شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر ( 5 )

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر ( 5 )

تنشر نافذة الفيوم الجزء الخامس من مذكرات د. عبدالمنعم أبوالفتوح والتي نشرتها جريدة الشروق تحت عنوان : " عبد المنعم أبو الفتوح : شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر " ، وها نحن نقدم للقارئ الجزء الخامس من هذه المذكرات الهامة : -

الاتصال بالإخوان مرة أخرى

في عام 1974 بدأ خروج قيادات الإخوان المسلمين من السجون، وبدأ الحديث بيننا كقيادات للعمل الإسلامي في الجامعة يزداد حول الإخوان ، وكان السؤال الذي يتردد بيننا: هل سيلحق الإخوان بنا أم سنلحق نحن بهم إذا أرادوا أن يعودوا لنشاطهم مرة أخرى، أم سيستمر كل منا مستقلا عن الآخر من دون علاقة تنظيمية بيننا؟ وإذا قبلنا بالارتباط بهم فهل سندخل في جماعتهم ويكونون هم قادتنا أم سيدخلون معنا ونكون قادة الحركة الجديدة باعتبارنا القادة الحقيقيين في ميدان العمل فيما هم أصحاب تاريخ فقط؟

وبدأنا نفكر في هذا الأمر جديا وكان معنا في هذا التفكير الأستاذ محمد حسين عيسى الداعية المعروف في مدينة الإسكندرية، ولم يكن – أمد الله في عمره- مرتبطا – وقتها- بالإخوان، ولكنه كان يأتي إلينا في الجامعة كداعية.

وكان يشارك في الحوار عدد من قيادات الجماعة الإسلامية وأذكر منهم الإخوة محمد إسماعيل وأسامة عبد العظيم (وهم من دعاة التيار السلفي الآن) والإخوة محمود غزلان وحامد الدفراوي وإبراهيم الزعفراني وخالد داوود.

ومن المؤكد أيضا أن الإخوان كانوا يتابعون حركتنا ولكن من بعيد؛ وكان دافعهم إما الإعجاب بهذه التي نشأت من رحم الغيب دون أب لها أو تنظيم يخط لها الطريق، وأذكر أن الدكتور محمد عبد المعطي الجزار (وهو أستاذ في الطاقة الذرية)، ذكر لي أنه حين خرج من السجن، وكان قد اعتقل شابا وقضى فيه سنوات طويلة، كان يمر في الجامعة فيرى مظاهرات ومسيرات ضخمة ورايات إسلامية، فكان يقف من مكان بعيد يشاهدنا ونحن في المظاهرات والمسيرات نهتف ونهلل ونكبر، وهو لا يصدق ما يشاهده وما يراه من شباب إسلامي يتفجر حماسة وثورة، وكنت كثيرا ما ألاحظه وهو يراقب المشهد، ثم أتابعه وهو ينصرف ويلتف حول كلية الآداب حتى يصل إلى كلية العلوم التي عاد للعمل بها.

وقد حكي لي بعد ذلك أنه كان منبهرًا بما رآه، لأنه كان يتصور هو وإخوانه في السجن أنهم حين سيخرجون من السجون لن يجدوا دينًا ولا إسلامًا ولا شبابًا بهذا الحماس ولا حتى امرأة محجبة!

أما أول اتصال مباشر بيننا وبين الإخوان بعد خروجهم من السجون فكان مع الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله، فوجئت به ذات يوم يرسل لي من يبلغني بطلبه اللقاء، وكان قد حدد محل أحذية في شارع قصر العيني مكانا للقاء!... كان الرجل حريصا إلى أقصى حد على سرية هذا اللقاء، فاختار أن يكون بعيدا عن بيته وبيتي، واختار هذا المحل وكان مالكه من الإخوان ، ويبدو أنه كان يريد التمويه على لقائنا تحسبا لوجود من يراقبنا فكان يأتي بالأحذية لأقيسها ويأتي للأستاذ كمال أيضًا بمثلها، ودار الحديث طيلة لقائنا ونحن على هذه الحال نقيس الأحذية!!

كان الأستاذ كمال يظن أنه مراقب من قبل الأمن، ولم يكن قد مر على خروجه من السجن الكثير، ولم يرد أن يكتشف الأمن ولا أي شخص كان تلك العلاقة بينه - وهو من الإخوان - وبين مسؤول الحركة الطلابية آنذاك، لقد كان يخشى من أن أي ربط مبكر بين الجماعة التي تمثل خصما تاريخيا للنظام وبين الحركة الإسلامية الجديدة من شأنه أن يعجل بضرب الحركة الإسلامية مجددا. وقد كانت هذه الهواجس الأمنية مبررة في حق شخص مثله قضى عمره سجينا بسبب انتمائه لجماعة الإخوان.

الأستاذ كمال السنانيري

حين أتذكر لقاءنا الأول لا أتمالك نفسي من البكاء، فقد كان لقاء مؤثرا وعاطفيا إلى أبعد الحدود، وكان كلامه وروحه وكل ما فيه جديدًا بالنسبة لي، كنت أمام رجل قضى من عمره عشرين عاما في السجون ثم خرج وهو مازال مشغولا بقضية الإسلام والدعوة إلى الله! وكان يتفجر حماسا في شرح فكرته والتأكيد على الاستمرار فيها واستكمال ما بدأته الجماعة... كان لكلامه وقع السحر... وكان بالنسبة لي قدوة عثرت عليها بعدما كدت أفتقدها... كان حضوره في وعيي كحضور هؤلاء الذين كنا نقرأ عنهم في السيرة النبوية، الذين عُذّبوا وأُوذوا وصبروا على البلاء في سبيل تبليغ دعوة الله .

لقد كان الأستاذ كمال السنانيري بالنسبة لي رمزا للدعاة والمجاهدين الذين يجب أن نتخذهم قدوة ومثلا. وكان مما زاد تأثيره فيّ وجعلني أجله وأحترمه أنني لم أشعر وهو يحدثني أنه جاء يفرض علينا سيطرته أو حتى وجهة نظره، رغم فارق السن بيننا وعمره الطويل في الجهاد والمحنة... كانت مثل هذه الروح هي التي جعلتنا نحب هؤلاء الناس حبًا عظيمًا خاصة بعدما التقيت بالأستاذ عمر التلمساني رحمه الله.

بين يدي الدخول إلى الإخوان

كان هذا لقاءنا الأول الذي مازال يحضرني ويؤثر في إلى لحظة كتابة هذه الذكريات... ثم كان لقاؤنا الثاني في بيته… وبعد ذلك تعددت لقاءاتي بقيادات الإخوان التاريخية... التقيت الحاج عباس السيسي القيادي البارز في الإسكندرية… كان لقائي به طريفا وأقرب للمغامرة التي تستحضر فيها روح الجهاد والعمل السري... فقد التقي بي في مكان مظلم بعد أن انتقلت من مكان إلى مكان حتى انتهينا إلى بيت أحد الإخوان في مدينة رشيد قريبا من الإسكندرية، وحين دخل هذا الأخ ليقدم لنا الشاي وسمع صوتي وأنا أكلم الحاج عباس السيسي ، كانت المفاجأة أنه يعرفني وأعرفه، وكان هو صلاح الجعفراوي، الداعية والناشط الإسلامي في ألمانيا الآن، ودار بيني وبين الحاج عباس نقاش طويل حول مستقبل العمل الإسلامي وكان يسعى إلى إقناعي بضرورة انضمام الجماعة الإسلامية إلى الإخوان.

ثم كانت لقاءاتي بشيخي ومعلمي الأستاذ عمر التلمساني، وهو كان أكثر الذين أثروا فيّ وعلموني وكانوا سببا في اقتناعي بدخول جماعة الإخوان المسلمين والبيعة لهم، وهي البيعة التي تلتها بيعة معظم قادة الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة وجامعات مصر ، كما تعدّدت اللقاءات معه ومع غيره من الإخوان وبالذات الحاج مصطفي مشهور والحاج أحمد حسنين والدكتور أحمد الملط.. رحمة الله على الجميع.

لماذا الإخوان وليس غيرهم؟

  • وقد ظللنا نلتقي عامًا تقريبًا بعد لقائي بالأستاذ كمال السنانيري في حوار مستمر للإجابة على سؤالنا المحوري: يا ترى من الذي سيستوعب الآخر؛ نحن الشباب أم هم الشيوخ؟

كانت هذه القضية مثار نقاشات طويلة بيننا كقيادة في الجماعة الإسلامية الناشئة، وكان الحوار يدور بين إعجاب بتاريخ هؤلاء الناس واحترام لجهادهم وبذلهم وتضحياتهم وبين بعض مآخذنا عليهم، بحكم تكويننا السلفي المتشدد، تتعلق بما رأيناه تحللا من الالتزام بالسنن الظاهرة كاللحية والهدي الظاهر، وبعض الأمور الأخرى التي رغم بساطتها كانت تسيطر على رؤيتنا في تقييم الأشخاص وتقديرهم.

وأشهد أن هؤلاء الذين قضوا زهرة العمر في السجون وضاع منهم الشباب كانوا أكثر منّا طاقة وحيوية، وكانت لديهم أرواح وثابة لا تفتر عن العمل في سبيل فكرتها.

كانوا حريصين على استيعابنا لدرجة أنهم كانوا يتحاملون على أنفسهم ولا يواجهوننا بما يؤذينا أو يخالفنا رغبة في أن يوصلوا إلينا أفكارهم... وحين علموا أن أمر اللحية والالتزام بالهدي الظاهر سوف يريحنا أطلقوا لحاهم… وقليل منهم من عارضنا في هذه القضايا الفرعية وفي مقدمتهم الأستاذ عمر التلمساني رحمة الله عليه الذي كان يصر على التزام فضيلة الصراحة والشجاعة في مواجهة المختلفين معه حتى في الأمور الثانوية… وكان يناقشنا – مثلا – في قضية اللحية وكيف أنها ليست فرضا ويصر على ذلك …وقد استفدت منه كثيرًا في هذا الأمر.

كان الأستاذ عمر التلمساني يتميز بسعة الصدر والقدرة على الحوار والنقاش، وكنا معه نسمع لأول مرة من يقول لنا: لا تأخذوا كلامي أمرًا مسلّمًا به، ولكن اقتنعوا أولا!... لقد كان هذا كلامًا جديدًا على أذهاننا، فاحترمنا فيه تلك العقلية المتفتحة، وحين اختلفنا معه في مسألة سماع الموسيقى وأتينا له بالأدلة على حرمتها ناقشنا بهدوء وطلب منا أن نسمع كلامه إلى آخره، وقال إنه يقصد السماع المباح… لقد فتح الرجل أعيننا على أن القضايا الفقهية التي كنّا نظنها نهائية مطلقة فيها نظر، فكان رحمه الله يواجهنا في مثل هذه القضايا بشجاعة، دون خشية من نفورنا من الإخوان .

لقد كان لنا حضور كبير وانتشار هائل بين الطلاب والشباب في ذلك الوقت، وكنا نتميز بإنكار الذات والنقاء والإيثار والتجرد، وتلك المعاني الأخلاقية كانت بارزة في كل أفراد الجماعة الإسلامية بشكل واضح جدًا، حتى إنه لم يرد على ذهني استنكار أن نترك القيادة للإخوان فيكونون هم القادة للحركة الإسلامية ونكون نحن الأتباع، وأحسب أن هذا كان شعور معظم إخواني أيضا في الجماعة.

حين بدأنا لقاءاتنا مع الإخوان وازداد احتكاكنا بهم، من خلال دعوتهم للمحاضرات والندوات، أسرتنا شخصيات قادتهم فكان لها الأثر الأكبر في قرار الانضمام لجماعتهم فيما بعد، كانوا متواضعين منكرين ذاتهم أشد الإنكار، حتى إن رجلا كبيرا في السن مثل الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – كان يرفض ركوب التاكسي حتى لا يكلفنا ما لا نطيق ويصر على أن يركب وراء أحدنا الموتوسيكل حين كنا نستضيفه في محاضرة أو ندوة.

لقد ظلم الرجل كثيرا ... وكان دوره الدعوي يخفي وراءه شخصا بالغ الرقة والطيبة. وقد قيل عنه إنه المسؤول الحقيقي للجماعة وأن الأستاذ عمر التلمساني كان مجرد واجهة، ولم يكن هذا صحيحًا على وجه الإطلاق، فكثيرًا ما كنت أرى الأستاذ عمر يلزمه ببعض الأمور فكان ينفذها في الحال ملتزما بما يقوله المرشد العام أو يفوضه فيه. وهذا الفهم الذي تبادر إلى أذهان البعض عنه هو بسبب أن الأستاذ مصطفى -رحمه الله- كان ذا شخصية حركية تنفيذية تنظيمية، لا يحب الظهور في الأعمال العامة كثيرًا ولا يجيدها.

كذلك تأثرت بالأستاذ محمد العدوي وما لمسته فيه من إخلاص، وقد كان لبعض توجيهاته تأثير بالغ في حياتي... هو الذي قال لي ذات مرة:" إن العمل لوجه الله لا يجوز أن يختلط بالمصالح الشخصية سواء المادية أو الأدبية"...، وحين رفضت الجامعة تعييني بعد التخرج قابلني وسألني عن أحوالي، ولما أخبرته أنني أعمل بالطب الرياضي رحب بذلك ثم قال لي:" إياك أن يعرض عليك إخوانك التفرغ للجماعة وتترك عملك مقابل مرتب فتقبل بذلك".

فقلت له : إن هذا ليس خطأ أو حرامًا.

فرد عليّ قائلا: "إن جمعك بين عملك الوظيفي وبين عملك الدعوي أفضل من ذلك عشرات المرات، وإن لهذا فوائد لا حصر لها... وهو الذي سيجعلك تقول رأيك لوجه الله دون تردد"... وقد كان لنصيحته هذه أثر وفضل سأظل أذكره له إلى أن ألقى الله.

لقد كانت أعمار قادة الإخوان المتقدمة عناصر ترجيح في مسألة الانضمام للإخوان ، فقد كانوا في أواخر العقد الخامس والعقد السادس من أعمارهم تقريبًا، وكنا نحن في أوائل العقد الثالث.

وأهم ما حسم قضية العلاقة بالإخوان خبرتهم في العمل الإسلامي وجهادهم وتاريخهم وصبرهم على المحنة؛ إذ لم يكن أمام أي منصف أو مخلص متجرد إلا أن يقدر هذا التاريخ لهؤلاء الناس... أما مسألة الاختلاف بيننا في بعض الأمور الفقهية الفرعية، فقد اقتنعنا تدريجيا أن هوة الخلاف سوف تضيق بمرور الوقت.

في الوقت الذي بدأ الاتصال بيننا وبين الإخوان والتباحث في شأن مستقبل علاقتنا معهم كان أبرز القيادات التي تتعامل معنا الأستاذ كمال السنانيري، الذي كان أعلى المسؤولين في الإخوان الذين اتصلوا بنا، والحاج أحمد حسنين ، ثم الأستاذ مصطفى مشهور ، الذي تميز عن الجميع بقدراته في العمل العام وإلقاء المحاضرات والدروس وهو ما جعله في صدارة الصورة …وجميعهم من قادة النظام الخاص.

استقر أمرنا أخيرا وبعد أخذ ورد على الالتحاق بصف الإخوان ، وأن تكون قيادة الجماعة الإسلامية في أيديهم، وقد رجحنا إيجابياتهم على سلبياتهم من وجهة نظرنا آنذاك.

عمر التلمساني

لقد كان للأستاذ عمر التلمساني تأثير كبير على جيلنا وعليّ شخصيا خاصة في بداية الاتصال بالإخوان والنقاش بيننا حول الانضمام للجماعة.

لقد كان الأستاذ عمر شخصية اجتماعية وليس حزبيا... ولم يكن يميز في تعاملاته بين الإخوان وبين غيرهم من خارج الإخوان... كما لم ينشغل رحمه الله – مثل آخرين – بما كان بين الإخوان وبين الخصوم الذين آذوهم وعذبوهم في السجون، لقد كان يحثنا دائما على النظر لمستقبل الدعوة مع أننا كنا متحفزين للانتقام منهم وكنا نستطيع ذلك، إلا أنه بذل وسعه لمنعنا من ذلك بل ودفعنا إلى عدم الانشغال أصلا بهذه القضية، ولا أذكر طوال الفترة التي لازمته فيها أنه ذكر ما حدث له أو للإخوان في السجون من تعذيب وترويع، حتى لا يحفزنا على الانتقام والثورة... وأحسب أن ذلك يعود لشخصيته النقية المتسامحة ذات التكوين الصوفي الرباني.

لقد كان من الصعب أن تطفو مشاكل الستينيات على السطح في ظل وجود الأستاذ عمر على رأس الجماعة، أو أن يجعل من الإقصاء والإبعاد منهجا في التعامل مع المختلفين مع الجماعة فكريا، فقد كان رحمه الله شخصية تجتمع عليها القلوب، حتى إنه أتى بالأستاذين صلاح شادي وفريد عبد الخالق المعروفين بالانفتاح وعينهما في مكتب الإرشاد جنبا إلى جنب مع المختلفين معهم من أبناء التنظيم الخاص مثل الأساتذة مصطفي مشهور وأحمد الملط وأحمد حسنين رحمهم الله جميعا، وأدار الأستاذ عمر مكتب الإرشاد بتنوعه وتعدد مشارب أعضائه واتجاهاتهم بحنكة واقتدار كبير.

أما بالنسبة لما ردده البعض من أن الأستاذ عمر التلمساني كان واجهة طيبة للمجتمع وللرأي العام يدير من ورائها قادة النظام الخاص الجماعة ويتحكمون فيها وأن الأمر والنهي كان بأيديهم فهذا غير صحيح على الأقل فيما رأيته وعرفته وقد كنت في منزلة قريبة من الرجل... فالإخوان كانوا قد تجاوزوا تماما موضوع النظام الخاص ولم تعد تعني كلمة التنظيم إلا تنظيم الجماعة المعروف والذي لا يوجد فيه خاص وعام... وكانت لديهم حساسية من كلمة النظام الخاص.

وأذكر أن الأستاذ عمر كان دائما ما يسأل: هل هناك أمر يحدث داخل الجماعة ولا أعرفه؟... وكنت أستغرب هذا السؤال ولم أكن أفهمه حتى علمت فيما بعد أنه كان يقصد بسؤاله إذا ما كان هناك شيء خاص أو سري يعده أصحاب التنظيم الخاص وهو لا يعلم عنه شيئا. وقد قلت له ذات مرة إن هذا الأمر لا يرد حتى على أذهاننا نحن الشباب وأنه لم يحدثنا فيه أحد من الإخوان .

المرشد السري!

مع نهاية حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 بدأ الإخوان في الخروج من السجن، وكان قد سبقهم الأستاذ حسن الهضيبي الذي أفرج عنه بسبب حالته الصحية. لم يكن في الجماعة خارج السجن إلا عدد قليل فلم يكن حول المرشد إلا عدد قليل يحيط به ويلزم صحبته وهم من يمثلون هيئة مكتب الإرشاد من الإخوان الكبار مثل الدكتور أحمد الملط والحاج حسني عبدالباقي والشيخ مرزوق وهو من قدامى الإخوان وكان يقطن حي حدائق حلوان جنوب القاهرة وكان يقال عنه إنه المرشد السري!

وسبب تسمية" المرشد السري" أن الأستاذ حسن الهضيبي كان إذا تغيب لظرف عن الحضور، كان يُنيب عنه الشيخ مرزوق في المسؤولية عن إدارة الاجتماع. فلما توفي الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله طلب الإخوان من الشيخ مرزوق – وكان ضريرا- أن يتولى مسؤولية المرشد حتى يتم اختيار مرشد جديد للإخوان ، فرفض الرجل أن يكون المرشد، ولكن مع إصرارهم تولى تلك المهمة المؤقتة، على أن يكون القائم بأعمال المرشد وليس المرشد العام .

لم يكن قادة الإخوان الكبار وخاصة أعضاء المكتب يتصورون أن يظلوا هكذا دون مرشد للجماعة، وكان حديث البيعة حاضرا في أذهانهم) من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة الجاهلية) فكان لابد لهم أن يبايعوا أحدًا مرشدًا عامًا للإخوان ، ومن ثم فقد كانوا يأخذون البيعة للمرشد دون أن يكون هناك مرشد حقيقي للجماعة. وقد رفض بعض الإخوان - خاصة خارج مصر - أن يبايعوا لمرشد سري دون أن يعلموا شخصيته، وأذكر أن ممن رفضوا هذه البيعة داخل مصر الأخ الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد الحالي للجماعة، فحين ذهب إليه أعضاء المكتب ليأخذوا منه البيعة وسألهم عن شخص المرشد وقالوا له إنه سر غير معروف رفض أن يبايع... وقد أخبرني بهذه الرواية الدكتور أحمد الملط رحمه الله.

ومن هنا جاءت قضية المرشد السري التي استمرت حتى عام 1975 ، ففي هذه الفترة اشتد الجدل في قضية المرشد وكان لابد أن يظهر للناس من هو المرشد فاستقر رأي أعضاء المكتب على بيعة الأستاذ عمر التلمساني مرشدًا، باعتباره أكبر الإخوان سنًا، فقد كان هو عضو مكتب الإرشاد الوحيد قبل اعتقالات 1954 التي عصفت بالجماعة.

كان الإخوة الذين اختاروا الأستاذ عمر يمثلون مكتب الإرشاد المؤقت، فلم يكن أحد منهم عضوا في مكتب الإرشاد الرسمي قبل عام 1954 إلا الأستاذ عمر التلمساني ، فلم يكن أمامهم إلا اختياره رغم الاختلاف في منهجية التفكير فقد كانوا من رجال التنظيم الخاص ولديهم اختلافات مع منهج الأستاذ عمر، لم يكن قد أفرج عنه وقت تشكيل مكتب الإرشاد المؤقت، فلما خرج بعد ذلك بويع مرشدا، وأعيد تشكيل المكتب ثانية.

لم أكن قد رأيت الشيخ مرزوق إلا مرة واحدة في بيته حتى شهدت جنازته بعد ذلك رحمه الله .

المصدر : نافذة مصر