لإعلاء كلمة الله ، ويستوي أن يصرف في الأعداد للعدو أو دفعه أو رفع مستوى البشر عامة علميا واجتماعيا أو رياضيا  ، وللحكومة الإسلامية أن تأخذ من أموال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء ، فإن لم تفعل فقد عصت أمر الله وحرمت ذوي الحاجة حقوقهم  ، وهذا نوع من أجبار الأغنياء على كفالة الفقراء؛ يقول الرسول عليه السلام ، «في المال حق سوى الزكاة» ويقول علي بن أبي طالب «إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي فقراءهم ، فإن جاءوا أو عروا فيمنع الأغنياء ، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه».

وهو ما استند إليه الفقهاء ، من بينهم ابن حزم في قوله «وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك أن لم تقم الزكاة بهم ولا في سائر أموال المسلمين بهم ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ، ومن اللباس للشتاء والصيف يمثل ذلك ، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة  ، وهذا من فروض الكفاية  دفع الضرر. ولكن هل المراد دفع الضرر من ذكر ما يسد الرمق أم الكفاية.

قولان أصحهما ثانيهما كما ذهب النووي -فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف ، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناها كأجرة طبيب وثمن دواء وخادم منقطع كما هو واضح .

ولم يكتف ابن حزم بما ذهب إليه بل انفرد برأي تأثر فيه بما ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري «عجبت لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه». وقد ذهب في المحلي أن للفقير الجائع أن يقاتل الغني إذا منع المال عنه ليدفع عن نفسه الموت من الجوع وهذا الرأي لم يقبل به جمهور الفقهاء لأن شرط الدفاع عن النفس غير متوافر في مثل هذه الحالة. فالجائع يعفي شرعا من العقوبة إذا سرق عند الضرورة القطعية ، لا إذا ارتكب جناية القتل

وهكذا جعل الإسلام التكافل الاجتماعي نظاما عمليا يقوم به الأغنياء بحقوق الفقراء ، فإذا لم تسع تكفلت الدولة للأفراد من بيت المال وفي السوابق ما يؤيد هذا الحق ، فالخليفة عمر بن الخطاب يضع منهجا قويما في حقوق الأفراد في بيت المال فيقول «.. فالرجل وبلاؤه ، والرجل وقدمه ، والرجل وحاجته» وفي عام الرمادة حيث عم القحط كان يصنع الطعام للمحتاجين ، وينادي مناديه «من أحب أن يحضر طعاما فيأكل فليفعل ، ومن أحب أن يأخذ ما يكفيه وأهله فليأخذه» وفي ذلك كان يستشعر حديث الرسول «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عنهم». ويقول النووي في شرح هذا الحديث «قال العلماء : الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره.

ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته .

وقد أباح الإسلام نزع الملكية الفردية وذلك في حالتين ، الحالة الأولى إذا أساء صاحبها -أي صاحب الانتفاع بها- استخدام حقه فيها ولم يكن ثمة وسيلة أخرى لمنعه من ذلك. كما ذهب الإسلام إلى نزع الملكية الفردية وجعلها ملكية جماعية وتخصيصها وتقييد الانتفاع بها إذا اقتضى ذلك الصالح العام أي إذا اقتضت ذلك حاجة المرافق العامة بتعبير القانون المعاصر أو اقتضاء صالح الجماعة.

ذلك عن حقوق الملكية الفردية والقيود التي ترد عليها ، فما هي الملكية العامة ، نص الفقهاء على إخراج الأشياء التي لا يتوقف وجودها والانتفاع بها على مجهود خاص وتكون ضرورية لجميع الناس من نطاق الملكية الفردية وأوجبوا أن تكون ملكيتها ملكية جماعية.

وقد عد الرسول من هذا النوع أربعة أشياء وهي الماء والكلأ والنار والملح فقال «الناس شركاء في ثلاثة» الماء والكلأ والنار 

والمراد بالنار مواد الوقود التي لا يتوقف وجودها ولا الانتفاع بها على مجهود خاص ، والمراد بالملح ، النوع الذي يظهر في الجبال والصحاري ، ويمكن الحصول عليها بدون مشقة ولا علاج خاص «فمن ورده من الناس أخذه ، وهو مثل الماء العد» أي مثل الماء الجاري ، الذي لا تنقطع مادته. وقد خصت الأحاديث هذه الأنواع الأربعة لأنها كانت من ضروريات الحياة الاجتماعية في البيئة العربية ، والضرورات تختلف باختلاف البيئات والعصور ، والقياس وهو أحد أصول التشريع الإسلامي قد ينفسح لسواها عند التطبيق مما تتوافر فيه صفاتها ، وهي الحاجة والضرورة العامة. وقاس الإمام مالك على الأمور المنصوص عليها في الأحاديث السابق ذكرها ، ما يوجد في باطن الأرض من معادن صلبة أو سائلة.

فهو يرى أن جميع ما يعثر عليه من هذا القبيل يكون ملكا خالصا لبيت المال (أي الدولة) ، فتكون ملكيته ملكية جماعية ولو وجد في أرض مملوكة لفرد.

وحجته في ذلك أن مالك الأرض إنما يملك ظاهرها دون باطنها ، ولأنه يملك ما تستعمل فيه الأرض عادة وهو الزرع والبناء وليس من الانتفاع المعتاد بالأرض استخراج المعادن فيها. ولأن المعادن هي وديعة الله في أرضه فتكون لكل خلقه لا يختص بها إنسان دون آخر. ولأنها من الأمور ذات النفع العام فهي تشبه تلك التي ذكر الرسول أنه لا يصح أن يستأثر بها أحد يتملكه إياها ، ولأنها لا توجد في مواطن خاصة؛ فلو أجيز تملكها فرديا لنال الناس من جراء ذلك ضرر كبير. وما ذهب إليه الإمام مالك من رأي في هذا الصدد هو أمثل الآراء في اتساقه مع روح الشريعة الإسلامية ، كما تتفق آراء كثير من الفقهاء مع رأي الإمام مالك ، فذهب الشافعي أن «كل عين ظاهرة كنفط أو قار أو كبريت أو موميا (وهو نوع من الدواء) أو حجارة ظاهرة في غير ملك أحد ، فليس لأحد أن يتحجرها دون غيره ، ولا لسلطان أن يمنعها لنفسه ولا لخاص من الناس.

ولو تحجر رجل لنفسه من هذا شيئا أو منعه من له سلطان كان ظالما .

كما يقول الكاساني من الحنفية «وأرض الملح والقار والنفط (البترول) ونحوها مما لا يستغني عنها المسلمون ، لا يجوز للإمام أن يعطيها لأحد ، لأنها حق لعامة المسلمين ، وفي الإقطاع إبطال لحقهم ، وهذا لا يجوز» .

وقال ابن قدامة وهو من كبار أئمة الحنابلة : «أن المعادن التي ينتابها الناس وينتفعون بها من غير مئونة كالملح والماء والكبريت والفار والمومياء والنفط ، وأشباه ذلك لا يجوز احتجازها دون المسلمين لأن فيه ضررا بهم وتضييقا عليهم» .

وقد عرضنا سابقا لما ذهب إليه الإخوان من الدعوة إلى تأميم الموارد العامة ووسائل الإنتاج الرئيسية كالماء والنور والوقود (الكهرباء والفحم والبترول) وموارد النقل العامة وامتياز شركة قناة السويس ، كذلك كل ما يؤدي إلى الاحتكار يجب أن يبقى ملكا للشعب .

فالاحتكار كما يعرفه الفقهاء هو شراء الشيء وجنسه ليقل بين الناس ويغلو سعره ويصيبهم ذلك الضرر. وقد نهى عنه الشارع وحرمه لما فيه من جشع وتضييق على الناس. وروى أبو داود والترمذي ومسلم عن معمر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال : «من احتكر فهو خاطئ». وروى أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : «من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله ، وبرئ الله منه».

وذكر رزين في جامعه أن الرسول عليه السلام قال : «بئس العبد المحتكر : أن سمع برخص ساءه ، وأن سمع بغلاء فرح». وروى ابن ماجة والحاكم عن ابن عمر قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون».

والجالب هو الذي يجلب السلع ويبيعها بربح يسير. وروى أحمد والطبراني عن معقل بن يسار أن النبي قال : «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة». وقد ذهب الفقهاء إلى أن الاحتكار المحرم هو الاحتكار الذي توافرت فيه الشروط الثلاثة الآتية :

1-أن يكون الشيء المحتكر فاضلا عن حاجته وحاجة من يعولهم سنة كاملة ، لأنه يجوز أن يدخر الإنسان نفقته ونفقة أهله هذه المدة كما كان يفعل الرسول.

2-أن يكون قد انتظر الوقت الذي تغلو فيه السلع ليبيع بالثمن الفاحش لشدة الحاجة إليه.

3-أن يكون الاحتكار في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى المواد المحتكرة من الطعام والثياب وغير ذلك فلو كانت هذه المواد لدى عدد من التجار ولكن لا يحتاج الناس إليها فإن ذلك لا يعد احتكارا ، حيث لا ضرر يقع بالناس. فإذا توافرت تلك الشروط كان لولي الأمر أو من يفوضه كالمحتسب أن يمنع احتكار الطعام ، وإلزام التجار المحتكرين بيعه إجبارا .

ذلك عن الاحتكار وحكمه فما بال التسعير وهو وضع ثمن محدد للسلع التي يراد بيعها بحيث لا يظلم المالك ولا يرهق المشتري. هل يحق للحاكم التدخل في تحديد سعر السلع؟ قد استنبط العلماء من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أصحاب السنن بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال : قال الناس : يا رسول الله ، غلا السعر فسعِّر لنا ، فقال الرسول : «أن الله هو المسعر ، القابض الباسط الرازق.

وإني لأرجو أن ألقي الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال» ، حرمة تدخل الحاكم في تحديد سعر لأن ذلك مظنة الظلم ، والناس أحرار في المعاملات المالية ، والحجر عليهم مناف لهذه الحرية.

ومراعاة مصلحة المشتري في هذا الشأن ليست أولى من مراعاة مصلحة البائع. فإذا تقابل الأمران وجب تمكين الطرفين من الاجتهاد في مصلحتيهما. قال الشوكاني : «إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم ، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن». وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم ، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به منافيا لقول الله تعالى ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾.

ثم أن التسعير يؤدي إلى اختفاء السلع ، وذلك يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتلك تضر بالفقراء فلا يستطيعون شراءها بينما يقوي الأغنياء على شرائها من السوق الخفية بغبن فاحش ، فيقع كل منهما في الضيق والحرج ولا تحقق لهما مصلحة.. على أن التجار إذا ظلموا وتعدوا تعديا فاحشا وجب على الحاكم أن يتدخل ويحدد السعر صيانة لحقوق الناس ، ومنعا للاحتكار ، ودفعا للظلم الواقع عليهم من جشع التجار ولذلك يرى الإمام مالك جواز التسعير ، كما يرى بعض الشافعية جوازه أيضا في حالة الغلاء.

كما ذهب إلى إجازته أيضا في السلع جماعة من أئمة الزيدية ومنهم سعيد بن المسيب ، وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعد الأنصاري ، كلهم يرون جواز التسعير إذا دعت مصلحة الجماعة ذلك.

قال صاحب الهداية : «ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس ، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا ، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير ، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصر».

كما قرر ابن تيمية التسعير في الأموال والأعمال في كثير من الحالات ، كأن يمتنع أرباب السلع عن بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ، أو أن يختص بشراء طعام وبيعه ، فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل.

أو أن يحتاج الناس إلى سلاح للجهاد. فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعرض المثل ، أو أن يحتاج الناس إلى الصناعة والفلاحة والحياكة فيجبر أهلها عليها ويقدر لهم أجرة المثل ، أو إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك ، فيسعر بأجرة المثل .

وهكذا قامت المعاملات على الدين والمصلحة والمنفعة المتبادلة دون ضرر ولا ضرار ولا جور ولا تضييق. ومن ذلك ينفرد الإسلام بخاصية تميزه عن المذاهب الاجتماعية السائدة في عالم اليوم.

والأولى منها تبشر بالحرية ولو أدى إلى عدم المساواة ، وأخرى تنادي بالمساواة والعدالة الاجتماعية ولو كان في ذلك تضحية بالحرية الفردية والكرامة الإنسانية ، أما الإسلام ، فلا ينتمي إلى واحد من هذين الصفين المتنازعين ، ولا يصح من ثم أن يسمى بأحد الأسماء التي تطلق عادة على مذاهبهما المختلفة. بل هو منهج فريد يقف من هذا الصراع موقفا وسطا. فهو مع تقريره الحرية الفردية يضع المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية.

وهو مع قوله بالمساواة والعدالة الاجتماعية يحترم الحقوق الفردية ويحميها. وقد آثرنا معالجة حرية التفكير والاعتقاد والتدين كما قررها نص المادة 88 بعد عرضنا لغيرها من الحريات لما يقتضيه التعليق.

وهذا النص قد جاء وفقا لما هو مقرر في شريعة الإسلام التي أباحت حرية الاعتقاد فلكل إنسان أن يعتنق من العقائد ما شاء ، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها. وقد راعى الإسلام ذلك مع أهل الذمة -وهم غير المسلمين- وهم يعدون كما يعبر الفقهاء الأسلاميون  الأقدمون من أهل دار الإسلام أو كما يذهب المعاصرون  من حاملي الجنسية الإسلامية. وقد كان عقد الذمة -الذي نعرض له بإيجاز عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وبتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها بشرط بذلهم الجزية ، والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشؤون الدينية.

وهم ما بذلوا الجزية إلا لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا كما ورد عن الإمام علي ابن أبي طالب .


والجزية ضريبة كالخراج تجبي على الأشخاص لا على الأرض والكلمة عربية مشتقة من الجزاء لأنها تدفع نظير شيء هو الحماية والمنعة ، أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية ، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة وأصلها (كزيت) ومعناها الخراج الذي يستعان به على الحرب. وقيل أن كسرى هو أول من وضع الجزية ، وعلى هذا فهي نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره.

ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين -أوائل عهده- في البلاد التي يفتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أموالهم والدفاع عنهم في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية.

فهي بدل نقدي لضريبة الدم. وهي في فرضها ليست عامة ، بل فرضت على كل قادر على حمل السلاح من الرجال ، فلا وجبت على امرأة ولا صبي ولا الشيخ الكبير ولا الراهب المنقطع للعبادة .

وقد سلك الإسلام هذا السبيل ولجأ إليه من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال ، فهي في الحقيقة «امتياز في صورة ضريبة» وفي الوقت نفسه احتياط لتنقية صفوف المجاهدين في أوائل عهد الإسلام من غير ذوي الحماسة المؤمنة. ومقتضى هذا أن غير المسلمين من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام إذا دخلوا في الجند واشتركوا في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد أعداء الإسلام أسقط الإمام (أو الحاكم) عنهم الجزية.

وقد جرى العمل على هذا في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام ، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات يحفظها لنا التاريخ ومنها : كتاب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حين دخل الفرات وأوغل فيه وهذا نصه : «هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه أني عاهدتكم على الجزية والمنعة (أي الدفاع) فلك الذمة والمنعة (وما منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا) كتب سنة اثنتي عشر في صفر. وفي حمص رد الأمراء بأمر أبي عبيدة ما كانوا أخذوه من الجزية من أهلها وما إليها حين جلوا عنها ليتجمعوا لقتال الروم ، وقالوا لأهل البلاد إنما رددنا عليكم أموالهم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم قد اشترطتم أن نمنعكم وأنا لا نقدر على ذلك الآن وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم أن نصرنا الله عليهم ، فكان جواب أهل هذه البلاد ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء ، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، وكذلك فعل أبو عبيدة نفسه مع دمشق حين كان يتجهز لليرموك. كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرزبان وأهل دهيستان وسائر أهل جرجان ونصه «هذا كتاب سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهيستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة ، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حال ، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه (أي جزيته) في معونته عوضا عن جزائه.

ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومالهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك شهد سواد بن قطبة و هند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتبة بن النهاس وكتب في سنة 18 هجرية. كتاب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه : «هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان ، سهلها وجبلها وحواشيها وشعارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا جزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم في سنة (أي جند منهم في سنة وضع عنه الجزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل من أقام من ذلك.

العهد الذي كان بين سراقه عامل وعمر وبين شهربراز وقد كتب به سراقة إلى عمر فأجازه واستحسنه وهذا نصه : «هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان.

أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا ، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم (أي الغرباء) والقناء (أي المقيمون) ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء (أي الجزية) عمن أجاب إلى ذلك ، ومن استغنى عنهم منهم وقعد فعليه مثل ما على أذربيجان من الجزاء فإن حشروا (أي جندوا) وضع ذلك عنهم «شهد عبد الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة ويكبر بن عبد الله وكتب مرضى بن مقرن وشهد .

وأخيرا نذكر أمر الجراجمة فيما ذكره البلاذري فقال حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام عند معدن الزاج فيما بين بباس وبوقا يقال لها الجرجومة ، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريرك أنطاكية وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة إلى أنطاكية وفتحها لزما مدينتهم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا على أنفسهم فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينتبهوا عليهم.

ثم أن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري فغزى الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل لكام وألا يؤخذوا بالجزية ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح. ولم يؤخذ الجرجمة بالجزية قط حتى أن بعض العمال في عهد الواثق العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم.

والحرية الشخصية لغير المسلمين مضمونة لا تقل عن حرية مواطنيهم المسلمين وفي حديث الرسول ما يؤكد ذلك فيقول : «من آذى ذميا فأنا خصمه ، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» .

وقد جاءت أقوال الفقهاء صريحة في وجوب تأمين الحماية لهم ورحمة إيذائهم. يقول القرافي : «فمن اعتدى عليهم -أي على أهل الذمة- ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك ، فقد ضيع ذمة الله وذمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذمة دين الإسلام» .

وذكر ابن حزم في مراتب الإجماع «أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه ، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك ، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة».

ولغير المسلمين إنشاء كنائسهم وبيعهم فلا تتعرض الدولة الإسلامية لهم في عقيدتهم وعبادتهم وفي كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران : «ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- رسول الله على أموالهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم».

وأمر المسلمون بتركهم وما يدينون ، فليس لهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازعوا عما أحله لهم دينهم وأن كان قد حرمه الإسلام كما في الزواج والطلاق وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر ، فهذان الأخيران عندهم مال متقوم والمجوسي الذي يتزوج أحدى محارمه ، واليهودي الذي يتزوج بنت أخته ، لا يتدخل الإسلام في شؤونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها. ذلك ذكر من بعض ونحيل إلى كتب الفقهاء بما فيها من تفصيلات في ذلك عن حقوق أهل الذمة كما وردت ، فما الواجب عليهم ألا وهو احترام شعور المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا الدولة التي تظلهم بحمايتها ورعايتها.

وقد يقول قائل فما بال حقوق الأقليات في مشروع الدستور المقترح وقد نص في مادته الأولى أن مصر دولة إسلامية حكومتها نيابية؟

نجيب أن العبرة بالمضامين التي احتوتها نصوصه وليس بالتسميات ، ذلك أن المشروع وقد نص في مادته 97 على أن «الإسلام دين الدولة» -وقد درجت على ذلك دساتير 1923 و 11930 و 1956 وغيرها- فإنه يلحظ أنه لم ترد في مواده تفرقة مما درج عليها تقسيم الفقهاء الأقدمين ، فهو مشروع وضع لدولة قومية يعيش فيها مسلمون وغير مسلمين تجمعهم رابطة انتماء لبلد ، فما اشترط في عضو مجلس الأمة انتماء لدين ، بل نص كما هو واضح في المادة الرابعة أن يكون مصريا ، وما قررته المادة 25 باختيار رئيس للدولة المصرية ، وما نص عليه من المساواة دون تمييز بحسب الأصل أو اللغة أو الدين وفقا لنص المادة 77 ، والمواد التي سبق تناولها وهي كلها لا تحد من الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد إلا فيما يخل بحقوق الغير وحماية للنظام العام والأخلاق. والجميع -وهم أهل للجنسية المصرية كما تنص المادة 96 على أن يحددها القانون -متساوون في الحقوق والواجبات ، سواء الواجبات المالية أو في أداء الخدمة العسكرية وقد نصت المادة 73 على أنها إلزامية للمصريين جميعا فليست فيها تفرقة أو فرض جزية. وما رأينا إسقاطا لشبهتها إلا أنها فرضت في مقابل ما قام به المسلمون الأولون في واجب الدفاع ، وتسقط باشتراك من فرضت عليه في هذا الواجب كما عرضنا له سابقا.

فحاملو الجنسية الإسلامية أو من كان يطلق عليهم أهل دار الإسلام وكما جاء في مشروع الدستور المقترح جميعا مواطنون لهم ذات الحقوق وعليهم نفس الواجبات ، ولم يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية كما يحلو للبعض أن يسمى.

والجميع -وهم أهل للجنسية المصرية ، متساوون في الحقوق ، سواء منها العامة أو ما يندرج تحت الحقوق السياسية ، فلهم حق تولي الوظائف العامة وحق الانتخاب وحق الترشيح ، ولم يرد في نصوص مشروع الدستور المقترح ما يقيد هذا الحق. فلم يفرق بين مواطن وآخر ، ولم يشترط في الوزير إلا ما اشترطه في عضو مجلس الأمة أن يكون مصريا حسن السمعة..

أما ما ورد في كتب الفقهاء الأقدمين ، فمن يطالعها يجد تسامحا ما بلغته الدول المعاصرة -فلأهل الذمة  الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين إلا ما غلب عليها الصبغة الدينية كالإمامة- أي رئاسة الدولة وما عدا ذلك جاز إسناده إليهم إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها من الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة ، وقد صرح بعض الفقهاء مثل الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» بجواز تقليدهم وزارة التنفيذ ، وقد تولى الوزارة كثير من النصارى في عهد الدولتين الأموية والعباسية وما تلاهما من دول...

والإسلام كما سبق أن ذكرنا لا يكره إنسانا ما على تبديل عقيدته وقد بلغت رعاية الفقه الإسلامي في ذلك سموا سامقا لا نحسب أن تشريعا آخر قد بلغه. فالشافعي يقول في مسألة إسلام أحد الزوجين غير المسلمين لا يعرض الإسلام على الزوج الآخر خلافا للحنفية الذين يرون العرض وحجته في ذلك «أن في هذا العرض تعرضا لهم وقد ضمنا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم .

ويجب ألا نخلط في هذا الشأن أي حرية العقيدة وعقوبة المرتد ، أي عقوبة المسلم إذا خرج من الإسلام ، فهذا شيء يغاير حرية العقيدة.

فالمسلم بإسلامه يكون قد التزم أحكام الإسلام وعقيدته.

فإذا ارتد فقد أخل بهذا الالتزام وأساء إلى الدولة التي هو عضو الجماعة المسلمة فيها وهي الأمة ويكون بذلك قد تجرأ عليها فيستحق العقاب.

وقد اختلف في أمره بين ارتكابه المعصية وارتكابه الكبيرة وللفقهاء في هذا الشأن شروط نحيل فيها إلى كتبهم.

والمرتد هو المسلم الذي غير دينه ، فالردة مقصورة على المسلمين ولا يعتبر مرتدا من يغير دينه من غير المسلمين. ويعتبر المرتد مهدر الدم في الشريعة من وجهين ، أولههما أنه كان معصوما بالإسلام فلما ارتد زالت عصمته فأصبح مهدرا ، وثانيهما أن عقوبة المرتد في الشريعة القتل حدا لا تعزيرا لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يحل قتل امرئ إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير نفس» ولقوله : «من بدل دينه فاقتلوه».

فعقوبة الردة عقوبة متلفة وعلى هذا تعتبر الردة من الجرائم المهدرة إذا نظر إلى عقوبتها ، ولكن لما كان أساس الردة هو الرجوع عن الإسلام وهو الأصل في العصمة فقد نظر في الإهدار إلى الوجه الأول دون الثاني.

ويشترط الفقهاء قبل الحكم بعقوبة الردة أن يستتاب المرتد ويعرض عليه الإسلام من جديد ، فإن لم يتب قتل حدا


حرية الرأي والتعبير

نصت المادة 89 «لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير «فلكل إنسان الأعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو بالتصوير. ويدخل في إطار ذلك التعبير في الأنشطة الفنية كدور المسرح والسينما والصحافة وغيرها من أدوات التعبير عن الرأي كما يدخل في إطار هذه المادة التعبير بأية لغة يريدها الفرد وقد تتناول صور التعبير الأمور السياسية والأدبية أو الدينية ولا يرد عليها قيد إلا نص المادة 94- التي سنعالجها من بعد- كغيرها من الحقوق والحريات.

وقد عالجت هذه الصور المادة 89 مخالفة بذلك ما أورده دستور 1923 حيث كان يعالجها في المواد 14 و 15 و 16. فالمادة 14 منه كانت تنص «حرية الرأي مكفولة. ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون» والمادة 15 كانت تنص «الصحافة حرة في حدود القانون.

والرقابة على الصحف محظورة. وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي» والمادة 16 كانت تنص «لا يسوغ تقييد حرية أحد في استعماله أية لغة أراد في المعاملات الخاصة أو التجارية أو في الأمور الدينية أو في الصحف والمطبوعات أيا كان نوعها أو في الاجتماعات العامة».

والتعبير عن هذا الرأي له في نظرنا تقديران متباينان ، هناك رأي عام لأولى الحل والعقد وأهل الرأي من العلماء في الأمة ، وهو ما يعرف في أصول التشريع بالإجماع.

وهذا النوع يرجع إليه في التشريع فيما لم ينص عليه الكتاب والسنة وهو حجة في الأحكام الشرعية ، ومصدر من مصادر الأدلة الإسلامية وهناك رأي عام التعبير عنه يكون من حق كل فرد مهما اختلفت سعة معرفته وهو من علامات المجتمع الصالح وأمارات الأمة الرشيدة. ومن العبث المفضوح أن تقرر الدولة الأخذ بمبدأ الشورى وهي تسطو على حرية الرأي فتسلبها من الأفراد.

فالرأي العام إذا كان جريئا لا يخشى في الحق صولة صائل ، ولا يعرف في سبيل المصلحة العامة مداهنة ، ولا يدين بتسامح ولا هوادة في حقوق المجتمع ، وتنفيذ شرائع دينه ، فهو عنوان نضج الأمة ودليل استقامة الرأي فيها ، واستحقاقها للحياة الحرة الكريمة وقد روى البيهقي في الشعب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «لا ينبغي لامرئ شهد مقاما فيه حق ألا تكلم به ، فإنه لن يقدم ذلك من أجله ، ولن يحرمه رزقا هو له».

ولا ريب أن للإنسان ناحيتين في حياته : ناحية ذاتية تتميز بها صفاته وتظهر بها عواطفه ومقدرته وناحية أخرى اجتماعية هي التي تتكيف بها أفعاله ومعاملاته مع المجتمع الذي يعيش فيه.

وإذا كانت حرية التعبير عن الأولى هي إحدى النتائج لوجود الحريات الاجتماعية فإن العكس أيضا صحيح ، فالأخيرة تميد نطاق التعبير عن الناحية الذاتية بإتمام العلائق بين الأفراد وحرية الاجتماع والتي يخرج عن نطاقها دون شك الاجتماع لمشاركة في تصرفات مالية (كتأسيس شركات التي ينطبق عليها القانون التجاري والتشريع المدني) كذلك فيخرج عن نطاقها الانضمام إلى النقابات للدفاع عن المصالح المهنية. وهذا الحق قد تضمنته المادة 90 بنصها «لكل فرد الحق في حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات السلمية».

والقانونيون يفرقون في هذا الشأن بين الاجتماعات العامة والإضرابات والتجمهر فالأولى الاجتماعات العامة Les reunions publiques يصدق عليها المصطلح الأول المنصوص عليه في المادة وهي حرية الاجتماع ، إذ هي لا تخرج عن كونها تجمع مؤقت لمجموعة من الناس بهدف التعبير عن رأي أو الدفاع عن مصالح (يخرج بطبيعة الحال المصالح المهنية إذ أن نطاق التعبير عنها هو النقابات) والثانية الإضرابات Les manifestations تتفق مع الأولى في خاصية التنظيم لتجمع مؤقت لكن تفترق عنها في كونها للتعبير عن احتجاج أو إنكار تصرف. وحيث أنها تخرج في العادة عن إطار أماكن التجمع فإنه تتخذ إزاءها إجراءات أكثر جدية ، لذلك تشترط بعض القوانين في البلاد المختلفة إخطار سلطات الأمن مسبقا وبمدة تتفاوت من تشريع إلى آخر عن الهدف من الإضرابات ونطاق السير للتعبير عنها مثلما جرت عليه فرنسا منذ عام 1935 وهناك من تحرمه بين الدول المختلفة.

أما الثالثة التجمهرات Les attroupements فإنها تتفق مع الأولى في أنها تجمع مؤقت وتختلف عنها في كونها بدون تنظيم هيئة أو جماعة وتتفق مع الثانية في كونها تعبير عن غضب واحتجاج أو إنكار تصرف ، ولما كانت تخرج عن إطار أماكن التجمع فإنها تعكر الأمن العام لما قد يندس بين هؤلاء من يهدف إلى التدمير ، لذلك فإنه يتخذ إزاءها إجراءات أكثر شدة مما ينتج عنه حق السلطة الإدارية (السلطة العامة) في اتخاذ إجراءات التفريق بالقوة والعنف حالة الدفاع الشرعي والمسؤولية المدنية والجنائية لمن قادها أو شارك فيها.

كما نصت المادة على حق كل فرد في تكوين الجمعيات السلمية وقد تكون هذه من الجمعيات الخيرية أو الجمعيات ذات النفع العام أدبية أو رياضية ، وهي تخرج من تعريفها الجمعيات التي تتكون لغرض غير مشروع فهي مخالفة بلا شك للقانون وبالتالي تهدر هذا الحق.

والمادة الواردة في مشروع الدستور المقترح تجمع نص المادتين 20 و 21 من دستور 1923 «للمصريين حق الاجتماع في هدوء وسكينة غير حاملين سلاحا. وليس لأحد من رجال البوليس أن يحضر اجتماعهم ولا حاجة بهم إلى أشعاره. لكن هذا الحكم لا يجري على الاجتماعات العامة فإنها خاضعة لأحكام القانون. كما أنه لا يقيد أو يمنع أي تدبير يتخذ لوقاية النظام الاجتماعي».

وتنص المادة 21 من الدستور السابق «للمصريين حق تكوين الجمعيات. وكيفية استعمال هذا الحق بينها القانون».


حق المقاومة

نصت المادة 91 من مشروع الدستور المقترح على أول حقوق المواطنة التي تفترق عن حقوق الأفراد ، وتلك الأخيرة يتمتع بها كل إنسان يعيش على إقليم الدولة مواطنا أو غيره ممن أذن له بالإقامة ، أما الأولى فهي قاصرة على المواطنين وحدهم. فنصت المادة «مقاومة جور الحكام تعتبر بالنسبة لكل مواطن ولجميع المواطنين أقدس الحقوق وألزم الواجبات». وهذا النص قد أخذت به أيضا وثيقة الثورة الفرنسية عن حقوق الإنسان الصادرة عام 1789 بما أوردته في المادة الثانية منها التي أخذ عنها كذلك الدستور الفرنسي الصادر في 4 يونيو عام 1793.

وبتبني مشروع الدستور المقترح هذا الحق فإنه قد خالف الدساتير الديمقراطية المعاصرة قاطبة التي ترى في مباشرة هذا الحق الطبيعي جريمة تهدد سلامة الجماعة وأمنها.

والجماعة لا يمكن تصور قيامها دون سلطة حاكمة تنظمها وتضع القواعد لها ، ومن ثم فإن الحكومة هي مظهر للاجتماع البشري ، والحاكم في الدولة يتولى سلطاته بإرادة الرعية. وللحاكم كل ما للأفراد من الحقوق ، ولكن له حق الأمر عليهم ، واستعمال هذا الحق يؤدي إلى ترتيب واجب على الأفراد هو واجب الطاعة. وحق الأمر وواجب الطاعة كلاهما مقيد غير مطلق ، فليس لأمر أن يأمر بما يخالف الشريعة العامة والمبادئ التي تقوم عليها ، وليس لمأمور أن يستطيع فيما يخالف تلك الشريعة العامة وما يقوم عليها من مبادئ سواء كان موظفا أو غير موظف وذلك ظاهر من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وقوله عليه السلام «من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه».

فأمر الحاكم لا يخلي المأمور من المسؤولية ولو كان المأمور موظفا. إذا أمر الرئيس مرؤوسه بعمل مخالف للشريعة فأتاه وهو عالم بأنه غير مباح له كان على المرؤوس عقوبة الفعل الذي أتاه ، لأن أمر الرئيس في هذه الحالة يعتبر أمرا غير ملزم لا تجب طاعته ، لأنه صدر فيما لا سلطان للرئيس فيه وليس للمرؤوس أن ينفذه ، فإن نفذه حمل مسؤوليته.

وإذا كان الفعل محرما ولكن المأمور لا يعلم بذلك ونفذه طاعة للأمر معتقدا أنه غير محرم ، فلا مسؤولية على المأمور لحسن نيته بشرط أن يكون الفعل داخلا في اختصاص الآمر ، إذ من الواجب على المأمور أن يطيع رئيسه فيما ليس بمعصية .

وإذا كان الفعل محرما ، فهل يخضع له الفرد موضوع الفعل؟ الإجابة هي النفي. فيحق لهذا الفرد الدفاع الشرعي لتجاوز القائم على تنفيذ الأمر حدود الشرعية أو إذا تعدى حدود وظيفته وتعسف في استعمالها يفقد ما تخوله له وظيفته العامة من حقوق وأصبح للفرد موضوع الفعل حق الدفاع إذا أن الطاعة التي ذكرها القرآن الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ .

كما يقول أبو السعود في تفسيره هي الطاعة الواجبة على الإنسان إزاء السلطة التي تمارس اختصاصها في حدود الشرع ، فهي إذن ليست طاعة سلبية عمياء تلك التي يفرضها القرآن على المؤمنين ، إنما هي طاعة إيجابية حيال سلطة محددة الاختصاصات وأصبحت المقاومة حقا شرعيا لدفع تجاوزها وهذا ما ذهب إليه ابن عابدين من أن استخدام العنف يصبح مشروعا لدفع أفعال عمال السلطة حيث لا تجدي وسيلة أخرى لدفعه .

هذا عن عمال السلطة التنفيذية فما بال الحاكم؟

سلطة رئيس الدولة كما يبين من مشروع الدستور المقترح ليست مطلقة بل هي سلطة مقيدة بنصوص الشريعة ومبادئها العامة. فهو إذ كان صاحب سلطة تنفيذية قوية كما ظهر لنا من دراستنا لاختصاصات السلطة التنفيذية فإن سلطته مقيدة بحدود هذه الاختصاصات وأن جار قامت مسؤوليته. وهذه المسؤولية تقوم قبل السلطة التشريعية وهي مجلس الأمة ، غير أن المادة 91 قد خولت أيضا المواطنين حق مقاومة جوره. فالمركز القانوني لرئيس الدولة هو مركز الوكيل بالنسبة للأمة فلها ، والفرد واحد منها ، حق مراقبته وسائر ولاته في أعمالهم وتصرفاتهم في شؤون الدولة. وهي تستمد هذا الحق من طبيعة علاقة الوكالة ، فهي التي اختارته ، ولأن من يملك التعيين يملك العزل ، والأمة التي اختارته تملك تنحيته إذا خرج عن حدود ولايته ، وقد رسم مشروع الدستور المسؤولية السياسية لرئيس الدولة والاقتراع على فقد الثقة.

غير أن المادة 91 تحدد حق مقاومة جور الحاكم الذي هو أقدس الحقوق فهل يترتب عليه أيضا العزل؟ الإجابة لا شك بالإيجاب. نستأنس في ذلك بما أوردته ديباجة المشروع بنصها أنه يعتمد في جوهره على الإسلام ، فهو مستمد في أصوله من أحكام القرآن وسنة الرسول وأساليب الحكم في عهد الخلفاء الراشدين.

فطاعة الأمة ليست سلبية بل هي طاعة في معروف استشعرها خليفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر حيث خطب فقال «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم أن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني- أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

ومن حق الأمة تقديم النصح لحاكمها ناذا زل فليتب كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- «ومن اخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة ، فإن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق».

فإذا أقدم الحاكم على المنكر فما هي وسائل دفعه؟

قد حصر بعض الفقهاء الوسائل الصالحة لدفع المنكر في سبع وسائل وهي : التعريف ، والنهي بالنصح والوعظ ، والتعنيف ، والتغيير باليد ، والتهديد بالضرب والقتل ، وإيقاع الضرب والقتل ، والاستعانة بالغير. وقد أجاز الفقهاء استعمال هذه الوسائل في حق الكافة عدا الوالدين والزوج والحاكم ، فليس للرعية على الحاكم إلا التعريف والنهي بالموعظة والنصح ، أما التغيير باليد -في هذه المرحلة وهي البدء في الإقدام على المنكر- فالرأي الراجح أنه غير جائز ، لأنه يفضي إلى خرق هيبته وإسقاط حرمته وذلك محظور لقوله عليه الصلاة والسلام : «من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علنية ، وليأخذ بيده فليخل به وإن قبلها قبلها ، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له».

فإذا لج الحاكم في الحور بحيث أبعد عن طريق الطاعة ، فالرأي الغالب لدى الجمهور هو أن ينعزل الحاكم بالجور ، ومن ثم فلا يجب الخروج عليه في غير ذلك يقصد عزله وتولية غيره ، لأن إباحة الخروج عليه تدعو إلى عدم الاستقرار وكثرة الفتن واضطراب أمور الناس. والأقلية تذهب أن للأمة خلع الإمام (الحاكم) وعزله بسبب يوجبه ، وأنه ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ، فإذا وجد من الإمام ما يوجب اختلال الأموال وانتكاس أمور الدين كان للأمة خلعه كما كان لها نصبه ، وإذا أدى خلعه إلى فتنة احتمل أدنى المضرتين ، وهناك من يرى خلعه إذا لم يستلزم فتنة .

وما الحكم إذا لم يتيسر عزل الحاكم بغير القوة؟

اختلف الفقهاء في جواز تنفيذ العزل عن طريق الثورة المسلحة ودرسوا ذلك تحت عنوان الخروج بالسيف ، وقد ذهب فريق منهم إلى عدم وجوب الخروج وذهب الفريق الآخر إلى وجوبه.

ويذهب الفريق الأول إلى حرمة الخروج وهذا رأي بعض أئمة أهل السنة الشافعي وأحمد بن حنبل الذي صرح بوجوب الصبر عند الجور ونهي عن الخروج والائتمار نهيا صريحا فلقد روى عنه «الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور ، ولا يخرج على الأمراء بالسيف وأن جاروا».

كما روى عن الإمام مالك قوله «من قام على إمام يريد إزالة ما بيده أن كان -أي المقوم عليه- مثل عمر بن عبد العزيز ، وجب على الناس الذب عنه والقيام معه أما غيره فلا ، دعه وما يراد منه ينتقم الله من ظالم بظالم».

وعند هذا الفريق أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ، وأن السيف باطل ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية ، وأن الإمام يكون عادلا ويكون غير عادل ، وليس لنا إزالته وأن كان فاسقا. وأنكروا الخروج على السلطان ولم يروه» .

وهذا الرأي قالت به أيضا الروافض من الشيعة إذ أجمعت على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت حتى يظهر لها الإمام وحتى يأمرها بذلك ، واستندت في ذلك إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يأمره الله بالقتال- كان محرما على أصحابه أن يقاتلوا .

ويستند هذا الفريق على بعض أحاديث رويت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية».

ومنها «سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره برئ ومن أنكر مسلم ولكن من رضي وبايع ، قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما ضلوا ونحوه».

وما روى سأل سلمة بن زيد الجعفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يا نبي الله أرأيت أن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ، فأعرض عنه ، ثم سأله ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».

القائلون بوجوب الخروج:

ومن هذا الفريق بعض أهل السنة والخوارج والمعتزلة والزيدية وكثير من المرجئة فعندهم أن الإمام الفاسق أو الجائر الذي لا يخضع للعزل يتعين عزله بالقوة والثورة عليه إذا اقتضى الأمر ذلك وهو ما يعبر عنه بالخروج ، وهذا ما قال به أيضا ابن حزم .

وقد استند هذا الفريق إلى جملة أدلة من القرآن وسنة الرسول ، فمن القرآن يستدلون بقول الله سبحانه ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ وقول الله ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. واستدلوا من الأحاديث ما روى عن الرسول «أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» ويذهب ابن حزم أن حجج من يستندون إلى حرمة الخروج لا تسندهم فيما ذهبوا إليه لأن الرسول لا يمكن أن يأمر بالصبر على الضرر ينزل بغير حق بالمسلم في ماله أو جسمه ، وكذلك من المحال أن يتعارض مع كلام الله إذ يقول سبحانه ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.

فإذا ما صحت ما يستند إليه كل فريق من أدلة كان لا بد من التماس مخرج من هذا التعارض الظاهري وفقا لما يعرفه الأصوليون في تعارض الأدلة. فالأحاديث التي يقول بها الفريق الأول لا تتوافق مع بعض الآيات في القرآن الكريم ولا نقول تعارضا حيث ينبغي أن يتساوى الدليلان -كما يقول الأصوليون- في القطعية والظنية من جهتي الثبوت والدلالة ، فلا تعارض من ثم بين هذه الآيات حيث أنها قطعية وبين هذه الأحاديث المروية وهي ليست قطعية الورود عن الرسول لأن من تلقاها عن الرسول ليس جمعا من جموع التواتر ، وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول.

كذلك الأمر في شأن الحديث المروي عن الرسول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان» والذي يستند إليه الفريق الأول القائل بالمنع. فالحديث هو من السنة المشهورة قطعية الورود عن الرسول لأن تواتر النقل يفيد الجزم بصدق الرواة بخلاف الأحاديث الأخرى وقد قدمنا إنها ليست قطعية الورود.

يدفعنا إلى القول بصحة من قالوا بالخروج وهو الفريق الثاني ما روى عن عمر بن الخطاب قوله «أن رأيتموني على حق فأعينوني وأن رأيتم في اعوجاجا فقوموني» فرد عليه أعرابي قائلا «والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا» ولم يغضب عمر بل حمد الله أن جعل في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه وفي إقراره ذلك دلالة على وجوب الخروج بالسيف.

وكان حريصا على إظهار معاني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان ، خطب يوما فقال : «لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه وأن جنف قتلوه» فقال طلحة : «وما عليك لو قلت وأن تعوج عزلوه» قال : «لا ، القتل أنكل لمن بعده» .

وإذا كانت المعارضة بين حديثين ولم يوجد ما يدفعها يصار إلى أقوال الصحابة عند من يوجب العمل بأقوال الصحابة.

وهذا ما ناصر فيه عمر بن الخطاب حجة الفريق القائل بالخروج.

بيد أن اللجوء إلى القوة مشروط بتوافر القوة اللازمة ورجحان النجاح ، وبدون ذلك لا يجوز العنف ، لأن من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أن لا يكون العمل على إزالة المنكر مستلزما منكرا أعظم ، وعدم توافر القوة ثم إعلان الخروج على الحاكم بالسيف كما يعبر الفقهاء لا يؤدي إلا إلى سفك الدماء وخراب البلاد وكل هذه منكرات فلا يجوز مباشرة أسبابها. وفي ذلك يقول ابن خلدون في المقدمة «أن الذين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله يكثر إتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه. قال -صلى الله عليه وسلم- «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان».


تقديم العرائض

نصت المادة 93 «للمواطنين حق تقديم العرائض إلى الهيئات الحاكمة» وهذا الحق كما يقول ديجي القانوني الفرنسي هو أحد أشكال حرية الرأي فلكل مواطن الحرية في عرض آرائه على الجمهور وعلى ممثلي السلطة. وهذا الحق خاص بالمواطنين دون سواهم من الأفراد وهو متصل بحقوق المواطنة وقد جاء النص عاما فالهيئات الحاكمة تشمل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية أي مجلس الأمة ورئيس الدولة. وهي جاءت عامة متفقة مع المادة 22 من دستور 1923 في نصها «لأفراد المصريين أن يخاطبوا السلطات العامة فيما يعرض لهم من الشؤون وذلك بكتابات موقع عليها بأسمائهم. أما مخاطبة السلطات باسم المجاميع فلا تكون إلا للهيئات النظامية والأشخاص المعنوية».

وصيغة مادة المشروع توحي بأنها غير مقيدة فيجوز تقديم العرائض من المواطنين فيما يخصهم كحالات شكوى فردية كما نصت على ذلك المادة 82 من الدستور التركي أو مما يهم الصالح العام ، وقد تشمل هذه العرائض أيضا طلب تعديل بعض أحكام الدستور وتتفق في ذلك مع ما ينص عليه الدستور السويسري وإزاء عدم التخصيص فإن نص المادة 93 قد شمل ذلك أيضا.

ونصت المادة 94 «لا يخضع الفرد عند مزاولة حقوقه والتمتع بحرياته السابقة إلا للقيود التي ينص عليها القانون لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياتهم واحترامها ولحماية مقتضيات الأخلاق والنظام العام والرفاهية العامة في مجتمع إسلامي ، ولا يجوز في أية حالة مزاولة هذه الحقوق والحريات على نحو يتعارض مع الإسلام نصا أو روحا».

وهذا النص يظهر ولا شك أن العنصر الأخلاقي عميق في بناء المجتمع الإسلامي ، وتلك نتيجة طبيعية لانبثاقه من الشريعة الإلهية ، وارتباطه بالمبادئ الخلقية التي جاء بها الإسلام والتي تتسم بها جميع الارتباطات في ذلك المجتمع ، سواء في ذلك سلوك الفرد ومعاملات الجماعة وأنه ليصعب تفسير كثير من النظم الإسلامية بما فيها المعاملات الاقتصادية بغير النظر إلى العنصر الأخلاقي فيها واعتباره ، بل أنه ليصعب تصور النظام الإسلامي قائما في مجتمع بدون هذا العنصر الأصيل.

والحدود والتعزيرات كلها مستمدة من هذا العنصر ، وهي وسيلة من وسائل حماية أخلاق الجماعة.

ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة أو الأولى فالإسلام نظام وقائي في هذا الجانب ، يعمل على تربية ضمير الفرد بتقوى الله ويعمل على توفير الضمانات للفرد كي لا يعتدي ، ثم في النهاية يأخذه بالحدود والتعزيرات عند الضرورة ، وبعد اتخاذ جميع خطوات الوقاية والعلاج ، قبل الالتجاء إلى العقاب. ومن ثم يتسم المجتمع الإسلامي بأنه مجتمع فاضل ، للعنصر الأخلاقي فيه دخل كبير في إقامته وفي المحافظة على كيانه ، وله دخل كبير في كل قوانينه وتشريعاته وتوجيهاته ..

على أنه قد تقتضي بعض الظروف تعطيل هذه الحريات لذلك نصت المادة 95 «لا يجوز تعطيل هذه الحريات إلا بقانون ويكون ذلك لمدة معينة ولظروف تقتضيها سلامة الدولة».

فجواز التعطيل لم يرد بصورة مطلقة بل قيد بالتأقيت والظروف التي تقتضيها. وإطلاق هذا التعطيل في رأينا فيه تسليط للسيف على الرقاب وإهدار للحريات ، وفيه إطلاق ليد الحاكم وتعسفه في استعمال سلطته. وهذا ما ذهب إليه القضاء المصري الذي كانت تفخر به مصر وتعتز في حكمه :

«أن تعطيل أحكام الدستور بمقتضى نظام الأحكام العرفية طبقا للمادة 155 من الدستور (دستور 1923) لا يكون إلا وقتيا مما يخرج منه بداهة أن يتحول تعطيل حق المصريين في تكوين الجمعيات وغيرها وهو حق كفله الدستور إلى إعدام أصل الحق في ذاته بصفة دائمة ونهائية..

«وإن نظام الأحكام العرفية -وإن كان نظاما استثنائيا- إلا أنه ليس بالنظام المطلق. بل هو نظام خاضع للقانون ، وضع الدستور أساسه فوجب أن يكون الإجراء الذي تتخذه السلطة القائمة عليه بالقدر الذي يسمح به القانون وإلا كان ما يتخذ من التدابير والإجراءات مجاوزا للحدود ، مخالفا للقانون تنبسط عليه رقابة المحكمة فتقضي بإلغائه فيما جاوز تلك الحدود .


أحكاما عامة وأخرى وقتية

والأولى قد نظمت الجنسية المصرية كما ذكرتها المادة (96) الجنسية المصرية يحددها القانون .

والمادة 97 قد نصت على أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية» .

وهي مادة نجد شبيهها في بعض الدساتير المعاصرة منها الدستور التركي الصادر عام 1924 وقبل تعديله سنة 1928 حيث ألغيت صبغته الإسلامية زمن مصطفى كمال أتاتورك. كذلك في المادة 45 من الدستور البرتغالي وقد نصت على أن «الكاثوليكية دين الدولة» والمادة الأولى من الدستور اليوناني الصادر عام 1911 وعنه أخذت الدساتير اليونانية المتعاقبة وقد نصت على أن «مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية هي الديانة الرسمية لليونان». وما تشير إليه المادة 3 من دستور الدانمرك من أن «الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الوطنية الدانمركية» وهو ما يعني الانتصار للمذهب البروتستانتي وكذلك نص المادة الخامسة من الدستور عينه» من انتماء الملك إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية». وما أوردته المادة السابعة من الدستور الإيطالي الصادر في 22 ديسمبر 1947 بنصها «إن الكاثوليكية هي دين الدولة» وقد ظلت تؤكد ما ورد في اتفاقية بينهما في 18 فبراير 1984 ، ولم تعد الكاثوليكية بموجبه دين الدولة. ونجد نصوصا مشابهة في دساتير السويد والنرويج وأسبانيا وفي الدستور الروماني قبيل قيام النظام الماركسي فيها كما نجد إثارة لها في بعض النصوص المعاصرة لدول أمريكا اللاتينية..

كذلك نصت المادة الأنفة الذكر أن «اللغة العربية هي اللغة الرسمية». وهي تذكرنا بنصوص واردة في الدستور التركي بنصه في المادة الثانية أن اللغة التركية هي اللغة الرسمية للدولة». كذلك المادة الثامنة من الدستور النمساوي بنصها «إن اللغة الألمانية هي لغة الجمهورية». والمادة 116 من الدستور السويسري التي تحدد لغات الاتحاد السويسري الرسمية وهي الألمانية والفرنسية والإيطالية..

وتأثروا بما في دعوة الإخوان المسلمين من العمومية التي لا تنتسب إلى طائفة خاصة. فهم يرون أن الخلاف في فروع الدين هو أمر لا بد منه للاختلاف في قوة الاستنباط أو ضعفه وأن الإجماع على أمر واحد مطلب مستحيل.

فلا يتعصب المسلم لمذهب ويتسمى به ، فقد نصت المادة 98 من المشروع على أن «الإسلام لا يعترف داخله بالفرق والطوائف الدينية». وهذا النص جاء تأكيدا للقاء بين المذاهب الإسلامية والتقريب بينها بعد الصدع الذي نال من الإسلام وتفرق المؤمنين به.

وهو الصدع الذي بدأ في عهد خلافة الإمام علي بن أبي طالب بين مشايعيه والخوارج ، وكلا الفريقين قد تنازعا فيه. وهما أقدم الفرق السياسية والدينية في الإسلام وأبرزهما أثرا في تاريخه ، نشأتا في حضن حزب واحد هو حزب أنصار الخليفة الرابع علي بن أبي طالب فتعاديتا فيما بينهما ، ثم شاءت ظروف الخصومة المشتركة بينهما زمن الأمويين أن يتحالفا معا على مضض ولكن مبادئ كل فريق كانت في تعارض تام مع مبادئ الآخر.

وقد كانت هناك أسباب ظاهرة وأخرى كامنة في هذا الخروج. والأولى هي مسألة التحكيم أبان المعركة الفاصلة بين أنصار علي بن أبي طالب وأنصار معاوية بن أبي سفيان إذ رضي علي الخليفة كارها بالتحكيم صونا للأمة من التفرق والنزاع. ولكن الخوارج قد انتهى التحكيم إلى مأساة لصاحبهم كما ترويها كتب التاريخ -ثاروا على نتيجة التحكيم. بيد أن هذا السبب الظاهر الذي يأخذ بتفسيره كثير من مؤرخي الإسلام الأول هو أوهى الأسباب فإن نزعة الخروج كانت كامنة في النفوس بسبب ما آل إليه أمر الخلافة على عهد عثمان بن عفان الخليفة الثالث. وما انتهى إليه أمر الجماعة الإسلامية بعد مقتله من تفرق إلى فريقين متعارضين متحاربين لا لسبب من أسباب الدين بل لأسباب الدنيا والحكم ومغانمه والتطلع إلى السيطرة والرئاسة ، كل هذا ولم يمض على وفاة الرسول إلا ثلاثون عاما مما كان في الواقع انحرافا لجوهر الإسلام بوصفه دينا وعقيدة لا مذهبا في السياسة تنتحله أحزاب متعارضة.

أحس بهذا نفر من المستمسكين بالعقيدة الدينية في صفائها الخالص بمعزل عن كل سياسة ، فانتهزوا فرصة التحكيم وكشفوا عما كان بيدر في نفوسهم من ثورة على ما آلة إليه أوضاع الخلافة والحكم على عهد عثمان وفي خلافة علي القصيرة ، فكان هذا هو الدافع الأصيل لنشأة الخوارج وليس مسألة التحكيم. ومن هنا كان ما ذهبوا إليه تعبيرا عن تيار عميق الشعور في النفوس ، ومن هنا أيضا كانوا يمثلون تيارا أصيلا في طبيعة تطور أي دين وأن اختلفت الأسماء في الأديان المختلفة ، وكان لا بد من ظهوره في أوقات متباينة على مر العصور ، وأن لم ينتحل أصحابه هذا الاسم صراحة نظرا لاعتبارات سياسية أو ملابسات وضعية.

وخلاصة هذا التيار العودة إلى الكلمة الأصيلة للدين معبرا عنها في كتاب الله الذي أتى به دون تأويل ولا ترخص بل يتشدد في الفهم لا يقبل التواء ولا مساومة ، ولهذا يدعو إلى الطاعة لما ورد في هذا الكتاب أو ما أتى به صاحب هذا الدين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قواعد وأحكام وسلوك. وهم يتشددون في المسك به ضد جميع الفرق والأحزاب التي بدت لهم أنها قد حادت أو تأولت عليه ولذا كان مذهب الخوارج ضد كل الفرق الأخرى.

ففي الإمامة كانوا ضد المرجئة الذين أرجأوا الحكم إلى الله ليحكم بين الناس يوم القيامة معترفين كارهين بالأوضاع التي أملتها القوة أو فرضها حد السيف ، وكانوا في فترة لاحقة ضد الشيعة الذين يقولون بأن الإمامة وراثية في أبناء علي بن أبي طالب.

وقد ذهبوا في نزعتهم إلى مذهب ديمقراطي أصيل -بالتعبير المعاصر- ثاروا بها على النزعة الارستقراطية التي أراد أهل قريش فرضها في اختيار الخليفة باستنادهم على أن «الأئمة من قريش» فقرر الخوارج أن الإمامة إنما تحق لمن تختاره الجماعة أيا كان ولو كان عبدا أسود وأن من حق الأمة إسقاط الإمام (الخليفة أو الحاكم) الذي يحيد عن الطريق الذي سنه الله ورسوله. هم لهذا يطلقون على من يختار إماما لقب أمير المؤمنين ولم يعترفوا بالخلافة إلا لأبي بكر وعمر بن الخطاب أما عثمان فلا يعترفون بشرعية خلافته إلا في السنوات الست الأولى منها ، وعلي اعترفوا بشرعية خلافته حتى معركة صفين.

وفي السلوك الإنساني كانوا ضد جميع الفرق الأخرى فلا يبررون بالإيمان الأعمال المنافية لما يقتضيه نص الكتاب والسنة إنما العبرة بالعمل.

وقد انقسم الخوارج إلى الأزارقة والصفرية والبهسية والنجدات وكلها بادت. ويذهب فريق من المؤرخين والمستشرقين إلى اعتبار الإباضية إحدى فرق الخوارج بينما تنكر كتب فقهائهم صلتهم بهؤلاء .

وكان طبيعيا أن تؤدي هذه المبادئ العامة في السياسة والسلوك إلى إيجاد مذاهب نظرية تقوم على فلسفة الأساس التي تقوم عليها فكان عن ذلك ما عرف في علم الكلام باسم مقالات الخوارج ومقالات الشيعة.. وقد قام كل فريق للانتقاض على السلطة الحاكمة ، سلطة الأمويين التي استندت إلى حكم القوة وبطشها ولم تكن تستند إلى ديمقراطية الانتخاب العام بإجماع الأمة لأصلح الناس للإمامة كما ذهب إلى ذلك الخوارج ، كذلك إلى اغتصابهم الملك لأنفسهم ضد شرعية آل علي بن أبي طالب في نظر الشيعة..

ولما كانت الإمامة لدى هؤلاء الأخيرين ثبتت بالنص والتعيين دون الاختيار فقد ذهبوا أول عهدهم إلى القول بالنص على محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب وهؤلاء هم الكيسانية وقال البعض الآخر بالنص على الحسن والحسين وهؤلاء هم غالبية الشيعة واختلفوا فيما بعد ، فقد أجرى بعضهم الإمامة في أولاد الحسن وهو ما ذهب إليه الرافضة وأجراها البعض الآخر في أولاد الحسين زين العابدين وقال فريق ثالث وهم الأمامية بإمامة محمد بن علي الباقر نصا عليه ثم جعفر الصادق وصية إليه. واختلفت الأمامية فيها بينها وتفرقت إلى فرعين رئيسيين الأمامية السبعية القائلين بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وهو مذهب الإسماعيلية ، والفرع الآخر هو الاثنا عشرية الذين يقولون بإمامة محمد بن الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي الرضا.

وقد تطور الخلاف منذ البداية حول الإمامة وتمخض عن الصراع السياسي ظهور فرق ومذاهب أصولية نترك الحكم عليها. وقد انتشرت آراء هذه الفرق -التي نشأت أصلا من الاختلاف حول الإمامة- في ربوع العالم الإسلامي ولا تزال قائمة بين ظهرانينا اختلط فيها ركام من العقائد والتصورات والفلسفات والأساطير والأفكار والأوهام.. والشعائر والتقاليد يختلط فيها الحق بالباطل ، والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ، والفلسفة بالأسطورة مما أبعد هذه الفرق عن عقيدة الإسلام وكمالها وتناسقها؛ ساعد على ذلك أن هذه الحركات الباطنية -التي أظهرت منذ قديم الإسلام- قد بدأت في القرن الثاني الهجري من مزيج من نحل هرطقية متطرفة كان بعضها من أصول فارسية قديمة أو سريانية غنوصية مكن لها الموالي والديالم الذين ظاهروا فريقا على آخر مما أشبعت نوازعها نحو الثأر من سيطرة الجنس العربي والانتقام النفسي للنقص الذي عاناه إزاء العنصر المتفوق -في نظرهم- زمن الأمويين.

وقد كان هؤلاء تحت تأثير الأفكار الهندية قبل الإسلام بعهد طويل والتي رانت على ضميرها البشري وكانوا يميلون إلى القول في ملوكهم أو الشاهنشاه هو تجسيد لروح الله التي تتنقل في أصلاب الملوك من الآباء إلى الأبناء. ومن هنا نفهم ظهور مذاهب العلويين وهم غلاة الشيعة الذين ألهوا عليا وقالوا بعصمة الإمام وبأن كل شيء بالتعليم لا بالتحصيل العقلي.

وهذا التعليم مصدره الإمام المعصوم وحده ، ومن هنا اقترن به الخوارق ولابد لهم أيضا من أجل ذلك أن ينتحل زعماؤهم صفات النبوة والرسالة بل أحيانا الألوهية فالروح القدس قد حلت فيهم على التناسخ الواحد عقب الآخر. والإمام لذلك مصيب في جميع أحواله وأقواله. والأحكام كلها ترجع إليه فلا اجتهاد في أمور الدين. ولما ضعف أمر السلسلة انتهت إلى أغرب حلقاتها وآخرها أعني إلى إمام طفل غاب وينتظرون رجعته فهو الغائب المنتظر الذي سيظهر ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا ، فهذا هو المهدي المنتظر الذي تقدمت البشارة به. وكان طبيعيا أن يختلفوا في هذه الحلقة الأخيرة فالاثنا عشرية يسوقونها إلى الإمام الثاني عشر محمد القائم المنتظر بن الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي الرضا (نصت المادة الثانية من دستور جمهورية إيران الصادر عام 1979 على أن نظامها يقوم على قاعدة الإيمان... فالإمامة والقيادة المستمرة ودورها الأساسي في ديمومة الثورة الإسلامية (الفقرة الخامسة) كما نصت المادة الخامسة من الدستور عينه على «تكون ولاية الأمر والأمة- في غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه..) «أما الإسماعيلية من الشيعة السبعية فقد انقسموا بعد الخليفة الفاطمي الثامن المستنصر بالله إلى فرعين ، الإسماعيليون الشرقيون من جهة وهم إسماعيليو بلاد فارس وكان مركزهم الرئيسي في قلعة الموت ويطلقون عليهم في الهند الخوجا وهم يعتبرون الأغاخان رئيسا لهم (الذي يعد من سلالة نزار من فرقة الحشاشين التي تزعمها الحسن بن الصباح في القرن الحادي عشر) وهناك إسماعيليو مصر واليمن زمن الخلافة الفاطمية التي اندثرت منذ عهد بعيد وهؤلاء قالوا بإمامة المستعلي بالله الابن الثاني للمستنصر بالله وآخر إمام عندهم هو الإمام الفاطمي أبو القاسم الطيب ابن الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله المتوفي في عام 524 هجرية.

فيكون هذا الإمام الأخير هو الإمام الحادي والعشرين في السلسلة الأمامية التي ابتدأت بعلي بن أبي طالب ولكنه اختفى وهو مازال طفلا وينادي أتباع هذا الفرع من الإسماعيلية ويدعون في الهند باسم البهرة بوجوب غيبة الإمام مع كل ما تحمله هذه الغيبة من معان ميتافيزيقية. كما أنهم يعلنون ولاءهم للداعي (داعي البهرة المطلق اليوم هو الدكتور طاهر سيف الدين ويقيم في الهند ويعتبر نائب الغيبة وهو في عرفهم ممثل الإمام الغائب. وقد ذكرنا أن نشأة هذه الفرق وانتشارها بين الديالم واقترانها بعقائد وأساطير وأوهام احتفظت بهرطقتها وقامت على الباطنية وتبنتها أساسا لها فالتكتم من أولى شعائرهم وطريقتهم طلسم والنحلة سر من الأسرار والإنكار والتقية درع.

فالكتمان أحد واجبات الإيمان المفروضة عليهم وهي من أسس العقيدة الإسماعيلية الباطنية التي كانت تبالغ في التستر والباطنية ومما لا ريب فيه هي الأصل لهذه النزعات الغريبة في الدين.

وقد تفرع هؤلاء الغلاة إلى القاديانية والنصيرية وهم ينعتون الإمام علي بن أبي طالب بنعوت وأوصاف الألوهية والشبك من هذه الفرق ومذهب الدروز الذين يصفون أنفسهم بمذهب الموحدين ويذهبون إلى تأليه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وأخيرا البهائية التي أعلنت بخلاف الفرق السابقة خروجها السافر على الإسلام ونسخت سائر الأديان واعتبر أصحابها أن الدين البهائي هو البوتقة التي انصهرت فيها سائر الأديان السابقة.

وهذه وتلك فرق ومذاهب يحمل أهلها اسم الإسلام ، أما عقائدهم وطقوس عبادتهم فيمكن بسهولة أن تربطها بوثنيات فارس والهند واتجاهات المسيحية واليهودية كما تذهب في ذلك بعض الفرق إلى الاعتراف والتثليث وعقائد الإغريق والرومان والأقدمين. وهي ترجع إلى ما بعد هزيمة الفرس والروم فقد ظلت الحروب قائمة بين أصحاب المجد القديم والدين الزاحف المنتصر ، تأخذ صورا عنيفة في ميدان القتال ، أو تتستر وراء مذاهب وفرق تحاول أن تعود بالمسلمين إلى الجاهلية مرة أخرى.. ولا نغمط في ذلك دور اليهود في تأليب الأمصار وهي عداوات تمتد جذورها إلى صدر الإسلام فقاموا بتأليب الأمصار على عثمان بن عفان وتولى عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر باعتناق الإسلام كبر هذه الفتنة ، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر ، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة ، فتمالئوا على ذلك وتكاتبوا فيه ، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان ، وعلت الموجة المسمومة حتى طوت الخليفة ذا النورين ، وسجلت في تاريخ الإسلام صفحة دامية تركت أثرها العميق في نفوس أبنائه..

ثم كان عبد الله بن سبأ كبر فتنة الغلو في علي بن أبي طالب الذي تبرأ منها وسائر الأئمة كما يظهر ذلك من مطالعة كتب الرجال الرواة عند الشيعة وهو دور قد لعبه اليهود في تاريخ الإسلام وسعوا في نشر الحركات الباطنية ومنها الإسماعيلية زمن الخلافة الفاطمية ودور ابن كلس اليهودي وزير ذلك العهد معروف. ودور اليهود في ذلك يشهد به المستشرقون النزاء .

وفكرة المهدي والمهدية التي قال بها الشيعة لا تختلف عما يقول به بعض السنين ، وقد لعبت دورا كبيرا في الإسلام من القرن الأول إلى اليوم ، وسبب انتشارها بين بعض العقول كما يقول المرحوم الدكتور أحمد أمين يرجع إلى شيئين : الأول أن نفسية الناس تكره الظلم وتحب العدل ، سنتهم في جميع الأزمنة والأمكنة ، فإذا لم يتحقق العدل في زمنهم لأي سبب من الأسباب اشرأبت نفوسهم لحاكم عادل تتحقق فيه العدالة بجميع أشكالها ، فمن الناس من لجأ إلى الخيال يعيش فيه وألف في ذلك اليوتوبيا أو المدن الفاضلة على حد تعبير الفارابي ، وخلق من خياله دنيا ونظاما عادلا كل العدالة ، خاليا من الظلم كل الخلو ، وعاش فيه بخياله ينعم بالعدل الخيالي ، فقد روى لنا في الشرق والغرب يوتوبيات كثيرة على نمط جمهورية أفلاطون ، ومنهم من نزع إلى الثورة يريد رفع هذه المظالم وتحقيق العدالة الاجتماعية في الدنيا الواقعة ، فلما عجزوا عن تحقيقها أملوها ، وإذا جاءت هذه الفكرة عن طريق الدين كان الناس لها أكثر حماسة وغيرة وأملا ، فوجدوا في فكرة المهدي ما يحقق أملهم. ولذلك كثرت هذه الفكرة في الأديان المختلفة من يهودية ونصرانية وإسلام ، فاعتقد اليهود رجوع إيليا واعتقد المسيحيون والمسلمون رجوع عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما. ولعلهم رمزوا إلى العدالة بالمسيح وإلى الظلم بالمسيح الدجال وسلطوا المسيح على المسيخ فقتله إيماء بأن العدل يسود والظلم يموت وفقا للأمل.

والثاني أن الدنيا في الشرق والغرب مملوءة ظلما وذلك في كل العصور ، وقد حاول الناس كثيرا أن يزيلوا الظلم عنهم ويعيشوا عيشة سعيدة في جو مليء بالعدل فلم يفلحوا ، فلما لم يفلحوا أملوا فكان من أملهم إمام عادل ، أن لم يأت اليوم فسيأتي غدا ، وسيملأ الأرض عدلا ، وستتحقق على يديه جميع الآمال.

وكلا الفريقين يستند إلى أحاديث قيل بأنها وردت في المهدي مثل ما رواه جابر قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب» ومثل ما رواه الترمذي عن النبي : «ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، ومثل حديث عن علي عن النبي قال : «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي. يملؤها عدلا كما ملئت جورا» ، ومثل ما رواه الحاكم عن أم سلمة قالت : «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر المهدي ويقول : هو حق وهو من بني فاطمة» ، وعن أب سعد الخدري قال : «قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : المهدي مني ، أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، الخ».

واستغل بعض الحكام شيوع كلمة المهدي بين الناس واعتقادهم فيها فدعوا بها وهذا الفرزدوق يمدح سليمان بن عبد الملك بقوله :

سليمان المبارك قد علمتم

هو المهدي قد وضح السبيل

وقوله في هشام بن عبد الملك :

فقلت له الخليفة غير شك

هو المهدي والحكم الرشيد

ولما زالت دولة الأمويين وتأسست دولة العباسيين جاء المنصور واستغل فكرة المهدي وشيوعها بين الناس فلقب ابنه بالمهدي على أساسها ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي والتقديس الديني.. وقد ضعف ابن خلدون فيما عقده من فصل المهدي أسانيد هذه الأحاديث ، وروى حكايات عن جماعات كثيرة قالوا بدعوى المهدية وأن أكثرهم فشل في دعوته فقتل أو هرب ، ثم ذكر علاقة فكرة المهدي بالمتصوفة التي تسربت إلى تعاليمهم فقال : «أن المتقدمين منهم لم يكونوا يخوضون في شيء من هذا وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال ثم كان كلام الأمامية من الشيعة في تفضيل علي والقول بإمامته وإدعاء الوصية له ثم حدث بعد ذلك القول بالإمام المعصوم ، وجاء آخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بواسطة التناسخ ، وآخرون يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول فتسرب هذا إلى الصوفية أيضا فقالوا بالقطب وقالوا بالحلول كالذي كان من الحلاج وأشباهه ويقول أن المتصوفة الذين عاصروا ابن خلدون أكثرهم يشيرون إلى رجل مجدد لأحكام الملة ومراسم الحق ويتحينون ظهوره.. ومن رأيه أن من نجح من دعاة المهدية يرجع نجاحه لا إلى أسباب دينية وتنبؤات ونحو ذلك وإنما يرجع إلى أن له عصبية قوية تحميه وتدافع عنه كالذي حدث للفاطميين والقرامطة وغيرهم ، وأما من فشل منهم ففشله يعود إلى ضعف عصبيته ، والمهدية قامت على أساس هذه العصبية وقد قواها الصاق المهدية بالدين ، والناس للدين أكثر انقيادا. وعلى ذلك لنا أن نفهم نشأة بعض هذه الجماعات وضعفها آخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي كالسنوسية وقد كان أشهر دعاة المهدية في العصور الحديثة محمد المهدي السنوسي الذي ورد عنه في كتاب «الدرة الفردية في بيان الطريقة السنوسية» أن غيابه عن الأعيان لحكمة أرادها الواحد المنان ضحوة يوم الأحد 24 سفر سنة 1320 ، وثانيها المهدية بالسودان ومؤسسها محمد بن عبد الله الذي ولد بدنقلة ، وثالثة ظهرت بالصومال حيث اعتنق محمد بن عبد الله حسن فكرة المهدية ودعا إليها وسرعان ما اكتسب نفوذا في قبيلته ولكن الحكومة البريطانية قضت عليه سريعا باكتسابها له واستخدامها إياه في تهدئة الثورات التي تقوم حولها وأخيرا في أثناء الحرب العالمية الأولى استطاع الإيطاليون هناك أن يقضوا على سلطته ومات سنة 1920 ، ومن عجب أن كل من رفع لواء المهدية كان ينسب نفسه وأسرته إلى نسل رسول الله ، وما علموا أن رسول الله ما عاش مترفا كما عاش بعض هؤلاء المدعين فكثرت لديهم الأموال من بؤس الأتباع ، وما عاش -صلى الله عليه وسلم- ظالما كما عاش أولئك الذين لم يملئوا الأرض عدلا كما ملئت ظلما على حساب دعواهم ، بل كان مثلهم مثل غيرهم وكانوا في مدة حكمهم محتاجين هم أنفسهم إلى مهدي آخر يذهب بظلمهم.

وهي صورة لما سببته فكرة المهدية وقد تباينت أشكالها من العنف كالحشاشين أو المسالمة كمهدي الصومال وما أثرت في الأمة الإسلامية بنشر الأوهام بين بعض أبنائها من الدهماء ممن ضعف فيهم الرشد.

تلك شذرات أردنا بها أن نذكر الذين يدينون بالإسلام بما حل بهم ففرقهم طوائف وفرقا وقد آن الأوان أن ينبذ المسلمون هذه الدواهي ويستمسكوا بكتاب ربهم ويعتصموا بسنة نبيهم ويلوذوا بشريعتهم وذلك ما نعتقد فيما ذهب إليه مشروع الدستور بنصه في المادة 98 منه «الإسلام لا يعترف داخله بالفرق والطوائف الدينية» وهي بحسبنا أريد بها رتق ما انفتق وإصلاح لما داخل تلك الفرق من ركام هائل يتخبط في ظلمات وظنون لا يستقر منها على يقين.


الرؤساء الدينيون

إلحاقا لما سبق بيانه من حرية الاعتقاد والتدين ومبدأ الإسلام في هذا الشأن يترك غير المسلمين وما يدينون ، نصت المادة 99 من المشروع «يترك لأفراد كل طائفة من غير المسلمين أمر اختيار الرؤساء الدينيين وفق قانون ينظم هذه الطوائف».

وقد تنوعت طوائف غير المسلمين في مصر وفق أديانهم إلى طوائف اليهود وطوائف المسيحيين. كما تفرقت وفق مذاهبهم فالأول قد انقسموا إلى اليهود القرائين وهم الذين يؤمنون بالتوراة ويتبعون تعليماتهم فقط وقد ظهر المذهب القرائي في بغداد في القرن الثامن الميلادي ثم انتشر بعد ذلك بين اليهود في سوريا ومصر وغيرها وهم يرفضون التفسير الذي وضعه اليهود الحاخاميون أو الربانيون لكتابهم فيما يسمى بالتلمود وكانت هذه الطائفة الأخيرة تضم أغلبية اليهود في مصر وقد انقسموا بدورهم إلى طائفتين ، طائفة في مدينة القاهرة وأخرى في الإسكندرية ، وكان لكل واحدة منها حاخامها ومجلسها الملي المنتخب. كما انقسمت طائفة الربانيين في القاهرة إلى طائفتين بحسب العنصر المكون لها ، الأولى طائفة اليهود السفرديم أي اليهود الشرقيين الذي ينتمون في أصلهم إلى حوض البحر المتوسط وأسبانيا وإلى طائفة اليهود الأشكنازيم وهم اليهود الغربيين الذين وفدوا على مصر من أوروبا وكان لكل طائفة مجلسها الطائفي وحاخامها الخاص..

كما تنوع طوائف المسيحيين بحسب اختلافهم في طبيعة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام من قائل أنه ذو مشيئة واحدة أو مشيئتين إلى كاثوليك وأرثوذكس وما أعقب النزاع الواقع في حضن الكاثوليكية إلى الإنجيليين والبروتستانت. كما تنوعت طوائفهم بحسب أصولهم التي وفدت إلى مصر إلى اللاتين والروم والسريان والكلدانيين والموارنة والأرمن وغيرها. وهم في تنوع مذاهبهم وطوائفهم تفرقوا إلى كبرى الكراسي الأسقفية وهي أربعة ، كرسي روما (الفاتيكان ويتبعه الكاثوليك واللاتين) وكرسي القسطنطينية ويتبعه الروم الأرثوذكس وكرسي أفسيس وكرسي الإسكندرية للكرازة المرقسية ويتبعه الأقباط الأرثوذكس وكنيسة الحبشة (ظلت على تبعيتها حتى قيام النظام الماركسي في أثيوبيا وانفصلت). ولكل طائفة مجلس يدير شؤون الملة التي نتسب إليها فهناك سنودس النيل لطائفة الإنجيليين (البروتستانت) والمجلس الملي للأقباط الأرثوذكس. ويحكم هذه الطوائف في العصر الحديث الخط الهمايوني الذي صدر زمن الإمبراطورية العثمانية وقد أدخلت عليه تعديلات أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين وهي قوانين تنظيم شؤونها واختيار الرؤساء الدينيين كالبطريركية التي عرفها ابن العسال في كتابه القوانين الذي يعتبر المرجع الأصلي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

ذكر بأن «البطريركية خلافة مسيحية في الدنيا على حراسة الدين وسياسة المؤمنين سياسة شرعية روحانية ، وتقليدها لمن يقوم بها فرض على المؤمنين واجب بالإجماع ويدل عليه الشرع والطبع.. ويشترط فيمن يستحقها أن يكون راهبا أو ممن له بعض مراتب المذيح ، ولا يصح علمانيا إلا بعد ضرورة وبعد أن يشرط على نفسه حفظ القوانين المقدسة وهذا على ما ورد في قوانين اثناسيوس بطرك القسطنطينية ، وهو مستقر في بيعتنا أعني أن يكون راهبا أو كاهنا .

ولا يجوز أن تكون هذه الرئاسة الدينية لاثنين في زمان واحد. وإذا وجد أكثر من مرشح للكرسي الشاغر تم الاختيار بالقرعة الهيكلية أي وضع أسماء المرشحين الثلاثة أصحاب أعلى الأصوات في المجمع في صندوق صغير ويتم الاقتراع على أحدهما بواسطة طفل يقوم بسحب الورقة التي تحمل اسم أحد المرشحين.


اللاجئون السياسيون

نصت المادة 100 من مشروع الدستور المقترح «تسليم اللاجئين السياسيين محظور مع عدم الإخلال بالاتفاقات الدولية» وقد اتفقت هذه المادة مع نص المادة 151 من دستور 1923 عدا أنها تخالفها فيما أوردته في نصها الذي أردف «الاتفاقات الدولية التي يقصد بها المحافظة على النظام الاجتماعي» الذي قصد به مناهضة الأفكار الماركسية التي وضع الدستور السابق عقب فترة نجاح الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي. أما نص مادة المشروع فقد أتى بصيغة عامة ولذلك فهو يشمل كل فرد لا يستطيع البقاء أو لا يرغب في العودة إلى بلده خشية اضطهاد من أجل ما يعتنق من مبادئ أو لانتمائه سلالة أو جماعة. كذلك فإن نص المادة يشمل كل فرد لا جنسية له.


تعديل الدستور

قد يكون التعديل كليا أو جزئيا ، وهو يتناول حذف أحد النصوص ونسخها أو إضافة لأحد النصوص. ولا يتم التعديل إلا بموافقة أغلبية موصوفة فيما عدا الأحكام الخاصة بالمشروعية الإسلامية العليا إذ أن شريعة الله لا تتجزأ وهي لا بد أن تكون حاكمة برد الشرع إلى الله ابتداء وأن جاز للبشر أن يشرع ابتناء وفيما لا يخالف شرع الله ، فذلك هو مضمون الشرعية في فقه الإسلام. ولا نزاع بين المسلمين جميعا في أن القرآن حجة يجب العمل بما فيه وعلى المجتهد أن يرجع إليه أولا في استنباط الأحكام ، ولا يجوز لأحد العدول عنه إلى غيره إلا إذا لم يجد مطلبه فيه ، لاعتقاد الجميع أنه كلام الله يقينا بعد نقله البنا بطريق التواتر المفيد العلم القطعي بالثبوت ، والله لا يقول إلا الحق. وهذا أمر مسلم به لا يحتاج إلى دليل ، ولذلك لم يتكلم أحد من الأصوليين على اختلاف مذاهبهم على حجيته باعتبارها أمرا لا يحتاج إلى الاستدلال مع اتفاقهم جميعا على الاستدلال على حجية غيره من الأدلة ابتداء من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سائر الأدلة الأخرى.

لذلك نصت المادة 101 من مشروع الدستور المقترح «لا يجوز تنقيح حكم من أحكام هذا الدستور بتعديل أو حذف أو إضافة إلا بموافقة ثلاث أرباع الأعضاء الذين يتكون منهم مجلس الأمة. ومع ذلك فإن الأحكام الخاصة بسيادة القرآن وبنظام الحكم وبحقوق الأفراد وبمبادئ الحرية والمساواة الواردة في هذا الدستور لا يجوز تنقيحها».

فالأحكام الخاصة بسيادة القرآن تأكيد لالتزام الدولة الإسلامية دينا لها وهو يعني التزامها الشريعة الإسلامية شريعة لها ، إذ هي مجموعة القواعد التشريعية التي جاء بها الإسلام وأوجبها ، والقرآن هو أول الأدلة والمصادر ولهذه القواعد.

كذلك فإن الأحكام الخاصة بنظام الحكم لا يجوز تعديلها. وهي تلك المتعلقة بشكل الدولة وصفتها الإسلامية والتي بينا أنها جمهورية من نوع خاص فليست ملكية وراثية حيث تنتفي مع مبدأ الإسلام في اختيار الحاكم وحصر السلطة في طبقة دون الشعب.

وعماد الحكم فيه الشورى. ولذلك فهي تنتفي مع تعديل يلحقه بإحلال نظام دكتاتوري يستبد فيه الحاكم بسطوة وعنوة ، كذلك فلا يجوز تنقيح حقوق الأفراد ومبادئ الحرية والمساواة بالتعديل أو الحذف وهو ما يعني العودة إلى النظام الدستوري القديم الذي كانت تأخذ به مصر وتتبناه في العهد الملكي وهو النظام الليبرالي الذي اقتصر على ذكر الحقوق والحريات الكلاسيكية دون الاجتماعية والتي تمتعت في ظله طبقات أثرياء زادت تخمة بينما البقية من الشعب عاشت في غصة .

فمن يملك اقتراح التنقيح؟ قد سكتت المادة عن بيان ذلك الأمر الذي نرجع فيه إلى القواعد العامة المنصوص عليها وهي تعطي هذا الحق لأعضاء السلطة التشريعية (مجلس النواب) ولرئيس الدولة. وقد يكون هذا الحق في اقتراح التنقيح خول إلى المواطنين بما نصت عليه المادة 93 «للمواطنين حق تقديم العرائض إلى الهيئات الحاكمة». وقد تشمل هذه العرائض اقتراح التنقيح؛ نستأنس في ذلك بالمادتين 120 و 121 من الدستور السويسري الذي نصت عليه ديباجة المشروع بذكرها أنه قد فصلت نصوصه على نحو بدا مسايرا لأصلح ما في النظم الدستورية المعاصرة وقد نصت على هذا الدستور كما ذكرت غيره.

ومن يملك سلطة التنقيح؟ قد تكون جمعية دستورية تنتخب لهذا الغرض أو قد تملكها السلطة التشريعية ذاتها. قد سكتت المادة واكتفت في هذا الشأن بأنه لا يجوز التنقيح إلا بموافقة ثلاث أرباع الأعضاء الذين يتكون منهم مجلس الأمة.


في علاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين

إذا جاءت القوانين واللوائح متفقة مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية وجبت الطاعة لها ، وحقت العقوبة على من خالفها. أما إذا جاءت القوانين واللوائح مخالفة للمبادئ الشرعية وروجها التشريعية فهي قوانين ولوائح باطلة بطلانا مطلقا وهذا هو رأي جمهور الفقهاء الذين يستندون إلى نصوص القرآن ، والسنة ، والإجماع. فقد جاءت الأوليان صريحة في أبطال كل ما يخالف الشريعة ، ومن ثم انعقد الإجماع على احترام هذه النصوص الصريحة وإبطال كل ما يخالفها. فمن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله وما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه. والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله. أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله ، فمن آمن بالله ليس له أن يؤمن بغيره ، ولا أن يقبل حكما غير حكمه ، كذلك فليس لمؤمن أن يرضى بغير ما أنزل الله ، فإن رضيه واختاره لنفسه فهو غير مؤمن ، وقد قال الله تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ .

ومن المتفق عليه بين المفسرين أن من يستحدث أحكاما غير ما أنزل الله ، ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته ، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله سبحانه كل بحسب حاله ، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعا ، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم أن كان حكمه مضيعا لحق ، أو تاركا لعدل ، أو مساواة ، وإلا فهو فاسق .

وكما قدمنا أن أولي الأمر ليس لهم حق التشريع المطلق ، وحقهم فيه قاصر على نوعين ، الأول : تشريعات تنفيذية يقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية. والثاني : تشريعات تنظيمية لتنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجاتها على أساس مبادئ الشريعة العامة ، وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة فلم تأت بنصوص خاصة فيه ولا يمكن أن تكون فيما نصت عليه الشريعة. ويشترط في هذه التشريعات أن تكون متفقة مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية فهي تشريعات توضع بقصد تنفيذ مبادئ الشريعة العامة ، وإذن فهي في حقيقتها نوع آخر من التشريعات التنفيذية.

وأولوا الأمر في قيامهم على هذا التشريع يقومون به إما باعتبارهم خلفاء للرسول أو نوابا عن الجماعة الإسلامية. وليس لهم بمقتضى الخلافة عن الرسول أن يخرجوا ما تدين به الجماعة وما تؤمن به بصفتهم نوابا عنها وإلا خرجوا على حدود النيابة.

وأولوا الأمر في قيامهم على هذا التشريع مقيدون بما ورد على أن «الإسلام دين الدولة» ومعنى هذا النص أن النظام الأساسي الذي تقوم عليه الدولة هو الإسلام ، وأنه المصدر الذي تأخذ عنه ، والمرجع الذي تنتهي إليه ، والحاكم الذي تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه. فوجود هذا النص يقتضي أن يكون القانون الأولي بالنسبة لغيره من التشريعات فلا تحل إلا ما أحلته الشريعة ولا تحرم إلا ما حرمته.

واستيفاء التشريعات المخالفة للشريعة شكلها القانون لا يمنع من أنها تشريعات باطلة بطلانا مطلقا من ناحية الموضوع ، وصحة الشكل لا يمكن أن تؤثر على بطلان الموضوع ، لأن صحة الشكل لا تحيل الحرام حلالا ، والباطل صحيحا.

ولا يمتد البطلان لما يوافق الشريعة من النصوص ولو أنها أدمجت في قانون واحد أو لائحة واحدة أو قرار واحد مع غيرها من النصوص المخالفة للشريعة. فتعتبر من ثم النصوص الموافقة للشريعة صحيحة ما دامت قد صدرت من هيئة تشريعية ذات اختصاص واستوفت إجراءاتها الشكلية التي يقررها القانون. فالبطلان لا يصيب سوى الحالات التي تخالف فيها الشريعة ، أما تلك التي تتفق فيها مع الشريعة فهي صحيحة ، فأساس الصحة والبطلان يرجع إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها ، إذ العلة -كما يقول الأصوليون- تدور مع المعلول وجودا وعد ما.

ومن الأمثلة على بطلان النص الواحد في بعض الحالات وصحته في بعض الحالات الأخرى جريمة الزنا ، فعقوبتها في الشريعة -كما سبق عرضها- هي رجم الزاني المحصن ، وجلد الزاني غير المحصن ، والزنا شرعا هو إدخال الحشفة أو مقدارها في الفرج ، فما كان دون ذلك فلا حد فيه ، وإنما فيه التعزير ، فالشروع في الزنا ومقدمات الزنا مما يطلق عليه في قانون العقوبات الجرائم الماسة بالأخلاق وخدش الحياء لا يعاقب عليه بعقوبة الحد. والفعل التام لا يعاقب عليه في بعض الحالات بعقوبة الحد إذا درئ للشبهة أو حين ترتفع العقوبة. وعلى هذا فالجرائم التامة التي يجب فيها الحد لا يجوز أن تطبق عليها نصوص القانون ، لأنها تخالف حكم الشريعة ، وتعاقب بعقوبة غير عقوبتي الرجم والجلد اللتين توجبهما الشريعة ، أما الجرائم التامة التي درئ فيها الحد ، والجرائم غير التامة ، فالعقوبة عليها هي عقوبة التعزير طبقا للشريعة. والتعزير من العقوبات التي تتركها الشريعة لتصرف الهيئات التشريعية. ولما كان قانون العقوبات صادرا عن هذه الهيئات فإن عقوباته تعتبر تعازير عن الأفعال التي لا يعاقب عليها بعقوبة الحد أي بأية عقوبة مقدرة ، ومن ثم تكون نصوص قانون العقوبات باطلة في كل حالة يجب فيها الحد ، صحيحة في كل حالة تستوجب التعزير.

والسرقة العادية عقوبتها القطع في الشريعة ، وعقوبتها الحبس في القانون. ولكن حد القطع لا يجب إلا في سرقة تامة توفرت فيها شروط الحد التي عرضناها آنفا ، فإذا لم تكن السرقة تامة أو لم تتوفر فيها شروط الحد فالعقوبة هي التعزير ، والعقوبة المقررة في قانون العقوبات هي عقوبة تعزيرية. ومن ثم تكون نصوص قانون العقوبات الخاصة بالسرقة باطلة في كل سرقة عادية تعاقب عليها الشريعة بالقطع ، وصحيحة في كل سرقة تعاقب عليها الشريعة بالتعزير.

والقذف في الشريعة عقوبته الجلد ثمانين جلدة ، والقذف المعاقب عليه بعقوبة الحد هو الرمي بالزنا أو نفي النسب ، وما عدا ذلك لا يعتبر قذفا وإنما يعتبر سبا وعقوبته التعزير. ولما كانت الجزاءات في قانون العقوبات تعازير فإن نصوص هذا القانون الخاصة بالقذف تعتبر باطلة في كل قذف تعاقب عليه الشريعة بعقوبة الحد (أي في الرمي بالزنا) ، وتعتبر صحيحة في كل قذف أو سب تعاقب عليه الشريعة بعقوبة التعزير إلا فيما يختص بالمنع من إثبات القذف فإن الشريعة لا تمنع من إثبات ما قذف به بينما القوانين تمنع ذلك.

وأكثر أحكام التشريع المدني الحديث تقابل أحكاما مماثلة لها في الفقه الإسلامي ، وهي تتضمن أيضا نصوصا تبيح استغلال الناس بعضهم لبعض كالربا ، لذلك جاءت الأولى موافقة لمبادئ الشريعة وروحها التشريعية فهي صحيحة والثانية تخالفها لما منع الشرع من استغلال الحاجات واعتبر الربا محرما تحريما مطلقا ، كما اعتبر الغبن من أسباب إبطال العقود.

من ذلك يبين أن تحكيم شريعة الله هي عبادة تؤدي امتثالا لأمر الله ، وذلك هو مصدر بركتها وسرق وتها في أنفس المؤمنين بها وفي كيان الجماعة المؤمنة.

ومن ثم نصت المادة 102 من مشروع الدستور المقترح «تلغي جميع النصوص التشريعية المعمول بها وقت صدور هذا الدستور المخالفة أو المجافية لأحكامه أو روحه وتستبدل بها تشريعات تساير أحكام الإسلام وتعاليمه».

واعتناقا لمبدأ أن الإسلام لا يعترف داخله بالفرق والطوائف الدينية كما نصت عليه المادة 98 من مشروع الدستور فقد قرن هذا بالمادة 103 منه التي تنص «تحل جميع الطوائف الدينية الإسلامية وتنتقل أموالها إلى جهة بر يعينها قانون الحل». وهي تشمل في رأينا الفرق الدينية التي فرقت المسلمين شيعا وأحزابا كما تشمل فيما نعتقد الطرق الصوفية التي بلغت زهاء الثلاثمائة طريقة تجمع أغلبية من المريدين سمتها الجهل والأمية والفقر مما يسلس قيادها بالشعوذة الروحية التي تنافي روح الإسلام ، وقد كانت سببا لبلاء كبير في المسلمين ، وتكأة لكل أباحي يتلمس السبيل إلى نيل شهواته تحت ستار من العقائد ، أو ملحد يريد أن يهدم الإسلام بتصيد الشبهات ، أو معطل يحاول التخلص من تكاليف الكتاب والسنة.


خلاصة

يلاحظ من عنوان مشروع الدستور أنه صيغ بمشروع دستور إسلامي للدولة المصرية ولا نرى تعارضا لصياغته لدولة قومية مع السعي لتحقيق الوحدة العربية والسيرالي الجامعة الإسلامية. فهذا النظام لا يتنافى مع قيام جامعة إسلامية تتكون من كل الدول الإسلامية وتشرف عليها وتعمل على توحيد أغراضها واتجاهاتها نحو قيام الدولة الموحدة.

ولا يتنافى مع هذا المبدأ ما دام هذا النظام يحقق الأهداف الإسلامية. فالمشروع قد أتت صياغته دستورا لدولة إسلامية وهي بطبيعتها دولة فكرية (أو بالتعبير المعاصر أيديولوجية) تقوم على أساس العقيدة الإسلامية وما انبثق منها من أحكام ونظم. وهي دولة فكرة تمتد إلى المدى الذي تصل إليه عقيدتها فلا مكان فيها لامتيازات تقوم على الطبقية أو اللون أو الجنس يستطيع أن يعيش في ظلها الإنسان وأن يعيش في ظل نظامها القانوني ويصبح من رعاياها وحملة جنسيتها أو مستأمنا أو مستأمنا أذن له بالعيش والإقامة بين ظهراني مواطنيها ويبقى هو على عقيدته دون بغي أو إكراه .

أما أهداف تلك الدولة فهي مشتقة من طبيعتها كدولة فكرة وتصبح من ثم أهدافها كما قدمنا هي أهداف الإسلام عينه. فلا تقصر هذه الأهداف عند توفير الأمن والطمأنينة للأفراد والمحافظة على حياتهم بدرء الخطر عنهم من أمن داخلي ورد العدوان الخارجي ، وإنما تمتد أهدافها إلى أحكام الإسلام في جميع شؤون الدولة وعليها أن تمكن الأفراد من عبادة الله والعيش وفق العقيدة وحسب مناهج الإسلام ، وأن ترفع العوائق التي تحول دون ذلك وأن ترفع كل ما يناقض الإسلام في أفكاره ونظمه في الاجتماع أو الاقتصاد.

وهذه هي أهداف الدولة الإسلامية التي ترعى مصالح الفرد والمجتمع.

وهذا هو المفهوم الذي أتى به الإسلام فجعل السلطة مبنية على الشورى والمساواة والعدالة ولم يجعل لها صبغة دينية بالمعنى المفهوم عند الأمم الأخرى كما شهدتها أوروبا في القرون الوسطى لكنها سلطة مسؤولة لا مستعلية ، للأفراد أن يحاسبوها ويخطئوها وهي تنظر إلى المصلحة العامة في تصرفاتها وسياستها. وهي سلطة تفسح المجال للحياة الروحية فتحميها وتحرسها وتستمد في تصرفاتها من هذه الروح وتراعي في جميع أنظمتها وأعمالها هذا الاعتبار الإنساني الروحي وبذلك ترتفع القيم الروحية والخلقية لأن الدولة تقدرها قدرها وتحلها المكان اللائق بها.

وليس الجمع بين الدين والدولة أن يكون للسلطة الزمنية سلطة روحية تجعلها تتمتع بامتيازات تدعي بها الأرجحية والعصمة والاستعلاء والاستبداد فهذا مفهوم مخالف للإسلام وهو يعد مصدر بلاء. والإسلام هو النظام الوحيد الذي استطاع الجمع بين الدين والدولة وهو حل فيه للبشرية كل النفع وفيه استثمار واسع لقوى الإنسان ومواهبه المادية والروحية وتوجيه هذه القوى لسعادة الإنسان وخيره.


الفصل الثاني : التكوين الإداري

في رسالة «إلى الشباب» حدد حسن البنا خصائص دعوة الإخوان المسلمين بقوله «إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل واضح الخطوات ، فنحن نعلم تماما ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة».

نريد أولا الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته ، وفي خلقه وعاطفته ، وفي عمله وتصرفه. فهذا هو تكويننا الفردي.

ونريد بعد ذلك البيت المسلم في ذلك كله ونحن لهذا نعني بالمرأة عنايتنا بالرجل ، ونعني بالطفولة عنايتنا بالشباب وهذا هو تكويننا الأسري.

ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله أيضا ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت ، وأن يسمع صوتنا في كل مكان ، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار ، لا نألو في ذلك جهدا ولا نترك وسيلة.

ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التي تقود هذا الشعب إلى المسجد ، وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وعمر من قبل ، ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها ، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام.

ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية وأضاعت وحدته المطامع الأوروبية. ونحن لهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية ولا نسلم بهذه الاتفاقات الدولية التي تجعل من الوطن الإسلامي دويلات ضعيفة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين ، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها.

فمصر وسورية والعراق والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وكل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله كل ذلك وطننا الكبير الذي نسعى لتحريره وإنقاذه وخلاصة وضم أجزائه بعضها إلى بعض. ولئن كان الرايخ الألماني يفرض نفسه حاميا لكل من يجري في عروقه دم الألمان ، فإن العقيدة الإسلامية توجب على كل مسلم قوى أن يعتبر نفسه حاميا لكل من تشربت نفسه بتعاليم القرآن «فلا يجوز في عرف الإسلام أن يكون العامل العنصري أقوى في الرابطة من العامل الإيماني» .

وهو يحدد الوسائل العامة لتحقيق هذه الأهداف بقوله «أن الخطب والأقوال والكتابات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء كل ذلك وحده لا يجدي نفعا ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف ولكن للدعوات وسائل لابد من الأخذ بها والعمل لها. والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة

(1) الإيمان العميق ،

(2) التكوين الدقيق ،

(3) العمل المتواصل.

وهو يريد بآصرة الإيمان أن يوقن الإخوان أن فكرتهم إسلامية صميمة وأن يفهم الإسلام كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقاة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب وغني ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء .

وقصد بالتكوين الدقيق تقوية الصف بالتعارف وتمازج النفوس والأرواح ومقاومة العادات والمألوفات ، والمران على حسن الصلة بالله واستمداد النصر منه وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين وأخذت الصورة الثانية من هذا التكوين الفرق للكشافة والجوالة والألعاب الرياضية ، ويراد بها تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان وتعويدهم الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم وهذا هو معهد التربية الجسمية للإخوان المسلمين وهذه وتلك تبين أن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها .

وهو يحدد أركان بيعة الإخوان في عشرة :

الفهم ، والإخلاص ، والعمل ، والجهاد ، والتضحية ، والطاعة ، والثبات ، والتجرد ، والأخوة ، والثقة.

وهذه الأصول قصد منها تربية روحية وسلوك اجتماعي وتضمنتها رسالة التعاليم ولائحة النظام التعاوني الصادرة عام 1943 بنصها على واجبات شخصية واجتماعية ومالية بقصد إحياء العادات الإسلامية في كل مظاهر الحياة.

وهو يعرف بالإخوان المسلمين بقوله :

«هل نحن طريقة صوفية ، جمعية خيرية ، مؤسسة اجتماعية ، حزب سياسي؟ نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة ، للذين يقولون أننا جماعة زاهدة نمتاز بالرهينة والتبتل نقول أن غيركم يقول عنا أننا نجمع بين الدين والسياسة ، فلا رضي هذا الفريق عنا كرهبان وزهاد ولا رضي عنا هذا الفريق كعاملين في ميدان الكفاح الوطني ولكننا نحن نجمع بين كل خير في هذه الصور جميعا وفكرة الإخوان فكرة جامعة لأنها تستمد من الإسلام الحنيف ، نستغني بها عن غيرها ، أخذت من كل شيء أحسنه وابتعدت عن مزالقه وأخطائه. أخذت من فكرة الأحزاب السياسية الغيرة الوطنية والحماسة الإصلاحية وطرحت تنابذها وأحقادها وأخذت من فكرة الصوفية روحانيتها وإخاءها وتركت فرديتها واعتزالها. وأخذت من فكرة الجماعات والأندية بأنواعها دقة نظامها ونشاطها وطرحت غفلتها ولهوها .

ذلك التعريف الذي كرسه حسن البنا قد أكده خليفته حسن الهضيبي في حديثه الصحفي إلى جريدة الرأي العام السورية أثناء تجواله في البلاد العربية يقول «الإخوان المسلمون يأخذون الإسلام كلا غير قابل للتجزئة ، وهو يوجب عليهم أن يشتغلوا في جميع شوؤن الحياة ، لا فرق في ذلك في المسائل السياسية وغير السياسية. فالكلام في التعليم سياسة وفي الزراعة سياسة وفي واجبات الحاكم والمحكوم سياسة ، وكل ذلك يرجع إلى تدبير أمور الناس التي نظمها الإسلام جميعا .


في الطبيعة القانونية للإخوان المسلمين

جماعة الإخوان المسلمين هل تؤلف حزبا سياسيا كما يذهب بعض الكتاب أم أنها هيئة عامة تتمتع بالشخصية المعنوية كما وردت في القانون المدني؟

نعود في هذا التحديد إلى رأيين قانونيين ، الأول منهما هو فتوى قلم قضايا الحكومة لوزارة الشؤون الاجتماعية بتاريخ 6 نوفمبر 1945 بقولها «بالإحالة إلى الكتاب المطلوب به استطلاع رأي القسم في مدى تطبيق القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بالجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية على هيئة الإخوان يتشرف القسم بالإفادة بأنه بالإطلاع على النظام الأساسي لهذه الهيئة وعلى الأوراق المرفقة بكتابكم السالف الذكر يتبين أنها «هيئة سياسية دينية اجتماعية تتكون من مركز عام ومن شعب ، وأن شعبها تتمتع باستقلال ذاتي واسع فلها مجالسها الإدارية وجمعياتها العمومية وماليتها المستقلة (مادة 33 وما بعدها من النظام الأساسي).

أما الرأي القانوني الثاني فهو حكم مجلس الدولة المصري في القضية رقم 568 لسنة 3 قضائية القاضي بإلغاء قرار حل جماعة الإخوان المسلمين الذي أصدره محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء آنئذ في 8 ديسمبر 1948 وقد تعرض حكم محكمة القضاء الإداري للدفع بعدم قبول الدعوى ومتعرضا للطبيعة القانونية لجماعة الإخوان المسلمين ، بنص هذا الحكم :

«... ومن حيث أن مبنى هذا الدفع (أي بعدم قبول الدعوى) أن تلك الجمعية لم تكتسب الشخصية المعنوية أصلا ، لأن القانون المدني بين في المادة 52 منه الأشخاص المعنوية على سبيل الحصر ولا تدخل الهيئة المذكورة بما لها من أغراض سياسية واجتماعية ودينية في أي نوع أو تتسق معه ، ومهما يكن من شيء فإن القرار رقم 63 لسنة 1948 الصادر بحلها قد قضى عليها فلم يعد لها من بعده أي وجود كما أنها لم تحي حياة جديدة في ظل القانون رقم 66 لسنة 1951 الخاص بالجمعيات.

ومن حيث أنه فيما يتعلق بالوجه الأول من الدفع فلا ريب في أن حق المصريين في تكوين الجمعيات هو حق أصيل أقر الدستور في المادة 21 منه بقيامه وعهد إلى القانون بتنظيم استعماله ولذا فإن لجنة الدستور إذا تحدثت عن الباب الذي وضعته في الدستور بعنوان «في حقوق المصريين وواجباتهم» الذي يعتبر حق تكوين الجمعيات فرعا منه قالت «وقد كان المصريون يتمتعون بهذه الحقوق تدعمها النظم السياسية التي كانت جارية في مصر وتنظم معظمها القوانين المصرية. غير أن تلك الحقوق لم تكن مجموعة في باب ظاهر منشور بين الناس ، لذلك رأت اللجنة أن تضع ذلك الباب درجا على سنن الدساتير الأخرى ، وتحقيقا للغرض الذي يلتمس منه ، وليكون قيدا للشارع المصري لا يتعداه فيما يسنه من الأحكام» ومفاد هذا أن حق المصريين في تكوين الجمعيات كان قائما قبل الدستور الذي جاء فأكد قيامه وأن عهد إلى القانون بتنظيم استعماله.

ومؤدي ذلك أن للمصريين حق تكوين الجمعيات بلا حاجة إلى قانون يستمدون منه هذا الحق ولهم أن يستعملوه في حدود القانون ، وما لم يرد قيد على هذا الاستعمال ، فهو يجري على إطلاقه ، ولم يصدر في هذا الصدد سوى تنظيم جزئي بالقانون رقم 49 لسنة 1945 في شأن الجمعيات الخيرية والمؤسسات في صدد الكلام عن الأشخاص الاعتبارية ، وأخيرا صدر القانون رقم 66 لسنة 1951 في صدد الجمعيات التي تسعى إلى تحقيق أغراض اجتماعية أو دينية أو علمية متضمنا ، كما نوه بذلك ، أحكاما تكميلية لنصوص القانون المدني الجديد..

«ومن حيث أن جمعية الإخوان المسلمين تكونت في ظل ذلك الحق الأصيل في تكوين الجمعيات ، هذا الحق الذي قرر الدستور قيامه وأكد وجوده من قبل ، كما اكتسبت الشخصية المعنوية وفق المبادئ المسلمة من إسناد هذه الشخصية لكل جمعية استوفت مقومات هذه الشخصية من ذمة مالية مستقلة عن ذمم أعضائها ومن قيام هيئة منظمة تعبر عن إرادة الجمعية ، ولما صدر القانون رقم 49 لسنة 1949 بعدئذ متضمنا بعض القيود بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية التي نظمها وكانت أحكامه وتنظيماته تتناول الجمعيات القائمة عند صدوره وكان من أوجه نشاط هيئة الإخوان المسلمين إلى جانب أغراضها السياسية أغراض اجتماعية فقد رأت الهيئة بعد صدور القانون المشار إليه أن تعدل نظامها الأساسي وسجلت ذلك في وزارة الشؤون الاجتماعية. فلا وجه إذن لما تتحدى به الحكومة من أن القانون المدني الجديد لم يعترف لأمثال هذه الهيئة في شتى أغراضها بالشخصية المعنوية لأن القانون المذكور لم ينشئ أحكاما جديدة تنسخ ما قبلها بل قنن القواعد التي استقرت قبله وهي تسلم بتوافر الشخصية المعنوية للجمعيات متى استكملت مقومات هذه الشخصية كما سلف بيانه..».

وخلصت محكمة القضاء الإداري أن جماعة الإخوان المسلمين تتمتع بالشخصية المعنوية وأن الحاكم العسكري إذا كان يملك بمقتضى قانون الأحكام العرفية تعطيل نشاط الجمعية تعطيلا مؤقتا يمنع اجتماعاتها فهو لا يملك القضاء عليها بل تبقى قائمة قانونا وأن عطل نشاطها وتظل لها شخصيتها المعنوية .


التنظيم الإداري

يمكن القول أن بانتشار جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها بين مختلف طبقات الأمة العاملة والوسطى منها ومن لحق بهما ممن وصفت بأنها من الطبقة العليا وبين الشباب والشيوخ والرجل والمرأة قد اتسمت هذه الحركة بطابع بعدها عن الأحزاب السياسية التي وجدت في ظروف ولدواع شخصية. وهذه الأخيرة كانت وفقا لتقسيم أساتذة العلوم السياسية أحزاب نخبة ولم ينفرد منها سوى حزب الوفد الذي ضم كثيرا من الطبقة الوسطى وأغلبهم الموظفون وحزب مصر الفتاة (الحزب الاشتراكي من بعد) وقد كان محدودا تأثيره ، أما جماعة الإخوان المسلمين فيمكن وصفها وفقا لهذا التقسيم أنها حركة جماهيرية وسعت كل مصر بحواضرها ومراكزها ونجوعها وقراها وعلى ذلك قام تنظيمها الإداري.

فالدعوة الإسلامية خالدة في أصولها ، ولكنها قد تتطور في وسائلها.. ولقد كانت ميزة حسن البنا الفهم الدقيق لهذه الحقيقة.. لذلك وضع أسس البناء للجماعة على أحدث ما وصل إليه التفكير في إقامة المنظمات والجماعات.. فهو يربط القرية بالمدينة بالمحافظة بالعاصمة بالوطن الإسلامي كله في ترتيب دقيق.. وهو تنظيم يجعل للجميع نصيبا معلوما في نشاط الجماعة ، وحظا مقسوما من جهدها ، فالأطفال لهم مدارس الجمعة ، والنساء لهن قسم الأخوات ، والجماعة تفتح أبوابها للطلاب والعمال والزراع والمهنيين وغيرهم ليمارسوا ما يرضي طاقاتهم ويوافق ميولهم من ألوان النشاط.. فهناك رياضة وثقافة وعبادة ، وهناك رحلات ومعسكرات ، وهناك مدارس ومستوصفات وشركات.. الخ.

ولقد كان الإخوان يؤمنون بحقيقة تطور الوسائل مع بقاء الدعوة في أصولها خالدة لا تتغير فوضعوا القانون الأساسي للجماعة أول الأمر في 22 مادة .

ويحكم هذا التنظيم الإداري كل من القانون الأساسي في آخر تعديلاته حيث وافقت عليه الهيئة التأسيسية في 12 رجب 1367هـ الموافق 21 مايو 1948 ، واللائحة الداخلية العامة التي أقرها مكتب الإرشاد العام في 2 صفر سنة 1371هـ الموافق 2 نوفمبر سنة 1951.

عرفت المادة 2 من القانون الأساسي الجماعة بقولها الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام الحنيف؛ وهي الأغراض التي سبق عرضها في الفصل الأول. ونصت المادة 3 يعتمد الإخوان المسلمون في تحقيق هذه الأغراض على الوسائل الآتية وعلى كل وسيلة مشروعة : (أ) الدعوة : بطريق النشر والإذاعة المختلفة من الرسائل والنشرات والصحف والمجلات والكتب والمطبوعات وتجهيز الوفود والبعثات في الداخل والخارج.

(ب) التربية : يطبع أعضاء الهيئة على هذه المبادئ وتمكين معنى التدين العملي لا القولي في أنفسهم أفرادا وبيوتا وتكوينهم تكوينا صالحا- بدنيا بالرياضة وروحيا بالعبادة وعقليا بالعلم. وتثبت معنى الأخوة الصادقة والتكافل التام والتعاون الحقيقي بينهم حتى يتكون رأي عام إسلامي موحد وينشأ جيل جديد يفهم الإسلام فهما صحيحا ويعمل بأحكامه ويوجه النهضة إليه.

(ج) التوجيه : بوضع المناهج الصالحة في كل شؤون المجتمع من التربية والتعليم والتشريع والقضاء والإدارة والجندية والاقتصاد والصحة العامة والحكم.. الخ والاسترشاد بالتوجيه الإسلامي في ذلك كله والتقدم بهذه المناهج إلى الجهات المختصة والوصول بها إلى الهيئات النيابية والتشريعية والتنفيذية والدولية لتخرج من دور التفكير النظري إلى دور التطبيق العملي.

(د) العمل : بإنشاء المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والعلمية كالمساجد والمدارس والمستوصفات والملاجئ.. الخ وتأليف اللجان لتنظيم الزكاة والصدقات وأعمال البر والإصلاح بين الأفراد والأسر ومقاومة الآفات الاجتماعية والعادات الضارة كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء وإرشاد الشباب إلى طريق الاستقامة وشغل وقت الفراغ بما ينفع ويفيد وتنشأ لذلك أقسام مستقلة طبقا للوائح خاصة تتفق مع القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم الجماعات الخيرية وأعمال البر وتسجل بوزارة الشؤون الاجتماعية.

والإخوان المسلمون وفقا لنص المادة 40 من القانون الأساسي هم في كل مكان هيئة واحدة تؤلف بينها الدعوة ويجمعها مكتب الإرشاد العام ويقسمها بحسب الأماكن والبلدان إلى شعب ومناطق. ومناط هذا التقسيم الإداري هو الخريطة الإقليمية لمصر فنصت المادة 50 للمركز العام أن يقسم شعب الإخوان في داخل المملكة المصرية (ألغي النظام الملكي في 18 يونيو 1953) إلى مناطق بحسب التقسيمات الإدارية الحكومية ، أو سهولة المواصلات ، أو غير ذلك من الاعتبارات وتكون إحدى هذه الشعب مقرا للمنطقة ، كما أن له أن ينشئ مكاتب إدارية يختص كل واحد منها بالإشراف على عدة مناطق وتحدد مهمات المناطق والمكاتب بلوائح وأوامر يصدرها المكتب العام.

وقد زادت اللائحة الداخلية العامة تفصيل هذه النصوص العامة فنصت المادة 2 من اللائحة «الشعبة هي أصغر الوحدات الإدارية وكل مجموعة من الشعب تتكون منها منطقة وكل مجموعة من المناطق يتكون منها مكتب إداري ، ويراعى في تكوين المناطق والمكاتب الإدارية التقسيمات الإدارية الحكومية وسهولة المواصلات وما عدا ذلك من الاعتبارات» والمادة 3 نصت «يمكن أن تتكون شعبة في كل قرية أو بلدة ، والأصل في المنطقة أن حدودها هي حدود المركز أو القسم أما حدود المكتب الإداري فهي المديرية أو المحافظة.

ونظمت المادة 4 من اللائحة التبعية الإدارية ، فالوحدة الإدارية الأدنى تتبع الأعلى منها التي تدخل في اختصاصها وهي جميعا خاضعة لمكتب الإرشاد وهو الهيئة الإدارية العليا للإخوان المسلمين والمشرف على سير الدعوة والموجه لسياستها وإدارتها.

عرفت المادة 4 من القانون الأساسي عضو الهيئة بأنه «كل مسلم عرف مقاصد الدعوة ووسائلها وتعهد بأن يناصرها ويحترم نظامها وينهض بواجبات عضويتها ويعمل على تحقيق أغراضها ، ثم وافقت إدارة الشعبة التي ينتمي إليها على قبوله وبايع على ذلك وأقسم عليه ونص البيعة «أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها والقيام بشرائط عضويتها والثقة التامة بقيادتها والسمع والطاعة في المنشط والمكره وأقسم بالله العظيم على ذلك وأبايع عليه والله على ما أقول وكيل».

وينقسم الإخوان في الشعبة إلى إخوان تحت الاختبار وإخوان عاملين ، فالإخوان الذين تحت الاختبار هم الذين اعتنقوا فكرة الإخوان حديثا وهؤلاء يقضون مدة لا تقل عن ستة أشهر تحت الاختبار يثبت فيها الأخ أنه قام بواجبات عضويته في الشعبة بصورة مرضية ، وفي هذه الحالة تعتمد عضويته من المركز العام ويؤذن له بأداء البيعة بناء على طلب الشعبة. ويقوم رئيس الشعبة أو من يقوم مقامه بمبايعته نيابة عن المرشد العام ، أما الإخوان العاملون فهم كل من قام بواجبات عضويته واعتمدت عضويته من المركز العام وبايع على ذلك وأقسم على البيعة طبقا للمادة 4 من قانون النظام الأساسي (مادة 5 من القانون الأساسي) أيضا (مادة 5 من اللائحة) وقد وضع لهؤلاء الأعضاء برنامجا إعداديا الغرض منه تكوين الفرد المسلم الفاهم للإسلام والعامل به العامل له بصفته عضوا في جماعة. وتناول هذا البرنامج إعداد الأخ من النواحي الآتية : الإعداد الروحي والخلقي والرياضي ، الإعداد الثقافي العقلي العلمي ، الإعداد العملي الاجتماعي ، الإعداد الصحي الرياضي الجولي والإعداد التخصصي ، وشمل دراسات فقهية وقرآنية كعلوم القرآن ومصطلح الحديث والعقائد والفقه ودراسات تاريخية تناولت التاريخ الإسلامي العام وتاريخ مصر القومي ودراسات اجتماعية نفسية وعلم الاجتماع الديني وإعداد رياضي في ركوب الخيل والسباحة والدراجات والعدو وغيرها.

والمادة 7 من اللائحة نصت على ما يشترط في العضو وهي كما يلي :

1- أن لا يقل عمره عن ثمانية عشر عاما.

2- أن يكون حسن السير والسلوك لم تصدر ضده أحكام مخلة بالشرف.

3- أن يكون فاهما فكرة الإخوان ناهضا بواجباته.

4- أن يفرض على نفسه اشتراكا شهريا يدفعه للشعبة بانتظام مساهمة في أعباء الدعوة.

كما أن للدعوة حقا في زكاة أموال الأعضاء القادرين على ذلك ويعفى من التكاليف المالية غير المستطيعين بقرار من إدارة الشعبة بعد التأكد من حالة عدم الاستطاعة (مادة 6 من قانون النظام الأساسي).

5- أن يتعهد بالعمل بقانون الإخوان المسلمين ويبايع بيعتهم.

إذا قصر العضو في واجباته أو أخل بعضويته كان لرئيس الشعبة ومجلس إدارتها أن يوقعا عليه العقوبات المبينة بالمادة 7 من قانون النظام الأساسي ، وهذه الأخيرة فرقت بين درجات العقوبة فلفت النظر إلى تقصير العضو أو تفريطه في بعض حقوق الدعوة من حق رئيس الشعبة التي ينتمي إليها والذي يعمل على إصلاحه بالوسائل الجدية. أما إذا عاد لهذه المخالفة فلمجلس إدارة الشعبة أن ينذره أو يوقع عليه جزاء ماليا أو يقرر وقفه مدة لا تزيد على شهر أو يقرر إعفائه من العضوية. وفي حالة توقيع الجزاء بالإعفاء يجب أخذ موافقة المركز العام قبل إعلان القرار إذا لم يكن العضو تحت الاختبار.

وقد تميز التكوين العضوي بخصيصتين أولاهما المركزية الديمقراطية وتشمل انتخاب جميع هيئات الجماعة المركزية وغير المركزية من القاعدة إلى القمة ، واللجنة التي تتولى الإدارة في كل هيئة مركزية أو غيرها (الشعب) يجب أن تقدم تقريرا عن أعمالها في أوقات دورية إلى تلك الهيئة.

ثانيها : الشورى ، ويقصد بها تبادل الرأي حول ما يهم الجماعة والنصائح والاقتراحات فيما يحقق أهدافها.

وهذا النظام قد ربط بين أدنى الوحدات وأعلاها في سلم التنظيم الهرمي على وجهين أولهما إداري وثانيهما مالي.

أولا- الشعبة

يشكل الأعضاء العاملون جمعية عمومية للشعبة التي ينتسبون إليها فنصت المادة 13 من اللائحة الداخلية «أعضاء الجمعية العمومية للشعبة الذين يملكون حق الانتخاب هم الأعضاء العاملون بالشعبة الذين سددوا اشتراكاتهم إلى آخر شهر قبل الانعقاد أو المعفون من الاشتراك بقرار قانوني. ويكون الانعقاد صحيحا إذا توافرت فيه شروط المادة 41 من النظام الأساسي؛ وهذه الأخيرة تنص» تجتمع (الجمعية العمومية للشعبة) اجتماعا دوريا خلال شهر المحرم وفي غير هذا الموعد إذا وجد ما يدعو إلى ذلك بدعوة من رئيس الشعبة أو من المرشد العام أو بطلب يقدم إلى أحدهما من خمس الأعضاء ، ويكون انعقادها صحيحا إذا حضره نصف الأعضاء على الأقل وتكون القرارات صحيحة إذا صدرت عن الأغلبية المطلقة. فإذا لم يتم العدد القانوني أجل الاجتماع أسبوعا يكون الاجتماع بعدها صحيحا بأي عدد يحضر. وترسل الدعوة في الحالتين قبل الموعد بثلاثة أيام على الأقل ومعها جدول الأعمال. ويقوم برئاسة الاجتماع رئيس الشعبة أو وكيلها أو أكبر الأعضاء سنا إذا لم يحضرا.

ومن اختصاصات الجمعية العمومية انتخاب أعضاء مجلس الإدارة ومراجع الحسابات ، والنظر في التقارير التي تقدم إليها منها ، واعتماد ميزانية العام الجديد ، والموافقة على الحساب الختامي للعام الماضي ، ومناقشة ما يعرض عليها من الاقتراحات والموضوعات.

ونصت المادة 43 من النظام الأساسي يجب أخطار المركز العام دائما بموعد انعقاد الجمعية العمومية وبجدول أعمالها في هذه الاجتماع قبله بعشرة أيام على الأقل. وللمركز العام أن يوفد من يمثله في هذا الاجتماع. ويشترط لصحة القرارات أيا كانت موافقة المركز العام.

مجلس إدارة الشعبة

نصت المادة 11 من اللائحة الداخلية يدير الشعبة مجلس إدارة مكون من خمسة أشخاص أحدهم يختاره المركز العام وهو رئيس الشعبة أو نائبها والأربعة الباقون تنتخبهم الجمعية العمومية للشعبة على أن يكون اثنان منهما وكيلين والثالث سكرتير والرابع أمين صندوق وعلى أن يكون الانتخاب سريا (أيضا 44 من القانون الأساسي) وعلى عضو الشعبة الذي له حق اختيار أعضاء مجلس الإدارة كلما اختار واحدا من الأربعة أن يبين أمام اسمه الوظيفة التي اختاره لها (مادة 12 من اللائحة) ويجدد مجلس الإدارة كل عامين ، ويجوز انتخاب العضو أكثر من مرة. وللمركز العام إعفاء الرئيس من مهمته وانتداب من يحل محله إذا رأى ذلك في أي وقت من الأوقات (مادة 44 من اللائحة).

ويشترط فيمن يختار عضوا لمجلس إدارة الشعبة وفقا لنص المادة 14 من اللائحة :

(أ) أن يكون سنه 21 سنة هلالية على الأقل (أيضا 44 من القانون).

(ب) أن يكون قد مضى على عضويته في الشعبة مدة عام على الأقل لم يعرف عنه في أثنائها ما يتنافى مع واجباته العضوية.

ومتى تم انتخاب أعضاء مجلس الإدارة أدى كل عضو منهم هذا القسم «أقسم بالله العظيم أن أكون حارسا أمينا لمبادئ الإخوان المسلمين ونظامهم الأساسي ، واثقا بقيادتهم ، منفذا لقرارات مكتب الإرشاد العام وقرارات مجلس إدارة الشعبة وأن خالفت رأيي ، مجاهدا ما استطعت في سبيل تحقيق الغاية السامية وأبايع الله على ذلك ، والله على ما أقول وكيل». (مادة 45 من النظام الأساسي) ولمجلس إدارة الشعبة أن يكون لجانا من الأعضاء العاملين تشرف على أوجه النشاط المختلفة في الشعبة ويجوز أن يكون المجلس ممثلا في كل لجنة بعضو من أعضائه (مادة 16 من اللائحة ، أيضا 48 من النظام الأساسي).

ونصت المادة 49 من النظام الأساسي «إذا خلا مكان عضو من أعضاء المجلس بالإعفاء أو الاستعفاء ، للمجلس الحق في تعيين العضو الذي يليه في عدد الأصوات في آخر انعقاد الجمعية العمومية».

واجتماعات المجلس دورية ، وتحدد بقرار منه ويدعي في غيرها إذا حدث ما يدعو إلى ذلك بدعوة من الرئيس. ويرأسه الرئيس (أو نائب الشعبة أي رئيس مجلس الإدارة) أو أكبر الوكيلين سنا إذا غاب (المادة 18 من اللائحة) ، وتكون الاجتماعات قانونية بحضور نصف الأعضاء إذا كان بينهم الرئيس أو الوكيل. وتكون القرارات صحيحة إذا صدرت عن الأغلبية المطلقة للحاضرين ، فإذا تساوت الأصوات يكون جانب الرئيس مرجحا (مادة 47 من النظام الأساسي).

ويختص مجلس إدارة الشعبة بالنظر في المسائل الآتية وفقا لنص المادة 17 من اللائحة : إدارة الشعبة من الناحيتين الإدارية والمالية ، الإشراف على النشاط الفني للشعبة ، تمثيل الشعبة أمام الجهات الحكومية والأهلية ، ويكون هذا التمثيل في شخص الرئيس أو من ينوب عنه».

ورئيس الشعبة هو المسئول الأول عن أعمالها ونشاطها بالاشتراك مع المجلس وهو الذي يرأس الجلسات والاجتماعات ، ويمثل شعبته في كل المعاملات الرسمية والقضائية ، وفي التوقيع على الأوراق أيا كان نوعها ، ويقوم عنه أحد الوكيلين حال غيابه. ويقوم السكرتير بالمحافظة على الأختام والسجلات والملفات.. الخ.

ويقوم أمين الصندوق بحفظ الأموال وتنظيم حساب الخزينة وتقديم التقارير والبيانات المتعلقة بمهمته لمجلس الإدارة والجمعية العمومية (مادة 46 من النظام الأساسي).

ولمجلس الإدارة أن يطلب حل الشعبة إذا تبين عجزها عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها وحينئذ تؤول أموال الشعبة وأثاثها بعد سداد ديونها إلى المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة ولو لم ينص على هذا في قرار الحل (مادة 20 من اللائحة) ولا يكون هذا الحل قانونيا إلا إذا كان بناء على قرار من الجمعية العمومية في دور انعقاد يحضره ثلاثة أرباع الأعضاء المسددين لاشتراكاتهم ، ويكون القرار بأغلبية ثلثي الحاضرين ولا ينفذ قرار الحل إلا بعد اعتماده من مكتب الإرشاد (مادة 21 من اللائحة) للشعبة أن تجتمع في حدود القانون الأساسي وهذه اللائحة ، وأن تضع لنفسها لائحة خاصة تتفق مع ظروفها ولكنها لا تسري إلا بعد أن يقرها مكتب الإرشاد (مادة 23 من اللائحة).

ونصت المادة 19 «كل أعضاء الشعبة المقيدين فيها خاضعون لإدارة الشعبة وكل عضو يقيم في دائرة الشعبة عليه أن يقيد اسمه فيها ويشترك في نشاطها أيا كانت صفته».

والأعضاء العاملون في الشعبة يقسمون إلى أسر بحيث لا يزيد عدد الأسرة على خمسة يختار أحدهم نقيبا للأسرة (مادة 9 من اللائحة) وهي وحدة متكاملة متضامنة في المسؤولية ويمثلها نقيبها أمام رئيس مجلس إدارة الشعبة (مادة 10 من اللائحة).

وقد سبق لحسن البنا بيان أهمية هذا النظام الأسري بقوله في خطاب توجيهي : «هذا النظام أيها الإخوان نافع لنا ، ومفيد كل الفائدة للدعوة بحول الله وقوته ، فهو سيحصر الإخوان الخلصاء ، وسيجعل من السهل الاتصال بهم ، وتوجيههم إلى المثل العليا للدعوة ، وسيقوي رابطتهم ويرفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات ، كما حدث فعلا في بعض الأسر التي أصيب فيها بعض أعضائها ، وسينتج بعد قليل رأسمال للإخوان من لا شيء» وحدد أركان هذا النظام في ثلاث : التعارف ، والتفاهم ، والتكافل.

وأولى أواصره مقصود بها تدعيم الإخاء بين الإخوان.

وثانيها : أساسه الاستقامة على منهج الحق ، وفعل ما أمرنا الله به وترك ما نهانا عنه ، ولقد قال شارحا هذا الركن «حاسبوا أنفسكم حسابا دقيقا على الطاعة والمعصية ، ثم بعد ذلك لينصح كل منكم أخاه أن رأي فيه عيبا ، وليتقبل الأخ تصح أخيه بسرور وفرح وليشكره على ذلك».

وثالثها : التكافل «وهو صريح الإيمان ولب الإخوة» والوصية أن يتعهد الإخوان بعضهم بعضا بالسؤال والزيارة والبر ، والمبادرة إلى المساعدة ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : «لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرا ، ومن أدخل السرور على أهل بيت من المسلمين لم ير الله له جزاء دون الجنة».

وقد حددت لائحة النظام التعاوني الصادرة في مارس 1943 ولائحة الأسر الصادرة عام 1953 ثلاثة أقسام من الواجبات : شخصية واجتماعية ومالية.

والأولى منها قصد منها التربية والسلوك للشخصية الإسلامية في العقيدة والمعاملات.

وثانيها الاجتماعية وأساسها تأكيد روابط الإخاء بين أفراد الأسر ، فأوجبت أن تتخذ كل أسرة مكانا تجتمع فيه ليلة في الأسبوع غير دار الشعبة ، ويحسن أن يكون ذلك في بيوت أعضائها بالتبادل ، ويبيت أعضاؤها ليلة في الشهر في مكان واحد على هيئة معسكر كشفي وغير ذلك.

أما الواجبات المالية فقد نصت كل من اللائحتين «أن أعضاء كل أسرة متكافلون فيما بينهم في احتمال أعباء الحياة ، فمن نكب منهم أو تعطل عن عمله لسبب خارج عن إرادته أو مات ، فبقية إخوانه في الأسر ملزمون بسد حاجياته وحاجة أولاده ورعايتهم ومساعدتهم. ووضحت اللائحة أسلوب هذا التعاون وذلك بأن تنشئ كل أسرة صندوقا تعاونيا خاصا يشترك فيه كل أخ بجزء من إيراده ، وينفق من المتحصل في كفالة الإخوان المتعاونين ، ويؤخذ الخمس من صناديق الأسر جميعا ويورد لصندوق التعاون العام بالمركز العام ، وتحول هذه الأموال إلى شركة تأمين اجتماعي إسلامي. ونقيب الأسرة هو المسئول عنها ، لذلك فقد عنيت اللائحة بإعداد النقباء لتأهيلهم لهذه المسؤولية؛ فأنشئت مدارس للنقباء ووضع لها منهج يتناول دراسات اجتماعية وإدارية واختير من أساتذتها المسؤولون من الإخوان أو من أصدقائهم أساتذة الجامعات.

المنطقة:

نصت المادة 24 من اللائحة التنفيذية «تتكون من كل الشعب الواقعة في دائرة المركز أو القسم منطقة تسمى باسم المركز أو القسم ويجوز أن تكون حدود المنطقة أوسع أو أضيق من حدود المركز أو القسم». وحددت المادة 25 تكوين مجلس إدارة المنطقة على الوجه الآتي :

(أ) رئيس الشعبة الرئيسية رئيسا وهذا في الأقاليم. أما في القاهرة والإسكندرية فرئيس الشعبة التي تعتبر رئيسية لقوتها وقدرتها على الإنفاق. ويجوز أن يختار المركز العام رئيسا للمنطقة أحد أعضاء مجلس إدارة الشعبة الرئيسية أو المعتبرة كذلك أو أخا عاملا يرى فيه الكفاية.

(ب) رؤساء بقية الشعب الداخلة في المنطقة.

ج) زوار الشعب وزائر المكتب الإداري.

(د) مندوبو أوجه النشاط في الشعبة الرئيسية.

والزوار جميعا رأيهم استشاري وليس لهم حق التصويت على القرارات (مادة 26).

ونصت المادة 27 يصح أن يختار سكرتير وأمين صندوق الشعبة الرئيسية سكرتيرا وأمينا للمنطقة ، ويجوز لنواب الشعب أن يختاروا السكرتير وأمين الصندوق من الإخوان العاملين بالشعبة الرئيسية وفي القاهرة والإسكندرية يجوز اختيار السكرتير وأمين الصندوق من أي شعبة أو من بين نواب الشعب.

المكتب الإداري:

نصت المادة 28 من اللائحة التنفيذية يتكون من كل المناطق الواقعة في دائرة المديرية أو المحافظة مكتب إداري يسمى باسم المديرية أو المحافظة ويجوز أن تتسع حدود المكتب أو تضيق عن حدود المديرية أو المحافظة.

ولكل مكتب إداري مجلس يديره. وبينت المادة 29 تكوينه على الوجه الآتي :

(أ) رئيس الشعبة الرئيسية رئيسا للمكتب الإداري وهذا في الأقاليم ، أما في القاهرة والإسكندرية فرئيس الشعبة التي تعتبر رئيسية. ويجوز أن يختار مكتب الإرشاد من الإخوان العاملين في الأقاليم وغيرها رئيسا للمكتب الإداري ولو لم يكن رئيس شعبة أو عضوا فيها.

(ب) وكيل الشعبة الرئيسية أو أحد الإخوان العاملين بها وكيلا للمكتب الإداري وهذا في الأقاليم ، أما في القاهرة والإسكندرية فوكيل الشعبة المعتبرة رئيسة. ويجوز أن يكون رئيس أي منطقة من المناطق يختاره أعضاء المكتب من بينهم.

(ج) سكرتير وأمين الشعبة الرئيسية سكرتيرا وأمينا للمكتب وهذا في الأقاليم ، أما في القاهرة والإسكندرية فيجوز أن يكون الأمر كذلك ويجوز لأعضاء المكتب انتخابهما من بين أعضائه أو من أي منطقة أو شعبة أخرى.

(د) رؤساء المناطق في دائرة المكتب الإداري.

(هـ) أعضاء الهيئة التأسيسية بدائرة المكتب الإداري.

(و) مندوبو النشاط في المكتب الإداري.

(ز) زائر مكتب الإرشاد ورأيه استشاري وليس له حق التصويت.

الهيئات المركزية:

وهي أعلى درجات التنظيم الإداري للإخوان المسلمين وتشمل الهيئة التأسيسية ومجلس الإرشاد العام. وقد بين قانون النظام الأساسي الأحكام التي تنظم الأولى ، تكوينها واختصاصاتها.

فنصت المادة 33 من القانون الأساسي «تتألف الهيئة التأسيسية» لهيئة الإخوان المسلمين من الإخوان الذين سبقوا بالعمل لهذه الدعوة «ومهمتها» الإشراف العام على سير الدعوة ، واختيار أعضاء مكتب الإرشاد العام وانتخاب مراجع الحسابات ، وتعتبر مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين والجمعية العمومية لمكتب الإرشاد العام (مادة 34). وتجتمع هذه الهيئة اجتماعا دوريا خلال أول شهر من كل عام هجري لسماع ومناقشة تقرير مكتب الإرشاد عن نشاط الدعوة في العام الجديد ، واختيار الأعضاء الجدد إذا حل موعد اختيارهم ، ومناقشة تقرير المراجع عن الحساب الختامي للسنة الماضية ، والميزانية المقترحة للسنة التالية ، وانتخاب المراجع الجديد إذا حل موعد انتخابه (ويجب أن يكون من أعضائها وألا يكون من المختارين لمكتب الإرشاد العام) ، وللنظر في غير ذلك من الأعمال والمقترحات التي تعرض عليها. وتجتمع في غير هذا الموعد اجتماعا فوق العادة إذا حدث ما يدعو إلى ذلك من المرشد العام أو بقرار من مكتب الإرشاد أو بطلب يقدم من عشرين عضوا. والمرشد العام هو الذي يرأس الاجتماع ، فإذا لم يحضر ، أو كان الاجتماع لأمر يتصل به ، أو رأي أن يتنحى عن رئاسة الجلسة قام بذلك الوكيل. فإذا تخلف أو اعتذر فأكبر الأعضاء سنا. ويكون الاجتماع صحيحا إذا حضرته الأغلبية المطلقة (النصف زائدا واحدا) إلا في الحالات التي اشترط لها نصاب خاص ، فإذا لم يتكامل العدد أجل الاجتماع أسبوعين وأعيدت الدعوة ونص فيها على الموضوع وعلى أن الاجتماع سيصير قانونيا بأي عدد يحضر ، وتكون القرارات صحيحة إذا صدرت عن الأغلبية المطلقة للحاضرين إلا في الحالات الخاصة (مادة 35). ولهذه الهيئة أن تقرر في أي اجتماع ، أو بناء على ترشيحات اللجنة المنصوص عليها في المادة التالية ، منح بعض الإخوان حق العضوية للهيئة التأسيسية ، بشرط أن تتوفر فيمن يراد منحه إياها هذه الشروط :

(أ) أن يكون من الأعضاء المثبتين.

(ب) ألا يقل سنه عن خمس وعشرين سنة هلالية.

(ج) أن يكون قد مضى على اتصاله بالدعوة خمس سنوات على الأقل.

(د) أن يكون متصفا بالصفات الخلقية والثقافية والعملية التي تؤهله لذلك.

ويجب ألا يزيد عدد من يمنحون هذه العضوية على عشرة إخوان في كل عام على أن يراعى في اختيار هؤلاء تمثيل المناطق بقدر الإمكان.

كان عدد أعضاء الهيئة التأسيسية عام 1948 تاريخ الحل الأول مائة عضوا وفي عام 1954 أصبح عدد الأعضاء 146 بعد فصل أربعة في أحداث الانشقاق عام 1953.

وتنتخب الهيئة التأسيسية من أعضائها (ومن غير الأعضاء المنتخبين للمكتب) لجنة مكونة من سبعة أعضاء ويفضل غير القاهريين وذوي الإلمام والصلات بالفقه الإسلامي والإجراءات القانونية. مهمتها تحقيق ما يحال إليها من المرشد العام أو مكتب الإرشاد أو الهيئة نفسها خاصا بما يمس الأعضاء في سلوكهم أو الثقة بهم أو أي أمر آخر. ولهذه اللجنة أن توقع ما تشاء من الجزاءات حتى الإعفاء من العضوية على أن تعتمد ذلك من المرشد العام. ويكون اجتماع هذه اللجنة صحيحا بحضور خمسة من أعضائها متى كان فيهم الرئيس ، وتكون قراراتها صحيحة إذا صدرت عن الأغلبية المطلقة للمجتمعين.

ويتجدد اختيارها مع اختيار المكتب (أي كل عامين) ، ولا مانع من اختيارها كلها أو بعضها لأكثر من مرة ، وتجتمع بدعوة من رئيسها. وللعضو الذي يتقرر فصله أن يستأنف هذا القرار بطلب كتابي يرفع إلى مكتب الإرشاد العام ليعرض على الهيئة التأسيسية في أول اجتماع لها ، ورأيها فيه حاسم (مادة 37 من القانون الأساسي). وتزول صفة العضوية من عضو الهيئة التأسيسية بالاستعفاء أو بفقدانه أحد الشروط التي تؤهله للعضوية أو بقرار من اللجنة المنصوص عليها في المادة 37 بالشروط الواردة فيها أو بقرار من الهيئة نفسها ، وفي كل الأحوال ، يجوز للمرشد العام أن يأمر بوقف العضو على أن يعرض أمره فورا على الهيئة المختصة بالنظر في أمره (مادة 39 من القانون الأساسي).

مكتب الإرشاد العام:

مكتب الإرشاد العام هو الهيئة الإدارية العليا للإخوان المسلمين والمشرف على سير الدعوة والموجه لسياستها وإدارتها (بند ثانيا من المادة 9 من قانون النظام الأساسي والمادة 30 من اللائحة التنفيذية) وله بهذه الصفة :

(أ) الإشراف على سير الدعوة وتوجيه سياستها وتنفيذ أحكام قانون النظام الأساسي ومراقبة القائمين على التنفيذ.

(ب) تمثيل الشعب والمناطق والمكاتب الإدارية وكل الهيئات الإخوانية في كل الشؤون (ها دون الإخلال باللامركزية الإدارية ومسؤولية الشعب في تمثيل مصالحها).

(ج) وضع النظم والقواعد وتخير الوسائل التي تحقق غاية الإخوان المسلمين.

(د) تعيين الوعاظ والدعاة العموميين الذين يعبرون عن فكرة الإخوان ، واعتماد تعيين من تريد الشعب والمناطق والمكاتب الإدارية أن تعينه منهم دون بقية موظفيها لصلة الواعظ والداعية بالفكرة الروحية.

(هـ) تأليف الرسائل وإصدار النشرات والتعليمات التي تكفل شرح الدعوة وبيان أغراضها ومقاصدها ومراجعة ما تصدره الشعب وغيرها من الهيئات الإخوانية قبل نشره لصلته بتصميم الفكرة (المادة 30 من اللائحة).

تكوينه:

يتكون مكتب الإرشاد العام من أثنى عشر عضوا ينتخبون من بين أعضاء الهيئة التأسيسية عدا المرشد العام ، ويلاحظ في انتخابهم أن يكون تسعة منهم من إخوان القاهرة والثالثة الباقون من بين إخوان الأقاليم (مادة 19 من النظام الأساسي) ولعل هذا التحديد يرجع إلى أن جلسات المكتب دورية وقد تحول مشاغل الأعضاء من غير القاهريين دون الاشتراك فيها.

ويشترط فيمن يرشح لعضوية مكتب الإرشاد العام أن تتوافر فيه الشروط الآتية التي نصت عليها المادة 20 من النظام الأساسي :

(أ) أن يكون من بين أعضاء الهيئة التأسيسية ، وأن يكون قد مضى على عضويته فيها مدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

(ب) أن يكون مؤهلا من النواحي الخلقية والعلمية والعملية لهذه العضوية.

(ج) ألا تقل سنه عن ثلاثين سنة هجرية.

(وقد اختير لعضوية المكتب بعد مزاولة الجماعة نشاطها في ظل القانون رقم 66 لسنة 1950 بشأن الجمعيات كل من المرحوم الأستاذ عبد القادر عودة الذي ترجع صلته بالجماعة إلى الأربعينات حيث نشر مقالاته في التشريع الجنائي الإسلامي عام 1947 على صفحات مجلة الشهاب والمرحوم الأستاذ سيد قطب وترجع صلته بالجماعة إلى عام 1939 حيث نقد على صفحات مجلة «الإخوان المسلمون» كتاب مستقبل الثقافة في مصر للدكتور طه حسين ومجموعة أخرى من المقالات غير أن اتصاله الفكري يعود إلى عام 1946 حيث رغب إليه المرحوم الأستاذ حسن البنا بوضع مؤلف «العدالة الاجتماعية في الإسلام» فعدا من أعضاء الهيئة التأسيسية حسب نص الفقرة ج من المادة 36 من النظام الأساسي. ويجدر بالملاحظة أن المادة السابقة قد نصت أن يكون عضو المكتب مؤهلا علميا وهي في ذلك تختلف عما اشترطته المادة 36 التي اقتصرت في عضو الهيئة التأسيسية وأن يكون متصفا بالصفات الخلقية والثقافية والعملية التي تؤهله لذلك (فقرة د) وربما أراد قانون النظام الأساسي توفر شروط علمية أرفع من تلك التي تعالج عضوية الهيئة التأسيسية ، لذلك كان أعضاء مكتب الإرشاد العام من الحاصلين على مؤهلات جامعية عليا ، ستة منهم حاصلون على دراسات قانونية (الحقوق) وأربعة حاصلون على دراسات أدبية (دار العلوم وكلية الآداب) واثنان على دراسات هندسية (دكتوراه في الهندسة) واثنان حاصلان على دراسات شرعية من الأزهر ، وواحد حاصل على دراسات في الصيدلة ، وواحد حاصل على دراسات تجارية).

ويتم انتخاب أعضاء المكتب من بين أعضاء الهيئة التأسيسية جميعا (ألا من اعتذر وقبلت الهيئة عذره) بطريق الاقتراع السري. وتتكون لجنة تختارها الهيئة من بين أعضائها (وبفضل المعتذرون عن الترشيح أن وجدوا) بالقيام بعملية فرز الأصوات وإعلان النتيجة (مادة 21) وإذا تم انتخاب أعضاء المكتب فعلى كل منهم أن يقسم أمام الهيئة القسم الآتي : «أقسم بالله العظيم أن أكون حارسا أمينا لمبادئ الإخوان المسلمين ونظامهم الأساسي ، واثقا بقيادتهم ، منفذا لقرارات المكتب العام القانونية وأن خالفت رأيي في هذا بكل قوتي في سبيل تحقيق الغاية السامية ، وأبايع الله على ذلك والله على ما أقول وكيل» (مادة 22).

إذا تم إعلان النتيجة والقسم انتخبت الهيئة بالاقتراع السري ، ومن بين الإخوان التسعة القاهريين وكيلا وسكرتيرا عاما وأمينا للصندوق وقامت لجنة الفرز السابقة بفرز الأوراق وإعلان النتيجة أيضا (مادة 23). ومدة عضوية المكتب سنتان ، ويتجدد الانتخاب في نهاية المدة ، ويجوز اختيار العضو لأكثر من مرة ، وإذا خلا مكان أحد الأعضاء قبل مضي المدة المحدودة حل محله الذي يليه في عدد الأصوات في انتخابات الهيئة (مادة 24).

والقيادة في هذا التنظيم جماعية والمسؤولية تضامنية فنصت المادة 25 من قانون النظام الأساسي «من واجبات عضو المكتب السهر على مصلحة الجماعة ، والمواظبة على حضور الجلسات وسرية المداولات واحترام القرارات ولو كانت مخالفة لرأيه الخاص ، وليس له نقدها أو الاعتراض عليها متى صدرت بصورة قانونية ، والقيام بالمهمات التي يكلف بانجازها على أكمل وجه ، وإذا قصر أحد الأعضاء في واجبات عضويته كان للمكتب أن يؤاخذه على التقصير بلفت نظره أو أنذراه أو بالغرامة المالية أو بالإيقاف مدة لا تزيد على شهر أو بالإعفاء من عضوية المكتب. ويجب أن يصدر قرار الأعضاء بأغلبية ثلاثة أرباع الحاضرين ويعلن العضو بالحضور ليشرح وجهة نظره للمجتمعين (ويلحظ هنا أن الإعفاء يختص فقط في إطار عضوية المكتب ولا تزول عنه عضوية الهيئة التأسيسية وهي من اختصاص هذه الأخيرة).

ولمكتب الإرشاد العام الحق في أن يضم لعضويته عددا من أعضاء الهيئة التأسيسية من ذوي الكفاءة والمؤهلات والسبق في الدعوة ، على ألا يزيد عدد هؤلاء على ثلاثة أعضاء ، ويكون لهؤلاء الأعضاء جميع الحقوق والواجبات التي للأعضاء المنتخبين (مادة 26 من النظام الأساسي وأيضا المادة 52 من اللائحة). ومن أمثلة ما يعد تقصيرا كما نصت عليه المادة 51 من اللائحة التنفيذية :

(أ) إفشاء سر المداولات أو القرارات التي يوصي بكتمانها.

(ب) التقصير في مهمة وكلت إليه.

(ج) التأخر أو التخلف عن حضور جلستين للمكتب دون عذر مقبول ولهيئة المكتب تقدير قيمة العذر.

(د) إذا تصرف تصرفا يمس كرامته كأخ مسلم أو يضر بالفكرة ضررا مباشرا أو غير مباشر.

وجلسات المكتب دورية ، وتحدد بقرار منه ، ويجتمع في غير الموعد الدوري إذا حدث ما يدعو إلى ذلك بدعوة من المرشد العام أو من يقوم مقامه ، أو بطلب يقدم إليه من ثلاثة من الأعضاء.

وتكون الجلسة قانونية إذا حضرها أغلبية الأعضاء المطلقة (النصف زائدا واحدا) ويعتبر المعتذرون بأعذار مقبولة مع التأييد في حكم الحاضرين من حيث العدد لا من حيث الأصوات. فإذا لم يتم النصاب القانوني للأعضاء أجلت أسبوعا ، وكانت الجلسة التي تليها قانونية بأي عدد يحضر. وينبه الأعضاء إلى ذلك بخطاب من سكرتير المكتب ، وتكون القرارات في أي اجتماع تال صحيحة متى صدرت عن الأغلبية المطلقة للمجتمعين كذلك ، وإذا تساوت الأصوات رجح جانب الرئيس (مادة 30 من النظام الأساسي ، وأيضا المادتان 41 و 42 من اللائحة والتي أدخلت تعديلات لنظام الجلسات غير الدورية بنصها أن تكون بناء على دعوة المرشد العام أو ثلث الأعضاء).

ويرأس اجتماعات المكتب المرشد العام ، أو الوكيل عند غيابه ، أو أكبر الأعضاء سنا إذا تخلف الوكيل (مادة 31 من القانون 430 من اللائحة) ويتلى محضر الاجتماع السابق ويصدق عليه ثم ينظر في جدول الأعمال (مادة 31 من النظام الأساسي و 45 من اللائحة التنفيذية).

وقد تضمنت اللائحة المواد 46 إلى 50 المنظمة للإجراءات والمناقشة.

ونصت المادة 32 من القانون الأساسي «لمكتب الإرشاد العام أيضا أن ينشئ أقساما ويؤلف لجانا من بين أعضائه أو أعضاء الهيئة التأسيسية أو غيرهم للقيام بتحقيق أغراض الهيئة ، وله أن يضع اللوائح اللازمة لهذه اللجان ولأوجه نشاط أقسامه والمشروعات المختلفة» ، أيضا المادة 35 من اللائحة التنفيذية التي ذكرت «يصح أن تكون هذه الجماعات دائمة أو مؤقتة».

وهذه الأقسام واللجان التي يؤلفها مكتب الإرشاد تخضع له وتتبعه ومقرها المركز العام (مادة 54 من اللائحة) وتعرض أعمال الأقسام واللجان على المرشد العام أو على المكتب إذا رأى المرشد ذلك أو رآه المكتب ، فإذا أقرت هذه الأعمال أبلغت للهيئات الإدارية عن طريق السكرتير العام (مادة 55 من اللائحة).

ويعين مكتب الإرشاد رؤساء الأقسام واللجان ويعين المرشد العام من يعاونهم في العمل بناء على اقتراح رؤساء الأقسام واللجان (مادة 56 من اللائحة).

ونصت المادة 27 من القانون الأساسي على أن «السكرتير العام يمثل مكتب الإرشاد العام والمركز العام للإخوان المسلمين تمثيلا كاملا في كل المعاملات الرسمية والقضائية والإدارية إلا في الحالات الخاصة التي يرى المكتب فيها انتداب شخص آخر بقرار قانوني منه» ونصت المادة 28 «أن مهمة السكرتير العام هي تنفيذ قرارات مكتب الإرشاد العام ، ومراقبة نواحي النشاط وأقسام العمل بالمركز العام ، وله أن يستعين بغيره من الأعضاء أو الموظفين ، ولكن هو المسئول أمام المكتب عما يسند إليهم من أعمال ، وفي حالة غياب السكرتير العام أو تعذر قيامه بعمله ينتدب المكتب من بين أعضائه من يحل محله مؤقتا».

وقد تضمنت اللائحة التنفيذية المواد 33- 35 التي تنظم مهمة السكرتير العام الإدارية والتنظيمية. ونصت المادة 29 من قانون النظام الأساسي على مهمة أمين الصندوق وهي ضبط أموال الهيئة ، وحصر ما يرد منها وما ينصرف ، ومراقبة كل نواحي النشاط المالي والحسابي ، والإشراف على تنظيمها ، وإحاطة المكتب علما بذلك في فترات مناسبة ، وله أن يستعين بغيره من الأعضاء أو الموظفين تحت مسؤوليته ، وفي حالة غيابه أو تعذر قيامه بعمله ينتدب المكتب من بين أعضائه من يقوم بمهمته مؤقتا وقد نظمت المادة 37 من اللائحة مهمة أمين الصندوق الإدارية والتنظيمية في فقراتها أ وب و ج و د وهـ.


المرشد العام:

وصفت الفقرة الأولى من المادة 9 من قانون النظام الأساسي المرشد العام «بأنه الرئيس العام للهيئة ولمكتب الإرشاد وللهيئة التأسيسية» ، وله بموجب المادة 31 من اللائحة التنفيذية :

(أ) الإشراف على كل هيئات الإخوان توجيهها ومراقبتها.

(ب) تمثيل مكتب الإرشاد وتنفيذ قراراته ومراقبة القائمين على التنفيذ ومحاسبتهم على كل تقصير.

وحددت المادة 10 من القانون الشروط الواجب توافرها فيمن يختار مرشدا عاما فنصت على :

(أ) أن يكون من أعضاء الهيئة التأسيسية وقد مضى على اتصاله بها خمس سنوات.

(ب) ألا تقل سنه عن ثلاثين سنة هلالية.

(ج) أن تتوافر فيه الصفات العلمية والخلقية والعملية التي تؤهله لذلك.

(وقد اختير المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا عاما في أكتوبر 1951 وكان قد اتصل بالدعوة منذ الثلاثينات وقدمته جريدة المصري صبيحة اختياره بأنه عضو الهيئة التأسيسية ، وملحوظة أخرى جديرة بالاهتمام وهي اشتراط الصفة العلمية في الفقرة ج من المادة ، فلم تقتصر على ذكرها مؤهلا علميا كما هو الشأن في عضو مكتب الإرشاد بل قدمت الصفة العلمية على غيرها من الصفات ، الأمر الذي يعني ضرورة اختيار شخص يمتاز بثاقب النظر والرأي وهما صفتان لازمتاه كما لزمتا سلفه المرحوم حسن البنا طيلة حياتهما وقد تميزا برجاحة العقل في معالجة القضايا على ضوء الإسلام مما أبعد الجماعة عن التزمت والجمود).

ونصت المادة 11 من القانون «ينتخب المرشد العام من بين أعضاء الهيئة التأسيسية في اجتماع يحضره على الأقل أربعة أخماس أعضاء هذه الهيئة. ويجب أن يكون حائزا لثلاثة أرباع أصوات الحاضرين. وإذا لم يحضر الاجتماع العدد القانوني أجل إلى موعد آخر لا يقل عن أسبوعين ولا يزيد عن شهر من تاريخ الاجتماع الأول ، ويجب أن تتوفر في هذا الاجتماع النسبة المقررة في الاجتماع الأول من عدد الحاضرين والموافقين ، فإذا لم يتوفر العدد القانوني في هذا الاجتماع أجل مرة ثانية وعلى الهيئة تحديد موعد اجتماع آخر في مدة كالسابق بيانها مع الإعلان عنه وعن المهمة التي سيعقد من أجلها وعن أن الاجتماع التالي سيكون صحيحا مهما كان عدد الحاضرين ، ويكون الاختيار صحيحا بأغلبية ثلاثة أرباع الحاضرين.

إذا تم اختيار المرشد العام أقسم أمام الهيئة التأسيسية القسم الآتي :

«أقسم بالله العظيم أن أكون حارسا أمينا لمبادئ الإخوان المسلمين ونظامهم الأساسي ، وألا أجعل مهمتي سبيلا إلى منعة شخصية ، وأن أتحرى في عملي وإرشادي مصلحة الجماعة وفق الكتاب والسنة ، وأن أتقبل كل اقتراح أو رأي أو نصيحة من أي شخص بقبول حسن ، وأن أعمل على تنفيذه متى كان حقا ، وأشهد الله على ذلك».

وعلى أعضاء الهيئة التأسيسية أن يجددوا معه بيعة الإخوان المنصوص عليها في المادة 4 ، ويبايعه الإخوان في الشعب المختلفة عن طريق رؤسائهم ، ويجددون بيعتهم معه لأول لقاء يجتمعون به فيه (مادة 12 من النظام الأساسي).

ونصت المادة 13 «يضطلع المرشد العام من هذه اللحظة بمهمته وعليه أن يستقيل من عمله الخاص ويتفرغ كل التفرغ للمهمة التي اختير لها».

(استقال حسن البنا من عمله مدرسا بوزارة المعارف عام 1946 وتفرغ لتحرير مجلة الشهاب التي صدرت عام 1947 كما استقال حسن الهضيبي من آخر مناصبه في القضاء وهو نائب رئيس محكمة النقض والإبرام أعلى سلطة قضائية في مصر وذلك عام 1951).

ونصت المادة 14 «لا يصح للمرشد العام -بشخصه ولا بصفته- أن يساهم في شركات أو أعمال اقتصادية أو يشترك في إدارتها ، حتى يتصل منها بهيئة الإخوان المسلمين وأغراضهم ، صيانة لشخصه وتوفيرا لوقته ومجهوده ، على أن يكون له الحق في مزاولة الأعمال العلمية والأدبية بموافقة مكتب الإرشاد العام». ويقوم المركز العام بنفقات المرشد العام ، ما لم يكن له من ماله الخاص أو من الأعمال التي أجاز مزاولتها له مكتب الإرشاد العام ما يقوم بذلك. على أن يكون تقدير هذه النفقات بلجنة تختارها الهيئة التأسيسية لهذا الغرض عقب انتخابه مباشرة (مادة 15 من النظام الأساسي).

ونصت المادة 16 «إذا أخل المرشد العام بواجبات منصبه ، أو فقد الأهلية اللازمة لهذا المنصب ، فعليه أن يتخلى عنه ، كما أن للهيئة التأسيسية أن تقرر إعفاءه في اجتماع يحضره أربعة أخماس الأعضاء ، ويجب أن يكون هذا الإعفاء بموافقة ثلاثة أرباع الحاضرين ، على أنه إذا لم يتم الاجتماع على النحو السالف طبقت أحكام المادة 11».

ونصت المادة 17 «يقوم المرشد العام بمهمته مدى حياته ما لم يطرأ سبب يدعو إلى تخليه عنه.

ونظمت المادة 18 حالة الوفاة أو العجز عن العمل فذكرت «يقوم الوكيل مقام المرشد العام حتى يعرض الأمر على الهيئة التأسيسية في اجتماع توجه إليه الدعوة خلال شهر على الأكثر».

(كان المرحوم الأستاذ عبد القادر عودة يشغل منصب الوكيل العام للجماعة ، وقضت الظروف المحيطة بالإخوان عام 1954 إلى شغل منصب جديد هو نائب المرشد الذي شغله المرحوم الدكتور خميس حميده لوجود المرشد والوكيل في المعتقلات أبان أزمة الديمقراطية في مصر).

الأقسام واللجان التابعة للمكتب:

نصت المادة 57 من اللائحة التنفيذية على أن «الأقسام الأساسية التابعة لمكتب الإرشاد العام هي :

1- قسم نشر الدعوة

2- قسم العمال

3- قسم الفلاحين

4- قسم الأسر

5- قسم الطلبة

6- قسم الاتصال بالعالم الإسلامي

7- قسم التربية البدنية

8- قسم الصحافة والترجمة

9- قسم المهن

10- قسم الأخوات المسلمات

واللجان الأساسية التابعة للمكتب هي :

1- اللجان المالية

2- اللجنة القضائية

3- اللجنة السياسية

4- لجنة الخدمات.

5- لجنة الإفتاء

6- لجنة الإحصاء

ونقتصر على دراسة بعض هذه الأقسام لأهميتها في البناء العضوي لحركة الإخوان المسلمين؛ وقد ألزمت المادة 88 من اللائحة التنفيذية رؤساء الأقسام واللجان بتقديم تقارير مختصرة في آخر كل شهر عن حالة النشاط في القسم أو اللجنة في مدى الشهر السابق ، وعليهم أن يضمنوا هذه التقارير ملاحظاتهم عن سير العمل وما لوحظ من أوجه النقص سواء كان هذا النقص راجعا إلى القائمين بالعمل أو لعيب في الأنظمة المطبقة مع بيان ما يجب عمله لتلافي مواضع النقص والعيب».

أولا- قسم نشر الدعوة

نصت المادة 58 من اللائحة التنفيذية على أن «الغرض من إنشاء قسم نشر الدعوة هو تنظيم الدعاية فكرة الإخوان تنظيما فنيا ونشر الدعوة بكافة الوسائل التي لا تتنافى مع روح الإسلام ومن ذلك :

(أ) أعداد الدعاة للخطابة والمحاضرات والكتائب على أن لا يسمح لهؤلاء أن يخطبوا في الأحفال العامة إلا بعد التأكد من صلاحيتهم.

(ب) إصدار ما تحتاج إليه الدعوة من رسائل ونشرات علمية وثقافية ورياضية.

(ج) تنظيم إصدار الرسائل والكتب التي يصدرها الإخوان المسلمون ولها مساس بالدعوة بحيث لا تطيع أي رسالة إلا بعد عرضها على القسم وإقرار نشرها وعلى كل أخ يؤلف كتابا أو رسالة من هذا القبيل أن لا يطيعها قبل عرضها على القسم فإذا أقرها القسم اعتبرت من رسائل الإخوان (وقد عالجت المادة 61 من اللائحة حقوق المؤلفين بقولها «يطبع مكتب الإرشاد على نفقته ما يراه صالحا من الرسائل والكتب بعد الاتفاق ماليا مع مقدميها ويتولى المكتب الإشراف على نشرها وبيعها».

(د) إعداد الإخوان بصفة عامة إعدادا إسلاميا من النواحي الدينية والروحية والعلمية عن طريق تنظيم المحاضرات والرسائل في المواضع التي تهم الأخ معرفتها وتوجيههم إلى قراءة الكتب النافعة التي تزيد من ثقافتهم الإسلامية وتبعث الروح الرياضية في محيط الإخوان المسلمين ونشر الألعاب الرياضية المناسبة لتقوية أبدانهم وتحسين صحتهم.

(هـ) إمداد الشعب والمناطق بالدعاة والمحاضرين في الحالات التي يراها المركز العام أو تفوض إليه. ويقوم قسم نشر الدعوة بوضع برنامج موحد لمدارس الدعاة التي نصت المادة 59 من اللائحة على إنشائها في دائرة كل مكتب إداري ، ويحدد القسم المواضيع التي تدرس والكتب التي يدرسها الطلبة في كل موضوع ومدة الدراسة ويتخير القسم بعد انتهاء الدراسة الطلبة الذين تثبت صلاحيتهم كدعاة». وقد تنوع المنهج الدراسي لهذه المدارس بين دراسات في علم النفس والاجتماع ودراسات تنظيمية إدارية ومالية ودراسات تاريخية وغيرها. وأنيط التدريس بالإخوان من ذوي الكفاءات وأصدقائهم من أساتذة الجامعات..

ثانيا- قسما العمال والفلاحين

سبق أن وصفنا جماعة الإخوان المسلمين بأنها حركة جماهيرية وليست أحد أحزاب النخبة التي وجدت على الساحة السياسية المصرية وهي الأحزاب القائم وجودها على أشخاص زعمائها وليس على برامج ومناهج محددة ومثالها حزب الأحرار الدستوريين أو الاتحاد أو الشعب أو السعدي وغيرها. لذلك اهتمت جماعة الإخوان بفئات شتى في المجتمع المصري لاسيما في القطاع الزراعي والصناعي ، فنظم قسما العمال والفلاحين ، وعالجت أولهما المواد 63- 65 ، وعالجت ثانيهما المواد 66- 68.

ونذكر كليهما لتشابه النصوص؛ نص على أن الأغراض في القسمين هي : (مادة 63 ، مادة 66).

(أ) تنظيم نشر الدعوة في محيط العمال (والفلاحين) وإيجاد جو إسلامي في المصانع والشركات والنقابات العمالية (المزارع والنقابات الزراعية).

(ب) توجيه العمال (الفلاحين) إلى الاستقامة من النقابات والنشاط العمالي وإلى ما يحفظ حقوقهم.

(ج) تنظيم التعاون بين العمال (الفلاحين) والقيام على حاجاتهم ومطالبهم.

(د) دراسة مشاكل العمال (الفلاحين) وإيجاد الوسائل الصالحة لحلها والعمل على التقريب بين العمال وأرباب العمل (بين الفلاحين والملاك).

(هـ) دراسة نظم العمل (الاستغلال الزراعي) ومحاولة تصحيحها وردها إلى أصل إسلامي.

(و) تثقيف العمال (الفلاحين) ثقافة إسلامية وتوجيههم إلى ما يرفع مستواهم التعليمي والخلقي والاجتماعي والصحي.

ويقوم قسم العمال (الفلاحين) بدراساته الفنية ويضع رسائله ونشراته ، وهذه تعرض على المرشد العام فإن وافق عليها بلغت للمكاتب الإدارية لتنفيذها (المادتان 64 ، 67).

للقسم أن يتصل بمندوبي العمال (الفلاحين) في المكاتب الإدارية والمناطق إذا اقتضت دراسته أن يتصل بهم واتصالات القسم وتنظيم المؤتمرات العامة تكون طبقا للخطة التي يعتمدها المرشد العام (المادتان 65 ، 68).

وقد نصت اللائحة الخاصة بكلا القسمين على أن «من أغراضها دراسة وشرح ونقد قوانين العمل وتبصير العمال بحقوقهم ، والعمل للحصول على هذه الحقوق. وتوجيه الشركات العمالية وصبغها بالصبغة الإسلامية ، وتوجيه العمال الصناعيين للاشتراك في النقابات والمطالبة بعمل نقابات للعمال الزراعيين ، وبث روح التعاون في صفوف العمال من الإخوان ، والاستفادة من تكتلهم في مشروعات تعاونية» ، والأخذ بمبدأ الخدمات الاجتماعية في جميع المصانع. وحل مشاكل الفقر بين الفلاحين وما يتصل بها من مشاكل الملكية الزراعية ، ومطالبة الدولة بإصدار التشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي تكفل ضمان حقوقهم ، والعمل على حل المشاكل الاجتماعية العمالية المتجددة بما يحقق مصلحة العامل الصناعي والزراعي».

ونظم قسم العمال «مدرسة للتوجيه النقابي والشؤون العمالية» ألقيت فيها محاضرات فنية عامة أسبوعيا لتعليم الإخوان العمال كيف يديرون شؤونهم النقابية ويحلون مشاكلهم على أسس سليمة من القوانين العمالية».

كما قدم قسم العمال وكذلك قسم الفلاحين خدمات اجتماعية لكلا الفئتين وذلك بمساعدتهم في حل مشاكلهم ، فوجد في كليهما محامون متخصصون في الشؤون العمالية والزراعية لتوجيه العمال وإرشادهم إلى ما فيه صالحهم وكذلك المساعدة في حالة البطالة.


ثالثا- قسم الطلبة:

نصت المادة 70 يقوم قسم الطلاب على الأغراض الآتية :

(أ) تنظيم نشر الدعوة الإسلامية في محيط الطلاب وإيجاد جو إسلامي بصفة عامة في المعاهد الدراسية. (ب) تقديم الثقافة الإسلامية المناسبة للطلاب على اختلاف معاهدهم وأعمارهم.

(ج) القيام على حاجات الإخوان الطلاب وتنظيم التعاون المدرسي بينهم.

(د) تنظيم الاستفادة من الطلبة في العطلة الصيفية وإفادتهم.

(هـ) توجيه الطلبة إلى الاستفادة من النشاط المدرسي.

والمادتان 71 و 72 تعالجان وضع الدراسات الفنية والاتصال بالمندوبين وهما شبيهتان بما سبق عرضهما في قسمي العمال والفلاحين.

ولعل هذا القسم قد لعب دورا بارزا في حياة الطلاب خاصة في الجامعة ، وهو لا ريب قدم سبل تنمية روحية وفكرية من خلال انضمام الطلاب إلى حركة الإخوان ، وخير الأدلة على ذلك تفوقهم في انتخابات مجالس اتحادات الجامعات كما سبق عرضنا لها في الفصل الأول..


رابعا- قسم التربية البدنية :

ونصت المادة 76 من اللائحة «يضع قسم التربية البدنية المناهج والدراسات اللازمة لتربية الإخوان تربية بدنية إسلامية وإعدادهم للقيام برسالتهم. ويشرف القسم على تنظيم هذه الناحية طبقا للسياسة التي يضعها مكتب الإرشاد» ، وتنوعت الفرق الرياضية قبل الحل الصادر في 8 ديسمبر 1948 ، فكان للإخوان وفقا لما ورد بمجلة «الإخوان المسلمون» 99 فرقة كرة قدم في مناطق مصر المختلفة منها 36 فرقة لكرة الطاولة (بنج بنج) و 19 فرقة لرفع الأثقال و 16 فرقة للملاكمة و 9 فرق للمصارعة و 8 فرق للسباحة أشرف عليها سباح مصر حسن عبد الرحيم وكان عضوا في الجماعة كذلك فرق الدراجات والرجبي».

أما بعد مباشرتهم النشاط وخلال الفترة القصيرة التي سبقت الحل الثاني في عام 1954 فقد تكون فريق لكل لعبة في كل مكتب إداري أي 19 فرقة لكل لعبة.

كما تنوع نشاط التربية الرياضية إلى المعسكرات التي أقيمت خلال أشهر الصيف والعطلات المدرسية وكان يقوم الإخوان إلى جوار السباحة بالتمرينات الرياضية واختراق الضاحية والعدو وحفلات السمر. كما نشطت أيضا الحركة الكشفية والجوالة التي قدمت مساعدات الخدمة العامة حين اجتاح وباء الكوليرا مصر عام 1947.


خامسا- قسم المهن:

ولعل قسم المهن كان ذا أهمية في وضع الدراسات الفنية التي تطلبتها مرحلة التعاون بين حركة الإخوان وثورة 23 يوليو 1952 ، إذ ضم هذا القسم عددا كبيرا من المختصين في النواحي المختلفة وتفرع إلى 9 فروع داخلية هي الأطباء ، المهندسين ، القانونيين ، المعلمين ، التجاريين ، الزراعيين ، الاجتماعيين ، الصحفيين ، والموظفين.

وقد نصت المادة 78 من اللائحة التنفيذية يقوم قسم المهن على الأغراض الآتية :

(أ) نشر الدعوة في محيط أصحاب المهن وإيجاد جود إسلامي عام في بيئاتهم.

(ب) حصر الإخوان في كل مهنة والعمل على الاستفادة من المهنة بالنسبة للدعوة والأفراد والإخوان.

(ج) الاستفادة من النقابات المهنية المختلفة والعمل على إيجاد جو إسلامي فيها.

(د) إعداد المناهج المختلفة في شتى النواحي على أساس من الإسلام والعمل على تنفيذها بواسطة أصحاب المهن.

(هـ) توجيه الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي وصبغها بالصبغة الإسلامية.

كما نصت المادتان 79 و 80 على نصين شبيهين بما سبق عرضها من نصوص تتناول وضع الدراسات الفنية والاتصال بمندوبي مختلف المهن.

وكان لكل فرع لائحته الخاصة ، ونصت اللائحة العامة لقسم المهن على أن من أغراضه «توثيق الصلة بين أرباب المهن في مصر والبلاد الإسلامية ، وتوسل لذلك بأن يعمل على توثيق الصلة بالشخصيات المهنية ، والنقابات ، والأندية والروابط ، والجمعيات العلمية المحلية والدولية ، وتنظيم الحاق الإخوان الخريجين في الأعمال الحكومية والحرة حسب الحاجة والإمكان».

والذي يهم دراسته ونحن بصدد الخدمات الاجتماعية هو أن نعرض لفرعين : أولها فرع الزراعيين وثانيهما فرع الاجتماعيين.

وقد ذكرت اللائحة الخاصة لفرع الزراعيين أن من أغراضه «أنه يهدف إلى إعداد المناهج الإصلاحية من الناحية الزراعية ومنها دراسة مشروعات الصناعات الزراعية وتنفيذ ما يمكن تنفيذه عن طريق شركات مساهمة أو جمعيات تعاونية مثل :

(أ) منتجات الألبان.

(ب) حفظ الخضر والفاكهة والمستخرجات النباتات الطبية.

(ج) العمل على رفع مستوى الإنتاج الزراعي وزيادة غلة الفدان وذلك بما يأتي :

1- حث الزراعيين على أتباع أحدث الطرق الزراعية.

2- استعمال التقاوي المنتقاة.

3- العناية بالإنتاج الحيواني وتربية السلالات الممتازة.

4- استغلال الآلات الميكانيكية استغلالا تعاونيا لقصر الحيوانات على الإنتاج فقط.

5- تربية الدواجن على أسس علمية صحيحة.

6- نشر تربية النحل ودودة القز.

7- نشر الصناعات الريفية.

8- تسويق المحاصيل تعاونيا.

أما فرع الاجتماعيين فقد نصت لائحته الخاصة على تكوينه :

1- المشتغلون والمتخصصون بالشؤون الاجتماعية.

2- الباحثون الاجتماعيون بمصلحة الضمان الاجتماعي.

3- الأخصائيون الاجتماعيون بمصلحة الفلاح (كانت تتبع وزارة الزراعة).

4- خريجو قسم الاجتماع بكليات الآداب.

5- خريجو مدرسة الخدمة الاجتماعية.

وحددت اللائحة الخاصة أهداف الفرع وهي :

(أ) تقديم البحوث لتوجيه الحكومة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية على ضوء المبادئ الإسلامية.

(ب) المساهمة في الخدمة الشعبية عن طريق تقديم البحوث العلمية ، والبيانات الفنية اللازمة لإنشاء مؤسسات اجتماعية لمكافحة الفقر والجهل والمرض والرذيلة ، كما يقوم بتنسيق التعاون بين هذه المؤسسات.

(ج) العمل على تقديم الخدمات الاجتماعية للإخوان وذلك عن طريق تعميم المشروعات الاجتماعية مثل التأمين الاجتماعي والصحي ونظام القرض الحسن ، وكذلك دراسة مشكلات الأفراد وتقديم وسائل العلاج لمشاكلهم.

(د) جمع البيانات في الميادين الاجتماعية وفي مجتمع الإخوان يقصد ترتيبها وعرضها في صورة يمكن استيعابها ثم تحليلها واستخلاص النتائج منها للاستفادة منها في ميادين الدعوة.

ويقوم بتنفيذ الأهداف السابقة اللجان الآتية :

(أ) لجنة الإحصاء الاجتماعي.

(ب) لجنة خدمة الفرد.

(ج) لجنة المشروعات الاجتماعية.

(د) لجنة تنسيق الخدمات الاجتماعية.

(هـ) لجنة النشر والتسجيل.

كما صدرت عن فروع المعلمين والتجاريين والقانونيين والمهندسين ، بحوث علمية لتوجيه الحكومة نحو الإصلاح المنشود بشرح الأخطاء وبيان العلاج على أسس علمية وقد صدر من هذه البحوث اثنان قام عليهما الإخصائيون من الإخوان وأصدقاؤهم من أساتذة الجامعات في مرحلة التعاون الوثيق بين حركة الإخوان وثورة 23 يوليو 1952.

والأول منهما في السياسة العامة للتربية والتعليم وقد أصدره فرع المعلمين وبه آراء في مبادئ التربية والتعليم وتنظيم مراحل التعليم ومناهجه وتنوعه ، ونظم الامتحانات وإعداد المعلم الصالح وإزالة المركزية.

والبحث الثاني قدمته الفروع المتخصصة وهو خطوط في الإصلاح على ضوء الإسلام ، وهو من قسمين أولهما في الاقتصاد والنقد والضرائب قام عليه فرع الاقتصاديين ، وثانيهما في الزراعة والتصنيع والمواصلات والعمارة واشتركت في وضعه الفروع المتخصصة بقسم المهن الذي كان من مهمته «إعداد البحوث والمشروعات والبرامج الإصلاحية لتنظيم شتى نواحي الحياة مع قواعد الإسلام وإذاعتها على الرأي العام المحلي والدولي والتقدم بها للجهات المختصة والعمل على تنفيذها».

ونظم القسم أيضا سلسلة من المحاضرات العلمية بالمركز العام قام عليها الإخوان أو أصدقاؤهم من أساتذة الجامعات ، وبالرجوع إلى مصادر أعلامهم أمكننا بيان عدد منها في الفترة من نوفمبر 1952 وكانت تنشر بعضها الصحف المصرية آنئذ ، ففي 13/ 11/ 1952 ألقيت محاضرة بعنوان «الاقتصاد الإسلامي» للدكتور محمد عبد الله العربي (حصل رحمه الله على الدكتوراه في القانون من باريس عام 1924 وكان أستاذا بكلية الحقوق جامعة فؤاد (القاهرة الآن) ، 20/ 11/ 1952 «دور المدرسة في بناء الشباب» للشهيد الأستاذ سيد قطب (1906- 1966 وكان مراقبا عاما بوزارة المعارف (التعليم) ، في 27/ 11/ 1952 «نحو مجتمع سليم» للمرحوم الأستاذ محمد العشماوي وزير الشؤون الاجتماعية ثم المعارف سابقا وعضو لجنة الدستور في يناير 1953) ، 4/ 12/ 1952 «إصلاح القرية» للدكتور محمد عبد الله العربي ، في 18/ 12/ 1952 «الإصلاح الزراعي وأهدافه» للدكتور سعيد النجار (من أساتذة الاقتصاد بالجامعة) ، في 1/ 1/ 1953 «من خصائص الفقه الإسلامي» للدكتور محمد يوسف موسى (كان رحمه الله أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة) ، في 8/1/ 1953 «التكافل الاجتماعي في الإسلام» للمرحوم الشيخ محمد أبو زهرة (كان رحمه الله أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة) ، في 22/ 1/ 1953 «دردشة صحية» للدكتور سعيد عبده (وكيل وزارة الصحة) ، وفي 29/ 1/ 1953 «وسائل تنمية الثروة الزراعية» للدكتور محمد المهدي العزوني (أستاذ بكلية الزراعة) ، في 5/2/ 1953 «آراء حرة في قانون الإصلاح الزراعي» للدكتور مصطفى كامل (دكتوراه في القانون عام 11939 وأستاذ بكلية الحقوق) ، في 26/2/ 1953 «كيف ينجح المجتمع في تحقيق نهضته» لسعيد رمضان (دكتوراه في القانون عام 1957 من جامعة كولونيا بألمانيا) ، في 19/3/ 1953 «الصناعات الكيماوية وأثرها في النهوض بثروة البلاد» للدكتور حسن إبراهيم بدوي ، في 26/ 3/ 1953 «التوسع الزراعي والصناعي وتنويع الإنتاج وأثره في الدخل القومي «لحسين عارف ، في 2/4/ 1953 «سياستنا التعليمية» لعبد الحميد مطر ، في 9/ 4/ 1953 «النباتات الطبية في مصر» لعز الدين رشاد ، في 23/ 4/ 1953 أقيمت ندوة تحت عنوان «التأمين في ضوء الإسلام» اشترك فيها أساتذة الشريعة والاقتصاد وهم المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف أستاذ الشريعة وأحمد دانش ومحمد أبو زهرة وأحمد عنان ومحمد عبد الله دراز (حصل رحمه الله على الدكتوراه من السوربون عام 1947) وزكريا محمد شفيق ومحمد يوسف موسى وعبد الله فكري أباظة ومحمود شلتوت (أصبح شيخ الأزهر من بعد) ومحمد عبد العزيز عبد الكريم (من أساتذة الاقتصاد بكلية التجارة) وعقدت الندوة مرة أخرى في 30/4/ 1953 ، في 7/5/ 1953 «معالم رئيسية في السياسة الاقتصادية الإسلامية» للدكتور زكي محمود شبانة (حصل رحمه الله على الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي بكليات الزراعة) وغير ذلك من المحاضرات كان لها أثرها على مستمعيها ، وعقدت محاضرات وندوات أخرى في مختلف شعب الإخوان شارك في بعضها غير المسلمين ، مستمعين ومحاضرين من بين هؤلاء الأخيرين المستشرق الفرنسي لويس جارديه الذي ألقى محاضرة بشعبة العباسية في 20 فبراير 1953 تحت عنوان «إنسانية المسيحية وإنسانية الإسلام في مواجهة الفكر المعاصر وترجمها عن الفرنسية الأب الراهب الدومينيكاني جورج شحاته قنواتي وهو ما ينفي بالطبع ما رماهم به خصومهم من معاداة مخالفيهم في الدين.

قسم الأخوات المسلمات:

ما من شك في أن مصر قد شهدت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين صراعا بين المدافعين عن القيم الاجتماعية وآخرين ممن دعوا إلى النهضة الفكرية متأثرين بالحضارة الغربية ودون الرجوع إلى المصادر الإسلامية للكشف عما فيها من ثراء وكانت قضية المرأة هي إحدى عوامل الصراع بين الطائفتين ، وقد مثل قاسم أمين أخراها بكتابيه «تحرير المرأة» و «المرأة الحديدة»..

ولا ريب أن الإسلام وفقا لما قدمنا لدى عرض مشروع الدستور المقترح لا يمكن أن ينسب إليه الانحطاط الذي أصاب المرأة المسلمة ، بل أن مقاصد الشريعة قد أكسبتها مقاما رفيعا في الهيئة الاجتماعية ، وقد خولت الشريعة للمرأة -وهي صنو للرجل في ذلك- من الحقوق وألقت عليها تبعة أعمالها المدنية. فلها الحق في إدارة أموالها والتصرف فيها بنفسها ، أما حجب المرأة وتصور أن المرأة سائمة أو أداة من أدوات المتاع يتلهى بها فهي نظرات بعدت عن فطرة الإسلام وافتئات على فطرة الله وهي عادات عرضت على أقوام فاستحسنوها وأخذوا بها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات التي تمكنت في الناس باسم الدين وشرع الله منها براء.

وكان صدى هذا الصراع عظيما بين إقبال على التعليم من قبل الفتيات ووضع الحجاب بصورته القديمة منذ ثورة 1919 وبعد هنيهة من الوقت الذي دعا يه قاسم أمين دعوته. وبدا عدد المتعلمات ذات شأن ففي عام 1927 كانت نسبة المصريين الذين يجيدون القراءة والكتابة 32.5% من مجموع السكان وبلغت نسبة الرجال في ذلك 42.5% بينما بلغت نسبة النساء 21% أي كانت نسبة هؤلاء الأخيرات 50% بالنسبة إلى الرجال ، وبمقارنة الإحصاء الذي تم عام 1873 وجد أن الفارق بزيادة 43.3%

إزاء هذه الصورة المتقدمة يمكننا القول أن جماعة الإخوان المسلمين قد واجهت أرضا خصبة لانتشار دعوتها بين النساء وذلك ابتداء من عام 1932 تاريخ انتقالها إلى القاهرة. وتكونت أول لجنة للأخوات المسلمات تحت عنوان «فرق الأخوات المسلمات» نشرت لائحتها الداخلية في 26 أبريل 1933 وكان الغرض من تكوينها التمسك بالآداب الإسلامية والدعوة إلى الفضيلة وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات ، ولعل ما كتبه رئيسة هذه الفرقة آنئذ المرحومة السيدة لبيبة أحمد وقد كانت رئيسة تحرير مجلة النهضة النسائية يوضح الأفكار والأسس التي قام عليها بناء الفرقة. كتبت تقول  : أخواتي وبناتي :

أحمد إليكن الله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على رسول الله وأحييكن بتحية الإسلام فالسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

«أن الأمة كما ترون في تدهور خلقي وخلل اجتماعي بدت أعراضه في كل مظهر من مظاهر الحياة : في المنزل وفي الشارع ، في المصنع وفي المتجر وفي كل بيئة وفي كل وسط ودوام هذا الحال يؤدي بنا إلى أوخم العواقب وأحط النتائج. وأساس إصلاح الأمة إصلاح الأسرة ، وأول إصلاح الأسرة إصلاح الفتاة ، لأن المرأة أستاذ العالم ولأن المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسارها.

وأن على الفتاة المسلمة أن تفهم أن مهمتها من أقدس المهمات ، وأن أثرها في حياة أمتها أعمق الآثار ، وأن في مقدورها أن تصلح الأمة إذا وجهت عنايتها لهذا الإصلاح.

لهذا نحن نريد أن نصلح أنفسنا واعتقد أن في تعاليم الإسلام وأحكامه إن علمناها وعملنا بها ما يكفل لنا هذا الإصلاح المنشود ، وإذا فهيا يا أخواتي وبناتي نصلح أنفسنا لنفهم الإسلام ونعمل به ونبث تعاليمه في نفس المرأة المسلمة ، فإن صلحنا صلحت بصلاحنا الأسرة وكان على ذلك صلاح الأمة جمعاء.

«ذلك ما أردت أن أبينه لكن ، منهاجنا لعملنا الذي لزمنا أنفسنا له والله أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه الخير لأمتنا العزيزة المفداة».

ولكن دور الفرقة أصابه الخمول لإقامة رئيستها في الأراضي الحجازية ، وفي عام 1944 أعيد إحياء تنظيمها من جديد فتكونت أول لجنة تنفيذية في 14 أبريل 1944 وحتى عام 1948 تاريخ الحل الأول في 8 ديسمبر أصبح لهذا القسم خمسون شعبة تضم خمسة آلاف من الأخوات متقوم بالوعظ فيهن سيدات منهن ممن تشربن الدعوة وكذلك بعض العلماء.

وكانت أولى رسائل القسم هي «مع المرأة المسلمة» صدرت في أكتوبر 1947 وقد ورد في هذه الرسالة منهج صريح عن رسالة الأخوات المسلمات والمرأة المسلمة وكان أساسها ما كتبه حسن البنا في مقاله عن «المرأة المسلمة» بمجلة المنار عام 1359 هجرية- 1940 في المجلدين الثامن والعاشر حيث خلف رشيد رضا على تحرير المجلة ، وفي مقاله الذي عرضنا له سابقا يذكر أن الإسلام يقر بحقوق المرأة كاملة ، الشخصية والمدنية والسياسية فأوردت الرسالة المذكورة عن دور الأخوات :

أولا- محاربة النظام الحاضر والمذاهب المعاصرة القائمة وتصحيح الأوضاع الحالية سواء من وجهة نظر المجتمع للمرأة والإقرار لها بحقوقها كاملة ، والنظر إليها نظرة الاحترام والتقدير الواجبة وذلك عن طريق خطوتين إحداهما إيجابية والأخرى سلبية.

«فالإيجابية أن جهودنا ستأخذ شكلا عمليا يتجه إلى البناء بالتكوين والتربية أي بالعمل على تكوين المجتمع الصالح ، وبالتالي تقديم نماذج للمرأة المثالية ، لتحققه بالمبادئ التي تريدها وتدعو إليها.

والسلبية هي أننا سنعبئ الجهود ونوجهها إلى نسف قواعد النظم الحاضرة بما فيها من إباحية وفسق وفجور ، وتمرد على قواعد الخلق والفضيلة ومعنى ذلك كله بالواضح الصريح :

إعلان الثورة على النظم القائمة ، وتجنيد المرأة لقيادة هذه الثورة وتحقيق الغاية الإصلاحية المطلوبة. سنثور لحماية المرأة وصيانة أعراض الأمة ، والمرأة نفسها هي التي ستحمل علم هذه الثورة لأحداث الانقلاب الذي سنهيئ له ، سنحرض المرأة على الثورة حتى تثور ، وذلك بتنويرها وإماطة اللئام عما يخفي عليها من الحقائق المستورة وسنقنعها بأن بقاء هذا الحال إصرار على المضي في سياسة امتهانها وتحقيرها ، والاتجار بشرفها ، واعتبارها متاعا يباع ويشتري ، ويعرض ويباح حيث يهوى الفجرة المخادعون ، وأنها بذلك الوضع المهين تخسر كل الميادين ولا تكسب شيئا.

«تلك خطوة رئيسية ، ومادة أساسية في رأس المنهاج. ثمارها تعبئة المرأة لقيادة النهضة النسائية السليمة ، وإعدادها لهذه القيادة.

ثانيا -إعلان حقوق المرأة الإنسانية ، وتسليمها زمام قيادة النهضة النسائية ، على أساس نظام عام مستمد من دستورية القرآن وروح النظام الإسلامي ، بأن يشمل هذا الإعلان تقرير حريتها الصحيحة ، ومنحها حقوقها الطبيعية العامة والخاصة ، والاعتراف بمساواتها بالرجل في الحقوق الإنسانية العامة التي لا تتعارض مع أداء وظيفتها الخاصة للمجتمع.

ثالثا- تحديد رسالة المرأة الإصلاحية ووظيفتها الاجتماعية وهي :

تكوين المجتمع الصالح ، وتعهده في حراسة الفضائل الاجتماعية العليا ، وهي بهذا التحديد قانون جامع ، ومعنى واسع ، ينسحب على كل ما يمكن أن نستحدثه من التعبيرات ، أو تتطور إليه المطالب والحاجات ما دامت نامية في ظل المثل الأخلاق العليا. فإذا جندنا المرأة في أعمال البر والخير ، وأطلقناها في ميدان النشاط الاجتماعي في أي صورة من صوره ، كان ذلك داخلا في رسالتها ، وإذا أسندنا إليها القيام بمهمتها الأصلية الطبيعية في البيت كزوجة وأم صالحة تقدم الفرد النافع الذي تتكون منه الجماعة ، كان هذا من صميم رسالتها. وإذا ساهمت في أي ميدان من ميادين العمل الذي يناسبها ويتلاءم مع طبيعتها فإن هذه المساهمة عمل تؤدي به جزءا هاما من رسالتها. وإذا تقدمت لحمل أعباء الجهاد الوطني وشاركت بجهودها وبعقلها وثقافتها وبتجاربها وخبرتها وبكل صور المشاركة التي تناسبها ولا تتعارض مع روح الدستور الإسلامي العام ، وإذا هبت للمطالبة بحقوقها التي اعترف لها بها الإسلام ، ونظمت طرائق الجهاد لإقرار هذه المبادئ وتطبيقها عمليا ، والثورة ما عداها من مذاهب الظلم والفوضى الاجتماعية ، كان ذلك أول واجب رئيسي تحث عليه رسالتها وتأمر به.

رابعا- تعهد نظام الأسرة عن طريق التشريع ، وتعهد المرأة نفسها وحمايتها بقوة القانون.

وصدرت عام 1953 رسالة «المرأة بين البيت والمجتمع» أقرت بحقوق المرأة في التعليم وحقها في العمل فيها لا يتعارض مع استعدادها وحقها في تنظيم نسلها إذا كان ضارا بصحتها أو لظروف اقتصادية وحقها في الترويح عن النفس في المتنزهات العامة أو الذهاب لمشاهدة أفلام ثقافية أو مسرحيات وأوضح الإخوان في تلك الرسالة أن هذه الدور أي دار السينما والمسارح ليس فيها حرج لذاتها بل الحرج على الأفلام الرخيصة التي تعرض فيها كما اعترفت الرسالة بحقوق المرأة السياسية مع بيان أن المجتمع عندما لم يتهيأ بعد لمزاولته والأخذ به (نذكر أن هذه الرسالة صدرت عام 1953 وأن بعض الدول المتقدمة ما زالت لم تمنح المرأة بعض هذه الحقوق ، من تلك بعض المقاطعات السويسرية مثلا).

ونظمت اللائحة العامة لقسم الأخوات المسلمات الصادرة عام 1951 الغاية منه بنصها في البند 2 الغاية من تكوين هذا القسم ما يأتي :

(أ) بعث الروح الدينية وبث التعاليم الإسلامية الكفيلة بتكوين شخصيات من النساء مهذبة تستطيع الاضطلاع بما يناط بها من أعمال وواجبات.

(ب) التعريف بالفضائل والآداب المزكية للأنفس ، والموجهة للخير والكمال ، وتعريفها بما لها من حقوق وما عليها من واجبات.

(ج) إرشادهن إلى طرق التربية الإسلامية الصحيحة النافعة التي تضمن لأبنائهن النمو الجسمي والعقلي وتجنبهم الإسراف الصحي والنقص العقلي.

(د) العمل على صبغ البيت بالصبغة الإسلامية وبث تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة وسيرة أمهات المؤمنين وفضليات النساء ممن حفل بهن التاريخ الإسلامي المجيد.

(هـ) محاربة البدع والخرافات والأباطيل والترهات والأفكار الخاطئة والعادات السيئة التي تنتشر وتروج بينهن.

(و) نشر الثقافة والمعارف التي تثير عقولهن وتوسع مداركهن.

(ز) الاهتمام بالشوؤن المنزلية ، لتجعل من البيت مكانا سعيدا يضم أسرة هانئة على أساس فاضل سليم.

(ج) المساهمة في المشروعات الاجتماعية النافعة بالقدر الذي يتناسب مع ظروفهن وجهودهن في محيطهن ، ومن هذه المشروعات :

المستوصفات ، دور الطفولة ، رعاية اليتامى ، وأندية الصبيان ، والمدارس ، وتنظيم مساعدة الأسر الفقيرة.. الخ. وتوضع لكل مشروع لائحة خاصة وتؤلف له هيئة إدارية تنهض به وتشرف عليه طبقا لأحكام القانون رقم 49 لسنة 1945 وتسجل بوزارة الشؤون الاجتماعية.

(ط) المعاونة في حدود ظروف الأخوات وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة.

وقد أقامت الأخوات المسلمات عددا من المؤسسات الاجتماعية من بينها «دار التربية الإسلامية للفتاة» بالقاهرة كانت أشبه بمدرسة داخلية حيث كفلت للفتيات الرعاية الثقافية والاجتماعية يتعلمن فيها القرآن والدين وفنون التطريز فضلا عن الألعاب الرياضية ، كما شملت الدار في منهاجها على مساعدة الأسر الفقيرة بإعانات عينية ومالية والمساهمة في الإرشاد الاجتماعي والوعظ عن طريق المحاضرات. كما أقام القسم مستوصفا عاما للسيدات في القاهرة ألقيت فيه محاضرات بهدف نشر الثقافة الصحية قامت بالعمل فيه مجموعة من الطيبات والممرضات من الأخوات أنفسهن.

وفي الإسكندرية كان النشاط شبيها بما أرسي في القاهرة. فأقامت الأخوات في الأولى مشغلا للفتيات يتعلمن فيه فنون الحياكة والتطريز والثقافة الدينية ودارا لكفالة الفقيرات واليتيمات وأنشئت مدرسة لمحو الأمية بين السدات ، كما نظمت دروس الوعظ.

ويتبع في كل النواحي الخاصة بالعضوية والإدارة والمالية لشعب الأخوات المسلمات قانون النظام الأساسي مع ملاحظة الفروق الخاصة التي تضمنتها اللائحة العامة للقسم (بند 4).

أما الهيئة التأسيسية للأخوات المسلمات فتتألف من الأخوات العاملات بالقاهرة والأقاليم إلى هذا التاريخ (1951) وعددهن خمسون أختا ومن يزدن بعد ذلك بحسب نصوص النظام الأساسي المقررة فيه (بند 6).

ويسند الأشراف على هذا القسم للمرشد العام للإخوان المسلمين رأسا وله أن ينتدب من الإخوان العاملين سكرتير اتصال لتنظيم الأعمال الإدارية بالقسم ، كما أن له أن ينتدب من الإخوان من ينوب عنه إذا حدث ما يدعو إلى ذلك ، ويعاونه في الإشراف والإدارية لجنة تتألف من اثنتى عشرة أختا من أخوات الهيئة التأسيسية تسمى "لجنة الإرشاد العامة للأخوات المسلمات" تنتخبها الهيئة بالاقتراع السري ، وتختار من بينهن رئيسة لهن ووكيلة وسكرتيرة وأمينة للصندوق (بند 7) وللجمعية العمومية للأخوات في أية شعبة أن تزيد على هذه اللائحة العامة ما تراه مساعدا على تنظيم العمل بشرط أن يوافق المركز العام على ذلك (بند 10).

ويسير نظام الأسر في قسم إلا×وات على مقتضى النظام العام للأسر في الأخوان الذي تنظمه لائحة خاصة به ، وأن كان هناك نظام آخر خاص بنظام الأسر الروحية نظمته الرسالة الأولى للأخوات بتنظيمها عدد أفراد الأسرة من 5 إلى 8 من الأخوات وهو يشمل منهاجا دراسيا كاملا في دراسة القرآن والحديث والفقه والتفسير وقراءة رسائل الأخوان ومؤلفاتهم ، ولكل أسرة نقيبة مسئولة أمام مجلس إدارة الشعبة. كما أنشئت مدرستان للدعايات أحداهما في القاهرة والثانية في الإسكندرية عمادها من الأخوات خريجات الجامعات.

ولا ريب أن هذه الصورة التي قد منا ها تنفي ما ألصق إلى الإخوان من البهتان واتهامهم بجمود الفكر معا تتناوله أقلام المغرضين.

الجهاز الخاص :

وهذا الجهاز قد عرف داخل الأخوان بالجهاز الخاص وخارج نطاقهم أطلق عليه خصومهم الجهاز السري.

وتعود نشأته إلى عام 1940 حيث طرح الحسن البنا فكرة إقامته بعد اتضاح التواطؤ الاستعماري مع الصيونيين على تسليمهم فلسطين.

وأيقن المرشد أن الإنجليز يسلحون عصابات اليهود وأدرك أيضا أن الحكومات العربية بما فيها الحكومات المصرية المتعاقبة على كرسي الحكم متخاذلة أن لم يكن بعضها متواطئا مع الإنجليز ، فكان طبيعيا والإخوان المسلمون ينادون بتحرير وطنهم والوطن الإسلامي جميعه التفكير في الاستعداد للقوة ورد العدوان بالنار/ وفي عام 1940 عرض مرشد الأخوان حسن البنا على خمسة أشخاص هم صالح عشماوي والدكتور حسين كمال الدين والشيخ حامد شريت وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم إنشاء نظام خاص تواجه به الجماعة مسئوليتها إزاء الإنجليز في الداخل والصهيونيين في فلسطين ، وأسند إلى هؤلاء الخمسة قيادة هذا النظام وعهد إليهم بإنشائه وتدريب أفراده على أساس الأصول الإسلامية للجندية ، وكان برنامج هذا النظام يشمل دراسة عميقة للجهاد في الإسلام وما ورد بشأنه في القرآن والسنة ، والتاريخ الإسلامي ، وكان عميقة للجهاد في الإسلام وما ورد بشأنه في القرآن والسنة ، والتاريخ الإسلامي ، وكان العضو يأخذ نفسه بأنواع العبادات المختلفة كالصوم والتهجد والذكر والتلاوة والتدريب على الأعمال الشاقة واستعمال الأسلحة.

واشترك أعداد كبيرة من أخوان هذا النظام في حرب فلسطين عام 1948 وقد شهد ببسالتهم وحسن مرانهم قادة الحملة المصرية في ذلك الوقت وأقيمت العقبات في سبيل نجدتهم لبعض القوات المحاضرة في الفالوجا كما ذكرت ذلك جريدة الأهرام بتاريخ 19 ديسمبر 1950 بقولها " إن الأخوان قد أعدوا جماعتين انتحاريتين لنجدة قوات الفالوجا أثناء حرب فلسطين لكن رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي رفض التصريح لهم بذلك؟ أكان تخطيطا لاعتقال الإخوان وتوقيع الهدنة؟ لا نشك في ذلك حيث أنه في 8 ديسمبر 1948 صدر قرار حل الإخوان ووقعت الهدنة في 24 فبراير 1949.

ومن العجيب في الأمر أن قرار الحل الذي أصدره النقراشي بوصفه حاكما عسكريا أنئذ قد استند إلى مجموعة من الوقائع كذبها القضاء وسلطات التحقيق في سنى حكمه. وهذه الوقائع التي ذكرها قرار الحل تشمل الاتهام للإخوان بإثارة طبقات الفلاحين للمطالبة بدفع قيمة إيجارية معتدلة في تفاتيش الدولة الزراعية أو في أراضي بعض الاقطاعيين ، ومنها أحداث لعب فيها النظام الخاص دورا أساسيا في إحباط محاولة الإنجليز لإرهاب مواطني القنال وذلك بالتعرض لفندق الملك جورج في الإسماعيلية في شهر ديسمبر 1946 وقد كان مقرا لمخابرة البريطانيين في منطقة القنال ومكان التقائهم ببعض المصريين ممن يعاونونهم بالمعلومات ، وما استند إليه قرار الحل أيضا بذكره أنه حدث في 19 يناير سنة 1948 أن ضبط خمسة عشرة شخصا من جماعة الأخوان المسلمين بمنطقة جبل المقطم يتدربون على استعمال الأسلحة النارية والمفرقعات والقنابل وكانوا يحرزون كميات كبيرة من هذه الأنواع وغيرها من أدوات التدمير والقتل ، من الغريب أن هذه الحادثة قد شهد تحقيقها بنفسه النقراشي حيث ثبت أمام القائمين على التحقيق بضبط 165 قنبلة ومفرقعات أن من أوقفوا من أفراد الإخوان قد ثبت تدربهم للقتال في فلسطين وأصدر المحامي العام وقتها قراره بالإفراج عنهم جميعا في حضور رئيس الوزراء النقراشي.

كما استندت المذكرة ويذهب معها الماركسيان أنور عبد الملك ورفعت السعيد إلى إلصاق الاتهام بالإرهاب والتخريب والقتل إلى الإخوان المسلمين مخالفين بذلك الحقيقة التي يشوهانها. فهما يلقيان مسؤولية مقتل حكمدار القاهرة سليم زكي في 4 ديسمبر 1948 على جماعة الإخوان مستندين في ذلك على بيان الحكومة آنئذ .

ورغم أنه تبين بعد إلقاء القبض على من ثبت اتهامهم من قبل طلبة الجامعة المعتصمين احتجاجا لإعلان الهدنة في فلسطين عدم انتمائهم إلى الإخوان وقد حكم على المسؤولين منهم بالسجن لمدة عشرين عاما من الأشغال الشاقة .

كما صورا في كتابيهما ضبط سيارة جيب بتاريخ 15 نوفمبر 1948 بالتهويل الذي كان قاسما لعهود سبقت حيث بالغا بذكر مواد متفجرة ومفرقعات وغيرها ، بينما وجهت سلطات التحقيق آنئذ إلى المقبوض عليهم تهمة حيازة محطات إذاعة ، وبلغ عدد من قيدوا رسميا في هذه القضية المعروفة باسم سيارة الجيب 32 شخصا وصدر الحكم في صددها عام 1951 الذي قضى ببراءة 14 شخصا والسجن 3 سنوات لخمسة وسنتين لاثني عشر وسنة لواحد فقط ، وقد أفرج عنهم جميعا بقرار العفو عام 1952.

كما يذهبان أيضا إلى مسؤولية الإخوان في إذكاء نيران التعصب الديني مستخدمين في ذلك الديناميت (على حسب تعبيرهما) حيث تم في 20 يونيو 1948 إشعال النيران في بعض منازل حارة اليهود وفي 19 يوليو وقع انفجار في محل شيكوريل وأركو وهما مملوكان لتجار من اليهود والتدمير الذي لحق في محلات بنزايون وجاتينيو وشركة الدلتا التجارية ومحطة ماركوني للتلغراف اللاسلكي ومبني شركة الإعلانات الشرقية رغم أنه لم يجر في هذه الأحداث تحقيق ينم عن الفاعل كما أن هذه الأحداث قد نتجت كرد فعل مباشر لاعتداء اليهود على فلسطين عام 1948 وإلقاء بعض القنابل من طائرة إسرائيلية اخترقت القاهرة. كما يذهب أولهما مستغلا عدم معرفة قرائه للغة العربية بحيث يرجعون إلى الاستيثاق لكتاب المؤرخ المرحوم عبد الرحمن الرافعي والذي يغير المؤلف نصوصه للإساءة إلى جماعة الإخوان- يذهب إلى إلصاق حوادث إلقاء القنابل عام 1946 وعام 1947 حيث وقع انفجار في سينما مترو إلى الإخوان ، ومسؤوليتهم أيضا في مقتل المرحوم الدكتور أحمد ماهر رئيس الوزراء الأسبق عام 1945 وكان المتهم بقتله هو محمود العيسوي أحد شباب الحزب الوطني ، كما يلصق إليهم فيها بعض الشباب الوطنيين حسين توفيق ومحمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية فترة المرحوم أنور السادات) والتي اتهم فيها هذا الأخير وقد حكم ببراءته .

كما يذهب إلى إلصاق نفس الاتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين بما شرع جماعة من الأفراد بتاريخ 25 ابريل 1948 في نسف دار النحاس حيث نجا من هذا الحادث ويذكر المرحوم المؤرخ الرافعي أنه لم يعرف الجناة وهم مجهولون ، ويلصق إليهما أيضا إلقاء قنبلة بتاريخ 6 ديسمبر 1945 على سيارة النحاس في طريقه إلى النادي السعدي وقد ذكر المؤرخ الرافعي أن الجاني كان حسين توفيق الذي لم يعرف إلا من خلال اعترافاته في قضية أمين عثمان .

ويزيد هذا المؤلف في خصب الخيال حيث ينسب إلى الإخوان شروعهم في يوليو 1948 في نسف دار وكالة حكومة السودان بواسطة الديناميت ، ولكن المحاولة أخفقت لضبط الديناميت قبل انفجاره بينما يذكر المؤرخ الرافعي أنهم مجهولون لم تتحدد هويتهم .

صحيح أنه قد جنح بعض شباب الإخوان إلى التطرف في معالجة القضية الوطنية التي كانت تمر بها مصر خلال سني الأربعينات ولم يثبت قانونا تورط هؤلاء سوى في قضيتي المرحوم أحمد الخازندار وكيل محكمة استئناف القاهرة وقضية المرحوم محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء الأسبق.

والأول قتل في 22 مارس 1948 واتهم بقتله شابان من الإخوان المسلمين وقد تبين من التحقيق معهما أنهما قتلاه انتقاما منه لحكم أصدره حين كان رئيسا لمحكمة الجنايات بالإسكندرية على اثنين من الإخوان بالأشغال الشاقة أنهما في حوادث إلقاء القنابل على الجنود البريطانيين. وقد استعملت محكمة الجنايات التي حوكما أمامها الرأفة حيث قدرت معها أسبابها.. التي كانت تمر بها مصر حينئذ وقضت عليهما في شهر نوفمبر 1948 بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم أفرج عنهما عام 1952 بعفو خاص كما ذكرنا آنفا.

والقضية الثانية وقعت أيضا في الفترة الحرجة التي مرت بها مصر خلال نضالها الوطني وإزاء اشتراكها أيضا في قضية فلسطين عام 1948..

فقد اشتد سخط المصريين إزاء السياسة البريطانية وموقف المفاوضة آنئذ وتجلى هذا السخط في مظاهرات عمت أرجاء البلاد وكان البوليس يقابلها بالعنف الصادر الأمر به من القائمين على الحكم ، تارة وزارة النقراشي عام 1946 وطورا وزارة إسماعيل صدقي.

ووقعت في عهد الأول مظاهرات من طلبة جامعة القاهرة (فؤاد يومها) بتاريخ 9 فبراير 1946 تهتف بالجلاء ولا مفاوضة إلا بعده فتصدت لها قوات البوليس بقسوة وأسفر التصادم عن قتلى وإصابات بليغة كما أسفرت أيضا المظاهرات التي انفجرت في مدن غيرها عن عدد من القتلى. وكان لهذه الحوادث وقع أليم في النفوس واشتد سخط الرأي العام على مسلك الوزارة تجاه المظاهرات الذي ألقى عليها عبئا جسيما من المسؤولية تزلزل لها مركزها فاستقالت.

أما على الصعيد القومي فقد اشتركت مصر بقواتها في حرب فلسطين ولم تكد تمضي ثلاثة أسابيع على بداية الحرب حتى تدخل مجلس الأمن وطلب إلى الفريقين عقد هدنة بينهما قبلاها في 11 يونيو 1948 وقد اخترقها اليهود غير مرة وهاجموا الجيش المصري غدرا في شهر أكتوبر 1948 وقد ثبت فيها خلال حصار الفالوجا تؤازره جماعات المتطوعين من الإخوان المسلمين الذين شهد لهم أحمد فؤاد صادق القائد العام للقوات المصرية. في هذه الظروف السياسية صدر قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948 مستندا على مذكرة عددت بعض الوقائع فندنا عدم صدقها بشهادة المؤرخ عبد الرحمن الرافعي ، وكان من جراء ذلك أن اختلط الأمر على بعض شبابها فارتكب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق تحت حماسة جامحة فالتوى عليهم القصد وغم المراد.

أما قرار الحل عينه فيقول المرحوم الأستاذ عبد الرحمن الرافعي لعمري أن النقراشي لم يكن موفقا في إصدار هذا الأمر ، فإنه ليس من العدل أن تؤخذ الجمعيات والأحزاب بتصرفات أو جرائم وقعت من بعض أعضائها بل يجب أن يقتصر الجزاء والقصاص على من ارتكبوا هذه الجرائم «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ، والدستور يحرم إلغاء الجمعيات إلا في حدود القانون ، ولم يكن صدر قانون الجمعيات بعد ، والدستور يحرم مصادرة الأموال والأملاك ، نوقد صادرت الحكومة أموال الجماعة وأملاكها ووضعت دورها وشعبها ومنشآتها وسجلاتها وأوراقها تحت يد البوليس ، وصادرت ما أنشأته من معاهد العلم ومستوصفات ومعامل ، بل أن شركات مدنية وتجارية صادرتها بحجة أن لها صلة بهذه الجماعة ، كشركة المناجم والمحاجر العربية وشركة الإعلانات العربية وشركة الإخوان للنسيج ودار الإخوان للصحافة والطباعة ومدارس الإخوان بالإسكندرية وما إلى ذلك.

كل هذه تصرفات لا يجيزها القانون والدستور ، وإذا كانت الأحكام العرفية من شأنها تعطيل أحكام الدستور والقانون العام ، فكان واجبا على الحكومة أن تقصر هذا التعطيل على ما تقتضيه حالة الحرب في فلسطين وما يستدعيه حفظ النظام ، لكن هذا الأمر العسكري قد خرج عن مدلول هذه الحكمة ).

وهذا ما قضى به حكم مجلس الدولة في القضية رقم 568 لسنة 3 قضائية الذي ننشره في الملحق شهادة للقضاء الذي كانت تفخر به مصر وتعتز.


الفصل الثالث : الإخوان والثورة .. تعاون وانقسام

العلاقة بين تنظيمي الضباط الأحرار والإخوان المسلمين هي إحدى معالم الحيرة في تاريخ مصر القومي التي يقف إزاءها المؤرخون ودارسوا العلوم السياسية بشك وحذر لما تكتنفه الوثائق الرسمية الصادرة عن السلطة من الغموض والتضارب ، كذلك لما تتضمنه بعض مذكرات من انتسبوا إلى الإخوان من إفراط في توضيح هذه العلاقة.

ونحن إزاء كل من النظرتين نرجع إلى الوثائق التي تكشف جوانب مظلمة كانت تحكم الظروف السياسية ، نقدم من خلالها صورة واضحة لحقبة من تاريخ مصر أسدل عليها ستار النسيان أو المغالطة أو التزوير لفترة طويلة بحيث أصبح من الممكن أن تتوه معالم التاريخ القريب في ذهن أجيال عديدة لم تعايش هذه الحقبة.

سؤال يرد حول اشتراك الإخوان المسلمين في ثورة 23يوليو ، أكان تنظيم الضباط الأحرار أحدى منظمات الأولين؟ دون ريب قد كانت هناك علائق بن كليهما كما يبدو واضحاً في إعداد الثورات حيث يدعو نجاحها إلى تضافر جهود من يسعون إلى الاتحاد إزاء عدو مشترك.

الوثائق الرسمية المتبناة من قبل السلطة القائمة آنذاك تنفي علاقات قامت واتصال بين كل من التنظيمين ، أو تقلل من شأن هذا الدور حيث توضح بأن اشتراك بعض الضباط الأحرار في جماعة الإخوان المسلمين كان بصورة فردية دون تنظيم الأول بأسره.

بيد أن مذكرات لبعض المؤرخين والشخصيات السياسية عايشت هذه الفترة تنير لنا هذه الحقبة المتضاربة وثائقها الرسمية. وهي وثائق لا نتردد في الأخذ بها وهي لبعض من تعاونوا مع جمال عبد الناصر في سني حكمه.

أولاها ما أورده المرحوم أحمد عطية الله ( 1904- 1982) المؤرخ المعروف وقد كانت تربطه علاقة صداقة به ، ضمنها كتابه « ليلة 23 يوليو 1950 » الصادر عام 1982وفيه يذكر أن ساعة الصفر للثورة قد تقررت ليلة 21 يوليو 1952بمنزل صالح أبو رقيق عضو مكتب الإرشاد بحضور جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ، وأن اجتماعات عقدت بين ممثلي الإخوان وجمال عبد الناصر لمعاونة الحركة .

وثانيها تلك التي أوردها الشيخ أحمد حسن الباقوري (ولد عام 1907) وقد كان وزيرا للأوقاف في الفترة من 1952إلى 1959. يقول في مذكراته التي أوردها بمجلة آخر ساعة خلال شهر يوليو 1983 « إنه كان خطيب حفل بالمركز العام للإخوان المسلمين ليلة 23يوليو 1952 ، وعند تأهبه لإلقاء كلمة ترحيب بوفد باكستاني مال عليه المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام وأومأ إليه بالدعاء للملك ولولي عهده ، فتعجب (أي الباقوري) حيث كانت أول مرة يطلب إليه ذلك بينما لم يفعلها بنفسه سابقًا (أي المرشد) بيد أن تعجبه زال وقد فهم من بعد مشاهدة تحرك قوات الثورة أن تلك الإيماءة كانت تضليلا لبعض الأعين وستارا لقوات الجيش المتحركة.

وثالث تلك الوثائق هي لأحدى الشخصيات البارزة في تاريخ الثورة واحد قادتها ، وهي للسيد كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة وأحد نواب رئيس الجمهورية حيث أورد شهادته في غير مصدر ، ذكر الرجل أن الإخوان المسلمين كانوا على علم بموعد الثورة قبل قيامها ، وأنه قد اتصل في 20 يوليو 1952 هو وعبد الناصر بالإخوان بمنزل صالح أو رقيق حيث أطلعوا على تفاصيل الحركة. وأن هؤلاء الأخيرين كان لهم متطوعون على طريق السويس لاحتمال تحرش قوات الانجليز بالثورة وأن أعدادا منهم كانت تقوم على حراسة المنشآت العامة والمرافق .

هذه الوثائق قد سبقتها غيرها فيها نشره مؤرخو جمال عبد الناصر في الصحف في نوفمبر 1952 بعد قيام الثورة بأربعة شهور ، وهي توضح طبيعة العلاقة بين التنظيمين عندما سئل هذا الأخير من أحد ضباط الحركة قبل قيامها عما إذا كان يتوقع خيراً من الإخوان فأجاب « نعم خير كثير » وهي إجابة علق عليها ريتشارد ميتشيل بقوله : « هكذا الإخوان المسلمون في نظر الثوار وقد اكتسبوا منزلة عالية وبهذا أصبحوا الشركاء المنطقيين في حلف بين الجيش وحزب شعبي يعملان معاً دون ارتباط ظاهري حتى يحين الوقت المناسب » .

هذه الوثائق تكذب لا شك ما أوردته الوثيقة الرسمية الصادرة عن مجلس قيادة الثورة والتي أوردتها جريدة الأهرام بتاريخ 15 يناير 1954 في صفحتها الأولى حيث أوردت في قرار حل الإخوان « عدم تأييد الإخوان للثورة وأن المرشد ظل في مصيفه بالإسكندرية لائذا بالصمت ، فلم يحضر إلى القاهرة إلا بعد عزل الملك وأنه قد وافق على تأييد الإخوان للثورة وهو التأييد الذي تأخر أسبوعاً كاملاً » .

قرينة تكد بها وثيقة أخرى ينشرها الأهرام في 28 يوليو 1952 في صفحته السادسة حيث أورد تحت عنوان « الإخوان يؤيدون الجيش ويؤازرونه ويدعون إلى حماية نهضته الصادقة ».

« بيان للمرشد إلى الإخوان بوادي النيل ».

« تلقينا من المرشد العام للإخوان المسلمين البيان التالي » .

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله

« في الوقت الذي تستقبل البلاد فيه مرحلة حاسمة من تاريخها بفضل هذه الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم ، أهيب بالإخوان المسلمين في أنحاء الوادي أن يستشعروا ما يلقي عليهم الوطن من تبعات كبيرة في إقرار الأمن وإشاعة الطمأنينة وأخذ السبيل على الناكصين ودعاة الفتنة ، ووقاية النهضة الصادقة من أن تمس روعتها وجلالها بأقل أذى أو تشويه ، وذلك بأن يستهدفوا على الدوام مثلهم العليا وأن يكونوا على تمام الأهبة لمواجهة كل احتمال ».

« والإخوان المسلمون بطبيعة دعوتهم خير سند لهذه الحركة يظاهرونها ويشدون من أزرها حتى تبلغ مداها من الإصلاح ، وتحقق للبلاد ما تصبوا إليه من عزة وإسعاد.

« وإن حالة الأمن لتتطلب منكم -بوجه خاص- أعينا ساهرة ويقظة دائمة ، فلقد أعدتكم دعوتكم الكريمة رجالا يعرفون عند الشدة ويلبون عند أول دعوة فكونوا عند العهد بكم والله معكم ولن يتركم أعمالكم ». بيان لا شك صراح وفريد في تأييد الثورة دون المنظمات الأخرى.

وثيقة ثانية تضمنها بيان الإخوان المسلمين الصادر عن مكتب الإرشاد العام وقد نشرته مجلة الدعوة الأسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 27 يوليو 1952 الصفحة الأولى والثالثة. والذي أقرته الهيئة التأسيسية بتاريخ أول أغسطس 1952 وقد نشرته أيضًا جريدة الأهرام في عددها الصادر بتاريخ 2 أغسطس 1952 ، الصفحة السادسة.

بيان جاء معبرا عن فهم لحركة الجيش حيث نظروا إليها نظرتهم إلى ثورة في وقت قد أرتبك فيه مفهومها لدى القائمين عليها ولم تظهر مبادئها الستة الشهيرة سوى عام 1954.

أكان الإخوان المسلمون قوى ضغط في تلك الفترة؟ الإجابة لا شك غير مؤكدة لكن لا ريب أن الضباط الأحرار قد استلهموا مبادئهم من تلك الخطوط العريضة التي أوردها الإخوان في بيانهم الذي نشره الأهرام يومئذ.

بيان الإخوان المسلمين عن الإصلاح المنشود في العهد الجديد « التطير الشامل ومحاكمة كل من أساء استخدام السلطة -توفير التعليم لجميع المواطنين وتكوين جيل مشبع بالروح الدينية والخلقية والوطنية- عقد جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد يستمد مبادئه من مبادئ الإسلام -تحديث الملكيات الزراعية- والعلاقة بين المالك والمستأجر واستكمال التشريعات العمالية.

تلقينا من الإخوان المسلمين أمس البيان المنشور فيما بعد وقد أقرته الهيئة التأسيسية للإخوان في اجتماعها غير العادي الذي عقدته في المركز العام أمس الجمعة وفيها يلي نص البيان :

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾

« الآن وقد وفق الله جيش مصر العظيم لهذه الحركة المباركة وفتح بجهاده المظفر أبواب الأمل في بعث هذه الأمة ، وإحياء مجدها التليد ، وأزال عقبة كانت تصد عن سبيل الله والحق وتعوق المصلحين ، ويستند إليها ويملي لها المفسدون المغرضون من كبراء هذه الأمة وحكامها في العهود المختلفة..

الآن ينبغي أن ننظر إلى الأمام وألا يأخذنا الزهو بهذه الانتصارات عما يجب من استئناف العمل في مرافق الإصلاح الشامل حتى تشعر الأمة بأنها انتقلت نقلة كلية من عهد إلى عهد فالا تفعل -فقد ضاعت ثمرة هذه الحركة وأصابتنا نكسة لا نؤمن عواقبها. وهذا يفرض على كل ذي رأي في الأمة أن يتقدم إلى الأمة وإلى أولي الأمر فيها بمشورته خالصة لله بريئة من الهوى عما ينبغي أن ينجه إليه الإصلاح المنشود ببعث هذه الأمة من جديد.

وسنة الإخوان المسلمين أن يتقدموا إلى الأمة وأولي الأمر فيها في مثل هذه المراحل المتميزة من تاريخها بالرأي يستقونه من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي يسوى بين المسلمين وغير المسلمين في حقوقهم وواجباتهم العامة ولا يفرق بين جنس وجنس ولا بين لون ولون..

بعد هذه المقدمة يقدم بيان الإخوان المسلمون برنامجا يمثل قمة نضجهم كحركة سياسية ذات طابع راديكالي. يقول البيان الذي أردفت جريدة الأهرام نشره :

أولا : التطهير الشامل الكامل

إلا أن أول ما ينبغي الالتفات إليه من ضروب الإصلاح وما لا تظهره ثمرة العمل إلا به ، أن يؤخذ كل من أعان الملك السابق على الشر ويسر له سبل الفساد والطغيان بما أخذ به الملك السابق نفسه -وما ينبغي أن يؤخذ به فلا يستقيم في ميزان العدالة- ولا في حماية المصالح العامة وراية المثل العليا أن يكون أمر التطهير مقصورا على عزل الملك ثم يترك أعوانه وأدواته آمنين لا يمتد إليهم بد القصاص.

إن دستور البلاد الذي أقسم جميع الوزراء في الدولة على احترامه ، تنتهي نصوصه وروحه إلى إلقاء المسئولية كلها على كاهل الوزراء. والوزراء حين يحملون هذه المسؤولية يعتبرون مؤتمنين عليها من قبل الأمة ، فإذا فرطوا في رعاية هذه الأمانة فقد استوجبوا أشد أنواع المؤاخذة.

وأن الدستور ليقرر أن أوامر الملك شفهية كانت أو كتابية لا تعفي الوزير من المسؤولية ، بل أن الدستور يؤكد المسؤولية في الحكومة حتى يعل رئيسها مسؤول عن أحاديث الملك الشخصية. فكيف يقبل بعد هذا عذر وزير مهد للملك سبيل الإفساد ويسر له استغلال أموال الدولة واغتصاب أراضيها وإضاعة مصالحها ، وأعانه على إهدار الحريات وسفك دماء أبنائها الأبرار ، وسن له من التشريعات والقوانين الاستثنائية ما يحميه من رقابة الشعب ويدفعه إلى التمادي في طريق البغي. ولكن رجال الحكم قد جاوزوا كل حد في التفريط وتضييع الأمانة ورأوا أن الاحتفاظ بمقعد الحكم -وهو أقصى ما يستطيع الملك حرمانهم منه- أعز عليهم من الوطن والشعب جميعا فضلا عما شاركوا فيه من الغنم الحرام والاستغلال الآثم لمقومات البلاد.

لقد أصبح لزاما أن تمتد يد التطهير إلى هؤلاء الحكام ، فتبادر إلى تنحيتهم عن الحياة العامة وحرمانهم من مزاولة النشاط السياسي حتى يقدموا للمحاكمة عن كل ما يوجه للملك السابق من اتهامات وما يعاب عليه من تصرفات. وما تظهره الملفات الحكومية اليوم وبعد اليوم من مظاهر البغي وسوء الاستغلال حتى يكونوا عبرة لكل من يلي أمور هذه البلاد ، إذ يوقنون أن عقاب الشعب المتربص أحق بأن يتقي من نقمة الملك المتسلط. ولا يبلغ التطهير غايته حتى تشمل المؤاخذة كل من عبث بمصلحة الدولة أو أجرم في حق البلاد في عهود الحكم المختلفة..وهذا يتقاضانا أن نبادر إلى تنفيذ قانون الكسب الحرام دون هوادة ولا محاباة ، وأن نقدم للمحاكمة بلا تردد ولا تمييز كل من أساء استخدام السلطة بمصادرة الحريات وترويع الآمنين وتعذيب أبناء الأمة الأحرار ، وأن يعاد التحقيق نزيها صارما في القضايا التي غل الطغيان عنها يد العدالة من قبل كقضايا الجيش واغتيال الشخصيات التي كان لبعض المسؤولين فيها دور معروف. كما ينبغي إلغاء الأحكام العرفية وسائر القوانين الرجعية المنافية للحرية .

ثانيا : الإصلاح الخلقي والتربوي

أن حركة الجيش التي أسلمتنا إلى هذه النتيجة المباركة -نتيجة المسير في طريق التطهير لن يتسنى لها أن تؤتي ثمارها كاملة غير منقوصة حتى نسير في الإصلاح التشريعي والخلقي بخطوات حاسمة لا تتكرر معها التجارب المريرة ولا تسمح ببروز أوضاع وظهور أشخاص من طراز أولئك الذين لم نستجمع أنفاسنا بعد منذ أنحناهم عن الطريق. ولا شك أن التشريع مهما أحكمت صياغته واستقامت أهدافه وأصوله ، لا يبلغ غايته حتى يقوم على تنفيذه الفرد الصالح الذي لا يتم إعداده إلا عن طريق التربية الدينية إذ تغرس في نفسه من معالي الإنسانية السامية ما يعصمه من اتباع الهوى ويهديه إلى أن يحب للناس ما يحبه لنفسه. فإذا ولي أمرا أو تقلد سلطانا كان المؤمن بربه الذي لا يذل ولا ينزلق. المستقيم في خلقه الذي لا يتكبر ولا يتغطرس ، المرضي في أمانته الذي لا يختلس ولا يرتشي ، والذي لا يقصي الفضيلة عن حياته الشخصية أو حياته العامة فهو في بيته القدوة الصالحة ، وفي مكتبه المثل الطيب ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾. ومن تمام هذا الباب أن تعمل الحكومة على تحريم ما حرم الله وإلغاء مظاهر الحياة التي تخالف ذلك مثل القمار والخمر ودور اللهو والمراقص والأفلام والمجلات المثيرة للغرائز الدنيا. وأن العاطفة الدينية لا تكفي وحدها لضمان التخلق بأخلاق الإسلام فينبغي أن يقترن غرسها وإنمائها بمحاسبة الفرد حسابا دقيقا عن اتخاذ الآداب والأخلاق القرآنية منهاجا له في حياته الخاصة والعامة.

كما يجب أن نعيد بناء نظامنا التعليمي والتربوي على أسس جديدة تضمن تكوين جيل جديد مشبع بالروح الدينية والخلقية والوطنية وأن نعيد كتابة تاريخنا الإسلامي والمصري لنزيل منه ما وضعه المغرضون من المستعمرين والمستشرقين . ويجب أن نوفر التعليم للمواطنين جميعا وألا يكون ذلك على حساب سواه ويجب تدعيم معاهد العلم والجامعات على اختلافها وتزويدها بما تحتاج إليه المكتبات والمعامل وأدوات البحث حتى تقوم بمصر نهضة علمية جديدة تستطيع بقسط كبير في بناء نهضتنا الاجتماعية والاقتصادية.

ثالثا - الإصلاح السياسى

بعد هذا البند الثاني يعالج بيان الإخوان الذي نشره الأهرام الإصلاح الدستوري وفيه نقرأ ما ذهبوا إليه من سقوط دستور 1923 والدعوة إلى عقد جمعية تأسيسية لوضع دستور جدي موضحا مبدأهم من قضية الديمقراطية. البيان سكت عن ذكر الأحزاب السياسية مما لا يعني إلغاءها كما ذهبت إلى عكسه بعض الماركسيين الذين يرون أن الأخوان يرفضون النظام الحزبي بمجمله وعن غموض موقفهم من قضية الديمقراطية. يعزز ما نذهب إليه أن البيان قد اقتصر على إجراء تطهير في الحياة السياسية وأحزابها عكس ما ذهب إليه حسن البنا من ضرورة حلها وتجميعها في قوى وطنية موحدة.

هذا التغير في النظرة إلى الأحزاب السياسية يرجع في رأينا إلى نشأة أحزاب وجماعات في أواخر سني الأربعينات وبداية الخمسينات تختلف مبادئها عن تلك التي تبنتها أحزاب الثلاثينات. فالأخيرة كانت تجمع بينها مصلحة طبقة يرتبط مصيرها بالحكم آنئذ عدا اثنين منها وهما الحزب الوطني الذي كان يرأسه المرحوم حافظ رمضان والثاني حزب الوفد الذي كان يتزعمه المرحوم مصطفى النحاس ، أما باقيها -في عام 1937 حيث طالب حسن البنا بتوحيد جهود الأمة في حزب واحد يعمل لمصلحة البلاد وقضايا القويمة- فقد عرفت بأنها أحزاب للقصر أو موالية لسياسته -وهي حزب الاتحاد الذي أنشأه أحمد زيور باشا على أثر الانقلاب الدستوري عام 1924 ثم رأسه من بعد حلمي عيسى باشا ، وحزب الشعب الذي أسسه إسماعيل صدقي باشا عام 1930 ، وحزب الأحرار الدستوريين الذي أسسه عدلي يكن باشا ومحمد محمود باشا عام 1922 على أثر الانشقاق الذي وقع في حزب الوفد الذي تزعمه سعد زغلول ، والحزب السعدي الذي تزعمه أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا منذ نشأته عام 1936 بعد الانشقاق الذي وقع أيضًا في حزب الوفد. وبين عامي 1940 و 1947 -حيث أعاد البنا مطالبته بحل الأحزاب المصرية سيئة هذا الوطن الكبرى وأنها ليست أحزابا حقيقة بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا- زاد هذا العدد بنشأة حزب الكتلة الوفدية الذي تزعمه المرحوم مكرم عبيد باشا عام 1944 على أثر الانشقاق الواقع في حزب الوفد عشية حادث 4 فبراير 1942. وتأسيس الحزب الاشتراكي عام 1946 بزعامة أحمد حسين الذي أنشأ حديث المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي بمنشور إداري « إلى الإخوان رقم 3 في ديسمبر 1952 الذي لم يمكن نشره بجريدة المصري آنئذ ثم الحديث الذي أدلى به في الإخوان المسلمين وحركة الجيش ، وفيه رد على من ينعتون الأخوان بالتعتيم والتكالب على الحكم.

مع أقرانه حركة مصر الفتاة عام 1933 والتي تحولت إلى الحزب الوطني الإسلامي عام 1940. كما أضيفت إلى هذه حزب العمل الذي أنشأه النبيل السابق عباس حليم من الأسرة المالكة السابقة.

قد أضيفت إلى هذه وتلك أحزاب تختلف في مبادئها تأسست في بداية الخمسينات وهي حزب الفلاح الذي أسسه أحمد مختار قطب عام 1950 والحزب الوطني الجديد الذي أسسه فتحي رضوان بعد الانشقاق الذي وقع في صفوف الحزب الوطني وخروج بعض الشباب من أعضائه على سياسته وحزب الاتحاد النسائي الذي تزعمته السيدة فاطمة راشد أحدى زعيمات الحركة النسائية وليد ثورة 1919 وأخيرا حزب بنت النيل الذي تزعمته المرحومة الدكتورة درية شفيق من زعيمات الحركة النسائية أيضًا في هذه الفترة...

ما من شك أن نشأة هذه الجماعات السياسية مع أخريات ممثلة للتيار اليساري كدار الأبحاث العلمية التي أنشئت عام 1945 ولجنة الثقافة الحديثة عام 1946 وتأسيسها لصحافة اليسار (الفجر الجديد والطليعة عام 1945-1946والجماهير 1947-48) قد أضفى طابعا مميزا على الحركة السياسية تختلف عن سابقتها خلال الثلاثينات والعقد الرابع والتغير الذي لحق بعض الأحزاب القديمة كحزب الأحرار الدستوريين لتزعم المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل خلفا لمحمد محمود باشا الذي كان يعد من كبار الأسر الإقطاعية حتى وفاته عام 1942؟

هذا المناخ الجديد في الحياة السياسية المصرية كان ذا صدى على بيان الإخوان الذي اقتصر على المطالبة بالتطهير وحرمات من أساء إلى الحياة العامة من مزاولة النشاط السياسي .

هذا البيان وأخر صدرت خلال العامين التاليين تكذب ما ذهبت إليه الوثائق الرسمية التي تبنتها السلطة آنئذ (مجلس قيادة الثورة) أو بعض من مثلها كالمرحوم جمال عبد الناصر والمرحوم أنور السادات في بيانات متضاربة عن انفراد الإخوان بتأييد قرار مجلس قيادة الثورة بحل الأحزاب الصادر قراره في يناير 1953 وإعلان فترة انتقال مدتها عشر سنوات تحكم خلالها مصر حكما عسكريا (1) دون حياة نيابية وهو ما يكذبه كما سنرى البند الثالث والبيانات الأخرى الصادرة عن المرشد العام حسن الهضيبي بتاريخ 4 مايو 1954 وسبتمبر من العام عينه.

ذكر البيان الأول الصادر في أغسطس 1952 تحت عنوان الإصلاح الدستوري :

« إن الفرد الصالح لا تطيب له الحياة في ظل دستور تم وضعه في عهد الاستعمار الانجليزي أولا والطغيان السياسي ثانيا. وقد نشأ عن ذلك وجود ثغرات في نصوص الدستور سمحت بأحداث اضطرابات في حياتنا العامة ، واستطاع الاحتلال أن ينفذ منها بين حين وحين آخر. كما سولت للملك التدخل المستمر وتجاوز حدود المبادئ الدستورية الأساسية. ولقد كان المظهر البارز لهذه الملابسات أن يجئ الدستور منحة من الملك لا نابعا من أرادة الأمة. ولما أن تصرف الحكام قد أهدر الدستور نصا ومعنى -وكان من طبيعة الثورات الناجحة أن تسقط الدساتير التي تحكم الأوضاع السابقة عليها (كناية إلى اعتبار حركة الجيش ثورة دون وصف انقلاب) فإن الدستور المصري يكون قد أصبح لا وجود له من ناحية الواقع ولا من ناحية الفقه (كناية عن اعتبارهم سقوط دستور 1923 بنجاح حركة الجيش وهو ما أكده أيضًا حديث الأستاذ حسن الهضيبي -رحمه الله- في المنشور الإداري رقم 3 ، وقد أعلن مجلس قيادة الثورة سقوط الدستور في 10 ديسمبر 1952) مما يقتضي المسارعة إلى عقد جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد على أساس أنه تعبير عن عقيدة الأمة وإرادتها ورغبتها وسياج لحماية مصالحها ، لا على أنه منحة من الملك (تشكلت هذه الجمعية التأسيسية في 13 يناير 1953 من خمسين عضوا تضم بعض أساتذة القانون مثل المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري والمرحوم الدكتور السيد صبري والمرحوم الدكتور وايت إبراهيم وبعض الشخصيات العامة كالأستاذ مربت غالي عضو مجلس النواب سابقا وخمسة أعضاء يمثلون الأخوان المسلمين هم الدكتور محمد كمال خليفة (ولد عام 1906) عضو مكتب الإرشاد والشهيد عبد القادر عوده (ولد عام 1906-1954) وكيل الجماعة والمرحوم الشيخ محمد الأودن (1894-1976) أستاذ الحديث بالأزهر وعضو الهيئة التأسيسية والمرحوم صالح عشماوي (1906-1983 عضو مكتب الإرشاد العام) والمرحوم حسن العشماوي (1918-1972).

وسيترتب على أعادة إصدار الدستور بطبيعة الحال اختفاء جميع نصوصه التي تصدر عن طبيعة كونه منحة ويستمد مبادئه من مبادئ الإسلام الرشيدة في كافة شئون الحياة. وفي ظل هذه المبادئ تختفي من الدستور أسطورة الحكام الذين هم فوق المسئوولية الجنائية ، فالمبدأ الأساسي الذي يقرره الإسلام أن المسئولية بمقدار السلطة وأن الكل سواء أمام القانون. ومن هنا يجب أن يكون كل فرد في الأمة -حاكما كان أو محكوما- مسؤولا مسؤولية مباشرة عن كل تصرفاته- خاضعا لنفس الإجراءات والعقوبات التي يخضع لها الجميع بلا استثناء.

هذا وينبغي أن نستفيد أيضًا من التجارب الدستورية السابقة ليكون اتجاهنا إلى الإصلاح مؤسسا على قواعد واقعية ملموسة -والذي يستقرئ هذه التجارب -منذ بدء الحياة النيابية إلى اليوم -يجد أنها لم تقدم للبلاد نيابة صالحة ولا تمثيلا صالحا. وليس أدل على ذلك من أنه مع شيوع المفاسد وانتشار الأخطاء التي تعترف بها الأحزاب السياسية اليوم وتقول أن الملك كان هو الآمر بها ، لم يفلح برلمان واحد في إسقاط حكومة أو مناقشة مخصصات الملك أ, تغيير وزيرا أو توجيه اللوم إلى وزارة ، ولم ينته أي مجلس من مناقشة أي استجواب إلا بالانتقال إلى جدول الأعمال وفوق ذلك فما من قانون جاء ضارا بالحريات إلا وقد أقرته وخضعت لمشيئة الحكومات فيه البرلمانات المتلاحقة.

تلك البرلمانات التي طالما يسرت للحكومات اعتماد الأموال الضخمة المرهقة للميزانية في أوجه البذخ والترف وتحقيق شهوات الحكم الفردي بحيث عجزن الميزانية عن مواجهة مطالب النهضة وضرورات الإصلاح في مرافق الحياة. وهكذا انتهت الحياة البرلمانية في كافة العهود الحزبية إلى أن أصبحت أداة تعطي شهوات الحكام ومظالم السلطات صيغة قانونية. فلا مناص أذن من النظر في إعادة بناء الحياة النيابية والقوانين الانتخابية على أصول سليمة حتى تؤدي رسالتها على الوجه المنشود » .

وتضمن البيان السالف برنامجا اجتماعيا فريدا مثل مطالب وآراء الحركات والتيارات السياسية والإصلاحية التي كانت تعادي النظام القديم والتي أوضح لبناتها الأولى المرشد حسن البنا في غير مقالة مما كتب في جرائدهم منذ العقد الثالث. كذلك ما عالجه سيد قطب وعبد القادر عودة في غير مؤلف لهما كما سجلته من بعد منشورات الإخوان علاجا لأدواء المجتمع المصري.


رابعا ً: الإصلاح الإجتماعي

أورد البيان تحت البند الرابع بعنوان الإصلاح الاجتماعي :

« أن الأمة تعاني الآن تفاوتا اجتماعيا خطيرا ، فهي بين قلة أطغاها الغنى وكثرة أتلفها الفقر ، وهذه حال لا يرضى عنها الإسلام. فالإسلام يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم. والإسلام يقضي بأن يكون لكل فرد في الدولة مسلما كان أو غير مسلم كحد أدني : مسكن يقيه حر الصيف وبرد الشتاء وملبس للصيف والشتاء ومطعم يقي جسمه ويجعله قادرا على العمل وعلاج بالمجان أن كان غير قادر وتعليم بالمجان ، ذلك كله له ولزوجه ومن يعول ، وسبيل الإسلام إلى تحقيق هذه المزايا :

أولا -العمل : فالعمل فرض على القادر عليه ، لا يجوز له أن يتخلى عنه ولا تجوز إعانة رجل لا يعمل وهو قادر ، بل يحمل على العمل حملا ، ويجب على ولي الأمر أن يساعده على إيجاد عمل له ، ويهيئ له وسائله ويتعهده حتى يتحقق أنه مستريح فيه.

ثانيا -التكافل الاجتماعي : فإذا لم يجد عملا أصلا أو كان عمله لا يكفيه أو كان غير قادر عليه وجب على ولي الأمر أن يتدخل ليحقق له ضرورات الحياة المذكورة آنفا بالزكاة ، وهي فريضة مقررة مقدرة وليست صدقة يدفعها الغني متفضلا.

وهي حق للفقراء وتصرف حيث تجبي ولا تنقل إلى مكان آخر حتى يستوفى أهل كل جهة بفقرائها الذين يعرفونهم ويعرفون حاجاتهم ، فيشعر الأغنياء والفقراء بأنهم متكافلون متراحمون. فإن لم تكف الزكاة لتوفير تلك الحاجات الضرورية وجب على من عنده فضل مال أن يرده على الفقراء حتى يستوفوا حاجاتهم فإن لم يفعلوا أجبرتهم الحكومة على ذلك واتخذت من التشريعات ما يكفل إصلاح حال المجتمع بقدر ظهور الحاجات وبروز الضرورات وقبل توفير هذه الضرورات الأساسية لكل فرد لا يوقع الإسلام حد السرقة على السارق ، وبناء على هذه المبادئ يجب النظر في عدة إجراءات يلزم أن تتخذها الدولة لتحقيق تلك الغايات نلخص أهمها فيما يأتي :

1- تحديد الملكيات الزراعية

فإن الملكيات الكبيرة قد أضرت أبلغ الضرر بالفلاحين والعمال وسدت في وجوههم فرص التملك وصيرتهم إلى حال أشبه بحال الأرقاء ، فلا سبيل إلى إصلاح جدي في هذا الميدان إلا بتقرير حد أعلى للملكية وبيع الزائد منه إلى المعدمين وصغار الملاك بأسعار معقولة تؤدي على آجال طويلة. كما يتعين توزيع جميع الأطيان الأميرية المستصلحة والتي تستصلح على صغار الملاك والمعدمين خاصة (حددت رسالة أهدافنا ومبادؤنا الصادرة في أغسطس 1925 الملكية الزراعية بمائة فدان وهو الحد الذي وصل إليه النقاش بمجلس النواب في العهد الملكي وقبيل قيام الثورة بينما كان قد أقترح كل من محمد خطاب وإبراهيم شكري عضوي المجلس تحديد الملكية الزراعية بخمسين فدانا ، يجدر بالإشارة أن تحديد الملكية الزراعية كما وردت في قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 لسنة 1952 الصادر في 9 سبتمبر 1952 كان مائتي فدان ثم عدل إلى مائة فدان بالقانون الصادر في 25 يوليو 1916. كما نشير أن القانون الأول قد خول لوالد اثنين من القصر الاحتفاظ بمائة فدان وهو ما يعني أن الكثيرين كانوا يملكون في ظل هذا القانون ثلاثمائة فدان.

2- تحديد العلاقة بين المالك والمستأجر

فمن الواضح أن عددا كبيرا من المشتغلين بالزراعة لن تتوافر له ملكية حتى بعد التحديد وذلك نظرا إلى قلة الأراضي الصالحة للزراعة بالقياس إلى عدد المشتغلين بها. ولقد جرت العادة أن يلزم المستأجر بأداء مبلغ نقدي أو قدر عيني من المحصول لقاء انتفاعه بكل فدان دون مراعاة للقصد والاعتدال. الأمر الذي يترتب عليه أن يحرم الفلاح ثمرة عمله طوال العام. بل يخرج في أكثر الأحيان مثقلا بدين لا يستطيع أداءه ولا علاج لهذه الحال بعد تحديد الملكية إلا بإصدار تشريع يقصر نظام التأجير على المزارعة بمعنى اقتسام المحصول بنسبة يتفق عليها كالنصف مثلا لأنها أقرب الصور إلى العدالة (حدد قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 الصادر في 9 سبتمبر 1952 القيمة الايجارية للفدان بسبعة أمثال الضريبة أو اقتسام المحصول بنسبة النصف حال المزارعة).

3- استكمال التشريعات العمالية

بإعادة النظر في التشريعات العمالية الحالية لتشمل جميع فئات العمال بما فيهم العمال الزراعيون. ولتكفل للعامل وأسرته التأمينات الكافية ضد البطالة والإصابات والعجز والمرض والشيخوخة والوفاة ، مع مراعاة جعل الانتساب إلى النقابات اجباريا وإباحة تكوين الاتحادات النقابية وتحديد أجور العمال وفق المبادئ الإسلامية على أسس اقتصادية سليمة مع ضمان حصول العمال على نصيبهم من غلة الإنتاج ، وإلغاء مكافآت أعضاء مجالس أدارة الشركات على أن يكون تقرير هذه الحقوق وحمايتها بنصوص قانونية صريحة (نص القانون رقم 178 لسنة 1952على إنشاء جمعيان تعاونية لصغار الملاك (خمسة أفدنة) كما خول العمال الزراعيين الحق في إنشاء نقابات تدافع عن مصالحهم.

كما حدد القانون رقم 113 الصادر في 19 يوليو 1916 الحد الأقصى لراتب مديري الشركات والمؤسسات بخمسة آلاف جنيها سنويا كما أن القانون رقم 125الصادر في 21يوليو 1961 قد منع شغل أكثر من منصب في الإدارة والحكومة والشركات والمؤسسات. نشير أن التأمينات الاجتماعية الصادرة بالقانون رقم 259 لسنة 1959قد قصر حق الانتفاع بها على بعض الفئات وأن توزيع الأرباح على العاملين قد تقرر بما عرف باسم قرارات يوليو الاشتراكية الصادرة في 1961 ، وقد قصر على العاملين بشركات القطاع العام ومؤسساته وكذلك الشركات المساهمة).

4- إصلاح نظم التوظيف

على أساس تقريب الفوارق بين الحد الأعلى والحد الأدنى للمرتبات والأجور وكفالة الضمانات القانونية والمالية في الخدمة وفي المعاش. وتأمين المرؤوسين ضد أهواء الرؤساء واستبدادهم وتحديد التبعات وتبسيط الإجراءات وإلغاء المركزية.

5- إلغاء النياشين

وذلك تكملة لما تم من إلغاء الرتب وتحقيقا للمساواة الكاملة بين أبناء الوطن الواحد وحتى تكون الأعمال خالصة لله. وكذلك العمل على القضاء على مظاهر البذخ والترف (جدي بالإشارة أن مرشد الإخوان المسلمين المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي كان من بين بعض الأعضاء ممن يحملون لقب البكوية كما نشير أن قرار إلغاء الرتب قد صدر في 3 أغسطس 1952).

6- جعل المسجد مركزا دينيا وثقافيا واجتماعيا

وقد كانت هذه وظيفة المسجد الرئيسية منذ نشأته ولا يتم هذا إلا بتعيين رجال متدينين مثقفين للإشراف على المساجد لا يكتفون بإقامة الصلوات بل يحولون المسجد -وبخاصة في القرى- إلى ندوة حافلة بضروب النشاط والإصلاح ومكافحة الأمية (البيان لم يحدد تسمية رجال دين وهي تسمية تخالف مفهوم الإسلام حيث أن المسلم هو رجل دين ودنيا).


خامسا -الإصلاح الاقتصادي

أن مواد الثروة في مصر بوضعها الحالي لا تكفي لأن يعيش المواطنون معيشة طيبة ولابد من فتح أبواب جديدة للثروة وإصلاح الأوضاع القائمة على أسس سليمة ونقترح لذلك أمورا منها :

1- تحريم الربا وتنظيم المصارف تنظيما يؤدى إلى هذه الغاية وتكون الحكومة قدوة في ذلك بالتنازل عن الفوائد في مشروعاتها الخاصة.

2- تمصير البنك الأهلي وإنشاء مطبعة للإصدار في مصر واستعجال أنشاء دارسك النقود المعدنية (أمم البنك الأهلي بموجب القانون رقم 40 الصادر في 11 فبراير 1960).

3- إلغاء بورصة العقود التي أدت المضاربات فيها إلى زعزعة الاقتصاد القومي والعمل على إصلاح السياسة القطنية بما يحقق مصالح البلاد. (أول سلسلة القوانين المنظمة لتجارة القطن صدرت بالقانون رقم 47 في 6 يونيو 1961 حيث نص على أن يكون التجار والوكالات التجارية من حاملي جنسية الجمهورية العربية المتحدة (زمن الوحدة المصرية السورية بين فبراير 1958 إلى سبتمبر 1961) وأصدر القوانين رقم 69و 70 و 71 و 120 في الفترة من 22 يونيو إلى 20 يوليو 1961 تنظم احتكار اللجنة المصرية للقطن لتجارة هذا النشاط كما نظمت شركات التصدير على أن تكون شركات مساهمة رأسمالها مائتي ألف جنيه يساهم فيها القطاع العام بنصف رأس المال ثم أصدر القرار رقم 972 في 30 يونيو 1961لتنظيم اللجنة المصرية للقطن حيث عرفها بأنها مؤسسة عامة تتمتع بشخصية معنوية وتتبع وزارة الاقتصاد ، وقد ألغيت بورصة العقود في القاهرة والإسكندرية بموجب القانون رقم 116 الصادر في 19 يوليو 1961).

4- استكمال إصلاح الأراضي البور والعناية باستغلال الصحاري المصرية زراعيا ومعدنيا.

5- تصنيع البلاد مع العناية بالصناعات المعتمدة على المواد الأولية المحلية والصناعات الحربية.


سادسا : التربية العسكرية

إن رجال الجيش الباسل هم أولى الناس بإصلاحه ويجب على الدولة ألا تبخل عليه بالمال الذي يهيؤه لتأدية واجباته وأن تعتبر ذلك فريضة لا يؤخرها غيرها من الفرائض ولو اقتضى الأمر الجور على أبواب الميزانية الأخرى ونود أن نشير إلى أمور في التربية العسكرية نجملها فيما يأتي :

1- أن تراعى الآداب والشعائر الدينية في الجيش وأن تقوم العلاقة بين أفراده على أساس الأخوة.

2- أن يوسع نطاق التجنيد بحيث لا يبقى في الأمة –بعد فترة وجيزة- من يستطيع حمل السلاح دون أن يحمله حتى يصبح الشعب كله جيشا كامل الأهبة والعتاد (في 25 أكتوبر 1953 صدر قانون بإنشاء الحرس الوطني). ﴿انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

3- أن تضاعف العناية بالتدريب العسكري في المدارس والجامعات وأن يتسم بالجد والإنتاج إجباريا في مناهج التعليم ويشمل فنون الحرب وأساليب القتال الصحيح.

4- إنشاء جيش إقليمي يتكون من كل فاته الانتظام في الجيش العامل.

5- أن تبادر الحكومة إلى إنشاء مصانع الأسلحة والذخيرة لإمداد الجيش بحاجته منها حتى يستطيع الجيش أن يحقق غاياته في العدد والعدة ومستوى التدريب.


سابعا : البوليس

إن رجال البوليس هم حفظة الأمن الداخلي وهم جزء من الأمة يجب أن تكون علاقتهم معها علاقة أخوة قائمة على أساس من الخلق الفاضل الكريم. لذلك ينبغي أن يطهر البوليس من العناصر الفاسدة التي عاونت الطغاة على إذلال الأمة ومهدت السبيل لزج أبنائها الأبرياء في ظلمات السجون والمعتقلات وأشاعت في البلاد جوا من الفزع والإرهاب لا زالت آثاره حية بيننا. وأن ينزه البوليس عن أن يكون أداة في يد الأحزاب تسخره في مآربها السياسية مستغلة سيطرتها عليه حين تكون في الحكم. ويجب إلغاء البوليس السياسي الذي أساء إلى سمعة البوليس ومد نفوذه بغير حق إلى كثير من مرافق الحياة وهو في حقيقته أثر من آثار الاستعمار البغيضة. ويجب أن يرفع مستوى رجال البوليس وأن يأمنوا في حياتهم وتوثيق روابط الود بينهم وبين رؤسائهم من ناحية وأفراد الأمة من ناحية أخرى.


خاتمة:

هذه خطوط رئيسية في الإصلاح يحتاج كل منها إلى بيان ، وأن المشكلة التي تقابلها الآن ذات ثلاثة أطراف –مظلومون – وظالمون- وأوضاع مكنت الظالم من أن يظلم ولابد لكي يستقيم أمر هذه الأمة مما يلي :

1- أن ترد المظالم إلى أهلها وأن يعاد إلى كل ذي حق حقه فترد إلى المسجونين السياسيين حريتهم. ولقد كانت هذه الصفوة من الشباب الطليعة الأولى التي ثارت في وجه الظلم والطغيان ولا زالت ترسف في أغلالها بينما يتمتع المترفون والجلادون بأهوائهم ، كما ترد الأموال والأرض المغصوبة إلى أهلها ، وأن تتوفر للمواطنين حياة يتحرون فيها من أغلال الإلحاد والفقر وطغيان الطبقة الحاكمة وتجار السياسة.

2- أن يقتص من الظالمين وأن يبعدوا عن الميدان السياسي؛ هؤلاء الذين استباحوا الحرمات واعتدوا على الحريات وداسوا على مقدسات الأمة وجعلوا البلاد مزرعة لشهواتهم واتخذوا العبث بمصالحها مادة للكسب الحرام لأنفسهم وأهليهم وأنصارهم.

3- أن تغير الأوضاع التي مكنت الظالم من أن يظلم وأن يكون التغيير شاملا لكل مرافق الحياة التي استطاع الطغاة أن ينفذوا منها إلى مآربهم.

أما قضية الاستقلال فليس لها إلا حل واحد هو أن يخرج الانجليز من مصر والسودان وأن يخرج كل مستعمر من بلاد الإسلام.

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾ ...

وأن الإخوان المسلمين حين يتقدمون بهذه الخطوط الرئيسية إنما يستوحونها من كتاب الله الذي يأمر بالعدل والإحسان ويحض على الإخاء ورعاية أهل الذمة.

﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾.

ويدعون الله جلت قدرته أن يجمع القلوب على الهدى وأن يحقق للأمة أهدافها وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل ...

والله أكبر ولله الحمد...

المرشد العام

حسن الهضيبي

بيان صريح صدر عن جماعة دون الأخريات من الجماعات السياسية... وهو يحدد بلا ريب أن ثمة علاقة قائمة بين تنظيمي الضباط الأحرار - والإخوان المسلمين. أكانوا على اتفاق في الخطوط العريضة التي أعقبت 23 يوليو ، الإجابة لا تشك في حسن العلاقات بينهما حتى بداية عام 1954 ثم خامرتها ظلال من الشك.

بين التاريخين ، كان الإخوان المسلمون الحركة الوحيدة الوجود على الساحة السياسية المصرية التي كانت تصدر عنها ما نحسبه توجيها مثلما درج البنا في إرسال خطاباته إلى المسئولين المصريين موضحا ما يهم الأمور القومية.. وتلك كانت سنة خلفه ممثلا للجماعة ، وهي أمور بلا شك توحي بالعلاقة بين التنظيمين. مساندة الإخوان في حركة الجيش أكدتها الوثائق وتأييدها بعد نجاحها عبرت عنه غير مرة خطوات بدرت عن المرشد ، وبرنامج إصلاحي اجتماعي أعدته الجماعة .

وفي الوقت الذي اضطرب فيه فهوم الحكم ونظامه لدى القادة الجدد تقدم الإخوان بمشروع دستور إسلامي مقترح للدولة المصرية صاغ مواده المرحوم الدكتور محمد طه بدوي ( توفى عام 1981 وكان أستاذا للقانون العام والعلوم السياسية بكلية التجارة جامعة الإسكندرية) عضو الشعبة القانونية وقد ناقشته لجنة برئاسة المرحوم الأستاذ عبد العزيز عطية (1894-1976) عضو مكتب الإرشاد ورئيس المكتب الإداري للإخوان بالإسكندرية باشتراك كل من الأستاذ على فهمي طمان (محام) والدكتور غربي الجمال (حالياً أستاذ الاقتصاد الإسلامي بمعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة) عضوي الشعبة القانونية ،وقد أقرته الهيئة التأسيسية بتاريخ 16 سبتمبر 1952 ، ومن دراسته التي قدمناها آنفاً يبين معالم النظام الذي تبنوه ودعوا إليه ، وهو النظام الجمهوري الذي أوضحته أيضًا رسالة « أملكية أو جمهورية » لواضع المشروع المقترح وهي التي صدرت في أول ديسمبر 1952 (ألغي النظام الملكي وأعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953).

تلك المعالم التي صاغها تفصيلاً المرحوم الأستاذ صالح عشماوي (توفي عام 1983) عضو مكتب الإرشاد ، حيث كتب في مجلة الدعوة الأسبوعية بتاريخ 15 ديسمبر 1952 «من أجل أن نضمن كل سبل النجاح لتعديل الدستور ، لابد أن تبدأ الحكومة في تعزيز بعض الحريات ، ولابد من التأكيد على حرية الصحافة والتعبير والاجتماع حتى يستطيع الشبع أن يعبر عن آمال ورغباته.أما بشأن الدستور الجديد فيجب إلغاء الرقابة على الصحف على الأقل فيما له تأثير على المسألة الدستورية ، أما بشأن الدستور نفسه فلابد أن يكون مستوحيا من الإسلام ، تلك هي القاعدة الأساسية لدستور مصر الإسلامية التي تتكون غالبية سكانها من مسلمين. وبطبيعة الحال فإن رئيس الدولة لابد أن يكون منتخبا من الشعب وليس مفروضا عليه. إن الإسلام لا يعترف بالنظام الوراثي الذي برهنت العصور على عيوبه وخطره.

كذلك فإن الإسلام لا يعرف القداسة لأي إنسان. فالرئيس لابد أن يكون مسؤولا مباشرة أمام الشعب. إننا نريد أن ينص الدستور على أن الإسلام دين الدولة. وليس هذا كافيا لأن هذا النص قد بقي صياغة ميتة في الدستور القديم. نحن نريد أذن إضافة أن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين في الدولة. نحن نريد أن تضمن حرية التعبير وليس للدعوة إلى الإلحاد والسفاهة ».

ذلك الرأي كان صدى لما كرسه حسن الهضيبي في حديثه لا حدي الصحف ولكن لم ينشر. وقد أورده المنشور الإداري الثالث « إلى الإخوان » حيث أكد على وجوب أن ينص في الدستور على أن القوانين ينبغي أن يكون مصدرها الإسلام. وأن ولى الأمر أياً كان الاسم الذي يطلق عليه يصبح مسؤولا عن أعماله الجنائية والإدارية والمدنية مسؤولية أن شخص من رعاياه بلا تخفيف ولا تمييز. ولكي يكون الاستفتاء سليماً ولا يدعى أحد أن تأثيراً غير مشروع قد وقع عليه ينبغي إلغاء الأحكام العرفية وإلغاء الرقابة العسكرية على الصحف وإباحة الاجتماعات.. وبالجملة توفير كل الضمانات التي تكفل حرية أبداء الآراء.... وأن ولي الأمر لابد أن يكون منتخبا ، وهذا الانتخاب يتنافي مع وراثة العرش .

تلك المبادئ هي أيضًا التي عبر عنها ممثلو الإخوان أعضاء لجنة الدستور المشكلة في يناير 1953. ثم تتابعت الإحداث بعد إلغاء الأحزاب السياسية في 17 يناير 1953. أصبح الإخوان المسلمون الحركة الوحيدة الوجود على الساحة السياسية في مصر.

نشير بهذا الصدر أنه بموجب قانون تنظيم الهيئات والأحزاب الصادر في 9 سبتمبر 1952 بدا تياران أثارا جدلا كاد أن يصل إلى إشعال فتنة في صفوف الإخوان.

أولهما يذهب إلى القول بأن الإخوان المسلمين يجب تسجيلهم كحزب سياسي لأن السياسة جزء من منهاجهم وثانيهما يذهب إلى القول بأن الإخوان المسلمين ليسوا حزبا سياسيا ولكنهم هيئة وكان المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي من أصحاب الرأي الأخير. ولكن الهيئة التأسيسية أخذت بالرأي الأول وتقدمت بالأخطار الأول الذي أدخلهم في نطاق هذا القانون بعد القرار الصادر عن الهيئة التأسيسية بتعديل نظام الجماعة الذي جعل مدة رئاسة المرشد ثلاث سنوات بدلا من أن يكون منتخبا مدى الحياة ، وأن عدد الأعضاء المؤسسين يبلغ 150 عضوا ، عندئذ قدم الأستاذ حسن الهضيبي استقالته إلى الهيئة التأسيسية التي اجتمعت مرة أخرى ونظرت فيما قدمه المرشد من أسباب أولها مضمون ما نادي به حسن البنا في رسالة « بين الأمس واليوم » وموصيا الإخوان بقوله « أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضعية الأغراض محددة المقاصد ، ولكنكم روح جديد يسرى في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ، ونور جديد يشرق فيبدد الظلام ، ظلام المادة بمعرفة ا لله ، وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس ، وإذا قيل لكم الأم تدعون؟ فقولوا ندعو للإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه ، فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام .

وهكذا رد المرشد أعضاء الهيئة التأسيسية إلى الأصل الذي نادوا به وما كان له أن يغير في أهدافها أو غايتها ، فقررت الهيئة التأسيسية العدول عن طلب التسجيل كحزب سياسي ورأت أنهم لا يعتبرون الحكم من وسائلهم في الوقت الحاضر ، وعلى هذا فلن يدخل الإخوان الانتخابات كهيئة إذا أجريت الانتخابات مع الاحتفاظ لأنفسهم بحق التوجيه والنقد في الأمور السياسية والوطنية وقدموا أخطارهم الثاني بالعدول في 7 نوفمبر 1952فخرجوا من نطاق قانون الأحزاب السياسية .

العلاقة إذن بين التنظيمين كانت وثيقة الصلة. تعاون في سبيل القضاء على نظام ملكي متهالك تسانده قوات الاحتلال. بيان بالأهداف الوطنية صادر عن نكتب الإرشاد العام وصدقت عليه الهيئة التأسيسية. معالم نظام دستوري مقترح.

عفو خاص صدر في 11أكتوبر 1952عن المحكوم عليهما في قضية مقتل المستشار أحمد الخازندار الذي قتل لأنه حكم بالإدانة في بعض عمليات الاغتيال ضد أفراد القوات البريطانية (وكانت محكمة الجنايات قد استعملت الرأفة مع من صدرت بحقهما أحكامها وقضت عليهما في شهر نوفمبر 1948 بالأشغال الشاقة المؤبدة ، وأطلق سراحهما بموجب العفو الخاص) كما صدر أيضًا في نفس التاريخ عفو خاص عن المحكوم عليهم بالإشغال الشاقة لاشتراكهم في مقتل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء الأسبق ، وقد أفرج عن هؤلاء قبل صدور المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 في 16 أكتوبر 1952 بالعفو الشامل عن الجرائم السياسية التي وقعت في المدة من توقيع معاهدة 1936 إلى 23يوليو 1952 أو المتهمين في قضايا سياسية خلال هذه المدة ولم تزل قضاياهم منظورة أمام المحاكم.

علاقة تؤكدها بعض مظاهر الود حيث احتفل الإخوان المسلمون بالمولد النبوي في مركزهم العام بتاريخ 3 ديسمبر 1952 حيث زارهم ضباط القيادة وعلى رأسهم محمد نجيب الذي أشاد في كلمة ألقاها بروحهم وجهادهم ثم صحبتهم للمرشد العام حسن الهضيبي في جمع من الوزراء وضباط الثورة إلى قبر حسن البنا بمناسبة الذكرى الرابعة لاستشهاده حيث ألقى محمد نجيب كلمته التي جاء فيها « أن الإمام الشهيد حسن البنا أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم ولا يرقى النسيان إلى منازلهم لأنه رحمه الله لم يعش لنفسه ، بل عاش للناس ، ولم يعمل لمنفعته الخاصة ، بل عمل للصالح العام ». وإعادة التحقيق في قضية اغتياله وتقديم إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء الأسبق المتهم بإصدار أوامر التعذيب ضد الإخوان عام 1949 إلى محكمة الثورة في سبتمبر عام 1953 التي أصدرت حكمها بإعدامه بعد أدانته (خفف إلى السجن المؤبد وأفرج عنه صحيا في فبراير 1954). تعيين بضع الإخوان المسلمين في المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي وقد صدر به مرسوم قانون في 2 أكتوبر 1952 ومهمته بحث المشروعات الاقتصادية التي تكون من شأنها تنمية الإنتاج القومي في النواحي الزراعية والصناعية والتجارية وكذلك في المجلس الدائم للخدمات العامة الذي صدر قانون رقم 493 في 17 أكتوبر 1953 بإنشائه.

وكان الهدف من إنشائه بحث السياسة العام ووضع الخطط الرئيسية للتعليم والصحة والعمران والإشراف على المرافق العامة والشؤون الاجتماعية (قد عين في لجنة التعليم المرحوم الأستاذ سيد قطب ، والدكتور حسين كمال الدين في مجلس الإنتاج وغيرهما)..

دامت هذه العلاقة الوطيدة خلال عام 1953 وما تخلل آخره من بعض مظاهر الانقسام الداخلي في جماعة الإخوان المسلمين من حيث فصل بعض القائمين على نشاط الجهاز الخاص الذي حد المرشد العام منه بعد انتخابه في 18أكتوبر 1951 معلنا أن لا إرهاب في الدعوة (بتاريخ 2نوفمبر 1953 ، أعلن عن فصل أربعة من أعضاء هذا الجهاز هم : أحمد زكي حسن وأحمد الصباغ وأحمد عادل كمال وعبد الرحمن السندي رئيس هذا الجهاز وصديق مقرب إلى جمال عبد الناصر).

لاشك أن هذه الأحداث التي وقعت حوول استغلالها من وراء الكواليس من حيث استغلال واقعة هذا الانشقاق الذي وقع –وهي ظاهرة عامة نلقاها في جميع الجماعات والأحزاب- كذلك يمكن النظر إلى إنشاء الحرس الوطني في 25 أكتوبر 1953 ومنظمة الشباب التابعة لهيئة التحرير بمثابة الخطوة الأولى في اتجاه إنشاء ثقل معادي للإخوان المسلمين في نفس الوقت الذي بدأ فيه جمال عبد الناصر ينشط في شد أزر مجموعة المنشقين الذين فصلوا من الجماعة فجاء قرار حل الجماعة في يناير 1954بعد فشله في محاولة استغلال هذا الانشقاق. وأورد قرار الحل الذي نشرته جريدة الأهرام في 15يناير 1954 في صفحتها الأولى ثلاثة عشر اتهاما لجماعة الإخوان المسلمين وأطلق العنان لحملة صحفية مكثفة ضد المرشد العام المرحوم حسن الهضيبي وشددت إجراءات أمن صارمة وربطت الحملة الصحفية الموجهة بين عدد من العناصر لا رابط بينها بل والمتعارضة أحيانًا؛ أولها : المعاهدة السرية بين الهضيبي والبريطانيين والزعم أنها تضمنت قبوله شروطاً للجلاء منها مبدأ الدفاع المشترك مع الغرب والخبراء العسكريين والتحالف مع الإنجليز بعد الجلاء مع التنويه الخاص إلى سرية تلك المفاوضات ، وهي اتهامات ومزاعم كذبتها شهادة شهود لا نشك في نزاهة قولهم وهي لبعض من تعاونوا مع جمال عبد الناصر في سني حكمه. الزعيم

يقول قرار الحل الذي نشره الأهرام:

« قرر مجلس قيادة الثورة حل جماعة الإخوان المسلمين لتآمرهم مع رجال السفارة البريطانية على قلب نظام الحكم الحاضر. فقد أصدر المجلس في اجتماعه برياسة البكباشي جمال عبد الناصر نائب الرئيس ما يلي :

« تعتبر جماعة الإخوان المسلمين حزبا سياسياً ويطبق عليها أمر مجلس قيادة الثورة الخاص بحل الأحزاب السياسية...

أن الثورة حينما حلت الأحزاب لم تطبق أمر الحل على الإخوان أبقاء عليهم وأملا فيهم وانتظار لجهودهم وجهادهم في معركة التحرير ، ولكن نفرا من الصفوف الأولى في هيئة الإخوان أرادوا أن يسخروا هذه الهيئة لمنافع شخصية وأهواء ذاتية مستغلين سلطان الدين على النفوس ، وقد أثبتت تسلسل الحوادث أن هذا النفر من الطامعين استغلوا هيئة الأخوان والنظم التي تقوم عليها لأحداث انقلاب في نظام الحكم تحت شعار الدين ، وسارت الحوادث بين الثورة والإخوان بالتسلسل الآتي :

1- في صباح يوم الثورة استدعى الأستاذ حسن العشماوي لسان حال المرشد العام إلى مقر قيادة الثورة في كوبري القبة ، وكلف أن يطلب من المرشد العام إصدار بيان بتأييد الثورة ، ولكن المرشد بقي في مصيفه بالإسكندرية لائذا بالصمت ، فلم يحضر إلى القاهرة إلا بعد أن العلماء الملك ، ثم أصدر بياناً مقتضبا طلب بعده أن يقابل أحد رجال الثورة فقابله جمال عبد الناصر في منزل صالح أو رقيق الموظف بالمجامعة العربية. وقد بدأ المرشد حديثه مطالباً بتطبيق أحكام القرآن في الحال ، فرد عليه جمال أن هذه الثورة قامت حربا على الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني ، وهي بذلك ليست إلا تطبيقا لتعاليم القرآن الكريم ، فانتقل المرشد العام بالحديث إلى تحيد الملكة وقال إن رأيه أن يكون الحد الأقصى 500 فدان (نرجو أن يعود القارئ إلى ما أورده بيان مكتب الإرشاد وصدقت عليه الهيئة التأسيسية ونشره الأهرام في 2 أغسطس 1952) ، فرد عليه جمال قائلا : إن الثورة رأت التحديد بمائتي فدان وهي مصممة على ذلك ، فانتقل المرشد بالحديث قائلا أن يرى لكي تؤيد هيئة الإخوان الثورة أن يعرض عليه أي تصرف للثورة قبل إقراره ، فرد عليه جمال قائلا بأن هذه الثورة قامت بدون وصاية أحد عليها ، وهي لن تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد وإن كان هذا لا يمنع القائمين على الثورة من التشاور في السياسة العامة مع كل المخلصين من أهل الرأي دون التقيد بهيئة من الهيئات ، ولم يلق الحديث قبولا من نفس المرشد.

2- سارعت الثورة بعد نجاحها في إعادة الحق إلى نصابه ، وكان من أول أعمالها أن أعادت التحقيق في مقتل الأستاذ حسن البنا فقبضت على المتهمين في الوقت الذي كان فيه المرشد لا يزال في مصيفه بالإسكندرية .

3- طالبت الثورة الرئيس السابق على ماهر بمجرد تولية الوزارة أن يصدر عفوا شاملا عن المعتقلين والمسجونين السياسيين ، وفي مقدمتهم الإخوان وقد نفذ هذا فعلا بمجرد تولي الرئيس نجيب رياسة الوزارة.

4- حينما تقرر إسناد الوزارة إلى الرئيس نجيب تقرر أن يشترك فيها الإخوان المسلمون بثلاثة أعضاء ، على أن يكون أحدهم الأستاذ حسن الباقوري ، وقد تم اتصال تليفوني بين اللواء عبد الحكيم عامر والمرشد ظهر يوم 7 سبتمبر 1952 فوافق على هذا الرأي قائلا أنه سيبلغ القيادة الاسمين الآخرين ، ثم حضر الأستاذ حسن العشماوي المحامي إلى القيادة في كوبري القبة ، وأبلغ جمال عبد الناصر أن المرشد يرشح للوزارة الأستاذ منير الدولة الموظف في مجلس الدولة والأستاذ حسن العشماوي ، وقد عرض هذا الترشيح على مجلس قيادة الثورة فلم يوافق عليهما ، وطلب جمال من العشماوي أن يبلغ ذلك إلى المرشد ليرشح غيرهما ، وفي نفس الوقت اتصل جمال بالمرشد فقال الأخير أنه سيجتمع بمكتب الإرشاد في الساعة السادسة ويرد عليه بعد هذا الاجتماع ، وقد أعاد جمال الاتصال مرة أخرى بالمرشد فرد عليه أن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة فلما قال له لقد أخطرنا الشيخ الباقوري بموافقتك ، وطلبنا منه أ ، يتقابل مع الوزراء في الساعة السابعة لحلف اليمين ، أجاب بأنه يرشح بعض أصدقاء الإخوان لاشتراك في الوزارة ولا يوافق على ترشيخ أحد من الإخوان ، وفي اليوم التالي صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل الشيخ الباقوري من هيئة الإخوان ، فاستدعي جمال عبد الناصر الأستاذ حسن العشماوي وعاتبه على هذا التصرف الذي يظهر الإخوان بمظهر الممتنع عن تأييد وزارة الرئيس نجيب ، وهدد بنشر جميع التفاصيل التي لازمت تشكيل الوزارة ، فكان رد الأستاذ حسن العشماوي أ ، هذا النشر يحدث الفرقة في صفوف الإخوان ويسئ لموقف المرشد ورجاء عدم النشر .

5- عندما طلب من الأحزاب أن تقدم إخطارات عن تكوينها قدم الأخوان أخطارا باعتبارهم حزبا سياسيا ، وقد نصحت الثورة رجال الأخوان بألا يتردوا في الحزبية ويكفي أن يمارسوا دعوتهم الإسلامية بعيدا عن غبار المعارك السياسية والشهوات الحزبية ، وقد ترددوا بادئ الأمر ثم استجابوا قبل انتهاء موعد تقديم الإخطارات وطلبوا اعتبارهم هيئة وطلبوا من جمال عبد الناصر أ ، يساعدهم في تصحيح الأخطار فذهب إلى وزارة الداخلية حيث تقابل مع المرشد في مكتب الأستاذ سليمان حافظ وزير الداخلية وقتئذ ، وتم الاتفاق على أن تطلب وزارة الداخلية من الإخوان تفسيرا عما إذا كانت أهدافهم سيعمل على تحقيقها عن طريق أسباب الحكم كالانتخابات وأن يكون رد الإخوان بالنفي حتى لا ينطبق عليهم القانون.

6- وفي صبيحة يوم صدور قرار حل الأحزاب في يناير سنة 1953 حضر إلى مكتب جمال عبد الناصر الصاغ صلاح شادي والأستاذ منير الدله وقالا له : الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من مؤيد للثورة إلا هيئة الإخوان ولهذا فإنهم يجب أن يكونوا في وضع يمكنهم من أن يردوا على كل أسباب التساؤل –فلما سألهم ما هو هذا الوضع المطلوب ، أجبا بأنهم يريدون الاشتراك في الوزارة ، فقال لهما إننا لسنا في محنة ، وإذا كنتم تعتقدون أ ، هذا الظرف هو ظرف المطالب وفرض الشروط فأنتم مخطئون ، فقالوا له إذا لم توافق على هذا فإننا نطالب بتكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها ، وهذا هو سبيلنا لتأييدكم أن أردتم التأييد ، فقال لهم جمال لقد قلت للمرشد سابقا إننا لن نقبل الوصاية ، وإنني أكررها اليوم مرة أخرى في عزم وإصرار.

وكانت هذه الحادثة في نقطة التحول في موقف الإخوان من الثورة وحكومة الثورة. إذ دأب المرشد بعد هذا على إعطاء تصريحات صحفية مهاجما فيها الثورة وحكومتها في الصحافة الخارجية والداخلية ، كما كانت تصدر الأوامر شفويا إلى هيئات الإخوان بأن يظهروا دائما في المناسبات التي يعقدها رجال الثورة بمظهر الخصم المتحدي.

7- لما علم المرشد بتكوين هيئة التحرير تقابل مع جمال في مبنى القيادة بكوبري القبة وقال أنه لا لزوم لإنشاء هيئة التحرير ما دام الإخوان قائمين ، فرد عليه جمال أن في البلاد من لا يرغب في الانضمام للإخوان وأن مجال الإصلاح متسع أمام الهيئتين ، فقال المرشد إنني لن أؤيد هذه الهيئة ، وبدأ منذ ذلك اليوم في محاربة هيئة التحرير وإصداره أوامره بإثارة الشغب واختلاف المناسبات لإيجاد جو من الخصومة بين أبناء الوطن الواحد .

8- وفي شهر مايو سنة 1953 ثبت لرجال الثورة أن هناك اتصالا بين بعض الإخوان المحيطين بالمرشد وبين الإنجليز عن طريق الدكتور محمد سالم الموظف في شركة النقل والهندسة ، وقد عرف جمال من حديثه مع الأستاذ حسن العشماوي في هذا الخصوص أنه حدث اتصال فعلا بين الأستاذ منير الدله والأستاذ صالح أبو رقيق ممثلين للإخوان وبين مستر ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية ، وأن هذا الحديث سيعرض حينما يتقابل جمال والمرشد ، وعندما التقى جمال مع المرشد ، أظهر له استياءه من اتصال الإخوان بالإنجليز والتحدث معهم في القضية الوطنية ، الأمر الذي يدعوا إلى التضارب في القول وإظهار البلاد بمظهر الانقسام.

ولما استجوب الدكتور محمد سالم عن موضوع اتصال الإنجليز بالمرشد ومن حوله قال أن القصة تبتدئ وقت أن كان وفد المحادثات المصري جالسا يتباحث رسميا مع الوفد البريطاني ، وفي إبريل سنة 1953أتصل به القاضي جراهام بالسفارة البريطانية وطلب منه أ ، يمهد مقابلة بين مستر ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية وبعض قادة الإخوان ، وأنه أي محمد سالم أمكنه ترتيب هذه المقابلة من منزله بالمعادي بين منير الدله وصالح أبو رقيق عن الإخوان ومستر ايفانز عن الجانب البريطاني ، وتناول الحديث موقف الإخوان من الحكومة وتباحثوا في تفاصيل القضية المصرية ، ورأي الإخوان وموقفهم من هذه القضية –ثم قال الدكتور محمد سالم أنه جاء في رأى قادة الإخوان أن عودة الإنجليز إلى القاعدة تكون بناء على رأى لجنة مشكلة من المصريين والإنجليز وأن الذي يقرر خطر الحرب هي هيئة الأمم المتحدة. ولعل هذا هو السبب في تمسك الإنجليز بهذا الرأي الذي لم يوافق عليه الجانب المصري للمفاوضات حتى اليوم.

ثم قال الدكتور محمد سالم في اجتماع آخر مماثل في منزله أيضًا حيث طلب مستر ايفانز مقابلة المرشد ، فوعد منير الدله بترتيب هذا الاجتماع ، وفعلا تم في منزل المرشد ودار في هذا الاجتماع الحديث عن القضية المصرية وموقف الإخوان منها ، وذكر الدكتور محمد سالم أن مستر ايفانز دعا منير الدله وصالح أبو رقيق لتناول الشاي في منزله ، وقد أجابا دعوته مرتين .

9- وفي أوائل شهر يونيو 1953 ثبت لإدارة المخابرات أن خطة الإخوان قد تحولت لبث نشاطها داخل قوات الجيش والبوليس ، وكانت خطتهم في الجيش تنقسم إلى قسمين :

القسم الأول : ينحصر في عمل تنظيم سرى بين الإخوان وبين ضباط الجيش ، ودعوا فيمن دعوا عددا من الضباط وهم لا يعلمون أنهم من الضباط الأحرار ، فسايروهم وساروا معهم في خطتهم وكانوا يجتمعوا بهم اجتماعات أسبوعية وكانوا يتحدثون في هذه الاجتماعات عن الأعداد لحكم الإخوان المسلمين والدعوة ، إلى ضم عدد كبير من الضباط ليعملوا تحت إمرة الإخوان وكانوا يأخذون عليهم عهدا وقسما أن يطيعوا ما يصدر إليهم من أوامر المرشد.

أما القسم الثاني : فكان ينحصر نشاطه في عمل تشكيلات بين ضباط البوليس ، وكان الغرض منها هو إخضاع نسبة كبيرة من ضباط البوليس لأوامر المرشد أيضًا ، وكانوا يجتمعون في اجتماعات دورية أسبوعية ، وينحصر حديثهم فيها في بث الحقد والكراهية لرجال الثورة ورجال الجيش وبث الدعوة بين ضباط البوليس بأنهم أحق من رجال الجيش بالحكم نظرا لاتصالهم بالشعب ، وكانوا يمنونهم بالترقيات والمناصب بعد أن يتم لهم هدفهم ، وكان يتزعمهم الصاغ صلاح شادي الذي طالما ردد في اجتماعاته بهم أنه وزير الداخلية المقبل.

وقسم ثالث أطلق عليه قسم الوحدات ، وكان الغرض منه هو جمع أكبر عدد ممكن من ضباط الصف بالجيش تحت إمرة المرشد أيضًا ، وكانوا يجتمعون بهم في اجتماعات سرية أسبوعية وكان الحديث يشتمل على بث الكراهية للضباط في نفوس ضباط الصف وأشعارهم بأنهم القوة الحقيقية في وحدات الجيش وأنهم إذا ما نجح الإخوان في الوصول إلى الحكم فسيعاملون معاملة كريمة. كما كان يقوم هذا القسم ببث الدعوة لجمع أكبر عدد من صف ضباط وجنود ليكون تحت أمرة المرشد العام للإخوان.

ولما تجمعت هذه المعلومات لإدارة المخابرات اتصل جمال عبد الناصر بحسن العشماوي باعتباره ممثلا للمرشد وصارحه بموقف الإخوان العام ثم بموقف الإخوان في داخل الجيش وما يدبرونه في الخفاء بين قوات الجيش والبوليس وقال له : لقد أمناكم لكن هذه الحوادث تظهر أنكم تدبرون أمرا سيجني على مصير البلاد ، ولن يستفيد منه إلا المستعمر وإنني أنذر أننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه التصرفات التي تجب أن توقف إيقافا كاملا ، ويجب أن يعلم الإخوان أن الثورة إنما أبقت عليهم بعد أن حلت جميع الأحزاب لاعتقادها أن في بقائهم مصلحة وطنية فإذا ما ظهر أن في بقائهم ما يعرض البلاد للخطر فإننا لن نتردد في اتخاذ ما تعليه مصلحة البلاد مهما كانت النتائج ، فوعد أن يتصل بالمرشد في هذا الأمر وخرج ولم يعد حتى الآن.

وفي اليوم التالي استدعى جمال عبد الناصر الصيدلي خميس حميده نائب المرشد والشيخ سيد السابق وأبلغهم ما قاله لحسن العشماوي في اليوم السابق ، وأظهرا الاستياء الشديد وقالا أنهما لا يعلمان شيئا عن هذا ، وأنهما سيبحثان الأمر ويعملان على وقف هذا النشاط الضار.

ورغم هذا التحذير وهذا الإنذار استمر العمل حثيثا بين صفوف الجيش والبوليس وأصبح الكلام في الاجتماعات الدورية يأخذ طابع الصراحة وطابع الحقد فكانوا يقلبون الخطط في هذه الاجتماعات بحثا عن أسلم الطرق لقلب نظام الحكم وكان الأحرار المنبثون في هذه التشكيلات يبلغون أولا بأول عما يدور في كل اجتماع .

10- بعد أن تعين الأستاذ الهضيبي مرشدا للإخوان لم يأمن إلى أفراد الجهاز السري الذي كان موجود في وقت السيد حسن البنا برياسة السيد عبد الرحمن السندي. فعمل على أبعاده معلنا بأنه لا يوافق على التنظيمات السرية لأنه لا سرية في الدين ، ولكنه في الوقت نفسه بدأ في تكوين تنظيمات سرية جديدة تدين له بالولاء والطاعة بل عمد إلى التفرقة بين أفراد النظام السري القديم ليأخذ منه إلى صفه أكبر عدد ليضمهم إلى جهازه السري الجديد –وفي هذه الظروف المريبة قتل المرحوم المهندس سيد فايز عبد المطلب بواسطة صندوق من الديناميت وصل إلى منزله على أنه هدية من الحلوى لمناسبة عيد المولد النبوي ، وقد قتل معه بسبب الحادث شقيقه الصغير البالغ من المر تسع سنوات وطفله صغيرة كان تسير تحت الشرفة التي انهارت نتيجة الانفجار .

وكان المعلومات ترد إلى المخابرات أن المقربين من المرشد يسيرون سيرا سريعا في سبيل تكوين جهاز سري قوي ويسعون في نفس الوقت إلى التخلص من المناوئين لهم من أفراد الجهاز السري القديم.

11- وكانت نتيجة ذلك أن حدث الانقسام الأخير بين الإخوان واحتل فريق منهم دار المركز العام. وقد حضر إلى منزل جمال عبد الناصر بعد منتصف ليل ذلك اليوم الشيخ محمد فرغلي والأستاذ سعيد رمضان مطالبين بالتدخل ضد الفريق الآخر ومنه نشر الحادث ، فقال لهم جمال أنه لن يستطيع منع النشر حتى لا يؤول الحادث تأويلات ضارة بمصلحة البلاد ، أما من جهة التدخل فهو لا يستطيع أن يتدخل بالقوة حتى لا تتضاعف النتائج وحتى لا يشعر الإخوان أن الثورة تنصر فريقا على فريق ، وأنه يرى أن يتصالح الفريقان وأن يعملا على تصفية ما بينهما ، فطلب منه الشيخ فرغلي أن يكون واسطة بين الفريقين ، وأن يجمعه مع الأستاذ صالح عشماوي ، فطلب منه جمال أن يعود في اليوم التالي في الساعة العاشرة صباحا ، وأنه سيعمل على أن يكون الأستاذ صالح موجودا ، وفي الموعد المحدد حضر الشيخ فرغلي ، ولم يمكن الاتصال بالأستاذ صالح عشماوي ، وكان الشيخ فرغلي متلهفا على وجود الأستاذ عشماوي ، مما دعا جمال أن يطلب من البوليس الحربي البحث عن الأستاذ صالح عشماوي واحضاره إلى المنزل –وتمكن البوليس الحربي في الساعة الثانية عشرة من العثور على الأستاذ صالح عشماوي وإحضاره إلى المنزل- فحضر هو والشيخ سيد سابق إلى منزل جمال وبدأ الطرفان يتعاتبان. وأخيرا اتفقا على أن تشكل لجنة يوافق على أعضائها الأستاذ صالح عشماوي للبحث فيما نسب إلى الإخوان الأربعة المفصولين وإنما يعتبرون تحت التحقيق ، والعمل أن يسود السلام المؤتمر الذي كان مزمعا عقده في دار المركز العام في عصر ذلك اليوم ، ولكن لم ينفذ هذا الاتفاق.

12- وفي يوم الأحد 10 يناير سنة 1954 ذهب الأستاذ حسن العشماوي العضو العامل بجماعة الإخوان وأخو حرم منير الدله إلى منزل مستر كريزويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية ببولاق الدكرور الساعة السابعة صباحا ، ثم عاد لزيارته أيضًا في نفس اليوم في مقابلة دامت من الساعة الرابعة بعد الظهر إلى الساعة الحادية عشر من مساء نفس اليوم ، وهذا الحلقة من الاتصالات بالإنجليز تكمل الحلقة الأولى التي روى تفاصيلها الدكتور محمد سالم.

13- وكان آخر مظهر من مظاهر النشاط المعادي الذي قامت به جماعة الإخوان هو الاتفاق على إقامة احتفال بذكرى المنيسي وشاهين يوم 12الجاري (يناير سنة 1954) في جامعتي القاهرة والإسكندرية في وقت واحد ، وأن يعملوا جهدهم لكي يظهروا بكل قوتهم في هذا اليوم وأن يستغلوا هذه المناسبة استغلال سياسيا في صالحهم ويثبتوا للمسئولين أنهم قوة وأن زمام الجماعة في أيديهم وحدهم ، وفعلا تم اجتماع لهذا الغرض برياسة عبد الحكيم عابدين حضره حسن دوح المحامي ومحمود أبو شلوع ومصطفى البساطي من الطلبة ، واتفقوا على أن يطلبوا من الطلبة الإخوان الاستعداد لمواجهة أي احتمال يطرأ على الموقف خلال المؤتمر حتى يظهروا بمظهر القوة وحتى لا يظهر في الجامعة أي صوت آخر غير صوتهم ، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض اتصلوا بالطلبة الشيوعيين رغم قلتهم وتباين وجهات النظر بينهم ، وعقدوا معهم اتفاقا وديا يعمل به خلال المؤتمر.

وفي صباح 12 الجاري عقد المؤتمر وتكتل الإخوان في يوم الجامعة وسيطروا على الميكروفون ، ووصل إلى الجامعة أفراد منظمات الشباب من طلبة المدارس الثانوية ومعهم ميكروفون مثبت على عربة للاحتفال بذكرى الشهداء ، فتحرش بعض الطلبة الإخوان وطلبوا إخراج ميكروفون منظمات الشباب ، وانتظم الحفل وألقيت كلمات من مدير الجامعة والطلبة ،وفجأة إذا بعض الطلبة من الإخوان يحضرون على الاجتماع ومعهم نواب صفوي زعيم فدائيات إسلام في إيران حاملينه على الأكتاف ، وصعد إلى المنصة وألقى كلمة ، وإذا بطلبة الإخوان يقابلونه بهتافهم التقليدي « الله أكبر ولله الحمد ». وهنا هتف طلبة منظمة الشباب « الله أكبر والعزة لمصر ». فساء طلبة الإخوان أن يظهر صوت في الجامعة مع صوتهم ، فهاجموا الهاتفين بالكرابيج والعصي وقلبوا عربة الميكروفون وأحرقوها وأصيب البعض إصابات مختلفة ثم تفرق الجميع إلى منازلهم.

حدث كل هذا في الظلام وظن المرشد وأعوانه أن المسئولين غافلون عن أمرهم ، لذلك فنحن نعلن باسم هذه الثورة التي تحمل أمانة أهداف هذا الشعب أن مرشد الإخوان ومن حوله قد وجهوا نشاط هذه الهيئة توجيها يضر بكيان الوطن ويعتدي على حرمة الدين. ولن تسمح الثورة أن تتكرر في مصر مأساة رجعية باسم الدين ، ولن تسمح لأحد أن يتلاعب بمصائر هذا البلد بشهوات خاصة مهما كانت دعواها ، ولا أن يستغل الدين في خدمة الأغراض والشهوات ، وستكون إجراءات الثورة حاسمة وفي ضوء النهار وأمام المصريين جميعا.

هذا ما ورد في قرار مجلس قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين فما وجه الدفاع الذي نجده في منشور بعنوان « هذا بيان للناس » أعده المرحوم الأستاذ بعد القادر عوده فيذكر « يطالب بعض الإخوان بالرد على أسباب حل الجماعة وفيها يلي الرد مؤثرين في تناول المسائل الدفع بالتي هي أحسن :

1- أخذ على فضيلة المرشد أنه لما طلب منه بيان بتأييد الثورة في يومها الأول بقي لائذا بالصمت ولم يحضر إلى القاهرة إلا بعد عزل الملك ثم أصدر بيانا مقتضبا .

2- والرد على ذلك أن الإخوان جميعا أيدوا ا لثورة منذ اللحظة الأولى في غير تحفظ وبكل قوة ولم يكن ذلك إلا بأمر المرشد ولا يهم بعد ذلك أن يحضر للقاهرة أو أن يبقى في الإسكندرية ولا أهمية لطول البيان أو قصره إذ العبرة بأثره.

وأخذ على فضيلته أنه طالب بتطبيق أحكام القرآن وما من حرج عليه في ذلك فإنما يطالب بأمانة الدعوة التي حملها ، ولو سكت لتنكر لما يدعو الناس إليه. والاختلاف على الحد الأدنى للملكية اختلاف في وجهات النظر وقد أبدي المرشد رأيه مؤيدا بحججه ونشرته الصحف على العالم أجمع ، والمطالبة بتغيير الرأي أشبه بالتحكم في آراء الناس ، وهي من الناحية الأخرى رياء ونفاق والرجل الكريم لا يحب أن يتحكم في رأيه أحد ولا أن يساير أحدا على رأي آخر ولو علم أن رأيه سينبذ.

ولا محل لمؤاخذه المرشد على ما طلبه من عرض التصرفات على هيئة الإخوان قبل أقرارها فذلك حق لا يجادل فيه إنسان لأن تأييد هيئة الإخوان لتصرف ما يحملها مسئوليته ولا يصح أن تتحمل الهيئة مسئولية أعمال وتصرفات لا رأي لها فيها.

2 ، 3- أما مسارعة الثورة بإعادة التحقيق في قضية الإمام الشهيد حسن البنا ومطالبة الرئيس على ماهر بإصدار عفو عن المسجونين السياسيين فذلك واجب رأي رجال الثورة أداءه ، فإن شاءوا أن يذكروا الناس بما فعلوا فنحن لم ننسى بعد ما فعلوا ولعلهم لا ينسون ما فعلنا.

4- ظاهر من البند الرابع من بنود بيان الحل أن قيادة الثورة هي التي قررت من تلقاء نفسها أن يشترك الإخوان في الوزارة ، وأن الإخوان قرروا عدم الاشتراك في الوزارة ، وإذن فالبيان يعترف أن الأخوان عرضت عليهم الوزارة فرفضوها ومعنى هذا أنهم ليسوا طلاب حكم.

أما ما جاء في هذا البند من تفصيلات أخرى عن الترشيح وعن الأستاذ الباقوري فهذه مسألة داخلية تهم الجماعة وحدها فلا محل لأن يتعرض لها غيرها بعد أن انتهت منها.

5- أما أن البكباشي جمال عبد الناصر تدخل في تصحيح الأخطار عن الجماعة فقد كان التدخل على أساس أبعاد الجماعة عن الحكم فإن كان قد تدخل وهو يعلم أنه غير محق فذلك شأنه وأن كان قد تدخل وهو يعلم أنه محق فذلك أمر طبيعي.

6- وإذا صح ما قيل عن بعض الإخوان من طلب تأليف لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها كشرط لتأييد الأخوان لتصرفات رجال الثورة إذا صح ذلك فليس فيه خروج على فكرة الإخوان التي اتجهت من أول الأمر إلى أن تأييد الإخوان لتصرفات رجال الثورة يقتضي أن يعلم الإخوان بهذه التصرفات وأن يقروها قبل تأييدها. وليس في ذلك إلا معنى التأييد للثورة والخشية من الأخطاء والحرص على استدامة العلاقات الطيبة.

ولقد اعتبر البيان هذا الطلب نقطة تحول دأب المرشد بعدها على إعطاء تصريحات يهاجم فيها الثورة ورجالها وإصدار أوامر للإخوان بأن يظهروا بمظهر الخصم المتحدي.

ونحن لا نرى أنه حدث أي تحول ، ولا نعتقد أن هناك ما يستدعي التحول ، وكنا نود لو أن البيان جاءنا ببعض هذه التصريحات التي هاجم فيها المرشد رجال الثورة أو جاءنا بعينة من الأوامر التي صدرت للإخوان بأن يظهروا بمظهر التحدي وعلى كل حال فإنه لن يعيب الأستاذ المرشد أن يقول ما يعتقده حقا أو أن يتقدم للحاكم بالنصيحة التي هي واجبة على كل مسلم.

7- أما ما ذكر عن معارضة المرشد في إنشاء هيئة التحرير فقد كان رأي جميع الإخوان ، ولم يكن هذا الرأي لأن الإخوان يخشون منافسة أية هيئة ، فقد نافسوا الهيئات جميعا وعاشوا في سلام ، ولكن الإخوان كانوا يضنون برجال الثورة أن ينزلوا من علياء الثائرين الموجهين لعامة الشعب إلى مستوى الحزبية ، وكان الإخوان يودون أن يبقى رجال الثورة متجردين ليكون لتوجيههم السليم أثره السريع وحتى لا تكون شبهة الحزبية عائقا من عوائق الإصلاح.

8- ولقد أخذ على بعض الإخوان اتصالهم بالإنجليز في الوقت الذي أحاطهم المرشد فيه علما بذلك. أن الاتصال بالإنجليز أو بغيرهم من الأجانب ليس عيبا وليس عملا يحرمه الإسلام والقانون الوضعي اللهم إلا إذا كان يقصد الخيانة أو التآمر.

ولعل مما يؤكد أن الأمر ليس فيه خيانة ولا تآمر أن الدكتور محمد سالم الذي اعتبره البيان وسيطا لا يزال مطلق السراح متمتعا بحريته.

يجدر الإشارة أن في ملفات الخارجية البريطانية التي أذيعت مع بداية عام 1985 يذكر السفير البريطاني آنئذ في القاهرة في الملف رقم 2/ 105/ 1054 ف ج ، قول المرحوم الدكتور محمود فوزري وزير الخارجية المصرية وقتئذ أن بيان الحكومة الذي جرى فيه اتهام حسن العشماوي بالسفارة البريطانية يجب قراءته في إطار أنه تم إصداره للتأثير على الداخل أو للاستهلاك المحلي).

9- أما ما جاء في البيان عن تدبير مؤامرة في صفوف الجيش والبوليس لقلب نظام الحكم ، فإن كان الاتهام حديا فنحن نطالب بتحقيقه أمام هيئة قضائية كما نطالب بأن تكون المحاكم أمام محكمة تتوفر فيها كل الضمانات.

10 ، 11- وليس لنا رد على ما جاء في البندين العاشر والحادي عشر إلا بأن ما جاء فيهما لا صلة له بعلاقة القياد بالإخوان ، وإنما هي مسائل داخلية من شؤون الإخوان وحدهم ، وهم أحق بالقيام عليها ، وللإخوان مقاييسهم الخاصة وطرقهم في المحاسبة.

12- وما يقال عن زيارة الأستاذ حسن العشماوي لمنزل الستر كرزويل من الساعة 11 من يوم الأحد 10 يناير سنة 1954 هو أمر لا يكاد الإخوان يصدقونه لأن الأستاذ حسن شوهد بالمركز العام من كثيرين في هذه الفترة ، ونرجو من القيادة أن تتحقق من صحة مصادرها بعد أن تبين بصورة لا تقبل الشك أن الأستاذ حسن كان في المركز العام في الوقت المدعى فيه بوجوده عند مستر كرزويل.

13- أما حادث الجامعة وما نسبه البيان للإخوان من إثارة الشغب فإن الإخوان يحتكمون فيه إلى تحقيقات النيابة التي أجريت عقب الحادث والتي ثبت منها ثبوتا قاطعا أنهم كانوا مجنيا عليهم وليسوا جناة ، وكانوا مدافعين لا معتدين.

« تلك هي أسباب الحل كما وردت في البيان الرسمي ، وما نشك لحظة في أن فقدان الثقة كان له أثره في تصور الوقائع وتصويرها ، وما رددنا إلا بما نعلم وبما نعتقد أنه الحق والله الموفق وهو على كل شيء شهيد ».

وتلك كانت بداية عام 1954 الذي مثل تاريخا حرجا وأزمة الديمقراطية في مصر. في جانب من الساحة مجلس قيادة الثورة الذي يهيمن على مقدرات الأمور في البلاد وما يتخلله من صراع بين اتجاهات وأشخاص ، ولنا أن نفهم أن مثل هذا الصراع هو أمر بديهي في كافة الثورات لتباين اتجاهات القائمين وتنوع الخلايا المكونة لها ، فلم يكن مجلس القيادة يصهر الاختلافات المتأججة ، والضباط ليسوا من سلاح واحد بل من أفرع مختلفة وقد بدأ هذا التضارب بينهم منذ عام 1953 فنحي عن مجلس قيادة الثورة كل من القائمقام رشاد مهنا والقائمقام يوسف صديق والبكباشي عبد المنعم أمين. وتلاحقت الأحداث عام 1954 فاتهم اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية بطلب الاستزادة من سلطاته فلما أبى مجلس قيادة الثورة ذلك قدم استقالته في فبراير 1954 غير أن هذا التنحي كان قصيرا إذ عاد بعد خمسة أيام إلى منصبه رئيسا للجمهورية.. وبدأ يطفو على الساحة المصرية الصراع بين المنادين بالديمقراطية ومجلس قيادة الثورة الذي يخطو خطوات محسوبة ومرتقبة للأحداث ظاهرها الإيحاء بالنظام الديمقراطي بما أعلنه جمال عبد الناصر في 6 مارس 1954 عن اتخاذ إجراءات لعقد جمعية تأسيسية تنتخب بطريق الاقتراع وتجتمع خلال شهر يوليو ليكون مهمتها مناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره والقيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لأحكام الدستور الذي ستقره هذه الجمعية.

كذلك الإيماء إلى قيام الأحزاب بما يقرر مجلس قيادة الثورة في 25 مارس 1954 بالسماح بقيامها وحل مجلس قيادة الثورة في 24 يوليو 1954. ويبد في ظاهرها إعطاء صورة التخلي علن المسؤولية ريثما ترصد الأحداث وترتبها. على الساحة فريقان أحدهما مجلس قيادة الثورة وهذه المرة مهدد بالانقسام والاتهام إلى عضو المجلس الصاغ (الرائد) خالد محي الدين بميوله الماركسية واتهامه بتزعم مؤامرة لقلب نظام الحكم وإقامة نظام شيوعي بعد وصفه بالضابط الأحمر. القائمقام أحمد شوفي (العقيد) عضو مجلس قيادة الثورة يحاكم بعد اتهامه في مارس 1954 بمحاولة قلب نظام الحكم واتهام مجموعة أخرى من ضباط الثورة بنفس التهمة في أبريل 1954 وكان على رأسهم البكباشي أحمد علي حسن المصري كذلك مجموعة تالية اتهم على رأسها اليوزباشي مصطفى كمال صدقي بذات التهمة والفريق الآخر في الساحة يمثله المثقفون وأساتذة الجامعات والنقابات المهنية وهي تدعو جمعيا إلى الحياة الديمقراطية. ويتحرك الفريق الأول ليكون له الغلبة إذ حرك الفئات التي تضمها هيئة التحرير التي يشرف عليها بعض ضباط الثورة الموالين للفريق الغالب فيضرب عمال النقل احتجاجا على عودة الأحزاب وقررت نقابتهم استمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته وعدم الدخول في انتخابات قبل جلاء المستعمر فقرر مجلس القيادة فيا ليوم التالي إرجاء تنفيذ ما اتخذه من قرارات حتى نهاية فترة الانتقال أي عام 1956.

وترتب على فوز الفريق حرمان بعض المنادين بالديمقراطية من الحقوق السياسية من بينهم المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري وشمل الحرمان ستة من أعضاء لجنة الدستور. وطرد من الجماعات ستون أستاذا من أعضاء هيئة التدريس واعتقل منهم العديد نذكر منهم الدكتور وحيد فكري رأفت والمرحوم الدكتور سعد عصفور أستاذ القانون العام بجامعة الإسكندرية وحل مجلس نقابة الصحفيين في 15 أبريل 1954 ووقع التوتر بين نقابة المحامين ومجلس قيادة الثورة منذ انعقاد الجمعية العمومية للمحامين بصفة غير عايدة في 26 مارس 1954 وصدر قرار بحل مجلس النقابة في 22 ديسمبر 1954.

وهي الصورة عينها تكررت عام 196. صراع كامن على السلطة بين الرجل الأول جمال عبد الناصر والرجل الأول مكرر عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية الأول ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس عدد من اللجان منها تصفية الإقطاع إذ لم يبق على القمة سواهما من أعضاء مجلس قيادة الثورة؛ فالصاغ (الرائد) صلاح سالم نحي من عضوية المجلس ووزارة الإراشد القومي (في صيغة استقالة كما وردت في بيان المجلس) في 31 أغسطس 1955. وقائد الجناح طيار (مقدم طيار) جمال سالم الذي كان نائباً لرئيس الوزراء ووزيرا للمواصلات نحي من تولية الوزارة بعد انتخابات رئاسة الجمهورية في يونيو 1956 وأنسد إليه لجنة اختصار لروتين وقائد الأسراب حسن إبراهيم الذي كان وزرا لشؤون رئاسة الجمهورية ووزيرا لشؤون الإنتاج نحي من تولية الوزارة عقب هذه الانتخابات وعين مشرفا على مؤسسة اقتصادية وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وكانا نائبي رئيس الجمهورية أخرجا نتيجة لمعارضتهما تورط مصر بجيشها في اليمن بعد قيام ثورتها عام 1965 وزكريا محي الدين ظل نائباً لرئيس الجمهورية وحسين الشافعي ظل وزيرا للشؤون الاجتماعية تارة وطورا للأوقاف وأنور السادات نحي من وزارة الدولة وأسند إليه شؤون المؤتمر الإسلامي ثم رئيسا لمجلس الأمة.

والصراع بين الرجلين ظل كامنا وسلطة الأمن أضحت مركزة في المباحث الجنائية العسكرية وخرجت في اختصاصها الداخلي عن المباحث العامة التي كانت تتبع وزارة الداخلية. في هذا الوقت القلق وجد شعب متوجس في فناء أبنائه في حرب بعيدة عن وطنه ولا يبدو لها بارقة أمل في الانتهاء مع استنزاف ثروات أمة ، انفجار للسفينة نجمة الإسكندرية التي تحمل أسلحة إلى الجزائر إبان حربها مع المغرب ومصرع كثير من بحارتها فضلا عن الضغط بكبت الحريات ، الشائعات تتناقل عن محاولة انقلاب عسكرية في يوليو 1965 وكشف محاولة للإطاحة بجمال عبد الناصر وهو في منصة ملعب الإسكندرية البلدي وإعدام مجموعة العسكريين التي قامت بها وهي شائعات ما ندري صحتها أو عدم صدقها. في هذا الزمن بدأت أولى مظاهر الغليان المكبوت في الصدور أثناء تشييع جنازة بحارة السفينة وهتاف الجماهير التي شاركت فيها «أبناؤنا لنا لا للجزائر ولا لليمن» ثم بدأ هذا الغليان عاليا أثناء تشييع جنازة المرحوم مصطفى النحاس وهتاف من اشتركوا فيها يوم 23 أغسطس 1965 « لا زعيم إلا النحاس » وهي تتردد في القاهرة والرئيس يتباحث في السعودية مع ملكها من أجل مخرج من الورطة اليمنية ، فاعتقل ليلتئذ المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي بتهمة إحياء تنظيم الإخوان ، وأعلن الرئيس في بداية سبتمبر 1965 في موسكو عن اكتشاف مؤامرة جديدة للإخوان المسلمين على رأسها المرحوم سيد قطب ، وبدأت تترى اكتشاف مؤامرات منها اتهام الصحفي الأستاذ مصطفى أمين بالتخابر مع الأمريكان واتهام وكيل وزارة الخارجية بالتجسس لحساب الولايات المتحدة واكتشاف مؤامرة لاغتيال القادة دبرها حسين توفيق وبعض الأفراد ومؤامرة لقلب النظام والاغتيال دبرها الحزب الشيوعي العربي وتزعمها المحامي الأستاذ أنور زعلوك (ذكر الاتهام موالاة هذا الحزب المدعى إلى الصين) والمثير للدهشة والحيرة أن الذي اكتشف المؤامرات جميعها هو جهاز الأمن أي المباحث الجنائية العسكرية والمخابرات وهما تابعتان للرجل الأول مكرر .

في مثل هذا الوقت وما أحيط به منذ أوائل عام 1954 والهجوم على جماعة الإخوان سافر ومحموم على مرشدها ، فاعتقل مع 450 منهم وأودعوا السجن الحربي والمعتقلات ومع إصرار المرشد العام المرحوم حسن الهضيبي على الجهر برأيه الحق وهو في أشد محنة أرسل خطابه إلى الرئيس الأسبق محمد نجيب رئيس الجمهورية في 16 مارس 1954 مذكرا أن مصر ليست ملكا لفئة معينة ولا حق لأحد أن يفرض وصايته عليها ولا أن يتصرف في شؤونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت في شؤون البلاد في غيبتهم. وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال ولا فيفيد البلاد شيء.

« وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجتمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة .

وأفرج عن المرشد وإخوانه مع اعتذار قادة مجلس الثورة الذين التقوا به كما ذكرت الصحف حينئذ. وتمر الأيام وينحسر الموقف خلال شهر أبريل 1954 عن حرمان بعض المنادين بالحرية والديمقراطية من حقوقهم السياسية وحل مجلس نقابة الصحفيين واعتقال أعداد منهم ، من بينهم هؤلاء إحسان عبد القدوس الذي كتب على صفحات روز اليوصف « هذه العصابة التي تحكم مصر » ووقوع توتر مع نقابة المحامين وطرد أساتذة الجامعات واعتقال بعضهم ،وبقى الإخوان وحدهم في الميدان ، والأمر ترقب وحذر ويدلي المرشد العام برأيه مجاهرا بالحق في خطاب أرسله بتاريخ 4 مايو 1954 إلى جمال عبد الناصر مما لا يدع مجالا للشك عن قيام علاقة وثقى بين الجماعتين يصر إزاءها مرشد الجماعة الأولى أن يبديها.

يقول في خطابه « إن مصر لتحتاج إلى الاستقرار وهو أمر لا ينال بالكلام. ولا يدرك بالشدة. ولكنه ينال حينما يشعر الناس شعروا حقيقيا بأنهم حماة الثورة. وحماة ما اتجهت إليه من دروب الإصلاح. والثورة لابد للمحافظة عليها من أن تحوطها القلوب وتذود عنها أما القوة وحدها فإنها لا تحقق الغاية المقصودة. ويدرك الاستقرار كذلك بالعدل والإصلاح والرفق. إنه لا يغني واحد من هذه عن الآخر. وإن للاستقرار وسائل أحب أن أضع تحت نظركم منها ما يأتي :

1- إعادة الحياة النيابية : لا ريب أن الحياة النيابية هي الأساس السليم لكل حكم في العصر الحاضر. وإذا كانت تجارب الماضي قد أظهرتنا على بعض العيوب فمن واجبنا أن نخلي حياتنا النيابية من العيوب وأن نجعلها أقرب ما تكون إلى الكمال. والأمة لا تتعلم بإلغاء الحياة النيابية في فترة الانتقال ، وإنما تتعلم بممارسة الحياة النيابية بالفعل ، فلنشرع فورا فيما يؤدي بنا إليها في أقرب وقت.

2- إلغاء الإجراءات الاستثنائية والأحكام العرفية :

فإن الإجراءات الاستثنائية إذا أفادت الهدوء المؤقت والاستقرار الظاهر فإنها تخلق حالة من الغليان وتذكي النار تحت الرماد ولن يؤمن على مستقبل الوطن. إذا اشتعلت فيه النيران.

3- إطلاق الحريات :

وأود أن تطلقوا الحريات جميعا وعلى الأخص حرية الصحافة فإن في ذلك خير مصر وأمنها وسلامتها. ولقد رأيتكم تأخذون على الناس أنهم لم يقولوا لفاروق « لا » حيث تجب أن تقال ، وأنتم الآن بفرض الرقابة على الصحف تمنعون الناس أن يقولوا لكم « لا » حيث يجب أن تقال وما هكذا تربى الأمة على نصرة الحق وخذلان الباطل.

ونحن لا نسلم بأن تتجاوز الصحافة حدودها ولا أن يطلق لها العنان لتلبس الحق بالباطل. وإنما نحب أن تترك لتقول الحق في حدود القانون. فإذا تجاوزته حق عليها العقاب. وقد تجدون في معارضة الصحف لكم خيرا كثيرا.

وغني عن القول أن إطلاق حريات المعتقلين وبعض المحكوم عليهم من المحاكم الاستثنائية أمر توحي به ضرورة جمع الشمل وتوحيد الكلمة ويوجبه الحق والعدل.

بين هذا التاريخ 4 مايو 1954 و 26 أكتوبر 1954 تاريخ الإدعاء بمؤامرة لاغتيال جمال عبد الناصر ساد الترقب والحذر والشك من كلتا الجماعتين ، إحداهما تجاه الأخرى مع تباين موقفهما.

الأولى في جماعة الإخوان المسلمين ، تجاهل تام وعدم ذكر السلطة ممثلة في مجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر شخصيات في الجريدة التي تحمل اسمهم وقد أصبحت لسان حالهم منذ 5 مايو 1954 مع الإشارة إلى الحريات التي يتطلع إليها الشعب في المقالات التي أمهرها سيد قطب رئيس تحرير الجريدة يومئذ. والموقف الآخر نعجب له ، حملة صحفية بين حين وآخر وقد صحبتها مقالات غير كريمة في مجلة التحرير لسان حال هيئة التحرير التي باركها مجلس القيادة ، وهي ممهرة تارة من الصاغ صلاح سالم وأخرى من الصاغ إبراهيم الطحاوي أحد المسؤولين من الضباط عن نشاط الهيئة وغيرهما.. وتشتد هذه الحملة الصحفية مع انتهاء الطرفين المصري والبريطاني في محادثات الجلاء إلى عقد الاتفاقية الأولى التي تضمنت المبادئ الرئيسية للاتفاق النهائي المقترح بإعداده لتنظيم الجلاء وذلك يوم 27 يوليو سنة 1954.

الإخوان المسلمون والاتفاق المصري – البريطاني :

إلقاء الضوء على هذه الفترة الحرجة في أزمة الديمقراطية في مصر نعود إلى وثيقتين تبرزان بوضوح موقف الإخوان المسلمين من الاتفاق المصري – البريطاني لتنظيم جلاء القوات البريطانية.

أما الأولى فهو الحديث الذي أدلى به المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي إلى جريدة المنار الدمشقية خلال رحلته للبلاد العربية وقد ذكر فيه « كنت أتمنى أن أجد في الاتفاق الذي وقع أمس الأول في القاهرة بالأحرف الأولى ما يحقق مطالب مصر ، ولكني لم أجد أية مصلحة في عقده ، بل هو يحوي كل أضرار بمصالح مصر والدول العربية عامة.

أما ما نص عليه الاتفاق من جلاء الجنود البريطانيين عن منطقة قناة السويس خلال عشرين شهرا من وقت التصديق على المعاهدة فهذا كان متفقا على أن يتم في عام 1956 بموجب معاهدة سنة 1936 التي ألغتها مصر ، وإذا فرض أن الإنجليز كانوا يأبون الخروج عند نهاية تلك المدة ، فإن بقاءهم يكون بلا سند قانوني ، فما المصلحة في منحهم هذا السند للبقاء والعودة؟

« فقد أعطى الاتفاق المذكور الإنجليز حقا في العودة إلى احتلال القناة إذا هوجمت إحدى الدول الموقعة على معاهدة الدفاع المشترك الذي عقد ضمن نطاق الجامعة العربية أو على تركيا –ولم يكن لهم هذا الحق من قبل- وتركيا كثيرة الأحلاف والأعداء معا مما يربطنا ويربط الدول العربية معنا بالمعسكر الغربي في كل حرب. بل أن الاتفاق حين أباح للإنجليز العودة إلى مصر ، لم يحدد لخروجهم بعد ذل أمدا والإنجليز أصحاب حيل ومكائد لا يعجزون عن أن يجدوا المبررات التي يتذرعون بها لبقاء احتلالهم.

إن الاتفاق قد اعترف للإنجليز بقناة السويس كقاعدة عسكرية ، وأباح لهم احتلال أجزاء منها لم تبين ، فاعترف بشرعية القاعدة مع أن معاهدة 1936 لا تعطيهم الحق في إنشائها حتى يتعللوا الآن بوجودها ، وهكذا أقررنا باحتلالهم بوثيقة لصالحهم دون مصلحة لنا فيها.

ومن الأمور الخطيرة في الاتفاق أن مصر وضعت بموجبه مطاراتها في جميع أنحاء البلاد وفي كل وقت من أوقات السلم والحرب تحت تصرف السلاح الجوي البريطاني – والطيران هو السلاح الرئيسي في هذه الأيام. أما إدارة القاعدة والأشراف عليها فلا يجوز أن نخدع أنفسنا بالقول بأنه سيكون بواسطة مدنين ، فهم في الواقع عسكريون تابعون للحكومة البريطانية مباشرة ومن قال غير ذلك فقط غالط نفسه.

« لقد كسبت بريطانيا بهذه الاتفاقية امتدادا للمعاهدة الملغاة خمس سنوات أخرى ، ولا تنتهي الأوضاع بعدها ، بل تعود إلى الحلقة المفرغة ، التشاور بشأن التدابير التي ينبغي اتخاذها بعد انتهاء مدة الاتفاق ، وأسلوب التشاور مع بريطانيا أسلوب سبق أن عرفناه ولمسنا نتائجه.

« وبهذه المعاهدة أضافت بريطانيا حلقة جديدة إلى الحلقات التي تطوق بها البلاد العربية بمعاهدات وأحلاف عسكرية ، والتي كان آخرها المعاهدة الليبية ، فقد استغلت بريطانيا في ذلك ضعف بعض الحكومات وعدم تمثيلها لشعوبها فسارت في ذلك على سياسة إغفال إرادة الشعب مما سيلحق بها أفدح الأضرار.

« ولذلك يعلن الإخوان المسلمون رفضهم هذا الاتفاق ويصرون على أن اتفاقا ما بين الحكومة المصرية وأية حكومة أجنبية لا يجوز أن يتم دون أن يعرض على برلمان منتخب انتخابا حرا نزيها يمثل إرادة الشعب المصري أصدق تمثيل ، كما يجب رفع الرقابة عن الصحافة حتى يقول كل إنسان رأيه في هذه الاتفاقية دون حد من إرادته وحريته ، فما كان لأحد أن يتحكم في مصائر الشعب دون الرجوع إليه .

أما الوثيقة الثانية البالغة الأهمية في هذا الصدد ، فهي المذكرة التي أرسلها مكتب الإرشاد على رئاسة مجلس الوزراء متضمنة رأي الإخوان المسلمين في هذا الاتفاق. وقد ناقش فهيا المكتب بصفته الهيئة التنفيذية للجماعة الخطوط الرئيسية للمعاهدة كما ناقش الملاحق المفصلة بالنصوص. تقول هذه المذكرة التي تذكرها كاملة وهي بتاريخ 2 أغسطس 1954.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

السيد رئيس مجلس الوزراء..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد ، فقياما بواجب الشورى في الأمر ، والتواصي بالحق والصبر ، والتعاون على البر والتقوى ، وقد اطلع مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين على الخطوط الرئيسية للاتفاق المقترح عقده بين مصر وانجلترا والذي وقعه رئيس وزراء مصر ووزير حربية انجلترا في يوم 27 /7/ 1954 كما اطلع المكتب على الملحق الذي نشر مع الخطوط الرئيسية في اليوم التالي للتوقيع ، وقد تبين المكتب في دراسة الخطوط الرئيسية والملحق أمورا خطيرة يعرضها فيما يلي عليكم ، ويتقدم بالرأي والنصيحة فيها إليكم ، وهو إذ يفعل يقدر كل التقدير ما بذله المفاوضون المصريون من مجهود كبير ومن محاولات ضخمة للوصول إلى حقوق الأمة :

أولا : الخطوط الرئيسية :

1- تحدد المادة الثانية مدة الاتفاق بسبع سنوات من تاريخ توقيعه كما أنها تلزم الحكومتين المصرية والإنجليزية بالتشاور خلال السنة السابعة فيما يتخذ من تدابير عند انتهاء المدة.

وإذا كان الجلاء سيتم كما اتفق في ظرف 20 شهرا فلا محل لجعل مدة الاتفاق 7 سنوات إلا إذا كانت الاتفاقية تستهدف شيئا آخر غير تنظيم الجلاء ، وهو ربط مصر بانجلترا طيلة السبع سنوات بنوع من التحالف أو الارتباط قد يمتد إلى ما بعد السبع سنوات كما يدل على ذلك التزام مصر بالتشاور مع انجلترا فيما يتخذ من تدابير عند انتهاء السبع سنوات.

2- وتعطي المادة الرابعة الحق لانجلترا في العودة إلى قاعدة القنال إذا هوجمت مصر أو أي دولة من دول الجامعة العربية والتي وقعت معاهدة الدفاع المشترك أو إذا هوجمت تركيا ، وتوجب المادة على مصر أن تقدم لانجلترا كل التسهيلات اللازمة لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة ، ويدخل في ذلك استخدام جميع الموانئ المصرية وسنبين فيما يلي وجوه الخطر في هذه المادة :

(أ) أعطيت إنجلترا الحق المطلق في العودة إلى القنال واحتلال القاعدة بجنودها لمجرد حدوث هجوم على مصر أو أية دولة عربية أو تركيا ولانجلترا حق العودة للقنال دون استشارة مصر ، ودون حاجة للحصول على موافقتها ، بل ودون رضاها ، ولو كانت الدولة المعتدي عليها قادرة على رد الاعتداء وحدها والدولة المستقلة لا تقبل أن يفرض عليها العون فرضا ، ولا تعرض أرضها للاحتلال بهذه السهولة ، ولا تجعل دخول الأجانب بلادها راجعا لمشيئة الأجنبي.

(ب) وإذا كان الاعتداء على تركيا أمرا يقلق راحة كل مسلم ، وكان الدفاع عن كل بلد إسلامي واجبا فإنا لا نفهم كيف أن اعتداء على تركيا يعطي انجلترا الحق المطلق في احتلال القتال ، ويلزم مصر التزامات مادية وأدبية قبل انجلترا لا قبل تركيا المعتدى عليها إلا إذا كان المقصود تدعيم السياسة الإنجليزية وحماية الإمبراطورية.

(ج) ولقد انتقدت مصر حلف باكستان -تركيا ، ورفضت من قبل أن تدخل في حلف بلقاني ، أو في حلف الأطلنطي ، ولكنها طبقا للمادة الرابعة دخلت في هذه الأحلاف بطريق غير مباشر ، لأن تركيا حليفة لباكستان ، وحليفة لبعض دول البلقان كما أنها مرتبطة بحلف الأطلنطي فإذا هوجمت أي دولة محالفة لتركيا ودخلت تركيا الحرب حق لإنجلترا أن تحتل القنال بحجة مهاجمة تركيا. ووجب على انجلترا أن تدخل الحرب في صف تركيا طبقا لما بينهما من معاهدات ، وإذا دخلت انجلترا الحرب وهي محتلة فقد اشتركت مصر اشتراكا فعليا في الحرب بمساهمتها باستخدام أراضيها ومطاراتها وموانيها وبما تقدمه من معونة وتسهيلات لانجلترا. ولا شك أن هذه النتيجة التي وصلت إليها إنجلترا عن التحالف الواقعي الذي فرضته المادة الرابعة هي نفس النتيجة التي طالما حرصت انجلترا على الوصول إليها في المفاوضات السابقة عن طريق التحالف الاتفاقي والدفاع المشترك.

ولعل هذا التحالف الواقعي الذي أقامته المادة الرابعة ولم تصرح به ألفاظها هو الذي دعا رئيس وزراء مصر ووزير حربية انجلترا إلى أن يعلنا في البلاغ المشترك أن الاتفاق ليس له غرض عدواني ، وأنهما يعتقدان أنه سيفضي إلى المحافظة على السلم والأمن.

(د) أعطت المادة الرابعة لانجلترا الحق في استعمال جميع المواني المصرية ويترتب على ذلك أن يكون لها الحق في نقل جنودها وعتادها على الطرق البرية والمائية والسكك الحديدية المصرية التي تصل مختلف الموانئ بالقاعدة ، وأن يكون لها مندوبون في كل ميناء وما كانت انجلترا تستطيع أن تصل لشيء من هذا أو تطلبه قبل أن تقرره لها المادة الرابعة.

3- والفقرة الثانية من المادة الرابعة تلزم مصر أن تتشاور مع انجلترا في حالة قيام تهديد بهجوم على أي بلد من البلاد التي سلف ذكرها في الفقرة الأولى. ولم تبين هذه الفقرة حالة التهديد بالهجوم ، تلك الحالة التي لا تكاد تختلف في مدلولها عن عبارة خطر الحرب التي طالما حاولت انجلترا إغراءنا بالاتفاق عليها ولم تقابل إلا بالرفض.

4- وتنص المادة السابعة على جلاء القوات الإنجليزية جلاء تاما عن الأراضي المصرية في مدة لا تزيد على عشرين شهرا من تاريخ توقيع الاتفاق. والجلاء التام الناجز غير المشروط بشرط هو حق الشعب الذي أجمع على المطالبة به وهو المستهدف بالحركة وصرح به رجالاتها ، ولكن الجلاء الذي جاءت به المادة السابعة جاء مع الأسف مسبوقا بالتزامات ومعلقا على شروط تجعله جلاء مشروطا وغير تام وغير ناجز. وسنرى أن الملحق رقم (1) استبدل بالجنود الإنجليز فنيين وموظفين من الإنجليز يديرون القاعدة ويحافظون عليها ، وهذا يجعل الجلاء صوريا ، ويحل محل الإنجليز الذين يلبسون الملابس العسكرية بانجلترا يرتدون الملابس المدنية ومهمة الفريقين واحدة.

لذلك رأينا أن المادة الرابعة تعطي انجلترا حق إعادة جيشها للقاعدة بمجرد جمة دولة من الدول التي عينتها المادة ، كما تفرض على مصر مخالفة واقعية مع انجلترا وحلفائها.

وإذا كانت مدة الاتفاقية سبع سنوات من تاريخ توقيعها فمعنى ذلك أن تظل القاعدة محتلة بالمدنيين من الانجليز ومعرضة لدخول الجيش الإنجليزي فيها طيلة سبع سنوات.

وإذا كان هذا هو الجلاء الذي جاءت به المادة السابعة فلن يستطيع منصف أن يقول عنه أنه جلاء تام أو جلاء ناجز غير مشروط.

5- وتنص المادة الثامنة على اعتبار قناة السويس ممرا مائيا له أهميته الدولية ، وعلى أن الطرفين مصممان على احترام اتفاقية 1888 التي تكفل حرية الملاحة في القنال.

والاعتراف باعتبار قناة السويس ممرا مائيا له أهميته الدولية هو تقرير للواقع ، ودليل على بطلان ما كانت تدعيه انجلترا من أهمية القنال لها وحدها ، ولكن النص على احترام اتفاقية 1888 التي تكفل حرية الملاحة كان يقتضي النص على حق مصر في تعطيل هذه الملاحة في حالة الدفاع عن النفس. والمادة الثامنة بهذا الوضع الناقص لن يستفيد منها إلا إسرائيل .

6- وتلزم المادة التاسعة مصر بأن تقدم التسهيلات الخاصة بالطيران والنزول والصيانة لكل طائرة تابعة لسلاح الطيران الإنجليزي بمجرد الإخطار عنها.

وهذا النص يحمل مصر بالتزامات خطيرة :

(أ) فهو يلزم مصر قبول أي طائرة أخطرت عنها دون أن يكون لمصر حق الاعتراض أو الرفض.

(ب) يلزم مصر أن تنشئ مطارات لنزول الطائرات الإنجليزية ، وأن تنشئ محطات لإصلاح وصيانة هذه الطائرات ، كما يلزم مصر أن تضع مطاراتها الحالية ومحطات الإصلاح والصيانة تحت تصرف الطيران الإنجليزي.

(ج) ويلزم مصر أن تقدم التسهيلات السابقة في أي مكان من القطر المصري لا في منطقة القنال وحدها ، ويكمل هذا الالتزام الجوي التزام بحري هو حق انجلترا في استخدام جميع الموانئ المصرية المنصوص عليه في المادة الرابعة ، ويترتب على هذين الالتزامين التزام بري بنقل الأشخاص والمهمات فيما بين بعض المطارات والموانئ وبعضها الآخر وفيما بين الطائرات والموانئ وبين القاعدة.

ثانيا- الملحق رقم (1) :

1- أعطت الفقرة الثالثة لشركة تجارية انجليزية أو أكثر حق حفظ المنشآت البريطانية وإدارتها وأباحت لهذه الشركات أن تستخدم فنيين وموظفين من البريطانيين على أن لا يزيد عدد الفنيين عن حد معين سيتفق عليه ، وهذا النص إذا كان مقيدا لعدد الفنيين فإنه لا يقيد عدد الموظفين ، ويسمح للشركة أن توظف عددا كبيرا من الإنجليز وهم جميعا مجندون ، فيكون هناك جيش من هؤلاء في القنال تحت اسم الموظفين ، ويستطيع هذا الجيش الأجنبي في أي وقت أن يكون خطرا على مصر خصوصا وتحت يده العتاد الكبير ولديه العدد الكافي من الفنيين ، ولا يغير من هذا المعنى ما قد توهم به عبارة النص من جواز أن تكون الشركة مصرية وبين جواز استخدام المصريين مع البريطانيين ، فإن حق اختيار الشركة أو الشركات متروك لانجلترا ، ولا يعقل أن تختار شركات مصرية وحق اختيار الفنيين والموظفين متروك للشركة ، ولا يعقل أن تختار الشركة الإنجليزية فنيين أو موظفين مصريين إلا إذا كانت أعمالهم تافهة ولم يكن لديها من يقوم مقامهم من الإنجليز.

«ولو صح أن انجلترا لا يهمها أن يشرف على القاعدة مصريون لما كان هناك داع لهذا اللف والدوران ولسلمت القاعدة للحكومة المصرية وتركت في مسؤوليتها.

على كل حال فإن وضع إدارة القاعدة في يد شركة يشرف عليها موظفون بريطانيون يلحقون بالسفارة البريطانية يدل على روح الحكومة البريطانية واتجاهها وحرصها على أن تكون أمور القاعدة في أيدي إنجليزية.

2- وتلزم الفقرة الرابعة الحكومة المصرية أن تقدم المعونة الكاملة للشركة التجارية ، وتعبير المعونة الكاملة تعبير واسع ومن شأنه أن يرتب على مصر التزامات غير محددة تنفرد الحكومة البريطانية بتقديرها.

3- والفقرتان الأولى والخامسة معا تفيدان أن معظم المنشآت الإنجليزية في القتال ستسلم للشركات التجارية لإدارتها وحفظها وصيانتها ، وأي منشآت من نوع خاص كالكباري والمواصلات وأنابيب البترول قد تسلم للحكومة المصرية. ولكن الحكومة المصرية مع تسلمها هذه المنشآت لن تديرها إلا بواسطة الشركات التجارية.

ولا ندري ما الحكمة التي تدعو لتسليم الحكومة المصرية بعض المنشآت وإلزامها بأن لا تديرها بنفسها.

4- وتجعل الفقرة السادسة للحكومة الإنجليزية حق التفتيش على جميع المنشآت ، ما يسلم منها للحكومة المصرية وما يسلم منها للشركات ، ويتم التفتيش بواسطة موظفين من الإنجليز يلحقون بالسفارة البريطانية في القاهرة ومقتضى هذه الفقرة :

(أ) أن يقوم بالتفتيش عسكريون من الإنجليز ولا يمكن أن يكونوا إلا عسكريين لأنهم سيفتشون على منشآت وأعمال عسكرية.

(ب) أن يكون التفتيش على جميع المنشآت ما سلم منها للحكومة المصرية وما سلم للشركات.

(ج) أن يمنح هؤلاء المفتشون الحصانة الدبلوماسية بحكم إلحاقهم موظفين بالسفارة البريطانية ، الأمر الذي سيترتب عليه تحويل السفارة البريطانية إلى ثكنة عسكرية يتمتع أفرادها بالحصانة الدبلوماسية.

(د) أن يكون لهؤلاء العسكريين حق الإقامة في القاهرة بعد أن جلا العسكريون عن القاهرة منذ 1946.

(هـ) وأخيرا إن قيام شركات انجليزية بإدارة القاعدة ، واستخدامها فنيين وموظفين من الانجليز ، وجعل التفتيش على أعمال هؤلاء العسكريين بواسطة موظفين ملحقين بالسفارة البريطانية ، كل ذلك معناه أن انجلترا هي التي تدير القاعدة وتحافظ عليها وتتصرف فيها وأن الوضع السابق على هذه الاتفاقية لم يتغير في حقيقته وأن تغير في مظهره.

المعاني التي قامت عليها الاتفاقية :

يستخلص من دراسة الخطوط الرئيسية والملحق رقم (1) أن الاتفاقية تقوم على المعاني الآتية :

الأول - ربط مصر بالكتلة الغربية ربطا فعليا ، وذلك بإدخال تركيا في الاتفاق وهذا الرباط يجعل مصر حليفة لدول الكتلة الغربية ، وأن لم تذكر كلمة التحالف ويعرض مصر لويلات حروب لا مصلحة لها فيها ولا فائدة تعود منها عليها ، ويحملها نفقات هي أحق بأن تنفقها في محاربة الاستعمار وتدعيم استقلالها.

الثاني -تقدير الجلاء المشروط بإدخال تركيا في الاتفاق واعتبار هذا الدخول شرطا للجلاء وثمنا له وهذا هو الجلاء المشروط الذي حرص الانجليز منذ سنة 1945 على أن يتمسكوا به في كل مفاوضة ، وليس هو الجلاء التام الناجز غير المشروط الذي نادت به الأمة المصرية وتعاهدت عليه واستشهد أبناؤها في سبيله.

الثالث -استبدال الاحتلال المدني بالاحتلال العسكري طول مدة الاتفاقية ، الأمر الذي يجعل الجلاء غير تام وغير ناجز ، لأن المدنيين الإنجليز لا فرق بينهم وبين العسكريين الإنجليز إلا الملابس. الرابع - إعطاء انجلترا الحق في إعادة الاحتلال العسكري إذا هوجمت مصر أو أي بلد من بلاد الجامعة العربية أو تركيا ، وهذا المعنى مع سابقه يجعلان الجلاء جزئيا لا كليا ومؤقتا لا نهائيا وصوريا لا حقيقيا ، وقد يقال أن تقديم مصر التسهيلات لانجلترا لا يجعل مصر حليفة لها ، ويستدل القائلون بما حدث في الحرب الماضية ، وهؤلاء يجب أن يعلموا أن مصر بتقديمها التسهيلات في أراضيها لدولة محاربة تعتبر مشتركة في الحرب فعلا ، وأن ما حدث من إيطاليا وألمانيا في الحرب الماضية لن يحدث من روسيا مثلا ، ذلك أن ألمانيا وإيطاليا كانتا على علم بحقيقة شعور الشعب المصري نحو الإنجليز ، وكانتا تطمعان في الاستفادة من هذا الشعور لزعزعة مركز الانجليز ومع ذلك فإن حرصهما على عدم استثارة الشعب المصري لم يمنع من غارات طائراتهما على المدن المصرية مما أدى إلى تخريب المنشآت وهلاك الأنفس.

علاج الموقف :

أن أول علاج للموقف في رأينا هو أن توقف المفاوضات الدائرة بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية وأن يعتبر ما تم منها كأن لم يكن ما دامت المفاوضات أساسها المساومة على الجلاء حتى إذا ما اعترف الإنجليز بالجلاء غير مقيد بقيد ، ولا مشروط بشرط ، ولا مرتبط باتفاق على أمور أخرى ، جاز للحكومة المصرية أن تدخل معهم في مفاوضات لا تتعدى تنظيم الجلاء. فإذا تم الجلاء ، وانتهت عوامل الضغط وأسباب المساومة ، فإن لمصر أن تفاوض انجلترا وأن تتفق معها على ما تراه في صالحها.

والنقطة الثانية في علاج الموقف هي تحقيق ما أعلنت الحكومة الحالية من إعداد الشعب وتربيته تربية عسكرية ، وبث روح الجهاد فيه ، وتجميع صفوفه وتنظيمها لجهاد كريم هو السبيل الطبيعي لاستخلاص الحقوق ، وإجلاء الغاصبين والمستعمرين ، ويوم تفعل الحكومة هذا فسيكون الإخوان في الصف الأول ، وسترى الحكومة كيف يبيعون أنفسهم هم وأفراد هذا الشعب الكريم في سبيل الله وتحرير وطنهم ، وأن ذلك الاتجاه لقمين أن يوصلنا إلى الجلاء التام الناجز في أقرب وقت وبأقل كلفة ، ولن نبذل من التضحيات والخسائر في هذا السبيل بعض ما يصيب البلاد من هذا الاتفاق المقترح بيننا وبين الإنجليز. ولا نحب أن نلزم الحكومة الأخذ برأينا في علاج الموقف ويكفينا أن تعلم الحكومة المصرية أن مشروع الاتفاق ضار بمصر للأسباب التي ذكرناها وأن الأمة لا ترضاه ولا تقبله ولن تسمح بأن تقيد نفسها به وأن على الحكومة أن تراجع موقفها من هذا الاتفاق ، وأن تتخذ منه الموقف اللائق بوعي الأمة وحيادها الطويل وبأهداف الثورة وما أعلنته منذ قيامها من أنها لا تقبل إلا الجلاء الناجز الطليق من كل شرط أو قيد.

هذا ما يرى الإخوان المسلمون التقدم به إلى الحكومة آملين أن تستجيب لهم ، فإن أبت الحكومة إلا المضي فيما بدأته من مفاوضات ، فإن الأمانة الوطنية تحتم عليها أن تتبين رأي الأمة في هذا الأمر الخطير الذي لا يجوز أن تستأثر به حكومة دون شعب ، وإذا كان قد فات الحكومة أن تتبين رأي الأمة في المفاوضة قبل البدء فيها ، فلا يفوتن الحكومة أن تبين رأي الأمة في اتفاق الخطوط الرئيسية ، ولن يكون ذلك إلا بإطلاق حرية القول والاجتماع وترك الحرية للصحف ولتنشر كل ما يصل إليها عن الاتفاق.

ولا يغني عن تبين رأي الأمة في اتفاق الخطوط الرئيسية أن يعرض الاتفاق النهائي بعد تمامه على ممثلي الأمة لإقراره والتصديق عليه ، فإن تبين رأي الأمة في الاتفاق قبل المضي فيه يوفر على الأمة وقتها وجهدها ، ويجعل الحكومة على بصيرة من أمرها فيما تأخذ وما تدع ، وعلى هذا جرى العمل في كل مشروعات الاتفاقات السابقة فقد عرضت على الأمة لاستطلاع الرأي فيها ، ونوقشت في الصحف وفي الاجتماعات العامة مناقشة حرة لا قيد عليها ولا تثريب على المشتركين فيها. وما تقدمنا للحكومة في هذا كله إلا بالنصيحة التي يفرضها علينا الإسلام والدين النصيحة ، وما نريد إلى الخير للأمة وللحكومة. أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

الوكيل العام للإخوان المسلمين


الصراع

هذا الفصل هو تتمة الصراع بين قوى المنادين بالديمقراطية وفريق القادة الجدد التي بدأت حلقاته منذ عام 1953 بقرار حل الأحزاب الصادر في 17 يناير ونشأة هيئة التحرير التي ضمت في عضويتها جمهرة من الأميين مما يسلس قيادها بالشعوذة والسياسية التي قادها فريق الضباط في هذه الفترة التي تولوا فيها قدر مصر. وهي الشعوذة عينها التي واكبت السلطة السياسية طوال سني حكم جمال عبد الناصر بنشأة الاتحاد القومي في الفترة من 1957 حتى 1961 والاتحاد الاشتراكي الذي أعقبه في النشأة عام 1962 بميثاقه الوطني الشهير الصادر في مايو من ذلك العام ، وما تخلل هذا وذاك من وعود كاذبة وأماني براقة بالديمقراطية وآخرها بيان 30 مارس 1968 بينما الحقيقة التي لا يماري فيها إلا مكابر تنضح بالإرهاب الذي عاناه الشعب طوال سني حكمه حيث روع بمصير ذوي الرأي والفكر فيه منذ عام 1954 الذي سجل أزمة الديمقراطية في مصر .

هذه الأزمة التي فجرتها استقالة الرئيس محمد نجيب من منصبه في رئاسة الجمهورية في 23 فبراير 1954 وما أعقبه من صراع بعد أن رفض ضباط سلاح الفرسان استقالته ، وقد كان يقودهم الصاغ خالد محي الدين عضو مجلس القيادة الذي تمسك بأن الحل في استقرار الأمور هو إعادة الحياة النيابية وبن تاريخ استقالة محمد نجيب وعودته للرئاسة تتالت المناورات من قبل جمال عبد الناصر وفريقه ، ففي 26 فبراير يوافق مجلس الثورة بالإجماع على العودة إلى الحكم النيابي وتعيين خالد محي الدين رئيسا لوزارة مدنية تعيد الحياة النيابية في أقرب وقت وحل مجلس قيادة الثورة وإحالة ضباطه إلى المعاش واستقالة القائد العام (عبد الحكيم عامر) من منصبه وتعيين قائد جديد بمعرفة خالد محي الدين مع إعادة محمد نجيب رئيسا للجمهورية. وفي يوم 27 فبراير يركب عبد الحكيم عامر موجة العنف ضد سلاح الفرسان الذي يطالب بعودة الحياة النيابية بضباطه المائة ، ويعلن عامر خروجه على قرار المجلس بالعودة إلى صفوف الجيش ويعود ليتولى القيادة من جديد ويدعي أنه يعرض نفسه للمحاكمة العسكرية امتثالا لرغبات الجيش. وفي الجانب الآخر تقوم المظاهرات في 28 فبراير 1954 أغلبها من الإخوان المسلمين وطلاب الجامعات والمثقفين الذين يخطب فهيم محمد نجيب وإلى جواره عبد القادر عودة ويقول أنه سيعمل على إعادة الحياة النيابية في أسرع وقت ممكن لإقامة جمهورية برلمانية. لم ينقص مجلس قيادة الثورة حيلة في أخذ تصريح محمد نجيب من أجل تنفيذ شباك محكم يؤدي بدعاة الديمقراطية ، فيصدر بلاغ من المجلس بعودة محمد نجيب رئيسا للجمهورية دون سابق سلطاته رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة اللذين يستأثر بهما جمال عبد الناصر الذي كان نائب رئيس في كليهما ، والذي يصرح بأن مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة تراجع مجلس الوزراء أي السلطة التنفيذية ، وهو بذلك السلطة التشريعية للنظام ، بذلك أسدل الستار على أولى مراحل الصراع فغدا محمد نجيب رئيسا شرفيا دون سلطات حقيقية كمثل التي يتمتع بها رئيس الجمهورية الفرنسية في ظل النظام البرلماني ، وأضحى جمال عبد الناصر نصا وواقعا ، الحاكم الفعلي.

وبدت الحلقة الثانية في مجابهة دعاة الديمقراطية باعتقال عبد القادر عودة (اعتقل في 3 مارس 1954) وستة وأربعين من الإخوان المسلمين وواحد وعشرين من الحزب الاشتراكي ، خمسة من الوفديين ، أربعة من الشيوعيين ، خمسة عشر عاملا وثماني وعشرين فئات أخرى. بهذه المرحلة أصبح متصورا مجابهة العسكريين للمدنيين كما هو الواقع في كثير من الثورات وأصبح النظام بالأحرى يدفع الخطر الذي يواجهه ، إذ أن نجيب بالوعد الذي قطعه بإنشاء جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد وضمان الحريات الدستورية المفقودة قد أتاح للمعارضة المدنية في توحيد جهودها ، وتكاثرت عرائض الجامعات ونقابة الصحفيين والنقابات المهنية طالبة عودة الحياة الدستورية. والتزم مجلس القيادة إزاء الضغط الشعبي بدعوة جمعية تأسيسية منتخبة بالاقتراع العام المباشر مهمتها وضع دستور جديد ومباشرة السلطة التشريعية إلى حين انتخاب برلمان في إطار الدستور.

غير راض بإصدار تلك القرارات التي تخالف نهجه الذي سلكه طوال سني حكمه ، أعلن جمال عبد الناصر قرار مجلس القيادة بإلغاء الأحكام العرفية حتى يتاح للانتخابات المقبلة مناخ التعبير الحر ، ورفع الرقابة التي كممت الصحف وأخيرا إجراءات العفو عمن صدرت بحقهم أحكام من المحاكم الاستثنائية.

وبدا واضحا أن هذه القرارات تمثل انتصارا لمحمد نجيب وقوى أنصار الديمقراطية خاصة بعودة ظهور الدكتور علي ماهر رئيس الوزراء السابق (تولى الوزارة بترشيح من الإخوان المسلمين حيث لم يلوث سمعته شائبة خلال توليه الحكم في فترات مختلفة واستقال في سبتمبر 1952) والدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة ، والأول قد عين رئيسا للجمعية الدستورية والآخر نائبا له.

بيد أن هذا الشعور الشعبي الجارف سرعان ما انقشع وبدت في الأفق سحب مناورات الفريق المنافس الذي حسب موقف الشعب مناديا بالحريات جحودا في حق من تخيلوا لأنفسهم أدوار منقذيه من الاستبداد والاستعباد ، وصدر قرار مجلس قيادة الثورة في 8 مارس 1954 بتعيين جمال عبد الناصر حاكما عسكريا عاما إلى جانب وظيفتيه السابقتين وأصبح مفوضا في اتخاذ ما يراه ضروريا لحماية النظام ، الأمر الذي بدا للأعين أن إلغاء الأحكام العرفية وضمان الحريات ليس للمستقبل القريب. ولنا أن نفهم إذن أنه إزاء هذه المناورات الساخنة والباردة معا أصبح شعب مصر طوال سنين أحد الشعوب المتشائمة في عودة الديمقراطية الحقة ، وهي الصورة التي وصفها أنور السادات أحد صناع هذه الفترة في كتابه «البحث عن الذات» بقوله : «لقد استحال الشعب» مساخيط «أو دمى في أيدي حكامهم يفعلون بهم ما يشاءون فلم يعد مسموحا للناس بالسفر أو أن يقولوا كلمة تختلف عما يقوله الحاكم وإلا اعتقلوا أو صودروا في أرزاقهم ، وازدادت سلبية الناس وأصبح الأمان لهم أن يسيروا إلى جانب الحائط ، أصبحوا لا ينظرون ولا يسمعون ولا ينطقون».

وتترادف المناورات لتحكم شباك الإيقاع بقوى أنصار الديمقراطية ، فيقبض على مجموعة كبيرة من الأفراد من الإخوان المسلمين اتهموا بالإرهاب أثر حوادث انفجارات في القاهرة التي ندع أحد صناع هذه الفترة يرويها ، يقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته : أن جمال يحاول إيهام أعضاء المؤتمر المشترك من مجلس الثورة وأعضاء الوزارة في 20 مارس سنة 1954 بوقوع ست انفجارات نسف في مبنى السكة الحديد وفي الجامعة وفي محل جروبي في وقت واحد ، ويقول أن ذلك إنما جرى بسبب سياسة اللين في موقف الحكومة وأن خطوة العودة إلى الحكم النيابي لا تصلح في هذا الوقت ، وتعجب حين تعلم أن عبد الناصر نفسه هو الذي قام بهذه الانفجارات التي رواها مستهجنا ، بل اعترف بذلك في اليوم التالي لكل من عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين ، وعزا السبب في قيامه بهذه الحوادث إلى أنه «كان يرغب في إشارة البلبلة في نفوس الناس ويجعلها تشعر بعدم الطمأنينة حتى يتذكروا الماضي أيام نسف السينمات ويشعروا أنهم في حاجة إلى من يحميهم» .

فهل كان فريق القادة الجدد يرغب حقا في الحكم النيابي التي صدرت قرارات 25 مارس بشأنه إذ نصت على عودة الحياة النيابية وانتخاب جمعية تأسيسية لها سلطة السيادة كاملة ، وحل مجلس قيادة الثورة وتسليم الحكم لممثلي الشعب وانتخاب رئيس الجمهورية من أعضاء الجمعية التأسيسية بمجرد انعقادها .

الإجابة لا شك توضحها مرحلة تالية في نصب شباك التحدي لأنصار الديمقراطية ، إذ على أثر الإفراج عن المائة وخمسين عضوا من الإخوان المسلمين الذين بقوا رهن الاعتقال مع مرشدهم بادر بعد زيارة جمال عبد الناصر وصلاح سالم معتذرين عن الإساءة إلى الجماعة بالقول «بأن الإخوان المسلمين سيواصلون الثورة التي بدأتها حركة الجيش عندما ينسحب العسكريون من الساحة السياسية. أننا نعتبر حركة الجيش مرحلة لثورة أشمل وأكثر عمقا وهي حركة الإخوان المسلمين وعمادها أحكام الإسلام .

كذلك بدأت الأحزاب التي حلت في 17 يناير 1953 تعيد تنظيم صفوفها بعد قرارات 25 مارس التي سمحت بعودة الأحزاب السياسية. لكن في مواجهة هذا الموقف اصطنعت مظاهرات تضم أعضاء هيئة التحرير الذين أخذوا يرجمون جريدة المصري التي تتبنى الدفاع عن الحريات الدستورية ويضرب عمال النقل احتجاجا على عودة الأحزاب وقررت نقابتهم استمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته وعدم الدخول في انتخابات قبل جلاء المستعمر فقرر مجلس قيادة الثورة في اليوم التالي 29 مارس إرجاء تنفيذ ما اتخذه من قرارات حتى نهاية فترة الانتقال التي حددها الإعلان الدستوري الصادر عام 1953 بثلاث سنوات أي حتى عام 1956.

ولكي نفهم هذه الفترة الحالكة نعود إلى شهادة صناع أحداثها فيروي الصاغ السابق إبراهيم الطحاوي الذي كان سكرتيرا مساعدا لهيئة التحرير في صفحة 17 من كتاب «شهود ثورة يوليو» لأحمد حمروش قوله أن حسين الشافعي حضر إليه خلال أزمة مارس سنة 1954 وقال له أن مجلس الثورة قرر الانسحاب والعودة إلى الثكنات. فاعترضت على ذلك قائلا : إن الانسحاب معناه الدخول السجن وقررت المقاومة في وقت كانت الجماهير تهتف قائلة «لا ثورة بلا نجيب - إلى السجن يا جمال.. إلى السجن بإصلاح» ثم يستطرد فيقول «أن صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل جاءه واتفق معه على الإضراب العام لوسائل المواصلات حيث أن العمال كانوا حريصين على بقاء قانون العمل الذي صدر بمنع فصلهم تعسفيا ، ثم يستطرد قائلا : «وبدأت تنفيذ الخطة التي تكلفت أربعة آلاف جنيه فقط ، ونجحت الاعتصامات والإضراب ووقف البوليس موقفا حياديا أنجح الحركة ، وكنت خلال ذلك أتحرك بالميكروفون أوجه العمال وانتهى الأمر إلى الحد الذي حمل فيه الناس جمال عبد الناصر على الأكتاف وقال جمال عبد الناصر وقتها «أن كفاية عليّ إبراهيم الطحاوي أحكم به مصر».

وألغيت قرارات 25 مارس وبإلغائها بدا انتصار جمال عبد الناصر وفريقه في مواجهة أنصار الديمقراطية التي بدأت تتهاوى قواهم. الدكتور علي ماهر رجل الدولة الذي شغل منصبه في أحلك الظروف التي مرت بها مصر والذي لعب دورا بازرا من أجل العودة إلى الحياة الدستورية والذي اختير رئيسا للجنة وضع الدستور الجديد اضطر إلى الاستقالة حيث وضح له أن العمل الذي كلف به لن يرى النور ، والدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة وكبير الفقهاء الدستوريين وأستاذ القانون الذائع الصيت يعتدي عليه في المظاهرات التي ضمت أعضاء هيئة التحرير التي يقودها الضباط والذين قامت على نقلهم إلى المجلس سيارات الجيش ، والتي كانت إدارة الشؤون العامة للجيش تصنع هذه المظاهرات وتطلب من القوات الجوية وقودا للسيارات التي تحمل المتظاهرين .

وهي نفس صورة الزيف في اعتصام الضباط بمجلس القيادة أو المعسكرات أو الشرطة في ناديها ، هذا الزيف الرخيص الذي ران على الحياة السياسية المصرية طوال فترة طويلة في تاريخها.

لكن هذه المجابهة لم تقض على عنصرين فعالين بعد ، كان لهما أثرهما حتى أكتوبر 1954 ، أولهما جماعة الإخوان المسلمين التي أعلن مرشدها حسن الهضيبي في تصريح له لمراسل وكالة الأنباء الفرنسية سنواصل طلب العودة للحياة النيابية والحريات الديمقراطية

ذلك التصريح الذي أثار حفيظة جمال عبد الناصر الذي أعلن في خطاب له أمام جمع من عمال السكة الحديدية أن الثورة المصرية قد بدأت الآن وستهجم الآن على الرجعية التي تخدع ملايين المصريين .

والعنصر الفعال الثاني هم طلاب الجامعات الذين أضربوا في جامعتي القاهرة والإسكندرية احتجاجا على مواصلة الحكم العسكري ومظاهرات الطلاب تواجه بقوة وعنف ، إزاء هذه الأخطار المحدقة يرسل المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي رسالته المؤرخة في 4 مايو 1954 التي أوردناها سابقا إلى جمال عبد الناصر الذي توسد منذ 20 فبراير 1954 كامل السلطات التنفيذية وأضحى من ثم الدكتاتور المطلق رسميا كما كان فعليا منذ عامين خليا.

نهاية الصراع

صاحب توقيع الاتفاق المصري البريطاني في 27 يوليو 1954 معارضة من بقي على الساحة السياسية وهي الجامعات وجماعة الإخوان المسلمين وبعض الشخصيات العامة وفي الأولى كان الأساتذة والطلاب والمثقفون ينحون باللائمة على النظام لإلغائه الحريات العامة وإقامة دكتاتورية عسكرية وعقد اتفاق مع انجلترا لا يحقق الأماني الوطنية كما ذكرت ذلك وكالة united Press الأمريكية .

أما الإخوان المسلمون فقد أعلنوا شجبهم للمعاهدة وكانت معارضتهم هو الصوت الذي يمثل رأي غالبية الشعب المصري ، فأرسل حسن الهضيبي رسالته المؤرخة في 4 سبتمبر 1954 إلى جمال عبد الناصر يبدو فيها أن النفور الشخصي قد أضحى السمة بين الرجلين. وقد بين في رسالته معارضة الإخوان لاتفاقية الجلاء التي سمحت بأن تقدم مصر تسهيلات للحكومة البريطانية في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد طرف في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية (وقد كانت في فلك النفوذ الغربي رغم استقلالها الأسمى) أو على تركيا وهي دولة عضو في حلف الأطلنطي ، مما يعني دخول مصر نطاق الحرب الباردة وتعرضها لأخطار حرب حقيقية.

يقول المرشد في رسالته :

السيد جمال عبد الناصر- رئيس مجلس الوزراء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد

فإني لا زلت أحييك بتحية الإسلام وأقرئك السلام. ولازلت ترد على التحية بالشتائم واتهام السرائر واختلاق الوقائع وإخفاء الحقائق ، والكلام المعاد الذي سبق لكم قوله والاعتذار عنه. وليس ذلك من أدب الإسلام ولا من شيم الكرام ، ولست أطمع في نصحك بأن تلزم الحق فذلك أمر عسير وأنت حر في أن تلقي الله تعالى على ما تريد أن تلقاه عليه ، ولكني أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها وكتم أنفاسها. وأنها في حاجة إلى بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير وأن غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلى آخر ما تنسبون إليهم. أن الأمة في حاجة الآن إلى القوت الضروري ، القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب. أنها في حاجة إلى حرية القول ، فمهما قلتم أنكم أغدقتم عليها من خير فإنها لن تصدق إلا إذا سمحتم لها بأن تقول أين الخير وسمحتم لها بأن تراه ، ومهما قلتم أنكم تحكمونها حكما ديمقراطيا فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام والتعبير عن الرأي. وإذا حققتم ذلك فإننا نعدكم بأن نذكر الحقائق ولا نخاف من نشرها وتصدق القول ولا نشوبه بالكذب والبهتان والاختلاق ، ولا نتهم لكم سريرة ولا تبادلكم فيما تضمرون وتدخرون في أنفسكم ولا تجاري بعض وزرائك فيما يكتبون من غثاثة وإسفاف وإنما نعدكم -كما هو شأننا- بأن نناقش المسائل مناقشة موضوعية على ما تعطيه الوقائع التي ترضونها أو تصدر عنكم ، أما أن تعطوا أنفسكم الحق في الكلام وتحرموا الناس منه ، وأما أنكم تفرضون آرائكم بالنبوت على الأمة فشيء لا يعقله الناس ولا ترضاه الأمة.

أيها السيد :

أن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها فأعيدوا إليها حقها من الحياة وإذا كان الغضب على الهضيبي وعلى الإخوان المسلمين قد أخذ منك كل مأخذ فلكم الحق أن تغضبوا -وهذا شأنكم- ولكن لا حق لكم في أن تحرضوا الناس على الإخوان المسلمين وتغروهم بهم ، وليس ذلك من كياسة رؤساء الوزارات في شيء فأنه قد يؤدي إلى شر مستطير وبلاء كبير ، ومن واجبكم أن تحافظوا على الناس مخطئهم ومصيبهم وأن تجمعوا شمل الأمة على كلمة سواء. وأنكم لا شك تعلمون أن الإخوان المسلمين حملة عقيدة ليس من الهين أن يتركوها ولا أن يتركوا الدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلا.

فإغراء بعض الأمة بهم وتحريضهم عليهم من الأمور التي لا تؤمن عواقبها.

«وأنني أؤكد لكم أن في وسعك أن تمشي ليلا أو نهارا وحدك بلا حراس وفي أي مكان دون أن تخشى أن تمتد إليك يد أحد من الإخوان المسلمين بما تكره. أما أن يمد أنصارك أيديهم بالسوء إليهم استجابة إلى إغرائك فإن مسؤوليتك عند الله عظيمة. ولعل الذي حملك على أبداء العداوة والبغضاء للإخوان المسلمون هو أنهم عارضوا المعاهدة ، فالإخوان المسلمون لن يؤمنوا بها دون أن تناقش في برلمان منتخب انتخابا حرا يمثل الأمة أكمل تمثيل».

وقد اعترض على هذا الاتفاق النهائي الرئيس محمد نجيب (1901- 1984) ومن الشخصيات العامة كل من الأستاذ سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة الذي أصبح أول وزير داخلية بعد قيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952 والمرحوم الأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية (من 1945 إلى 1952) والمرحوم الأستاذ محمد العشماوي وزير المعارف سابقا وعضوا لجنة الدستور.

وكان صوت الإخوان المسلمين ممثلا رأي كثير من القوى ، ومن العجب الذي ندهش له أن الصحافة الأجنبية قد دعت إلى القضاء عليهم منذ أوائل يناير 1954 ، أكان تخطيطا مسبقا وإشارة بدء لحل الجماعة والمحنة التي جرت عليها؟ الرد لا شك بالإيجاب. ونعود إلى ما ذكرته وكالة United press الأمريكية «أنه بالقضاء على الإخوان المسلمين ، فإن النظام العسكري يكون قد أزاح أيضا آخر الأصوات المناهضة لبريطانيا» وأشارت الوكالة «أن وجهة النظر البريطانية في هذا الشأن ، ترى بأن المفاوضات تفترض وجود حكومة مصرية قوية من أجل ضمان تنفيذ أي اتفاق واحترامه» وفي هذا المعنى أردفت الوكالة الأمريكية أنه كلما زادت قبضة النظام دكتاتورية ومطلقة كان في ذلك الإفادة .

ولكي يكون حكمنا على الاتفاق المصري البريطاني موضوعيا نعود إلى ما ذكره أنتوني ناتنج وزير الدولة البريطاني الذي وقع الاتفاق النهائي والذي نشرته الصحافة الأجنبية في الوقت الذي كممت فيه الصحافة المصرية ، قال ناتنج في مجلس العموم البريطاني : «يجب الإشارة إلى أنه لأول مرة يكون لنا حق شرعي في الحصول على قاعدة عسكرية في مصر. هؤلاء الفنيون يتمتعون بالحصانات إزاء السلطات القضائية المصرية وأن التجهيزات الضرورية معفاة من الجمارك وهذه أهم التزامات مالية وسياسية من قبل حكومة ذات سيادة أما بشأن الملاحة الإسرائيلية فقد أكد في حديث له أن مصر ملتزمة بحرية الملاحة للسفن الإسرائيلية .

هذا الاتفاق المصري البريطاني الموقع عليه في أكتوبر 1954 لا شك قد خالف الأماني الوطنية وقتئذ ، وناقض ما لم تقبله الحكومة المصرية في مباحثات 1950- 1951 والتي قررت حكومة مصطفى النحاس مجابهتها بإلغاء معاهدة 1936 في 8 أكتوبر 1951 والتي قبلها وفد المفاوضات المصري عام 1954 ومتنازلا عن حقوق مالية قدرها 52 مليون جنيه إسترليني طالبت بها الحكومة المصرية سابقا كرسوم جمارك حتى تاريخ إلغاء معاهدة 1936.

محنة الإخوان:

تلك المحنة التي ختم بها الإخوان عام 1954 كانت لا شك حصيلة كيد خارجي وداخلي معا. ولا نقصد بالكيد الخارجي إثارة قوى أجنبية فذلك ثابت كيده يقينا بما قدمنا من الاستعداء الإنجليزي والأمريكي معا وقد وضحته وكالات الأنباء يومئذ.

أما الذي ينحن بصدده فهو كيد فريق القادة الجدد الذي هيمن على مقدرات الأمور ومصير شعب ، وقد بدا لهذا الفريق بعض القضاء على كبار العهد بتحطيم الأحزاب السياسية وحلها في 17 يناير 1953 وبعد أن قضى على سطوة أصحاب الإقطاع في سبتمبر 1952 ، أن الصراع بينه وبين جماعة الإخوان حتمي رغم ما ظهر من علائق التعاون بين التنظيمين منذ أعداد الثورة وقيامها التي أثبتناها بوثائقها.

وعود على بدء إلى مذكرات أحد صناع هذه الفترة مصورا الكيد الرخيص من أجل سلطان الحكم ومغنم السلطة ، يقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته - التي صور فيها الإخوان المسلمين وواصفا إياهم بضعف الشخصية ، وأن أهدافهم كانت الاستيلاء على السلطة- أن مجلس قيادة الثورة اجتمع في 18 ديسمبر سنة 1953 واتفق على مقاومتهم والقضاء على جماعتهم خاصة وأنهم كانوا يعملون على التوغل في صفوف الجيش والبوليس ، ولذا اتفق على العمل لزيادة الانشقاق بينهم لإضعاف وتفكيك صفوفهم لإمكان مقاومتهم والقضاء عليهم ، خاصة وأن قادتهم كانوا لا يثقون في بعضهم البعض كما كانوا ضعاف الشخصية ، وأن أفراد الخلايا في الجماعة نفسها لم يكونوا يعرفون أهداف قيادتهم الحقيقية ، وهم يتبعونها على أنها دعوة دينية ليست لها أهداف سياسية .

ذلك القرار لا شك كانت له مقدماته ، وهي الوقيعة التي أحدثها عبد الرحمن السندي صديق جمال عبد الناصر والذي قرر مكتب الإرشاد العام فصله من رئاسة الجهاز الخاص بتاريخ 22 نوفمبر 1953 لمسؤوليته عن أخطر حادثين أصابا الجماعة من داخلها وأولهما مقتل المهندس سيد فاز أحد أعضاء هذا الجهاز والذي خالف رئيسه في رأيه ، وثانيهما إرسال السندي لجماعة من أفراد الجهاز الخاص الذي يدينون له بالطاعة لإرغام المرشد على الاستقالة ، قد ساعد على إشعال هذه الفتنة لا شك خطة جمال عبد الناصر وقتها في الاتصال بأعضاء من الجماعة - من خلف ظهر المرشد وساعيا لتجميعهم ضده بعد أن تبين له أن المرحوم الأستاذ الهضيبي يشكل عقبة كبيرة في طريق تنفيذ مخططاته ضد الجماعة وما يبطن حيالها ، وهو العائق الذي عبر عنه بصدق الشيخ الباقوري الذي عين وزيرا للأوقاف بعد أن خلع ربقة الإخوان ، في حديث نشرته جريدة Le Monde الفرنسية أن الهضيبي رجل عاقل يعرف متى ينسحب في الوقت المناسب .

وقد أثار فصل عبد الرحمن السندي وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وأحمد زكي بعض شباب النظام الخاص الذين صدرت إليهم التوجيهات لإحراج المرشد بالسؤال عن أسباب الفصل. ولكن المرشد -خاصة بعد مقتل سيد فايز- لم يكن يذكر أسبابا دعت لهذا الفصل ، وأن نفي المركز العام وجود الصلة بين قرار الفصل وحادث مقتل سيد فايز لأن السبب الجوهري كان صلة المفصولين لاسيما السندي بقادة الثورة من خلف ظهر قيادة الجماعة وليس من الحكمة الجهر بهذا السبب بينما تتربص الحكومة بالجماعة للكيد لها والوقيعة بين القائمين عليها ، فاستغل المفصولون هذا الأمر وبدءوا الإشاعة في صفوف النظام أن الجماعة تخلت عن الجهاد وأصبحت مجرد جمعية خيرية بعد حل الأحزاب ، ولهذا يسعى المرشد لحل النظام الخاص ، وقد ساند هذه الطائفة مجموعة من المتعاطفين من أعضاء مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية منهم صالح عشماوي والشيخ محمد الغزالي عضوا مكتب الإرشاد العام ، وعبد العزيز جلال والشيخ سيد سابق عضوا الهيئة التأسيسية لكي يختاروا مرشدا عاما للإخوان بدلا من المرحوم الأستاذ الهضيبي وكان التدبير أن يختاروا صالح عشماوي حيث كان قد اتهم قيادة الجماعة في إحدى الخطب بالتخلي عن الجهاد ، وترتب على هذا الموقف قرار مكتب الإرشاد العام في 9 ديسمبر 1953 بفصل الأعضاء الأربعة ( ) ، وقد أقرت الهيئة التأسيسية ذلك.

تلك الأحداث كشفت ضرورة استغلال الانشقاقات بين الإخوان فكان قرار مجلس قيادة الثورة يدس الفتنة بين أعضاء الجماعة. ولما فشل هذا الدرس بالوقيعة كان لا بد من علانية المواجهة بقرار حل الإخوان في يناير 1954 وما أعقبه من محاولة استقطاب العناصر المفصولة لتكوين قيادة جديدة وفقا لما أوردته جريدة Le Monde الفرنسية بنصها أن صالح عشماوي قد أبدى رغبته للمسؤولين بجمع الإخوان المسلمين تحت قيادة جديدة ومن أجل تعاون مشترك مع هيئة التحرير .

أدرك جمال عبد الناصر في هذه الفترة أن أسلوب المواجهة قد يتخذ سبيلين أولهما الدس والفتنة وثانيهما اصطدامه سافرا مع الإخوان ، وهذا المنطق الأخير هو الذي دفعه للاستفزاز بأعضاء هيئة التحرير في غير مناسبة وكما بدا واضحا في حادث الجامعة الذي جعل أحد أسباب الحل الذي أصاب الجماعة في يناير 1954. ولإلقاء الضوء على أسباب هذا الحادث الذي ثبت أن طلاب الإخوان لم يكونوا معتدين بل معتدي عليهم نعود إلى الشهادة التي أوردتها جريدة Le Monde الفرنسية حيث ذكرت أن طلاب جامعة القاهرة قد اجتمعوا بمناسبة ذكرى شاهين والمنيسي وللاحتجاج ضد بريطانيا. وكان نواب صفوي زعيم جماعة فدائيان إسلام الإيرانية أحد شهود هذا الحفل الذي اخترقته سيارة جيب عسكرية يقودها ملازم الجيش وبها مجموعة من المدنيين يهتفون بشعارات هيئة التحرير التي أنشأتها الحكومة. في مواجهة تلك المجموعة التي أوقفها طلاب الجامعة الذين كانوا يهتفون بشعاراتهم بدت بعض الأحداث أطلق خلالها الأولون النار من أسلحتهم للفرار تاركين سيارتهم .

أما السبيل الأول ، فقد حاول بدائة أحداث الفتنة مستغلا صديقه عبد الرحمن السندي ولما بدا له الفشل استقطب فريقا آخر للنيل من الإخوان بالوقيعة فها هو كما تصوره جريدة الجمهورية في 13 فبراير 1954 في صفحتها الرابعة يقف على قبر حسن البنا يوم ذكراه الخامسة وعلى يمينه عبد الرحمن البنا والبهي الخولي عضوا مكتب الإرشاد وصالح عشماوي عضو المكتب المفصول ، كان يأمل أن تأتي محاولته ثمارها فأبقى على بعض أعضاء الجماعة مثل المرحوم الأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ عمر التلمساني وغيرهما ولم يقبض عليهما إلا بعد مظاهرة عابدين في 28 فبراير 1954 وذلك في 2 مارس 1954 ، بينما كان المرشد حسن الهضيبي ومن معه من الإخوان أعضاء المكتب أو الهيئة التأسيسية مثل أستاذ القانون الدكتور توفيق الشاوي أو أستاذ الطب المرحوم الدكتور إبراهيم أبو النجا أو أستاذ الآداب الدكتور عبد المنعم خلاف وغيرهم رهن الاعتقال.. ومصدرا البيانات الزائفة ترمي الإخوان بالبهتان كما أوردها قرار حل الإخوان الذي نشره الأهرام ، وهي تلك التي فندنا كذبها بالوثائق التي تصور حقبة سوداء في تاريخ مصر أسدل عيها ستار النسيان أو المغالطة أو التزوير لفترة طويلة. بيد أن السبيل الآخر بمحاولته الدس والوقيعة قد فشل أيضا وأتى عكس ثماره التي خيل له الوهم انتصار كيده وذلك لما تبين أن من حاول استقطابهم قد كشفوا كيده الرخيص وأعادوا قسم البيعة لحسن الهضيبي يوم خروجه من الاعتقال كما أوردت ذلك صحيفة المصري بذكرها في الصفحة الأولى بتاريخ 26 مارس 1954 بقولها : أن الشيخ محمد الغزالي وصالح عشماوي وأحمد عادل كمال قد بايعوا مرشدهم.

المحنة الثانية:

وهي المرحلة الثانية التي مرت بها جماعة الإخوان إبداءهم لواء المعارضة للاتفاق المصري البريطاني الذي وقع بالأحرف الأولى في 27 يوليو 1954 بعد ستة عشر يوما من بدء المفاوضات ، ولنعد إلى شهادة أحد صناع هذه الفترة وهو زكريا محي الدين الذين يذكر أن هذه السرعة في توقيع المعاهدة المصرية الإنجليزية تمت نتيجة وساطة أمريكا التي كشفت الوثائق المعاصرة أخيرا صلة وكالة المخابرات الأمريكية بجمال عبد الناصر بعد أن نحى وفريقه بعض الضباط المنتمين إلى الإخوان أمثال عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي من قيادة الحركة وضاما المندفعين والمغامرين الذين أحضرهم من غرز الحشيش والبارات كما ذكر لكمال الدين حسين عندما أفزعه وضباط المدفعية هذا الخليط العجيب الذي ضم إليهم قبل قيام الحركة ، فكانوا كما قال أحد صناع هذه الفترة «أول من أساء إلى الثورة بعد قيامها بتصرفاتهم وتحقيق المكاسب المادية لأنفسهم وتكوين الثروات من المال الحرام» .

وعود على بدء لإلقاء الضوء على هذه الفترة الحاسمة في تاريخ الحركة الإسلامية بمصر التي يبدأ صراعها في مجابهة التسلط بما عرضوه في نقدهم لتوقيع الاتفاق المصري البريطاني كما عرضناه آنفا والذي قدم يوم 2 أغسطس 1954 لرئيس مجلس الوزراء (جمال عبد الناصر) الذي أغضبه فيما يبدو أن يبدي من بقي على الساحة اعتراضا على سلطانه بعد صب جام غضبه على المثقفين وأساتذة الجامعات وطلابها الذين أغلقت معاهد علمهم بعد إضرابهم ، وأطلق لنفسه عنان الخبال باتهام الإخوان مرة أخرى بالتآمر مع بريطانيا والاتفاق مع المستر ايفانز التي فندنا مزاعمه بشهادة حسن التهامي ومطلقا صحافة هيئة التحرير ردا على خطاب المرشد حسن الهضيبي إليه بتاريخ 22 أغسطس 1954 مكذبا زعمه بالاتصال بالإنجليز ومؤكدا على نقد الاتفاق المبرم وحرية التعبير حتى «يحكم الناس علينا بفعلنا لا بقولك ، وحتى يستطيعوا أن يعرفوا حقيقتها (المعاهدة) من جملة الحجج ولا يكتفوا بسماع طرف واحد».

وصحبت تلك الحملة الصحفية التي قصد بها المرشد الذي مثل عقبة أمام عبد الناصر والتي عبر عنها الشيخ الباقوري كما أوردنا ، حملة أخرى تنال الإخوان بوصفهم بالتخريب والتجارة بالدين وتشكك الناس في الإسلام وحكم الإسلام كما دأب خطباء الهيئة على مثل ذلك متمثلين ببعض الدول التي تدعي الحكم بالإسلام وهي أبعد ما تكون عنه

وأعقب تلك الحملة المحمومة خطاب الهضيبي الذي أرسله بتاريخ 4 سبتمبر 1954 الذي قدمنا نصه مؤكدا معارضة الإخوان للمعاهدة دون أن تناقش في برلمان منتخب انتخابا حرا يمثل الأمة أكمل تمثيل. إزاء هذه المعارضة التي مثلت تحديا لجمال عبد الناصر بدأ هذا الأخير في مضاعفة إجراءات القمع ضد جماعة الإخوان والتي قصد بها أصلا مرشدها العام الذي ألقى القبض عليه بتاريخ 8 أكتوبر 1954 عقب خطابه الشهير كما أوقف العشرات وجرت حملة تطهير في الجيش بين ضباط الصف من الإخوان.

وأضحى هذا الإجراء وجرت حملة تطهير في الجيش بين ضباط الصف من الإخوان. وأضحى هذا الإجراء سبيلا لتوقيع الاتفاق النهائي ولنعد لتقرير وكالة United press الذي ذكرت فيه «أن النظام قد وقع الاتفاق المبدئي بالأحرف الأولى (في 27 يوليو) خلال العطلة الطلابية ، يتعجل في التوقيع على الاتفاق النهائي قبل بدء الدراسة في معاهد مثيري المعارضة (القصد الجامعات) والتي من شأنها إثارة المشكلات والقلاقل للعسكريين ( ) فوقع الاتفاق النهائي في 19 أكتوبر 1954 «ولم يبد البكباشي عبد الناصر أكثر انعزالا في نظر الشعب المصري كما بدا في اليوم الذي حمل فيه إلى الشعب اتفاقية الجلاء «كما ذكر ذلك الكاتب الفرنسي جان لاكوتور في كتابه «ناصر».

وصحب التوقيع جملة على المرشد في محبسه وعلى العصاة في زعمه ، كما أردفتها فتنة أخرى حاول استغلالها بالانشقاق الذي وقع في صفوف الإخوان يتولى خمسة أعضاء هم محمد جودة ، محمد الخضري ، محمد عبد السلام فهمي ، محمد فتحي الأنور وحلمي المنياوي حركة عصيان بإقالة المرشد ومكتب الإرشاد ، هذا الإجراء الذي حسبه عبد الناصر انتصارا له بمحاولة هذه العناصر المعتدلة في ظنه للتعاون مع حكمه عقب توقيعه الاتفاق النهائي الذي كان يعد المرشد عدوه الألد. لكن كما خاب ظنه في المحنة الأولى (ديسمبر 1953- مارس 1954) فقد مني أيضا بالفشل في استغلال هذا الانشقاق الذي اعترضت على وقوعه الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان في اجتماعها غير العادي بتاريخ 22 أكتوبر 1954 حيث قررت عقد جلسة خاصة بعد أسبوع للنظر في سياسة الجماعة

وفي 26 أكتوبر 1954 وقف جمال عبد الناصر بميدان التحرير بالمنشية في الإسكندرية يلقي كلمة فإذا برصاصات تنطلق استمر بعدها في خطابه.. سأعيش من أجلكم وسأموت من أجل حريتكم وكرامتكم فليقتلوني.. لست أبالي ما دمت قد غرست فيكم العزة والكرامة والحرية (!) وإذا مات جمال عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر وعلى كل مواطن أن يكون جمال عبد الناصر وأن يتابع جهاد جمال عبد الناصر .

وصدر بيان أن الذي أطلق الرصاص شاب مفتون من الإخوان المسلمين أسمه محمود عبد اللطيف وهو سمكري من إمبابة بالقاهرة ، وثبت من التحقيق الذي أجرى كما أذاعت ذلك الرواية الرسمية أن المؤامرة لم تكن مقصورة على جمال عبد الناصر. بل كانت هناك خطة مرسومة لاغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة ونحو 160 ضابطا من ضباط الجيش. وقد ضبطت في مخابئ الإخوان مفرقعات تكفي لنسف جانب كبير من القاهرة والإسكندرية ولم تر الحكومة بدا -كما يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي- من العودة إلى محاكمات الثورة لتتقي شر مؤامرات الإخوان. فماذا عن المؤامرة؟ وحادث المنشية .

حادث المنشية والخيال المريض

هذا الحادث الذي أصبح ينظر إليه بشك من قبل ذوي الحيدة ، أكان حقيقيا أم محض اختلاق؟ سؤال تجيبنا عليه شهادة من عملوا مع جمال عبد الناصر وما أوصلتنا إليه دراستنا التحليلية من خلال الإطلاع على وسائل الإعلام الأجنبية في الوقت الذي كممت فيه الصحافة المصرية ، وللمحاكمة التي أجريت.

في أول نوفمبر 1954 أصدر مجلس قيادة الثورة أمرا بتأليف محكمة مخصوصة سميت محكمة الشعب برئاسة قائد الجناح جمال سالم (عضو مجلس قيادة الثورة وناب رئيس الوزراء) والبكباشي أنور السادات (عضو مجلس القيادة ووزير الدولة) والبكباشي حسين الشافعي (عضو مجلس القيادة ووزير الشؤون الاجتماعية) وتختص المحكمة بالنظر فيما يرى مجلس قيادة الثورة عرضه عليها من القضايا أيا كان نوعها حتى ولو كانت منظورة أمام المحاكم العادية أو غيرها من جهات التقاضي الأخرى ما دام لم يصدر فيها حكم ، وتعتبر هذه المحاكم أو الجهات متخلية عن القضية فتحال إلى المحكمة المخصوصة بمجرد صدور الأمر من مجلس قيادة الثورة بذلك ، وتختص بمحاكمة الأفعال التي تعد خيانة للوطن أو ضد سلامته في الداخل والخارج وكل ما يعتبر موجها ضد نظام الحكم والأسس التي قامت عليها الثورة. مادة 3 : يعاقب على الأفعال التي تعرض على المحكمة بعقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو بالسجن أو بالحبس المدة التي تقدرها المحكمة أو أي عقوبات أخرى تراها المحكمة.

مادة 4 : ينشأ بمقر قيادة الثورة مكتب للتحقيق والادعاء يلحق به نواب عسكريون وأعضاء من النيابة العامة ، يتولى رئاسته البكباشي زكريا محي الدين (وزير الداخلية). ولهم حق الأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا ولا تجوز المعارضة في هذا الأمر.

مادة 6 : للمحكمة أن تتبع من الإجراءات ما تراه لازما لسير الدعوى ولا يجوز المعارضة في هيئة المحكمة أو أحد أعضائها. وهو ما عبر عنه النائب العام وقتئذ بقوله «أن المحكمة لها كامل السلطات وهي غير مقيدة بأي قانون كما أوردته صحيفة Le Monde الفرنسية .

مادة 8 : أحكام المحكمة نهائية ولا يقبل الطعن بأي طريقة من الطرق أو أمام أي جهة من الجهات وكذلك لا يجوز الطعن في إجراءات المحكمة أو التنفيذ.

محكمة تشكلت دون توافر أية ضمانات قانونية للمتهمين الماثلين أمامها ، وقد قصد بها الانتقام كما يبدو مما أوردته جريدة الأهرام بتاريخ 2 نوفمبر 1952 حيث نصت المادة 5 من قرار تشكيل المحكمة «يخطر المتهم بالتهم ويوم الجلسة بمعرفة المدعي قبل ميعادها بأربع وعشرين ساعة على الأقل ، ولا يجوز تأجيل القضية أكثر من مرة واحدة ولمدة لا تزيد على 48 ساعة للضرورة القصوى».

كما ذكرت «ولا ينتظر أن يعلن مكتب الإدعاء والتحقيقات عددا كبيرا من الشهود للحضور في المحاكمة ، وسيكتفي بعدد محدود منهم إذ أن المتهمين قد اعترفوا بجريمتهم اعترافا كاملا واضحا.

وهي الصورة عينها تكررت في 25 مارس 1964 بصدور القانون رقم 119 لسنة 1964 الذي خول لرئيس الجمهورية (جمال عبد الناصر) في غير الحالات الاستثنائية والطارئة المقررة في قانون الطوارئ وبدون إبداء أسباب أن يقبض على المواطنين وأن يحتجزهم فيما أسماه «بمكان أمين» وأن تفرض الحراسة على أموالهم وممتلكاتهم وأن يكون لسلطات التحقيق في الجرائم التي تحال إليها سلطات مطلقة وغير مقيدة بما ورد في قانون الإجراءات الجنائية ، من قيود وضمانات للأفراد ، ولرئيس الجمهورية الحق في أن يأمر بتشكيل محاكم استثنائية من العسكريين لمحاكمة المواطنين وأعفيت هذه المحاكم من أن تتقيد بأي قانون وحظر الطعن في أحكامها بأي وجه من الوجوه.

أكان نذيرا لمحاكمة الإخوان في قضية أخرى مشابهة؟ لا نشك في ذلك وهو ما شهد به عام 1965. تلك عن الإجراءات ، فما بال المحاكمة ذاتها؟

أما القاضي جمال سالم فقد نصب نفسه مدعيا عاما ، فكان يقاطع كما يحلو له إجابات الشهود إذا لم تحز رضاه ، ويكرههم بالتهديد على الإجابات المطلوبة ، وكانت أسئلة تصاغ بحيث تحول دون أي إجابة تختلف عما تطلبه المحكمة وأية محاولة لإضافة تفاصيل جديدة كانت تصد في الحال. وفي بعض الأحيان كان يشتبك في حوار ومجادلة مع المتهمين توجه فيها إهانات وقحة ، وكان يسمح للجمهور القليل العدد إذ لم يزد على الثلاثين اختيروا بعناية ، وبعضهم من الصحفيين بالمشاركة في السخرية وتوجيه الإهانات لهم ، وفي مناقشة الشهود لم تكن غالبية الأسئلة الموجهة لهم مرتبطة بما يحاكمون فيه ، فكانت تتضمن تفسيرا للآيات القرآنية وإعراب كلمات وطلب إلى يوسف طلعت قراءة الفاتحة بالمقلوب (هكذا).

وماذا عن الحادث ذاته؟ أحقيقي هو أم ملفق؟

نعود في دراستنا إلى شهادة السيد حسين التهامي التي أوردها بمجلة روز اليوسف في العدد 2603 الصادر في أول مايو 1978 ، وهو العدد الذي كشف فيه النقاب عما اتهم به الإخوان من اتصال مع الإنجليز وكشف فيه هذا الزيف إذ تم بعلم عبد الناصر ، يذكر في شهادته «أن هناك خبيرًا أمريكيًا قد اقترح اختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها ، فإن هذا الحادث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي لا بد وأن يزيد شعبية عبد الناصر لتأهيله للحكم الجماهيري العاطفي ، وأنه قد ورد قميص واق من أمريكا قبل هذا الحادث ببضعة أسابيع وكان مودعا عنده في بيته ، وأرسلناه إليه في نفس الليلة فوصله في الصباح الباكر وعندما رآه وكان معه العديد من الزملاء يهنئونه على نجاته ضحك كعادته وقال «كل شيء انتهى»!

وشهادة أخرى ذات أهمية نذكرها وهي للواء طيار متقاعد عبد الحميد دغيدي وقد نشرها تحت عنوان «هذا رأيي في حادث المنشية» بجريدة السياسي التي تصدر عن دار التعاون في أبريل 1975 جاء فيها : «ذهبت مع السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة السابق لمعاينة شرفة مبنى بورصة الإسكندرية سابقا ومقر الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي بالإسكندرية حاليًا. فقد كان المقرر أن يلقي رئيس الجمهورية السابق محمد نجيب خطابًا سياسيًا من هذا المكان ، واتضح لنا من المعاينة أن السور المحيط بالشرف عالي بحيث طلبنا من قائد المنطقة الشمالية وقتئذ إعداد ما يقف عليه محمد نجيب أثناء إلقاء الخطاب ليشاهد الناس ويشاهدوه. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ، فقد جمعني مجلس عقب إطلاق الرصاص بميدان المنشية على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع النائب العام الأسبق الأستاذ حافظ سابق الذي أشرف على التحقيق فسألته :

- هل عاينت مكان الحادث؟!

فأجاب بالنفي ( ).. ثم استطرد قائلا :

- ولكن المتهم اعترف..

وللتاريخ والإنصاف أقول أن أي فرد أو جماعة كانت تدبر حادث الاغتيال المشار إليه ما كانت تختار ذلك المكان لتنفيذ خطتها ، فسور الشرفة كما أوضحت لا يسمح بدقة التصويب وخاصة أن الذين سبق لهم الاستماع إلى خطب بميدان المنشية ما كانوا يرون الرئيس الراحل بوضوح إلا على بعد يزيد على الثلاثمائة متر ، وتلك المسافة تخرج عن المرمى المؤثر لإطلاق المسدس ، كما أن الجمهور المتزاحم حول المقدم على الاغتيال لا يسمح له باتخاذ وضع التنشين على الهدف بالدقة والسرعة المطلوبة.

صحيح أنه حدثت إصابات نتيجة إطلاق الرصاص ، لكن الواضح أنه إطلاق رصاص طائش مما يوحي بأنه لم تكن هناك خطة جادة للاغتيال ولكن خطة لأمر آخر!

وتناقض يلقاه من يطالع صحف هذه الفترة ، من ذلك عدد الطلقات التي أطلقها الجاني ، فذكر صلاح سالم وزير الإرشاد القومي أنها ثماني ، بينما تذهب جريدة الأهرام بتاريخ 27 أكتوبر 1954 في صفحتها الخامسة إلى عشر رصاصات وأيضا إلى أداة الجريمة وقد ذكرت جريدة الأهرام نبأ العثور عليه بتاريخ 2 نوفمبر 1952 وأوردت لهذا النبأ قصة سقيمة بقولها قد عثر عليه عامل بناء وسار على قدميه إلى القاهرة الذي لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار! ليقوم بتسليم المسدس إلى جمال عبد الناصر حيث أهداه مائة جنيها من جيبه.

وندع هذا الخيال المريض ولنرجع إلى الصحافة الأجنبية لتطلع على ما أحاط بهذا الحادث من غموض أريد للشعب المصري أن يعيش فيه من خلال صحافته المكممة.

على صفحات جريدة La Suisse السويسرية الصادرة في 27 أكتوبر 1954 ، كذلك صحيفة Le Monde الفرنسية الصادرة في 28 أكتوبر 1954 نقرأ «بينما جمال عبد الناصر يلقي خطابه في حشد جماهيري إذ بشاب يطلق ست رصاصات في اتجاهه» وتؤكد الصحيفة السويسرية أن هناك أربعة أفراد يدعى الحسيني السيد عرام موظف بوزارة التربية والتعليم كان ممسكا بمسدس وهو يؤكد عثوره عليه ملقيا على الأرض حيث يبدو أن أحد العسكريين قد تركه يسقط عمدا ، بيد أن بعض الشهود -كما تقول الصحيفة السويسرية- يؤكدون أنه مطلق النار. واتهم بعض الشهود شخصا ثانيا يدعى محمد إبراهيم دردير بأنه الفاعل ، وفرد ثالث يدعى محمد عامر حماد أوقف عندما حاول الهرب ، أما الشخص الرابع (لم تذكر الصحيفة اسمه) فيظن بأنه قد استعمل سلاحا وجد في حوزته لإطلاقه في الهواء تعبيرًا عن الفرحة ، وهو سمكري يقطن القاهرة واشترك في حرب فلسطين ، ذكر بأنه من الإخوان المسلمين». إزاء هذا التضارب يصرح هذا الأخير الذي تبين أن اسمه محمود عبد اللطيف بأنه قد أطلق ثمان رصاصات لتحية وصول البكباشي جمال عبد الناصر. وهو في قوله ذلك يخالف ما ذهبت إليه الصحيفتان السويسرية والفرنسية من أن العدد هو ست رصاصات ، كما يخالف الحقيقة المسجلة على شريط من أرشيف الإذاعة المصرية. أوقع عليه إكراه أو ضغط؟ ربما ، إذ أن المنطق لم يخدم أيضا السلطة آنئذ بما قدمته من نبأ عثور عامل البناء على السلاح ، بينما نقرأ في موسوعة الأسلحة الخفيفة العالمية (الطبعة الفرنسية) أن عدد طلقات هذا النوع هو ست طلقات ، ومطلق الرصاص قيل بأنه كان معروفًا شخصيًا لدى جمال عبد الناصر ، فهل وعد بمقابل لاعتراف ملفق؟ وهل كان تكرار الرئيس لعبارة «أيها الرجال ، فليبق كل في مكانه» حيث كررها غير مرة تعني تمثيل القبض عليه.

والرواية الرسمية التي أذاعتها السلطة من أن المتهم بإطلاق النار قد أتى مبكرا إلى مكان الحفل حيث اتخذ مكانه على بعد خمسة عشر مترا تناقضها شهادة الصاغ السابق إبراهيم الطحاوي مسؤول هيئة التحرير في هذه الفترة (كان سكرتيرًا عامًا مساعدًا ، بينما عبد الناصر كان يشغل سكرتيرها العام) الذي ذكر بأن الثلاثين صفا الأولى قد خصصت لهيئة التحرير ومنظمة الشباب التابعة للهيئة والحرس الوطني .

والشاهد الأول هنداوي دوير الذي اتهم بأنه حرض مطلق الرصاص ، قبيل بأنه كان من المحيطين بعبد الرحمن السندي صديق عبد الناصر ورئيس الجهاز الذي فصل عندما أراد حسن الهضيبي القضاء على انحراف الجهاز الخاص- هل وعد هو الآخر مقابل اعتراف ملفق؟ لا نشك في ذلك ، حيث أنه تحيط به الشبهات ، خلافا لما أراد أن يدعيه من حلفه من الجهاز الخاص على يد حسن البنا شخصيا أو أنه عضو في الهيئة التأسيسية ، ولما ضاق من تضارب أقواله صرخ قائلا أنه كان يود أن يحاكم أمام محكمة إنجليزية . هذا الشاهد الذي أتوا به كان يأتي حركات عصبية تخالف طبيعة رجل تمرس أعمالاً تتسم بالسرية ، وقد أراد لنفسه وأراد له المدعي أن يكون محاميا لدى مكتب عبد القادر عودة بينما يذكر القاضي الشهيد في أقواله أنه لم يره من قبل كما أوردت أقواله جريدة الأهرام بتاريخ أول ديسمبر 1954. أوعد الاثنان محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير الذي ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أنه كان يأمل حتى ساعة إعدامه في رسالة من جمال عبد الناصر تنقذ رقبته؟ لا نشك في ذلك وقتيا بما وعدا به يوم 7 ديسمبر 1954.

الإخوان والحادث:

هذا الحادث أصبح السبيل الأخير للقضاء على آخر المعارضين للاتفاق المصري الإنجليزي ، وهو ما عبر عنه بصدق الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي آنئذ بقوله «أنه كان في النية القضاء على جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة عدا نجيب وتشكيل وزارة جديدة برئاسة محمد العشماوي ، الوزير السابق ويشترك فيها عبد الرحمن عزام الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الذي أنكر ما صرح به صلاح سالم. وهذان الأخيران (عزام والعشماوي) كانا من المعارضين للاتفاق ، أما محمد نجيب فقد رفض التصديق على الاتفاق كما أوردت ذلك صحيفة الديلي ميل البريطانية في تقريرها ، فكان أن دفع ثمن معارضته في 15 نوفمبر 1954 بإعفائه حيث عاش تحت الإقامة الجبرية.

أما نظرة الإخوان لهذا الحادث فقد تبين لنا من الإطلاع على الصحافة الأجنبية أنهم اعتبروه محاولة جديدة من عبد الناصر للإيقاع بهم دون أن تبدي مقاومة بالسلاح وهو ما ينفي عن الجماعة في رأينا ما ألصق بهم من اتهام وبهتان. يعبر عن ذلك المرحوم حسن العشماوي في كتابه «الإخوان والثورة» حيث ذكر : «تركنا - يوسف طلعت وأنا- الحديث عن حادث الإسكندرية إذ استوى عندنا يومئذ أكان ملفقًا أم صحيحًا ، وبدأت سؤاله بسؤالي التقليدي الذي أردده عليه منذ وقع ذلك الحادث وماذا تنوون بعد ذلك؟ كنت أسأله هذا السؤال- بوصفه رئيس الجهاز الخاص والمسؤول عنه ومما يضم من أشخاص وما يملك من سلاح- ولكني لم أجد عنده جوابا واضحا عن ذلك ، لا بسب قلة الرجال والاستعداد ولكن لأنه كان يتخوف من أمرين يعوقانه عن التصرف : هما التدخل الأجنبي إذا ثأرت قلاقل في مصر ، والتشفي ممن داخل السجون بقتلهم إذا أقدمنا على أية مقاومة سافرة للوضع العسكري القائم ، كان هذا التخوف بشقيه يسيطر على ذهن يوسف طلعت إلى أبعد الحدود حتى أعطاني صورة يائسة عن نية رفاقه».

وهي الصورة عينها التي كشف عنها المرحوم الأستاذ سيد قطب أمام المحكمة التي وقف أمامها يوم 23 نوفمبر 1954 بقوله «أن أكبر ظنون الإخوان المسلمين في حالة التفكير في تغيير النظام كان موقف الولايات المتحدة لأنه من المعروف أنها كانت تساند نظام حكم عبد الناصر» .

يتضح لنا من استقراء الأحداث أن حادث المنشية قد أريد استخدامه عاملا للحيلولة دون انعقاد الهيئة التأسيسية في 29 أكتوبر 1954 وفقا لما كان مقررًا ، وأن هذا الحادث أيضا قد نظر إليه من قبل السلطة القائمة بأنه حادث فردي إذا ذكرت صحيفة الأهرام أن التهمة الموجهة إلى محمود عبد اللطيف هي الشروع في قتل الرئيس جمال عبد الناصر والذي بدأت محاكمته في 12 نوفمبر 1954 وما أعلن عن تقديم المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي وأعضاء مكتب الإرشاد العام إلا في 21 نوفمبر 1954.

ما بين التاريخين اعتبر الإخوان أنفسهم براء مما ألصق بهم من اتهام ومحاولة للنيل منهم وهو ما عبر عنه المرحوم الأستاذ عبد القادر عودة في كتابه المرسل إى جمال عبد الناصر بتاريخ 4 نوفمبر 1954 والذي أذاعته وكالة الأنباء الفرنسية في الوقت الذي كممت فيه الصحافة المصرية.

يقول الأستاذ عبد القادر عودة الوكيل العام لجماعة الإخوان المسلمين (نذكر أن المرشد الأستاذ حسن الهضيبي ألقي القبض عليه في 8 أكتوبر 1954) في كتابه :

1- أن جماعة الإخوان تتعهد بحل الجهاز الخاص وتسليم الأسلحة التي في حوزتها إلى السلطات خلال الخمسة عشر يوما التي تعقب الهدنة مع هذه الأخيرة ، (ذكر المرحوم الأستاذ عبد القادر عودة أن هذه الأسلحة قد سلمت إلى الإخوان عام 1953 للاشتراك في القتال أثناء النزاع الناشب في قناة السويس وقد اتهم عوده أثناء محاكمته في أول ديسمبر 1954 رئيس مجلس قيادة الثورة (جمال عبد الناصر) ووزير الإرشاد (صلاح سالم) وأعضاء آخرين بتسليم الإخوان هذه الأسلحة هل نذكر في هذا الشأن أيضا حادث اتهام الإخوان بإخفاء أسلحة ومفرقعات بعزبة المرحوم حسن العشماوي والذي ورد في قرار الحل في يناير 1954 ثم الاعتذار عنه).

2- بإعادة تنظيم جماعة الإخوان وحصر نشاطها في المجالات الدينية والثقافية على الأقل في فترة الانتقال (أي الفترة التي سبق تحديدها في الإعلان الدستوري عام 1952 وتنتهي في يناير 1956) وإلى حسين وضع نظام دستوري في مصر.

3- بإنهاء حملة الإخوان المسلمين إزاء الحكومة خلال الأسبوعين اللذين يعقبان هذه الهدنة والاتفاق عليها ، وهذه المدة تسمح بالاتصال بممثلي الإخوان خارج مصر.

ومن ناحية أخرى فإن الإخوان المسلمين يطلبون من الحكومة :

1- عدم اتخاذ أي إجراء إزاء الإخوان الذين يقومون على تسليم هذه الأسلحة خلال أسبوعين.

2- أن يتم الإفراج عن جميع الإخوان المسلمين الذين سبق اعتقالهم.

3- عدم الحيلولة دون اتصال الإخوان بعضهم ببعض والمحبوسين منهم خاصة لتبادل آرائهم في شأن الاتفاق مع الحكومة.

4- أن تكف حملة الاعتقالات خلال خمسة عشر يوما حتى يتسنى تطبيق هذا الاتفاق .

وبدأ أن هذا العرض لم يلق قبول عبد الناصر الذي كان يأمل في أحداث فتنة في صفوف الإخوان كمثل الذي فتن به من غشي بصيرته جاء الحكم وكرسي الوزارة وكما كان يأمل في أن يجنح إلى حكمه عبد القادر عودة وآخرون ولما ظهر جليًا أنهم متضامنون مع مرشدهم ، أذن فلم تصبح القضية إلا شخصية قصد بها حسن الهضيبي (كما عبر عنها الشيخ الباقوري في فبراير 1954) ومن حوله من أعضاء مكتب الإرشاد الذين لم تنل منهم قناة فاتهموا في 21 نوفمبر 1954 بالتآمر لقلب نظام الحكم وصدرت بحقهم في 5 ديسمبر 1954 أحكام محكمة الشعب (!) بإعدام كل من المرشد المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي (بدل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة) والقاضي الشهيد عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي واعظ الإسماعيلية وقائد فدائي فلسطين والقنال ، ويوسف طلعت فدائي فلسطين ، وإبراهيم الطيب (محام).

كما صدرت الأحكام بالأشغال الشاقة المؤبدة في حق الدكتور خميس حميدة (صيدلي ، نائب المرشد) الدكتور كمال خليفة أستاذ بكلية الهندسة ، الدكتور حسين كمال الدين أحمد إبراهيم أستاذ بكلية الهندسة ، منير دله مستشار بمجلس الدولة ، وصالح أبو رقيق مستشار بجامعة الدول العربية ، عبد العزيز عطية مدير منطقة الإسكندرية التعليمية ، محمد حامد أبو النصر محام ، والحكم بالسجن خمسة عشر عاما في حق كل من الشيخ حامد شربت واعظ ، وعمر التلمساني محام ، وسيد قطب كاتب ، وصدرت أحكام بالبراءة في حق كل من عبد الرحمن البنا ، عبد المعز عبد الستار أستاذ بالأزهر ، والبهي الخولي مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الأوقاف الذي مضى في مدن مصر مروجا لعبد الناصر متحدثا إلى الإخوان عن مثالب المرشد ومعلنا نقض بيعته وخروجه عليه -رحمه الله.

وصعدت أرواح يوسف طلعت وكانت آخر كلماته كما ذكرت إحدى المجلات الفرنسية في عددها الذي صودر حال توزيعه «اللهم اغفر لمن أساء إلي» ، وآخر كلمات الشيخ محمد فرغلي «يا مرحبا بلقاء الله» وإبراهيم الطيب وآخر كلماته «خصومنا هم قضاتنا» والقاضي الشهيد عبد القادر عودة وآخر كلماته «دمي لعنة على أعضاء مجلس قيادة الثورة» ، كما صعدت في 28 أغسطس 1966 أرواح سيد قطب وإخوانه عبد الفتاح إسماعيل ومحمد يوسف هواش تشتكي فيه إلى ربها ظلم العبيد للعباد.

وخرج من شيوخ الأزهر من أفتى بأن الإخوان كالخوارج لا يقبل في أمرهم توبة ولا شفاعة وخرج من يفتي بانحراف كتاب معالم في الطريق وخطب الخطباء وكتب الكتاب وأفتى المفتون وكل هؤلاء وأولئك تنطق ألسنتهم بما لا تؤمن به قلوبهم فغلبت عليهم أهواؤهم وشهواتهم وعلت قلوبهم منها غشاوة حتى ساروا إلى ما صاروا إليه يؤمرون فيطيعون ، وكثير من هؤلاء الذين يزينون الباطل للحكام حقا ، والظلم عدلا هم على صنفين ، صنف كان عونا في التمكين لهذه الروح الذليلة بسيرهم في ركاب الظالمين ، وصنف آخر آثر الدعة والسكوت عن الظلم بأضعف الإيمان رهبة من البطش أو رغبة في العطاء؛ فانحدر مفهوم الطاعة لأولي الأمر إلى ذلك منكر للحاكم مهما أخطأ وظلم ، وهو داء ابتلى به الإسلام خلال عصور طويلة من تاريخه ، وأهمل العلماء علاجه حيث يجب أن يعالج : في فهم المسلمين لدينهم ، وتذكيرهم بفريضة الله عليهم في مجاهرة الظلم والضرب على يد الظالم وفي النصح للحاكم المخطئ وتقويمه وكل هؤلاء بعونهم الحاكم الظالم أو غفلتهم عن شؤون المسلمين كانوا يجدون التكأة الكاذبة على مثل قول الله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ وهم يعلمون قول الرسول «إنما الطاعة في المعروف» وأصبحت السلبية والغفلة مرتعا خصبا لسلطان كل حاكم منحرف أو مستبد ظالم ، وهي أخطاء إذا لم تصوب تزداد وتتعاقب ، والظلم حين لا يجاهد يطغى صاحبه ويستحكم طغيانه وتدفع الشعوب ثمن غفلتها التي تدوم. تلك حال شعب مصر طوال سني حكم جمال عبد الناصر الذي بدا تعطشه للسلطان منذ قديم ومنح أمته دساتير مفصلة وفق الهوى. ومن العجب أن نشهد بعض أساتذة القانون الدستوري من سار في ركب النفاق الرخيص واصفا صدور هذه الدساتير المتعاقبة بأنه تفويض من الأمة لقائد الثورة أو أن الرئيس لفرط إحساسه بإرادة الأمة وهي مصطلحات كغيرها من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية تلوكها الألسن ولا ترشد بها العقول. وتجرع شعب مصر وجيشه الإرهاب الذي سلط عليهما من قبل المخابرات التي أنشأها لحمايته ، فهو الأب الروحي الذي تجب حمايته بكل سبل الترغيب والترهيب ، والتي شهدت ساحة القضاء أخيرًا بعض صور انحرافها وقد وصفتها بأنها صفحة سوداء في تاريخ مصر. ومفتاح شخصية عبد الناصر خلال سني حكمه لا تبعد قط عن عبادته لذاته ورغبته العارمة في النفوذ والسلطان التي بسطت ظلها على كل سلوكه من منطلق هذه العبودية لذاته والتي نترك وصفها للكاتب الأمريكي Andrew Tully «أندرو تاللي» في كتابه عن وكالة المخابرات الأمريكية ، وقد أظهر المؤلف في كتابه الصادر عام 1962 ثمة علاقة بين تنظيم الضباط الأحرار في صورته الأخيرة أو عبد الناصر وبعض رفاقه وبين وكالة المخابرات الأمريكية بداية عام 1952 وهي العلاقة التي ظهرت أخيرا بشهادة رفاق عبد الناصر ذاته.

يذكر تاللي في مؤلفه تقريرا أرسله أحد رجال الوكالة الأمريكية بداية سني الخمسينات محللا أعمال عبد الناصر «أن آفاته هي الغرور والخيلاء والعناد والمكابرة والريبة والتعطش للسلطة. وقوته تكمن في الثقة المطلقة بذاته ، وقبول المخاطر ومهارة المناورة والاستمساك بهدفه الأصيل. يعبد التآمر ويرثي نفسه. وهو إذ يبدو منظما صبورا وذا فطنة ودهاء ، فهو أهل للإطاحة برأسه».

وهذه الصفات ليست بالأمر الهين إذ ربما يظهر يسيرا في بادئ الأمر حين لا ينتظر لصاحبه تحقيق نفوذ وسلطان كبيرين ، ولكن إذا صادف هذا الطبع نجاح صاحبه وعجز من حوله عن رده إلى الصواب وتقويمه استشرى هذا الداء فيه ليهوى به والفتك بأقرب الأصحاب وهدم كل ما يعز ويغلى.

لقد كان دائه الشك والريبة كما أظهرتهما الشواهد وفيما رواه أقرب من عملوا إلى جواره طوال سني حكمه. هذا الشك وهذه الريبة هما في يقيني بعض عوامل الطفولة التي عاشها ، فمنذ السابعة من عمره أدخل المدرسة الابتدائية بالقاهرة حيث لحق للإقامة بأحد أعمامه وبعيدًا عن منزل أسرته التي كانت تقطن الخطاطبة متنقلة وراء تنقل رب الأسرة في عمله ، وفي سن التاسعة من عمره حيث دخل على أسرته في الأجازة الدراسية عام 1927 فوجئ بوجود امرأة أخرى غير أمه التي أخذ نبأ وفاتها - في غيبته المدراسة- هذا الحادث في يقيني كان له صداه في نفس جمال الطفل وأصبح ينظر إلى كل من حوله بعين الشك والريبة والحذر ، تلك الآفات التي رانت على قلبه فتمكنت من نفسه وكبرت معه حتى احتوت شخصيته المصابة فكان مثالا لهؤلاء المرضى الذين يحكمون.

وتناولت عصر جمال عبد الناصر دراسات شتى يجنح بعضها إلى الإفراط أو إلى التفريط. ولندع أحد شركاء هذه الفترة يرويها واصفا بعض من لعبوا أدوارها فيذكر المرحوم أنور السادات صفتي الشك والريبة لدى جمال عبد الناصر في غير موضع من كتابه قائلا «القلق يأكله أكلا فقد كان يفترض الشك في كل إنسان مسبقا وكانت النتيجة الطبيعية لكل هذا أن خلف عبد الناصر ورائه تركة رهيبة من الحقد سواء بين زملائه أقرب الناس إليه أو داخل البلد نفهسا بجميع طبقاتها (صفحة 106- 107 ، أ]ضا 135 ، 156 ، 239- 240).

ويذكر الصراع بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بقوله «وبدأ عبد الحكيم عامر منذ أول سنة 1962 يأخذ احتياطه من عبد الناصر كما بدأ عبد الناصر يأخذ احتياطه من عبد الحكيم. وهكذا نشأ أول مركز قوة في مصر يباشر عمله بصراحة- فقد أصبح هم عامر الأول أن يؤمن نفسه ضد عبد الناصر بعد ما تأكد لديه المعنى الذي كان دائم الإحساس به وهو أن هناك صراعا وعدم ثقة وفجوة بينه وبين عبد الناصر وبينه وبين الباقين من مجلس قيادة الثورة وهكذا نجد أن الصراع الذي بدأ في أول الستينات قد ازداد اتساعًا وازداد معه التمزق لأن الحقد أصبح دفينا بين عبد الناصر وعامر ، وعامر وحده والباقين ، وعبد الناصر وحده والباقين.. وانصرف عامر إلى تثبيت مركزه ليس فقط داخل القوات المسلحة بل في البلد كلها (صفحة 209) حتى أصبح الآمر الناهي والمتحكم في مصير الناس وفي كل ما يتعلق بالبلد من أحداث.. أما عبد الناصر فكان يراقب ما يفعله عامر وهو أيضا مليء بالمرارة ، وعاجز لا يستطيع أن يفعل شيئا (صحة 219).. وفي سنة 1965 عندما قيل أن هناك مؤامرة يدبرها الإخوان المسلمون تولى أمرهم البوليس الحربي وشمس بدران أهم معاوني عامر ، وكما اتضح بعد ذلك كان هناك تعذيب وإهانة وامتهان لكرامة الإنسان (صفحة 215).

هذه الشهادة التي يذكرها توحي بالكيد الذي دفعه الإخوان المسلمون في الصراع الدائر بين الرجل الأول والرجل الأول مكرر ، وهو يذكرها في الطبعة العربية مستخدما قبل أو هيئ للسلطة الحاكمة في ذلك الوقت بأنهم يتآمرون ليقوموا بالثورة المضادة (صفحة 71) ويذكرها صراحة في الطبعات الأجنبية لكتابه (البحث عن الذات) وكأنه لم يبغ أن يعلمها القارئ العربي والمصري خاصة ، يقول «أن السلطة الحاكمة هيئ لها أن الإخوان المسلمين يتآمرون ضد نظام الحكم وليقوموا بالثورة المضادة وما كان هذا الأمر إلا خيالا محضا. أنه من الصعب حتى الآن معرفة إذا كان حكام تلك الفترة قد اعتقدوه حقيقة أم أنهم قد استخدموا هذه الحجة لإرضاء ضغائن شخصية. ومهما يكن الأمر فقد ذهب ضحية هذا التصور الكثيرون ممن يحصون بالآلاف ، من بينهم سيد قطب داعية الإخوان الشهير الذي أعدم. ولاتهامهم بمؤامرة ضد نظام الحكم فإن الكثيرين من الإخوان المسلمين ألقى القبض عليهم وصدرت ضدهم أحكام شاقة دون إدانة حقيقية».

نرجو أن يعود القارئ إلى الطبعة الإنجليزية وإلى الطبعة الفرنسية..

Ln search of identiy, 1978, p. 76 Recherche d'une identite, 1978, p. 77


دعوة في أوانها

الدعوة إلى استئناف حياة إسلامية تستمد مقوماتها من شريعة الإسلام ومن مبادئ الإسلام.. دعوة تجيء في أوانها ، وتلبي حاجة طبيعية في العالم الإسلامي ، بل في العالم الإنساني في هذا الأوان.. وليست هي مجرد رغبة فردية في العودة إلى الماضي ، أو عاطفة دينية لا ترتكن إلى الحاجة الواقعية..

لقد دبت اليقظة في كيان العالم الإسلامي بعد فترة نوم طويلة فإذا هو ممزق في مخالب الدول الاستعمارية.. كل منها نهشت نهشة من جسم الوطن الإسلامي ، وهي تمضغها وتعلكها وتمتص ما ينز منها من شحم دوم.. ولم يكن بد لهذه المزق أن تتجمع وتتوحد تحت راية معلومة تفيء إليها ، فإذا هي متعارفة متضامنة متعاونة... ولم يكن هناك من راية يمكن أن تضم هذه الرقعة الطويلة العريضة فيحس كل بلد أنها رايته ، ويحس كل شعب أنه منها واليها ولا يعترض أحد على الانضواء تحتها ، ولا تثور في نفسه نعرة من أي نوع.. لم يكن هنالك من راية تتوافر لها هذه الصفات كلها إلا راية الإسلام..

الراية التي يفيء إليها العربي والتركي والأفغاني والإيراني والباكستاني والاندونيسي وسائر الأجناس والشعوب في الوطن الإسلامي الكبير فلا يحس غضاضة في نفسه ، ولا عصبية من غيره ، لأن الجميع تحتها سواء. وهي ملك لهم وهم ملك لها سواء.

ولقد صحت الشعوب الإسلامية على أوضاع اجتماعية لا تسر ، نشأت من الاستعمار ومن غير الاستعمار.. ولم يكن بد أن تحاول إصلاح هذه الأوضاع ، وأن تفيء في هذه المحاولة إلى فكرة أو مذهب تسير على هداه.. ولم تكن هنالك فكرة أخرى تحفظ لهذه الشعوب عقيدتها في الله ، وتقاليدها في الحياة ، وتمكن لها في الوقت ذاته من الإصلاح الاجتماعي ، ومن العدالة الاجتماعية ، وفي صورة كاملة شاملة ، وهي في الوقت ذاته طبيعية عاقلة.. لم تكن هنالك فكرة أخرى تفي بهذا الغرض إلا الفكرة الإسلامية التي تتبع من ضمير هذه الشعوب ومن تاريخها وتماشي رغباتها الكامنة وظروفها وتعطي الحقوق لأهلها دون أن يجور فرد على فرد ، ولا طائفة على طائفة ، ولا مصلحة على مصلحة ويملك الجميع بعد هذا كله أن يقول كل منهم ، لقد اخترت الحل الذي يوافقني. اخترته اختيارا ولم أقسر عليه قسرا ، اخترته من تراثي الخاص. تراث الإسلام الذي هو ملك خاص لكل مسلم في أطراف الأرض ، وملك عام لهذه الأمة المسلمة في كل زمان ومكان.

ولقد صحت الأمة الإسلامية فإذا السوس قد نخر عظامها وهد كيانها. سوس الفساد الخلقي والانحلال النفسي.. السوس الذي دسه الاستعمار الخارجي ، ودسه الفساد الداخلي. ولم يكن هنالك من دواء يقتل هذا السوس ويشفي ما بثه في كيان الأمة الإسلامية من انحلال وتفسخ وانهيار.. لم يكن هنالك من دواء إلا العقيدة الإسلامية ، العقيدة التي تجعل العنصر الأخلاقي مقوما أساسيا من مقومات الحياة..

العقيدة التي تظهر الضمير فينبثق منه السلوك طاهرا ، كما ينبثق طهور الماء من طهور الينبوع.. العقيدة التي تبني النفوس وتبني البيوت وتبني المجتمعات على أس من تقوى الله بناء راسيا راسخا عميق الجذور..

كل ظروف الأمة الإسلامية ، وكل تاريخها ، وكل ضروراتها ، كلها كانت تهتف بها إلا الإسلام راية للمجتمع والكفاح.. وفكرة للتنظيم والإصلاح.. وعقيدة للبناء والفلاح.. ولم تكن رغبة طارئة ، ولا نزعة عارضة ولا عاطفة متحمسة.. لم يكن شيء من هذا هو الدافع إلى محاولة استئناف حياة إسلامية في هذه الرقعة الطويلة العريضة.. إنما كانت حاجة طبيعية عميقة الجذور ، قوية الدوافع وحقيقية المقومات ، وهذا هو الذي مكن لها في الأرض وجمع النفوس حولها والقلوب في شتى أقطار الإسلام وهذه الدعوة لا تلبي اليوم حاجة الأمة الإسلامية وحدها ، إنما هي تلبي كذلك حاجة الإنسانية جميعا.

أن البشرية تعاني اليوم مثلما كانت تعانيه قبيل ظهور الإسلام ، انهيار خلقي شنيع.. وتفسخ نفسي قاتل ، وحيرة مقلقة لإقرار فيها ولا اطمئنان.. وعداوات دولية مستحكمة أثارت حربين طاعنتين في ربع قرن وهي تمهد لحرب ثالثة لا تبقى ولا تذر.. ومظالم اجتماعية فاشية في كل صقع وفي كل أرض ، تختلف أعراضها وتتشابه آثارها في تحطيم الكيان الإنساني ، فإذا شاء أحد أن يعدل أقام عدله لطائفة على حساب طائفة ، وحطم طبقة ليسود طبقة.. وليس هنالك اليوم من فكرة يمكن أن تنضوي البشرية كلها تحت لوائها ، فتهب لها العدل والطمأنينة والسلام غير الفكرة الإسلامية كما كان الحال يوم جاء الإسلام سواء بسواء.. الفكرة التي لا تظلم فردا ولا طبقة ولا شعبا.. الفكرة التي تضم الناس جميعًا إخوانا متحابين متساوين ، لا أعداء متناحرين ومتفاوتين. الفكرة اللائقة بالإنسانية التي خلقها الله لتتطلع دائما إلى مراقي السمو الإنساني لا لترتكس أبدا في المستنقع المادي الحيواني..

والمستقبل لهذه الدعوة.. المستقبل لها في الأمة الإسلامية أولا.. وفي الأمة الإنسانية أخيرًا.. ومهما تتلألأ في الأفق أضواء وشعل ، فالمستقبل للكوكب الدري الخالد الذي لا ينطفئ نوره ، لأنه من نور الحي الذي لا يزول..

هذه الكلمات التي خطها سيد قطب منذ عام 1952 لا شك أنها كانت صدى لحركة بعث إسلامي تستند إلى فكرة ، وإلى فلسفة. والحركات التي تقوم على غير أساس فلسفي حركات محدودة الأصل ، ضعيفة الأثر لأن الحياة أوسع مجالا وأعمق جذورا من الأهداف القريبة..

والمد الاستعماري ذاته لم يكن حركة غزو عسكرية فقط ، ولم يكن حركة غزو اقتصادي فقط. إنما كان غزوا اقتصاديا وعسكريا قائما كذلك على نظريات فلسفية ومثل أخلاقية وتقاليد اجتماعية.

كذلك يقوم المد الشيوعي اليوم لا على مجرد النظام الاقتصادي ، وهو في ذاته فكرة وفلسفة ، بل على أصل فلسفي أعمق هو التفسير المادي للتاريخ.

وكلا المدين الاستعماري والشيوعي وليد بيئة خاصة ، وليد عوامل تاريخية معينة لا وجود لأكثرهما في رقعة العالم الإسلامي ، لذلك فقد فشلا في خلق حركة طبيعية دائمة في عالم الإسلام ولا ينتقص من هذا الفشل نجاح هذا أو ذاك في إيجاد مناخ مصطنع هنا أو هناك فهي حال لن تدوم ، إذ قامت في فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد ، والمنهج الوحيد ، والراية الوحيدة التي غلب بها المسلمون ألف عام والتي بها يغلبون ، وبغيرها يغلبون. أنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها العداوات منذ قديم في كيان الأمة الإسلامية ، والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض الإسلامية.

ورغم كل ما ينادي به ساسة الغرب والشرق على السواء من تعاون وإنسانية عالمية فإن حقائق الأحداث ترينا ما يراد بنا. وهؤلاء وأولئك يبذلون جهودا كبيرة منظمة لتهذيب الإسلام! وتريد هدفا من اثنين : أولهما- إحلال الأفكار المادية محله كما تنادي بذلك الشيوعية.

وثانيهما- تحويل الإسلام إلى دين فردي كهنوتي لا علاقة له بالحياة العامة والكفاح الإيجابي ، وفي سبيل ذلك تشجع المذاهب المستأنسة والتي تنتسب ظلما إلى الإسلام.

فنحن نؤمن أن ديننا أساس حياتنا وحضارتنا ، وهم يرون تنحية الإسلام عن وضعه الأساسي ، واعتباره مظهرا اجتماعيًا إذا أصررنا على وجوده.

ويتخذ كفاحهم ضد الإسلام صورا متعددة نذكر بعضها فيما يلي :

هناك أولا- الاتجاه الدراسي العلمي الذي يرمي إلى جمع كل ما يمكن جمعه من المعلومات الدقيقة عن الحركات الإسلامية.

وثانيا- الاتجاه النقدي الذي يستتر وراء البحث المجرد ليهدم مقدسات الإسلام وليؤكد استحالة تطبيقه وضرورة تطويره وتهذيبه ،والتهوين من شأنه تاريخيا وإرجاعه إلى أسباب مادية محدودة.

وثالثا- التبشير بمعالم حضارة جديدة لها مقوماتها الخاصة. ولكل من الماركسيين والمعسكر الغربي -بفرقه المتعددة- مناهجه المتميزة ، ومن أوضح مظاهرها الغزو الفكري المنظم الذي يمثله الطوفان العالي من الكتب والمجلات والمبعوثين الثقافيين.

ورابعا- السيطرة الاقتصادية باسم المعونة الفنية ، وما وراءها من امتداد النفوذ السياسي ودوران الدول في فلك التبعية.

وخامسا- الكفاح المسلح السافر الذي نراه في غير ركن من أركان العالم.

وسادسا- الإبادة المنظمة كما نراها في القضية الفلسطينية وضحايا المؤامرة عليها وقضية شعب أفغانستان.

وكلا المدين الاستعماريين ، الصليبي والماركسي يحاربان الإسلام إذ هو الدين الوحيد الذي يقف في وجمه هذه الجهود كما تقول تقريراتهم ، وكما يفصح أحيانا بعض الصرحاء منهم! فهم لا يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية إذ أنها جميعا ديانات قومية لا تريد الامتداد خارج أقوامها وأهليها ، فأما الإسلام فهو -كما يسمونه- دين متحرك زاحف. وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة مساعدة وهذا هو وجه الخطر فيه في نظرهم جميعا. ولهذا يجب أن يحترسوا منه ، وأن يقاوموه ويكافحوه..

وهؤلاء وأولئك يعرفون أن الإسلام ليس شيئا آخر غير حكم الإسلام. فهو لا يستطيع أن يتحقق كاملا وقويا في هذه الأرض بغير هذا الحكم الذي يحول العقيدة شريعة ثم يقف ليحميها ويدفع عنها.

لذلك يحاربون رجعة الحكم إلى الإسلام محاربة قوية لا هوادة فيها. يحاربونها بنفوذهم وقوتهم- كما يحاربونها بواسطة المغفلين منا وذوي المصالح الذين يخشون حكم الإسلام عليها. وهؤلاء يقتصرون على ذكر نصوص ميتة في دساتيرهم واضعوها بنصهم على دين دولهم الرسمي هو الإسلام دون تحقيقها حية في قانون أو سياسة أو تعليم أو تنظيم وفي كل أوجه نشاط فهي لا تحرم ما حرمته الشريعة ولا تبطل ما أبطلته ، وما نذكر ذلك إلا لنبين ما تقتضيه هذه النصوص ويستوي عندنا بعد ذلك أن يعترف دستور بالإسلام دينا رسميا أو ينكره ، فإن اعتراف الدستور أو إنكاره ليس له قيمة ذاتية والعبرة في هذا الأمر بالواقع..

والماركسية لا يختلف حالها عن الصليبية ، فهي تعد نفسها في مرحلة حرب وكفاح ، فكل عقيدة فيها جانب للروح وفيها حساب لله ، تعدها الماركسية عدوة لها ، ولو كانت هناك مشابه كثيرة في الجانب الاقتصادي بينهما. بل أن الماركسية لتعادي الإسلام أكثر مما تعادي المسيحية ، لأن هذه الأخيرة لم تعد قوة إيجابية في طريقها ، ولأن الإسلام يملك أن يحقق عدالة اجتماعية اقتصادية بجانب احتفاظه بالله في العقيدة واحتفاظه بالروح في الحياة- ومثل هذا خطر على الدعوة الماركسية التي تعتمد أول ما تعتمد على سوء الأحوال الاجتماعية ويأس الجماهير من أن تجد لها طريقا إلى العدالة غير الماركسية.

ولقد أحست الماركسية الشيوعية هذا في السنوات الأخيرة ، فأخذت تجند لمحاربة الدعوة إلى الحكم الإسلامي جهودها وتبث ضد هذه الفكرة دعايتها ، وهذه الدعاية تأخذ طريقها في شعبتين :

الأولى- هي تشويه صورة الحكم الإسلامي مستغلة تلك الصور المزورة في بعض الشعوب الإسلامية ، وبيان عدم جدية هذا الحكم وغموض الأسس التي يرتكن إليها ، وصلاحية هذا الغموض للتأويل والاستغلال ضد الجماهير وضد الحرية وضد المفكرين الأحرار.

والشعبة الثانية- هي الإلحاح في القول بأن العالم ينقسم فقط إلى كتلتين اثنتين ، الشرقية والغربية. وأن عدم الانضمام إلى الجبهة الشرقية معناه تقوية الجبهة الغربية. وكذلك أي تفكير في إيجاد كتلة ثالثة معناه تجزئة القوى مما يقوي جبهة الرأسمالية.

ولقد كشفنا ما في هذا القول أو ذاك من مغالطة أو ما يخفي وراءه من أغراض. والمهم أن يفطن الناس حين يسمعون الدعوة ضد الحكم الإسلامي إلى بواعثها الحقيقية.

أن الماركسيين يتعصبون لمذهبهم تعصبا يجعله في نظرهم غاية في ذاته ولا وسيلة لتحقيق عدالة اجتماعية ، لذلك يهمهم أن يسدوا في وجوه الجماهير أي طريق آخر يمكن أن يحقق لها عدالة حقيقية ، كي لا يبقى هناك إلا طريق واحد ، طريق الماركسية.

ولا يجوز أن نغفل كذلك أن ليس التعصب المذهبي وحده هو الذي يملي على دعاة الشيوعية خطتهم. ففي مصر وفي غيرها من بلاد الإسلام تتدخل عوامل أخرى غير التعصب للماركسية ، ويجب أن نحسب لهذه العوامل حسابها. أن في مصر وفي غيرها ماركسيين لا لأنهم يحبون الشيوعية ، بل لأنهم يكرهون الإسلام. فكل ما يحارب الإسلام أذن هو لهم صديق.

وهم يتظاهرون أمام المغفلين من المسلمين بأنهم مجردون من كل تعصب ديني ولا يحفلون بكل الأديان ، وهم في حقيقتهم صليبيون ينصبون للإسلام وحده ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ وما نحب أن نفيض في هذا الموضوع ، ولكنا نحب أن ننبه كل مسلم من الأبرياء الذين تخدعهم هذه المؤامرة إلى أن يتأكد من الباعث الأول على الطعن في الإسلام وحكم الإسلام. فقد لا تكون الشيوعية والماركسية إلا ستارا لذلك الطعن الخبيث. ونحن لكل فتى من فتيان المسلمين أن يتلفت فيما خدعه أحد من هؤلاء الصليبيين المستترين ، فليأخذ حذره إنها عمل لحساب الصليبية ، لا لحساب الماركسية والشيوعية ولا العدالة الاجتماعية .

فكلا المدين أقاما بؤرا مصطنعة وليدة عوامل تاريخية معينة غريبة الوجود في رقعة العالم الإسلامي ، لذلك فإنها لا تصمد على البقاء.

فإذا قامت حركة بعث وإحياء في رقعة العالم الإسلامي فلا مفر من أن تقوم على المقومات التاريخية لهذه الرقعة وعلى العناصر الذاتية الكامنة فيها لتكون حركة طبيعية غير مفتعلة ، حركة عميقة الجذور في تربة هذه الرقعة لا تقتلعها الطوارئ ، لأنها تستند إلى عمق تاريخي وواقعي يكفل لها المقاومة والبقاء.

من أجل ذلك قامت حركة الإخوان المسلمين مستندة إلى الفكرة الإسلامية ونقطة الخطأ في تصور الكثيرين هي اعتقادهم أن الفكرة الإسلامية هي مجرد عقيدة تعبدية ، أما الحقيقة فهي أن هذه الفكرة تصوير كامل للحياة بكل ارتباطاتها ينبثق منه نظام اجتماعي معين أوسع مدى وأكثر شمولا من النظام الاجتماعي الذي انبثق من مذهب تفسير المادي للتاريخ ، ومن النظم الاجتماعية الأخرى التي سادت في الغرب وكان المد الاستعماري الصليبي ثمرة من ثمراتها..

والدليل على أن الإخوان حركة طبيعية وأنها حركة بعث وإحياء مستمدة من جذور تاريخية وواقعية عميقة في هذه الرقعة ، الدليل على ذلك أنها قامت في كل قطر إسلامي تقريبا في أوقات متقاربة وأن اختلفت عنواناتها.

فحملت لافتة «الإخوان المسلمون» حركات في سورية ولبنان والسودان والمغرب والعراق وغيرها ، ووفقا للمادة الثانية من قانون النظام الأساسي بنصها : «الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام» احتسبوا حركتهم إسلامية جامعة وليست مصرية أو عربية بحتة فالولاء في نظرهم كما قدمنا إلى ثلاثة أطر تتدرج من الوحدة القومية (القطر الخاص) والوحدة العربية (القطر العام) والسعي إلى الوحدة الإسلامية ، وهذه الثلاث لا تناقض بينها. فالإسلام فرض أن يعمل كل إنسان لخير بلده ولأمته التي يعيش فيها ، ثم إن الإسلام نشأ عربيا ووصل إلى الأمم عن طريق العرب ونزل القرآن بالعربية ومن ثم فإن وحدة العرب خطوة لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته. وعملوا على نشر دعوتهم في العالم الإسلامي وترجع أولى شعبهم خارج مصر حين عزم بعض شباب جيبوتي على فتح أحداها في بلادهم عام 1933.

وفي خلال الثلاثينات بدأت مرحلة الاهتمام بشؤون العالم الإسلامي وقضاياه السياسية على وجه خاص حين كان حسن البنا يتحدث في خطبه وكاتبا في مقالاته داعيا إلى أن يتمتع الوطن الإسلامي بحريته واستقلاله وكان يعتبر الإخوان حماة قضاياه والسياسية منها خاصة .

وبدأ الاهتمام بإنشاء الشعب خارج مصر حين انتدب اثنان من أعضاء مكتب الإرشاد العام سنة 1935 لزيارة سوريا ولبنان وفلسطين ، ونهض بالعمل للدعوة سنة 1937 في أولاها شباب الجامعة السورية وطلاب العلوم الشرعية ، ولعل أساس هذه الدعوة الطلبة الذين كانوا ينتسبون إلى الإخوان خلال سني دراستهم في مصر ، فلما عادوا إلى أقطارهم الخاصة كانوا الدعاة للفكرة والمبدأ وربما كانت دعوة الإخوان في سوريا أهم روافد الحركة الإسلامية.

والملاحظ أنه في عام 1937 لم تنشأ شعبتهم تحت لافتة الإخوان لخشية البطش من حكومة الانتداب (فرنسا حينئذ) فتعددت التسميات ، ففي حلب كانت دار الأرقم ، وفي دمشق جمعية الشبان المسلمين ، وفي حمص جمعية الرابطة ، وفي حماة جمعية الإخوان المسلمين ، وفي القدس جمعية المكارم وغيرها في دير الزور واللاذيقية وطرابلس وبيروت وكانت جميعها تشكل جماعة واحدة الغاية مع تعدد أسمائها وتعارفت فيما بينها «بشباب محمد» وقد عقدت فيما بينها مؤتمرات دورية ، أولاهما في حمص عام 1937 ، والثالث بدمشق عام 1938 حيث قرر اتخاذ مركز رئيسي بدار الأرقم في حلب. وعقد المؤتمر الرابع في حمص عام 1943 حيث بدء بتبني الفكرة عينها التي حدد حسن البنا منهاجها في المؤتمر الخامس فاهتم بالناحيتين الاقتصادية والرياضية إلى جانب النواحي الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والاهتمام بالقضايا السياسية الإسلامية.

وعقد المؤتمر الخامس في حلب عام 1944 حيث تقرر توحيد الأسماء وأطلق عليها جميعا «الإخوان المسلمون». وكانت لجماعتهم أنشطة شبيهة بما قام بها إخوانهم في مصر ، فأسس المعهد العربي الثانوي ، ودار الطباعة والنشر العربية التي أصدرت جريدة «المنار الدمشقية» ، وشركة للنسيج في حلب.

ومرت دعوة الإخوان في سوريا بمرحلتين شبيهتين باللتين مرت بهما الجماعة في مصر. الأولى منذ تاريخ نشأتهم عام 1937 حيث حددوا غايتهم بشرح رسالة القرآن وعرضها بما يلاءم روح العصر وإبرازها كأقوى رسالة وأكمل منهاج. كما اهتموا بالقضايا الإسلامية ناصين على تحرير البلاد الإسلامية من الاستعمار والنفوذ الأجنبي ، وسعي برنامجهم إصلاح عيوب النظام السياسي وإصلاح نظام الانتخاب ليتم انتخاب نواب الأمة بحرية ، وإصلاح الأنظمة والقوانين وسبل التقاضي لتحقيق العدالة بين الناس دون تمييز ومنع البغي والفساد.

أما الطور الثاني فيرجع إلى عام 1946 ويبدو فيه التأثر بمنهج إخوانهم في مصر ، فقرروا كذلك أن في الإسلام من متانة الأصول التشريعية ومرونتها ما يجعله متمشيا مع الزمن لمصلحة البشر المادية والروحية. وقرروا كذلك في تعريفهم «أن الإسلام عقيدة وعبادة وخلق وتشريع ودين ودولة» .

وطلبوا إعادة النظر في القوانين والتشريعات الاقتصادية والأخلاقية والتعليمية والجزائية والمدنية لتتفق مع تشريع الإسلام وروحه.

وحدد الإخوان بسوريا منهاجهم في تحرير الأمة وتوحيدها وحفظ عقيدتها وبناء نظمها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على أساس الإسلام.

ووصفوا جماعتهم بأنهم ليسوا حزبا كسائر الأحزاب وأن هدفهم إصلاح المجتمع لا الوعظ فحسب وفي سبيل ذلك يحاربون الاستعمار بكل أشكاله ويتعاونون مع كل هيئة وطنية تعمل لخير الوطن ، وأن دعوتهم شاملة تتناول الاقتصاد والأخلاق والسياسة والثقافة والرياضة وشتى نواحي الإصلاح ، إذ ذلك كله هو مفهوم الإسلام في معناه الصحيح ، وهي خاصية الشمول التي وصف بها الإخوان في مصر حركتهم والتي سبق عرضها آنفا.

ورمت جماعتهم إلى توحيد جهود المسلمين لا يفرق بينهم اختلاف مذاهب أو نعرة الطائفية فدعوا إلى التعاون بين أبناء الأمة كلها وأن دعوتهم هي الرجوع إلى تعاليم الأديان البعيدة عن تلاعب ذوي الهوى والغرض.

وبلغت الجماعة نشاطها خلال عام 1948 حيث بدأت حرب فلسطين فألفت كتيبة للقتال بقيادة المرحوم الدكتور مصطفى السباعي مراقبها العام. وعندما حلت جماعة الإخوان بمصر في 8 ديسمبر 1948 واغتيل مرشدها في 12 فبراير 1949 انتقل ثقل الدعوة إلى صنوها بدمشق ، وظلوا يعملون أثناء قيام الحكومة العسكرية التي رأسها العقيد أديب الشيشكلي إلى أن صدر قرار بحلهم في 17 يناير 1952 بدعوى اشتغالهم بالسياسة وهي ذات التهمة التي رموا بها في مصر وغيرها ويرمون بها حتى اليوم كما يرمي بها كل اتجاه إسلامي في مشرق العالم الإسلامي أو مغربه.

وعاد الإخوان إلى مباشرة نشاطهم بعد عودة الحياة الدستورية وسقوط الحكم العسكري وأعيد تنظيمهم الذي بلغ شأوا بتولي بعض الإخوان الوزارة ودخول بعضهم مجلس النواب كالدكتور مصطفى السباعي والمرحوم الأستاذ محمد المبارك ، ولقوا العنت خلال الوحدة المصرية السورية بتأسيس الجمهورية العربية المتحدة التي رأسها جمال عبد الناصر في الفترة من فبراير 1958 حتى سبتمبر 1961 ثم أعقبتها فترة نشاط قصيرة حتى وصول حزب البعث إلى الحكم عام 1965 وما صحبه من فترة تنكيل وإرهاب يعاني منه كل معارضيه.

أما فلسطين فلم تكن بمنأى عن اهتمام الإخوان بمصر ، فمنذ عام 1935 شارك الإخوان في ثورة أبنائها واشتركوا في جهادهم خلال سنوات 1936- 1939.

وقد انتشرت دعوة الإخوان في سني الأربعينات وتأسست شعبت القدس وغزة ونابلس وخان يونس واللد والرملة وسلمة وسلواد ويافا التي عقد ممثلوها اجتماعات دورية لاستعراض الحالة السياسية التي كانت تمر بها فلسطين آنئذ ، فعقد مؤتمر يافا في فبراير 1946 وثان في حيفا في أكتوبر من العام عينه وقد اتخذ بصددها قرارات بالاستمساك بالميثاق القومي الذي أقرته الأمة في جميع مؤتمراتها وهيئاتها والعمل على تحقيق مطالب الأمة وهي : بقاء فلسطين عربية للعرب وإنشاء حكومة وطنية مستقلة فيها ، وقف الهجرة اليهودية وفقا تاما ، منع بيع الأراضي منعا باتا وأنهم لا يتقيدون بأية توصية تصدرها لجنة التحقيق الإنجلو- أمريكية وتتعارض مع ميثاقهم القومي وأهدافهم الوطنية ، مقاطعة المنتجات الصهيونية في فلسطين وتأييد الجامعة العربية ومطالب مصر بالجلاء ووحدة وادي النيل واعتبار حكومة الانتداب في فلسطين (البريطانية حينئذ) مسؤولة عن الوضع السياسي المضطرب. وفي الفترة عينها أنشئت شعب للإخوان بالأردن والتي قال في وصفهم عبد الله ابن الحسين ملك الأردن سابقا «الإخوان المسلمون هم معجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الجيل» وظلت هذه الشعب على نشاطها خلال حرب فلسطين بيد أنها قيدت بالأوضاع التي أعقبت تلك الحرب.

أما في لبنان فيجدر بنا أن نذكر أنه كان في بيروت فرع لجماعة الإخوان المسلمين عام 1946 إلا أنه كان ضعيفا ، وقد صدر قرار بحله عام 1948 عندما قامت الحكومة اللبنانية بحل جميع المنظمات في لبنان بسبب أحداث سياسية داخلية وبسبب وقوع مصادمات بين الحزب القومي السوري ومنظمة الكتائب اللبنانية. والأول كان يرأسه أنطون سعادة وله مبادئ تقول أن سوريا فينيقية وليست عربية ولا إسلامية ، ويعني بسوريا أرض لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ويريد أن يعود بها إلى فينيقيتها وقد ضعف نشاطه بعد إعدام زعيمه في لبنان ، أما الثانية (الكتائب اللبنانية) فهي منظمة مسيحية صرفة تأسست عام 1936 وهي تسعى إلى الاستيلاء على الحكم في لبنان وهي ذات منهاج عقائدي ، وقد حاولت القيام بانقلاب عام 1949 ولكنها فشلت بسبب انكشافه قبل وقت التنفيذ وهي تملك أسلحة كثيرة كشفت خطتها الأحداث الأخيرة التي مر بها لبنان. وجدد الإخوان نشاطهم في بداية سني الخمسينات مع احتفاظهم بطابع خاص يتفق مع بلد الطوائف والطائفية وأعلنوا في بيانهم «أننا لا نعيش في هذا الوطن وحدنا وإنما هناك طوائف أخرى شقيقة يجب أن نتعاون وإياها على إصلاح الوطن وحمايته.. ونعلم أن الدين لله والوطن للجميع وأن لكل فريق حقا يرضيه» ويبدو أن نشاطهم ظل محدودا وقد برروا وجودهم آنئذ بكثرة الأحزاب التي اشتهر بها لبنان وبعضها قوي وبعضها ضعيف ، وحددوا هدفهم وفقا لهذه النظرة في شقين أطلق على أولهما إصلاح الدار وهي أمور تتصل بإصلاح حال المسلمين الداخلية أما ثانيهما فقصد به التعاون مع الطوائف لحفظ الوطن وإقرار السلام ومحاربة الطائفية العمياء التي أزكاها المستعمر الفرنسي منذ الانتداب الواقع في عام 1920 والتي نجد لها أثارة حتى يومنا. وقد وضع المستعمر قانون الطوائف الذي قسم فيه المسلمين إلى ثلاث ، كل طائفة تنفصل عن الأخرى انفصالا كليا ، وهذه الطوائف هي : الطائفة السنية والطائفة الشيعية ، والطائفة الدرزية. وقد تمكن المستعمر أن يلقي في نفوس أفراد كل طائفة أنهم فعلا منفصلون عن غيرهم من الطوائف الإسلامية. والغاية التي هدف إليها المستعمر من وراء هذا التقسيم هي جعل إحدى الطوائف غير المسلمة صاحبة الأكثرية فتكون لها أكثر مرافق الدولة بالإضافة إلى رئاسة الجمهورية والأكثرية النيابية وغيرها ولو أمكن جمع طوائف المسلمين في كتلة واحدة لصارت في مجموعها أكثرية ، وهي ذات السياسة التي رسمت وسعي إلى تطبيقها في بلاد المغرب قاطبة ، الأقصى والأوسط والأدنى (أو المغرب والجزائر وتونس) من محاولة التفرقة بين أبناء البلد الواحد والعقيدة الواحدة بدعاوي عنصرية زائفة علميا لإثارة الشتات بين من أسماهم عربا وبربرا خاصة في المغرب أو عربا وقبائل في الجزائر. وحدد الإخوان في لبنان منهاجهم السياسي فنصوا على عدم التدخل في الأمور السياسية التي لا تنافي مصلحة الأمة والوطن. ولم يشيروا إلى الصلة التي تربطهم بالإخوان في مصر كما فعل الإخوان في فلسطين الذين اعتبروا صنوهم في وادي النيل مبعثًا للنهضة الإسلامية بل اكتفى إخوان لبنان حينئذ بجعل شعارهم سيفان يتوسطهما مصحف (وهو شعار الإخوان) رمزا للوحدة الفكرية( ). وربما خلف هذا الفرع -فيما نعتقد- جماعة عباد الرحمن ، وهي جماعة أنشئت أيضا في بداية سني الخمسينات ومركزها بيروت وتدعو إلى الرجوع للإسلام الصحيح بكل أسسه وتعاليمه فهي تتفق ودعوة الإخوان المسلمين في جميع آرائها وبرامجها وأصدرت عددا من الرسائل تحتوي على وصايا دينية واجتماعية ، والوصية الرابعة منها تجمع مبادئهم ويذكرون السادسة أنهم دعوة دينية وجماعة رياضية ورابطة علمية ومنظمة اجتماعية وشركة اقتصادية وهي أوصاف جماعة الإخوان المسلمين التي بينها حسن البنا في المؤتمر الخامس الذي عقد في عام 1939 ، وكما نشطت الدعوة في بلاد المشرق بالعراق ووادي النيل في السودان حيث افتتحت شعب الخرطوم وبورسودان وعطبرة والدامر وشندي وبعض بلدان شرقي أفريقيا كاريتريا ، فإن الدعوة لم يكن غريبا وجودها في بلاد المغرب فقد تأسس مركز عام في تطوان تفرعت عنه سائر الشعب وأنشئ فرع آخر في مدينة القصر الكبير وربما رجع هذا الإنشاء إلى علماء المغرب وطلابه الذين وفدوا على مصر للبحث والتحصيل ومن بينهم العالم الجليل محمد بن صديق الغماري الذي نشر غير مرة في صحفهم بالقاهرة وطبعت مؤلفاته في مطبعتهم ، كما أن الدعوة لم تكن مجهولة في تونس التي وصلتها صحيفتهم اليومية والتي فتحت أبوابها لمعالجة قضايا البلاد الإسلامية وقد خصصت أعمدتها للبلدان العربية ، وكان كبار الشخصيات البارزة يدلون بأحاديثهم على صفحاتها مما جذب القلوب إلى الدعوة وأثار اهتمام القراء بها فانعقدت الصلة بانحيازها إلى جانب الوطنيين في كفاحهم الوطني دون إثارة النعرات الدينية أو العنصرية الكاذبة التي أغفلوها منذ بداية نشأتهم واعتبروا المسلمين جميعهم كتلة واحدة وهي الحال التي عبر عنها كبار أهل الشيعة كالعالم الإيراني سيد العراقيين ورئيس وزراء تونس وقتئذ بقوله «إن اسم الإخوان المسلمين يملأ العالم نورا وهداية ، واسم الأستاذ البنا يتردد على جميع الألسن كمصلح ديني واجتماعي يرجون على يديه خيرا كثيرا .

كما نشط أفراد وهيئات في الولايات المتحدة الأمريكية في تأسيس بعض الشعب التي مازال دورها حتى اليوم في بعض الولايات وهي تعمل لشرح دعوة الإسلام وتخليصها من شوائب الدعايات التي ينشرها خصومه. كما أن هذه الدعوة يبدو أثرها بارزا في الفترة الحاضرة في غير بلد ، وبلاد أخر خلت من لافتة تحمل اسم الإخوان لكنها لم تخل من دلائل المد الإسلامي في صورة أخرى وتحت اسم آخر فظهرت في الجزائر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، وفي العراق جماعة الإخوة الإسلامية ، وفي لبنان أيضا جماعة عباد الرحمن ، وفي الكويت جمعية الإرشاد الإسلامية ، وفي الباكستان الجماعة الإسلامية ، وفي اندونيسيا حركة ماشومي الإسلامية.

ففي كل بلد إسلامي كانت هناك حركة بعث إسلامية ، قريبة في أهدافها من أهداف الإخوان المسلمين ، سواء حملت هذا الاسم أم لم تحمله. فالعنوانات لا تهم كثيرا إذا تحدت الأهداف. لا بل أن الوسائل ذاتها لتتقارب يوما بعد يوم في شتى الأقطار الإسلامية ، وسائل أعداد الشباب ووسائل الدعوة ووسائل العمل ، وهو دليل لا ينقض على استمداد كل حركة من ذات الجذور الكامنة العميقة في هذه الرقعة الفسيحة..

فحركة الإخوان حركة طبيعية حقيقية شاملة تشعر أطرافها جميعا بوحدة الجسم الذي تتصل به وبحيوية هذا الجسم واستمداده من الغذاء الطبيعي الواحد في جميع الشعوب. أما أهداف هذه الحركة فهي أهداف كل حركة إحياء عالمية فمن طبيعتها ألا تقف عند الحدود الوهمية وألا تنحصر في أهداف حزب سياسي أو هيئة دينية أو جماعة محلية لأنها أكبر من هذا وأشمل..

وهي حركة طبيعية في هذه الرقعة من الأرض التي تسمى العالم الإسلامي وهي رقعة فسيحة متصلة الحدود ، متحدة المصالح -على الرغم مما يبدو أحيانا من اختلاف في مصالح حكامها لا شعوبها- وهي رقعة ذات موارد طبيعية تكفي لقيام كتلة متكاملة اقتصاديا وسياسيا إذا أحسن استغلالها. وهي في الوقت عينه كتلة ذات تصوير واحد للحياة يمكن أن يقوم عليها نظام اجتماعي واحد ونظام سياسي متحد.

نقول أن الإخوان ومثيلها في ذلك كل اتجاه إسلامي حركة طبيعية في هذه الرقعة الفسيحة ، لأنها حركة بعث وإحياء بعد فترة طويلة من الخمود والكمون تسلط فيها الاستعمار بكل أنواعه على الشعوب التي تسكن هذه الرقعة والتي كانت في فترة من فترات التاريخ هي محور النشاط الإنساني كله..

لذلك فلا تعجب أن تدرس المعسكرات العالمية الوعي الإسلامي وهذا البعث دراسة دقيقة ، وتهتم بالحركات العاملة له. وتختلف نظرة دارسيها حسب مشاربهم ، فذهب فريق من هؤلاء إلى دراسة موضوعية تتناول المبادئ أو الأشخاص فكتبت النيويورك بوست في 13 فبراير 1946 أن حسن البنا قد أفاد من تجارب هؤلاء جمعيا (الأفغاني ومحمد عبده والمهدي والسنوسي ومحمد بن عبد الوهاب) فوصل أنه قد أفاد من تجاربهم وأخذ خير ما عندهم وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء ، ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين جرى على إحداها الأفغاني وارتضى الأخرى محمد عبده.. كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم ، ويراه محمد عبده عن طريق التربية ، وقد استطاع هو أن يدمج الوسيلتين معا وأن يأخذ بهما جميعا كما أنه وصل إلى ما لم يصلوا إليه وهو جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى فكر موحد وهدف محدد..

كما ذهب الدكتور نبيه فارس وهو عربي غير مسلم إلى القول «أنه على الرغم من حل الإخوان المسلمين في مصر عام 1954 فإن هذه الحركة بقيت ذات نشاط في كل أرض إسلامية وهدفها وآمالها المثلى تمثل الآمال العميقة لدى المسلمين من المغرب حتى اندونيسيا .

كما ذهب الألماني هانز تويتش إلى أن أحد المعالم المميزة لحركة الإخوان المسلمين هو العودة إلى المبادئ الأولى للإسلام .

هذه النظرة تجد أثارة لها في كتاب المستشرق آرثر جب بعنوان الاتجاهات الحديثة في الإسلام أيضا لدى المستشرق الفرنسي لويس جارديه الذي ذهب في تحليله لهذه الحركة «أنها تجمع بين سعة ويسر السلفية والاهتمام بصفة خاصة بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية

وهناك فريق ثان يهتم أيضا بدراسة هذا البعث الإسلامي الجديد وهذا الفريق تجمعه هوية العداوات للإسلام عينه وهو فريق من يهود صهيونيين وصليبيين وماركسيين. ومما يدعو إلى الأسف- وأن كان لا يدعو إلى العجب- أن نرى الهجوم السافر خاصة على حركة الإخوان المسلمين دون منهجية علمية وفي مؤلفات (علماء) أبسط ما يفرض فيهم الأمانة العلمية فأرجع بعض من الأول حركة الإخوان المسلمين إلى نظام طائفة الحشاشين

وهذه الحملة اليهودية الصهيونية بدأت منذ قديم حيث أتاحت ثورة عرب فلسطين عام 1936 فرصة الاشتراك لجماعة الإخوان المسلمين إثباتا لدعوتهم. وقد عبر عن هذا العداء الذي مازال يرنو صداه في الغرب تشويها لهذه الحركة مقال كتبته صهيونية يهودية تدعي روث كاريف في جريدة الصنداي ميرور الأمريكية بتاريخ 6 فبراير 1948 والذي نشرته صحيفة المصري في اليوم التالي تحت عنوان «مؤامرة صحفية ضد العرب في أمريكا -حملة على المفتي- معركة فلسطين- الإخوان المسلمون» تنقل إلى القارئ نصه بالكامل.

في ألف مسجد ومسجد ، تكرر المنظر التالي مرات عديدة ، خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة :

في الأسواق المظلمة المزدحمة في مدن الشرق الأوسط ، وفي قرى الريف بأكواخها المبنية من الطين والقش ، تدوي صيحة تدعو المؤمنين إلى الوفود والتجمع في بيت الله..

وهناك يخطب فيهم فتى قدم إليهم من القاهرة عاصمة الدولة الإسلامية الكبرى فيقول لهم «أن العرب هم أسمى الشعوب على وجه البسيطة» ويذكرهم بأن الإسلام هو خير الأديان جميعا ، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها ويحدثهم عن اليوم الذي يخرج فيه جنود الله -كما خرجوا أيام النبي محمد- فيغزون العالم كله ويحكمونه وما هذا اليوم ببعيد..

وينصت المسلمون في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى هذا النداء ، وتراهم يتركون أعمالهم ومصالحهم وأدواتهم ويذهبون جماعات إلى المسجد لينصتوا إلى الداعي الوافد من القاهرة. فيؤكد لهم خطيبهم «أن الرغبة في السيطرة على العالم ، تلك الرغبة العميقة المتأصلة في نفس كل مسلم ، أنما تستمد قوتها من القرآن. والآن ، إذا أردتم أن تعبروا عن رغبتكم المقدسة هذه ، وأن تضموا أصواتكم إلى أصوات المسلمين في كل أنحاء العالم ، أدعوكم أن تهتفوا معي «الله أكبر ولله الحمد».

وتتردد جوانب هذه الصيحة الدينية المتحمسة في أرجاء المكان ، وحينذاك يكون لها معنى مماثل لصيحات الألمان هايل هتلر! ويشبه قائلوها أولئك الذين غررت بهم عصبة من النازيين قبل الحرب ويبدو أن هناك عصبة نازية جديدة تنشئ حركة شعبية فاشية في الشرق الأوسط ، لا يعد الفالانج في أسبانيا الحالية بجانبها شيئا مذكورا..

واسم هذه الحركة الجديدة «الإخوان المسلمين»..

«ولما كان الغربيون لا يعلمون عن الشرق الأوسط ما يدور فيه حقيقة ، بل يعتبرونه منطقة خيام وحريم وملابس فضفاضة لا غير- فإن قليلا جدا من الخبراء بشؤون الشرق الأوسط هم الذين يستطيعون تقدير هذه الحركة الجديدة قدرها الحقيقي وخطرها على السلام..

«والآن وقد أصبح هؤلاء الإخوان المسلمون ينادون بالاستعداد للمعركة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شؤون الشرق الأوسط ، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة ، فقد حان الوقت للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال يتسترون وراء هذا الاسم الجذاب الرومانتيكي اسم «الإخوان المسلمين».

إنهم يدعون اليوم أن أعضاء الجمعية يبلغون نصف مليون ، موزعين في 1500 مركز بمصر وسوريا وفلسطين ولبنان والعراق ، بل أن لهم أنصارا وأتباعا في الهند والفلبين وجزر الهند الشرقية وهم يدعون أيضا أنهم يتكلمون باسم المثل العليا والآمال والأماني التي تجيش بها صدور سبعين مليونا من العرب وثلاثمائة مليون من المسلمين.

ولا شك أن هذه الأرقام مبالغ فيها. ولكن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع هي أن هذه الجمعية هي أولى الجمعيات السياسية الاجتماعية التي نشأت في الشرق الأوسط وتعتمد على تأييد كتل شعبية كبيرة. والسلاح الذي يعتمد عليه الإخوان المسلمون ، هو الدين ، فشعوب العالم الإسلامي كلها متدينة إلى حد التعصب. وقاعدتهم الأساسية في دعوتهم هي العودة إلى القرآن. والذي يريدونه أذن ، هو أن يعودوا بالزمن ألف سنة إلى الوراء ، ليعيش المسلمون الحياة الأولى ، ويخضعوا للقوانين التي كانت تسود في هذه الحقبة القديمة من الزمن. وهم في سياستهم الداخلية ينادون بالحد من فوضى التعليم.

ويشيرون بذلك إلى مختلف العلوم والآداب والفنون والفلسفة التي لم يعرفها الإسلام. وهم ينادون بحرق أدب الغرب ، لأنه أدب مادي يفسر التطور الاقتصادي ، أدب يسوي في القانون بين المؤمنين وغيرهم ، ولا يعترف باعتقادهم أنه لا وجود الآن إلا لعالمين ، عالم الإسلام وعالم الحرب.

ومن بين ما يريدونه بالعودة إلى القرآن ، إلغاء القوانين الوضعية وبخاصة قانون العقوبات الذي لا ينتج من الأثر ما تنتجه قواعد القرآن ومثلهم الحي في ذلك ما تفعله المملكة العربية السعودية. أنهم يريدون أن ينشئوا عالما خياليا لا يوجد فيه قانون ولا دفاع ولا محاكم ولا برلمان فاللص تقطع يده أمام الناس حتى يرتدع غيره. والرق مباح على أوسع نطاق. وهم أيضا يعارضون كثيرا من المثل الأخلاقية الجديدة كإعطاء المرأة حقوقها السياسية والاقتصادية.

وهم في الشؤون السياسية يعارضون شتى مظاهر الديمقراطية الحديثة ، فلا يعترفون بتعدد الأحزاب لأن المسلمين في أول عهدهم لم يكن لهم سوى حزب واحد ، هو حزب محمد.

أما سياستهم الخارجية فتقوم على دعواهم التي يصرحون بها في كل حين وهي أن العرب هم أرفع شعوب الأرض وأن الله اصطفاهم لينشروا تعاليم الإسلام في الدنيا بأسرها بكل الوسائل التي في استطاعتهم.. وأغراض الإخوان المسلمين وأهدافهم كما وردت في النشرة التي يوزعونها باسم «دعوتنا» ما هي إلا صورة كاريكاتورية لما ورد في كتاب «كفاحي» لهتلر. ولم يأخذ زعماء الإخوان المسلمين عن النازية عقائدها الأساسية وأهدافها الرئيسية وطرق التأثير في الجماهير فحسب ، بل أخذوا عن النازية أيضا طرقها الخاصة بالعدوان.

وقد قسموا مشروع السيطرة على العالم إلى عدة مراحل. والمرحلة الأولى هي إبادة الأقليات غير المسلمة في الشرق الأوسط. فهم يريدون القضاء على الأقباط في مصر ، والمارونيين في لبنان ، والمسيحيين في سوريا ولبنان ، والأكراد في الشرق الأوسط ، واليهود في فلسطين بطبيعة الحال. ولما كان اليهود في فلسطين الآن هم أعنف خصوم الإخوان المسلمين الذين يريدون رد الشرق الأوسط إلى العصور الوسطى ، كان اليهود لذلك هم الهدف الأساسي لعدوان الإخوان وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط ، وهم يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين. وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية ، وطالبوا علنا بانسحاب جميع الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة.

وهم الآن يدربون أنصارهم تدريبا عسكريا منظما في كل من مصر وسوريا. وقد قبض البريطانيون وأعضاء جمعية الهاجاناه أخيرا على عدد من الإخوان الذين تسربوا إلى فلسطين من سوريا فوجدوهم تحت قيادة ضباط من الألمان.

وقادة هؤلاء الإخوان سياسيون مهرة استطاعوا الوصول إلى أغراضهم السياسية ومن بينهم الحاج أمين الحسيني ، بل هو زعيمهم الروحي. وقد دبر المفتي حوادث الاعتداء على اليهود بين عامي 1936 و 1939 ثم دبر ثورة العراق ضد الحلفاء عام 1941 وأخيرًا قصد إلى برلين عن طريق السفارة اليابانية في إيران...

والشخصية الثانية في الإخوان المسلمين هي شخصية «الفوهور» الذي يسمي نفسه «مرشد الشعب الأكبر» وهو الشيخ حسن البنا الذي كان مدرسا بإحدى المدارس وقد اتبع طرق هتلر حتى استطاع الوصول إلى مركزه الحالي.

وقد أقام الشيخ حسن البنا تنظيم جماعته الداخلية على أسس فاشية كهتلر تماما ، فجعل فيها ذلك النظام الهرمي الذي يعلو فيعلو حتى يصل إليه هو في القمة. وفي أثناء الحرب كان حسن البنا يعمل لصالح المحور بالطبع.

والجزء الفعال من أتباعه الذي يحارب الآن ضد مشروع التقسيم الذي قررته هيئة الأمم المتحدة ، كان يحارب من قبل ضد الحلفاء في ميادين شمالي أفريقيا وسوريا ولبنان وفي ثورة العراق.

وقد أدى الخيال العجيب الذي أضفاه هؤلاء القادة على حركتهم ودعوتهم إلى تضليل الكثيرين من أفراد الشعب حتى في الشرق الأوسط نفسه ، فلم يستطيعوا تقدير الخطر الذي يهددون به السلام حق قدره.

وإذا كان المدافعون عن فلسطين (تقصد اليهود) يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة ، فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها ، ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجها لوجه ، وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة.. وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب ، فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي ، إذ واجهتها حركة فاشية نازية ، فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباكستان ومن تركيا إلى المحيط الهندي.

وذهب من الآخرين الدكتور فيليب حتى في بحثه عن دراسة الوحدة الإسلامية ألقي في مؤتمر معهد الشرق الأوسط في واشنطن عقد في مارس 1951 ذهب إلى القول «ويمثل هذه الرجعية أيضا حركة الوحدة الإسلامية ، وفي حين تحاول الوحدة العربية أن تجعل من اللغة والثقافة الوحدة المشتركة ، فإن الوحدة الإسلامية تجعل الدين هذه الوحدة المشتركة ، فالوحدة الإسلامية تنظر إلى الوراء والوحدة العربية تنظر إلى الإمام ، الوحدة الإسلامية تستلهم الأفكار التي ترجع إلى القرون الوسطى ، فهي مخالفة للغرب ومخالفة للديمقراطية ، والإخوان المسلمون يمثلون هذه الحركة في أسوأ مظاهرها .

كما قال الدكتور وتدل كليلاند عن الحركات القومية في المؤتمر السالف الإشارة إليه : «أن بعض العناصر المحافظة تحاول أن تبذل جهدا في توجيه هذه الحركات نحو المثل القديمة الساذجة ، فنحن نسمع أحيانا عن ظهور شخص يريد أن يكون المهدي ، وقد سمعنا منذ حين أشارت إلى حركات كالإخوان المسلمين».

ومن هؤلاء أيضا نعد الدكتور ولفرد كانتول سميث في كتابه «الإسلام في التاريخ المعاصر» فهو مع تسليمه بأثر الإخوان المسلمين وهدفهم من أجل بعث مفهوم الإسلام ونهضته من الركود الذي أصاب المجتمع الإسلامي والمصري بخاصة ، غير أنه يراهم متصلي الفكر بالماضي أو ما تجد عنه التعاليم الأزهرية في شأن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية أو ذات المساس بالسياسة العامة وأن برنامجهم في هذا الشأن غير واضح المعالم. والمؤلف بلا شك قد تجاهل ما نادى إليه الإخوان من مبادئ وأهداف دون أن يرجع إليها وهي واضحة جلية في صحفهم منذ بداية نشأتهم حتى تاريخ الحل الذي أصابهم.

ووجه الخطل في تحليله بين إذ يذهب أن مناداة الإخوان بالإسلامية والمبادئ التي سعوا إليها إنما هو انعكاس وتأثير للتعبير عن الكره والجحود الذي عاشه الشعب خلال فترة طويلة من حياته فريسة للفقر والخشية وعدم القدرة. وهو أراد أن يصل في تحليله الخاطئ إلى دور الإخوان المسلمين غير المباشر في حريق القاهرة في 26 يناير 1952 .

كما أراد -وهو بيت القصيد عنده- أن يظهرهم الكارهين لكل من هو غير مسلم ويذهب أن ذلك تشهد به مؤلفاتهم كما بيني هذا الادعاء على ما يذكره من مقابلات شخصية مع مسيحيين مصريين ومن السلطات الكنسية. وما ندري مصدر إدعائه وقد شهد الكثيرون من غير المسلمين على روح الود التي لازمت دعوة الإخوان وهذه الروح التي فندها المرحوم الدكتور منصور فهمي بقوله «لقد أخطأ وظلم من توهم أن في دعوة حسن البنا ذرة من التعصب المقيت يتجلى في معاداة من ليسوا على دينه وعقيدته ، وذلك لأن هذا الرجل كان رقيق القلب مهذب النفس ، يفهم دينه كما يجب أن يفهم على حقيقته ، ويعلم أن من الأسس التي قامت عليها دعائم الإسلام إلا إكراه في الدين ، وأني لأعلم علم اليقين أن الفقيد الراحل كان أخا كريما وصديقا صادقا للكثيرين من أهل الرأي والفكر ممن هم على غير دينه ، وكان في حلقة الجدل والمباحثة يتخلى عن رأي بدا له إلى رأي صائب جاء ممن يغايره في الرأي أو في العقيدة ، ومثل هذه الصفات التي كان يتحلى بها الفقيد تتنافى مع ما يلصقه البعض بالدعوة من تهم قامت على التوهم» .

أما الفريق الأخير فمؤلف من ماركسيين ، وهم كما أوضحنا يتعصبون لمذهبهم تعصبا يجعله في نظرهم غاية في ذاته. وقد ذهب من هذا الفريق كل من أنور عبد الملك في كتابه الصادر عام 1962( ) ورفعت السعيد في كتابه الصادر عام 1977 إلى القول بأن الإخوان كانوا يعملون في خدمة الرأسماليين والمستغلين وفي خدمة الطاغية صدقي وحكومات الأقلية . وقد نسي المؤلفان أن غالبية الإخوان كانت من الطبقات الكادحة (حسب التعبير المألوف لدى أصحاب هذا الفكر) وأن فشل جبهة الإضراب عام 1946 يرجع إلى سياسة حزب الوفد كما قدمنا من رأي المؤرخ المرحوم عبد الرحمن الرافعي.

كما أنه لا يجوز كما قلنا أن نغفل أثر العوامل الأخرى غير التعصب للماركسية. ففي مصر وغيرها ماركسيون لا لأنهم يحبون الشيوعية بل لأنهم يكرهون الإسلام. فكل ما يحارب الإسلام أذن هو لهم صديق.. وهذه الحرب المعلنة للإسلام مشبوبة أيضا ضد كل اتجاه إسلامي ، وقد نالت جماعة الإخوان المسلمين النصيب الأكبر من هذا الكيد الذي أخذ صورة التأويل السيئ الذي خرج عن جادة التقييم العلمي لما لا يسه من التشويه في الوقائع والتزييف في رواية التاريخ.

وبعد فتمر أكثر من ثلاثين عاما على اغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949 وقد علم الذين أردوه أنهم قتلوا أخطر داعية في عالم الإسلام منذ قرون ، وتمر أكثر من ثلاثين عاما على محاكمة هازلة في ديسمبر 1954 وأكثر من عشرين عاما على محاكمة هازلة أخرى في عام 1965 تعرضت خلالها جماعة الإخوان المسلمين للظلم في ماضيها والبهتان في حاضرها ، وقد كانت أخص خصائص حركتها ثلاث :

  • في فكرتها : القوة والجلال.
  • وفي كيانها : الأخوة والحب.
  • وفي نشاطها : البذل والفداء.

وحوربت بأخطر ما حوربت به بثلاث :

  • في فكرتها : بتشويه جمال الإسلام.
  • وفي كيانها : بالوقيعة والدس.
  • وفي نشاطها : بالإغراء يعرض الحياة الدنيا.

ولكن مازال هذا النبض قويا يدوي في العالمين ببعث إسلامي جديد دعوته هي الإسلام ، والإسلام كلمة ظلمتها القرون وألقت على صفائها القديم أغلفة من ألوان شتى ، حتى اختلفت معانيها في أذهان المسلمين ، وأصبحت ترى منهم من لا يصله بالإسلام إلا طقوس يؤديها على دخل في فهمه وأخلاقه ، ومنهم -وأن كانوا لا يزالون قلة- من حمل أمانة هذا الإسلام كاملة لا يساوم عليها ، ونذر لها حر ماله وزكى دمه ، ووقف بإيمانه المشبوب يصارع كل من يتصدى لهذه الدعوة بعد وأن.. وبين هذين الصنفين ، أصناف بين بين وكلهم ينتسب إلى الإسلام ، وكلهم حجة عليه عند الذين لم يدرسوه من المسلمين وعند غير المسلمين.

والإسلام مظلوم من كثير من هؤلاء..

والدعاة الإسلاميون مسؤولون أن ينصفوه من ظلم أكثر الناس له ، وأن يعرضوه بصفائه القديم ، وأحكامه المتكاملة ، وروعته الفذة في مخاطبة النفوس والعقول والأوضاع.

هي معركة مع الفهم الخاطئ والأوهام الفاسدة ومؤامرات أعداء الإسلام لتشويه جماله إلى جانب المعركة التي لا بد منها مع الأهواء والمطامع وطغيان الفساد..

وكيان هذا البعث أواصر ثلاث :

  • آصرة الروح.
  • وآصرة الفكرة.
  • وآصرة التنظيم.

وهي التي عبر عنها حسن البنا بالإيمان العميق ، والتكوين الدقيق والعمل المتواصل.

أن حركة البعث الإسلامي الجديد اليوم في مدها ولابد أن تبلغ الشاطئ والذين يقفون في طريقها سوف يدفعهم موجها مع الزبد ، أو تهوى بهم مواقفهم إلى القاع. وأن اختلفت مظاهر هذه الحركة وتعددت مداخلها في أرجاء الأمة الإسلامية فهي تسير جميعا في فلك واحد لا معدى لها عنه.. والقوى التي تملكها من شأنها أن تخط جديدا في تاريخ دعوتها..

أن من قواها عظمة الرسالة التي تحملها.. فهي تحمل رسالة الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهي بذلك تجد طريقها إلى القلوب والعقول باسم الله ، ولئن ترائت ألوان الفساد الذي غشي الناس في كل ناحية. أن طوية هذه الأمة لا يزال يملأها الحنين إلى الإسلام والأسف على ما فرطت. فالمسلمون اليوم يعلمون من أمر هذا الدين ما يكفي ليعرفوا منه مدى التناقض بين حياتهم التي يحيونها وبين شريعة دينهم التي يؤمنون بها. ولكنهم غلبت عليهم أهوائهم وشهواتهم وعلت قلوبهم منها غشاوة حتى صاروا إلى ما صاروا إليه ، وأن كلمة الله لا تزال أبدا حين تصدر خالصة أقوى في النفوس من عبث الشهوة ومن زخرف الهوى.

ومن قوى هذه الحركة الإسلامية هذا العدد الكبير من شباب المسلمين الذي اجتمع عليها في كل مكان وأعطاها من ذات نفسه؛ وقد كانوا من قبل لم يدرسوا الإسلام ولم يعرفوا أحكامه ، وتثقفوا ثقافة أخرى غير إسلامية امتلأت بها رؤوسهم وتأثرت بها نفوسهم ، وقد كانوا على عاطفة دفينة ولا شك من الحب لدينهم ولكنها عاطفة غامضة مشوهة ، واستجابتهم لها في حياتهم الخاصة أو أفكارهم العامة استجابة فيها هذا الغموض والتشويه فقد تراهم في أخلاقهم الخاصة بعيد عن آداب الإسلام ، وتراهم في أحاديثهم العامة يخلطون حقا بباطل ويريدون أن يفهموا الإسلام بالمقاييس التي صنعتها رؤوسهم ثقافات بعيدة عن روح الإسلام وأصوله.. وأبدلتها آصرة الروح وآصرة الفكرة أو الإيمان العميق والتكوين الدقيق إلى شباب فطموا بها أنفسهم عن الشهوات ، وبذلوا لها من الوقت والمال والجهد ولم تعد تزيدهم الأيام إلا رشدا ولا تتابع الأحداث إلا عزما وإصرارا..

ومن قوى هذه الحركة أيضا هذا القلق النفسي الذي تعانيه شعوب الأمة الإسلامية والسأم والضجر الذي أصبحت تجده من الجعجعة والهراء ، والإحساس بواقعها المهين وتناقض الأوضاع في بلادها وما تلاقيه ، وهي أمور تجعلها تتحسس طريقا آخر تسكن نفوسها إليه وتقدم فيه على تجربة من نوع جديد.

ومن قوى هذه الحركة الإسلامية أيضا هذه القضايا التي أصبح يحس بخطرها المسلمون جميعا كقضية فلسطين وأفغانستان وما هي منا ببعيد. وقد بدأ الكفاح المسلح سافرا وهم يعلمون أن هذه القضية وغيرها لن تحل إلا بقوة ترد السلاح بالسلاح ، والعدوان بالنار.. بعد أن اشتد الهجوم على أرض الإسلام واستطاعت قوى الغرب والشرق معا أن تقتسم أرضه بعد أن مهدت لذلك ببعثات من المبشرين والمستكشفين والعلماء والتجار للتبشير بمعالم حضارة جديدة لها مقوماتها الخاصة ولكل من الشيوعيين والمعسكر الغربي -بفرقه المتعددة- مناهجه المتميزة ، ومن أوضح مظاهرها الغزو الفكري المنظم ، والسيطرة الاقتصادية باسم المعونة الفنية وما وراءها من امتداد النفوذ السياسي ودوران الدول في الفلك الاستعماري للشرق أو الغرب اللذين أدركا حقيقة الخطر الذي يواجهانه بصحوة الإسلام ويقظة بنيه وتحركت الأبواق في السر والعلن تدعو حكام هذه الشعوب لضرب الحركة الإسلامية ووأدها في مهدها ، وهي لا شك تعي أنها مع الشر في معركة واحدة ، قد تختلف آجالها.. ولكن لا تختلف أبدا طبيعتها ولا مصيرها..

وأن من وراء هذه القوى جميعا ومن فوقها قوة الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾



الملاحـق

الإخوان المسلمون .. الشعبة القانونية


مشروع دستور إسلامي للدولة المصرية

مقدمة

هذا اقتراح بمشروع لدستور للدولة المصرية يعتمد في جوهره على الإسلام فهو مستمد في أصوله من أحكام القرآن وسنة الرسول وأساليب الحكم في عهد الخلفاء الراشدين.

وإذا فصلت نصوصه على هذا النحو بدا مسايرا لأصلح ما في النظم الدستورية المعاصرة : كالصالح النظام الرياسي rigome presidential (المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية). ونظام حكومة الجمعية gouvernemenr d,assemblee(الذي أخذت به بعض الدساتير الأوروبية كدستور النمسا الصادر في سنة 1920 والدستور التركي الصادر في سنة 1924 والدستور السويسري الحالي) ، كما بدا خاليا مما في تلك النظم من أوضاع أجمع على فسادها الفقه الدستوري الحديث. وكذلك بدا المشروع مجافيا كل المجافاة للنظام البرلماني Regime parlementaire الذي نشأ في انجلترا ثم انتقل منها إلى غيرها من البلاد كفرنسا وبلجيكا ومصر حالاً ، وذلك لما ينطوي عليه هذا النظام –على وجه الخصوص- من استقلال رئيس الدولة عن الهيئة التي تمثل الأمة فلا يسأل أمامها عن تصرفاته في شئون الدولة سياسياً (ولا جنائيا إن كان ملكاً). إذ الأصل في رئيس الدولة (الملك) حيث نشأ هذا النظام (في انجلترا) أنه فوق البشر ذاته مقدسة مصونة ، معصوم من الخطأ مؤيد موفق مسدد (the king can do no wrong) (الملك لا يخطئ) فاعتباره مسئولا فيه تعد على قداسته. أما الإسلام فلا يعرف العصمة إلا على أساس أنها لله وحده دون عباده حتى الأنبياء منهم والمرسلين.

فكيان الحكومة في المشروع يتلخص في وجود هيئة حاكمة تتكون من مجلس الأمة ورئيس الدولة. ومجلس الأمة الذي يؤلف من أعضاء منتخبين هو الذي يباشر سلطات الأمة بالنيابة عنها. فينفرد بالتشريع ويفوض رئيس الدولة في التنفيذ ، أما رئيس الدولة فيختاره مجلس الأمة لمدى الحياة هو يباشر التنفيذ ويسأل عن مباشرته له أمام مجلس الأمة سياسياً وجنائيا فإذا ثبتت مسئوليته انعزل عن الرياسة. وثمة وزراء يعينهم رئيس الدولة ويسألون أمامه سياسياً وأمام مجلس الأمة جنائيا ويسأل الرئيس سياسياً أمم هذا المجلس عن تصرفاتهم. وليس لرئيس الدولة في مقابل ذلك كله أية وسيلة يؤثر بها على مجلس الأمة ، فمجلس الأمة : مجلس دائم الأصل فيه أنه ينعقد من تلقاء نفسه وليس لرئيس الدولة ولا لوزرائه حق حضور جلساته من حيث المبدأ ولا حق حله على عكس الحال في النظام البرلماني. وكيان الحكومة على هذا الوضع مفصل على تعاليم الإسلام وأساليبه الحقة في هذا الصدد ، وإذ فصل على هذا النحو بدا كما أشرنا متفقا مع أصلح ما في النظم الدستورية المعاصرة خاليا مما فيها من أوضاع أثبت العمل فسادها.

ولقد نق المشروع عن الدستور المصري الحالي بعض أحكامه (كالخاصة « بالمالية ») لعدم مجافاتها لتعاليم الإسلام من جهة –و لثبوت صلاحيتها في التطبيق من جهة أخرى.

ونقلا عن تعاليم الإسلام تضمن المشروع ما يكفل للفرد حياة كريمة في مجتمع متضامن عن طريق وضع حد لاستغلال الفرد للفرد وإلزام الدولة بأن تضمن للفرد مستوى مادياً معيناً مما يدعم في نفس الوقت الحريات الفردية ، فلا تقتصر الإفادة بهذه الحريات على فريق من الأمة دون فريق كما هي الحال في الديمقراطيات الغربية الفردية النزعة وفي ظل الدستور المصري الحالي ، وتمشيا مع روح الإسلام التي ترى في كفالة الحقوق الاجتماعية على النحو السابق ضمانا للإفادة من الحريات الفردية جعل المشروع الصدارة للحقوق الاجتماعية فأوردها في صدر الباب الرابع قبل الحريات الفردية مجافيا في ذلك الدساتير الغربية الفردية النزعة التي إما أن تكتفي بضمان الحريات الفردية دون الحقوق الاجتماعية وإما أن تجعل للأولى الصدارة على الأخيرة. هذا وقد أفاد المشروع من حيث الصياغة –دون الجوهر- من وثيقة الإعلان العالمي الأخير لحقوق الإنسان.

وتمشيا مع أحكام الإسلام وتعاليمه الحقة اعتبر المشروع مقاومة الهيئة الحاكمة إن جارت من أقدس حقوق المواطن وألزم واجباته وهو بذلك يخالف الدساتير الديمقراطية المعاصرة قاطبة فهي ترى في مباشرة هذا الحق الطبيعي جريمة تهدد سلامة الجماعة وأمنها.

والمشروع –كما يبدو واضحاً من نصوصه- يسود أحكام الإسلام وتعاليمه فيخضع لها ولأحكام الدستور جميع التشريعات التي تصدر عن الهيئة الحاكمة ، وضمانا لذلك خول المشروع القضاء الرقابة على دستورية القوانين.

ولنا إلى كل ذلك رجعة بالتفصيل في مذكرة إيضاحية سنصدرها قريباً إن شاء الل.

الإسكندرية

25 ذو الحجة سنة 1371

16 سبتمبر سنة 1952

دكتور محمد طه بدوي


الباب الأول : في السيادة

مادة 1- مصر دولة إسلامية حكومتها نيابية.

مادة 2- تباشر الأمة سلطانها عن طريق هيئة تنوب عنها


الباب الثاني : في الهيئة الحاكمة

مجلس الأمة

مادة 3- يؤلف مجلس الأمة من مائتي عضو منتخبين بالاقتراع المقيد بشرط الأهلية الثقافية على مقتضى قانون الانتخاب.

مادة 4- يشترط في عضو مجلس الأمة أن يكون مصريا حسن السمعة وأن تكون سنه أربعين سنة هجرية كاملة على الأقل وأن يكون على درجة من الأهلية الثقافية يحددها قانون الانتخاب.

مادة 5- مدة العضوية خمس سنوات.

مادة 6- ينتخب المجلس رئيسا ووكيلا سنوياً في آخر كل دور انعقاد عادي – ويتم الانتخاب وفق لائحة المجلس الداخلية.

مادة 7- مركز مجلس الأمة مدينة القاهرة إلا إذا اقتضت الضرورة اجتماعه في جهة أخرى.

مادة 8- عضو المجلس ينوب عن الأمة كلها – فلا ينوب عن دائرته فحسب.

مادة 9- مجلس الأمة هو الذي يباشر سلطات الأمة بالنيابة عنها.

مادة 10- فهو الذي يتولى التشريع في حدود تعاليم الإسلام ويفوض الرئيس في التنفيذ.

مادة 11- قبل أن يتولى أعضاء المجلس عملهم يقسمون علناً بقاعة جلساته أن يكونوا مخلصين لله ثم للوطن مطيعين أحكام الدستور نصاً وروحا.

مادة 12- يختص المجلس بالفصل في صحة نيابة أعضائه وفق لائحة المجلس الداخلية.

مادة 13- مجلس الأمة مجلس دائم ينعقد من تلقاء نفسه بدعوة رئيسه أو وكيله في حالة غياب الرئيس في يوم السبت الأول من كل شهر ويدوم دور انعقاده إلى آخر شهر (أي عشرة شهور) ورئيس المجلس هو الذي يفض الدورة.

مادة 14- ومع ذلك يجوز لرئيس المجلس أو وكيفه في غيبة الرئيس أو رئيس الدولة أن يدعو المجلس إلى الانعقاد في أثناء العطلة البرلمانية إن استدعت الضرورة البت فيأمر من الأمور التي تدخل في اختصاصه ويصح أن يتم ذلك بناء على طلب أكثر من ثلث أعضاء المجلس.

مادة 15- جلسات المجلس علنية ويجوز عند الضرورة القصوى أن تكون سرية وفق أحكام اللائحة الداخلية.

مادة 16- لا يجوز أن يقر المجلس قرارا إلا إذا حر الجلسة أغلبية الأعضاء الذي يتكون منهم المجلس ويستثنى من ذلك الاقتراع على مسألة الثقة برئيس الدولة فإنه يشترط للنظر فيها ولاتخاذ قرار بشأنها أن يحضر الجلسة أكثر من ثلثي الأعضاء الذين يتكون منهم المجلس ، وتصدر قرارات المجلس بالأغلبية المطلقة وذلك في غير الأحوال المشترطة فيها أغلبة خاصة.

مادة 17- لا يجوز مؤاخذة الأعضاء عما يبدون من الأفكار والآراء في المجلس.

مادة 18- لا يجوز أثناء الدورة الانعقاد القبض على عضو المجلس إلا بإذن المجلس.

مادة 19- لا يجوز فصل العضو إلا بقرار مسبب من المجلس بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم.

مادة 20- تجري الانتخابات العامة لتجديد مجلس الأمة في خلال المائة يوم السابقة لإنهاء مدة نيابته وفي حالة استحالة إجراء هذه الانتخابات في هذه الفترة فإن مدة نيابة المجلس تمتد إلى حين تمم الانتخابات المذكورة.

مادة 21- إذا خلا محل أحد أعضاء المجلس بالوفاة أو الاستقالة أو لأي سبب آخر ينتخب بدله في مدى شهر من يوم خلو المكان فعلاً ولا تدون نيابة العضو الجدي إلا إلى نهاية مدة سلفه.

مادة 22- يضع المجلس لائحته الداخلية.

مادة 23- تحدد مكافأة عضو المجلس بقانون.

مادة 24- لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الأمة وأية وظيفة عامة ويستثنى من ذلك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية وينظم قانون الانتخاب طريقة اختيار ممثلي الجامعات.

رئيس الدولة

مادة 25- يختار مجلس الأمة من بين أعضائه رئيسا للدولة المصرية لمدى الحياة ، كما يجوز له أن يختار رئيسا من غير أعضائه وفي هذه الحالة يشترط لصحة التعيين أن يكون الاختيار بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتكون منهم المجلس وأن تتوافر في المختار ما يجب توفره في عضو مجلس الأمة.

مادة 26- قبل أن يباشر رئيس الدولة سلطاته يحلف اليمين الآتية أمام المجلس « أحلف بالله العظيم أني أحترم الدستور نصاً وروحا ».


مادة 27- أثر وفاة الرئيس يجتمع المجلس خلال عشرة أيام من تاريخ الوفاة لينتخب رئيسا جديداً وحتى يتم الانتخاب يتولى رئيس الأمة سلطات رئيس الدولة وكذلك الحال عند خلو رئاسة الدولة لأي سبب آخر.

مادة 28- لا يجوز الجمع بين رئاسة الدولة وأية وظيفة عامة ، أو خاصة بأجر أو بغير أجر.

مادة 29- رئيس الدولة مسئول لدى مجلس الأمة عن تصرفاته في شئون الدولة سياسياً وجنائيا.

مادة 30- إذا قرر مجلس الأمة عدم الثقة برئيس الدولة انعزل عن الرئاسة.

مادة 31- للمجس حق اتهام رئيس الدولة فيما يقع منه من الجرائم أثناء تأدية وظيفته ولا يصدر قرار الإدانة إلا بأغلبية الأعضاء.

مادة 32- يحاكم رئيس الدولة عما يقع منه من جرائم بمناسبة أداء وظيفته أمام مجلس الأمة وتتبع في محاكمته الإجراءات والأوضاع الواردة بلائحة المجلس الداخلية.

مادة 33- يسأ لرئيس الدولة مدنيا وجنائيا أمام جهات القضاء العادي في غير الحالة المتقدمة شأنه في ذلك شأن كل مواطن عدا أنه لا يجوز القبض عليه إلا بعد الحصول على إذن مجلس الأمة.

مادة 34- ليس لرئيس الدولة حق حضور جلسات مجلس الأمة إلا بدعوة من المجلس لسؤاله أو لاستجوابه ، ولكنه يستطيع مكاتبة المجلس عن طريق رئيسه.

مادة 35- يساعد رئيس الدولة في أداء وظيفته التنفيذية وزراء يتولون الوزارات المختلفة التي ينظمها القانون.

مادة 36- رئيس الدولة يعين الوزراء ويقيلهم.

مادة 37- يسأل كل وزير أمام رئيس الدولة سياسياً.

مادة 38- يكون رئيس الدولة مسئولا سياسياً عن تصرفات وزرائه أمام مجلس الأمة.

مادة 39- يسأل الوزير جنائيا أمام مجلس الأمة وتسري في ذلك أحكام المادتين 31 و 32.

مادة 40- يشترط فيمن يختاره رئيس الدولة وزيرا ما يشترط في عضو مجلس الأمة.

مادة 41- لا يجوز الجمع بين الوزارة وبين أية وظيفة عامة ، أو خاصة بأجر أو بغير أجر.

مادة 42- ليس للوزراء حق حضور جلسات مجلس الأمة إلا بوصفهم من الجمهور ولكن للمجلس أن يستدعيهم ليستمع إليهم بناء على طلب منهم أو ليستفسرهم عن أمر معين وفق الأوضاع الواردة بلائحة المجلس الداخلية.

مادة 43- لكل عضو من أعضاء مجلس الأمة أن يوجه إلى رئيس الدولة أسئلة واستجوابات وذك على الوجه المبين باللائحة الداخلية للمجلس.


الباب الثالث : في توزيع وظائف الدولة

الوظيفة التشريعية

مادة 44- الوظيفة التشريعية يتولاها مجلس الأمة في حدود تعاليم الإسلام وأحكام هذا الدستور.

مادة 45- لكل عضو من أعضاء مجلس الأمة ولرئيس الدولة حق اقتراح القوانين بما لا يجافي الإسلام.

مادة 46- لا يصدر قانون إلا إذا أقره المجلس بأغلبية أعضائه.

مادة 47- طريقة عرض الاقتراح على المجلس وكل ما يوصل إلى اتخاذ قرار من شأنه تنظمه اللائحة الداخلية لمجلس الأمة.

مادة 48- يبعث رئيس مجلس الأمة بالقانون بعد إقرار المجلس له إلى رئيس الدولة ليصدره ، فإذا لم يصدر رئيس الدولة القانون في مدى عشرة أيام أصدره رئيس المجلس وسئل عن ذلك رئيس الدولة سياسياً لدى المجلس إلا إذا كان الامتناع عن الإصدار لمخالفة القانون لأحكام الإسلام أو أحكام الدستور وفي هذه الحالة يتحتم على الرئيس رد القانون إلى المجلس في المدة المذكورة مشفوعا بما يوضح هذه المخالفة.

الوظيفة التنفيذية

مادة 49- الوظيفة التنفيذية يتولاها رئيس الدولة في حدود هذا الدستور.

مادة 50- رئيس الدولة يصدر القوانين.

مادة 51- تكون القوانين نافذة في جميع أنحاء الدولة المصرية بإصدارها ويستفاد هذا الإصدار من نشرها في الجريدة الرسمية ، ويحدد القانون بدء تاريخ العمل به ولا تجري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ نفاذها ما لم ينص على ذلك بنص خاص.

مادة 52- لرئيس الدولة أن يضع اللوائح لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها وليس له بأية حال أن يضع لوائح مستقلة.

مادة 53- رئيس الدولة يرتب الوزارات والمصالح العام ويولي ويعزل الموظفين على الوجه المبين بالقوانين.

مادة 54- رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهوا لذي يولي ويعزل الضباط على الوجه المبين بالقوانين.

مادة 55- رئيس الدولة يعلن الحرب الدفاعية ثم يعرض الأمر على مجلس الأمة.

مادة 56- وهو الذي يعلن الحرب الهجومية ويبرم المعاهدات بعد موافقة مجلس الأمة.

مادة 57- وهو الذي يعين الممثلين السياسيين ويقيلهم على الوجه المبين بالقوانين.

مادة 58- وهو الذي يباشر حق العفو وتخفيض العقوبة على الوجه المبين بالقوانين والعفو الشامل لا يكون إلا بقانون.

الوظيفة القضائية

مادة 59- السلطة القضائية تتولاها المحاكم وتصدر الأحكام باسم الله جل جلاله.

مادة 60- تنظيم القضاء وتعيين القضاة ورجال النيابة العمومية يكون على الوجه المبين بالقوانين.

مادة 61- للقاضي أن يمتنع من تلقاء نفسه عن تطبيق أي قانون مخالف لأحكام هذا الدستور نصاً أو روحا.

مادة 62- وللمتقاضين أن يطلبوا إلى القاضي ذلك أثناء النظر في النزاع.

مادة 63- لكل مواطن الحق في رفع دعوى يطالب فيها بإبطال قانون مخالف لأحكام الإسلام أو للدستور أو مجاف لها أمام محكمة خاصة ينظمها القانون.

المالية

مادة 64- تنشأ الضرائب وتعدل وتلغى بقانون.

مادة 65- عقد القرض العام لا يتم إلا بقانون وكذلك الحال بالنسبة لأي تعهد يترتب عليه إنفاق مبالغ من خزانة الدولة في سنة أو سنوات مقبلة وكذلك كل التزام موضوعه استغلال مورد من موارد الثروة الطبيعية في البلاد أو مصلحة من مصالح الجمهور العامة وكل احتكار ولا يجوز منحه إلا بقانون وإلى زمن محدود.

مادة 66- الميزانية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها يجب تقديمها إلى البرلمان قبل ابتداء السنة المالية بأربعة شهور على الأقل لفحصها واعتمادها – وتنظر الميزانية بابا والسنة المالية بعينها القانون.

مادة 67- لا يجوز فض دور انعقاد مجلس الأمة قبل الفراغ من تقرير الميزانية.

مادة 68- إذا لم يصدر القانون بالميزانية قبل ابتداء السنة المالية يعمل بالميزانية القديمة حتى يصدر القانون بالميزانية الجديدة.

مادة 69- كل مصروف غير وارد بالميزانية أو زائد على التقديرات الواردة فيها يجب أن يأذن به مجلس الأمة وكذلك يجب استئذانه كلما أريد نقل مبلغ من باب إلى آخر من أبواب الميزانية.

مادة 70- الحساب الختامي للإدارة المالية عن العام المنقضي يقدم على البرلمان في مبدأ كل دور انعقاد لاعتماده.

القوات المسلحة

مادة 71- ينظم القانون قوات الجيش وطريقة التجنيد.

مادة 72- الخدمة العسكرية إلزامية للمصريين جميعاً على الوجه المبين بالقانون.

مادة 73- يحمر من ثبت فراره من الخدمة العسكرية من مباشرة حقوقه السياسية.

مادة 74- ينظم القانون هيئات البوليس واختصاصاتها.

الإدارة المحلية

مادة 75- تعتبر المديريات والمدن والقرى فيما يختص بمباشرة حقوقا أشخاصا اعتبارية وتمثلها مجالس المديريات والمجالس البلدية المختلفة.

مادة 76- يبين القانون اختصاص هذه المجالس وينظمها وينظم علاقاتها بجهات الحكومة.


الباب الرابع : في حقوق الأفراد

مادة 77- يولد الناس أحرارا متساويين في الكرامة والحقوق والحريات بدون أي تمييز بحسب الأصل أو اللغة أو الدين أو اللون وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الأخوة.

مادة 78- لكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وفي المساواة أمام القانون وفي أن يعيش آمنا مطمئنا.

مادة 79- لكل فرد الحق في العمل والحرية في اختياره بشروط عادلة مجزية وله الحق في الحماية من البطالة –وللجميع الحق في الحصول على أجر متساو عن عمل متساو.

مادة 80- لكل من يعمل الحق في أجر عادل يضمن له ولأسرته حياة تتفق مع الكرامة البشرية ويكمل عند الضرورة بأية وسيلة من وسائل الحماية الاجتماعية.

مادة 81- لكل فرد الحق في أن يكون مع غيره نقابات وفي أن ينضم إلى نقابات للدفاع عن مصالحه.

مادة 82- تكفل الدولة لكل فرد مستوى من الحياة يضمن له ولأسرته الصحة والرخاء وبخاصة فيما يتعلق بالمأكل والملبس والمسكن والخدمات الصحية والاجتماعية الضرورية. كما تكفل الدولة للفرد الضمان في حالة البطالة والمرض والعجز عن العمل والترمل والشيخوخة وفي الحالات الأخرى التي يفقد فيها وسائل كسب قوته لظروف لا دخل لإرادته فيها.

مادة 83- تقدم الدولة للأمومة والطفولة المساعدة والإعانة الكافية.

مادة 84- لكل فرد الحق ي التعليم وتكفل له الدولة التعليم في مختلف مراحله ويجب أن يهدف التعليم إلى تقوية الكرامة البشرية وتنمية الفضائل.

مادة 85- لا يجوز القبض على أحد أو حبسه أو نفيه بإجراء تحكمي ، ولا يجوز أن يتعرض أحد لتدخل تحكمي في حياته الخاصة أو في أسرته أو في منزله أو في مراسلاته.

مادة 86- لكل فرد الحق في التنقل بحرية داخل الدولة.

مادة 87- لكل فرد الحق في الملكية بصفة فردية أو جماعية ولا يجوز حرمان أحد من ملكه بإجراء تحكمي.

مادة 88- لكل فرد الحق في حرية التفكير والاعتقاد والتدين.

مادة 89- لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير.

مادة 90- لكل فرد الحق في حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات السلمية.

مادة 91- مقاومة جور الحكام تعتبر بالنسبة لكل مواطن ولجميع المواطنين أقدس الحقوق وألزم الواجبات.

مادة 92- لا يجوز إبعاد مواطن من الديار المصرية.

مادة 93- للمواطنين حق تقديم العرائض إلى الهيئات الحاكمة.

مادة 94- لا يخضع الفرد عند مزاولة حقوقه والتمتع بحرياته السابقة إلا للقيود التي ينص عليها القانون لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياتهم واحترامها ولحماية مقتضيات الأخلاق والنظام العام والرفاهية العامة في مجتمع إسلامي ، ولا يجوز في أية حالة مزاولة هذه الحقوق والحريات على نحو يتعارض مع الإسلام نصاً أو روحا.

مادة 95- لا يجوز تعطيل هذه الحريات إلا بقانون ويكون ذلك لمدة معينة ولظروف تقتضيها سلامة الدولة.


الباب الخامس : أحكام عامة ووقتية

أحكام عامة

مادة 96- الجنسية المصرية يحددها القانون.

مادة 97- الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية.

مادة 98- الإسلام لا يعترف داخله بالفرق والطوائف الدينية.

مادة 99- يترك لأفراد كل طائفة من غير المسلمين أمر اختيار الرؤساء الدينيين وفق قانون ينظم هذه الطوائف.

مادة 100- تسليم اللاجئين السياسيين محظور مع عدم الإخلال بالاتفاقات الدولية.

مادة 101- لا يجوز تنقيح حكم من أحكام هذا الدستور بتعديل أو حذف أو إضافة إلا بموافقة ثلاث أرباع الأعضاء الذين يتكون منهم مجلس الأمة. ومع ذلك فإن الأحكام الخاصة بسيادة القرآن وبنظام الحكم وبحقوق الأفراد وبمبادئ الحرية والمساواة الواردة في هذا الدستور لا يجوز تنقيحها.

أحكام وقتية

مادة 102- تلغى جميع النصوص التشريعية المعمول بها وقت صدور هذا الدستور المخالفة أو المجافية لأحكامه أو روحه وتستبدل بها تشريعات تساير أحكام الإسلام وتعاليمه.

مادة 103- تحل جميع الطوائف الدينية الإسلامية وتنتقل أموالها إلى جهة بر يعينها قانون الحل.


هذا بيان للناس

بسم الله الرحمن الرحيم

الله أكبر ولله الحمد

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجهم القويم إلى يوم الدين.

أحييكم أطيب تحية –تحية السلام التي جاء بها الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد – فإن الدعوة تمر اليوم بأحداث جسام لها أثرها في مستقبل الدعوة وفي مستقبل الأجيال القادمة ومن حقكم أن تبصروا بكل ما يواجه الدعوة من أحاث وما يحيط بكم وبالدعوة من ظروف. وأن تعلموا حقائق هذه الأحداث وتلك الظروف لتكونوا على بينة من أمركم ، ولتكون تصرفاتنا جميعاً على هدى الحق والواقع.

وإذا كان من حقكم على قيادتكم أن تبصركم وتوجهكم فإن من حق الدعوة عليكم أن تأخذوا أنفسكم بآدابها. وأن تقيدوا أنفسكم بحدودها. وأن تخضعوا تفكيركم لسلطانها ، فلا تفكروا إلا من خلال الإسلام ، ولا تقولوا إلا ما يبيحه لكم الإسلام ، ولا تعملوا إلا في حدود الإسلام فإن فعلتم ذلك ربطتم أنفسكم - 4 - - بكتاب ربكم وسنة نبيكم. واستكملتم إيمانكم. وما يستكمل المؤمن إيمانه حتى يقول لله ، ويعمل لله في رضاه وغضبه ، وحبه وبغضه ، وفي جميع حالاته « من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ».

أيها الأخوة الكرام :

لسنا بغاة فإن الإسلام يحرم علينا البغي ، ولسنا دعاة فتنة فإنها أشد من القتل ، وما ينبغي للمؤمن أن يكون فتانا ولا لعانا ، ولكنا نسير على آثار محمد عليه السلام ندعو إلى الخير بالحم والموعظة الحسنة ، وندرأ بالحسنة السيئة وندفع بالتي هي أحسن ؟؟؟ ؟؟؟ المؤمن وصبره ويقينه بنصر ربه.

لقد حلت جماعة الإخوان المسلمين مرة ثانية واعتقل الكثيرون من أعضائها ونسبت إليهم التهم وخاضت فيهم الصحف ، وإنه لابتلاء جديد وامتحان يبشر برضاء الله عن هذه الجماعة ، فإن سنة الله في الجماعات أن يمحصها وأن يميز خبيثها من طيبها ، ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ وغداً تخرج الجماعة على الناس وهي أشد مضاء وأقوى قوة وأصلب عودا وأمر مكرا ، لأن هذا الابتلاء المتكرر دليل على قوة إيمان الجماعة وقربها من الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الأمر على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلاة زيد له في البلاء »..

فعلى الإخوان أن يقابلوا البلاء بالصبر ، فإن الصبر كما يقول الرسول نصف الإيمان ، ولتيأسوا بمن قبلهم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى إذا استيأسوا جاءهم نصر الله ، ولقد شكا أصحاب الرسول إليه ، فقالوا : يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ، قال : « إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، وبمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه لكنكم قوم تستعجلون ».

ولا تقنطوا أيها الأخوة من رحمة ربكم ، وأحسنوا الظن بالله ، فإن رحمته أقرب مما تظنون وأسرع مما تنتظرون واذكروا ما روي عن محمد صلى الله عليه وسلم : « عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قانطين (يائسين) فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب ».

أيها الأخوة :

إن واجبنا الأول في هذه الفترة العصيبة هو أن نجم القلوب ونسوي الصفوف ، ونحتفظ بوحدتنا فمنها نستمد قوتنا وبها ننفذ دعوتنا ، وما دامت القلوب موصولة والأيدي متشابكة والصفوف مرصوصة ، فلن تحل الجماعة إلا على الورق ، وستبقى الجماعة حية قوية بإذن الله.

ولنصل إلى هذه الغاية الجليلة علينا أن نأخذ أنفسنا بما يأتي :

أولاً – علينا أن ننسى أشخاصنا وأن نتناسي خلافاتنا ، وأن لا نقلب صفحات الماضي ، فإن الوقت وقت إنقاذ لا وقت تنافس ولا وقت حساب ، ولنعلم أن الناس في وقت الحريق لا يبحثون عمن أشعل النار إلا بعد إطفاء النار ، فلنتعاون جميعاً على الإنقاذ حتى إذا مارست السفينة على شاطئ الأمن والسلامة ، كان لمن شاء الحساب أن يحاسب وكان للجماعة أن تأخذ المخطئ بخطئه ، وأود أن يعلم الإخوان أن الكلام عن الأشخاص والخلافات يؤدي إلى بلبلة الأفكار وإثارة النفوس ، ونحن في أشد الحاجة إلى استقامة أفكارنا وصفاء نفوسنا كما أن الإسلام لا يجيز للمسلم أن يتكلم في حق أخيه بما يكره ويعتبر ذلك غيبة ، ولقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الغيبة بأنها : « ذكرك أخاك بما يكره » فقال له قائل أو لو كان في أخي ما أقوله؟ فقال : « إن كان فيها ما تقوله فقد أغتبه وإن لم يكن فيه فقد بهته » أي افتريت عليه ، ولا أظن أن أخا مسلماً يحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً ، أو أن يعد في المفترين الكاذبين.

ثانيًا – في مثل هذه الأوقات تروج الإشاعات ، يطلقها في الجماعة أعداء الدعوة ويروجها المرجفون والمفسدون ودعاة الفرقة فيدعون مثلا أن فلانا له اتجاه وأن فلانا له اتجاه آخر وأن شخصا ما أشد أخلاصا من آخر وتجد مثل هذه الإشاعات المغرضة آذانا صاغية من بعض أعضاء الجماعة. وينقلها هؤلاء إلى غيرهم فيقومون بإعانة المفسدين والمرجفين دون قصد ، ويعيشون على أنفسهم وجماعتهم وهم لا يعلمون.

ومن حق الجماعة علينا أن ننبه إلى أن هذه الإشاعات هي أشد ما يخشى على وحدة الجماعة وأكثر ما يضعف حماسة أفرادها ويكسر قلوبهم ويجعلهم في حيرة من أمرهم. وأن أفراد الجماعة ليساهمون إلى حد كبير في تحطيم وحدة الجماعة وأضعاف روحها المعنوية بما يفعلون من تبرعهم بنقل هذه الإشاعات إلى أخوانهم وبما يسارعون إلى تصديقها.

وأولى بالإخوان المسلمين أن يتأدبوا بأدب القرآن في هذه الناحية وأن يتدبروا قوله تعالى : ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

ولقد نزلت هذه الآية أنكارا على من بادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وصح أنها نزلت فيمن.

أشاعوا أن الرسول طلق ناءه ومن نقل هذه الإشاعة ونشرها وهي إشاعة لا صحة لها.

وليتدبر الإخوان قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- « كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع » وقوله « من حد بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين » وليعلموا أن الرسول نهى عن قيل وقال أي أنه نهى عن الحديث بما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين.

وإذا كان هذا هو ما أدبنا به الله ورسوله فعلينا إذن أن نيمت الإشاعات فلا ننشرها ولا ننقلها إلا لمن يعلم حقيقة أمرها ليخبرنا بمدى موافقتها للحقيقة أو بعدها عنها.

ثالثا : وأخرى لا غنى عنها لضمان توحيد الاتجاهات ، ولنون يدأ واحدة في كل ما نحن بسبيله وهي أن يعلم الإخوان أن المسئول لا قيمة له ولا يصح أن ينفذ ، وعلى المسئولين في كل مكان أن يتأكدوا أن الأمر صادر عن المسئول الأول قبل أن ينفذوه ، وليعرضوا كل الأعراض عما يأتيهم من قبل غير المسئولين من خير أو تعليمات أو أوامر فإنما يعرضون عن الفتنة ، ويساعدون على توجيه الجماعة توجيها سليما.

ويحسن أن يتصل الرؤساء في كل إقليم بالمسئول الأول لينظموا صلتهم به ، وإن لم يكن يتصل هو بهم وليتأكدوا من صحة اتصالهم ، ويكفي أن يعلم الإخوان أن الأمر في هذه الناحية دقيق كل الدقة ، وأن سلامة تصرفات الجماعة تقوم عليه ، ولن تنجح جماعة لا يقوم أمرها على التنظيم الدقيق ، والتقي من صاحب الحق في التوجيه ، ولن تؤتي الجماعة إلا إذا كان أمر التوجيه فوضى ووجد المتدخلون من يستمع إليهم أو يقبل عليهم ، ولقد أعذرنا بهذا الذي نقول إلى الله ووفينا بما علينا ولم يبق إلا أن تعينونا على ما نريد.

رابعا : ونود في هذا الظرف العصيب أن ينعتصم بالله وأن نحكم كتاب الله وسنة رسوله في كل قول يصدر منا ، وكل عمل نأتيه ، وعلينا أن نعلم أن الرؤية والحكمة هي السلاح الوحيد الذي يساعدنا على الخروج بما نحن فيه ، وليأخذ كل أخ على يد أخيه ولنتواصل جميعا بالحكمة وبعمل الصالحات وبالحق وبالصبر فكل عمل الإنسان إلى خسر ما لم يأخذ نفسه بذلك ويتواص به ﴿ وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿2﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾.

خامسا : ولعل مما تدعو إليه الحاجة وينحسم به الموقف أن تقوم العلاقة بين الإخوان على الثقة المتبادلة وحسن الظن ، وما نطلب من الإخوان في هذه إلا ما يطلبه الإسلام ، فإنه يوجب على المسلم أن يحسن الظن بأخيه ويجعل حسن ظنه بأخيه من حسن عبادته ، وفي ذلك يقول الصادق المصدوق : « حسن الظن منه حسن العبادة ».

ولقد علمنا الله تعالى أن المرء يأثم بطنه « إن بعض الظن إثم « فمن الخير أن لا نعرض أنفسنا للوقوع في المآثم ، وقد أمرنا بانتقاتها ولن يكون أحدنا من المتقين كما يقول الرسول حتى يدع ما ليس به باس حرا لما به البأس.

فليثق كل منا بأخيه وليحسن ظنه به والمسلم المؤتمن بإسلامه وإن جماعة يتشكك بعض أفرادها في البعض الآخر لهي جماعة إلى تفتت وزوال ، فاعلموا على استبقاء جماعتكم وتماسكها بالثقة المتبادلة وحسن الظن.

سادسا : واذكر أخواني بأن أمر الجماعة يقوم على الشورى ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ وهذا يقاضي احترام الآراء المختلفة وتقبلها بقبول حسن ومناقشتها في هدوء لبيان وجه الرأي فإذا استبان وجه الرأي وجب أن تقف المناقشة حتى لا يكون الجدل المحرم والخصومة المنكرة والخروج من الهدي إلى الضلال ، ولنذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- علمنا أن « أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » وأنه « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ».

وعلينا أن نعلم أن من واجبنا كأفراد جماعة أن تتلاقى قلوبنا ولن تتلاقى قلوبنا إذا تلاقت آراؤنا أو عذر بعضنا بعضا فيما يرى.

ومن أول ما يقرب الشقة وينهى الخلاف أن تفكر فيما يفكر فيه أخوك ، وأن يفكر فيما نفكر فيه أنت ، وبهذا يقترب كل واحد من أخيه أو يلتمس له العذر ، أما إذا ظل كل واحد يفكر فيما عنده وفيما يهمه ولا يفكر فيما عند غيره ولا فيما يهم أخاه فلن يكون لقاء ولن يكون إلا التنافر والتنازع وقد حرمهما الإسلام على المسلمين ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾.

سابعا : وأخيرا فإن الظروف تقتضي من الإخوان أن يصلحوا ذات بينهم ، ولو أنا تمسكنا بالإسلام لحرصنا على إصلاح ذات البين فإنها كما يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- « أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة » وإن فساد ذات البين هي الحالفة.

ولذكر ونحن نطلب الخير من الله أنه بين ألنا على لسان رسوله ما يرفع الله به الدرجات وينزل به الخير على الأفراد والجماعات وهو قوله « تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من رحمك وتصل من قطعك » وليكن كل منا في هذه الآونة الرهيبة مثلا لأبي ضمضم ولن يعجز أن يكون مثله.

وهو كما قال الرسول «رجل فيمن كان قبلكم ، كان إذ أصبح قال اللهم إني جعلت عرضتي لمن شتمتي ». ولقد علمنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقال له في اخوانه لأنه يجب أن يخرج إليهم وهو سلم الصدر ، ونحن مأمورون بالتأسي به وأتباع طريقته ، ولن نكون متأسين ومتبعين إلا إذا حرص كلا منا على أن لا ينقل ما يحرج النفوس ويملأ الصدور ، ويذهب الثقة ، ويوقظ الفتنة ، ولعنة الله واقعة على من أيقظها.

ولكن الرفق أيها الخوة شعاركم فإن الصادق المصدوق يقول « إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ومالا يعطي على سواء ، ويقول : « من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حطه من الخير ». فأرفقوا بأخوانكم ولاتعنفوا عليهم فما يصلح النفوس كالرفق ولا يجمع القلوب كاللين ، واذكروا قوله تعالى ﴿ رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾.

أيها الأخوة الكرام..

لقد مضي على حل الجماعة فترة وقعت فيها أشياء أود أن تعلموا عليها وأن تقفوا على حقائقها حتى لا يكون سبيل لعبث ولا فرصة الإفساد :

أ) وأول ما أود أن تعلموا هو أن إخوانكم أعضاء المكتب اختاروا من بينهم واحدا ليكون المسئول الأول في هذه الفترة وهو المتشرف بخطابكم « أخوكم عبد القادر عودة ، والله أرجو أن يوفقنا جميعا إلى الخير وأن يربط على قلوبنا وأن يجعلنا أهلا لأمانة الدعوة ، وأن يعيننا على الخروج بها سليمة قوية كريمة بحسن عونكم وجميل توجيهكم إنه سميع مجيب.

ب) وعلى أثر الحل تقدم أخواننا المفصولون معلنين ألمهم وغضبهم لما أصاب الجماعة وأنهم يضعون أنفسهم في هذا الظرف العصب تحت تصرف الجماعة جنودا مجهولين لا يطلبون مكانا في اصف معنا ولا ينتظرون جزاء ولا شكورا. فكان ذلك العمل من جانبهم أول فواتح الخير الذي جاءتنا به المحنة « وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم » ولله الحمد والمنة ، في السراء والضراء وعلى كل حال. وقد تقبل أخوانكم هذا العمل الكريم من إخوانهم بالإكبار ولم نشا أن تفلت الفرصة السانحة لرأب الصدع. وجمع الشمل والوقف أمام الناس صفا واحدا على أمر جامع وعلى كلمة سواء.

ولقد سال البعض عن مآل قرار الفصل وأحب أن تعلموا أن أخوانكم متفقون عمي على أن قرار الفصل قائم وأن الظروف الحاضرة لا تسمح بالتعرض له وأنه من الخير أن لا نتعرض لهذا الأمر الآن ومحل الكلام فيه لمن شاء يوم تعود الظروف العادية. وعلى أن قرار الفصل لا يمنعني من الاتصال بهم والاستئناس بآرائهم.

جـ) ولقد رأينا من مصلحة الدعوة ومصلحة الوطن أن تعالج الأمور بالحكمة ، ووضعنا سياستنا في مدة الفترة الدقيقة على أساس الدفع بالتي هي أحسن أعذارا إلى الله وإلى الناس موقنين أن هذه السياسة هي أقرب طريق لعلاج ما فسد ورتق ما انفتق ، وأنها وحدها هي التي تسد الثغرة وترأب الصدع وتجنب البلاد الشقاق والخلاف.

وليست مصلحة الدعوة أو المصلحة الوطنية وحدها هي التي أملت علينا هذه السياسة وإنما يمليها علينا الآن الإسلام قبل كل شيء وليس لمسلم أن يتحلل مما يقيده به الإسلام.

ويبقى بعد ذلك أن أذكر الإخوان بأن يأخذوا أنفسهم بهذه السياسة وأن يحصروا على تنفيذها فإن انتهت إلى حل سليم فذلك ما نبغي من الخير ، وإن لم تؤد إلى الحل السليم الكريم فنصبر حتى يحكم الله بيننا والله خير الحاكمين.

د) ويطالب بعض الأخوان بالرد على أسباب حل الجماعة ، وفيما يلي الرد مؤثرين في تناول المسائل الدفع بالتي هي أحسن :

1- أخذ على فضيلة المرشد أنه لما طلب منه بيان بتأييد الثورة في يومها الأول بقى لائذا بالصمت ولم يكن ذلك إلا بأمر المرشد ولا يهم بعد ذلك أن يحضر القاهرة أو أن يبقى في الإسكندرية ولا أهمية لطول البيان أو قصره إذا العبرة بأثره.

وأخذ على فيلته أن طالب بتطبيق أحكام القرآن وما من حرج عليه في ذلك فإنما يطالب بأمانة الدعوة التي حملها.

ولو سكت لتنكر لما يدعو الناس إليه.

والاختلاف على الحد الأدنى للملكية اختلاف في وجهات النظر وقد أبدى المرشد رأيه مؤيدا بحججه ونشرته الصحف على العالم أجمع ، والمطالبة بتغير الرأي أشبه بالتحكم في أراء الناس ، وهي من الناحية الأخرى رياء ونفاق والرجل الكريم ولا يحب أن يتحكم في رأيه أحد ولا أن يساير أحدا على رأي آخر ولو علم أن رأيه سينبذ.

ولا مل لمؤاخذة المرشد على ما طلبه من عرض التصرفات على هيئة الإخوان قبل إقرارها فذلك حق لا يجادل فيه إنسان لأن تأييد هيئة الإخوان لتصرف ما يحملها مسئولية ولا يصح أن تتحمل الهيئة مسئولية أعمال وتصرفات لا رأي لها فيها.

202- أما مسارعة الثورة بإعادة التحقيق في قضية الإمام الشهيد حسن البنا ومطالبة الرئيس على مار بإصدار عفو عن المسجونين السياسيين فذلك واجب رأي رجال الثورة أداءه.

فإن شاءوا أن يذكروا الناس بما فعلوا فنحن لم ننس بعد ما فعلوا ولعلهم لا ينسون ما فعلنا. 4- ظاهر من البند الرابع من بنود بيان الحل أن قيادة الثورة هي التي قررت من تلقاء نفسها أن يشترك الإخوان في الوزارة ، وأن الإخوان قرروا عدم الاشتراك في الوزارة ، وإذن فالبيان يعترف أن الإخوان عرضت عليهم الوزارة فرفضوا ومعنى هذا أنهم ليسوا طلاب حكم.

أما ما جاء في هذا البند من تفصيلات أخرى عن الترشيح وعن الأستاذ الباقوري فهذه مسألة داخلية تهم الجماعة وحدها فلا محل لأن يتعرض لها غيرها بعد أن انتهت منها.

5- أما أن البكباشي جمال عبد الناصر تدخل في تصحيح الأخطار عن الجماعة فقد كان التدخل على أساس إبعاد الجماعة عن الحكم فإن كان قد تدخل وهو يعلم أنه غير محل فذلك شأنه وإن كان قد تدخل وهو يعلم أنه محق فذلك أمر طبيعي

6- وإذا صح ما قيل عن بعض الإخوان من طلب تأليف لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها كشرط لتأييد الإخوان لتصرفات رجال الثورة ، وإذا صح ذلك فليس فيه خروج على فكرة الإخوان التي اتجهت من أول الأمر إلى أن تأييد الإخوان لتصرفات رجال الثورة يقتضي أن يعلم الإخوان بهذه التصرفات وأن يقروها قبل تأييدها. وليس في ذلك إلا معنى التأييد للثورة والخشية من الأخطاء والحرص على استدامة العلاقات الطبيعة.

ولقد اعتبر البيان هذا الطلب نقطة تحول دأب المرشد بعدها على إعطاء تصريحات يهاجم فيها الثورة ورجالها وإصدار أوامر للإخوان بأن يظهروا بمظهر الخصم المتحدي.

ونحن لا نرى أنه حدث أي تحول ، ولا نعتقد أن هناك ما يستدعي التحول ، وكنا نود لو أن البيان جاءنا ببعض هذه التصريحات التي هاجم فيها المرشد رجال الثورة أو جاءنا بعينة من الأوامر التي صدرت للإخوان بأن يظهروا بمظهر التحدي « على كل حال فإنه لن يعيب الأستاذ المرشد أن يقول ما يعتقده حقا أو أن يتقدم للحاكم بالنصيحة التي هي واجبة على كل مسلم.

7- أما ما ذكر عن معارضة المرشد في إنشاء هيئة التحرير فقد كان رأي جميع الإخوان ولم يكن هذا الرأي لأن الإخوان يخشون منافسة أي هيئة ، فقد نافسوا الهيئات جميعا وعاشوا معها في سلا ، ولكن الإخوان كانوا يضنون برجال الثورة أن ينزلوا من علياء الثائرين الموجهين لعامة الشعب إلى مستوى الحزبية ، وكان الإخوان يودون أن يبقى رجال الثورة متجردين ليكون لتوجيههم السلمي أثره السريع وحتى لا تكون شبهة الحزبية عاقتا من عوائق الإصلاح.

8- ولقد أخذ على بعض الإخوان اتصالهم بالانجليز في الوقت الذي أحاطهم المرشد فيه علما بذلك إن الاتصال أو بغيرهم منن الأجانب ليس عيبا وليس عملا يحرمه الإسلام أو القانون الوضعي اللهم إلا إذا كان يقصد الخيانة أو التآمر.

ولعل مما يؤكد أن الأمر ليس فيه خيانة ولا تآمر أن الدكتور محمد سالم الذي اعتبره البيان وسيطا لا يزال مطلق السراح متمتعا بحريته.

9- أما ما جاء في البيان عن تدبير مؤامرة في صفوف الجيش والبوليس لقلب نظام الحكم ، فإن كان الاتهام جديا فنحن نطالب بتحقيقه أمام هيئة قضائية كما نطالب بأن تكون المحاكمة أما محكمة تتوافر فيها كل الضمانات.

10 ، 11- ولي لنا رد على ما جاء في البندين العاشر والحادي عشر إلا بأن ما جاء فيهما لا صلة له بعلاقة القيادة بالإخوان ، وإنما هي مسائل داخلية من شئون الإخوان وحدهم ، وهم أحق بالقيام عليها ، وللإخوان مقاييسهم الخاصة وطرقهم في المحاسبة.

12- وما يقال عن زيارة الأستاذ حسن العشماوي لمنزل المستركرزويل من الساعة 4 إلى الساعة 11 من يوم الأحد 10 يناير سنة 1954 هو أمر لا يكاد الإخوان يصدقونه لأن الأستاذ حسن شوهد بالمركز العام من كثيرين في هذه الفترة ، ونرجو من القيادة أن تتحقق من صحة مصادرها بعد أن تبين بصورة لا تقبل الشك أن الأستاذ حسن كان في المركز العام في ال وقت المدعي فيه بوجوده عند مستر كرزويل.

13- أما حادث الجامعة وما نسبه البيان للإخوان من إثارة الشغب فإن الإخوان يحتكمون فيه إلى تحقيقات النيابة التي أجريت عقب الحادث والتي ثبت منها ثبوتا قاطعا أنهم كانوا مجنيا عليهم وليسوا جناة ، وكانوا مدافعين لا معتدين.

تلك هي أسباب الحل كما وردت في البيان الرسمي ، وما نشك لحظة في أن فقدان الثقة كان له أثره في تصور الوقائع وتصويرها ، وما رددنا إلا بما نعلم وبما نعتقد أنه الحق والله الموفق وهو على كل شيء شهيد.

هـ) والتوجيه الأخير للإخوان أن يحسنوا صلتهم بالله وباخوانهم وأن يترابطوا على أمر الله وأن يتعاونوا على ابر والتقوى وأن يصبروا ويصابروا ، وأن يعلموا أن جماعة الإخوان لا تحل على الورق ، ولا بغلق الدور وإنما تنحل بانحلال ترابطهم وفراغ قلوبهم من حب أخوانهم وحب الدعوة.

ولن يكون حل ما دامت تنبض بحب الدعوة قلوبهم وتخفق مع ذكر الدعوة مشاعرهم ، وما داموا قد وهبوا أنفسهم لها يحيون فيها ويعيشون بها ولا ويضحون في سبيلها.

ولن يضر الدعوة شيئا أن تغلق دورها وتعطل منابرها ما دام كل منكم قد دعل للدعوة من قلبه دارا ومن نفسه حصنا. ومن كان قادرا على القول فكل مكان له منبر.

وستظل الدعوة بإذن الله حية قوية لها اعتبارها ولها كرامتها مادمتم متماسكين مترابطين متحابين صابرين مصابرين ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ والله أكبر ولله الحمد.

أخوكم

عبد القادر عودة


نثبت في هذا الملحق حكم مجلس الدعوة المصري - يوم أن كان القضاء الذي تفتخر به مصر - بإلغاء الأمر العسكري الذي أصدرته الحكومة المصرية في 8 ديسمبر 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين ، وجاءت حيثيات الحكم قوية واضحة في تبرئة الإخوان من كل تهمة نسبت إليهم وفي الشهادة لهم بأن رسالتهم التي وضحت للمحكمة من كل ما ضبط من أوراق هي إصلاح المجتمع في كل نواحيه الدينية والاجتماعية والاقتصادية على أساس من أحكام الإسلام ، وهي - في ناحيتها السياسية - تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ، ومساعدة الأقليات الإسلامي في كل مكان وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية ، وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا.

ثم دحت المحكمة ما عزى إلى الأخوان من الاتجاه الإرهابي والتطرف في العنف واستشهدت في ذلك بتوجيهات منشئ الجماعة الشهيد الأستاذ حسن البنا التي يقول فيها صراحة بأنه لا بد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل ، وأن حركة الإخوان تمر بثلاث مراحل : الأولى مرحلة التعريف بالفكرة ، والثانية مرحلة التكوين وهي استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد من حيث قوتها الروحية وكفايتها العسكرية ، والثالثة مرحلة التنفيذ ، ثم أثبتت المحكمة من كل الأوراق المضبوطة أن نية الجماعة كانت متجهة إلى مكافحة المستعمرين أعداء الإسلام وقالت : إن أثر ذلك التدريب الروحي والعسكري ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين وأرسلت الجماعة الكثيرين من متطوعيها للقتال...

وهكذا أصدر القضاء حكمه في قضية الإخوان المسلمين وعرف الناس مبلغ ما انطوت عليه التهم والشائعات من أراجيف وبهتان ، ومبلغ الظلم الذي وقع بهم من قتل وسجن وأذى وتشريد..

وما أحرى بعد ما أثير من شبهات حول أحداث عامي 1954 و 1965 أن يحصحص الحق كما بدا في القضاء الذي كانت تفخر به مصر..

ولسنا ندري لحساب من كان كل هذا؟

لم يكن لحساب الإسلام يقينا.

ولم يكن لحساب قضية مصر وشعبها الذي زور عليه تاريخه وقنن ما طغى فيه وكبت حريته.

فلحساب من إذا؟؟!

القضية رقم 568 لسنة 3 قضائية قد نشرت بالمجلد السادس من أحكام محكمة القضاء الإداري من الصفحة 1266 إلى 1302 وقد قمنا على تغير الترقيم بداهة لإلحاقها بالكتاب.


القضية رقم 568 لسنة 3 القضائية

جلسة 30 من يونيه سنة 1952

(أ) أحكام عرفية. نظام استثنائي. ليس مطلقاً. خضوعه للقانون. وجوب تمشيه مع القانون والدستور. خضوعه لمبدأ سيادة القانون ورقابة القضاء.

(ب) أحكام عرفية. مرسوم إعلانها. من أعمال السيادة. التدابير التي يتخذها القائم على إجراء النظام العرفي. ليست كذلك. خضوعها لرقابة القضاء بالطريقين المباشر وغير المباشر. مراعاة ترك حرية واسعة للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية. اختلافها عن السلطة التقديرية في الظروف العادية.

(جـ) دستورية القوانين. حق المحاكم في التصدي لها. معنى القوانين هنا. شمولها القرار الإداري التنظيمي. تعارض القوانين. التعويل على الأعلى ، عدم الحكم بالإلغاء. لأن المحكمة لا تملكه ، تملك فقط الامتناع عن تطبيق القانون.

(د) مرسوم بقانون ، يعتبر قرارا إداريا من ناحية مصدره. خضوعه لرقابة المحكمة كسائر القرارات الإدارية التنظيمية والفردية. تملك الحكم بإلغائه.

(هـ) رقابة برلمانية. على المراسيم بقوانين. التفرقة بينها وبين الرقابة القضائية. مجال كل.

(و) دعوى. عدم سماعها. عن تصرفات السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية على نحو مطلق. مخالفته للدستور.

(ز) دستور. إضافة لقانون الأحكام العرفية تعطل أحكامه. لا تكون إلا بقانون. لا يصلح فيها مرسوم بقانون.

(ح) جمعية. تكوينها. حق أصيل لكل المصريين. أقره الدستور.

(ط) قرار إداري التدابير التي يتخذها القائم على إجراء الأحكام العرفية. تعد كذلك. خضوعها لرقابة القضاء بالطريقين المباشر وغير المباشر. مراعاة ترك حرية واسعة له.

(ى) اجتماع. منعه أو حله وفضه بالقوة ، . يملكه القائم على إجراء الأحكام العرفية.

(ك) اجتماع. تعريفه. سلطة الحاكم العسكري في حل جمعية. لا تشمل القضاء على شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية وتصفية أموالها.

1- إن نظام الأحكام العرفية في مصر وإن كان نظاما استثنائيا إلا أنه ليس بالنظام المطلق بل هو نظام خاضع للقانون وضع الدستور أساسه وبين القانون أصوله وأحكامه ورسم حدوده وضوابطه فوجب أن يكون إجراؤه على مقتضى هذه الأصول والأحكام وفي نطاق هذه الحدود والضوابط وإلا كان ما يتخذ من التدابير والإجراءات مجاوزا لهذه الحدود أو منحرفا عنها عملا مخالفا للقانون تنبسط عليه رقابة هذه المحكمة -وكل نظام للحكم أرسى الدستور أساسه ووضع القانون قواعده هو نظام يخضع بطبيعته مهما يكن نظاما استثنائيا لمبدأ سيادة القانون ومن ثم لرقابة القضاء إذ مهما كان المصدر التاريخي الذي استقى منه المشرع هذا النظام فليس من شك في أن الاختصاصات المخولة للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية مصدرها الرسمي هو القانون الذي تولى تحديد نطاقها فلا يجوز بحال أن تخرج عن حدود هذا النطاق -وإذا كانت اختصاصات القائم على إجراء الأحكام العرفية في مصر بالغة السعة على غرار ما سبق من نظام عرفي ، فإن ذلك أدعى إلى أن تنبسط عليها الرقابة القضائية ، حتى لا يتحول نظام ، هو في حقيقته ومرماه نظام دستوري يقيده القانون إلى نظام مطلق ، لا عاصم منه وليست له حدود ، إذ رقابة القضاء هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة وعندئذ يبقى النظام في حدود الدستورية المشروعة يؤكد لك ما درجت عليه الحكومات من سن قانون التضمينات عند رفع الأحكام العرفية لدفع المسئولية من جراء التدابير التي اتخذت تنفيذا لهذه الأحكام. وفي سن هذا القانون وإقرار واضع لمبدأ المسئولية الذي لم يسن القانون إلا لدفعه.

2- إذا كان مرسوم إعلان الأحكام العرفية هو دون نزاع من أعمال السيادة إلا أن التدابير التي يتخذها القائم على إجراء النظام العرفي سواء أكانت تدابير فردية أو تنظيمية ليست إلا قرارات إدارية يجب أن تتخذ في حدود القانون ويتعين أن تخضع لرقابة القضاء بالطريق المباشر وغير المباشر. مع مراعاة ما ينبغي أن يترك للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية -وهي تواجه ظروفا استثنائية تعمل فيها على إقرار الأمن وتحافظ على سلامة البلاد- من حرية واسعة في تقدير ما يجب اتخذاه من التدابير والإجراءات بمقتضى سلطة تقديرية تختلف في مداها ، لا في وجوب بسط الرقابة عليها ، عن السلطة التقديرية التي تتمتع بها الحكومة في الظروف العادية المألوفة.

3- جرى قضاء هذه المحكمة على أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع على السواء ، يؤكد صحة هذا القضاء ، ما انعقد عليه الإجماع من أن الدولة إذا كان لها دستور مكتوب ، وجب عليها التزامه في تشريعها وفي قضائها وفيما تمارسه من سلطات إدارية. وتعين اعتبار الدستور ، فيما يشتمل عليه من نصوص ، وفيما ينطوي عليه من مبادئ ، هو القانون الأعلى الذي يسمو على جميع القوانين. والدولة في ذلك إنما تلتزمه أصلا من أصول الحم الديمقراطي ، هو الخضوع لمبدأ سيادة الدستور وأنه من الأصول الدستورية أن يطبق القضاء القانون فيما يعرض له من الأقضية والقانون هنا هو كل قاعدة عامة مجردة أيا كان مصدرها ، سواء أكان هذا المصدر نصا دستوريا أو تشريعيا يقرره البرلمان ، أو قرار إداريا تنظيميا ، وسواء أكان القرار الإداري التنظيمي مرسوما أو قرارا من مجلس الوزراء أو قرارا وزاريا أو أي قرار وزاري آخر -يطبق القضاء كل هذه التشريعات على اختلاف ما بينها في المصدر وعلى تفاوت ما بنيها في المرتبة ، وأنه إذا تعذر على القضاء تطبيق هذه التشريعات جميعا لما قد يوجد بينها من تعارض وجب عليه أن يطبق القانون الأعلى في المرتبة وأن يستبعد من دائرة التطبيق القانون الأدنى إذا تعارض مع القانون الأعلى. فإذا تعارض قرار وزاري مع قرار من مجلس الوزراء ، وجب تطبيق قرار مجلس الوزراء دون القرار الوزاري ، وإذا تعارض مرسوم مع قانون وجب تطبيق القانون دون المرسوم ، وإذا تعارض قانون مع الدستور ، وجب تطبيق الدستور دون القانون. وأن تطبق الدستور دون القانون عند التعارض ليس معناه الحكم بإلغاء القانون ، فهذا ما لا تملكه المحكمة إلا بنص صريح في الدستور. ولا تستطيع المحكمة من جهة أخرى أن تطبق القانون عند تعارضه مع الدستور فهذا ما لا تملكه إلا برخصة دستورية صريحة ، وكل ما تملكه المحكمة عند سكوت الدستور هو أن تمتنع عن تطبيق القانون غير الدستوري في القضية المعروضة عليها ، وقضاؤها في هذا مقصور على هذه القضية بالذات. دون أن تتقيد محكمة أخرى بهذا القضاء. بل دون أن تتقيد هي نفسها به في قضية أخرى تنظرها بعد ذلك ، وهذا النظر هو المستفاد من مبدأ فصل السلطات ، مفهوما على وجهه الصحيح ، فالسلطتان التشريعية والقضائية كل منهما مستقلة عن الأخرى ، وكلتاهما تخضع للدستور ، فلا يجوز للسلطة القضائية أن تحكم بإلغاء قانون باطل في دعوى أصلية ترفع أمامها وإلا بسطت سيطرتها على السلطة التشريعية ، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تفرض على السلطة القضائية تطبيق تشريع يتعارض مع النصوص والمبادئ الدستورية ، فترغمها بذلك على مخالفة الدستور ، ومن ثم تفقد السلطة القضائية استقلالها وينقلب خضوعها للدستور خضوعا للسلطة التشريعية وهذا وذاك يتعارضان بداهة مع مبدأ فصل السلطات.

4- إن المرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 صدر من السلطة التنفيذية بمقتضى المادة 41 من الدستور - ولا شك في أن هذا المرسوم يعتبر من ناحية مصدره وهي الناحية التي يعتد بها وحدها في تحديد مدى رقابة القضاء ، قرارا إداريا يخضع لرقابة هذه المحكمة خضوع سائر القرارات الإدارية التنظيمية منها والفردية فإذا كان باطلا كان على المحكمة أن تقضي بإلغائه عند رفع الدعوى الأصلية وأن تمتنع عن تطبيقه عند الدفع بالبطلان.

5- لا حجة فيما تقوله الحكومة من أن الرقابة على المرسوم بقانون هي رقابة سياسية أو برلمانية لا مكان معها لرقابة قضائية ، فالرقابة البرلمانية لا تمنع من الرقابة القضائية ولكل من هاتين الرقابتين طبيعتها ومجالها وأثرها ، فالرقابة البرلمانية رقابة تنبسط على ملائمة التشريع من حيث موضوعه هل ، هو صالح فيبقى أو غير صالح فيسقط من الوقت الذي لا يقره فيه البرلمان ، أما الرقابة القضائية فتنبسط على شرعية المرسوم بقانون من حيث استيفائه لشروطه الدستورية. هل استوفى هذه الشروط فيحكم بصحته ، أو لم يستوفها فيقضي بإلغائه ويعتبر عندئذ باطلا منذ صدوره.

فالرقابة البرلمانية رقابة ملائمة مردها إلى السلطة التقديرية للشرع وأثيرها هو سقوط المرسوم بقانون من وقت عدم إقراره -أما الرقابة فرقابة شرعية وأثرها زوال المرسوم بقانون منسحبا هذا الزوال إلى يوم صدوره.

6- المنع من سماع الدعوى في أي تصرف أو أمر أو قرار صدر من السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية سواء بالطريق المباشر أو غير المباشر على هذا النحو الشامل المطلق هو إعفاء لهذه السلطة من أية مسئولية تترتب على تصرفاتها حتى تلك لمخالفة لقانون الأحكام العرفية ذاته وحرمان الناس حرمانا مطلقا من اللجوء للقضاء -وهو ملاذهم الطبيعي ، طلبا للإنصاف ، وليس من شك في أن إعفاء سلطة عامة إعفاء مطلقا شاملا بغير قيد أو شرط من كل مسئولية تحققت فعلا في جانبها وحرمان الناس حرمانا مطلقا من اللجوء للقضاء بأية وسيلة من شأنه الإخلال بحقوق الناس في الحرية وفي المساواة في التكاليف والواجبات والانتصاف وهي حقوق طبيعية قد كفلها لهم الدستور. فيكون المرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 والحالة هذه ، قد تضمن نصوصا تخالف الدستور ويكون بالتالي قد وقع باطلا لفقدانه شرطا جوهريا من الشروط التي نصت عليها المادة 41 من الدستور وهو وجوب ألا يخالف الدستور.

7- أية إضافة لقانون الأحكام العرفية يكون من شأنها أن تعطل حكما من أحكام الدستور يجب أن تكون أداتها قانونا يقرره البرلمان لا مرسوما بقانون هو عاجز بحكم الدستور ذاته عن أن يعطل حكما من أحكامه.

8- إن حق المصريين في تكوين الجمعيات حق أصيل أقر الدستور في المادة 21 منه بقيامه وعهد إلى القانون بتنظيم استعماله -وكان هذا الحق قائما قبل الدستور الذي جاء مؤكدا له. ومؤدى ذلك أن المصريين حق تكوين الجمعيات بلا حاجة إلى قانون يستمدون منه هذا الحق ولهم أن يستعملوه في حدود القانون وما لم يرد قيد على هذا الاستعمال فهو يجري على إطلاقه.

9- التدابير التي يتخذها القائم على إجراء الأحكام العرفية سواء أكانت تدابير فردية أو تنظيمية ليست إلا قرارات إدارية يجب أن تتخذ في حدود القانون ويتعين أن تخضع لرقابة القضاء بالطريقين المباشر وغير المباشر - إلا أنه ينبغي من الجهة الأخرى كما قررت المحكمة من قبل ، أن يترك للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية -وهي تواجه ظروفا استثنائية دقيقة تعمل فيها على إقرار الأمن وحفظ النظام في البلاد وتقوم على تأمين سلامة جيوشها في الخارج- حرية واسعة في تقدير ما يجب اتخاذه من التدابير والإجراءات بمقتضى سلطة تقديرية تختلف في مداها ، لا في وجوب بسط الرقابة عليها عن السلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة في الظروف العادية المألوفة.

10- المقصود من البند الثامن من المادة الثالثة من القانون رقم 15 لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية هو تخويل الحاكم العسكري في سبيل صون الأمن وحفظ النظام الإشراف والهيمنة على الاجتماعات لما قد تؤدي إليه من إخلال بالأمن والنظام ، وحفظ ذلك هو الغاية التي من أجلها وسدت إليه السلطة بموجب قانون الأحكام العرفية فله بموجب هذه السلطات منع الاجتماعات قبل عقدها كإجراء وقائي وله حل الاجتماع وفضه بالقوة بعد عقده كإجراء علاجي وهو لا يمارس فقط السلطة المخولة للإدارة بالقانون رقم 14 لسنة 1923 الخاص بالاجتماعات العامة والذي يسري سواء في أثناء قيام الأحكام العرفية أو في غير قيامها ، وإنما هو يمارس سلطة خاصة أشمل وأوسع ، فبعد أن تحدث النص المذكور عن الاجتماع تحدث عن صور أخرى له وضرب لها مثلا بالنادي أو الجمعية ثم انتقل من التمثيل إلى التعميم فأطلق الحكم شاملا لأي اجتماع والعبارة الفرنسية للنص وهي التي صدر بها أكثر وضوحا. Interdire ou dissoubre avee l employ de la foree tout eercle club , associafion ou reunion أي أن يمنع ويحل باستخدام القوة أية حلقة أو أي ناد أو جمعية أو اجتماع.

11- المقصود بالاجتماع بمقتضى النص المذكور وبحسب روحه وأهدافه ومراميه هو تواجد لفيف من الناس في مكان معين قد يخل تواجدهم فيه بالأمن والنظام فخول الحاكم العسكري سلطة منع هذا التواجد ثم حله إذا تم أي تفريقه بالقوة فسلطته في حل جمعية الأخوان المسلمين لا تشمل القضاء على شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية وتصفية أموالها التي تتكون منها ذمتها المالية ، وآية ذلك أن المشرع قرر الحل باستخدام القوة وهي بطبيعتها لا تتوجه إلا إلى الاجتماع الذي هو مظهر مادي لا إلى الشخصية القانونية التي هي وضع أو تكييف قانوني.

الوقائع

أقام الأستاذان عبد الكريم محمد منصور وزكريا عبد الرحمن الدعوى الأولى رقم 176 سنة 3ق بإيداع صحيفتها سكرتيرية هذه المحكمة في 3 من يناير سنة 1949 طلبا فيها وقف تنفيذ الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 وجميع الأوامر المترتبة عليه وبعد تحضير الدعوى صدر الحكم بإلغاء تلك الأوامر مع المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة وقد عين لنظر طلب وقف التنفيذ أمام رئيس المجلس يوم 11 من يناير سنة 1949 وفيها حضر المرحوم السيخ حسن البنا وطلب قبوله خصما ثالثا في الدعوى بصفته رئيسا للهيئة ودفعت الحكومة بعدم قبول دعوى المدعيين إذ ليست لها صفة التقاضي عن تلك الهيئة بل هذه الصفة بحسب قانونها الأساسي لسكرتيرها العام كما دفعت بعدم قبول طلب المرحوم الشيخ حسن البنا لأنه حتى ولو كانت له صفة في تمثيل الهيئة أمام القضاء باعتباره المرشد العام فلا يجوز قبول طلبه ما دام مستندا إلى دعوى غير مقبولة في ذاتها. فأقام المرحوم الشيخ حسن البنا والشيخ عبد الكريم عابدين السكرتير العام للهيئة الدعوى رقم 190 لسنة 3ق بإيداع صحيفتها سكرتيرية المحكمة في 13 من يناير سنة 1949 طلبا فيها وقف تنفيذ الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 والأوامر المترتبة عليه وفي الموضوع الحم بإلغائها. فأضافت الحكومة دفعا بعدم قبول الدعوى لأن هيئة الإخوان المسلمين لا وجود لها قانونا كما دفعت بعدم الاختصاص لأن التصرفات المطعون فيها من أعمال السيادة. وبجلسة أول مارس سنة 1949 قرر رئيس المجلس بالنيابة إثبات ترك المدعيين للمرافعة في طلب وقف التنفيذ مع عدم المساس بأصل الموضوع الذي ينتهي فيه المدعيان إلى طلبات واحدة كما يستندان فيه إلى أسباب متماثلة حاصلها أن هيئة الإخوان المسلمين أنشئت منذ أكثر من عشرين عاما لنشر الإسلام والعمل بمبادئه ويشمل نشاطها وادي النيل وجميع البلاد العربية والهند والباكستان وإندونيسيا وغيها وعملت على إقامة معاهد العلم وفتح دور العلاج وتأسيس الشركات فساهمت مساهمة فعلية في محاربة الفقر والجهل والمرض ، ولما تعرضت البلاد العربية للخطر الصهيوني جندت جيشا من شبابها حارب إلى جانب مصر والبلاد العربية وكان مثار الإعجاب ببسالتهم وتضحياتهم. إلا أن دسائس الإنجليز والصهيونيين أفلحت في تأليب الحكومة على هذه الهيئة لأغراض لا تخفى واستمعت الحكومة وقتذاك إل وشايات المستعمر واستجابت إلى طلباته وصدر الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 بحل الهيئة وتصفية ممتلكاتها ومصادرة أموالها وتجميد أموال الأعضاء والشركات التي شجعت الهيئة على تأسيسها وهذا كله مخالف للدستور ولقانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923 وللقانون رقم 73 لسنة 1948 الذي أعلنت بمقتضاه الأحكام العرفية الصادرة في ظلها الأوامر المطعون فيها إذ هذه الأوامر تخرج بطبيعتها عن النطاق الذي فرضت الأحكام العرفية بالقانون المذكور من أجله وهو تأمين سلامة الجيوش في فلسطين كما أنها لا تدخل في نطاق قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923 الذي لا يجيز إعدام الجمعيات كما أنها تخالف الدستور الذي يحظر مصادرة الأموال ويؤكد حق المصريين في تكوين الجمعيات ، هذا إلى أن أمر الحل قد استند إلى أقوال غير صحيحة ، والواقع أنه قصد به القضاء على الهيئة لأسباب لا تمت للمصلحة العامة بسبب بل مرجعها في الحقيقة إلى تدخل المستعمر ورغبته في القضاء على هيئة تحارب الاستعمار في كل قطر إسلامي وقد صادفت هوى في نفس القائمين بالأمر حينذاك فتلبسبوا أسبابا غير صحيحة يتذرعون بها للحل مما يدل على أن الأمر المذكور انطوى على إساءة استعمال السلطة فضلا عن مخالفة القانون. وردت الحكومة على ذلك بأن الأمر قد صدر لأسباب صحيحة تبرر إصداره بعد أن استفحلت شرور هذه الجماعة إلى حد يهدد الأمن ويخل بالنظام ويعرض سلامة الجيوش في فلسطين للخطر -ثم أصرت الحكومة على الدفوع الفرعية التي أبدتها عند نظر طلبي وقف التنفيذ وأضافت إليها دفوعا أخرى محصلها عدم اختصاص المحكمة لأن نظام الأحكام العرفية في مصر هو نظام عسكري يخرج بطبيعته عن ولاية القضاء عموما ودفعت بعدم جواز سماع الدعوى طبقا لنص المادة الثانية من القانون رقم 50 لسنة 1950 وكذلك طبقا للمادة الأولى من المرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 وأصرت في الموضوع على طلب رفض الدعوى للأسباب التي أبدتها من قبل وأضافت إليها أن الخصومة في الأمر رقم 63 لسنة 1948 أصبحت في الواقع منتهية إذ ينص القانون الخاص بالجمعيات على ألا تزيد هذه المدة عن سنة كما صدر القانون رقم 66 لسنة 1951 الخاص بالجمعيات وبذلك سقط الأمر المذكور تبعا لذلك ، هذا إلى أنه أصبح تشريعا عاديا ملحقا بالقانون رقم 50 لسنة 1950 وله قوته ما دامت السلطة التشريعية حين وافقت على استمرار العمل به تكون قد أجازته وأسبغت عليه الصفة التشريعية ولأن النهي عن سماع الدعوى بطريق مباشر وغير مباشر بالنسبة للأوامر الصادرة من الحاكم العسكري مقصود به تغطية تلك الأوامر وعدم التصدي للبحث في شرعيتها حتى ولو كانت قد انطوت على مجاوزة للسلطة. وبعد تحضير الدعويين عين لنظرهما جلسة 22 من نوفمبر سنة 1950 وفيها وفي الجلسات التالية سمعت ملاحظات الطرفين على الوجه المبين بالمحضر ثم أرجئ ، النطق بالحكم إلى جلسة اليوم.

المحكمة

بعد تلاوة التقرير وسماع ملاحظات الطرفين والاطلاع على الأوراق والمداولة :

أ- عن الدفع بعدم الاختصاص :

من حيث إن هذا الدفع مبني على وجهين أولهما أن النظام العرفي في مصر هو نظام عسكري ، وليس نظاما إداريا أو سياسيا ، استمدته مصر من واقع ما حدث في الحرب العظمي الأولى ومن قواعد القانون الدولي العام في شأن القيود العسكرية التي تفرضها الدول المحاربة على البلاد التي تحتلها بجيوشها فاقتبس المشرع المصري النظام العرفي الذي وضعه من نظام الأحكام العرفية العسكرية التي أعلنتها إنجلترا في مصر وقت إعلان الحماية. وهذه الطبيعة العسكرية للنظام تجعله أبعد ما يكون عن ولاية القضاء إذ تجمع السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية في يديها بمقتضى القانون سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية ، بل إن النظام العرفي بما يسعه قانونه من أحكام يعطل أحكام الدستور وبذلك لا يستساغ التعقيب على أوامر الحاكم العسكري لما لها من خصائص تعصمها من التعقيب ولذلك درج المشرع المصري على أن يقرن رفع الأحكام العرفية بنظام يحصنها عن طريق سن قانون التضمينات وبذلك تمتنع مساءلة الحكومة خلال قيام الحكم العرفي بمقتضى طبيعة هذا النظام كما تمتنع مساءلتها بعد انتهائه بمقتضى أحكام قانون التضمينات ، والوجه الثاني أن القرار المطعون فيه هو من التدابير العليا للأمن الداخلي فيخرج بوصفه من أعمال السيادة عن اختصاص هذه المحكمة وفقا لنص المادة السابعة من القانون رقم 9 سنة 1949 الخاص بمجلس الدولة.

ومن حيث إن نظام الأحكام العرفية في مصر هو نظام يستمد أساسه وأصوله وأحكامه من الدستور ومن قانون الأحكام العرفية والقوانين المكملة له فتنص المادة 45 من الدستور على أن الملك يعلن الأحكام العرفية ، ويجب أن يعرض إعلان الأحكام العرفية فورا على البرلمان ليقرر استمرارها أو إلغاءها فإذا وقع ذلك الإعلان في غير دور انعقاد وجبت دعوة البرلمان للاجتماع على وجه السرعة وتنص المادة 155 من الدستور على أنه لا يجوز لأية حال تعطيل حكم من أحكام هذا الدستور إلا أن يكون ذلك وقتيا في زمن الحرب وأثناء قيام الأحكام العرفية وعلى الوجه المبين في القانون ، وعلى أي حال لا يجوز تعطيل انعقاد البرلمان متى توافرت في انعقاده الشروط المقررة بهذا الدستور ، وينظم قانون الأحكام العرفية هذا النظام العرفي تنظيما شاملا فيبين على وجه الحصر الحالات التي يجوز فيها إعلان الأحكام العرفية وكيف يكون إعلان هذه الأحكام وكيف يكون رفعها وما هي السلطات الاستثنائية التي تخول للقائم على إجرائها ويعدد القانون هذه السلطات الاستثنائية على سبيل التحديد والحصر يم يجيز تضييقها أو توسيعها بقرار من مجلس الوزراء إذا دعت الحاجة إلى ذلك ويقدر هذه الحاجة ، على أن تبقى دائرة هذه السلطات الاستثنائية محصورة دائما في نطاق محدود هو ما يقتضيه صون الأمن والنظام العام من تدابير وإجراءات وما دعت إليه الضرورة من إعلان الأحكام العرفية بسبب تأمين سلامة الجيوش المصرية وحماية تموينها وحماية طرق مواصلاتها خارج حدود المملكة المصرية ، هذه الضرورة التي من أجلها صدر القانون رقم 73 لسنة 1948.

ومن حيث إنه يبين من كل ذلك أن نظام الأحكام العرفية في مصر ، وإن كان نظاما استثنائيا ، إلا أنه ليس بالنظام المطلق بل هو نظام خاضع للقانون وضع الدستور أساسه وبين القانون أصوله وأحكامه ورسم حدوده وضوابطه فوجب أن يكون إجراؤه على مقتضى هذه الأصول والأحكام وفي نطاق هذه الحدود والضوابط وإلا كان ما يتخذ من التدابير والإجراءات مجاوزا لهذا الحد أو منحرفا عنها ، عملا مخالفا للقانون تنبسط عليه رقابة هذه المحكمة ،وكل نظام للحكم أرسى الدستور أساسه ووضع القانون قواعده هو نظام يخضع بطبيعته ، مهما يكن نظاما استثنائيا ، لمبدأ سيادة القانون ومن ثم لرقابة القضاء ، إذ مهما كان المصدر التاريخي الذي استقر منه المشرع هذا النظام فليس من شك في أن الاختصاصات المخولة للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية مصدرا الرسمي هو القانون الذي تولى تحديد نطاقها فلا يجوز بحال أن تخرج عن حدود هذا النطاق -وإذا كانت اختصاصات القائم على إجراء الأحكام العرفية في مصر بالغة السعة على غرار ما سبق من نظام عرفي ، فإن ذلك أدعى إلى أن تنبسط عليها الرقابة القضائية ، حتى لا يتحول نظام ، هو في حقيقته ومرماه نظام دستوري يقيده القانون ، إلى نظام مطلق ، لا عاصم منه وليست له حدود ، إذ رقابة القضاء هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة ، وعندئذ يبقى النظام في حدوده الدستورية المشروعة يؤكد ذلك ما درجت عليه الحكومات من سن قانون التضمينات عند رفع الأحكام العرفية لدفع المسئولية من جراء التدابير التي اتخذت تنفيذا لهذه الأحكام ، وفي سن هذا القانون إقرار واضح بمبدأ المسئولية الذي لم يسن القانون إلا لدفعه.

ومن حيث إنه إذا كان مرسوم إعلان الأحكام العرفية هو دون نزاع من أعمال السيادة إلا أن التدابير التي يتخذها القائم على إجراء النظام العرفي في سواء أكانت تدابير فردية أو تنظيمية ليست إلا قرارات إدارية يجب أن تتخذ في حدود القانون ويتعين أن تخضع لرقابة القضاء بالطريق المباشر والغير مباشر ، مع مراعاة ما ينبغي أن يترك للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية وهي تواجه ظروفا استثنائية تعمل فيها على إقرار الأمن وتحافظ على سلامة البلاد من حرية واسعة في تقدير ما يجب اتخاذه م التدابير والإجراءات بمقتضى سلطة تقديرية تختلف ي مداها ، لا في وجوب بسط الرقابة عليها ، عن السلطة التقديرية التي تتمتع بها الحكومة في الظروف العادية المألوفة.

ومن حيث إنه يخلص مما تقدم أن الدفع يعدم الاختصاص بشقيه لا أساس له فيتعين لذلك رفضه.

ب- عن الدفع بعدم جواز سماع الدعوى :

ومن حيث إن ها الدفع يرجع إلى سببين : -

(أولهما) أن المرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 أضاف إلى القانون رقم 5 لسنة 1923 بنظام الأحكام العرفية مادة جديدة بعد المادة 10 برقم 10 مكررة نصها الآتي : -

ولا تسمع أمام أية جهة قضائية أية دعوى ، أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في أي إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار وبوجه عام أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبها وذلك سواء أكان هذا الطعن مباشرة عن طريق المطالبة بإبطال شيء مما ذكر أو بسحبه أو بتعديله أو بوقف تنفيذه أم كان الطعن غير مباشر عن طريق المطالبة بتعويض أو بحصول مقاصة أو برإبراء من تكليف أو التزام أو برد مال أو باسترجاعه أو باسترداده أو باستحقاقه أو بأي طريقة أخرى. وبمقتضى هذا النص الذي أضاف حكما جديدا إلى قانون الأحكام العرفية أصحبت المحاكم ممنوعة من سماع أي طعن في تصرفات السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أيا كان العهد الذي صدرت فيه هذه التصرفات أو أيا كان الوقت الذي رفع فيه هذا الطعن لأن النهي أصبح عاما شاملا بحكم تقريره في قانون الأحكام العرفية ذاته ، ولأن المرسوم بقانون الذي أضاف هذا الحكم له قوة القانون وهو من القوانين ذات الأثر الفوري وبهذه المثابة يسري على الدعاوى حتى تل كالمرفوعة قبل نفاذه

(وثانيهما) أن المادة الثانية من القانون رقم 5 سنة 1950 نهت عن سماع أي طعن بالطريق لمباشر أو غير المباشر في التصرفات الصادرة من السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية في العهد الذي صدرت الأوامر المطعون فيها في ظله بل كانت تلك الأوامر بالذات في ضمن ما استعرضه القانون المذكور.

ومن حيث إنه بالنسبة إلى السبب الأول فإن المدعيين دفعوا ببطلان المرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 باعتباره قرارا إداريا جاء مخالفا لأحكام الدستور ، تملك المحكمة التعقيب عليه فتقضي بإلغائه إذا طلب إليها ذلك بصفة أصلية ، أو عدم تطبيقه إذا دفع بذلك بصفة فرعية ، وتحدث الحكومة بأنه قانون ما دامت المادة 41 من الدستور قد أقرت له بقوة القانون ، وأنه بهذه المثابة لا تملك المحكمة التصدي لبحث دستوريته.

ومن حيث إنه فضلا عن أن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع على السواء ، ولا ترى المحكمة فليما استندت إليه الحكومة من حجج ما يجعلها تعدل عن قضائها السابق في هذه المسألة ، يؤكد صحة هذا القضاء ، ما انعقد عليه الإجماع من أن الدولة إذا كان لها دستور مكتوب ، وجب عليها التزامه في تشريعها وفي قضائها وفيما تمارسه من سلطات إدارية. وتعين اعتبار الدستور ، فيما يشتمل عليه من نصوص ، وفيما ينطوي عليه من مبادئ. هو القانون الأعلى الذي يسمو على جميع القوانين. والدولة في ذلك إنما تلتزم أصلا من أصول الحكم الديمقراطي ، هو الخضوع لمبدأ سيادة الدستور ، وإنه من الأصول الدستورية أن يطبق القضاء القانون فيما يعرض له من الأقضية ، والقانون هنا هو كل قاعدة عامة مجردة أيا كان مصدرها ، سواء أكان هذا المصدر نصا دستوريا أو تشريعيا يقرره البرلمان ، أو قرارا إداريا تنظيميا ، وسواء أكان القرار الإداري التنظيمي مرسوما أو قرارا من مجلس الوزراء أو قرارا وزاريا أو أي قرار إداري آخر -يطبق القضاء كل هذه التشريعات على اختلاف ما بينها في المصدر وعلى تفاوت ما بينها في المرتبة ، وأنه إذا تعذر على القضاء تطبيق هذه التشريعات جميعا لما قد يوجد بينها من تعارض ، وجب عليه أن يطبق القانون الأعلى في المرتبة وأن يستبعد من دائرة التطبيق ، القانون الأدنى ، إذا تعارض مع القانون الأعلى ، فإذا تعارض قرار وزاي مع قرار مجلس الوزراء ، وجب تطبيق قرار مجلس الوزراء دون القرار الوزاري ، وإذا تعارض مرسوم مع قانون وجب تطبيق القانون دون المرسوم ، وإذا تعارض قانون مع الدستور ، وجب تطبيق الدستور دون القانون. وأن تطبق الدستور دون القانون عند التعارض ليس معناه الحكم بإلغاء القانون ، فهذا ما لا تملكه المحكمة إلا بنص صريح في الدستور. ولا تستطيع المحكمة من جهة أخرى أن تطبق القانون عند تعارضه مع الدستور فهذا ما لا تملكه إلا برخصة دستورية صريحة ، وكل ما تملكه المحكمة عند سكوت الدستور هو أن تمتنع عن تطبيق القانون غير الدستوري في القضية المعروضة عليها ، وقضاؤها في هذا مقصور على هذه القضية بالذات. دون أن تتقيد محكمة أخرى بهذا القضاء.

بل دون أن تتقيد هي نفسها به في قضية أخرى تنظرها بعد ذلك ، وهذا النظر هو المستفاد من مبدأ فصل السلطات ، مفهوما على وجهه الصحيح ، فالسلطتان التشريعية والقضائية كل منهما مستقلة عن الأخرى ، وكلتاهما تخضع للدستور ، فلا يجوز للسلطة القضائية أن تحكم بإلغاء قانون باطل في دعوى أصلية ترفع أمامها وإلا بسطت سيطرتها على السلطة التشريعية ، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تفرض على السلطة القضائية تطبيق تشريع يتعارض مع النصوص والمبادئ الدستورية ، فترغمها بذلك على مخالفة الدستور ، ومن ثم تفقد السلطة القضائية استقلالها وينقلب خضوعها للدستور خضوعا للسلطة التشريعية وهذا وذاك يتعارضان بداهة مع مبدأ فصل السلطات. وفضلا عما تقدم جميعه في شأن حق التصدي لبحث دستورية القوانين ، فإن المرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 صدر من السلطة لتنفيذية بمقتضى المادة 41 ، ولا شك في أن هذا المرسوم يعتبر من ناحية مصدره ، وهي الناحية التي يعتد بها وحدها في تحديد مدى رقابة القضاء؛ قرارا إداريا يخضع لرقابة هذه المحكمة خضوع سائر القرارات الإدارية التنظيمية منها والفردية فإذا ما كان باطلا كان على المحكمة أن تقضي بإلغائه ، عند رفع الدعوى الأصلية ، وأن تمتنع عن تطبيقه عند الدفع بالبطلان ، ولا حجة فيما تقوله الحكومة من أن الرقابة على المرسوم بقانون هي رقابة سياسية أو برلمانية لا مكان معها لرقابة قضائية ما دام المرسوم بقانون واجبا عرضه على البرلمان ، لا حجة في ذلك لأن الرقابة البرلمانية لا تمنع من الرقابة القضائية ولكل من هاتين الرقابتين طبيعتها ومجالها وأثرها ، فالرقابة البرلمانية تنبسط على رقابة ملاءمة التشريع من حيث موضوعه هل هو صالح فيبقى أو غير صالح فيسقط من الوقت الذي لا يقره فيه البرلمان. أما الرقابة القضائية فتنبسط على شرعية المرسوم بقانون من حيث استيفائه لشروطه الدستورية. هل استوفى هذه الشروط فيحكم بصحته ، أو لم يستوفها فيقضي بإلغائه ويعتبر عندئذ باطلا منذ صدوره. فالرقابة البرلمانية رقابة ملاءمة مردها إلى السلطة التقديرية للمشرع وأثرها هو سقوط المرسوم بقانون من وقت عدم إقراره -أما الرقابة القضائية فرقابة شرعية ، وأثرها زوال المرسوم بقانون منسحبا هذا الزوال إلى يوم صدوره.

ومن حيث إن المنع من سماع الدعوى في أي تصرف أو أمر أو قرار صدر من السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية سواء بالطريق المباشر أو الغير المباشر على هذا النحو الشامل المطلق هو إعفاء لهذه السلطة من أي مسئولية تترتب على تصرفاتها حتى تلك المخالفة لقانون الأحكام العرفية ذاته وحرمان الناس حرمانا مطلقا من اللجوء للقضاء وبأي وسلية ، من شأنه الإخلال بحقوق الناس في الحرية وفي المساواة في التكاليف والواجبات والانتصاف وهي حقوق طبيعية قد كلفها لهم الدستور ، فيكون المرسوم بقانون المشار إليه والحالة هذه ، قد تضمن نصوصا تخالف الدستور ويكون بالتالي قد وقع باطلا لفقدانه شرطا جوهريا من الشروط التي نصت عليها المادة 41 وهو وجوب ألا يخالف الدستور ولا يقدح في ذلك أنه أضاف حكما جديا إلى قانون الأحكام العرفية وهو القانون الذي أباحت المادة 155 من الدستور أن يشتمل على نصوص تعطل من أحكام الدستور ، ذلك أن أية إضافة لقانون الأحكام العرفية يكون من شأنها أن تعطل حكما من أحكام الدستور يجب أن تكون أداتها قانونا يقرر البرلمان ، لا مرسوما بقانون هو عاجز بحكم الدستور ، ذاته عن أن يعطل حكما من أحكامه لأن قانون الأحكام العرفية هو بمثابة الدستور للحكم العرفي وهو يستمدهذه القوة من المادة 155 من الدستور ، وقد قصد الدستور أن تقوم السلطة التشريعية ذاتها برسم نطاق هذا الحكم وتحديد القيود والضوابط التي تحاط بها السلطة التنفيذية عندما تتولى إجراءه بحيث لا تخرج هذه السلطة عن النطاق التي رسمته لها السلطة التشريعية ولا عن القيود والضوابط التي وضعتها لهذه الاختصاصات الاستثنائية ، فيفوت على الدستور غرضه لو أن السلطة التنفيذية ، على أي وجه من الوجوه وفي أي صورة م الصور سواء أكان ذلك عن طريق مرسوم له قوة القانون أم كان عن طريق أمر عرفي ، أحلت نفسها محل السلطة التشريعية وتولت بنفسها لنفسها رسم هذه النطاق وتحديد هذه القيود والضوابط فتصبح مطلقة الحرية في أن تتزود بما تشاء من الاختصاصات إلى غير مدى محدود وأن تدخل على قانون الأحكام العرفية ، وهو الدستور الموضوع لضبط تصرفاتها ما تبغي من تغيير وتبديل ، وفي هذا لمن قلب الأوضاع ومن الإطلاق في سلطان الحكم العرفي ومن هدم ما ينبغي أن ينبسط على هذا الحكم الاستثنائي من الرقابة التشريعية ما يتعارض تعارضا واضحا مع الغاية التي قصد إليها لادستور ، إذ بذلك يتمثل سلطان الحاكم العسكري سلطانا مطلقا رهيبا لا تعقيب عليه ولا حد له ، ولا عاصم منه ، في حيث قد أراده الدستور على أن يكون نظاما مقيدا رسم حدوده قانون هو قانون الأحكام العرفية في اختصاصات معينة أعطاها للحاكم العسكري ، وعددها واحدا بعد الآخر على سبيل الحصر وجعل المناط فيها ما يقتضيه صون الأمن والنظام ، بل لو فرض وصدر قانون الأحكام العرفية مطلقا للحاكم العسكري من كل قيد ومادا لاختصاصاته إلى غير حد ومبيحا له أي عمل لكان باطلا فإنه بإطلاقاته واستباحاته غير المقيدة وغير المحددة يكون قانون متعارضا مع الدستور نصا وروحا ولكان من أجل ذلك قانون باطلا.

ومن حيث إنه فيما يتعلق بالسبب الثاني لا يجوز أن يفسر القانون رقم 50 لسنة 1950 على أنه أراد أن يجعل عملا مشروعا ما جاوز فيه الحاكم العسكري حدود سلطته في أمر الحل رقم 63 لسنة 1948 وما ترتب عليه وأن ينهى عن سماع أي دعوى حتى في خصوص ما جاوز فيه سلطته مخالفا فيه الدستور والقانون ذلك لأن القانون المشار إليه كما سنبين فيما يلي عند بحث الموضوع لم يقصد باستمرار العمل بالأمر المذكور إلا في حدوده ما يملكه الحاكم العسكري بمقتضى قانون الأحكام العرفية ولذا استدرك فأضاف نصا خاصا في المشروع المقدم من الحكومة ينبه إلى عدم جواز الاستمرار في تصفية أموال الجمعية وتخصيصها للأعمال الخيرية.

ومن حيث لما تقدم يكون الدفع بعدم جواز سماع الدعوى على غير أساس متعينا رفضه.

(ج) عن الدفع بعدم قبول الدعوى لأن جمعية الإخوان المسلمين لا وجود لها قانونا :

ومن حيث إن مبنى هذا الدفع أن تلك الجمعية لم تكتسب الشخصية المعنوية أصلا ، لأن القانون المدني بين في المادة 52 منه الأشخاص المعنوية على سبيل الحصر ولا تدخل الهيئة المذكورة بمالها من أغراض سياسية واجتماعي ودينية في أي نوع أو تتسق معه ، ومهما يكن من شيء فإن القرار رقم 63 لسنة 1948 الصادر بحلها قد قضى عليها فلم يعد لها من بعده أي وجود كما أنها لم تحي حياة جديدة في ظل القانون رقم 66 لسنة 1951 الخاص بالجمعيات.

ومن حيث إنه فيما يتعلق بالوجه الأول من الدفع فلا ريب في أن حق المصريين في تكوين الجمعيات هو حق أصيل أقر الدستور في المادة 21 منه بقيامه وعهد إلى القانون بتنظيم استعماله ولذا فإن لجنة الدستور إذ تحدثت عن الباب الذي وضعته في الدستور بعنوان « في حقوق المصريين وواجباتهم ، الذي يعتبر حق تكوين الجمعيات فرعا منه قالت « وقد كان المصريون يتمتعون بهذه الحقوق تدعمها النظم السياسية التي كانت جارية في مصر وتنظم معظمها القوانين المصرية ، غير أن تلك الحقوق لم تكن مجموعة في باب ظاهر منشور بين الناس ، لذلك رأت اللجنة أن تضع ذلك الباب درجا على سنن الدساتير الأخرى ، وتحقيقا للغرض الذي يلتمس منه ، وليكون قيدا للشارع المصري لا يتعداه فيما يسنه من الأحكام » ، ومفاد هذا أن حق المصريين في تكوين الجمعيات كان قائما قبل الدستور الذي جاء فأكد قيامه وإن عهد إلى القانون بتنظيم استعماله. ومؤدى ذلك أن للمصرين حق تكوين الجمعيات بلا حجة إلى قانون يستمدون منه هذا الحق ولهم أن يستعملوه في حدود القانون ، وما لم يرد قيد على هذا الاستعمال. فهو يجري على إطلاقه ، ولم يصدر في هذا الصدد سوى تنظيم جزئي بالقانون رقم 49 لسنة 1945 في شأن الجمعيات التي تسعى إلى تحقيق أغراض اجتماعية أو دينية أو علمية متضمنا ، كما نوه بذلك ، أحكام تكميلية لنصوص القانون المدني الجديد.

ومن حيث إن جمعية الإخوان المسلمين تكونت في ظل ذلك الحق الأصيل في تكوين الجمعيات ، هذا الحق الذي قرر الدستور قيامه وأكد وجوده من قبل كما اكتسبت الشخصية المعنوية وفق المبادئ المسلمة من إسناد هذه الشخصية لكل جمعية استوفت مقومات هذه الشخصية من ذمة مالية مستقلة عن ذمم أعضائها ومن قيام هيئة منظمة تعبر عن إرادة الجمعية ، ولما صدر القانون رقم 49 لسنة1945 بعدئذ متضمنا بعض القيود بالنسبة إلى الجمعيات القائمة عند صدوره وكان من أوجه نشاط هيئة الإخوان المسلمين إلى جانب أغراضها السياسية أغراض اجتماعية فقد رأت الهيئة بع صدور القانون المشار إليه أن تعدل نظامها الأساسي مستقبلا في هذه الناحية الأخيرة بحيث يتمشى مع أحكام القانون المشار إليه وسجلت ذك في وزارة الشئون الاجتماعية ، فلا وجه إذن لما تتحدى به الحكومة من أن القانون المدني الجديد لم يعترف لأمثال هذه الهيئة في شتى أغراضها بالشخصية المعنوية لأن القانون المذكور لم ينشئ أحكاما جديدة تنسخ ما قبلها بل قنن القواعد التي استقرت قبله وهي تسلم بتوافر الشخصية المعنوية للجمعيات متى استكملت مقومات هذه الشخصية كما سلف بيانه -وقد اعترف القانون المنوه عنه بذلك في مذكرته الإيضاحية في أكثر من موضع وصرح بما يأتي : « يقتصر المشروع على تقنين القواعد التي استقرت بحكم الواقع في الفقه والقضاء فقد جرت المحاكم من قبل على الاعتراف بالشخصية المعنوية للجمعية متى ثبت أن لها هيئة منظمة تعبر عن إرادتها وتقوم على إدراتها وقد حرص المشروع على احترام التقاليد الخاصة بحرية تكوين الجمعيات ، ولا اعتداد بما تنعاه الحكومة على أغراض الجمعية لتدفع بها اكتسابها الشخصية المعنوية فهي تأخذ عليها أنها جمعية سياسية ، وهذا لا يحول دون اكتسابها الشخصية المعنوية وقد أقر القضاء المصري للهيئات السياسية بتلك الشخصية - واعتبر القانون 66 لسنة 1951 ذلك من المسلمات فقد جاء به « ومن المفهوم أن هذا المشروع لا يسري على الجمعيات السياسية ، أو بعبارة أخرى الأحزاب السياسية ، وذلك لأن هذه الأحزاب لها من الأهمية والخواص ما يجعلها محلا لتنظيم خاص بتشريع يصدر مستقبلا إذا رؤي لزوم ذلك ، وهذا فضلا عن أن المصريين يمارسون حقوقهم السياسية التي خولها لهم الدستور في حدود القوانين القائمة وحسبنا أن نذكر أنهم يشتركون بما لهم من تشكيلات سياسية في حكم البلاد وفي توجيه سياستها عن طريق الاشتراك في الانتخابات العامة في البرلمان ، كما تأخذ الحكومة على جمعية الإخوان المسلمين أنها هيئة خيرية اجتماعية إلى جانب أغراضها السياسية ، وهذا بدوره لا يمنع اكتسابها الشخصية المعنوية فقد اعترف القضاء المصري للهيئات الخيرية والاجتماعية بالشخصية المعنوية وجاء القانون رقم 49 لسنة 1945 وأقر بهذا ، ثم تلاه القانون المدني فالقانون رقم 66 لسنة 1951 مسلما بذلك أيضًا ، ثم إن الحكومة قد اعترفت بجمعية الإخوان المسلمين بصفاتها تلك وأغراضه بل منحتها بعض الإعانات المالية في سبيل تحقيق هذه الأغراض الخيرية كما يبين من تقارير المندوبين الخاصين على أموال الجمعيات المودعة ملف الدعوى.

ومن حيث إنه بالنسبة إلى الوجه الثاني وه أن الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 قد قضى على هذه الجمعية قضاء مبرما فلم يعد لها وجود قانوني فسيبين مما يلي عند بحث الموضوع أن الحاكم العسكري إذا كان يملك بمقتضى قانون الأحكام العرفية تعطيل نشاط الجمعية تعطيلا مؤقتا بمنع اجتماعاتها فهو لا يملك القضاء عليها بل تبقى قائمة قانونا وإن عطل نشاطها وتظل لها شخصيتها المعنوية.

ومن حيث إنه لكل ما تقدم يكون هذا الدفع بوجهيه على غير أساس سليم من القانون متعينا رفضه.

(د) عن الدفع بعدم قبول الدعوى 176 لسنة 3ق لرفعها من غير ذي صفة :

ومن حيث إن مبنى هذا الدفع أن الأستاذين عبد الكريم محمد منصور وزكريا عبد الرحمن ليست لهما صفة التقاضي عن الجمعية ولا يشفع لهما في رفع هذه الدعوى أنهما من أعضائها.

ومن حيث إن المادة 27 من قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين بحسب التعديل الذي أقرته الجمعية العمومية باجتماعها غير العادي في 30 من يناير سنة 1948 تنص على أن « السكرتير العام يمثل الإرشاد العام والمركز العام للإخوان المسلمين تمثيلا كاملا في كل المعاملات الرسمية والقضائية والإدارية إلا في الحالات الخاصة التي يرى المكتب فيها انتداب شخص آخر بقرار قانوني منه » ومقتضى هذا أن السكرتير العام هو الذي يمثل الجمعية قضائيا ، إلا إذا صدر قرار من المكتب بندب شخص آخر ولم يصدر مثل هذا القرار في حق المدعيين ومن ثم يكون هذا الدفع في محله واجبا قبوله.

(هـ) عن الموضوع :

ومن حيث إن المدعي في الدعوى رقم 190 لسنة 3ق يستند في دعواه إلى أن هيئة الإخوان المسلمين تكونت منذ نيف وعشرين عاما وغايتها حسبما جاء في المادة الثانية من قانون نظامها الأساسي هي أنها : هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام ومما يتصل بهذه الأغراض :

(أ) شرح دعوة القرآن الكريم شرحا دقيقا يوضحها ويردها إلى فطرتها وشمولها ويعرضها عرضا يوافق روح العصر ويرد عنها الأباطيل والشبهات.

(ب) جمع القلوب والنفوس على هذه المبادئ القرآنية وتحديد أثرها الكريم فيها وتقريب وجهات النظر بين الفرق الإسلامية المختلفة.

(ج) تنمية الثورة القومية وحمايتها وتحريرها والعمل على رفع مستوى المعيشة.

(د) تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن والمساهمة في الخدمة الشعبية ومكافحة الجهل والمرض والفر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والخير.

(هـ) تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي في كل مكان وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعية الإسلامية.

(و) قيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسها في الداخل وتبلغها في الخارج.

(ز) مناصرة التعاون العالمي مناصرة صادقة في ظل المثل العليا الفاضلة التي تصون الحريات وتحفظ الحقوق والمشاركة في بناء السلام والحضارة الإنسانية على أساس جديد من تآزر الإيمان والمادة كما كفلت ذلك نظم الإسلام الشاملة » ووسائلها كما حددتها الهيئة في المادة الثالثة من قانون نظامها هي :- «يعتمد الإخوان المسلمون في تحقيق هذه الأغراض على الوسائل الآتية وعلى كل وسيلة أخرى مشروعة :

(أ) الدعوة بطريق النشر والإذاعة المختلفة من الرسائل والنشرات والصحف والمجلات والكتب والمطبوعات وتجهيز الوفود والبعثات في الداخل والخارج.

(ب) التربية بطبع أعضاء الهيئة على هذه المبادئ وتمكين معنى التدين العملي لا القولي في أنفسهم أفرادا وبيوتا وتكوينهم تكوينا صالحا ، بدنيا بالرياضة ، وروحيا بالعبادة ، وعقليا بالعلم ، وتثبيت معنى الأخوة الصادقة والتكافل التام والتعاون الحقيقي بينهم حتى يتكون رأي عام إسلامي مود ، وينشأ جيل جديد يفهم الإسلام فهما صحيحا ويعمل بأحكامه ويوجه النهضة إليه.

(جـ) التوجيه بوضع المناهج الصالحة في كل شئون المجتمع من التربية والتعليم والتشريع والقضاء والإدارة والجندية والاقتصاد والصحة العامة والحكم.. الخ والاسترشاد بالتوجيه الإسلامي في ذلك كله -والتقدم بهذه المناهج إلى الجهات المختصة والوصول بها إلى الهيئات النيابية والتشريعية والتنفيذية والدولة لنخرج من دور التفكير النظري إلى دور التطبيق العملي.

(هـ) العمل بإنشاء المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والعلمية كالمساجد والمدارس والمستوصفات والملاجئ .. الخ وتأليف اللجان لتنظيم الزكاة والصدقات وأعمال البر ، والإصلاح بين الأفراد والأسرة ومقاومة الآفات الاجتماعية والعادات الضارة والمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء.

وإرشاد الشباب إلى طريق الاستقامة وشغل وقت الفراغ بما ينفع ويفيد -وتنشأ لذلك أقسام مستقلة بلوائح خاصة تتفق مع القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم الجماعات الخيرية وأعمال البر وتسجيل فورا بالشئون الاجتماعية. ويستطرد المدعى إلى أن الهيئة ما فتئت تعمل على تحقيق أغراضها بوسائلها فأصدرت صحيفة يومية ومجلة شهرية لنشر دعوتها ، وأنشأت لها فروعا في شتى الجهات لبث مبادئها ، وأقامت معاهد العلم ودورا للعلاج ومؤسسات اقتصادية واجتماعية عديدة. ولما نشبت الحرب الفلسطينية ندت من شبابها جيشا خاضوا غمارها ، وكانوا مثار الإعجاب لما أبدوه من ضروب البسالة والتضحية ، ولكن الحكومة إزاء حوادث فردية وقعت من بعض المنتمين إليها اندفعوا تحت تأثير حماسة جامحة ، والتوى عليهم القصد وغم المراد ، حملت الهيئة بأجمعها وزر هذه الحوادث وألقت عليها إثمها فأصدر الحاكم العسكري الأمر المطعون فيها بحلها ، وبقول المدعى إن دسائس الإنجليز والصهاينة وغيرهم الذين يرمون الجمعية بالتهم الباطلة قد أفلحت في تأليب الحكومة ضد الهيئة فحالت عن طريق الرقابة دون تمكينها من الرد على ما يكال لها من التهم ، بل صدر أمر الرقيب العام بتعطيل جريدة الإخوان لأجل غير مسمى ثم حشدت المعتقلات بالكثير من أعضاء هيئة الإخوان المسلمين بغير ذنب وبدون مبرر ثم صدرت الأوامر المطعون فيها بحل الجمعية وتصفية ممتلكاتها ومصادرة أموالها وتجميد أموال الأعضاء لدى الشركات والمصارف مع مخالفة تلك الأوامر للقانون إذ هي تخرج بطبيعتها عن النطاق الذي فرضت من أجله الأحكام العرفية بمقتضى القانون المذكور وهو تأمين سلامة الجيوش المصرية في فلسطين -كما أنها تخرج عن نطاق التدابير التي يملك الحاكم العسكري اتخاذها بمقتضى قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923 الذي لا يجيز القضاء على الجمعيات ولا مصادرة الأموال أو استصفائها كما أنها تخالف الدستور الذي يحظر المصادرة ويؤكد حق المصريين في تكوين الجمعيات ، والواقع من الأمر أن هذه الأوامر قد قصد بها القضاء على الجمعية لأسباب لا تتصل بالمصلحة العامة إذ السبب الحقيقي هو تدخل المستعمر للقضاء على هيئة تحارب الاستعمار في كل قطر إسلامي وقد هاله اتساع دعوتها وما أظهره أفرادها من ضروب البسالة والشجاعة في الحرب الفلسطينية فاستمع القائمون على الحكم وقتذاك لوشاياته واستجابوا لرغبته وصادف ذلك هوى في نفوسهم إذ لم يرتاحوا لنشر دعوتها وازدياد عدد المنتمين إليها فتلمسوا أسبابا غير صحيحة يتذرعون بها لتحقيق بغيتهم وخلص المدعى من ذلك إلى أن تلك الأوامر قد وقعت مخالفة للقانون كما صدرت بباعث من إساءة استعمال السلطة.

ومن حيث إن الحكومة تدفع الدعوى بأن الأوامر المطعون فيها لم تصدر بباعث من إساءة استعمال السلطة كما يقول المدعي بل قصد بها تحقيق الملحة العامة بعد أن استفحلت شرور تلك الجمعية وأصبح وجودها يهدد الأمن ويخل بالنظام ويعرض النظم القائمة في البلاد للخطر وبالتالي يخل بسلام الجيوش المصرية في فلسطين ، فلم يكن ثمة منتدح عن حل الجمعية المذكورة للأسباب التي كشفت عنها المذكرة المرفوعة إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية والقائم على إجراء الأحكام العرفية وقتذاك وهي أسباب مستمدة من وقائع صحيحة تؤيدها الأوراق. على أن إلغاء أمر الحل وما ترتب عليه من أوامر قد أصبح لا محل له بعد سقوطها طبقا للقانون رقم 50 لسنة 1950 الذي نص على استمرار العمل بها لمدة تنتهي بصدور القانون الخاص بالجمعيات على ألا تزيد هذه المدة عن سنة وقد مضت هذه السنة كما صدر في خلالها القانون رقم 66 لسنة 1951 ملحقا بالقانون رقم 50 لسنة 1950 الخاص بالجمعيات وبذلك سقطت تلك الأوامر –هذا إلى أنها أصبحت تشريعا عاديا ملحقا بالقانون رقم 50 لسنة 1950 ولها قوته ما دامت السلطة التشريعية حين وافقت على استمرار العمل بها تعتبر أنها قد أجازتها ضمنا وبررت أسباب إصدارها وأسبغت عليها الصفة التشريعية مما لا يسوغ معه التصدي لبحث مشروعية تلك الأوامر حتى ولو كانت قد انطوت على مجاوزة الحاكم العسكري لسلطته.

ومن حيث إنه يجب التنبيه بادئ الرأي إلى أن سقوط تلك الأوامر تبعا لإنهاء حياة الأحكام العرفية التي صدرت تلك الأوامر في خلالها ولانقضاء الأجل المضروب في القانون رقم 50 لسنة 1950 لاستمرار العمل بها ، لا يعني إلغاء تلك الأوامر ومحو آثارها في الماضي ، وإنما يعني عدم استمرار العمل بها مستقبلا –فالخصومة وهي تنعقد على إلغاء تلك الأوامر أساسا وما ترتب عليها من آثار- لا تعتبر والحالة هذه أنها قد انتهت فلا مغذى عن البحث في شرعيتها.

ومن حيث إن هذا البحث يستدعي استظهار الأسباب التي صدر أمر الحل بناء عليها وهل هي أسباب مستخلصة استخلاصا سائغا من وقائع صحيحة أم لا وهل الأمر المذكور يتضمن إجراءات أو تدابير تدخل في سلطة الحاكم العسكري أم لا ، وهل القانون رقم 50 لسنة 1950 أسبغ صفة الشرعية على هذه التدابير؟ ومن حيث إن المذكرة المؤرخة في 8 من ديسمبر 1948 المرفوعة إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية والقائم على إجراء الأحكام العرفية وقتذاك قد استندت في طلب حل جمعية الإخوان المسلمين إلى أنها منذ تأليفها أعلنت على الملأ أن لها أهدافا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفا سياسيا معينا ترمي إليه ، وعلى هذا الأساس نشطت الجماعة وثبتت دعايتها ولكن ما كادت تجد لها أنصارا وتشعر بأنها اكتسبت شيئا من رضاء بعض الناس عنها حتى أسفر القائمون على أمرها عن أغراضهم الحقيقة وهي أغراض سياسية ترمي إلى وصولهم إلى الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد ، وأن هذه الجماعة قد اتخذت في سبيل الوصول إلى أغراضها طرق شتى يسودها طابع العنف ، وقد دربت أفرادا من الشباب أطلقت اسم « الجوالة » وأنشأت مراكز رياضية ، تقوم بتدريبات عسكرية مستترة وراء الرياضة كما أخذت تجمع الأسلحة والقنابل والمفرقعات وتخزينها لتستعملها في الوقت المناسب وساعدها على ذلك ماكانت تقوم به بعض الهيئات من جمع الأسلحة والعتاد بمناسبة قضية فلسطين ، وأنشأت مجلات أسبوعية وجريدة سياسية يومية تنطق باسمها سرعان ما انغمست في تيار النضال السياسي متغافلة عن الأغراض الدينية والاجتماعية التي أعلنت الجماعة أنها قامت لتحقيقها ، وكان بعض الموظفين قد استوتهم الأهداف الاجتماعية والدينية التي اتخذتها الجماعة ستارا لأغراضها الحقيقية فأصبح موقفهم بالغ الحرج لأن الموظفين لا ينتمون لأحزاب سياسية. كما امتدت دعوة الجماعة إلى أوساط الطلبة واجتذبت فريقا منهم فأفسدت عليم أمر تعليمهم وجعلت من بينهم من يجاهر باتمائه إليها وأتمر بأمرها فيحدث الشغب ويثيرالاضطراب في معاهد التعليم مما أخل بالنظام فيها إخلالا واضح الأثر. ولقد تجاوزت الجماعة لأغراض السياسة المشروعة إلى أغراض يحرمها الدستور وقوانين البلاد فهدفت إلى تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ، وقد أمضت في نشاطها فاتخذت الإجرام وسيلة فتنفيذ مراميها. ثم أخذت المذكرة تعدد بعض الحوادث للتدليل على هذا النشاط الإجرامي كما تقول ثم استطردت المذكرة إلى القول بأن شرور هذه الجماعة لم تقف عند هذا الحد بل عمدت إلى إفساد النشء ، فبذرت بذور الإجرام وسط الطلبة والتلاميذ فإذا بمعاهد التعليم وقد انقلبت مسرحا للشغب والإخلال بالأمن وميدانا للمعارك والجرائم.. ولم تتورع هذه الجماعة عن أن يمتد إجرامها إلى القضاء الذي ظل رجاله في محراب العدل ذخرا للمصريين وملاذا لهم ينعمون بثقة المتقاضين وطمأنينتهم. إذ قصدوا إلى إرهاب القضاة عن طريق قتل علم منهم هو المغفور له أحمد الخازندار بك وكيل محكمة استئناف مصر الذي حكم بإدانة بعض أعضاء الجماعة لجرائم قارفوها باستخدام القنال.. ولقد وقعت في يوم 4 ديسمبر سنة 1948 حوادث مؤلمة بجامعة فؤاد الأول بالجيزة ألقي فيها الطلاب قنابل على رجال البوليس وأطلقوا عليهم الرصاص وقذفوهم بالأحجار فأصيب عدد منهم كما حدث في نفس اليوم أن اعتصم بعض طلبة كلية الطب بأسطح مبنى الكلية وأشعلوا النار في أماكن متفرقة وقذفوا رجال البوليس الذين كانوا يحافظون على النظام ببعض القنابل وكميات هائلة من الأحجار وقطع الأخشاب وزجاجات مملوءة بالأحماض ثم ألقوا على حكمدار بولس العاصمة قنبلة أودت بحياته ... وحدث في يوم 6 ديسمبر سنة 1948 أن تجمع طلبة المدرسة الخديوية واندس بينهم بعض الغرباء وألقوا قنبلتين على رجال البوليس فأصيب ضابط وسبعة من العساكر وكان مقترفو هذه الحوادث المروعة من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين ولا تزال النيابة ماضية في تحقيق حادث ضبط سيارة بها مواد متفجرة وذخائر ومستندات خطيرة بقسم الوايلي وقد أدى التقصي في تلك السيارة وقد كشفت ملابسات هذا الحادث حتى الآن عن أن جماعة الإخوان المسلمين يكونون عصابة إجرامية هي المسئولة عن حوادث الانفجارات الخطيرة التي حدثت في مدينة القاهرة في خلال الشهور الستة سنة 1948 وما نجم عنه من هدم وتخريب في المباني وقتل بعض الأهالي ورجال البوليس وجرح عدد غير قليل من الأشخاص وانتهت المذكرة إلى أنه يبين بجلاء من استعراض هذه الحوادث ، وهي قليل من كثير ، أن هذه الجماعة قد أمعنت في شرورها بحيث أصبح وجودها يهدد الأمن العام والنظام تهديدا بالغ الخطر لذلك بات من الضروري اتخاذ التدابير الحاسمة لوقف نشاط هذه الجماعة التي تروع أمن البلاد في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى هدوء كامل وأمن شامل ضمانا لسلامة أهلا في الداخل وجيوشها في الخارج.

ومن حيث إنه بناء على هذه المذكرة صدر في اليوم ذاته الأمر العسكري رقم 63 الذي استندت ديباجته إلى المادة الثالثة (بند 8) من القانون رقم 15 لسنة 1923 الخاص بقيام الأحكام العرفية وقضى في مادته الأولى بأن تحل فورا الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين وكذلك شعبها أينما وجدت وتغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها وتضبط جميع الأوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وعلى العموم كافة الأشياء المملوكة للجمعية –ويحظر على أعضاء مجلس إدارة الجمعية المذكورة وشعبها ومديريها وأعضائها المنتمين إليها بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات أو الاشتراكات أو الشروع في شيء من ذلك. ويعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة كما يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي السماح باستعمال أي مكان تابع لها لعقد مثل هذه الاجتماعات أو تقديم أية مساعدة مالية أو أدبية أخرى. وقضى في مادته الثامنة بأن يحظر إنشاء معية أوهيئة من أي نوع كانت أو تحويل طبيعة جمعية أو هيئة قائمة إذا كان الغرض من الإنشاء أو التحويل القيام بطريق مباشر أو غير مباشر بالنشاط الذي كانت تتولاه الجمعية المنحلة أو إحياء هذه الجمعية على أي صورة من الصور ، كما يحظر الاشتراك في كل ذلك أو الشروع فيه ، وقضى في مادته الثالثة بأنه على كل شخص كان عضوا في الجمعية المنحلة أو منتميا إليها وكان مؤتمنا على أوراق أو سندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء من أي نوع كانت تتعلق بالجمعية أو بإحدى شعبها أن يقدم تلك الأوراق والأشياء إلى مركز البوليس المقيم في دائرته في خلال ستة أيام من تاريخ النشر ، وقضى في مادته الرابعة أن يعين بقرار من وزير الداخلية مندوب خاص تكون مهمته استلام جميع أموال الجمعية المنحلة –وتصفية ما يرى تصفيته منا وتخصيص الناتج من التصفية للأعمال الخيرية والاجتماعية التي يحددها وزير الشئون الاجتماعية بقرار منه.

ومن حيث إنه ولئن كان ما جاء في المذكرة المشار إليها التي تضمنت الأسباب التي دعت إلى إصدار أمر الحل ، من أن الجماعة أعلنت في أول الأمر على الملأ أن لها أهدافا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفا سياسيا معينا ترمي إليه ، ولكنها ما كادت تجد لها أنصارا حتى أسفر القائمون عليها عن أغراضهم الحقيقية وهي أغراض سياسية ترمي إلى وصولهم للحكم وقلب النظم المقررة في البلاد بوسائل العنف وهذا يخالف الواقع لأن الجمعية حددت أغراضها في المادة الثانية من قانون نظامها الأساسي طبقا للتعديل الذي أقرته الجمعية العمومية باجتماعها غير العادي بجلسة 3 من يناير سنة 1948 المقدم صورة منه في الأوراق ومن هذه الأغراض أغراض سياسية إلى جانب أغراضها الدينية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية ، ومن هذه الأغراض السياسية تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ومساعدة الأقليات الإسلامية وقيام الحكومة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسا في الداخل وتبلغها في الخارج –كما يخالف الواقع كذلك ما تنسبه المذكرة إلى الجماعة بأسرها من أنها رمت إلى قلب نظام الحكم بوسائل العنف وبالقوة والإرهاب ، ولا أدل على مخالفة هذا وذالك للحقيقة ما ورد في حكم محكمة جنايات القاهرة الصادرة في 17 من مارس سنة 1950 في قضية الجناية رقم 3394 الوايلي سنة 1950 ورقم 227 سنة 1950 كلي المشهورة بقضية سيارة الجيب المتهم فيها علي فراج السندي وآخرين وهي من الوقائع الأساسية التي استندت إليها المذكرة. إذ بعد أن ذكرت المحكمة أن النيابة العامة قصدت إلى تصوير الجماعة بأسرها على أنها رمت إلى قلب نظام الحكم وأن أقوال مرشدها العام كانت تحمل معاني التصريح السافر على القيام بهذه الجريمة وأن المتهمين وزملاءهم فهموا من كلام المرشد العام أنه يرمي إلى ذلك وأن الغرض النهائي هو إقامة جمهورية على رأسها المرشد العام ، بعد أن ذكرت المحكمة ذلك استعرضت نشأة الجمعية وأغراضها ووسائلها ورسائلها وتطورها وما يستنتج من أقوال القائمين عليها –وخلصت من هذا الاستعراض إلى أن اتهام الجماعة بخروجها على الأغراض الأصلية التي أنشئت من أجلها وهي أغراض دينية واجتماعية إلى التدخل في السياسة ، أن هذا الاتهام لا يتفق مع الحقيقة المعروفة من أن الإسلام دين ودولة وقد سبق للمرشد العام أن تحدث في هذا الصدد فقال في كتيب نشر في سنة 1948 عنوانه « مشكلاتنا الاقتصادية والدستورية » أن الإسلام يتخذ من « الحكومة » قاعدة التقدم الاجتماعي الذي جاء به للناس فمن ظن أن الإسلام لا يعرض للسياسية وأن السياسية ليست من مباحثه فقد ظلم نفسه وظلم علمه بهذا الإسلام. وأشار بعد ذلك إلى الخطأ في فصل الدين عن السياسية عمليا مع النص في الدستور على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ، وقال إن الحكومة في الإسلام تقوم على قواعد معروفة هي مسئولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها وهذه القواعد هي التي قام عليها الدستور المصري لأن الإسلام يجيز أن يفوض رئيس الدولة في مباشرة السلطة وتحمل المسئولية فيصبح المسئول هو الوزراء لا رئيس الدولة- ثم قالت المحكمة إنه يظهر جليا من أقوال المرشد العام أن الجماعة لا تناهض الحكم القائم في مصر بل تراه متفقا مع النظر الإسلامية وأنا كانت تهدف إلى تحقيق نظام شامل للنهضة والإصلاح وفقا لأحكام الدين الإسلامي –وبالطرق الدستورية المعروفة وطبقا لما جاء في قانونها الأساسي السابق تفصيله- ثم استطردت المحكمة إلى دحض ما عزي إلى الجماعة من أنها وقد سعت إلى قلب نظام الحكم بالقوة أعدت لذلك جماعة إرهابية دبرت وأعدت وسميت بالنظام الخاص ، فقالت إن في التهم على هذه الصورة خلطا بين أمرين : الأمر الأول التدريب على استعمال الأسلحة وحرب العصابات ، الأمر الثاني ذلك الاتجاه الإرهابي الذي انزلق إليها بعض المتطرفين من أفراد تلك الجماعة ، وكان من أثر هذا الخلط أن انتهى الاتهام إلى القول بأن النظام الخاص بجملته نظام إرهابي. ورأت المحكمة وجوب التفرقة بين الأمرين لأن النظام الخاص يرمي إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادا عسكريا تطبيقا لما دعا إليه مؤسس هذه الجماعة في رسائله المتعددة من أن الأمر أصبح جدا لا هزلا وأن الخطب والأقوال ما عادت تجدي وأنه لابد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل ، وأن حركة الإخوان تمر بثلاثة مراحل الأولى مرحلة التعريف بنشر الفكرة ، والمرحلة الثانية مرحلة التكوين لاستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد ونظام الدعوى في هذا الطور مدني من الناحية الروحية ، وعسكري من الناحية العملية وشعارها بين الناحيتين دائما أمر وطاعة بدون بحث ولا مراجعة ، والمرحلة الثالثة مرحلة التنفيذ. وهذا الإعداد دائما قصد به تحقيق ما ورد صريحا في قانون الجماعة من أن من بين أهدافها تحرير وادي النيل والبلاد الإسلامية. وهذا النظام الخاص بحكم هذا التكوين لا يدعو إلى الجريمة ولا يعيبه أن فريقا من أفراده كونوا من أنفسهم جماعة اتفقوا على أعمال القتل والنسف والتدمير –ثم استطردت المحكمة إلى أن مما يدل على أن النية لدى أفراد النظام الخاص كانت متجهة إلى مقاومة جيش الاحتلال بعض ما ضبط في السيارة من أوراق تحض على أعمال الفدائيين وأشير فيها إلى أن الصداقة البريطانية المصرية مهزلة.. وأن الإنجليز يظنون أن شعوب الشرق مسالمة ساذجة ، ثم تحدث كاتب هذه الأوراق عن التدريب على استعمال زجاجة مولوتوف وعرقلة المواصلات وتعطيل وسائل النقل الميكانيكية والقوات المدرعة وانتهى إلى القول في صراحة أنهم يقاومون العدو الغاصب –وقد ظهر أثر التدريب الروحي العسكري عندما قامت مشكلة فلسطين وأرسلت الجماعة الكثير من متطوعيها للقتال إذ شهد أمام المحكمة كل من اللواء أحمد بك علي المواوي القائد الأول لحملة فلسطين واللواء أحمد فؤاد صادق باشا الذي خلفه بما قام به هؤلاء المتطوعين من أعمال دلت على بسالتهم وحسن مرانهم وسمو روحهم المعنوية وبإلمامهم بفنون حرب العصابات –لئن كان ما نسبته المذكرة إن الجماعة فيما تقدم مخالف للحقيقة- إلا أن ما تضمنته المذكرة من ثبوت ارتكاب بعض المنتمين إلى هذه الجماعة جرائم قتل ونسف وتدير صحيح في أغلبه –وقد تلاحقت هذه الجرائم وازدحمت في الفترة السابقة على إصدار أمر الحل بصورة مروعة أخلت بالأمن إخلالا خطيرا وبسطت على البلاد سحابة سوداء من الإرهاب ، ومرد هذه الحوادث في مجموعها كما أشارت إلى ذلك محكمة جنايات القاهرة في حكمها المنوه عنه إلى أن بعض أفراد النظام الخاص للجمعية قد غرهم ما تقلوه من تدريبات عسكرية ومران على السلاح فأخطأوا التفكير وكونوا من أنفسهم هيئة إرهابية ظنا منهم أن أعمال الإرهاب توصلهم إلى أغراضهم من أقرب السبل –والمدعي نفسه لا ينكر أن هذه الحوادث الفردية وقعت من بعض المنتمين إلى الجماعة الذين اندفعوا تحت تأثير حماسة جامحة – فالتوى عليهم القصد وغم المراد ولكنه يستدرك بأنه لا يجوز أن تتحمل الهيئة بأجمعها وزر هذه الحوادث وإثمها وهي منها براء.

ومن حيث إنه إذا كانت التدابير التي يتخذها القائم على إجراء الأحكام العرفية سواء أكانت تدابير فردية أو تنظيمية ليست إلا قرارات إدارية يجب أن تتخذ في حدود القانون ويتعين أن تخضع لرقابة القضاء بالطريق المباشر وغير المباشر ، إلا أنه ينبغي من الجهة الأخرى كما قررت المحكمة من قبل أن يترك للسلطة القائمة على إجراء الأحكام –وهي وتواجه ظروفا استثنائية دقيقة تعمل فيها على إقرار الأمن وحفظ النظام في البلاد وتقوم على تأمين سلامة جيوشها في الخارج – يجب أن تترك لها حرية واسعة في تقدير ما يجب اتخاذه من التدابير والإجراءات بمقتضى سلطة تقديرية تختلف في مداها لا في وجوب بسط الرقابة عليها ، عن السلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة في الظروف العادية المألوفة. وترى المحكمة على هدى ذلك أن السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية حين أصدرت الأمر المطعون فيه إذ قدرت أن الحال أصبحت تستوجب اتخاذ إجراء من شأنه وقف نشاط تلك الجماعة التي ارتكب أفراد عديدون ينتمون إليها تلك الحوادث المروعة وذلك حتى يتفاقم الخطر ويستفحل الضرر وحتى يطمأن إلى تأمين سلامة الجيوش المصرية في فلسطين وتأمين هذه السلامة مرتبط إلى حد كبير باستقرار الأمن في البلاد ، إذ قررت ذلك في تلك الظروف الاستثنائية القاسية. إنما تكون قد استهدفت تحقيق مصلحة عامة وأصدرت قرارها بناء على أسباب تبرره استخلصتها استخلاصا من وقائع صحيحة ، ولا يقدح في ذلك أن الجماعة نفسها غير مسئولة عن تلك الحوادث بحجة أنه قد ارتكبها أفراد بغير تحريضها أو علمها وإن كانوا ينتمون إليها فلا يجوز أن تتحمل وزر أعمالهم –لا وجه لذلك ما دام الحال قد أصبح يستوجب عدم تمكين أفراد هذه الهيئة من الاجتماع بعد أن كون بعضهم هيئة إرهابية اقترفت ما اقترفته من حوادث مروعة –ولا شك في أن استمرار نشاط الجمعية في مركزها الرئيس بالقاهرة أو مراكز شعبها العديدة ييسر لهؤلاء الإرهابيين سبيل الاجتماع وتمكينهم من الإمعان في أعمالهم الإرهابية والتأثير في سائر الأفراد المنتمين إلى الجماعة بماقد يوجههم إلى أن يسلكوا نفس هذا الطريق بالغ الخطورة ، إلا أنه من الناحية الأخرى ينبغي أن يكون الإجراء الذي اتخذته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية لتحقيق الغرض المشار إليه بالقدر الذي يسمح به القانون لأن نظام الأحكام العرفية كما سلف إيضاحه ، وإن كان نظاما استثنائيا ، إلا أنه ليس بالنظام المطلق بل هو نظام خاضع للقانون وضع الدستور أساسه وبين قانون الأحكام العرفية أصوله وأحكامه ورسم حدوده وضوابطه فوجب أن يكون إجراؤه على مقتضى هذه الأصول والأحكام وفي نطاق هذه الحدود والضوابط وإلا كان ما يتخذ من التدابير والإجراءات مجاوزا لهذه الحدود عملا مخالفا للقانون تنبسط عليه رقابة هذه المحكمة فتقضي بإلغائه فيما جاوز تلك الحدود.

ومن حيث إن أمر الحل رقم 63 لسنة 1948 قد استند في ديباجته إلى البند الثامن من المادة الثالثة من القانون رقم 15 لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية فيتعين تحديد مدى السلطة المخولة للحاكم العسكري بمقتضى هذا النص.

ومن حيث إن هذا النص قد جرى بما يلي : « منع أي اجتماع عام وحله بالقوة وكذلك منع أي ناد أو جمعية أو اجتماع وحله بالقوة » وليس من شك في أن المقصود من هذا النص هو تحويل الحاكم العسكري في سبيل صون الأمن وحفظ النظام الإشراف والهيمنة على الاجتماعات لما قد تؤدي إليه من إخلال بالأمن والنظام وحفظ ذلك هو الغاية التي من أجلها وسدت إليه السلطة بموجب قانون الأحكام العرفية ، فله بموجب هذه السلطة منع الاجتماع قبل عقدة كإجراء وقائي ، وله حل الاجتماع وفضه بالقوة بعد عقده كإجراء علاجي ، وهو لا يمارس فقط السلطة المخولة للإدارة بالقانون رقم 14 لسنة 1923 الخاص بالاجتماعات العامة والذي يسري سواء في أثناء قيام الأحكام العرفية أو في غير قيامها. وإنما هو يمارس سلطة خاصة أشمل وأوسع ، فبعد أن تحدث النص المذكور عن الاجتماع العام تحدث عن صور أخرى للاجتماع وضرب لها مثلا بالنادي والجمعية ثم انتقل من التمثيل إلى التعميم فأطلق الحكم شاملا لأي اجتماع والعبارة الفرنسية للنص وهي التي صدر بها أكثر وضوحا.

"interdire ou dissoubre avee l employ de la foree tout eercle .club. associafion ou reunion أي أن يمنع ، ويحل ، باستخدام القوة أية حلقة أو أي ناد أو جمعية أو اجتماع.

ومن حيث إن المقصود بالاجتماع بمقتضى النص المذكور وبحسب روحه وأهدافه ومراميه. وهو تواجد لفيف من الناس في مكان معين قد يخل تواجدهم فيه بالأمن والنظام ، فخول الحاكم العسكري سلطة منع هذا التواجد ثم حله إذا تم أي تفريقه بالقوة ، فسلطته في حل الجمعية لا تشمل القضاء على شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية وتصفية أموالها التي تتكون منها ذمتها المالية ، وآية ذلك أن المشرع قرر الحل باستخدام القوة وهي بطبيعتها لا تتوجه إلا إلى الاجتماع الذي هو مظهر مادي ، لا إلى الشخصية القانونية التي هي وضع أو تكييف قانوني. كما يؤكده أن عبارتي « المنع » « والحل بالقوة » قد استعملهما المشرع بالمعنى ذاته في القانون الذي أصدره في الوقت عينه ألا وهو القانون رقم 14 لسنة 1922 الخاص العسكري سلطة القضاء نهائياً على الجمعيات بما يعدم حياتها القانونية يجر إلى تخويله سلطة إعدام الأحزاب السياسي التي لا تخرج عن أن تكون جمعيات تتميز بأغراضها السياسية ، وهذا يخل بحكم المادة 155 من الدستور التي تمنع أثناء قيام الأحكام العرفية تعطيل انعقاد البرلمان – إذ البرلمان إنما ينعقد بعد انتخاب تشترك فيه الأحزاب السياسية التي هي دعامة الحياة البرلمانية ، وقد عبر عن ذلك القانون رقم 66 لسنة 1951 بقوله « إن المصريين يشتركون بما لهم من تشكيلات سياسية في حكم البلاد وفي توجيه سياستها عن طريق الاشتراك في الانتخابات العامة في البرلمان » كما يؤيده أن تعطيل أحكام الدستور بمقتضى نظام الأحكام العرفية طبقا للمادة 155 من الدستور لا يكون إلا وقتيا مما يخرج منه بداهة أن يتحول تعطيل حق المصريين في تكوين الجمعيات وهو حق كفله الدستور ، إلى إعدام أصل الحق في ذاته بصفة دائمة ونهائية.

ومن حيث إنه يبين من تقضي نصوص الأمر رقم 63 لسنة 1948 أنه شمل أحكاما لا تقف عند حد تعطيل نشاط الجمعية وقتيا أي منع اجتماعات مجلس إدارتها وشعبها وأعضائها والمنتمين إليها بل بلغ بها المدى إلى القضاء على الجمعية ذاتها بإعدام حياتها القانونية وإهدار شخصيتها المعنوية وتصفية أموالها التي تتكون منها ذمتها المالية وتخصيص الناتج من التصفية لغاية أخرى غير الغاية التي تكونت من أجلها الجمعية ومن ثم فأمر الحل لا يكون مطابقاً للقانون إلا في أحكامه التي جاءت على المعنى الأول ومخالفا للقانون في تلك الأحكام التي انزلق إليها الأمر الأخير ، ولا يقدح في ذلك ما تتحدى به الحكومة من أنه أياً كان ما تضمنه هذا الأمر من أحكام ولو جاوزت حدود السلطة المخولة للحاكم العسكري قانونا فإنا قد أصبحت تشريعا عاديا ملحقا بالقانون رقم 59 لسنة 1950 ولها قوته ما دامت السلطة التشريعية حين وافقت على استمرار العمل بأمر الحل ولو لأجل موقوت – يعبر أن ها قد أجازته ضمنيا وسوغت تلك الأحكام ولو كانت انطوت على مجاوزة الحاكم العسكري وقت إصدارها لحدود سلطته – لا وجه لذلك لأنه يتبين من استقراء المناقشات البرلمانية في هذا الشأن ، أنه لم يقصد باستمرار العمل بالأمر المذكور إلا على معنى وقف نشاط الجمعية وقتيا بغلق مركزها وشعبها ومنع اجتماعات مجلس إدارتها وشعبها ومديريها وأعضائها والمنتمين إليها وما قد يستلزمه ذلك من إجراءات وتدابير وقتية تحقق هذا الغرض أو تكون من مستلزماته ، ولم يحمل استمرار العمل بالأمر المذكور على معنى القضاء على الجمعية في ذاتها ، وإهدار شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية وآية ذلك أنه أضيف في البرلمان على مشروع القانون المقدم من الحومة فقرة نصها الآتي : « على أنه لا يجوز استنادا إلى هذا الأمر اتخاذ أي إجراء من شأنه تخصيص الناتج من تصفية أموال الجمعية للأعمال الخيرية » وقد جاء في تقرير لجنة الشيوخ التي اقترحت إدخال هذا النص ما يأتي : « كما أضافت اللجنة إلى هذا البند حكماً تضمنته فقرة جديدة بمنع تنفيذ هذا النوع من المصادرة لأموال هذه الجمعية لتنافي هذا الحكم مع أحكام الدستور ولتجاوزه حدود السلطة المخولة للحاكم العسكري بموجب قانون الأحكام العرفية نفسه وعلى ذلك تبقى هذه الأموال سواء ما صفي منها أو لم يصف محفوظة تحت الحراسة دون تصرف فيها إلى أن يتم التصرف فيها طبقا لأحكام القوانين الخاصة بالأشخاص المعنوية والجمعيات جملة ». وغنى عن البيان أن هذا قاطع الدلالة على أن القانون رقم 50 لسنة 1950 لم يقصد أن يسوغ تصرف الحاكم العسكري فيما جاوز فيه سلطته من القضاء على الجمعية نهائياً وإهدار شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية ، وتصفية ذاتها المالية وتخصيصها لغير الغاية التي تكونت من أجلها الجمعية ، لم يقصد القانون المذكور أن يسوع ذلك ، أو يضفي عليه الصفة التشريعية ، بل على العكس قد نحا المنحى الطبيعي الذي يتفق مع الدستور والقانون حين حظر الاستمرار في التصفية وأكد أن ذلك مخالف للدستور والقانون وأشارت اللجنة إلى حفظ ناتج التصفية تحت يد الحراسة إلى أن تسترجع الجمعية نشاطها القانوني بعد الأجل المضروب فيتم التصرف في تلك الأموال طبقا لأحكام القوانين الخاصة بالأشخاص المعنوية والجمعيات جملة.

فلهذه الأسباب حكمت المحكمة :

أولاً : وفي الدفوع الفرعية برفض الدفع بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى وباختصاصها ، وبرفض الدفع بعدم جواز سماع الدعوى وبسماعها وبرفض الدفع بعدم قبول الدعوى المقدم على أساس أن جمعية الإخوان المسلمين لا وجود لها وبقبولها ، وبعدم قوبل الدعوى رقم 176 لسنة 3 قضائية المرفوعة من الأستاذ عبد الكريم منصور وزكريا عبد الرحمن لرفعها من غير ذي صفة في التقاضي عن الجمعية.

ثانيًا : وفي موضوع الدعوى رقم 190 لسنة 3 ق المرفوعة من الأستاذ عبد الحكيم عابدين بصفته ، بإلغاء الأمر العسكري رقم 63 بحل جمعية الإخوان المسلمين فيما تضمنه من أحكام ترمي إلى القضاء على ذات الجمعية وإنهاء حياتها القانونية وتصفية الأموال المكونة لذمتها المالية ، وما ترتب على ذلك من أوامر أو آثار في الخصوص المذكور وألزمت الحكومة بالمصروفات وبمبلغ ألفي قرش مقابل أتعاب المحاماة.

(صدر هذا الحكم من الدائرة الثانية المشكلة بالهيئة السابقة)