ذكرى استشهاد الإمام "حسن البنَّا"

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ذكرى استشهاد الإمام "حسن البنَّا"

مقدمة

2004-12-02

لقد جاء الإمامُ "البنا" إلى الدنيا على قدَرٍ مقدورٍ، فإن العصرَ الذي وُلدَ فيه كان عصرًا مليئًا بالتيارات الهدَّامةِ والإلحادِ، والتحدياتِ المعاديةِ، وكان العالمُ الإسلاميُّ يتعرضُ لأبشعِ أنواعِ المخططاتِ الاستعماريةِ؛ نتيجةً لسيطرةِ الاستعمارِ الغربي الصليبي وغارتِه الفكريةِ والحضارية على كثيرٍ من البلدان الإسلامية، ولعل أبشعَ وأشنعَ ما نزل بالمسلمين في تلك الفترة كان إلغاءَ الخلافة الإسلامية عام 1924م، حيث تحولت دار الخلافة من رمزٍ لاتحاد المسلمين وقوتِهم، إلى دولة علمانية أُلغيت فيها الشريعة الإسلامية، لتَحِلَّ مكانها القوانينُ الوضعيةُ، وأصبح المسلمون كالشاة في الليلة المطيرة.. قُلبت المفاهيم.. واستَشرى الانحلال.. وفشا الإلحاد.. وشُوِّهت أمجادُ الإسلام العظيم.. وعُزلت الشريعةُ عن حياة المجتمع.. واستحالت دولة الخلافة إلى دويلات متنافرة.. ولم يبقَ لهذه الأمة من ملجأٍ ولا نصير إلا رحمةُ الله تعالى، ثم نجدةُ العقيدة وقوة الإيمان.

ومن هنا يكتسب التوقيت- الذي ظهر فيه الإمام "حسن البنا" (رحمه الله)- أهميتَه، فقد أيقنَ الرجلُ أن جهود الدعاة إلى الله لن تؤتِيَ ثمارَها المرجوَّة طالما ظلت جهودًا فرديةً متفرقةً، وأدرَكَ أنه لابد من تجميع هذه القوى في جماعةٍ واحدةٍ تأخذ الإسلام كلَّه دينًا شاملاً ينظِّم نواحيَ الحياةِ جميعَها، ويُعيد تقديم الإسلام من جديد في صفائه وجلاله وكماله، فكان هو ذلك الإمام المجدد، كما ورد في الحديث الشريف: "‏إنَّ اللهَ يبعثُ لهذهِ الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةٍ من يجددُ لها دينَها‏"‏ (رواه أبو داود مرفوعًا، وقد اعتمده الحُفَّاظ، وقد أخرجه الطبراني ورجاله ثقات، وصححه الحاكم).

وكان في تكوينه العلمي والعبادي، وفي صلته بالله تعالى وعميقِ فهمه للإسلام ولواقعِ مجتمعِه ومتطلباتِ النهضةِ التي لابد منها.. كان في ذلك كلِّهِ قدَرًا رحِيمًا من الله تعالى قيَّضَهُ لهذه الأمة، فأسَّس جماعتَه سنة 1928م بعد سقوط الخلافةِ بنحو أربعِ سنين؛ ليحاول وضع مشروعِ النهضة الإسلاميةِ الشاملة موضعَ التنفيذ، ونذَرَ لهذا المشروعِ- والدعوةِ إليهِ والتربيةِ عليهِ والجهادِ في سبيلهِ- عُمُرَه كلَّه، وقد كان وقت أن أسس جماعته في العشرينيات من عمره.

وكانت نفسُه المتوثِّبة تَتُوق إلى تحقيق أعظمِ الآمال لهذه الأمة، وإنْ رآها بعضُ البعيدينَ عنه ضَربًا من جُموحِ الخيال تنوءُ به القُوى الأرضيةُ الراسخةُ، وقد أجمل أهدافَ جماعتِه في أمرين، فقال لإخوانه: "واذكروا دائمًا أن أمامَكم هدفين أساسيين:

الأول: أن يتحررَ الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.

الثاني: أن تقوم في هذا الوطنِ الحرِّ دولةٌ إسلاميةٌ حرةٌ، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبِّق نظامَه الاجتماعي، وتبلِّغ دعوتَه للناس.

أما وسائل تحقيق هذه الأهداف فترتكز في مجموعها على تكوين الفرد المسلم؛ تكوينًا حقيقيًا يشمل جميع جوانبه العقَدية والفكرية والنفسية والجسدية والعبادية، وعلى كتِفِ ذلك الفردِ تؤسَّس الأسرةُ المسلمةُ، ومن مجموع ذلك يتحقق إصلاحُ المجتمعِ والدولةِ، بإذن الله..".

ولم يغفُل الإمامُ "البنا" عن دورِ المرأة المسلمةِ، فجعل من أهم أقسام جماعته قسم (الأخوات المسلمات)، يزكِّي نفوسَهن، ويستهدف تربيتَهن؛ لتتحققَ المرأةُ المسلمةُ بصحيح إسلامِها، وتكونَ أمًا صالحةً تُؤتَمن على تربية جيل النصر المنشود، وعُنصُرًا فاعلاً ومؤثرًا في مجتمعها، وهو الذي أسس مدارسَ (حراء) لتعليم الفتيات- في وقت كان تعليمهن في مصر أمرًا يُثير الاستغراب- ولتعلُّمهِن حِرَفًا يكتسبْن منها، وبنى دارًا للتائبات- منذ بداية تأسيسه الجماعة في الإسماعيلية- لتصحيح مسار النسوة اللائي انحرفَتْ أخلاقهن، وساءت سيرتُهن.. وأمضى الإمام "حسن البنا"- رحمه الله- حياتَه مدافعًا عن حق الأمة في الحرية السياسية، وحقِّها في التعبير عن نفسها، واختيار قادتها وأولي الأمر فيها، وأنَّ النظام النيابي هو أقربُ النظم إلى الإسلام.. أما الاستقلال عن الاستعمار بكافة أشكاله- السياسي والاقتصادي والعسكري والفكري- فكان حجر الزاوية في رؤيته السياسية، وقد مرَّ بنا أنه جعل تحرير الوطن الإسلامي كلِّه من كل سلطان أجنبي أولَ أهدافه العامة.

ولقد حدد الإمام الغاية والهدف والوسيلة، والغايةُ دائمًا هي الأصل (الله غايتنا)، فهذا أصل الأعمال، وهي القوة التي تدفع إلى الطريق، يقول الإمام: "مصدر تحديد هذه الغاية هو الإسلام، فهي تتجلَّى في كتاب الله وسنةِ رسولهِ، والتزامُنا بها هو انتسابٌ لأسمى مهمةٍ، فهو- سبحانَه- غايتنا الأصيلة، وأساسُ ومحورُ صلاتنا وأعمالنا، وهذا مصدر عزتِنا وقوتِنا، وليس بعد ذلك عزةٌ ولا قوةٌ" (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

وعن المهمة يقول: (أيها المسلمون، عبادة ربكم، والجهاد في سبيل التمكين لدينكم، وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أدَّيتموها حق الأداء فأنتم الفائزون، ومن أوصاف أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- أنهم رهبان بالليل، فرسان النهار) (المرجع السابق)، ثم يتحدث عن ضرورة إيقاظ الأمة من الغفلة التي سيطرت عليها، فيقول: "علينا أن نوقِظ الأمةَ من غفلتها، وأن نقفَ أمام هذه الموجةِ الماديةِ الطاغيةِ، ونستعيدَ مجدَ الإسلامِ.

الإمام "البنا" وقضية فلسطين

إنه شهيدُ هذه القضية، وقد كانت عنده- ومازالت عند جميع (الإخوان) في العالم- قضية الإسلام الكبرى، وهي- كما قال-: "قلب أوطاننا، وفلذة كبد أرضنا، وخلاصة رأسمالنا، وحجر الزاوية في جامعتنا ووحدتنا، وعليها يتوقف عزُّ الإسلام أو خذلانُه"، وكأنه يخاطبنا اليوم، ويعيش معنا، رضى الله عنه.

فالعصابات الصهيونية- ومن ورائها أمريكا- حوَّلت قضية فلسطين مع عصابات يهودية إلى معركةٍ كبرى، وقد تجسَّد الصراع بين قُوى الشرِّ والظُلم من ناحية وأهل فلسطين العزَّل من ناحيةٍ أخرى، ولم يكن الإمام غافِلاً عن حجم المتاعِب التي ستأتِي من التصدِّي لهذه القضيةِ، وكان يقولُ: "ريحُ الجنةِ تهبُّ من فلسطين"، ويقول: "إن (الإخوان المسلمين) لَيعلمون أن دعوتَهم عدوةٌ للاستعمار؛ فهو لها بالمرصاد.. وعدوةٌ للحكومات الجائرة الظالمة؛ فهي لن تسكت على القائمين بها.. وعدوةٌ للمستهزئين والمترفين والأدعياء، من كل قبيل؛ فهم سيناهضونها".

ولقد اهتم الإمام وإخوانه بقضية فلسطين؛ فدفعوا بشبابهم لمواجهة الصهيونية، ونازَلوهم في كل مكان، وقدموا الشهداءَ الأبرارَ، وهم دائمًا على استعداد لو أتيح لهم أن يواجهوا الصهاينة في فلسطين، وما كانوا ليتخلَّفوا عن هذا الواجب وتلك الفريضة.

لماذا اغتيل الإمام الشهيد

لقد اغتيل الإمام "البنا" في 12 فبراير سنة 1949م والأمة كلها أحوج ما تكون إليه، ودخلت جماعتُه في محنةٍ طويلةٍ عصيبةٍ، فما وَهَنَ رجالُها وما ضُعُفوا وما استكانوا، بفضل الله وتوفيقه، وكانت دماءُ الإمام الشهيد- الذي قُتل في أكبر شوارع القاهرة، ومُنع الناسُ من تشييعِ جنازتِه؛ فما حمل جثمانَه الطهور إلا نساءُ بيتِه- أعظمَ تأثيرًا في أصحابِه من ألفِ خُطبةٍ يلقيها وألفِ رسالةٍ يكتبُها، وكما قال الشهيد "سيد قطب"- رحمه الله-: "إن كلماتِنا تظلُّ عرائسَ من الشمعِ حتَّى إذا مِتْنا في سبيلها دبَّت فيها الروح، وكُتبتْ لها الحياةُ"..

إن الرجل- الذي أرعَب الاستعمار الغربي الصهيوني- لما أعلن أنه سيمضي إلى الجهادِ في فلسطين على رأسِ الآلافِ من أصحابه، كان لابد أن يختفِيَ من على مسرحِ الأحداثِ؛ كي يُتاحَ للاستعمار العالمي حظٌّ من البقاءِ؛ وكي يُكتب للصهيونية العالمية احتلالُ أرضِ فلسطين وغيرها؛ وكي يُعاد تشكيلُ خريطة المنطقة العربية والعالم الإسلامي على النحو الذي خطَّط له الاستعمار وأعوانُه؛ ولينفسح السبيلُ أمامَ الانقلاباتِ العسكرية المتتالية، التي دفعت إلى سُدَّة الحكم في عالمنا العربي بأنظمةٍ عسكريةٍ مستبدةٍ..

لقد استُشهد الإمام "البنا" والدنيا كلها أهونُ شيء عندَه.. إمام قد أضنته العبادة الخاشعة، وقيامُ الليل الطويل، والأسفارُ المتلاحقة في سبيل الله.. لقد عرفتْه المنابر في جميع مدنِ مصر وقُراها، وهو يُرشد الأمة إلى الله بصوته الرَّخيم، ويجمعُها في ساحة الإسلام، ويؤلِّف بين القلوب.. لقد واجَهَ المادِّية والإلحاد والاستعمار بكل ألوانه، وحولَه الأبناءُ من شبابِ الصحوةِ واليقظةِ الإسلاميةِ، الذين ملأَ قلوبَهم حبُّ الإسلامِ والاستمساك به؛ ولذلك خرجَ من الدنيا تُشيِّعه الملائكةُ.. خرَج محمولاً على أكتاف بناتِه.. لم يستطع أحد- من شدة الإرهاب- أن يبكي عليه، ولم يترك تراثًا ماديًا، وهو في الثالثة والأربعين من عمره، رضي الله عنه وأرضاه.

وفي ذكرى موكب البطولات والشهداء والرجولة الفذَّة، نقول: يخطئ من يظن أن وسائلَ القمعِ والتضييقِ وإحصاءِ الأنفاسِ تُفلِح في إبعاد التيار الإسلامي عن الحياة، فهذا فهمٌ خاطئٌ لا ينطبق على هذه الدعوة؛ فهي كلمة الله، وإن المؤمنين بها لا خيار لهم ولا عذر لهم في تركِها والتخلِّي عنها.. إن هذه الدعوة لابد أن تنطلق من حيث لا يحتسب الذين يضيِّقون عليها، وتمضي إلى غايتها، بإذن الله.

إن دعوة الإسلام في القرن العشرين رفع لواءَها "حسن البنا"- المدرس الفقير- تحت قيادة الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- (الرسول قدوتنا)، وأقام جماعة الإخوان المسلمين، التي استطاعت أن تقاوم العواصف وأن تثبت أقدام رجالها- بإذن الله- رغم المحن والابتلاءات..

رحم الله الإمام الشهيد "حسن البنَّا"- مؤسسَ هذه الجماعة، وواضعَ نظريات العمل الإسلامي- رحمةً واسعةً، وجزاه عن المسلمين خيرَ الجزاءِ، وتقبلَه في الصالحين هناك.. في ظلِّ العرش.. في مقعد صدقٍ.. عند مليكٍ مقتدرٍ.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

المصدر