الجماعة الإسلامية في باكستان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الجماعة الإسلاميّة في باكستان نبذة تاريخية ودروس عملية
الطبعة الأولى : 1416ه - 1995م


كتاب للدكتور / صلاح الدين النكدلي


مقدمة

خريطة باكستان

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله

كان موضوع هذه الرسالة .. في الأصل .. عبارة عن مجموعة خواطر تحدثت بها في لقاء علمي ثقافي ، تناولت فيها نشأة ( الجماعة الإسلاميّة في باكستان ) من خلال الكلام عن مؤسسها العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى ، وأعطيت فكرة عن الهيكل التنظيمي للجماعة الإسلاميّة الذي ارتضته وطورته من خلال التطبيق ، وأبرزت طائفة من اختياراتها في نطاق العمل الحركي .

ثم رغب إليّ إخوة كرام أن أكتب ، في حدود ما تحدثت به ، موضوعاً يكون مادة حوار مركز .. يهدف إلى الاستفادة من تجربة الجماعة الإسلاميّة في باكستان .. فاستجبت للرغبة الملحة وقمت بما طلب إليّ أن أصنعه .

ثم إنّ أحد المحبين قام بتسليم نسخة مما كتبت للشيخ الفاضل خليل أحمد الحامدي ، فسارع مشكوراً إلى تسجيل عدد من الملاحظات .

وقام بنشر الموضوع في العدد 20 من (مجلة المنصورة) الشهرية التي تصدر عن دار العروبة للدعوة الإسلاميّة ، وقد نشره بعنوان ( الحركة الإسلاميّة في شبه القارة الهندية الباكستانية .. ماضيها وواقعها ) .

وحين رأيت أن البحث - على إيجازه وتواضعه في المعلومات- قد أخذ طريقه إلى النشر .. قدّرت فائدة من تسجيل طرف من المعاني التي أثارها الحوار حول الموضوع .. ووزعتها على فصول الرسالة .. وآثرت أن تحمل عنوان (من إيحاءات الفصل ..) اعترافاً مني أن هناك معاني أخرى يثيرها البحث ولم أتعرض إليها .. وقد توخيت فيما سطرته الإيجاز والتركيز على أصل كل مسألة .. متجنباً الغوص في تفاصيل محلها الحوار المباشر .

وأسأل الله تعالى أن تنفع هذه الرسالة من يطلع عليها ، وآمل من قارئها تصويب خطأ ودعوة في ظهر الغيب ..

والحمد لله رب العالمين

صلاح الدين نكدلي

الفصل الأول : نبذة عن تاريخ الإسلام في شبه القارة الهندية

وصلت جيوش المسلمين إلى بلاد الهند الساحلية في عهد عمر بن الخطاب .. وسيطر المسلمون على بعض المناطق في أرض السند .. ولكنهم لم يتوغلوا داخل البلاد .

ولم تصل أشعة الإسلام إلى داخل البلاد الهندية إلا في عهد ملوك المغول ، وأولهم محمود الغزنوي ، (388-421ه) .

وكانت الجيوش التي دخلت الهند .. بصورة عامة .. فقيرة المعرفة بالإسلام ، وظهر من أفعالهم أنهم (طلاب مغانم) أكثر منهم (حملة رسالة) .

لذا كان تأثيرهم في أهل الهند ضعيفاً إذا قسناه بتأثير الرعيل الأول في أهل الأمصار التي فتحوها .

وفي الهند قامت دول إسلامية ، تعاقب عليها ملوك وأسر كان يغلب عليهم الإقبال على الدنيا وزينة الملك .. ولكن لم يخل تاريخ الهند من ملوك فيهم جوانب صالحة وعناية بالدين ، مثل (فيروز تغلق) (752-790ه ) و(عالم كير) (1078-1118ه) .

وكان في الملوك المخاصم للإسلام ... وأكثر هؤلاء عداء لدين الله الملك أكبر (964-1014ه) . فقد خالف الشريعة الغراء في أمور كثيرة ، كتحليل الخمر وإباحة الزنا والربا ، وأمر بتعظيم شعائر كفرية ، مثل : منع ذبح البقرة المعظمة عند الهنود ، وأتى في العقيدة بضلالات ... وكان صاحب مزاج متقلب .. فهو تارة يعظم الشمس .. وأخرى يعظم النار .. وكان يدعو الناس إلى الدخول بما أسماه (الدين الإلهي الأكبر شاهي) وهو مزيج من الإسلام وغيره .. وأمر الناس بالسجود له عند الدخول عليه .

الساحة العلمية

أما في الساحة العلمية فيلاحظ بصورة عامة الآتي :

- كان الجهل بالإسلام ، كما أنزله الله تعالى ، ماداً ظلاله .. وأعتى بدعة أصابت مسلمي الهند (التصوف الممزوج بمفاهيم وعقائد غير إسلامية) مثل عقيدة وحدة الوجود .

- وكان كثير من أهل العلم مقبلين على الدنيا .. ومرتمين في أعتاب السلاطين ، وهذا دفعهم إلى العبث بأحكام الإسلام .

- ولكن في هذه الظلمات ..

- ظلمات ملوك السوء .

- وظلمات علماء الدنيا .

- وظلمات البدع التي تجاوزت العامة إلى كثير ممن يعدون علماء!

في بيداء هذه الظلمات وجدت .. واحات .. أقامها رجال صادقون .. وسطعت أنوار من قلوب رجال علماء متبعين .. مثل الإمام أحمد بن عبد الأحد الفاروقي .. الشهير ب (السرهندي) والإمام ولي الله الدهلوي .

1- الإمام السرهندي :

نشأ السرهندي في النصف الثاني من عهد ملك الضلال الملك أكبر (964-1014ه) .

ولم تظهر دعوته إلا في عهد جهان كير بن الملك أكبر (1014-1037ه) .. وكان في بداية أمره كوالده : متهتكاً .. وكان غضبه على السرهندي كبيراً حيث أودعه السجن .. ثم أطلق سراحه وأكرمه وتأثر بدعوته الإصلاحية .

نظر السرهندي في أوضاع مسلمي الهند .. فوجد أن مصادر البلاء ثلاثة :

1- السلطان الظالم .

2- علماء السوء الذين اتخذوا الدين مطية لشهواتهم .

3- المتصوفة الذين قالوا على الله ورسوله الباطل .

فنهض للإصلاح في المجالات المذكورة .. وترك آثاراً طيبة .. وكان من الذين تأثروا كثيراً بدعوته الملك خرم بن جهان كير الذي نهض لإصلاح كثير مما فسد من أحوال الناس والملك .. إلا أن الإصلاح الأكبر كان في عهد ابنه عالم كير (1068-1118ه) .

2- الإمام ولي الله الدهلوي (1114-1176ه)

آثر ولي الله الإصلاح العلمي والاجتماعي ، ومن ذلك أنه :

- نشر علوم السنة .. وحرّض على الاجتهاد .

- قام يبين أسباب انحلال الأمم وفساد المجتمعات .

- تناول بالنقد الأمراء والعلماء .

أثرت حركة الدهلوي في الحياة تأثيراً كبيرا .. وكان بحق منظر التجديد الديني في بلاد الهند .

لم يتمكن الدهلوي من تجسيد حركته الإصلاحية .. إلى أن جاء الإمامان الشهيدان أحمد وإسماعيل

-استشهدا عام 1246ه في معركة مع السيخ- فجسَّدا دعوة الإصلاح وقادا حركة التجديد .. وفي ذلك يقول المودودي : (إنّ الشهيدين وحركتهما التجديدية كانت تكملة وذيلاً للحركة الإصلاحية العظيمة التي قام بها الإمام ولي الله الدهلوي) « تاريخ الدعوة الإسلاميّة في الهند ص 171 » .

شركة الهند الشرقية

منذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي أخذت الدولة الإسلاميّة في الهند بالضعف .

رافق ضعف الدولة قيام وتوسع شركة الهند الشرقية (البريطانية) التي دخلت البلاد في ثوب تجاري اقتصادي .. إلى أن آلت إليها جميع مقاليد الأمور مع مطلع القرن التاسع عشر .. وعن طريق هذه الشركة تسربت إنكلترا إلى الهند .

وانحصر سلطان السلطة المركزية في القصر الملكي في دلهي العاصمة .

الثورة الكبرى (1273ه/1857م)

انفجرت في البلاد عام 1273ه/1857م ثورة عارمة احتجاجاً على تصرفات شركة الهند الشرقية .. واستمر القتال بين الثائرين و(قادتهم من المسلمين) من جهة ، وبين الجيش البريطاني من جهة ثانية .. عدة أشهر .

تمكن الجيش البريطاني من إخماد الثورة ، وأسر الملك ونفاه إلى (برما) ، وبذلك :

- زالت المملكة الإسلاميّة .

- وتسلمت الحكومة البريطانية مقاليد الأمور بدلاً من شركة الهند الشرقية .

- وازدادت معاناة المسلمين .

وفي أعقاب الثورة الكبرى قامت حركات في صفوف المسلمين بقصد الخروج بهم من الضعف إلى القوة ومن التخلف إلى التقدم .. وأخذت صورة حركة علمية فكرية .. وأشهرها :

1- معهد ديو بند : أسسه أتباع الشيخ ولي الله الدهلوي بعد عشر سنوات من الثورة (1283ه/1867م) وكانت برامجه تحارب البدع ، وتميل في الفقه إلى المذهب الحنفي .

هذا المعهد عرف ب (الاتجاه القديم) ، الذي تمثل في رفض كل ما جاء عن طريق الغرب .

2- كلية علي كره :

- تأسست بعد عشرين سنة من الثورة (1293ه/1877م) .

- كانت برامجها تؤكد على ضرورة التفاهم مع الحضارة الغربية بدلاً من التخاصم .

- وكان إمام هذا الاتجاه (سيد أحمد خان) وعُرف الداعون إلى هذه الفكرة ب (الاتجاه الجديد) .

3- جمعية ندوة العلماء :

- أراد مؤسسوها الخروج من أتون المعركة بين المدرستين القديمة (ديو بند) والجديدة (علي كره) ، وجعلوا شعارهم : (إصلاح مناهج التعليم في المعاهد الدينية حتى تكون جامعة بين علوم الكتاب والسنة والعلوم العصرية) .

- بعد خمسين سنة أسست جمعية ندوة العلماء (دار العلوم) وقام عليها عالم محقق هو (شبلي النعماني) .

ظهر في هذه المرحلة رجال موهوبون كان لهم دور في حياة مسلمي الهند ، نذكر منهم :

1- أبو الكلام :

- اسمه أحمد بن خير الدين ، ومن مواليد 1888م .

- كان شاباً متقد الذكاء ، مشبعاً بروح القرآن والسنة .. مدركاً لأوضاع البلاد .. وكان خطيباً لا يبارى وصاحب قلم سيال .. ولذلك لقب ب (أبو الكلام) .

- أصدر (مجلة الهلال) عام 1912م فأحيا بكتاباته آمالاً كادت أن تموت .. فكانت بذلك هلال خير وبركة ، دعا من خلالها إلى تجديد الدعوة إلى الدين الخالص .

- تأثر به الناس كثيراً ولقبوه ب (إمام الهند ديناً وإمام الأحرار سياسة) .

- كان همه الأكبر منصباً على :

1- ربط المسلمين بالقرآن والسنة فهماً وعملا .

2- محاربة الجهل والتعصب .

- كان لأبي الكلام إيجابيات كثيرة .. وإن كانت آراؤه المؤيدة للقومية الهندية وسياسة المؤتمر الوطني الهندي ، قد أثرت على علاقته بجمهور المسلمين في الهند .

2- محمد إقبال :

- ولد عام 1289ه/1873م وتوفي سنة 1357ه/1938م .

- درس في كلية عصرية ، وسافر إلى أوروبا عام 1905م .. وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برلين .. وكانت مدة إقامته في الغرب ثلاث سنوات .

- اشتغل بالمحاماة ثم تركها .

- اشتهر بقرض الشعر البليغ وهو في مقتبل الشباب .. وكان شعره قبل سفره إلى الغرب (وطنيا) .

- وجاء سفره إلى أوروبا ليكون نقطة تحول كبرى في تفكير الرجل ..

- تأثر محمد إقبال بمنظر افتتان أبناء المسلمين في عواصم الغرب بما عند الغربيين .

- وتأثر بما لمسه من الدسائس التي تحاك ضد أمة الإسلام .

- رجع من الغرب شاعراً يتوقد غيرة على الإسلام ومصير المسلمين ، ويدعو إلى تجديد الدعوة إلى الدين الخالص .

- نشر بعد عودته من أوروبا عدداً من الدواوين الشعرية باللغتين الفارسية والأردية ضمنها آراءه في السياسة العالمية والحضارة الغربية ودسائس الغرب .. ونادى في المسلمين أن هبوا من رقادكم فقد طال ليل نومكم .

- كان أثره في الجيل الجديد كبيراً .. وظل على هذه الحال ثلاثين سنة .

- في عام 1929م دعا محمد إقبال إلى تأسيس دولة إسلامية في الناحية الشمالية الغربية من شبه جزيرة الهند .. فاستغرب الناس هذه الفكرة يومذاك .

- وكانت له مواقف حاسمة في المسألة القاديانية .

أدى تفاعل سكان الهند مع الاستعمار البريطاني إلى تشكيل تيارات سياسية ، كان أبرزها :

1- المؤتمر الهندي الوطني :

- تكون من المسلمين والهنادك للمطالبة بتحرير الهند من الإنكليز .

- كانت الغلبة العددية فيه للهنادك ، وكان في أول الأمر لا يحمل مضامين فكرية ظاهرة .

- طلبت بريطانيا من المؤتمر الوطني الهندي أن يقدم (مشروع دستور للبلاد) فقدم المؤتمر مشروعاً أثار خلافاً كبيراً بين المسلمين ، وكانت له نتائج خطيرة .. وانقسم المسلمون بسببه إلى فريقين :

1- فريق ي@����������8@����ور ، وفي مقدمتهم أبو الكلام ، وجمعية العلماء .

2- فريق يعارض الدستور ، وعلى رأسهم محمد علي جينا .

- كان من نتائج هذا الصراع المرير :

1- فقدت جمعية العلماء سمعتها وتأثيرها بين المسلمين .

2- قاد المسلمين أناس عندهم حمية دينية وتنقصهم المعرفة .. ودخل معهم (متفرنجون) فكان هذا كارثة كبرى .

2- جمعية الرابطة الإسلاميّة :

- أثارت سياسة المؤتمر الهندي الوطني المسلمين .. لأنها ترمي إلى تعزيز مواقع الهنادك وإضعاف شوكة المسلمين .. باسم (الوطنية) .

- وما زالت حوادث الإثارة تؤجج الخلافات إلى تشكلت في النهاية عام 1939م (جمعية الرابطة الإسلاميّة) .. بقيادة محمد علي جينا .. ونادت بالحقوق القومية السياسية للمسلمين .

- كان لهذه الرابطة التي جمعت الناس على أساس القومية الإسلاميّة -بغض النظر عن فكر الرجال وأهوائهم- كان لها أثرها الكبير في الحياة العامة ، وقد ظهرت حقيقة قيادتها عقب قيامباكستان ككيان مستقل للمسلمين .

- نتج عن تلك الصراعات أن عاش المسلمون بين تيارين جارفين بعد الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي :

1- تيار القومية الهندية .

2- وتيار القومية المسلمة (الإسلام الجغرافي) .

- في هذا الجو نشأ الأستاذ أبو الأعلى المودودي .. فرفض الدعوتين ودعا إلى القيام بواجب الدعوة إلى الله كما أمر الله عزَّ وجلَّ ، والحديث عن حياته رحمه الله يأتي في الفصل الثاني .

من إيحاءات الفصل الأول

أولاً : يتأثر الكيان السياسي للدولة بمستوى الذين يقيمونه .. فإذا أقامه ناس ينقصهم التكوين الإسلامي الأساسي ، أو كانوا غير ملتزمين بأهداف الإسلام وأخلاقه ومقاصده بقوة .. فإن الأمراض الناتجة عن ضعف التكوين ، وعن هشاشة الارتباط بالفكرة الإسلاميّة ، تسري في أوصال جميع المؤسسات المكونة للمجتمع .

هذه الحقيقة تفرض على دعاة الإسلام ، الساعين إلى استئناف حياة إسلامية وإقامة حكم إسلامي على منهاج النبوة ، أن يصبروا على مرحلة التكوين ، وأن لا يقدموا على خطوات ليسوا قادرين على تحمل نتائجها وتحقيق أهدافها بصورة مقبولة .

أما إذا تهيأت الشروط الأساسية لخطوة إيجابية .. منضبطة بمنهج وخطة .. فلا يصح التقاعس عن السير إلى الأمام ، وعن القيام بواجب المرحلة الجديدة .

ثانياً : إنّ الأمم والشعوب لا تستقر على حالة واحدة .. فقد تتجمع فيها عناصر قوة وفتوة في مجال أو أكثر .. فتعبر عن ذلك سياسياً أو عسكرياً أو علميا .. وقد تجتمع أسباب الضعف وعوامل الهزيمة ، فتعبر عن ذلك أيضاً بصور متعددة وفي مجالات مختلفة .

وإنّ عظمة دعاة الإصلاح والنهوض والبناء تبرز في أنهم يكتشفون الحق ، ويحملون مسؤولية التعريف به والدعوة إليه ، في ظروف ضعف تنكر عليهم طريقة فهمهم ، ونتائج علمهم ، وأساليب دعوتهم ..

وقد يكون دور جيل ، أو عدة أجيال ، محصوراً في بناء الجسر الذي يربط بين الواقع المراد تغييره ، وبين الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها .. فمن أدرك طبيعة دوره ، ونهض إلى واجباته بقوة وأمانة ، فإن ثوابه لا يقل - إن شاء الله - عن ثواب الذين يقدر لهم أن يحققوا الأهداف .. المهم أن تبقى إرادة العمل متوفرة في كل جيل .. وأن ينصرف كل جيل إلى ما يجب فعله وفق رؤية شاملة للحاضر .. مع قدرة على استشراف المستقبل .

ثالثاً : حين تضعف مناعة أمة من الأمم .. فإنها تصير عرضة لتدخل القوى الخارجية ، التي تهرول إلى استغلال ظروف الضعف والاهتراء الداخلي ، وقد تدخل قوى الجشع والطمع إلى البلاد الضعيفة تحت ستار (المساعدات الإنسانية) أو (المعونات الاقتصاديّة) أو كما فعلت شركة الهند الشرقية في شبه القارة الهندية .. وربما تمكنت المؤسسات الأجنبية من فرض ما تراه على المؤسسة السياسية وغيرها . وقد تسفر المؤسسات الأجنبية عن وجهها السياسي في وقت تراه مناسبا !! .

إنّ عالمنا الإسلامي يضجّ ويعجّ .. منذ عقود !! .. بالمؤسسات الأجنبية ذات الطابع الإنساني !! ، ويأتي في مقدمتها مؤسسات التنصير !! ، والمؤسسات الثقافية ، والمؤسسات الاقتصاديّة .. وينبغي أن يضع دعاة الإسلام هذه المؤسسات في مخططهم .. لأنهم سيواجَهون بأخطبوط يحاول خنق خطواتهم الجادة في مرحلة مواجهة سافرة .. وسيقف وراء تلك المؤسسات قوى الاستغلال والجشع والسيطرة العالمية .. وقد تهيأ الأسباب والظروف لتدخل خارجي تحت عنوان (المصالح الحية) أو (حقوق الإنسان) ونحو ذلك .

رابعاً : في حياة الأمم منعطفات تاريخية .. تتجه الأمة بعدها نحو قوة أو تميل إلى ضعف .. وحالات الانعطاف التاريخي لا تحدث فجأة .. بل تأتي وفق سنة ماضية ..

وحين يقع الانعطاف السلبي .. ومثاله العالم الإسلامي .. فإن إفرازات الضعف تظهر بقوة ، وتفرض على الناس مواقف .. ومن ذلك -على سبيل المثال- (الفكرة القومية) .. فهذه الفكرة التي انتشرت في الهند بعد أفول شمس الوجود السياسي للمسلمين .. كان لها أثرها الكبير على جميع الذين كانوا يعيشون في ظل الدولة التي كانت قائمة في شبه القارة الهندية .. ومثلها (الفكرة الوطنية) التي تظهر آثارها المدمرة ، بصورة واضحة ، في المنطقة العربيّة !! .

إنّ تحديد طريقة التعامل مع هذه المسائل وأضرابها .. يمثل تحدياً لحملة الفكرة الإسلاميّة .. لأن كشف طريقة التعامل الشرعية ، لا يتم بصورة مقبولة ، إلا إذا توفر في المسلمين جهاز التفكير والتقدير والتقرير .. الذي يشكل مرجعية في قلوب عامة المسلمين ، وغياب هذا الجهاز أو ضعفه يؤدي إلى مشكلات فكرية وعملية متعددة ، وإلى ردود فعل تجاه التحديات غير متزنة .

وهذا الكلام ليس محصوراً في حالة الانعطاف السلبي ، فهو صحيح أيضاً في حالة الانعطاف الإيجابي .. الذي يعطي شروطاً صالحة لعمل طيب وخطوات إيجابية .. فإذا حصل انعطاف إيجابي ، ولم يكن هناك من هو قادر بالشكل المناسب على توظيف الإيجابيات .. فإن الفرص تضيع .. وربما كانت النتائج سيئة .. ومن هنا نعلم أن مرحلة الإعداد وتهيئة أسباب النجاح هي أطول مراحل البناء الجاد .

الفصل الثاني : أبو الأعلى المودودي في سطور (1903-1979م)

من العرض السريع لأوضاع الهند عند مولد المودودي نستطيع أن نتعرف إلى بعض العوامل التي أثرت في فكره وحركته .. وها أنا أعرض بإيجاز جدّ كبير مراحل حياة الشيخ أبي الأعلى رحمه الله تعالى .

1- المرحلة الأولى :من الولادة إلى إصدار أول كتاب له (الجهاد في الإسلام) وكان عمره ثلاثة وعشرين عاما :

  • ولد المودودي عام 1903م في مدينة (أورنك آباد) من ولاية حيدر آباد الدكن الإسلاميّة .
  • أخذ علومه الابتدائية عن والده أحمد حسن . فدرس عليه مبادئ علوم اللغة العربيّة والقرآن والحديث والفقه واللغة الفارسية . وكان لوالد المودودي أثره الكبير في حياته .
  • التحق بالمدرسة الثانوية ، في الصف الثامن ، وكانت سنه 11 سنة ، وأنهى التعليم الثانوي وهو ابن 14 سنة .
  • بعد وفاة والده واجه كثيراً من المشكلات ، فقد أصبح وحيداً ، وعليه أن يعمل ليحصل على الرزق ، وتنقل من بلد إلى بلد ، واختار أن يعمل في المجال الصحفي فبدأ عمله في جريدة المدينة التي كانت تصدر في مدينة (بنجور) . وذلك عام 1918م .
  • وكانت الهند تهتز بالحركات السياسية ، ومن جملتها حركة (المحافظة على الخلافة العثمانية) فشارك فيها بالبيان والمال ، وكان لكتاباته أثر طيب .
  • ومن خلال حركة المحافظة على الخلافة تعرف إلى عدد كبير من الشخصيات الإسلاميّة والزعماء السياسيين .
  • وفي أوائل عام 1921م قررت جمعية العلماء في دلهي إصدار أول جريدة لها باسم (المسلم) فكان المودودي رئيس تحريرها .. وفي عام 1924م أصدرت الجمعية جريدة أخرى باسم (الجمعية) وكان المودودي رئيس تحريرها إلى عام 1928م .
  • وإقامة الإمام المودودي في دلهي (1921-1928م) فتحت له أبواب المعرفة على كثير من الناس .
  • في هذه الفترة توضحت المفاهيم الإسلاميّة في عقل الأستاذ المودودي .. وأدرك أموراً أهمها :

- الصورة المشوهة التي يحملها العلماء عن الإسلام .. تنذر بشر مستطير !!

- الدعوات القومية ... سيف قاطع ... يستخدمها الأعداء في غفلة من المسلمين لإبعادهم عن الإسلام .

- التحمس للخلافة في الهند .. تضييع للوقت والجهد بلا فائدة .

- الإسلام دين الله عزَّ وجلّ ... تعبّدنا بأتباعه ... وليس فكرة قومية تجمع تحت لوائها المتناقضات .

  • وفي عام 1926م حصلت مصادمات عنيفة بين المسلمين والهندوس ، وقام غاندي يتهم الإسلام بأنه انتشر بالسيف وأنه دين عنف وإرهاب .
  • وفي هذه الأثناء ألقى محمد علي جوهر خطاباً في الجامع الكبير في دلهي قال فيه بصوت متهدج : (ليت شخصاً من المسلمين يقوم ويفند الافتراءات التي يوجهها الهندوس إلى الإسلام) ، فكان هذا الرجل المودودي . وكتب كتابات بليغة في الرد على مزاعم الهندوس .. ونشرها على حلقات ثم جمعت بعنوان (الجهاد في الإسلام) .
  • وكانت دراسة موضوع الجهاد نقطة تحول في حياة المودودي ، وفي بيان ذلك يقول : (إنّ كتاب الجهاد في الإسلام نفعني أكثر من أي شخص آخر .

دخلت في تأليفه ، وكنت على حمية القومية ، وخرجت منه وأنا على حمية الإسلام .

عرفت الإسلام وعرفت طريقة إحيائه . وقررت أن لا أدخل عالم الصحافة في المستقبل إلا لأن أجعلها وسيلة لخدمة الإسلام وإحيائه) « مجلة أضواء الشريعة عدد 11 ص 507 » .

2- المرحلة الثانية :

  • غادر المودودي دلهي إلى حيدر آباد ليعمل أعمالاً بسيطة ، وتفرغ للقراءة من 1928 إلى 1932م. فكانت مرحلة انعطاف على الذات أنضجت كثيراً من المعاني التي اتسمت بها الحركة الإسلاميّة في شبه القارة الهندية .

3- المرحلة الثالثة :

  • استمر المودودي في إصدار المجلة إلى آخر أيام حياته .. باستثناء الفترات التي صادرت فيها الحكومات المجلة .. وعلى صفحاتها نشر المودودي في حلقات مجموعة من الكتب أبرزها :

- عام 1933-1934م : الحضارة الإسلاميّة : أصولها ومبادئها .

- عام 1933-1938م : نحن والحضارة الغربية - الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة - مفاهيم إسلامية - في محكمة العقل - الرسول والرسالة .

- عام 1935 : حقوق الزوجين - تحديد النسل في الميزان .

- عام 1938 : الخطب .

- عام 1939 : نظرية الإسلام السياسية .

- عام 1940 : موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه - منهاج الانقلاب الإسلامي .

- عام 1940 : المصطلحات الأربعة في القرآن - الإسلام والجاهلية - معضلات الإنسان الاقتصاديّة وحلها في الإسلام .

  • ومن هذا العرض لأسماء الكتب نجد أن المودودي كان يهدف إلى أمرين :

1- بيان مفهوم (الجاهلية) وكشف عوراتها .

2- شرح (نظام الحياة في الإسلام) كما هو في القرآن والسنة بأسلوب عقلي قائم على الاستدلال ، وأظهر في الوقت نفسه :

- عقائد الإسلام .

- نظرة الإسلام إلى الكون والإنسان .

- ونظرة الإسلام إلى الأخلاق .

- أسس الحضارة البانية .

- مبادئ الإسلام الأساسية في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وكيف حلّ الإسلام معضلات الإنسان في الماضي ، وكيف يحلها في الحاضر .

  • وكتاباته تدل على (النظرة الشمولية) . للإسلام وللواقع وفي ذلك يقول المودودي :

(لم أقصد إصدار بحوث علمية في المواضيع الإسلاميّة فقط ، بل استهدفت من ذلك أن يؤمن الإنسان العصري بالإسلام بالشعور والاقتناع لا بالقشور والعاطفة ، ثم يندفع تلقائياً إلى إقامته وتغليبه ، ويستميت في سبيل تنكيس كلمة الباطل ورفع كلمة الحق ، وفي سبيل استئصال إمامة الكفر ونصب إمامة الإسلام)( ) .

  • وكان محمد إقبال من أكبر المهتمين بمجلة ترجمان القرآن .. ودعا إقبال المودودي إلى اللقاء به .. فجاء إلى لاهور وكانت بينهما لقاءات .. قال عنها المودودي : (كان بيني وبين إقبال انسجام كبير في الآراء) .
  • اقترح إقبال على المودودي أن يهاجر من حيدر آباد إلى بنجاب فوافق ، وفي سنة 1938م هاجر وأقام في قرية صغيرة .. وبعد وصوله بشهر ونصف إلى البنجاب بلغه خبر وفاة إقبال ، فكتب يقول : (فقدت أكبر سند مادي لي في الدنيا بموت هذا الرجل العظيم) .
  • وفي آب/أغسطس عام 1941م اجتمع بدعوة من المودودي خمسة وسبعون رجلا .. واتفقوا على تكوين (الجماعة الإسلاميّة) واختاروا المودودي أميراً لهم .
  • أقام المودودي والجماعة في منطقة هادئة سميت (دار الإسلام) ، وهي قرية من قرى مدينة باتانكوت بالهند ، وكانوا يقيمون فيها دروس التربية والتوجيه .
  • يقول الشيخ خليل الحامدي ، رفيق درب جهاد الشيخ المودودي :(وكان الإمام مؤيداً لفكرة التقسيم ، وبالتالي فكرة إنشاءباكستان ، ولكنه لم يكن مرتاحاً إلى قيادة معسكر التقسيم ، لأن القيادة لم تتبن فكرة التقسيم على أساس الإسلام بل على أساس القومية المسلمة) .
  • وصدقت توقعات المودودي .. ولذا فإن مرحلة ما بعد قيامباكستان اتسمت بالكفاح من أجل إقرار مبادئ الإسلام في نظام الحكم ..
  • تعرض المودودي للسجن .. والحكم بالإعدام .. ولقي الشدائد ولكنه صبر وصابر إلى أن لقي ربه .
  • وكان للمودودي دور كبير في مقاومة القاديانية إلى أن تمّ اعتبارها أقلية غير مسلمة .

يقول الشيخ خليل الحامدي في العدد 20 - ص 9 من مجلة (المنصورة) :

{وبفقدانه خسرت الجماعة شخصاً لم يكن موجهاً فقط ، بل كان منظراً لها ، وهو قاد سفينتها بغاية من بُعد النظر ، والحنكة ، والحكمة العملية .

  • وبجانب جهوده في سبيل إقامة الدين حارب طائفة كبيرة من الفتن التي كان عقبة كأداء في مسيرة الجماعة ، وفي سبيل تحويلباكستان إلى دولة إسلامية بمعنى الكلمة ، منها مثلاً :

- فتنة إنكار حجية السنة : وكانت الحكومات تساند هذه الفتنة لبلبلة الأفكار الإسلاميّة .

- والقاديانية : نحلة أنشأها الاستعمار البريطاني لتشويه المعاني السامية في الإسلام كالجهاد ، والحيلولة دون تطبيق الشريعة الإسلاميّة في الوقت الحاضر ..

- والاشتراكية والشيوعية : التي ظلت تخلب عقول الناس ، خاصة النشء الجديد ، مدة طويلة . فناقشها المودودي منطقياً وعلمياً .

- والإقطاعية .. والإقطاعيون هم الذين يصنعون القرار ، ويملكون مصير البلد . - والتعصب المذهبي ..

- وأخيراً فتنة الحضارة الغربية التي روجها العلمانيون فيباكستان ، تمخضت عن تفاقم الفساد الخلقي والاجتماعي .

فالمودودي رحمه الله قاوم كل فتنة من هذه الفتن بما كان يملك من مواهب علمية وقدرات تعبيرية } .

  • ونختم حديثنا الموجز عن حياة المودودي رحمه الله بذكر الأهداف التي اتفقت عليها كلمة الجماعة ، وفيها تعبير مركز عن نظرتهم إلى الإسلام ودوره في الحياة .

دعـوتـنــا

1- دعوتنا للبشر كافة ، والمسلمين خاصة ، أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً ولا يتخذوا إلهاً ولا رباً غيره .

2- ودعوتنا لكل من أظهر الرضى بالإسلام ديناً أن يخلصوا دينهم لله ، ويزكوا أنفسهم من شوائب النفاق ، وأعمالهم من التناقض .

3- ودعوتنا لجميع أهل الأرض أن يحدثوا إصلاحاً عاماً في أصول الحكم الحاضر ، الذي استبد به الطواغيت والفجرة الذين ملؤوا الأرض فساداً ، وأن ينتزعوا هذه الإمامة الفكرية والعملية من أيديهم حتى يأخذها رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويدينون دين الحق ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .

من إيحاءات الفصل الثاني

أولاً : إنّ عظمة رواد الإصلاح والتجديد تكمن في قدرتهم الفاذة على رؤية الحق والصواب ، وتمييزهما من الضلال والخطأ ، على الرغم من تراكم ظلمات جهل الأجيال المتخلفة . ولا يخفى أن الجهل حين ينتشر في أمة فإنه ينفي من دائرة علمها كثيراً من الحقائق .. ويأتي إلى ما تبقى من الحق ، فيفرغه من مضمونه الحقيقي ، ويجعل مكانه خرافات أو ضلالات ، يعطيها تأويلاً مناسبا .. ويظهرها في ثوب الحق !! .

ولنتأمل هذا الأثر العظيم ، الذي يحذر فيه عبد الله بن مسعود من (فتنة الجهل) :

(كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ ، يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ، وَتُتَّخَذُ سُنَّةً ، فَإِنْ غُيِّرَتْ يَوْماً قِيلَ : هَذَا مُنْكَرٌ! . قِيلَ : وَمَتَى ذَلِكَ ؟ ، قَالَ : إِذَا قَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ ، وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ) رواه الدارمي وغيره بسند صحيح .

ولقد كان المودودي رحمه الله تعالى من القلائل الذين وضعوا أيديهم على أسباب علل المسلمين .. وأيقن أن التصور الاعتقادي قد أصابه خلل كبير .. وهذا الخلل هو الذي يقف وراء سوء الفهم وسوء التطبيق للإسلام العظيم .

لذلك رفض رحمه الله تعالى الاستغراق في (الإصلاح الجزئي) ونادى في المسلمين بوجوب (الإصلاح الشامل) .

وحين يظهر في الناس (دعاة إصلاح شموليون) فإنهم يصطدمون بالمنحرفين المعظمين لقيم فاسدة مبتدعة ، ويختلفون أيضاً مع البيئة الدينية المتخلفة !! ، لأن دعاة التجديد يريدون تخليص الفكرة الإسلاميّة مما ران عليها من آراء البشر وجهلهم وضلالاتهم التي تبرز بلبوس الدين ويتقبلها المتخلفون !! .

من هنا يأتي تقديرنا العظيم للإمام المودودي ولأمثاله من روّاد التجديد .. فإليهم يرجع الفضل في إبراز حقائق الإسلام المنسية .. وفي تحديد الموقف من الضلالات القديمة والجديدة .. فجزاهم الله خير الجزاء .

ثانياً : إنّ في التقليد .. كما يقول ابن الجوزي رحمه الله في (تلبيس إبليس) : (إبطال منفعة العقل ، لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر ، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها ، أن يطفئها ويمشي في الظلمة) .

والناظر في تاريخ الأمم والشعوب ، وفي تاريخنا الإسلاميّ بوجه خاص ، يعلم أن (التقليد) هو الذي يقف بقوة وراء (عجز الأمة) عن رؤية التغييرات التي وقعت وتقع في محيط الإنسان ، ودليل ذلك أن المرجعية العلمية في الأمة تعالج ما يَجِدُّ من قضايا بما رأته أجيال سابقة .. من غير تفريق بين (الثابت) الذي لا يتغير بتبدل الأزمنة والأماكن .. وبين (المتغير) الذي يؤثر في تطبيقاته المناسبة لكل جيل ظروف زمان ، وشروط مكان ، وقدرات إنسان .

فالذين يعيشون بأجسادهم في عصر .. بينما تعيش عقولهم وعواطفهم واهتماماتهم في عصور ماضيات .. يفرضون على أنفسهم الجهل بوقتهم ومقتضياته وواجباته .. ويسيرون رغم أنوفهم إلى هامش التاريخ .. يتحركون بحركة صانعيه ، ويكونون معهم كالريشة في مهب الريح .. بلا إرادة !! .

إنّ نصوص الإسلام ترفض أن تعتبر الأجيال جيلاً معيناً (سقفاً) للفهم والإدراك .. وإذا بها تشتغل بما ورد عنه ، وتبتعد -متأولة- عن التعامل المباشر مع القرآن والسنة .. وإذا وجد ناس أنهم مضطرون إلى الاجتهاد بحثاً عن حلول لقضايا لم يرد ذكرها عند السابقين .. فإن المقلدة يجتهدون في المسائل المطروحة منطلقين من نصوص وضوابط من يقلدونهم .. وفي هذا التصرف عثرات وأخطاء يدركها من اتصل بكتاب الله تعالى وسنة النبي (ص) اتصال فهم وتدبر .. إذ يعلم أن نصوص الوحيين أكبر من الرجال ، ولا يصح أن يُحصَر فهمها في جيل من الأجيال .

ثالثاً : إنّ (التجديد) مسؤولية تقوم على علم .. فليس من التجديد أن تتخلى الأمة عن (الماضي) من غير تمييز بين ما يصح تركه وما لا يصح ، أو أن تقبل (الجديد) بتأويل يعبث بالنصوص وبمقاصد الشارع الحكيم ، وينشيء في الأمة أمراضاً أشد فتكاً من تلك التي تفر منها .

إنّ التجديد المخلص .. الجاهل .. أكبر ضرراً من التقليد غير المميز .. لأن التجديد في هذه الحالة عبارة عن إحلال ما لا يقبله الإسلام محل ما شرعه الله تعالى ورضيه لعباده .. وهذا يهدم الفكرة الإسلاميّة ويبلبل الشرائع ويطعن الأخلاق في مقتل .. وتكون النتيجة (مسخ أمة الإسلام) باسم التجديد .

ولقد تميزت مرحلة احتكاك المسلمين بأمم الغرب .. بظهور دعوات تنادي ب (التجديد) .. ولا شك في أن التجديد مطلب حيوي .. إلا أن عدداً من دعاة التجديد المعاصرين لم يوفقوا إلى التعبير المنضبط بالنصوص .. فكان منهم من انطلق من أرض الإسلام ، فاندفع مخلصاً يريد معالجة أسباب التخلف والضياع ، ولكنه جاوز الحد المطلوب .. فكانت منه أخطاء . وكان فيهم من كانت حصيلته الشرعية أضعف من ثقافته الوافدة ، فظن أن اجتهاده أصيل .. فاختلطت عليه الأمور . وأشدهم خطورة الذين وقفوا على أرض الثقافة الغربية وقدموا اجتهادات يرون أنها تجديدية لا تخالف الإسلام !! .

ولقد كان الشيخ الجليل أبو الأعلى المودودي من أوائل الدعاة إلى إحياء (الاجتهاد) المعتصم بضوابط القرآن والسنة ، وإلى ترك (التقليد) المفسد للعقل والنظر ، وإلى الالتزام بأصول (التجديد) الإسلاميّة .


رابعاً : يلاحظ المتأمل في المجتمعات البشرية ، أن هناك صراعاً على قيادة سفينة الأمم والشعوب بين القوى الفاعلة الموجودة داخل المجتمع .. ويلاحظ أيضاً أن عامة الناس لا يدخلون حلبة الصراع إلا في وقت متأخر .. وبعد أن تتوفر شروطٌ تحركهم نحو أهداف يؤمنون بها . فالجماعات المنظمة تأتي في مقدمة وسائل التنافس بين قوى المجتمع الفكرية والسياسية ، فهي التي تخوض المعركة ، وتعمل على بثّ أفكارها وتجنيد المؤمنين بعقيدتها وأهدافها ، وهي التي تهيئ ظروف إضعاف المخالف والتمكين لنظرتها وفلسفتها في صفوف الجماهير ، وهي التي تقدم التضحيات الكبرى وتصبر على المحنة والشدة .. إلخ . وبناء على هذه الحقيقة فإن العمل الجماعي .. بصرف النظر عن صورته .. ليس من نافلة العمل .. وخاصة في هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمة الإسلام .

ولقد أدرك الإمام المودودي هذه الحقيقة ، فسعى إلى تكوين جماعة تأخذ على عاتقها واجب العمل على استئناف حياة إسلامية وإقامة حكم إسلامي في الأرض .


خامساً : إنّ معظم الرواد الذين باشروا عملية (تجديد الدين) في القرن الرابع عشر الهجري ، لم يتخرجوا من المعاهد الدينية الرسمية ، ولم يتلقوا علوم الشريعة وفق الطريقة التي كانت متبعة في القرون المتأخرة. والمثل الفذّ على هؤلاء المجددين هو الإمام المودودي رحمه الله تعالى ، فقد بذل جهداً فردياً واعياً مستمراً من أجل تكوين نفسه ، وتأهيلها لحمل أمانة المساهمة الجادة في ردّ قافلة المسلمين الشاردة إلى جادة الصواب . ولقد ترك آثاراً علمية وفكرية وحركية تشهد بمكانته السامقة في جيل المصلحين المجددين .

وهذا الدرس البليغ الذي ضربه رواد إحياء الانتماء الواعي لدين الله عزَّ وجلّ .. جدير بالتأمل والاعتبار من قِبَل الأجيال التي تتلمذت على ما صنعه أولئك القادة المؤسسون لحركة الإحياء .. ومن عبر هذا الدرس أن على الذين يشعرون بمسؤوليتهم عن تبليغ رسالة الإسلام أن يبذلوا جهدين مستمرين ما داموا في الأحياء :

  • جهداً لفهم الإسلام غضاً طرياً ، ولإدراك مقاصده ، ولمعرفة أهدافه في حياتهم ، ولتحديد السبيل الموصل إلى تحقيقها ..
  • وجهداً لتوفير وسائل تحقيق الأهداف وتطويرها باستمرار .

سادساً : ومن الدروس التي تشير إليها سيرة المودودي العلمية درس عظيم يؤكد على .. ضرورة التنوع في ثقافة الدعاة إلى الله عزَّ وجلّ .. ونرى أن تنوع الثقافة ينبغي أن يكون بعد التمكن من قواعد التعامل مع تراث الأجيال السابقة .. ومع مستجدات العصر العقدية والفكرية والتشريعية .. إلخ .

إنّ الثقافة المتعددة الجوانب .. المبنية على أصل شرعي راسخ .. من أهم ما تحتاج إليه حركة التجديد الإسلاميّة المعاصرة .. وتنوع الثقافة لا يتحقق بقراءة جزئية مقتضبة لفكر الإسلاميّين السابقين أو المعاصرين .. ولا بالاطلاع السطحي على فكر غير المسلمين .. لأن القراءة بهذه الصورة .. مضللة .. لأنها لا تمكن من رؤية مستوعبة .. ويأتي الموقف المعتمد عليها سطحياً جزئياً .. يمس جوانب محدودة من الصورة الكلية .. وهذا خطأ يحمل مسؤوليته -حين يقع- روّاد الحركة الإسلاميّة في كل جيل .

الفصل الثالث : نظرة في دستور الجماعة الإسلاميّة

يتناول دستور الجماعة الإسلاميّة فيباكستان ، بصورة أساسية ، الهياكل التنظيمية للجماعة ، ولإعطاء صورة موجزة عنها نقسمها إلى قسمين :

أولاً : الهيكل التنظيمي المركزي

ويشمل هذا الهيكل التنظيمي :

1- المؤتمر العام : ويعتبر المصدر النهائي للسلطات ، ويجوز إطلاق وصف المؤتمر العام على :

أ- الاجتماع الذي يدعى إليه جميع أعضاء الجماعة .

ب- أو الاجتماع الذي يدعى إليه المندوبون المختارون من قبل الجماعة حسب التقسيمات الإدارية ، ويكون هذا بناء على اقتراح مجلس الشورى المركزي .


2- أمير الجماعة : يؤكد دستور الجماعة الإسلاميّة على أن أميرهم لا يعتبر (أمير المؤمنين)، وينص الدستور على :

أ- طريقة تنصيب الأمير : ويعتمدون طريقة الانتخاب المباشر من طرف أعضاء الجماعة وبالأغلبية البسيطة .

ب- مدة انتخابه : خمس سنوات قابلة للتجديد دون تحديد .

ت- مهام الأمير : وفيها تفصيل واجباته وصلاحياته .


3- مجلس الشورى المركزي:

  • عدد أعضائه خمسون عضواً .
  • ينتخبهم أعضاء الجماعة بالاقتراع السري ، وتنتخب كل مقاطعة العدد الذي يحدد لها وفق شروط ، منها : عدد أعضاء الجماعة في كل مقاطعة .
  • رئيس المجلس هو أمير الجماعة .
  • الدورة الانتخابية للمجلس ثلاث سنوات ، ويجوز للأمير تمديد المدة في الحالات الاستثنائية ، بعد التشاور مع أمراء المقاطعات وغيرهم ممن ينص عليهم الدستور .
  • يجتمع المجلس مرة في السنة في الحالات العادية ، ومن أبرز مهامه :

- مناقشة تقرير أعمال الجماعة .

- إقرار الموازنة .

- استعراض منجزات الجماعة في السنة الماضية .

- وضع برنامج العمل للسنة القادمة .

- رسم السياسة العامة للجماعة .

- يتحقق النصاب بحضور ثلث الأعضاء .

- وإذا تعذر حضور الثلث تؤجل الجلسة إلى وقت آخر وتنعقد بالعدد الذي يحضر .

  • طريقة استصدار القرارات :

- يسعى إلى أن تكون جميع القرارات بالإجماع .

- وعند تعذر الإجماع يؤخذ بأغلبية أصوات الموجودين في دورة نظامية .

- إذا لم يوافق أمير الجماعة على قرار صادر بأغلبية أصوات أعضاء مجلس الشورى الحاضرين في جلسة نظامية ، فله أن يؤجل القرار إلى الدورة القادمة والقرار الصادر عندئذ يعتبر نهائياً ملزماً للجميع .

  • ينص الدستور على إقالة مجلس الشورى ، وعلى الجهاز الذي يتولى مهامه في حال إقالته أو عجزه عن القيام بالمهام المنوطة به .

4- المجلس التنفيذي :

  • يتكون من اثني عشر عضواً .
  • يكون قيم الجماعة ، ونواب الأمير من بين الأعضاء بحكم مناصبهم .

5- قيم الجماعة (الأمين العام)

  • يؤدي قيم الجماعة اليمين الدستوري ، وله نص محدد .

6- رؤساء الأقسام المركزية :

  • يعينهم أمير الجماعة ، ويعفيهم من المسؤولية متى شاء .
  • ويتكون المقر الرئيسي للجماعة الإسلاميّة بصورة أساسية من :

1- مكتب الأمير العام .

2- الإدارة .

3- المالية .

4- النشر والإعلام .

5- التربية .

6- الفلاحون .

7- الانتخاب .

8- دار العروبة للدعوة الإسلاميّة .

ثانياً : الهيكل التنظيمي للمقاطعات

تعتمد الجماعة الإسلاميّة ، لأجل التسهيلات الإدارية ، نظام المقاطعات الإدارية الباكستانية . ويتكون الهيكل التنظيمي للمقاطعة من :

1- أمير المقاطعة :

  • يعينه الأمير العام للجماعة ، آخذاً في الاعتبار آراء أعضاء الجماعة في المقاطعة ، ومصالح الجماعة ، ويحق له إعفاؤه من منصبه .
  • مدة التعيين ثلاث سنوات .
  • يعتبر ممثلاً لأمير الجماعة ، ويتعين عليه أداء اليمين الدستوري .
  • ينص الدستور على مهامه .

2- مجلس شورى المقاطعة :

  • يحدد أمير المقاطعة عدد أعضاء مجلس شورى المقاطعة ، ويوزع العدد على الدوائر الانتخابية في المقاطعة مراعياً التوزع العددي لأعضاء الجماعة .

3- قيم المقاطعة (الأمين العام للمقاطعة)

  • يعينه أمير المقاطعة بالتشاور مع مجلس شورى المقاطعة ، ويؤدي اليمين الدستوري أمام أمير المقاطعة.

4- المجلس التنفيذي للمقاطعة :

  • يتكون من عشرة أعضاء على الأكثر ، يختارهم أمير المقاطعة من بين أعضاء مجلس شورى المقاطعة .

5- مديرو الأقسام الإدارية في المقاطعة :

  • يعينهم أمير المقاطعة ويعفيهم متى شاء .
  • هذا ، وينص الهيكل التنظيمي على نظام (إدارة الألوية) و(إدارة المديريات) و(إدارة الفروع) وهي صورة مصغرة عن الهيكل التنظيمي للمقاطعة .

من إيحاءات الفصل الثالث

أولاً : تحتاج الجماعات البشرية .. صغيرة كانت أم كبيرة .. إلى الاتفاق على نظام ، مكتوب أو متعارف عليه ، يحدد العلاقات بين أعضائها ومؤسساتها ، وهذه الحاجة الفطرية تدفع إليها الرغبة في درء المفاسد المتوقعة ، وفي تحصيل المصالح المشتركة .

ولا تستطيع الجماعات جني الثمار المرجوة من النظم واللوائح التي تعتمدها .. إذا لم يتوفر في أفئدة أعضائها الشعور بالمسؤولية الجماعية ، والرغبة الصادقة في الالتزام بعهودهم ومواثيقهم .

لذلك ينبغي أن تسارع الجماعات إلى .. وضع نظم ولوائح ترتب الحقوق والواجبات .. التي تراها ضرورية للنهوض بمهامها على طريق تحقيق أهدافها .. لأن وضع الأنظمة في الجماعات خطوة أساسية تمهد لبدء العملية التربوية الرامية إلى توفير الشروط الفكريـة والنفسـية والأخلاقيـة .. التي تسـاعد أعضاء الجماعة على الالتزام بالنظم والتعليمات والقرارات .

ولا شك في أن الجماعة الحية لا تفقد أبداً (قدرتها الاجتهادية) على تطوير نظامها الجماعي كلما دعت الحاجة إلى ذلك .

ثانياً : ينبغي أن تصر الحركات الإسلاميّة التجديدية على محاصرة وإنهاء (نظام الشيخ والمريد) الذي سيطر داخل المؤسسات الاجتماعية .. الرسمية والشعبية .. في العالم الإسلاميّ خلال القرون المتأخرة !! ، فنتج عنه : منع أفراد المؤسسة الاجتماعية من المشاركة الفعالة في التفكير ، وفي ضبط مسيرة النشاط الجماعي .. وحصر ذلك في فرد أو مجموعة أفراد .. وعلى الباقين السمع والطاعة العمياء !! .

ولقد خطت الجماعة الإسلاميّة فيباكستان خطوة إيجابية ، فأعطت (قاعدة الجماعة) دوراً فاعلاً .. نلمسه بوجه خاص في المؤتمر العام ، وفي انتخاب أمير الجماعة وأعضاء مجلس الشورى المركزي ..

وهنا قد يقول قائل : إنّ الأوضاع السياسية القهرية القمعية التي تسود معظم البلاد الإسلاميّة .. لا تسمح بتجربة تنظيمية مشابهة لما اختارته الجماعة الإسلاميّة فيباكستان !

فنقول : إنّ حالة الاستبداد والقهر السياسي .. لا تلغي حاجة أمتنا إلى بعث الأخلاق الاجتماعية الأصيلة .. التي تدفع الجميع إلى الشعور بالمسؤولية الجماعية .. وهذه لا تسقط المسؤولية الفردية التي تفرض على الفرد المشاركة الإيجابية في النهوض بالجماعة وتصويب مسيرتها .

إنّ الاستبداد يؤثر في (صورة العمل الجماعي) وليس في ( حقائقه الشرعية ) ، فإذا فقد العمل الإسلاميّ .. في مرحلة الدعوة .. خصائصه الجماعية .. فإنه لن يستطيع في مرحلة الدولة .. أن يبدأ من جديد بتربية قاعدته الصلبة ، والقيادات جزء منها ، على أخلاق جديدة .

ثالثاً : إنّ الدعوة إلى إصلاح نظام العمل الجماعي المتخلف ، والمزهق للطاقات ، لا تحمل في طياتها رفضاً لدور القائد والأفراد الموهوبين .. فالجماعات التي لا تُنـزل الناس منازلهم ... ولو تحت عنوان ( الإصلاح ) ... سوف تعاني من ضعف الرؤية ، ورداءة التخطيط ، وستصاب بهزال الإرادة والتخبط في المسير ..

إنّ لأهل العلم والسابقة دورهم الريادي .. فلا يجوز أن يُبْخَسوه .. بل يجب أن تتاح لهم فرص إبراز مواهبهم وقدراتهم .. ولكن ضمن نظام جماعي متناسق .. يحرك جميع الطاقات ويوفر شروط التكامل فيما بينها .

الفصل الرابع : من اختيارات الجماعة الإسلاميّة في المجال الحركي

نتعرض في هذا الفصل إلى عدد من الاختيارات الحركية والتنظيمية التي سارت عليها الجماعة الإسلاميّة منذ تأسيسها :

1- لا للتجميع ونعم لاصطفاء الأفراد الصالحين

  • يقول الأستاذ المودودي في رسالته القيمة (واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم) :

(وغايتنا: استخلاص الأفراد الصالحين وجمعهم في نظام واحد. وتربية الذين هم منـزهون عن السيئات القديمة والجديدة .. ويستعدون للقيام بها -بالدعوة- بكل تضحية بأموالهم وجهدهم).

  • وجاء في (دستور الجماعة الإسلاميّة بباكستان) : (ولو كان الغرض من إنشاء الجماعة استقطاب الجماهير بغثها وسمينها تحت رايتها لتوفرت الجماعة الإسلاميّة من أول يوم إنشائها على أكبر حشد جماهيري) .

ويعنون بذلك أن هناك فرقاً بين أن يكون المرء عضواً في جماعة أو متفقاً مع خط سير الجماعة ، فالجماعة الإسلاميّة تنشط في الدعوة العامة ولا تقبل في عضويتها إلا من توفرت فيهم شروط العضوية الإيمانية والفكرية والسلوكية والأخلاق الجماعية .

  • يقول الشيخ خليل الحامدي -بعد اطلاعه على هذا البحث- : (المنهج الذي اختاره الإمام المودودي لجماعته هو أن لا يُقبل أحد عضواً في الجماعة إلا إذا كان مقتنعاً بغاية الجماعة وعقيدتها ونظامها ومنهجها ، وكان مستعداً لتطبيقها في حياته ، سواء أكان ذلك الرجل من المثقفين النخبويين ، أو من عامة المسلمين . ولذلك نرى الرجال الذين انضموا إلى الجماعة أعضاء فيها عند تأسيسها ، كان معظمهم من ذوي الثقافة المتوسطة ومن الشباب ، بينما كانت الأحزاب السياسية والدينية الأخرى في البلاد ، تقبل كل شخص يحب الانتماء إليها ، ويدفع لها الاشتراك ولو شيئاً يسيراً من القروش ، ولا تهتم بالجانب العقيدي والسلوكي .

والمودودي ما كان يحب أن يجمع في جماعته غثاء من المنتسبين إلى الإسلام كغثاء السيل ، وإنما كان يستهدف إنشاء جماعة من الذين فهموا الدين على حقيقته والتزموا بمقتضياته .

والجماعة الإسلاميّة ، هذه الأيام ، تحاول أن تستوعب الجماهير العامة بواسطة دعاتها والعاملين فيها ، الذين فهموا دعوة الجماعة وطبقوها في حياتهم العملية ، وصاغوا سلوكهم في قالبها ، فأصبحت الجماهير تقبل عليها ثقة فيهم ، وهذا هو الطريق المستقيم لإنشاء حركة ، وإقامة ثورة لتغيير وجهة التاريخ) .

2- الأخذ بمبدأ الانتخاب من قبل القاعدة للأمير ولمجلس الشورى

الأخذ بمبدأ الانتخاب من قبل القاعدة للأمير ولمجلس الشورى وإقرار مبدأ الشورى الملزمة

جاء في رسالة (الجماعة الإسلاميّة في سطور) ما يأتي :

(وتلقب الجماعة رئيسها بلقب (الأمير) ، وهو ينتخب من أعضاء الجماعة بالاقتراع السري المباشر . وأمير الجماعة هو الذي يقرر سياسة الجماعة ومنهجها للعمل وسائر الشؤون الهامة بمشورة من مجلس الشورى المتكون من خمسين عضواً من أعضاء الجماعة ، المنتخبين كذلك من قبل الأعضاء بطريق مباشر وباقتراع سري، ويحاول مجلس الشورى أن يقرر كل ما يقرره من آراء وقرارات باتفاق جماعي ، وإذا جاء أمر من الأمور لم يظفر بالاتفاق الجماعي فإن رأي الأغلبية هو الذي يبت فيه) .

3- قبول النساء في عضوية الجماعة الإسلاميّة =

نصت المادة العاشرة من (دستور الجماعة الإسلاميّة بباكستان) على عضوية النساء في حدود نشاطهن . وتقول المادة الثامنة والثمانون من الدستور :

(يكون نظام السيدات -من العضوات والمؤيدات- منفصلاً عن نظام الرجال -من الأعضاء والمؤيدين- . ويكون من صلاحيات الأمير العام للجماعة أن يضع لهن نظاماً مناسباً يخصهن بالتشاور مع المجلس التنفيذي ، ويدخل عليه تعديلات عند اللزوم) .

4- رفض وحدة التنظيم إذا تعددت الأقطار سياسياً

ويظهر هذا بجلاء في موقفين :

الأول : عندما تكونتباكستان 1947م ، فقد أقام أعضاء الجماعة الذين بقوا في الهند تنظيماً خاصاً بهم لا تربطه علاقات تنظيمية بالجماعة الأم .

الثاني : حين انفصلت بنجلادش -باكستان الشرقية- عنباكستان عام 1971م . فقد أقام أعضاء الجماعة في بنجلاديش تنظيماً خاصاً بهم ومستقلاً عن تنظيم الجماعة الإسلاميّة فيباكستان .

5- رفض السرية في العمل ، والتحذير من استعمال السلاح في عملية التغيير

جاء في المادة الخامسة من (دستور الجماعة الإسلاميّة بباكستان) المذكورة تحت عنوان (المنهج الدائم للجماعة الإسلاميّة) ما يأتي :

أ- لا تستخدم أبداً لتحقيق غايتها ونيل أهدافها الأساليب التي تنافي الصدق والأمانة أو تثير الفساد في الأرض .

ب- تمارس الطرق الدستورية والقانونية للقيام بالإصلاح الذي تنشده والانقلاب الذي تستهدفه ..

ت- لا يقوم كفاحها لأجل الوصول إلى غايتها على النشاط السري ، على غرار الحركات السرية في العالم ، بل إنها تعمل كل ما تعمل علناً وفي وضح النهار) .

وفي عام 1381ه التقى الأستاذ المودودي مجموعة من الشباب المسلمين العرب ، وألقى فيهم كلمة نشرت بعنوان (واجب الشباب المسلم) جاء فيها :

(لا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف ، وتحاشوا استخدام العنف والسلاح لتغيير الأوضاع ، لأن هذا الطريق نوع من الاستعجال .. إنّ هذا الطريق أسوأ عاقبة وأكثر ضرراً من كل صورة أخرى ، وإن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل في الماضي - وسيحصل كذلك في المستقبل- بعمل علني واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ..) .

6- العمل كحزب سياسي في وضع ديمقراطي

جاء في رسالة (الجماعة الإسلاميّة في سطور) (ص8-9) عند الحديث عن منهج الجماعة :

(تتبع الطرق الدستورية والديمقراطية للقيام بالإصلاح الذي تنشده والانقلاب الذي تستهدفه ، وبكلمة أخرى : تركز عنايتها على إصلاح الأذهان والحياة السلوكية بالدعوة والإقناع ونشر المفاهيم الصحيحة عن الإسلام ، كما أنها تحاول أن تكسب تأييد الرأي العام لأجل الإصلاحات التي وضعتها نصب عينها) .

من إيحاءات الفصل الرابع

أولاً : من طبيعة الدعوات التغييرية أنها تتوجه برسالتها إلى جميع أفراد المجتمع من غير تمييز بين مستويات المعرفة ، وأنها تعمل على تنظيم الذين يستجيبون لما تدعوهم إليه ، وتتوفر عندهم الرغبة الصادقة في حمل الفكرة والعمل على نشرها في محيطهم ، ويستعدون للتضحية في سبيل ما يؤمنون به .. بصرف النظر عن مستوى تحصيلهم العلمي العام .

وهذه الطبيعة تلزم أصحاب الدعوات بأن يتوجهوا ، في وقت مبكر ، إلى جميع فئات المجتمع ، وأن يقبلوا في عضوية الجماعة المستويات المعرفية المتوفرة في الأمة .. بشرط أن تتوفر في الفرد شروط عضوية الجماعة ..

وبما أن رسالة الإسلام العظيم تخاطب الإنسان .. من حيث كونه إنساناً .. فإن من أهم واجبات الحركة الإسلاميّة المعاصرة أن تهتم بأبناء المجتمع كافة ، وأن تسعى إلى دخول جميع الميادين .

ثانياً : وإن من خصائص الدعوات التغييرية (الإصرار على الالتحام بالشعوب ، ورفض محاولات عزلها وتطويقها) ، وهذا لا يعني أنها لا تفرق بين (العضو) المؤمن بعملية التغيير ، والمقدم لأنواع التضحيات في سبيل نصر ما يؤمن به ، وبين (المناصر) المقتنع بضرورة التغيير .. إلا أنه يتخير -بدافع الخوف أو الحرص- ما يضحي به ويقدمه من أجل الفكرة التي يؤمن بها .

صحيح أن القاعدة الصلبة هي المعتمد الأول في قيادة الصراع مع القوى الأخرى ، وفي توجيه الطاقات إلى الواجبات .. ولكن هذه القاعدة في أمس الحاجة إلى علاقات (ندية ، ودافئة ، ومفعمة بالحنان والاحترام) مع أفراد المجتمع الذين تريد تغيير اتجاهاتهم . رغبة في إنقاذهم ، وفي تبنيهم للدعوة والإسهام في تحقيق مشروعها .

وإن مما يؤسف له أن كثيرين من أبناء التيار الإسلاميّ ينسفون ما بينهم وبين المجتمع من علاقات المودة والرحمة ، ويتحولون من (دعاة إنقاذ مشفقين) إلى مجرد (قضاة) مهمتهم أن يقولوا للناس : أنت مخطئ أو فاسق ... أو ... أو ... ولا يصح أن يفهم من كلامنا هذا أننا ندعو إلى السكوت عن فسق الفاسق ، وضلال المبتدع ، ونحو ذلك . فالله تعالى كلفنا بالدعوة إلى الخير ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالصبر على الأذى ... ، ولكننا نذكر بأن الدعوة ينبغي أن تكون ب (الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة والدفع بالتي هي أحسن) مع البعد عن تحويل (الخصومة الفكرية السلوكية) إلى حقد شخصي ورغبة في الانتقام .

ثالثاً : إنّ اعتماد مبدأ الانتخاب لشغل المناصب القيادية في العمل الجماعي .. مسألة في غاية الأهمية .. لأنه يشكل نقلة نوعية في النشاط الجماعي الذي عرفه المسلمون خلال العصور المتأخرة .. والذي يقوم على قاعدة (الشيخ والمريد) بما تلقيه هذه القاعدة من ظلال نفسية وتنظيمية .

وتقرير مبدأ الانتخاب يتضمن أيضاً تقرير (المحاسبة) و(إتاحة فرص لتغيير القيادة التي أصابها تعب بمرور الزمن) ، و(تقديم طاقات نمت وصارت أهلاً لدور قيادي تجديدي) .

ولا ريب في أن العملية الانتخابية تحمل الإنسان مسؤولية اختيار الأفضل والأمثل والأقدر على القيام بمهام المنصب القيادي ، وهذه المسؤولية تحتاج إلى أخلاق تضمن للإنسان الالتزام بالقيم الإسلاميّة الضابطة لعملية الانتخاب .. فإذا وقع خلل عند الممارسة .. فإن حل المشكلات لا يصح أن يكون على حساب إهمال مبدأ الانتخاب أو تعطيله .

رابعاً : تقرر فصائل الحركة الإسلاميّة المعاصرة أن الشورى من أعمدة العمل الجماعي الناجح ، إلا أن معظمهم لا يعتمدون صيغة عملية تناسب ظروف التحرك المكاني ، بحيث تحقق الشورى أغراضها .. وما يزال الأخذ والرد مستمراً حول : هل الشورى مُعلِمَةٌ أم مُلزِمَةٌ ؟ ، وكل فريق يرى أنه متبع وليس بمبتدع !! .. وفات كثيرين أن يدركوا أن المهم هو الاتفاق على صورة تكون الشورى فيها مثمرة .. وهذا لا يكون إلا بامتلاك قدرة اجتهادية تدور مع النص ، ولا ترى التطبيقات الاجتهادية للأجيال السابقة ملزمة لها .

إنّ العمل الجماعي الناجح هو ذاك الذي يوفر شروط الشورى عند التفكير ، وعند التقدير ، وعند التعبير العملي عن القرارات والاختيارات . وليس هناك أقتل للجماعات من إعجاب كل ذي رأي برأيه ، ومن ضعف القدرة على التنازل عن الرأي الشخصي الاجتهادي لصالح ما يراه عامة أهل الشورى في كل ميدان .. وليس هناك أفتك من أن تلغي جماعة عقول أبنائها ، وأن تقبل باتباع شخص تعطيه .. عملياً وليس نظرياً .. صفة العصمة في الفهم وفي التقرير !! .

خامساً : يعد تحديد الدور الذي شرعه الله عزَّ وجلَّ لكل من شقّي المجتمع : الرجل والمرأة ، من أهم القضايا التي يجب تجديد معانيها الشرعية في حياة المسلمين .. ومعلوم أن هذا لن يتم إلا بتقديم صور عملية لنشاط الرجال والنساء : الاجتماعي ، والدعوي ، والحياتي ، والسياسي ، .. إلخ ، في المجتمع المعاصر .

ولا توصف حركة إسلامية بأنها راشدة مجددة .. إذا سلطت عقلية ونفسية المراحل المتخلفة من تاريخ المسلمين على النصوص .. زاعمة أن فهم تلك الأجيال هو الأصيل .. وما سواه فبدعة ودخيل . وخطوة تجديدية كهذه تتطلب علماً راسخاً .. لئلا يسيء العاملون وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً .. وتحتاج إلى شجاعة واعية تدفع إلى كشف الحقائق ، وتزييف الفهم المردود والتخلي عن الذي تجاوزه الزمن .

وتتطلب الخطوة التجديدية الراشدة أيضاً .. الاعتصام بضوابط شرعية تقي من الانبهار بإفرازات عصرنا ، الذي ظهرت فيه مفاهيم الحضارة الغربية التي يسهر على تحسينها في العيون رجال أجادوا فن التأثير على العقول ، وتحوير مفاهيم الآخرين إلى درجة يخيل فيها للمتأثرين بالفكرة الغربية أن فهمهم ينطلق من أصولهم الدينية .

هذا ، ولا يخفى أن في عقل رجل العالم الإسلامي اليوم موقفاً سلبياً من المرأة .. وقد أثر في تكوينه :

  • الفهم الجزئي المبتور لنصوص الإسلام .
  • ونظرة البيئة الجاهلة إلى المرأة .
  • والتصرفات التي تصدر عن المرأة بفعل رواسب التربية السيئة الموروثة من أجيال الجهل والتخلف .. أو بتأثير الغزو الثقافي الغربي الماكر .

وفي عقل نساء العالم الإسلامي المعاصرات .. موقف غير إيجابي من الرجل .. وقد أثر في ترسيخه :

  • ممارسة معظم الرجال الخاطئة لفكرة (القوامة) التي شرعها الله عزَّ وجلَّ رحمة بالأسرة .
  • الرغبة غير العاقلة ، من قبل بعض النساء ، في تحسين أوضاع المرأة .. بحيث أصبحت الدعوة إلى إعادة النظر في دور المرأة داخل المجتمع .. ملازمة لفكرة خروج المرأة عن الالتزام بالإسلام .. والسير في أخلاقيات المرأة الغربية .

لهذا كله نقول : إنّ العلاقة بين شطري المجتمع .. الرجل والمرأة .. في أمس الحاجة إلى الرعاية المناسبة ، من قبل الحركة الإسلاميّة ، التي ينبغي أن تنطلق من أن الرجال والنساء يعانون من آثار تربية غريبة عن الإسلام .. ولذلك لا يصح أن يسيء طرف الظن بالطرف الآخر .. أو أن يتخذ منه موقفاً متشنجاً .. بل عليهما أن يعملا معاً على التخلص من آثار التربية الفاسدة والثقافة الغازية المفسدة .. لكي يبصر كل من الرجل والمرأة .. الحقوق والواجبات .. التي تحقق لهما غاية وجودهما الإنساني .. وبذلك يرضى ربنا الجليل ، ويقبل عمل المخلصين .

ونحب أن نسجل هنا أن الحركة الإسلاميّة قد حركت المعاني الشرعية المتعلقة بالمرأة .. وقد قطعت أشواطاً في محاولة إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي .. إلا أن الأمر ما يزال في حاجة إلى عناية أكثر علماً وجدية .

سادساً : اختارت الجماعة الإسلاميّة فيباكستان (قطرية التنظيم) في واقع التجزئة التي تعيشها الأمة .. إلا أن هذا الاختيار لم يمنعها من التجاوب مع شعورها العميق بواجب التلاقي مع الإسلاميين بقصد البحث عن قواسم مشتركة في ساحة التعاون .

والجماعة الإسلاميّة تتبنى في هذه المرحلة فكرة التنسيق بين الجماعات العاملة في الحقل الإسلامي .. رغبة في تحديد رؤية أفضل لأوضاع العالم ، وأملاً في تعاون إيجابي على أمور يتفق عليها .

وأرى أن (التنظيمات القطرية) في حالة مراجعة بطيئة .. لما اختارته من صور تنظيمية .. وخاصة تلك التي مرت بتجربة المواجهة مع الأنظمة الحاكمة .. فقد رأت تلك الجماعات أنها في حاجة إلى نصرة إخوانهم .. وخاصة أولئك الذين هم خارج حدود القطر الذي يعاني من أزمة حادة .. وهذا الشعور صحيح -وهو من أدلتنا على (عالمية التنظيم)- إلا أن وقت التعبير عنه من قبل الجماعات القطرية غير مناسب ، كما أن صور الممارسة في حاجة إلى إعادة ترتيب .

وأرى أن الذين يصرون على (قطرية التنظيم) لن يتمكنوا من جني ثمار (التناصر) إلا إذا انطلقوا من (عالمية التنظيم) واستعدوا للعمل ب (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) في مرحلة التفكير ، والتقدير ، والتقرير .. فإذا فعلوا ذلك فإن (التناصر) يأخذ طريقه إلى التطبيق في جميع الحالات .. بما فيها حالات المواجهة الساخنة مع أنظمة الحكم وغيرها .

سابعاً : تكونت الجماعة الإسلاميّة فيباكستان ، ومارست نشاطها عبر تاريخها الطويل ، في ظروف تعترف بخلاف الرأي ، وتتيح فرصاً حرة لتنظيم الجهود ، باستثناء حالات شاذة منعت الجميع من العمل . لذلك كان قرارها أن يكون عملها علنياً بعيداً عن السرية . ولو أن الجماعة الإسلاميّة فيباكستان تكونت في شروط استبدادية تقمع الرأي الآخر ، وتمنع قيام جماعات لا تتحرك في فلك الحاكمين ، ولا تأتمر بأمرهم ، لكان للجماعة اجتهاد آخر .

إنّ علنية التنظيم أو سريته قضية اجتهادية ، وهي مرتبطة بظروف النشأة من جهة ، وبالجو الذي يتحرك فيه الناس من جهة أخرى .. ولا نملك دليلاً شرعياً يلزم بهذا الرأي أو ذاك .. ولكننا نحذر من أمرين :

الأول : عندما تعتمد جماعة ما سرية التنظيم .. فإن هذا لا يعني سرية الدعوة .. فالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بالبيان والسلوك مسألة لا يجوز التخلي عنها .. ويجب توطين النفس على تحمل تبعاتها .

الثاني : لا يصح أن يصبح التنظيم ، الذي هو (وسيلة) ، غاية في حد ذاته .. أو أن يصبح في مقام الغاية .. بحيث يحب المرء الآخرين فيه ويكرههم فيه ،ويعادي من أجله .

ثامناً : لن يصل العاملون للإسلام إلى تحقيق أهدافهم بصورة مقبولة .. إلا إذا اعتمدوا (المرحلية) في جهادهم الطويل المرير .. وهذا الأصل (المرحلية) تؤكده نصوص الإسلام ، وخاصة سيرة الرسول (ص) ، وتؤيده تجارب (حرق المراحل) المعاصرة بما أفرزته من مآسٍ في النفس والأخلاق والعلاقات .

لذلك فإن على الدعاة إلى الله تعالى أن يستفيدوا من جو (الحرية النسبية) التي يسمح بها الحاكمون بأمرهم في بلاد المسلمين .. وأن يسخروا ما تتيحه من إمكانات في تطوير (مرحلة الدعوة) ، ونحذرهم من الاستعجال والقفز إلى (مرحلة الدولة) قبل توفير شروط مناسبة .

ويؤسفنا أن عدداً من فصائل الحركة الإسلاميّة يمارسون (الاستعجال) .. الذي يأخذ اليوم صورتين :

1- الصراع السياسي : وذلك بدخول دنيا منافسة الحكام الحاليين -الذين لا يفهمون من هامش الحرية الذي يبيحونه ، أنه يعني : منافستهم على السلطة- قبل حدوث تغييرات جذرية في بنية المجتمع تضمن نجاح الممارسة السياسية .

2- الصراع المسلح : فالسلاح في (عملية التغيير الاجتماعي) يمكن أن يكون آخر الدواء ، ولا يصح استخدامه إلا عند الضرورة القصوى ، التي يجب أن يقدرها رجال صالحون مصلحون . فالقوة قد تكون -ولا يجب أن تكون- مكملة لجهود الإصلاح في مراحل متأخرة من عملية التغيير ، ولا يصح أن تكون مفجرة للصراعات مهلكة للبلاد والعباد .

إننا على يقين من أنه لو استمر جهاد الدعوة وفق مرحلية واضحة ، ولم تتسرع الحركات الإسلاميّة في دخول الساحة السياسية كأحزاب معارضة .. أو في اللجوء إلى السلاح .. فإن النتائج الإيجابية ستكون أكبر بكثير مما هي عليه الآن .

وإذا دفع العاملون ثمن (مرحلة الدعوة) .. فإنهم واصلون -بإذن الله تعالى- إلى (مرحلة الدولة).

أما إذا وقعوا في (الاستعجال) سواء كان ذلك بقرار منهم .. أم بجرهم من قبل الخصوم إلى ساحات المواجهة الساخنة .. قبل أن يشتد عودهم .. فلن يزداد العاملون للإسلام عن أهدافهم الإسلاميّة الكريمة الرحيمة إلا بعداً .

خاتـمـة

بعد هذا العرض (البرقي) لتاريخ المسلمين في الهند ، والتعريف بالإمام المودودي ، والتعرُّف على جوانب تنظيمية وفكرية حركية اختارتها الجماعة الإسلاميّة فيباكستان ..

وبعد اعتماد أسلوب (الإشارة) إلى دروس وعبر كل فصل ، من غير الدخول في تفاصيل ..

بعد ذلك كله .. فإننا نتطلع إلى أن تكون هذه الرسالة مادة حوار نقدي في الساحة الإسلاميّة ، ونأمل أن يعاد النظر في الأهداف المحددة ، والواجبات المقررة ، والوسائل المعتمدة ، وأن يصار إلى توفير قدرة اجتهادية نامية باستمرار ، حتى يتمكن العاملون في الحقل الإسلاميّ من رؤية الحاجات والمتغيرات ، ومن الإبداع المتجدد في اكتشاف الواجبات وتطوير الوسائل ..

ولا يخفى أن (الاجتهاد) في مجال الدعوة والعمل التغييري يتطلب : معرفة شرعية نوعية وشاملة لجوانب المقررات الدينية في الإصلاح ، وهذه لا تؤتي ثمارها إلا إذا تعانقت مع معرفة للواقع المحلي والدولي ، وإلا إذا توفرت قدرة عقلية جماعية تتمكن من استنباط ما ينفع في الحاضر واستشراف المستقبل ...

وأسأل الله تعالى أن يشرح صدور العاملين ، وأن ييسر لهم أمورهم ، وأن يوفقهم للتعبير عن حقائق الإسلام بأهلية واقتدار .

والحمد لله رب العالمين

صلاح الدين نكدلي