مذبحة المنشية (2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذبحة المنشية(2)

بقلم د محمد عباس


مقدمة

عبد الناصر بعد إطلاق الرصاص في المنشية

لا تصدقوا حرفا مما أكتب.. ولا تستمعوا لكلمة مما أقول..نعم..لا تصدقوني.. ولا تستمعوا إلي.. لكن :اقرءوا أنتم.. واعرفوا..من أي مصدر شئتم اقرءوا.. ولكن ضعوا في اعتباركم أن القراءة ليست لمكافحة سآمة أو للقضاء على ملالة.. بل هي بحث محاط بالشوك واللظى.. بحث عن سبيل يبتعد بنا عن خراب الدنيا وخزي الآخرة.. قراءة من يدرك أنني دفعته إلى شفا جرف هار فيكاد ينهار به في نار جهنم.. وليحذر .. فالله لا يهدي القوم الظالمين..لم يعد بعده أي واحد منكم يملك رفاهية الاعتذار بالجهل..لم تعد جاهلا..

فإما أن تثبت أن ما أقوله صواب فتتبع الحق أو أن تثبت أنه خطأ فتثبت على ما رأيته حقا.. لم تعد جاهلا .. فاقرأ..نعم .. إنني أضع الاختيار أمامكم واضحا لا لبس فيه.. فالصراع الذي يحيطنا على مستوى العالم - ويكاد يلتهمنا- إنما هو صراع بين الإسلام والكفر.. وليس ثمة من سبيل غير الإسلام.. ففيه النجاة وبه النجاة..

صراعنا في فلسطين و العراق وأفغانستان والشيشان والفليبين .. بل وصراعنا في الأمة التي تمزقت إلى أوطان هو الصراع بين الإسلام والكفر..و أن أي رايات زائفة تحمل أسماء كالديموقراطية أو تحرير المرأة أو الاشتراكية – سابقا – أو السلام – الذي لا يعني إلا الاستسلام.. كل هذه الرايات لن توصلنا إلى غاياتنا ولو كانت صادقة فما بالكم بها إن كانت مزيفة.

لقد سمعتم جميعا أن من ينادون بها هم أول من يكذبها.. ولعلكم قرأتم ما كتبه د . مأمون فندي ( لاحظوا أن حرف الدال هو الأول من كلمة دكتور، وهو الحرف الأول أيضا من كلمات كداعر وديوث).. أقول لعلكم قرأتم تحذير"د." مأمون فندي للغرب من تطبيق الديموقراطية في بلادنا و إلا اختار معظم الناس الإسلام.. ووقفوا موقفا معاديا لأمريكا..

د. مأمون فندي نصح الغرب بأننا نحتاج إلى فترة طويلة نتدرب فيها على الديموقراطية كي لا تؤدي ممارستها إلى ظهور أنظمة حكم معادية للغرب..

كشف "د ." فندي الأمر..

نفس الموقف تتخذه شخصيات كثيرة هزيلة على فضائياتنا.. الأمر كله ترويض كترويض العبيد وفتيات الرقيق الأبيض..

هذا الترويض يكشف لنا أن الخيانة لها ألف وجه وللنفاق ألف طريق..ويظل ما يقوله سيد قطب حكما وعلامة وحكمة:

"كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فانما هو من عملاء يهود، سواء عرف ام لم يعرف، أراد ام لم يرد، وان اليهود سيظلون في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها… حقيقة العقيدة الايمانية والشريعة الايمانية، فهذا هو الطريق، وهذه هي معالم الطريق".

نعم..حكما وعلامة وحكمة:

"كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فانما هو من عملاء يهود، سواء عرف ام لم يعرف، أراد ام لم يرد، وان اليهود سيظلون في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها… حقيقة العقيدة الايمانية والشريعة الايمانية، فهذا هو الطريق، وهذه هي معالم الطريق".

ولولا أن أشق عليكم أو أصيبكم بالملالة لأخذت أكرر الفقرة السابقة للشهيد العظيم حتي نهاية المقال ولما كتبت سواها..كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود.. وهو موظف لذلك.. حتى لو بدا في الظاهر أبعد ما يكون..الاشتراكية جزء من ذلك.. والرأسمالية جزء من ذلك و العلمانية والقومية وتطوير المناهج والحداثة و..و..و..

الفتن التي لا يكف صلاح عيسى عن إشعالها جزء من ذلك..والفرعونية التي لا يكف جمال الغيطاني عن محاولة إحيائها جزء من ذلك..والفلوكلور جزء من ذلك..وفاروق حسني بمسرحه وعبثه وشذوذه جزء من ذلك..والشعر النبطي والمناداة بالعامية جزء من ذلك..اقرءوا يا ناس..

يقول "غوته" شاعر ألمانيا الأشهر، أن من لم يعرف تاريخ الثلاثة آلاف عام الأخيرة سيعيش في العتمة.. و أنا أيها القارئ لا أطلب منك أن تقرأ تاريخ ثلاثة آلاف عام.. ولا حتى ثلاثة أعوام..ما أطلبه منك فيما نحن فيه .. هو أن تقرأ تاريخ عامين ونيف.. من يوليو 1952 إلى أكتوبر 1954.

اقرأ تاريخ هذين العامين فقط.. فبدون قراءته لن تفهم أبدا ما حدث وما يحدث وما يمكن أن يحدث.. وبدون قراءته نسقط في تمجيد الطواغيت بل وتأليههم.. نسقط في الحرام قبل أن نسقط في الخطأ.. ونسقط في الدنيا قبل أن نسقط في الآخرة.

اقرءوا يا ناس..

لكنني ألفت نظركم إلى تعديل هين في طريقة قراءتكم.. تعديل هين لكن أثره خطير خطير.. ولست أدعي أنني أعلمكم.. ولا أنني – حاشا الله – أعلم منكم .. لكنها أخطاء وقعت فيها وأشفق عليكم – بالحب – أن تقعوا فيها مثلي.. أخطاء يمنّ الله علي أن هداني إلى اكتشافها كي أستغفر عنها قبل أن أموت.. وجزء من استغفاري أن أقول لكم..

ولست بمدع أنني أملك ناصية الحقيقة.. إنما أتعلق بأهدابها راجيا الله أن يهديني إليها.. ومدركا طيلة الوقت أن أفكاري مهما كانت إنما هي أفكار بشر.. وأن كل ابن آدم خطاء.. و أن أول الناس دخولا للنار يوم القيامة عالم ومتصدق وشهيد.. لم يصدقوا الله فحبط عملهم..نعم.. لست بمدع أنني أملك ناصية الحقيقة..

إن القارئ الذي يتابعني يعلم كم شغف قلبي محبة بالشهيد سيد قطب.. لكن هل أستطيع أن أزكيه على الله؟.. هل أستطيع أن أقسم أنه في الجنة؟؟.. ثم أن القارئ الذي يتابعني يعلم كيف تحولت مشاعري تجاه عبد الناصر من الحب إلى البغض.. كان الحب في الحالين لله.. وكان الكره في الحالة الأخيرة أيضا لله.. لكن.. هل أستطيع برغم كرهي أن أقسم أنه في النار؟.لا أدعي أنني أملك ناصية الحقيقة إذن..ولست أدعوكم – بطريقتي التي أنصحكم بها - في القراءة أن تفعلوا مثل العلمانيين الأشرار والحداثيين الأقذار حين يكتبون النص المراوغ وهم يقصدون عكسه..لا أقصد ذلك

إنما أقصد أننا شعب بلغ فرط تقديسه للكلمة المطبوعة أنه يتلقاها في معظم الأحيان تلقيا سلبيا.. ولا أقول أنه يفترض فيها الصواب المطلق.. لكن ما أزعمه هو أن القارئ إذ يقرأ لا يتخيل أن كاتبه المفضل يكذب عليه.. يكذب عامدا متعمدا..

ما أطلبه هو أبسط درجات التدقيق في المادة المقروءة.. أن يسأل القارئ نفسه: هل هذا الكاتب مؤهل للكتابة في هذا الموضوع؟ وهل هذا المنشور معقول؟ وهل هناك سند لما يقوله هذا الكاتب..و..و..

طبقوا هذه الطريقة يا قراء وستكتشفون كم أن النتيجة مذهلة.. وبعد قليل سوف أعطي بعض النماذج على كتاب من الصف الأول مثل محمد حسنين هيكل ومحمد عودة..وتلك نقطة هامة جدا يا قراء..

فهناك من يكتب وهو يبحث عن الحقيقة.. أو يكتب ليوصل إلى الناس ما اكتشفه من حقيقة.. ومثل هؤلاء الناس تهون عليهم الدنيا وما فيها مقابل كلمة صدق..لكن هناك في الجانب الآخر من يكتب ليخفي الحقيقة.. وهذا النوع بالغ الخطر.. لأن القارئ يأتمنه فلا يظن السم مدسوسا فيما يقدمه له..والأمثلة كثيرة.. أكثر بكثير مما ينبغي ويجب.. أمثلة لا يعد ولا تحصى حتى لقد أصبحت هي القاعدة ودونها استثناء..

هذا النوع الأخير لا يأبه للحقيقة أبدا.. إنه يضع أمامه مهمة – يأخذ بالطبع ثمنها- ثم يحاول طول الوقت أن يزيف المنطق ويطمس الحقيقة حتى يزين الباطل الذي يدعو إليه.

إنه يشبه من تستأجره ليصبغ لك جدارا بلون معين.. فإذا صبغه باللون الذي تريده نقدته الثمن و إلا فلا ثمن..أمثال هؤلاء يحدد لهم الطاغوت أو ال CIA– مباشرة أو متخفية في صحف كالأهرام والشرق الأوسط.. يحدد لهم على سبيل المثال – أنهم يريدون أن يبدو فلانا هذا شخصية مهيبة مقدسة لا يجرؤ أحد على الاعتراض على ما تقول : على سبيل المثال طه حسين الذي اعتذر بجهله عن كفر كتاباته.. و أحمد لطفي السيد القطري اللا إسلامي محدود الأفق صاحب فكرة الحرس الجامعي والذي لم ينجز أي إنجاز في حياته سوى أنه عمّر طويلا.. ثم يسمونه أستاذ الجيل.. فإذا سألت: أستاذه لماذا أو في ماذا أو في أي فترة انهارت الفرية على الفور.. مثل تلك الأسئلة البسيطة هي ما أطلبه منكم يا إخوتي في الله.. لا تأخذوا الكلمة المكتوبة كبديهية أو مسلمة..

بنفس الطريقة يحدد صاحب العمل – على سبيل المثال- : نريد أن نجعل من سيد قطب شخصا إرهابيا يتبرأ الناس منه فإذا ما اضطروا للاعتراف بعبقرية عمل من أعماله فلابد أن يحاط ذلك بسباب وادعاءات لا أول لها ولا آخر تقوم بوظيفتها في التنفير والتحذير..في هذا الإطار يسند إلى كاتب جنسي الكتابة عن عالم دين أو مجاهد..وهذا يشبه أن آتي بملحد كي يقيم حركاتك في الصلاة.. إنه لا يفهم..ولا يمكن أن يفهم..

هل يصلح أن يكلف وحيد حامد – علي سبيل المثال بكتابة تستعرض أفراح الروح ومباهجها بدلا من مباذل الجسد وعوراته..لا يستطيع ولا يفهم..كاتب كعادل حمودة أيضا.. يستطيع الكتابة عن عبد الناصر ومحمد نجيب .. كما يستطيع الكتابة عن بنات العجمي.. لكنه لا يستطيع الكتابة عن سيد قطب.. فسيد قطب يتكلم لغة أخرى و إن تشابهت حروفها مع لغة عادل حمودة!!..

نعم.. عادل حمودة – بالمفهوم الصحافي- بارز وناجح.. لكنه لا يصلح للكتابة عن الشهيد.. على أننا في نفس الوقت لا نطالب بمنعه أو منع غيره من الكتابة.. لكننا نطالب المايسترو الشيطان الذي يكرس حالة الانهيار والابتذال في الأمة ألا ييسر كل السبل لمن يكتب في صالح الطاغوت الفاجر ويضع كل العراقيل لمن يكتب للحق.. وللحقيقة .. ولله..

هل لاحظتم – على سبيل المثال ذلك الفاجر الكافر بوش وهو يغمض عينية عن ترسانة إسرائيل النووية ويعتم وهو و أجهزة إعلامه عن أي خبر عنها.. وفي نفس الوقت تضخم الشائعات حول إيران..نفس المنطق ..والطاغوت في بلادنا يفعل نفس الشيء.. أحيانا بشكل فج مباشر.. و في أحيان أخري بأشكال خفية بالغة التعقيد..

ومن الطرق أيضا أن نأتي بشخصية بالغة الجدية فنتجاهل جدها كله ونحوّلها إلى مثار سخرية.. فالسخرية سوف تسقط هيبة الشخصية ومصداقية ما تقول.. والشيوعيون يملكون مهارة خاصة في هذا الصدد.. وهذه المهارة لا تحتاج إلى أي خبرة.. إنك تستطيع أن تأتي بحثالة المجتمع، وبأكثر من فيه سفالة ووقاحة، تستطيع أن تأتي بهم .. وتدعهم يقفون على مفترق الطرق.. يسخرون ويهينون أكثر الناس احتراما في المجتمع..


مصائب صلاح عيسى

لقد ذكرت لكم في المقال الماضي كيف أن صلاح عيسى يستكتب الآن واحدا ينكر الإسراء والمعراج.. ومصائب صلاح عيسى كثيرة جدا.. أكثر مما يجب.. وهي لا تعد ولا تحصى..واحدة منها كانت مؤلمة لي بشكل خاص.. فقد كانت متعلقة بعلامة شغفت به حبا هو العلامة الضخم الهائل محمود شاكر..

ولست أدعي أن محمود شاكر معصوم أو مبرأ من الخطأ.. و لكن.. إن جاز لمن ينسب إليه عيوبا فإن هذه العيوب كلها تأتي في إطار بالغ الجدية.. قد يقول من يقول أنه شديد الصعوبة.. و أنه شديد الاهتمام بالتراث.. أو أنه شديد الاعتداد بنفسه.. أو.. أو.. أو..لا يرى صلاح عيسى هذا كله..

و إنما يؤلف واقعة سوقية مبتذلة في مقال له بعنوان: تفاحة اللواء حمزة البسيوني.. وهي مقالة تحتاج إلى مناهج التحليل النفسي لتحليل كمّ هائل من الفضلات تجمع داخل فضاءات صلاح عيسى حتى ملأها.. ولمن لا يتذكر محمود شاكر أقول أنه كان كعبة للمفكرين العرب.. ومزارا لكبار المثقفين الحقيقيين في مصر.. وأنه كان السبب في خروج الباقوري من الوزارة.. فقد كان يحضر ندوة في بيته.. وكان العلامة محمود شاكر يهاتف الكاتب يحيى حقي ويلعن عبد الناصر.. وكانت المباحث تسجل .. و أخذ على الباقوري أنه لم يرد.. فعُزل.. و أُمر أن يلزم بيته.. فسجن نفسه فيه.. خمسة أعوام.. والواقعة تتلخص في أن الشيخ محمد شاكر كان مع صلاح عيسي في السجن الحربي.. وكان يحتفظ بحذائه معه بعد أن رفض تسليمه في الأمانات.. أما السبب فهو أنه يريد – عند الإفراج عنه – ألا يتعطل ولو ثوان يقضيها في ارتداء الحذاء..

لا شئ أكثر من ذلك عن الهائل الضخم محمود شاكر..لا شئ سوى أن المايسترو الشيطان يريد أن يجعل محمود شاكر نموذجا للتنفير والتحذير..ولعل القارئ لاحظ أنني كتبت أكذوبة صلاح عيسى حول محمد شاكر..

نعم.. قلت محمد وليس محمود.. فهكذا كتبها صلاح عيسي..وذلك يدل فيما يدل أن الرجل ينفذ أمرا لم يأبه حتى بدراسة تفاصيله فلم يعلم أن الذي سجن هو العلامة الأشهر محمود شاكر .. أما محمد شاكر فكان أبوه.. وكان شهيرا جدا.. وكان وكيلا للأزهر.. وكان الملك فؤاد قد استقبل طه حسين صبيحة يوم جمعة – بمناسبة سفر طه حسين إلى بعثة في باريس- وحانت صلاة الجمعة.. وأراد خطيب مسجد القصر الإشادة بالملك فقال: لقد جاءه الأعمى فما عبس وما تولي.. وأخذت مشاعر الشيخ محمد شاكر ( والد العلامة محمود والعلامة أحمد) .. وبعد أن أكمل الصلاة صرخ في المصلين: " أيها الناس: صلوا خلفي فصلاتكم باطلة" واضطر الملك لإعادة الصلاة مما يعتبر اعترافا ضمنيا بخطأ خطيب مسجده .. وكان من المقربين.. ثم نشبت أزمة سياسية كبرى استغرقت أكثر من عام حين أصر الشيخ محمد شاكر على استتابة خطيب مسجد القصر أو إقامة حد الكفر عليه.. وقد توفي الشيخ محمد شاكر منذ زمان طويل.. ذرية بعضها من بعض.. فابناه هما العلامة الشهير محمود شكر و أحمد شاكر المحدث الأشهر.. كل ذلك لا يهم.. المهم فقط هو دس كلمة سخرية تنفر من الرجل..

هل تريدون يا قراء معرفة بعض من أصل الوباء؟.. أصل الوباء هو سوقية وابتذال الضباط الأحرار.. أصل الوباء هو جنون و إجرام جمال سالم..

ولكن لنعد إلى صلاح عيسى..فقد قلت لنفسي لولا هوان الدنيا على الله لما حمل رأس نبي هدية إلى بغي ولما كتب صلاح عيسى عن محمود شاكر بهذه السخرية..في نفس المقال يتحدث صلاح عيسى بمشاعر مشبوبة عن اللواء حمزة البسيوني زاعما أنه يشبه أباه – وما أبعد الشبه – لكن أسلوب التحليل النفسي يكشف لنا أن صلاح عيسى ظل أحد عشر عاما يعمل في وظيفة متوسطة بقسم شرطة السيدة زينب.. وكان فيما يبدو يعاني كثيرا من امتهان الضباط له.. معاناة جعلته يتمنى – في العقل الباطن لو أن أباه لم يكن من البسطاء.. و إنما لواء.. حتى لو كان هذا اللواء حمزة البسيوني.. لا تأخذوا المكتوب على علاته إذن ولا تصدقوه ولا تصدقوه.. فإن معظمه اليوم مسموم..!!


الإبداع الشيطاني المجرم صناعة محلية أم كان مستوردا

نعم يا قراء..هبوا أن معظم ما أكتبه وما أقوله لكم غير صحيح..هبوا أن عشره فقط هو الصحيح.. هبوا أن عشر معشاره هو الصحيح..عشر معشاره..1% منه..فهذا الـ1% رهيب جدا وفظيع جدا.. لقد قلب الشيوعيون الدنيا بسبب قتيلين لهما ماتا من التعذيب..قتلى المسلمين من التعذيب لا يقلون عن مائتين وخمسين في عهد جمال عبد الناصر وحده.. مائتين وخمسين حالة لا نحسب فيها من اغتيلوا ومن خطفوا ومن أخفيت أجسادهم ولا شهود على قتلهم..مائتان وخمسون قتلوا داخل السجون.. و أخفيت أجسادهم.. ودفنت دون غسل – وهذا صحيح لأنهم شهداء – ودون صلاة عليهم..

وبلغت الفظاعة بالنظام أنه كان يبلغ أهل الشهيد أنه هرب.. وكان الهروب كارثة أخرى.. فهو يعني تجميد الميراث وعدم استحقاق المعاش وترك الزوجة كالمعلقة..بلغت الفظاعة أنهم كانوا بعد إبلاغ أسرة الشهيد بهروبه، يأخذون بعض آله رهائن حتى يسلم نفسه..


وثمة سؤال لن نحرص الآن على الإجابة عليه..هل كان هذا الإبداع الشيطاني المجرم صناعة محلية أم كان مستوردا..نفس السؤال نسأله عن من تحكم المحاكم غير الشرعية بإعدامهم..ففي عهد الطاغية مبارك وحده أعدم خمسة وسبعون بأحكام المحاكم العسكرية.. وهو عدد يفوق كل أحكام الإعدام في تاريخ مصر منذ بداية التاريخ المكتوب إلى عصر مبارك.


مائتان وخمسون قتلوا من التعذيب في عهد بطل القومية العربية..مائتان وخمسون..من الشيوعيين قتل اثنان..وقلب الشيوعيون الدنيا فتداعى الشرق والغرب تعضيدا لهم وفضحا للنظام حتى لقد توقف التعذيب تماما..قلب الشيوعيون الدنيا أيضا لأسباب أقل من هذا بكثير ..قلبوها ذات مرة – على سبيل المثال- لأن إدارة السجن القاسية ترغمهم على إنشاد نشيد الله أكبر..!!

إسماعيل صبري عبدالله .. واحد من أكثر الشيوعيين احتراما – و معذرة للجمع المجازي بين الشيوعي والاحترام.. فهما لا يجتمعان – رأي أن الهتاف قهر لإرادتهم.. وعاضده زملاؤه وحدثت مشكلة في السجن فرفعوا الأمر إلى قيادة الحزب الشيوعي، فناقشت القيادة البدائل المختلفة:فأفتت أن يهتف من في الصفوف الأمامية من المعتقلين ولا يهتف من في الصفوف الخلفية، وبديل آخر أن يحرك الجميع شفاههم دون صوت، وبديل ثالث أن يرضخوا.. وبديل رابع أن يترك الأمر لكل معتقل يتخذ فيه قراره على مسئوليته..

أنا لا أمزح أيها القارئ ومعك العذر إن ظننتني أمزح..لكن الحكاية كلها وردت في كتاب أصدرته دار نشر حكومية..والكتاب يفضح تعذيب المعتقلين..ويذكر أسماء الجلادين المجرمين.. واحدا واحدا..مجرما مجرما..زكريا محيي الدين وشمس بدران وصلاح نصر وحسن عليش و أحمد صالح وحسن طلعت والفريق الدجوي والفريق هلال وحمزة البسيوني وحسن المصيلحي و إسماعيل همت وحسن منير وعبد اللطيف رشدي ومرجان إسحاق ويونس مرعي والسيد منصور والصول مطاوع وصفوت الروبي وعبد السلام المتربس وعبد الصادق المجنون وعابد عبدالله و أبو الوفا دنجل ودومة وعبد الحليم عوكل والأومباشي عبد اللطيف والأومباشي حسن عليوة..و.. و.. و..وكل هذا في كتاب نشرته دار نشر حكومية..أنا لا أكذب أيها القارئ ومعك العذر إن ظننتني أكذب..فكيف تنشر دار نشر حكومية كتابا عن التعذيب وتفضح فيه الجلادين..و أين؟..في مصر!!..

نعم.. قلت لك الحقيقة كلها و أخفيت عنصرا واحدا..فالكتاب يتحدث عن المعتقلين الشيوعيين .. وعنوانه " مذكرات معتقل سياسي" " صفحات من تاريخ مصر""السيد يوسف""الهيئة العامة للكتاب..تراجعت إدارة السجن عن إرغام الشيوعيين على الإنشاد فانتهت المشكلة..


مع الإخوان المسلمين لم يكن هناك حل وسط أبدا

وتحت جلد السياط وضرب الشوم والجهد المميت كان لابد أن يغنوا: " يا جمال يا مثال الوطنية............. بنجاتك يوم المنشية"..وكانوا يلبسون المستشار الجليل حسن الهضيبي ملابس مميزة كي يكون المايسترو للإخوان الهاتفين..ولم تصدر أي دار نشر حكومية أي كتاب عن تعذيب الإخوان وعن ضحاياهم الذين يفوقون ضحايا الشيوعيين مئات المرات..ولا أي مؤسسة عالمية احتجت على ما يحدث لهم..كانوا كسيد شهداء الجنة.. الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعنهم.. كانوا لا بواكي لهم.. في كتابه القيم "ذكريات لا مذكرات" يقول عمر التلمساني

" قد لقى الإخوان أوقاتا عصيبة على يد أعوان فاروق وعبد الناصر والسادات بصور ما كان يتصور إنسان أنها تقع من آدمي في مشاعره وقلبه ذرة من يقين أو إيمان . لقد آذى هؤلاء الناس الإخوان إيذاء الذي يثأر لعرضه ممن انتهكه أو لأبيه أو أبنه أو أخيه ممن قتله حقا لقد كان إيذاء دونه شراسة الضباع ودموية النمور وفتك الذئاب والأسود في أشد الغابات ظلمة وحلوكة لماذا ؟ لا يمكن التعليل .أهم غير مسلمين ؟ لم نفهمهم بذلك أهم أوفياء لأسيادهم ؟ إن الوفاء والوحشية لا يلتقيان في قلب واحد !! أهم مأجورون من خصوم المسلمين ويزداد أجرهم كلما أفحشوا في تعذيبهم ؟؟ لم نرمهم بهذه الجريمة المنحطة الخسيسة . إذن لماذا يفعلون ذلك ؟ علمه عند ربى وقد تكشف الأيام من الأسرار ما كان خافيا" .

ويواصل الشيخ الجليل:

"كانت المحكمة التي عقدت برئاسة جمال سالم وعضوية حسين الشافعي وأنور السادات أعجوبة الأعاجيب في دنيا المحاكم لم تكن محاكمة لأن الأحكام كانت مقررة ومعروفة قبل صدورها . ولم تكن مناقشات واستيضاحات ولكن مساخر وإهانات فقد طلب من الأخ يوسف طلعت رحمه الله أن يقرأ الفاتحة بالمقلوب . بربك هل سمعت بمثل هذه ا لمساخر المضحكة المبكية . وكان أي متهم ينكر ما ذكر على لسانه لأنه صدر تحت إكراه التعذيب يرفع المرحوم جمال سالم الجلسة ويحيل المتهم إلى رجال السجن الحربي ليروا رأيهم فيه فيعودون به بعد قليل عادلا عن إنكاره معترفا بما جاء في أوراق التحقيق . ذلك لأن المتهم المسكين ظن أنه أمام محكمة حقيقية وأنه ليس أمام محكمة هزلية مأساوية فإذا به والمحكمة نفسها تعيده إلى الزبانية الذين يعودون به معترفا بكل ما لم تجترمه يداه . وكان جمال سالم يسأل عن بض الآيات في سورة " العمران " وهو يقصد " آل عمران " ظنا منه بأن " آل " هنا أداة تعريف !".


المستشار عبد الله عقيل يضيف إلى الصورة مذكرا بما لحق بالأستاذ يوسف طلعت من تعذيب: حيث كسروا عموده الفقري وذراعه وجمجمته ولم يبق مكان في جسمه إلا وأصيب بكسر أو جرح أو رضّ، حتى إن الأستاذ المرشد حسن الهضيبي حين حاكمه جمال سالم تحدث الهضيبي عن التعذيب الذي أصاب الإخوان، ونفي جمال سالم، فردَّ عليه الأستاذ الهضيبي: اكشفوا على يوسف طلعت لتروا مقدار التعذيب الذي أصيب به وغيره من الإخوان في سجونكم.

كان هو يوسف طلعت وإخوانه هم الذي قادوا قافلة الإمدادات للجيش المحاصر في "الفالوجة"، والذي اخترق خطوط اليهود بكل جرأة وشجاعة ، وكان جمال عبد الناصر وجماعته من المحاصرين في الفالوجا.

يقول الأستاذ كامل الشريف في كتابه القيِّم "المقاومة السرية في قناة السويس": "إن من أقوى تشكيلاتنا السرية لمقاومة الإنجليز كانت في منطقة الإسماعيلية التي يرأسها داعية مُحنّك، عظيم الخبرة هو الشيخ محمد فرغلي، كما يساعده مغامر جسور هو يوسف طلعت، وعدد من الشباب المسلم الواعي. إن يوسف طلعت جندي بالفطرة، ومحارب بالسليقة، وعصامي بمعنى الكلمة، كان ذا عقلية مُبتكرة خلاقة لا تعجز عن إيجاد حلٍ لأي قضية، أذكر حين كنا في فلسطين أننا غنمنا بعض قنابل المورتر من العدو، ولم نكن نملك المدفع اللازم لها في ذلك الوقت المبكر من الحرب، فوقفنا عاجزين، ولكن يوسف طلعت طلب منا أن نُمهله، فتركناه ونحن لا ندري ماذا ينوي، وبعد أيام قدَّم لنا إسطوانة فولاذية مُثبتَّة على حامل أرضي، ولم تكن لامعة دقيقة الصنع كالمدفع الأصلي، ولكننا استخدمناها في ضرب مراكز اليهود القريبة بقنابل المورتر وأحدثت أثرها الفعال.

ومرة وقفنا عاجزين أمام مشكلة مستعصية هي: كيف نستطيع أن نُلقي المفرقعات على استحكامات اليهود من مكان بعيد؟ فكان يوسف طلعت هو أول من فكَّر في صنع "راجمة ألغام" مبتكرة ساعدتنا كثيراً على قذف ألغامنا دون أن نتعرض للإصابات.

وقف هذا البطل، هذا المجاهد، هذا الغضنفر والأسد الهصور أمام الجاهل المغامر البلطجي المجنون جمال سالم صاحب أشهر : "هأااااااو" في تاريخ مصر حيث قيلت للمرة الأولى في التاريخ على منصة قضائها الذي دنسه هذا المعتوه (سوف يبكي الدموع دما بعد أقل من عامين حين لفظوه).. وكان عبد الشيطان يحاكم عبد الله..

كان البطل الشهيد يعلم أنه ماثل أمام المحاكمة الهزلية، التي عقدتها الحكومة العسكرية له لتحكم عليه بالإعدام، و قال له جمال سالم ـ رئيس المحكمة ـ: هل تعرف تقرأ الفاتحة بالمقلوب؟ قال يوسف طلعت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأشار بيده إلى جمال سالم رئيس المحكمة عند قوله "الشيطان الرجيم"، ثم قرأ الفاتحة على الوجه الصحيح، فَكُبِتَ الرئيس.

وحين سأله المهرج المجنون : إنت بتشتغل إيه؟ وأجاب البطل الشهيد: نجار، فقال الرئيس: كيف تكون رئيس جهاز فيه أساتذة الجامعة وأنت نجار؟ فأجاب: لقد كان سيدنا نوح عليه السلام نجاراً وهو نبي، فكُبِتَ مرة أخرى وسكت، وحين سأله: لماذا لا تستطيع الوقوف؟ قال له يوسف: اسأل نفسك. يقول المستشار العقيل:

"تأزَّم الموقف بين الإخوان والحكومة العسكرية في يناير، وتتابعت الأزمات، واشتدت في أكتوبر عام 1954م بعد افتعال حادث المنشية الذي دبَّره عبد الناصر بتخطيط المخابرات الأمريكية واقتراحها للتخلص من الإخوان، كما ذكر ذلك حسن التهامي في مذكراته، وهو من أعوان عبد الناصر ومسئولي المخابرات عنده، وسمع يوسف طلعت بالحادث من إخوانه فقال على الفور: "عملها عبد الناصر"، لأنه لو كان للإخوان صلة بالحادث، لكان يوسف طلعت أوَّل من يعرف به، باعتباره رئيس النظام الخاص في الجماعة".


محاكم الشيطان

في تلك الفترة أذهل الرعب الناس و عقل ألسنتهم..

" الناس صامتون.. وإذا تحدثوا كان حديثهم همسا أو أقرب إلى الهمس.. لا يجرؤ أحد أن يجهر بالقول إلا إذا كان تشنجا في مدح العهد ونظامه، بالخطب التي تلقى في هيئة التحرير وفروعها، أو بالمقالات التي تنشرها الصحف الخاضعة للرقابة الصارمة.. وهؤلاء الخطباء والكتاب، ليس لهم أى تأثير إلا في محيطهم الخاص.. هيئة المنتفعين بالثورة."

"انطوى الناس على أنفسهم وتقوقعوا في جحورهم، وكأنهم نمل دخلوا مساكنهم، حتى لا تسحقهم الثورة وجنودها. لقد نجحت محكمة الثورة في أداء رسالتها بما أصدرته من أحكام في تخويف الناس و إلقاء الرعب في قلويهم.. ليس بسبب الأحكام التي أصدرتها ضد السياسيين القدامى، فقد كان واضحا أن محاكمة هؤلاء كانت محاكمة سياسية.. فقد كان قضاة المحكمة، ثلاثتهم، أعضاء بمجلس قيادة الثورة، والمجلس هو الذي يقدم المتهمين للمحاكمة، وممثلوه هم الذين يصدرون الأحكام، ثم يشتركون في التصديق عليها، ولهم أن يوقفوا تنفيذ الحكم ولو كان بالسجن خمسة عشر عاما ( وتلك مهزلة أخرى.. فالقانون لا يعرف سجن 15 سنة مع إيقاف التنفيذ.. فإيقاف التنفيذ يشمل أحكام الحبس وليس أحكام السجن!! م ع ) .. فالثورة هنا هى الخصم والحكم معا.. لقد كان ذلك إجراء وقائيا تحمى به الثورة نفسها من أية ثورة مضادة قد تجد من هؤلاء السياسيين العون المادي أو الأدبي أو كليهما. ولكن الذي أرهب الناس، هي الأحكام التي صدرت ضد بعض الصعاليك الذين اتهمتهم النيابة بالخيانة والتجسس، وصدور الحكم بإعدامهم شنقا.. والتصديق على هذه الأحكام فورا.. وتنفيذها في نفس اليوم."

لقد ظن بعض الناس وقتئذ أن هؤلاء الجواسيس كانوا ضحايا قدمتهم الثورة قريانا على مذبحها لإرهاب الناس حتى يعلموا أن الثورة قادرة على الاتهام والحكم والتنفيذ، وأن قولهم هو قول فصل، وما هو بالهزل.."

لعل القارئ قد لاحظ أن الفقرة السابقة كلها محاطة بعلامات التنصيص.. ولعله لاحظ أيضا أنني لم أذكر من القائل.. نعم..

هذه ليست أقوالي و إن بدت كذلك..

كما أنها ليست أقوال واحد من الإخوان المسلمين و إن تصورتم ذلك.. ليست هذا ولا ذاك..

إنها أقوال الأستاذ إبراهيم طلعت .. الوفدي الشهير..

وربما لا يكون هناك من هو أجدر منه بالكتابة عن العهدين.. فقد كان نجما في كليهما.. وكان صديقا حميما لجمال عبد الناصر.. وكان محل ثقته.. بنفس القدر الذي كان محلا لثقة مصطفي النحاس وأحمد أبو الفتح وفؤاد سراج الدين..(راجع مذكرات إبراهيم طلعت- أيام الوفد الأخيرة – مكتبة الأسرة.).

و إنني أورد أقواله هنا كي أنقل إلى القارئ الإحساس العام الذي كان يسري في الأمة كلها.. فلربما يوجد من ضعاف العقول والنفوس.. أو من ذوي الأرواح المعتمة .. من يستطيع أن يصر على مكابرته رغم كل ما أذكره من أسانيد وما أقدمه من حجج..

يتحدث إبراهيم طلعت عن محاكم الشيطان:

" .. حوكم ثلاثة آخرون. ثلاثة من الصعاليك هم (الفريد عوض ميخائيل، محمد عزت راغب و بولس مكسيموس سويحة).. التهمة خيانة عظمي لأنهم في غضون شهر سبتمبر 1953 وما قبله قاموا بالتجسس لحساب دولة أجنبية بأن أمدوها بتقارير ومستندات رسمية.

نظرت قضية هؤلاء الصعاليك الثلاثة في جلسة علنية استغرقت عشرين دقيقة فقط، تلي فيها الادعاء الموجه إلي كل منهم وإجابتهم عليه بالإجابة التقليدية: (غير مذنب) ليس لأحد من المتهمين محام يترافع عنه إلا المتهم الثاني محمد عزت. يترافع الادعاء مرافعة قصيرة خلاصتها أن الخيانة تتمثل في التجسس لحساب دولة أجنبية وإمداد هذه الدولة بالبيانات والتقارير والوثائق الرسمية . وثائق لها صفة السرية المطلقة، وأن اثنين من هؤلاء من الموظفين الذين ائتمنتهم الدولة على هذه الوثائق وكانت تحت أيديهم بحكم وظيفتهم، فخانوا الأمانة، وسلموا هذه المستندات، يوافق محامي المتهم الثاني على نظر القضية في جلسة سرية على أن تكون السرية نسبية يصرح له بالحضور فيها. ترفض المحكمة بطبيعة الحال، وتأمر بنظر الادعاءات المقامة علي المتهمين في جلسة سرية لا يحضرها أحد إلا المتهمون وسكرتارية الجلسة. وتنتهي المحاكمة السرية بأن يصدر الحكم غدا في جلسة علنية. وتنطق المحكمة بإعدام المتهمين الثلاثة شنقا في اليوم التالي، وتبدأ في نفس اليوم في محاكمة كريم ثابت.. المستشار الصحفي للملك فاروق.

في نفس اليوم الذي أصدرت فيه المحكمة الحكم على موكلي، تنفذ حكم الإعدام في المتهم الذي حوكم قبل موكلي بيومين، وكان قد صدر عليه الحكم بالإعدام قبل محاكمة موكلي بيوم واحد.. كما تنفذ حكم الإعدام علي هؤلاء الثلاثة الذين نظرت قضيتهم يوم النطق بالحكم على موكلي بعد يومين فقط من تاريخ الحكم عليهم.

وكانت الصحف تنشر صور هؤلاء المتهمين وهم يساقون إلي المشنقة في الغرفة السوداء (غرفة الإعدام بالسجن) لحظة تنفيذ الحكم.


جرائم الثورة مع غير الإخوان المسلمين

و الآن..لنترك إبراهيم طلعت والمحكمة المهزلة..لنتركهم إلى محكمة مهزلة أخري..ولندع صافيناز كاظم تروي لنا على صفحات مجلة الهلال – عدد يوليو 2002- بعضا مما جرى .. وصافيناز كاظم أيضا ليست من الإخوان المسلمين بل كانت أقرب ما يكون إلى الشيوعيين والصعاليك حتى أنها اقترنت في شبابها بالشاعر أحمد فؤاد نجم.. ثم هداها الله بعد ذلك..وليدرك القارئ أنني أحاصر الثورة بجرائمها مع غير الإخوان المسلمين..


تصرخ صافيناز أن الثورة ضحكت على الذقون ولم تزح الملكية بالشكل الكامل، ورفعت شعارات العدالة الاجتماعية ولم تحققها، ونادت بضرب الإقطاع وأعطته المبررات ليبدو مظلوما، وأصدرت القوانين الاشتراكية وخالفتها، ودعت إلى القومية العربية ونسفتها، وقامت أساسا لتحرير فلسطين ودحر الكيان الصهيوني، الذي لم يكن قد مر عليه سوى أربع سنوات حين قامت 23/ 7/ 1952، وتصحيح أخطاء وخيانات هزيمة العرب عام 1948، فلم تفعل شيئا سوى تدعيم ذلك الكيان بالانهزام أمامه في الحرب وفي اتفاقيات السلام معه، وضربت الهوية المصرية والعربية في مقتل حين سارت مع تيار العلمانية، فلم تبلغ بها شرقا ولا غربا، وإن خلخلت دعائم الروح الإيمانية وشجعت السفهاء على التقافز فوق أكتاف المؤمنين، والاهم أنها انتقدت تجاوزات " العسكري الأسود " و " البوليس السياسي" في العهد الملكي وابتكرت آليات في القهر والتنكيل بالمواطنين بدا معها ذلك العسكري الأسود وذلك البوليس السياسي ملائكة من نفحات الجنان !!..

وتواصل صافيناز كاظم الصراخ فبعد أقل من ثلاثة أسابيع على قيام الثورة يكشر الوحش عن أنيابه.. كان الناس يظنونه ملاكا.. فإذا به الشيطان الرجيم ذاته..

تصرخ صافيناز:مع التصعيد بزوال الغمة والبغي والقهر والفساد يقوم عمال مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج بمظاهرات ضد الإدارة التابعة ل "العهد البائد " يوم الثلاثاء 13/8/1952 بظن تأييد "العهد الجديد، ورئيسه الطيب البشوش (...) وتدق الفجيعة قلبي الصبي يوم عيد ميلادي 17/8/1952 بصدور أحكام بإعدام العاملين الشابين الفقيرين المعدمين، كحال معظم الشعب الحالم بالخلاص، القمرين خميس-18 سنة- والبقري 5، 19 سنة- وأبكى بانتحاب ولا أصدق ما يقال عن "خيانتهما"ل"الثورة".

وتنعى صافيناز الثورة :التف حولها الشعب مسقطا عليها كل أحلامه الثورية التي تشوق إليها طويلا خاصة بعد مرارة الهزيمة في فلسطين عام 1948. وفي غمرة الحماس الشعبي الذي تبنى حركة الضباط ولقبها ب "الثورة"- لأنه كان يريدها كذلك- لم يكن بوسع أحد أن يقف ليراقب بدقة مواقف هذه الحركة الجديدة، بل على العكس وافق الحماس الشعبي على أن يقوم- بوعي منه أو بلا وعى- بدور "المبرر" لكل الأخطاء التي ارتكبتها هذه الحركة منذ الشهر الأول لإمساكها الزمام في مصر، هذه الأخطاء التي وصلت في حالات إلى درجة الخطأ الفادح وفي حالات أخرى إلى درجة الجريمة النكراء.

لم يقف الشعب "الفرحان " ليناقش مفهومات ومدلولات شعار " الثورة البيضاء" الذي أطلقه الضباط على حركتهم ليتساءل ويقارن "بيضاء" على من و حمراء" على من و سوداء" على من فقد (...) تم رحيل الملك فاروق عن مصر في يخته المحروسة مودعا بكامل الاحترام والحقوق الملكية الواجبة له، ولم يمس كادر ملكي من أتباعه بشعرة أذى واحدة (...) وبعد أسبوعين فقط من تطبيق هذا السلوك المهذب "الحضاري" مع ملك مدان هو ونظامه بعديد من الجرائم ضد شعب مصر ومصالحه، قامت مظاهرات عمال مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج- ضد الإدارة الرجعية التي لم يكن قد تم تغييرها بعد من قبل حركة الجيش.

رفعت مظاهرات العمال شعارات " الحركة الجديدة" ضد الفساد والاستغلال، وهتف العمال بحياة القائد العام- محمد نجيب- وفتيته الثوار، وكان التصور أن هذا العهد الجديد" لابد وأن يتبنى مطالب العمال ويساندهم ضد الإدارة الرجعية، ولكن العجيب هو الذي حدث، إذ كشرت الحركة الجديدة صاحبة شعار الثورة البيضاء عن أنيابها وتحالفت مع الإدارة الرجعية وصدقت كل ادعاءاتها ضد العمال، وتم قمع المظاهرة- أو الهبة العمالية- من دون أي محاولة لتفهمها ودراسة بواعثها، وأقيمت فورا المحكمة العسكرية لمحاكمة العصاة، وتم تقديم ما يربو على 60 متهما للمحكمة وتم تحديد زعمائهم بشهود الزور والبهتان- باتهام العامل "محمد مصطفي خميس "- 18 سنة- والخفير محمد حسن البقرى- 3، 19 سنة (وهو يعول خمسة أطفال وأم معدمة تبيع الفجل وتكسب مليمين في اليوم)، وكان من بين المقدمين للمحاكمة أطفال في سن العاشرة والحادية عشرة "شاءت إنسانية المحكمة وعدالتها أن تحكم ببراءتهم رغم ثبوت جريمة سرقة بعض أثواب القماش عليهم "... (كما جاء في تقرير أحكام قضية عمال كفر الدوار الذي صدر عن إدارة القوات المسلحة 1952/8 برجاء الرجوع إليه لمن لا يصدقني لأنه وثيقة كاملة دامغة تساعدنا في فهم الطبيعة الفاشستية لهذه الحركة التي عبرت عن سياستها ضد الشعب المصري منذ الشهر ا لأول لقيامها).

في أقل من أربعة أيام تمت محاكمة هذا العدد الكبير من المتهمين، (من صميم الشعب الفقير صاحب المصلحة الحقيقية لقيام الثورة كما زعمت الشعارات)، وصدرت الأحكام بإعدام خميس والبقري والأشغال الشاقة المؤبدة وسنوات سجن أخرى على بقية المتهمين، وجُمع عمال المصنع كلهم في النادي الرياضي وأجلسوا حلقة كبيرة على الأرض حيث أذيعت فيهم الأحكام المرعبة من خلال مكبرات الصوت وسط طقس من الذهول الكامل تذكر فيه الوعي الوطني محاكمات دنشواى وشنق الفلاحين لصالح خاطر المحتل الإنجليزي وجنوده.


في الفترة نفسها حدث تمرد حقيقي بالصعيد معاد "للعهد الجديد" ومعاد لمصالح الشعب. قام بهذا التمرد "المسلح " إقطاعي اسمه عدلي لملوم، لم يكف هو وأمه عن كيل السباب أثناء محاكمته، ضد "الثورة" وضد الفلاحين، وحكمت عليه المحكمة بالمؤبد ثم خففته فيما بعد حتى تفسح له مكانا من رحمة شعارها "الثورة البيضاء"، ، (وتجدر الإشارة هنا إلى الإفراج الصحي الذي : حصل عليه عدلي لملوم بعد ذلك، كما تجدر ، الإشارة إلى أن محاكمته كانت حافلة بأقطاب المحامين، بينما كانت صرخات خميس والبقرى تذهب أدراج الرياح؟ هاتوا لنا محامى.. هاتوا لنا محامى.. يا ناس). وهكذا لم نر شعار"الثورة البيضاء"يشمل أحدا سوى الملك وأسرته وشقيقاته، ولم يتسع سوى لكل الفاسدين والمفسدين من سفاحي الشعب المصري حقا، من وزراء ورجالات وإقطاعيي العهد البائد والذي ظل يضيق ويعجز تماما عن رحمة كل أبناء مصر المخلصين من العمال والفلاحين والعلماء والقضاة وأصحاب الرأي. (أمثال الشهداء سيد قطب، عبد القادر عودة،(...) ..


وتواصل صافيناز كاظم:

هذه البداية لحركه 23 يوليو ننظر لها الآن ونستطيع أن نستشف فورا خلوها الكامل من أي فكر ووعى والتزام إيماني يعطى لها منطلقا ثوريا يحدد لخطواتها الطريق الذي تصعده متدرجة نحو غاية محددة آو رؤية تقدمية شرعية أو فلسفة إنسانية تحسم لا المواقف وتحلل لها الظواهر بحيث بمكن لها آن تفهم الفوارق الواضحة بين تمرد إيجابي للعمال وتمرد سلبي لإقطاعي متجبر، فلا تصل إلى قرارات تقتل بها أبناء الشعب المخلصين وتحافظ على حياة أعدائه..


وتصرخ صافيناز كاظم ويصرخ معها الكثيرون:

.. تستمر – الثورة- في ذلك على الدوام... منذ هذا الخلط الأول- (خميس وبقرى/ عدلى لملوم)- الواضح في مبدئية حركة الضباط، استمرت تلك (الحركة" في اتخاذ سياسة ذبح كل الاحتمالات الواعدة التي كان يمكن أن تشرئب مرة بين صفوف الشعب المصري لتحاسبها أو تناقشها أو تفضحها وتقول لها مكانك لقد خدعنا فيك ولست آنت آمل مصر ولا صيغة خلاصها ، حين بدأت الخلافات تقع بين أعضائها لم يكن بينهم، بطل أو شهيد، فالظاهر البادي أمامنا الآن أنهم جميعا كانوا سواء. (...) ولا أرى نفسي تأسف على محمد نجيب أو تفرح بانتصار جمال عبد الناصر عليه، فلا يوجد لدينا مبرر واحد يؤكد لنا أنه لو انتصر محمد نجيب وحاز السلطة بين يديه لما فعل الأفعال الديكتاتورية التي كانت النهج الذي اختاره عبد الناصر وبلوره وأجاده منذ انفراده بالسلطة عام 1954 معتمدا معه سياسة سرابية تغذي الأحلام وتداعب المشاعر، دون أن يجد أي حلم سبيله للتحقق على أرض الواقع..

نفس الواقعة يتناولها جمال حماد في بحث مستفيض على الشبكة العنكبوتية بعنوان : ثورة 23 يوليو فيقول:

تصرفت حركة الجيش إزاء هذا الموقف ( يقصد مظاهرات كفر الدوار ومحاكمة خميس والبقري) برعونة شديدة، تحت وهم أن هذه المظاهرات هي بداية أعمال مضادة ضد الجيش، وتشكل مجلس عسكري، برئاسة عبد المنعم أمين، عضو مجلس القيادة، في ذلك الوقت، في موقع الحادث ( عبد المنعم أمين وثيق الصلة بالمخابرات الأمريكية . م ع ) . وقد تشكل من حسن إبراهيم، عضو المجلس. والبكباشي محمد عبد العظيم شحاتة، والبكباشي أحمد وحيد الدين حلمي، والصاغ محمد بدوي الخولي، واليوزباشي فتح الله رفعت، واليوزباشي جمال القاضي .

( إنني حريص على إيراد الأسماء كي يحلق العار فوق الرؤوس والوجوه.. شاهت الوجوه.. م ع ).. كانت المحاكمة سافرة العدوان على حقوق المتهمين، فلم تتح لهم فرصة الاعتماد على المحامين، إلى الدرجة التي دفعت عبد المنعم أمين إلى مطالبة الصحفي، موسى صبري، الذي كان يمثل جريدة الأخبار، للدفاع عن العامل محمد مصطفي خميس، باعتباره حاصلاً على شهادة الحقوق . ويقول عبدالمنعم أمين إن مصطفي خميس قد ترافع عن نفسه مرافعة عظيمة، لمدة نصف ساعة ولكنهم أصدروا، مع ذلك، الحكم عليه بالإعدام هو ومحمد حسن البقري. وصدرت أحكام بالسجن على بقية المتهمين، الذين كان، من بينهم، صبي في الثامنة عشرة من عمره .

يؤكد جمال حماد أن خميس والبقري لم يكونا أعضاء في التجمع الديموقراطي أو الحزب الشيوعي.. وقد أثبت التحقيق، كما أشارت جريدة "الأهرام"، أن البوليس قد أطلق النار، قبل الشغب، مما استفز العمال، وإنه بذلك ينهار ركن أساسي في الجريمة؛ ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً. أمَّا صيحة مصطفي خميس، التي أطلقها، قبل إعدامه: "أنا برئ ومظلوم، أريد إعادة محاكمتي، إن محامي لم يطلب شهوداً وكان هناك اثنان شاهداني، وأنا ماشي". فقد ذهبت أدراج الرياح. وتؤكد هذه الصيحة قسوة المجلس العسكري، في معاملة المتهمين، وحرمانهم من حق أساسي، من حقوق الإنسان، هو توكيل المحامين.


عند مقارنة هذه الحادثة المجرمة بحادثة كفر الدوار بحادثة دنشواي نجد الفرق شاسعا: إن تلك الحادثة الثانية كانت بمناسبة مصرع جنود إنجليز، أما صاحبينا من الأبرياء فلم يمسوا أحدا بسوء، مهما بدر منهم خلال اعتصامهم. ومن جهة أخرى فإن حادثة دنشواي لم تمر مر الكرام، بل هزت الدنيا بأسرها على يد مصطفي كامل، حتى انتهى الأمر بإقالة اللورد كرومر الذي كان حاكما بأمره على البلاد. أما جريمة كفر الدوار فقد دفنت في مقبرة النسيان وراح دم الأبرياء هدرا.


أي كارثة دهياء كانت قد ألمت بالأمة فألجمتها بلجام من نار و أخرستها..أي كارثة دهياء..بعد ذلك بأعوام.. سوف يحاول كل مجرم اشترك في هذه الجريمة الشنعاء التنصل منها، الأمر الذي يؤكد بكل جلاء أنها كانت وصمة عار افتتحت بها الثورة المباركة مسيرتها. فقائد الثورة آنذاك، محمد نجيب، يقول في كتابه "شهادتي للتاريخ" إنه اضطر للتصديق على حكم الإعدام رغم اقتناعه ببراءتهما، بل وإعجابه بشجاعتهما، وذلك نزولا على الديموقراطية في مجلس قيادة الثورة، حيث إن البقية أجمعوا على إعدامهما. ونحن نقول من جهتنا أن لعنة الله على ديموقراطية تتسبب في إعدام الأبرياء.

محمد نجيب سيشرب بعد ذلك من نفس الكأس على يد من خضع لديموقراطيتهم كمصداق لقول الرسول الكريم: "من أعان ظالما سلطه الله عليه."

بعد ما يقرب من خمسين عاما نجد جريدة الأهالي تواصل نفس طريقة اليسار في تزوير الوقائع بطريقة تفترض أنها تخاطب قوما لا عقل لهم.. فتذكر في عددها الصادر في 12/4/ 2000 أن إعدام خميس والبقري كان ضد إرادة جمال عبد الناصر وأغلبية مجلس قيادة الثورة، خاصة يوسف صديق وخالد محيي الدين !! ولم تكلف الصحيفة نفسها عناء بيان من هم تلك الأقلية التي استطاعت أن تفرض إرادتها على الأغلبية، ومن بينهم جمال عبد الناصر رئيس الوزراء.. بل و أيضا محمد نجيب: رئيس الجمهورية، وكيف استطاعوا - وهم الأقلية - أن يفرضوا إرادتهم؟‍‍‍‍! .


لم يكن الأمر أمر الإخوان.. كان الوفد في البداية..

لم يكن الأمر أمر الإخوان أو مذبحة المنشية ولا السجن الحربي ..كان الأمر أمر وحش أسطوري ييتلع كل من يجده في طريقه يلتهم لحمه ويسحق عظامه..وحش أسطوري جائع للسلطة لا يردعه رادع وليس هناك حد ولا سقف لما يمكن أن يفعله للوصول إليها..وسبحان الله..لقد سلط على أمته قوة باطشة أخرستها فإذا بالجبار المذل المنتقم يسلط عليه ظالما جبارا يسحقه..لم يكن الأمر أمر الإخوان..كان الوفد في البداية..

ولنتأمل ما كتبه محمد عودة عن الأزمة بين الوفد والثورة..

محمد عودة..كاتب اشتهر بالاحترام.. بل إن الشيوعيين والقوميين يحاولن إحاطته بهالة من القداسة.. ولقد قرأت له أعمالا كثيرة.. لكنني لم أكن قد اكتشفت طريقة القراءة الحذرة التي حدثتكم عنها في بداية هذا المقال..كنت أقرأ لمحمد عودة و أنا واثق في صدقه ( لماذا.. لست أدري..!!).. ثم توقفت عن القراءة له منذ فترة حتى فاجأني موضوعه المنشور في مجلة الهلال منذ عام ونيف.. وفوجئت أن الرجل يكذب كذبا بواحا و أنه بكل هالاته المقدسة لا يختلف أبدا عن الآخرين إلا اختلاف جندي يكذب عن لواء يكذب.. لكن الكذب واحد..وهاهو ذا محمد عودة يحلل العلاقة بين الثورة والوفد في مجلة الهلال عدد يوليو 2002 قائلا :

" قرر قائد الثورة ( لم يصارحنا أي قائد: محمد نجيب أم جمال عبد الناصر) أن يحتفظ بالجيش سليما ونقيا للمهمة التاريخية وأن يسلم السلطة إلى أصحابها الشرعيين والذين أبعدوا ظلما، وذهب إلى سكرتير عام الوفد فؤاد سراج الدين وعرض عليه أن يسترد الوفد اعتباره وهيبته وأن يعود معززا مكرما إلى السلطة في حراسة الجيش الوطني وباسم الشعب الذي خرج عن بكرة أبيه يحتفل بالثورة التي حملت إليه الخلاص. سوف يعود حزب الأغلبية لينفذ كل برامجه التي أجهضها القصر والاحتلال وسوف لا يجرؤ أحد على إقالته أو عزله بخطاب من بضعة سطور. وعزز قائد الثورة، عرضه بالشعار الذي رفعته ا الثورة وحفلت به جدران العاصمة نحن نحمى الدستور. ولم يشترط أي شئ سوى قبول الإصلاح الزراعي " المعتدل " والذي ترك للملاك ثلاثين ضعف الأرض التي تركها القانون المماثل الذي صدر يومئذ في اليابان وعقد الاثنان أربعة اجتماعات طويلة، ثم طلب سراج الدين عرض الأمر على سلطات الحزب وهيئاته العليا ثم عاد في النهاية ليعلن اعتذاره عن قبول العرض وأن الحزب.."..

الحقيقة غير ذلك.. الحقيقة عكس ذلك.. فلماذا يكذب محمد عودة..

الكاتب الكبير الشهير لماذا يكذب؟.. هل هي الطبيعة الشريرة الخائنة التي فقدت الإيمان بالمطلق ولم تعد تؤمن إلا بالنسبي.. وفي النسبي لا توجد حقيقة.. يوجد فقط ما يفيدك وينفعك مهما كان الكذب الخسيس.. والآن.. لنعد إلى الأستاذ إبراهيم طلعت لنعرف موقف الوفد الحقيقي.. وليسمح لي القراء باستشهاد طويل من الأستاذ إبراهيم طلعت.. ليس دفاعا عن الوفد.. و إنما كشفا لكاتب من أكبر الكتاب القوميين.. وكشفا للكذب.. فقد كان إبراهيم طلعت وفديا صميما وكان في نفس الوقت صديقا حميما لجمال عبد الناصر..

يقول إبراهيم طلعت: اتصل بي جمال عبدا لناصر تليفونيا وطلب حضوري فورا إلى القاهرة لأمر هام فاضطررت للسفر يوم 10 أغسطس بعد الظهر وقابلت جمال عبد الناصر في منزله بالقبة وكان معه عبد الحكيم عامر وسألني عن البحثين اللذين طلبهما منى (تحديد ملكية الأراضي الزراعية، ومشروع استصلاح أراضى الواحات)، فقدمت له دراسة عن المشروع الأخير كنت قد حضرتها بمعاونة المرحوم المهندس الزراعي سيد عبد المنعم وهو صهر الأستاذ أحمد فؤاد فتناولها منى واطلع عليها بسرعة ثم قال لي: " المهم موضوع تحديد الملكية الزراعية" فقلت له إن هذا الموضوع ليس في حاجة إلى تحضير لأن جميع الذين نادوا به سواء بتقديم مشروعات بقوانين أو باقتراحات تضمنتها أبحاث أو كتب اقتصادية اتفقوا على الهيكل العام له وكل الاختلاف بينهم كان حول الحد الأدنى لما يمتلكه الفرد والأسرة وكيفية الاستيلاء على الزائد عن القدر المسموح به وهل يتم ذلك فور صدور القانون أو بعد مدة تحدد بنص في هذا القانون.

فأجابني.. المهم أنا عاوز القانون ده بكره (...) "..

ويسأل جمال عبد الناصر إبراهيم طلعت – متشككا- عن موقف الوفد من القانون..

يقول إبراهيم طلعت:

أجبته بحدة:

- سيبك من الكلام اللى بتسمعوه من المنافقين اللى بيجولكم كل يوم .. الناس بتوع كل عهد.. والوفد يمثل الأمة بكل طبقاتها! الفلاحين وأصحاب الأرض،. والعمال وأصحاب المصانع.. وإذا عارض الوفد في أي مشروع لصالح هذا الشعب فقد انتهى دوره السياسي وفقد نفوذه الروحي خصوصا بعد أن زالت السراي ونفوذها.. اضمن لي أنت على ماهر ومحمد نجيب وأنا أضمن لك موافقة الوفد! وسألني بهدوء: - طيب وفؤاد سراج الدين؟ وعندئذ انتفضت واقفا وقلت بحدة أكثر (كانت تسمح بها علاقتي بعبد الناصر قبل أن يعرفه الناس) . - اسمع يا جمال ، أنا مستعد أجيب لك موافقة فؤاد سراج الدين كتابة وأنا دلوقت بأتحدث باسم الوفد..

ويقوم الأستاذ إبراهيم طلعت و الاستاذ أحمد فؤاد ومعه الدكتور راشد البراوى بإعداد مشروع قانون بتحديد ملكية الأراضى الزراعية (...) وفي هذه الأثناء وافانا أحمد أبو الفتح ولم يمكث إلا بضع دقائق استأذن بعدها للانصراف وسرت معه قليلا حتى استقل سيارته وقال لي: - يا إبراهيم أنا خايف؟ وقلت له.. خايف من إيه؟ وأجابنى: ما أعرفش، إحساس عندى كل (اللغوصة) اللى بتحصل في البلد دى! وبعد الغروب بقليل كان مشروع القانون قد أعد بصورة نهائية، وأخذت صورة حرفية منه وتوجه أحمد فؤاد لتسليم الأصل إلى جمال عبد الناصر. واتصلت تليفونيا بجريدة المصري وطلبت التحدث إلى أحد المسئولين، وحدثني الأستاذ مرسى الشافعي وكان مديرا للتحرير وقلت له: " أوقف الطباعة" وهو تعبير صحفي عن حجز الصفحة الأولى لأنباء هامة، ولما سألني عن السبب قلت له أنا قادم في الطريق ومعي أكبر سبق صحفي شهدته الصحافة في كل عهودها إ! وبعد قليل كنت في جريدة المصري ومعي نص مشروع القانون. واتصل مرسى الشافعي بأحمد أبو الفتح وأيقظه من النوم وطلب منه الحضور، وحضر واطلع على نص المشروع وسألني: هل وزعت نسخ أخرى على باقي الصحف؟ وأجبته: - القانون من نسختين: الأصل عند جمال عبد الناصر، والصورة معك وهنا أمسك أحمد أبو الفتح بالقلم وكتب العنوان: (نص مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية الذي قدمه مجلس الثورة للوزارة لإصداره). وسار مشروع القانون إلى المطبعة، ومكثت بنفسي إلى ما بعد منتصف الليل أقوم بتصحيح البروفات، وسهرنا جميعا إلى الساعات الأولى من الصباح حتى صدرت جريدة المصري يوم 12 أغسطس منفردة بأهم سبق في تاريخ الصحافة.. وفي الساعة الخامسة صباحا انصرف المحررون إلى منازلهم وعدت إلى فندق الجراند أوتيل. ولم أنم إلا الساعة الثامنة صباحا بعد أن قرأت مشروع القانون كما نشر حرفيا. وحوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، فوجئت بأحمد أبو الفتح يحدثني، وعلمت أنه موجود ببهو الفندق وطلب منى النزول فورا. وارتديت ملابسي ونزلت على عجل، لأرى أحمد أبو الفتح واقفا في انتظاري ولم ينتظر أن أسأله عن سبب حضوره بل قال : - رحنا في داهية!! - ليه؟

قال:

- محمد نجيب كان يضع حجر الأساس لمبنى الإذاعة الجديد، وكان قد سبقه إلى مكان الاحتفال على ماهر رئيس الحكومة وكان في حالة عصبية وانفعال وأخبر محمد نجيب أن جريدة المصري تحاول الدس بين الوزارة ومجلس القيادة، وتساءل هل قدم مجلس القيادة للحكومة مشروع القانون المنشور في جريدة المصري؟ وأجاب محمد نجيب بالنفي القاطع. وقد صرح في الميكروفون للصحفيين الموجودين أن ما نشر بجريدة المصري صباح اليوم عن مشروع قانون بتحديد ملكية الأراضي الزراعية غير صحيح، وأنه من خيال هذه الجريدة وأن مجلس القيادة لم يقدم أى مشروع للوزارة بهذا الخصوص وطلب تكذيب الخبر رسميا. واهتزت الدنيا..

واستطرد أحمد أبو الفتح قائلا: - والمصيبة أن جريدة الزمان التي ستصدر بعد ساعتين ستنشر هذا التكذيب في الصفحة الأولى بعناوين مثيرة.. وشعرت بجسدي كله ينتفض وتصبب منى العرق وكاد يغمى على من هول المفاجأة. ولكن أحمد أبو الفتح سألني بهدوء: - أين جمال عبد الناصر؟ وحاولنا الاتصال به تليفونيا من الفندق بمجلس القيادة فلم نستطع واتصلت به في منزله فلم أجده بالمنزل، وعندئذ جذبني أحمد أبو الفتح من ذراعي وقال:

- الوقت ضيق ! فلنبحث عنه.

وتوجهنا إلى مقر إدارة الجيش.

ووجدناه في مكتبه.. وقابلنا بابتسامة هادئة! وقبل أن نجلس اندفعت أحدثه بعصبية عما حدث وأن جريدة الزمان في طريقها للصدور وهى تحمل تكذيب الرئيس نجيب لمشروع القانون. ولكنه قاطعني في هدوء وقال: - جريدة الزمان سوف تصدر وعنوانها الرئيسي ما نشرته جريدة المصري وهو نص المشروع الذي قدمه مجلس القيادة للحكومة لإصداره. وعندما قلت له أن الزمان قد طبع فعلا وفي صفحته الأولى تكذيب محمد نجيب، علمنا أنه طلب من الصاغ عبد المنعم النجار (السفير حاليا) أن يتوجه على رأس قوة من الجنود إلى جريدة الزمان ومصادرة ما طبع منها وبها تكذيب محمد نجيب، على أن يعاد طبعه وفي صفحته الأولى خبر رئيسي أن اللواء محمد نجيب قد صرح بأن مشروع قانون تحديد ملكية الأراضي الزراعية الذي نشر بجريدة المصري صباح اليوم هو نفس المشروع الذي قدمه مجلس القيادة للوزارة لإصداره بمرسوم وفي هذا اليوم صدرت جريدة الزمان في الساعة السابعة مساء تتضمن هذا الخبر فعلا، وعند انصرافنا من مقر إدارة الجيش، نظرت إلى أحمد أبو الفتح، وكان ساهما.. وقلت له: - أنا خايف.. - من إيه. قلت: - اللى اتعمل في جريدة الزمان النهارده ممكن بكره يتعمل في جريدة المصري!.. وقد كان !(...) وفي نفس اليوم الذي نشر فيه نص مشروع القانون حدثت اضطرابات ومظاهرات عنيفة في شركة مصر للغزل والنسيج الرفيع بكفر الدوار هاجم فيها العمال المصانع ووقعت خسائر مادية كبيرة، كما سقط بعض القتلى. وقيل إن ما حدث بكفر الدوار وهي أحد المراكز العمالية الرئيسية في مصر كان رد فعل لنشر القانون، لما تبادر في ذهن بعض القيادات العمالية من أن الفلاحين سوف يتملكون أراضى الملاك مطالبين بصدور قانون مشابه يتملك بموجبه العمال المصانع..

كان موقف الجميع خطأ .. وكان موقف معظم الإخوان هو الصواب

كان موقف الجميع خطأ .. وكان موقف معظم الإخوان هو الصواب.. إذ أن عددا كبيرا من الأعضاء رأى أن تحديد الملكية زراعية أو غير زراعية أمر مخالف للإسلام. وكان هذا يعني أن الثورة في حاجة ماسة إلى دعم الوفد وتأييده.. وطلب جمال عبد الناصر من إبراهيم طلعت عقد اجتماع مع فؤاد سراج الدين.. ونترك إبراهيم طلعت يكمل ما حدث: ..".. بعد أن انصرف جمال عبد الناصر قابلت في مساء نفس اليوم فؤاد سراج الدين وأطلعته على ما حدث ورحب على الفور بحضور هذا الاجتماع، والعجيب أن فؤاد سراج الدين- الذي لم يكن يعرف أنني ساهمت بطريقة أو بأخرى في وضع القانون أو نشره- لم يكن مرحبا فقط بالقانون، بل كان متحمسا له، وذلك على خلاف اعتقاد الكثيرين،(...) واتفقت مع أحمد أبو الفتح على السفر بالطائرة التي تغادر الإسكندرية في منتصف الساعة الرابعة بعد الظهر، والتقينا في مطار النزهة.(...) وتوجهنا إلى ضاحية الزيتون، ولما كنا لا نعرف عنوان منزل عيسى سراج الدين فقد استغرق البحث عنه لبعض الوقت ووصلنا في الساعة السادسة والربع مساء حيث وجدنا كلا من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وأحمد شوقي من قادة الحركة، وكانوا قد وصلوا منذ دقائق كما كان موجودا فؤاد سراج الدين الذي سبقهم في الذهاب ليكون في استقبالهم " ولم يحضر هذا الاجتماع غير هؤلاء. ولا صحة لما نشره بعض من أرخوا للثورة من أن آخرين قد حضروه، أما عيسى سراج الدين وهو المضيف فلم يحضر الاجتماع الذي بدأ فور وصولنا. كنا جميعا في غرفة الاستقبال، وكان المرحوم صلاح سالم يجلس على السجادة الوثيرة بعد أن خلع حذاءه بما يشعر أنه (واخد راحته). وكان هو الذي بدأ الحديث، بدأ صلاح سالم يتحدث في مسائل عامة ولكن حديثه لم يكن مركزا وبغير دراسة مسبوقة وكان يوجه حديثه إلى فؤاد سراج الدين فتحدث عن الإقطاع وموقف حركة الضباط منه واعتزامهم القضاء عليه. وفجأة سأل فؤاد سراج الدين كيف امتلك عشرين ألف فدان ببلدته (كفر الجرايدة) وبدت من نبرات صوته وهو يوجه لفؤاد سراج الدين هذا السؤال لهجة التحدي، وهنا خشيت أن يكفهر الجو وينفض الاجتماع دون أي مناقشة جادة فحاولت التدخل وقاطعت صلاح سالم،! ! أن فؤاد سراج الدين الذي كان يجلس بجانبي أمسك بيدي لإسكاتي ومحاولا الإجابة على تساؤلات صلاح سالم، ولكنى انتزعت يدي منه بحدة ونظرت إلى جمال عبد الناصر الذي كان رغم متابعته لحديث صلاح سالم يتشاغل بالتقاط بعض حبات العنب من فوق مائدة كان عليها عنب وبطيخ وقلت له:

- اسمع يا جمال بك.. المناقشة بطريقة الأخ صلاح غير مجدية وأرجو أن ترأس الاجتماع وتكون الأسئلة والإجابات بطريقة منظمة إذا كنتم جادين أن يثمر هذا الاجتماع وأنت الذي طلبت الاجتماع بفؤاد باشا، وأضفت إن حديث الأخ صلاح نافلة لأنه يستند إلى معلومات خاطئة، وهنا انتقل النقاش بيني وبين صلاح سالم الذي أكد لي أن معلوماته صح مائة في المائة!

ولم يسعني إلا أن أضحك بتهكم، وقلت:

- خلاص، إذا كانت معلوماتك أن فؤاد باشا عنده عشرين ألف فدان يبقى ما فيش داعي نكمل الاجتماع.. وأردفت قائلا. - يا أخي ده كلام يقال في المقاهى، ولا يجوز لمسئول يستطيع معرفة ملكية كل إنسان في مصر من الجهات الرسمية أن يقوله.. وهنا اعتدل جمال عبد الناصر ونظر إلى صلاح سالم وطلب منا الهدوء،. وأشار إلى أحمد نشوقى وقال لي: (حضرة القائمقام يرأس الاجتماع) .. وأجبته على الفور: - مع احترامى لحضرة القائمقام فأنا لم أتشرف بمعرفته إلا اليوم، وبصرف النظر عن الرتب العسكرية فأنا أرجو أن ترأس الاجتماع وأظن إخوانا العسكريين يوافقون على ذلك. ووافق الجميع على أن يرأس جمال عبد الناصر الاجتماع، وقال جمال عبد الناصر. الأخ صلاح أثار موضوعين، الأول هو موقف الوفد من مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية، والتاني مقدار ما يمتلك فؤاد باشا. ففؤاد باشا يتكرم أولا يجاوب على الموضوع الثاني علشان نخلص منه ولأنه مش مهم وهنا قال فؤاد باشا أنه يمتلك هو وأسرته حوالي 3000 فدان جزء منها يمتلكها بالميراث والجزء الآخر من الأراضي البور التي استصلحها وأضاف بأنه مستعد أن يتنازل للدولة عن أي قدر من الأراضي تزيد على ذلك وتستطيعون التأكد من ذلك من واقع الملفات الزراعية. وهنا قال جمال عبد الناصر:

- أنا متأكد من ذلك ويعتبر هذا الموضوع منتهيا.، ونظر إلى صلاح سالم وقال ضاحكا: معلهش يا أبو صلاح.. إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. ! ثم طرح موقف الوفد من مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية، وخاطب فؤاد باشا وقال: - إبراهيم طلعت يا باشا هو الذي وضع القانون فأرجو أن تكون المناقشة بينك وبينه وإحنا نسمع ونناقش عند اللزوم. لم يكن سراج الدين يعلم أنني شاركت في وضع القانون، وكذلك لم يكن يعلم أنني أنا الذي انفردت بنشره في جريدة المصري، ولذلك أسرعت بالقول أنني أتشرف بأن أكون قد شاركت في وضع المشروع، وأعتز بأن أكون أول من طرحه على الرأي العام بنشره في جريدة المصري. وابتسم فؤاد سراج الدين وقال: - "شوفوا يا إخوانا.. أنا أولا بصفتي الشخصية وثانيا بصفتي سكرتير الوفد أوافق من ناحية المبدأ على هذا القانون .

وهنا سأل صلاح سالم في حدة.

- يعنى إيه من ناحية المبدأ؟..

وأجاب فؤاد سراج الدين:

- كل قانون في الدنيا يطرح أولا للموافقة عليه من ناحية المبدأ فإذا كان المبدأ قد ووفق عليه تطرح التفاصيل للمناقشة، فقد يتدخل بعض المختصين لتعديل بعض فقراته بما يكون قد فات على واضعي القانون من المسائل الفنية أو التطبيقية . مثال ذلك بالنسبة لهذا القانون:

وأخذ فؤاد سراج الدين يضرب أمثلة كثيرة حول ما يجب دراسته موضوعيا عند صدور القانون وتطبيقه مثل القيمة التي تشترى بها الدولة الزائد من الأطيان المنزرعة واقترح أن يكون ثمن الفدان عشرة أمثال القيمة الإيجارية وليسر على أساس ثمن الفدان بسعر ما قبل الحرب الثانية حتى لا تبخس قيمة الأراضي الزراعية وهى أساس الثروة القومية. وقد أخذ القانون فعلا بهذا الرأي عند صدوره بعد ذلك .. وقد أنصت الجميع لحديث فؤاد سراج الدين وهو يتحدث في التفاصيل، وقال: - أنا أقسم أنني لم أعلم أن إبراهيم طلعت شارك في وضع المشروع إلا الآن، وقد قابلني عدة مرات صارحته خلالها بموافقتي على القانون بل وإعجابي به، وأنا أستشهد به ا لآن.. وأطرقت برأسي موافقا.. وضحك جمال عبد الناصر وقال:

- إحنا عارفين يا باشا وإبراهيم قال لي كده ولكن الحقيقة إحنا ما كناش مصدقين! ورد فؤاد باشا قائلا:

- ليه يا آخى.. إذا كان من ناحية المصلحة الشخصية فإذا صدر القانون كما نشر بدون أي تعديل فأنا شخصيا وعائلتي لا نضار بصدوره، ومن الناحية العامة فإن 90% على الأقل من أعضاء الوفد لا يضارون به،. والحقيقة أن الأخ إبراهيم كان كريما في اقتراح الحد الأقصى بمائتي فدان !. وأجبت ضاحكا. الحقيقة يا باشا أنا كان رأيي أن يكون الحد الأقصى خمسين فدانا فقط،. ولكن زملائي كانوا أكثر كرما منى.

وضحك الجميع.. وبدأ يسود جو من المرح والثقة على المجلس، حتى صلاح سالم لبس حذاءه وجلس بجوارنا على أحد المقاعد وأخذ يشاركنا في الضحك!! والاكثر من ذلك أنه قال ( عداك العيب يا باشا) .. (...)..

قال عبد الناصر:

الرئيس جمال عبد الناصر

- وعلشان كده إحنا أملنا أن الوفد يتعاون معانا باعتباره أكبر تنظيم جماهيري ديمقراطي فيه المسلم والمسيحي والعامل والفلاح والغنى والفقير، يعنى فئات الشعب المختلفة، وطبعا احنا علشان نسلم الأمانة للوفد اذا حصل على الأغلبية في الانتخابات وده هو المنتظر لازم نكون مطمئنين إلى أن قيادته فوق مستوى الشبهات(...) واستطرد جمال عبد الناصر مشكورا بإضافة بعض عبارات المديح لي ولأحمد أبو الفتح لا داع لذكره، ثم أنهى جمال عبد الناصر حديثه قائلا:

- أحب كمان أقول لحضرتكم إن فيه ناس كتير من الملتفين حولنا الآن بيقولوا لنا أنتم لو عملتم انتخابات الوفد حيرجع 100% طيب وماله لما يرجع الوفدي. لكن بأه دول يهمهم الحكم الديكتاتورى ودول خصوم الوفد اللى أنتم عارفينهم. (...) وأحب كمان أؤكد إننا جميعا في مجلس القيادة بنحب النحاس باشا وبنعتبره زعيم كبير ووالد للجميع،. كمان أحب أقول- مش لأن فؤاد باشا موجود- إن نزاهته ووطنيته فوق كل شبهة وان له فضلا كبيرا على حركة الكفاح ضد الانجليز بعد إلغاء المعاهدة. وأعتقد أنى قلت كل حاجة، ونحب نسمع رأى فؤاد باشا إيه.

وتكلم سراج الدين:

ورد فؤاد سراج الدين شاكرا لجمال عبد الناصر وإخوانه ثقتهم في النحاس وفيه وأردف بأن ما قاله جمال عبد الناصر هو كلام عظيم وتحليل دقيق للأمور وقال إنه يرجو أن يكون الوفد عند حسن ظن الشعب وعلى رأسه أعضاء مجلس القيادة وبقية الضباط الأحرار جميعا وأنه يرجو في ظل هذه الثقة أن يؤدى الوفد واجبه الوطنى نحو قضية البلاد وإرساء دعائم الديمقراطية السليمة خصوصا بعد خروج الملك وانتهاء نفوذ السراى التى كانت العائق الأكبر في الطريق الديمقراطي، وأكد فؤاد سراج الدين:

1- إن الوفد يوافق على مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية ويرحب بصدور مثل هذا القانون وأنه من الآن يوافق على المبدأ وسوف يتقدم بما عسى أن يكون هناك من اقتراحات موضوعية تمس جوهر القانون حتى لا تنشأ صعوبات في التطبيق.

2- إنه سيتحدث مع النحاس باشا في إقصاء بعض أعضاء الوفد والهيئة الوفدية لأن النحاس باشا لما له من سلطة أبوية على الجميع فإنه هو القادر على إقناعهم بأن يقصوا أنفسهم بالاستقالة أو يأمر بإقالتهم.

3- أن يظل هناك تعاون كامل بين الوفد وبين رجال القيادة وتبادل وجهات النظر على أن يكون رائد الطرفين الصالح العام والصراحة الكاملة.

4- إن الوفد على استعداد لحضور أي اجتماع مع رجال القيادة لمناقشة أي أمر بناء على طلب أعضاء مجلس القيادة.

وانتقل الحديث بعد ذلك إلى شخصية من يتولى رياسة حكومة محايدة لإجراء الانتخابات بعد إخراج على ماهر وقال جمال عبد الناصر أن مجلس القيادة يرشح واحدا من اثنين: الدكتور عبد الرزاق السنهورى أو الدكتور وحيد رأفت.

وقال فؤاد سراج الدين أنه يفضل الدكتور وحيد رأفت بالرغم من ثقته في السنهوري لأنه بالرغم من خصومته التقليدية للوفد فقد كان قاضيا محايدا ومستقلا كلما كان في منصبه القضائي.

وكانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة مساء حينما انفض الاجتماع بعد أن دام خمس ساعات كاملة.


إنني أعتذر لكم يا قراء من هذا الاستشهاد الطويل لكنني رأيته ضروريا .. فهو يكشف الكثير.. كانت الحقيقة فيه كما رأيتم.. ولكن هذه الحقيقة لم تكن تناسب خطة جمال عبد الناصر في سحق كل القوي التي يمكن أن تشكل له منافسا ذات يوم..


وليسمح لي القارئ ببضع كلمات أخرى يكمل بها إبراهيم طلعت شهادته:

" من الغريب أن جمال عبد الناصر بعد ذلك بحوالي تسع سنوات خطب في المؤتمر الوطني سنة 1961 قائلا أن الوفد رفض الموافقة على قانون تحديد الملكية الزراعية كما رفضوا أن يعودوا إلى الحكم على أساس تحديد الملكية!..


ويظل السؤال : لماذا يكذب محمد عودة.. ولماذا يواصل الكذب بعد خمسين عاما.. ربما لا يكفيه إبراهيم طلعت.. فلنستدع إذن شهادة جمال حماد:


يقول جمال حماد:

وكان الإعلان عن قانون الإصلاح الزراعي مفاجأة لأعضائه، الذين ينتسب عدد منهم إلى الطبقة الإقطاعية. فبدءوا يتلمسون الحوار مع رئيس الوزراء علي ماهر، ومع ضباط القيادة للتعرف على أبعاد القانون. كان فؤاد سراج الدين قد طلب تحديد موعد، مع محمد نجيب، عقب عودته من أوروبا. ولكن أحد أقاربه، اليوزباشي عيسى سراج الدين، (السفير فيما بعد) دعاه إلى منزله في الزيتون لمقابلة جمال عبد الناصر، وجمال سالم، وصلاح سالم. وحضر أحمد أبو الفتح جانباً من الاجتماع، الذي امتد من الخامسة مساءً، حتى الواحدة بعد منتصف الليل.


دار الحوار، في هذه الجلسة، حول تحديد الملكية. وحاول فؤاد سراج الدين إقناعهم بفكرة الضريبة التصاعدية. ولكن الاجتماع انفض، من دون الوصول إلى رأي موحد، وعلى أن يلتقوا مرة ثانية، بعد أسبوع. وفي اليوم المحدد للاجتماع الثاني، وبينما كان فؤاد سراج الدين في طريقه، من الإسكندرية إلى القاهرة، قرأ خبراً نشره مصطفي أمين، في ملحق (آخر لحظة)، التابع لمجلة (آخر ساعة)؛ وفيه يقول إن فؤاد سراج الدين صرَّح بأنه وضع ضباط القيادة في جيبه، وتوقَّع فؤاد، بعد قراءته للخبر، إلغاء الاجتماع وقد كان؛ فقد اتصل به أحمد أبو الفتح ليبلغه ذلك.


ولم يشأ الوفد أن يترك موقفه، من قانون الإصلاح الزراعي، غامضاً؛ فأدلى فؤاد سراج الدين بتصريح لجريدة المصري، يوم 6 سبتمبر 1952، قبل تولي نجيب الوزارة، وقبل اعتقاله بأيام، قال فيه بالتحديد: "إن الوفد وافق على مبدأ تحديد الملكية الزراعية، من حيث المبدأ، وله ملاحظات وتعديلات على المشروع، الذي نشر وقد سبق أن أبلغنا تلك الملاحظات إلى الجهات المسؤولة، في أسرع وقت. إننا نوافق على المبدأ، الذي هو صميم المشروع، أما ملاحظاتنا فهي مقصورة على التفاصيل فقط، دون الجوهر".


وتأكد موقف الوفد، بعد ذلك، عندما أصدر برنامجه الجديد، يوم 21 سبتمبر 1952، وفؤاد سراج الدين في المعتقل، يقول فيه: "الموافقة على مشروع تحديد الملكية باعتباره يهدف للعدالة الاجتماعية، ويقرِّب بين الطبقات".

هكذا كان موقف الوفد: موافقة على المبدأ، ومناقشة للتفصيلات، ثم قبولاً للمشروع، بعد صدوره.


الكفر ملة واحدة..

محمد عودة.. القديس.. يكذب..

إنه كذب مع سبق الإصرار والترصد..

كذب من يكذب وهو يعلم أنه يكذب..

لماذا يكذب القديس ولماذا يواصل الكذب..

ثم يتحدث القديس الجاهل عن الإخوان فيقول:

انقسم الإخوان المسلمون إلى فريق يرأسه أخو المرشد العام الذي اغتاله الملك، (...) وفريق آخر برئاسة المرشد العام طالب بولاية الفقيه وأن يكون له حق (الفيتو) على قرارات الثورة..

والقديس ليس كذابا فقط بل وجاهل أيضا .. ولا يعرف حتى أساسيات الخلاف بين السنة - والإخوان في قلبهم - وبين الشيعة التي تؤمن بولاية الفقيه.

هل كان الجهل هو السبب في الخطأ؟..

أم الرغبة الخسيسة المدمرة في صبغ الوقائع بما يشاء الهوى حتى يلبس الباطل ثوب الحق..

إنني أستشهد بالصف الأول من الكتاب.. فما بالكم بالباقين..

ما حدث يعز على التصديق..

واستمرارية الإصرار على الكذب مذهلة..

بعد خمسين عاما ستصدر الأهرام العربي عددا خاصا عن ثورة يوليو وسوف ينتقدها نجيب محفوظ مقررا أنه لولا إزاحة محمد نجيب لما انفصل السودان عن مصر.. وبرغم أن العلاقات بين النخبة في مصر أضحت شاذة ومريضة.. فالآخر إما معبود يعبد و إما شيطان يرجم.. وبالنسبة للعلمانيين يعتبرون نجيب محفوظ وثنا معبودا.. وفي تاريخهم لم يهاجموه إلا عندما قال هذا.. وبعد الحدث بنصف قرن..

كان ما قاله محفوظ تعني نوعا من الانتقاد لعبد الناصر والتأييد لنجيب.. والتأييد لنجيب قد يحمل شبهة تأييد للإخوان لذا وجب رجم محمد نجيب..

وتذكروا يا قراء أن موقفا مماثلا حدث من عبدة هيكل إبان أزمة الوليمة.. فعندما أدان مجموعة المنتفعين والشواذ والمنافقين الذين أيدوا الوزير كانت هذه الإدانة تحوي معنى ضمنيا -لا يقصده بالتأكيد - بنصر الاتجاه الإسلامي.. ورجمه من يعبدونه..

لم تكن المشكلة مشكلة الإخوان إذن..

كان ثمة وحش أسطوري يلتهم كل من يأتي في طريقه..

وسوف يدفع الجميع الثمن في وقت قصير..

أما في النهاية.. فإن الوطن والأمة هما اللذان سيدفعان الثمن الفادح..

في المحكمة التي كان يرأسها جمال سالم حدثت واقعة تدل على مدى الانهيار والرعب الذي كبل الأمة..

بل مدى الهستيريا والجنون..

.. فقد سألت المحكمة محمود عبد اللطيف عن المحامى الذي يحب أن تنتدبه المحكمة فذكر أسماء ثلاثة محامين طلب إلى رئيس المحكمة جمال سالم أن يدافع عنه واحد منهم وكانوا: محمود سليمان غنام وفتحي سلامة ومكرم عبيد وفجأة جمال سالم قائلا : وإذا رفضوا ؟ قال محمود عبد اللطيف تنتدب لي المحكمة أي محام ثان . وبالفعل كما رسم جمال سالم فقد رفض المحامون الثلاثة الدفاع عن محمود عبد اللطيف ـ وكانت كل تهمته محاولة شروع في قتل ـ وقال أحدهم وهو محمود سليمان غنام لمندوب جريدة الأخبار “ لا أوافق إطلاقا على الدفاع عنه لآني أستنكر كل الاستنكار هذه ا لجريمة البشعة !! وقال المحامى الثاني وهو فتحي سلامة : أرفض الدفاع عن هذا المتهم لأني محام ولى شعور وطني ولأني أحتقر هذا لمجرم وقال مكرم عبيد لا أستطيع أن أدافع عن من يعتدي على جمال عبد الناصر .. مستحيل .. مستحيل ّ‎!!.. كانت الأمة كلها تمر بحالة من الهستيريا..

ولن يمر وقت طويل قبل أن يدفع الجميع الثمن..

حتى في هذا العهد.. عهد مبارك.. رغم كل جرائم السلطة – لم يصل الأمر إلى هذا الحد.. محامون يرعبهم أن يدافعوا عن متهم..

..سوف يدفع الجميع الثمن..

نعم.. سوف يدفع الجميع الثمن.. في أغسطس 1955 استقال صلاح سالم من مجلس القيادة بعد الانتقادات التي وجهت إلي سياسته في السودان التي زارها متحدثا باسم الثورة. ويري البعض أن السبب الحقيقي لدفعه إلي الاستقالة هو طموحه الذي أقلق عبد الناصر، إذ نما إلي علمه أن صلاح سالم كان يتعمد الإيحاء إلي محدثيه بأنه الرجل المهم في مجلس قيادة الثورة والعالم ببواطن الأمور، ربما أكثر من ناصر نفسه. كان صلاح سالم وزيرا للإرشاد القومي والمسؤول الأول عن الإذاعة والفنون.

ولم تكن بعيدة عن هذا المناخ استقالة أخيه جمال سالم الذي كان عضوا في محكمة الثورة، وصاحب أشهر 'هأوأو' في تاريخ مصر. وتلك عبارة قالها تعليقا علي كلام أحد المتهمين في المحكامة. وجمال سالم هو الذي تبني فكرة إقامة السد العالي، وكان أشد المتحمسين لفكرة الإصلاح الزراعي. ثم تقلص دوره بعد إجراءات الإصلاح، وأخرجه عبد الناصر من التشكيلة الوزارية . ولم تشفع له إنجازاته والمناصب التي تبوأها في ظل الثورة، فتعرض بعد استقالته لمضايقات مثل منع ابنه من الالتحاق بصفوف الجامعة الأمريكية بعد أن درس فيها ثلاث سنوات كاملة، ثم منع زوج ابنته من العودة إلي إنجلترا لإتمام دراسته بعد أن جاء في زيارة لمصر.

أما محمد نجيب فسوف يدفع الثمن مضاعفا..

تعلق صحيفة أخبار الأدب العدد 1423 عن المفارقة بين الملك فاروق الذي خرج معززا مكرما علي أية حال وبين نجيب الذي قضي ما تبقي من حياته منعزلا وحيدا وسجينا في منزله بالمرج. حتى أن ابنه عليا قتل في ألمانيا حيث كان يدرس الهندسة ويرأس رابطة الطلاب العرب وينسب بعضهم إلي المخابرات الإسرائيلية المسؤولية ) فلم يستطع أن يراه، ولم يسمح له بتقبل العزاء فيه. أما ابنه الأصغر يوسف فكان يعمل سائق تاكسي، إلي أن علم بذلك المهندس عثمان أحمد عثمان فعينه سائقا في شركة 'المقاولون العرب'.

لقد رفعته الثورة على الأعناق سنتين، ثم قضت عليه بالعزلة والمهانة ثلاثين سنة، إلي أن مات سنة 1984. وكان يسمي الثورة في مذكراته "العورة"..

لماذا فعل جمال عبد الناصر ما فعله بمحمد نجيب..؟..

نعم..

فلنؤجل الآن سؤالنا الأساسي عن سيد قطب وعبد القادر عودة و إخوتهم الشهداء الأبرار بإذن الله..

ولنسأل لماذا فعل ذلك بمحمد نجيب..

ولماذا وافقه هيكل..

ولماذا بعد موت جمال عبد الناصر حين قيض لمحمد نجيب أن يتنفس مرة واحدة لم تكتمل بعد صمت عشرين عاما فإذا بمانشيتات هيكل في الأهرام تتحدث عن الأشباح الخارجة من الكهوف ضد عجلة التاريخ..

ولم يكن الأمر مجرد تعمد إهانة..

بل كان ذعرا..

نعم ..

ذعرا..

لأن خروج الضحية أو حتى شبحها ولو من الكهف كان كفيلا ببيان الجريمة وفضح المجرم..

لم يكن محمد نجيب هملا..

ولم تكن المشكلة في الإخوان المسلمين..

لعل القارئ يسايرني في مشاعري..

يا قراء أنا لا أكتب بل أنزف..

ولكم كان ألمي حين اكتشفت أن جمال سالم كان يصلي..

لقد وددت لو أنه قابل الله ولم يركع له ركعة..

يا قراء أنا لا كتب بل أنزف..

منذ خمسة عشر عاما كنت ألتقي بالمفكر الكبير عادل حسين وكنت أحكي له عن تلك الفترة.. وكيف أن إدانة الثورة وجمال عبد الناصر كانت قاسية كالسلخ.. ذلك أنك و أنت تترك ما كنت تؤمن به وتثق فيه.. إنما يموت جزء من نفسك.. يموت ولا يدفن.. و إن جزءا من إدانتي لعبد الناصر .. هو إدانة لنفسي.. لعقلي الذي صدقه.. ولعيناي اللتين بكيتاه..

كنت أقول ذلك لعادل حسين فوافقني فيما أقول وتجاوبت أصداء آهات روحي مع أصداء آهات روحه..

يا قراء.. لو أن إجرام الثورة اقتصر على ما فعلوه بالإخوان المسلمين فلربما جاز لبعضكم أن يلقوا باللائمة على الإخوان ..

محمد حسنين هيكل واحد ممن ينحون باللائمة على الإخوان فيقول:

ولو حدث صدام بين الإخوان و الثورة فقد نستطيع أن نحكم أن هناك خطأ متبادلا لكن قبل الثورة اصطدم الإخوان نع النظام الليبيرالي رغم أنه كان صديقاً لهم ،وحتى الآن هناك صدام بين الإخوان و العصور الثلاثة التالية مع اختلاف الاتجاهات ،أي أنه منذ 36 إلي الآن: أكثر من 60 سنة .معني هذا أن التنظيم تصادم مع كل نظام في مصر..

هيكل ليس جاهلا وليس غبيا..

بل على العكس تماما تماما..

أعترف أنه أسطورة وموسوعة..

لكنه لا يقول الحق..

إنه يلونه بما شاء له الهوى..

يتحدث جمال حماد في كتابه - الحكومة الخفية في عهد عبد الناصر- الزهراء لإعلام العربي عن قيام عبد الناصر بتدمير كل الأعراف العسكرية بترقية عبد الحكيم عامر إلى رتبة اللواء( هذه الترقية التي سيترتب عليها بعد ذلك الهزيمة العسكرية عام 56 ثم الانفصال.. ثم إرهاب الأمة ثم الهزيمة الشاملة الماحقة في عام 1967..

يقول جمال حماد : .." وكان هذا يعنى ولاء القوات المسلحة لعبد الناصر وتدعيمها لمركزه هما يتيح له الفرصة للسيطرة التامة على الشئون السياسية في مصر دون زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة تمهيدا لتنفيذ المخطط الذي رسمه في دقة ومهارة منذ بداية الثورة وهو التخلص من زملائه جميعا والانفراد وحده بالنفوذ والقوة والسلطان.

ونجح عبد الناصر في تنفيذ مخططه ببراعة تامة ففي خلال فترة الانتقال التي حددت بثلاث سنوات تمكن من تصفية كل منافسيه الأقوياء داخل مجلس قيادة الثورة ومن كل معارضيه المشاكسين بين صفوف الضباط الأحرار فقد أطاح بالعقيد رشاد مهنا الوصي على العرش وصاحب الشعبية الكبيرة في سلاح المدفعية في 14 أكتوبر 1952 كما تم له تنحية اللواء محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية في 14 نوفمبر 1954 بعد صراع مرير على السلطة احتدم بينهما خلال شهري فبراير ومارس 1954. حتى كادت البلاد تتعرض لحرب أهلية مدمرة. ونظرا لأن مجموعتي ضباط المدفعية والفرسان كانتا أقوى مجموعات الضباط الأحرار وأكثرها عددا وأشدها صلابة وتكتلا لذلك تم ضرب مجموعة المدفعية وتشتيت ضباطها وإلقاء زعمائها في السجن في 15 يناير 1953 فيما عرف باسم قضية المدفعية كمال حاقت الضربة بمجموعة سلاح الفرسان في أعقاب أحداث فبراير ومارس 1954 التي أسفرت عن تراجع مجلس الثورة عن قراراته الديمقراطية التي أصدرها في 5 و 25 مارس 1954 وتقلص نفوذ محمد نجيب وانتهى الأمر بإلقاء طائفة من أبرز الضباط الأحرار بسلاح الفرسان في السجن ونقل طائفة أخرى منهم إلى وظائف مدنية وإبعاد الباقين عن سلاح الفرسان.

وعن مخطط جمال عبد الناصر للانفراد بالسلطة يقول عادل حمودة – وروايته عن الثورة تقبل.. كما تقبل رواية اعتماد خورشيد عن صلاح نصر.. وعبدالله إمام عنهم- كان عبد المنعم أمين هو أول المبعدين لأن زوجته، سيدة المجتمع، كانت ترتاد النوادي وتكثر من الحديث في السياسة مما أضجر عبد الناصر فأرسله سفيرا إلي لندن. والبعض يري أن أمين كان المسؤول عن تذمر ضباط المدفعية في يناير 1953 وكان عبد المنعم أمين هو رئيس أول مجلس أعلي عسكري في عهد الثورة، المجلس الذي حاكم العمال المضربين في 'شركة مصر للغزل والنسيج 'في كفر الدوار.

وبسبب زوجته أيضا أبعد يوسف صديق. والزوجة، هذه المرة، شيوعية متطرفة. كان يوسف صديق كثير النقد لمجلس قيادة الثورة. لم يكن يكتفي بالكلام بل يقوم بنشاط حركي بين صفوف الضباط، ثم حددت إقامته وطلب منه أن يستقيل أو أن يقبل التعيين سفيرا، لكنه رفض وآثر أن يبتعد تماما.

وعلي الدرب نفسه سار خالد محيي الدين الذي كان خلافه مع مجلس قيادة الثورة منصبا علي قضية الديمقراطية وضرورة عودة الضباط إلي ثكناتهم وأن تتولي الحكم حكومة مدنية. ثم كانت المواجهة الوشيكة بين سلاح الفرسان وباقي أسلحة الجيش في مارس 1954، حيث قدم سلاح الفرسان مطالبه إلي جمال عبد الناصر، ومنها أن تتولى حكم البلاد حكومة مدنية، واقترحوا اسم خالد محيي الدين رئيسا لها. وقد استجاب مجلس قيادة الثورة لبعض مطالب الفرسان مع التغاضي عن مطلبهم تشكيل حكومة مدنية. واستقال خالد محيي الدين وابتعد عن مصر كلها.

في تلك الأثناء بدأ الخلاف مع محمد نجيب. أرسل عبد الناصر لطفي واكد إلي خاله، لطفي السيد، يطلب منه قبول ترشيحه كرئيس للجمهورية خلفا لمحمد نجيب، لكن لطفي السيد رفض، واقترح علي محدثيه أن يرشحوا عبد الناصر ليكون رئيسا للجمهورية. واختمرت الفكرة في عقل ناصر، وتمت تنحية نجيب ومحاكمته..(لاحظوا المناورة يا قراء..فعبد الناصر لم يكن ينوي تعيينه فعلا .. كما أن اختياره له كان يمثل اختيار صوت الإنجليز والعداء للإسلام)..

كان عبد الناصر هو الصانع الحقيقي للثورة وعقلها المدبر. وكان محمد نجيب هو الواجهة، فقدم إلي الناس كقائد للثورة وأول رئيس جمهورية لمصر.

محمد نجيب كان رمز الشرعية وكان الإخوان معه..

في كتابه ثورة 23 يوليو يقول جمال حماد:

حظي محمد نجيب، في بداية حركة الجيش، بما لم يحظ به أحد من قبله، من تركيز، واهتمام وسائل الإعلام، في مصر وخارجها. وأضيفت عليه من هالات البطولة، وصفات العظمة، ما لم تشهده مصر من قبل، إلى الحد الذي جعله يتحول، في نظر الشعب المصري، إلى شخصية أسطورية. وجعل الجماهير لا تتمالك نفسها، كلما رأته، من التصفيق الشديد، والهتاف المدوي باسمه، والتكالب، في شبه جنون، على سيارته. وافتتن رجال الثورة أنفسهم بالزعيم القائد، الذي صنعوه، فسايروا الشعب في حبه، والإعجاب ببطولته، إلى الحد، الذي جعلهم يخاطرون بحياتهم، ويحيطونه بأجسادهم، فوق رفارف سيارته، ليصدوا عنه طوفان الشعب الجارف، كي تتمكن سيارته من شق طريقها، بين مئات الألوف المحتشدة، من جماهير الشعب في حله ورحاله. وكانت خطبهم وأحاديثهم كلها، تمجيداً لعظمته، والإشادة بروعة قيادته، إلى الحد الذي جعل أحدهم، وهو أنور السادات، يضع اسم محمد نجيب على رأس أعظم عشرة رجال في العالم، في استفتاء أجرته مجلة المصور في العدد (491)، الصادر في 8 مايو 1953، أي أن محمد نجيب كان، في نظر السادات وقتئذ، هو أعظم رجل في العالم .

صناعة النجم..

وسوف يتكرر هذا على الفور .. لكن بالنسبة لجمال عبد الناصر..

لكن في هذه الأثناء لم يتخلف عبد الناصر نفسه عن إعلان تأييده، وإظهار إعجابه؛ ففي أثناء زيارة لمحمد نجيب لقرية بني مر، وقف عبد الناصر، وسط أبناء قريته، يعلن إيمانه بمحمد نجيب قائلاً: "باسم أبناء هذا الإقليم، أرحب بكم، من كل قلبي، وأعلن باسم الفلاحين، أننا آمنا بك؛ فقد حررتنا من الفزع والخوف، وآمنا بك مصلحاً لمصر، ونذيراً لأعدائها. سيدي القائد، باسم الفلاحين أقول: سر ونحن معك جنودك؛ فقد حفظنا أول درس، لقنتنا إياه، وهو إن تحرير مصر، وخروج قوات الاحتلال من بلادنا، واجب حيوي، وأصبحت أملاً في أن تحقق مصر حريتها على يديك. إن مصر كلها تناصرك للقضاء على قوات الاحتلال".

بايع الإخوان ونقض البيعة..

كان عضوا في التنظيم الخاص فاستغل عضويته تلك كي يقوض الجماعة كلها..

بايع سيد قطب على أن يفتديه فقتلة..

و أيضا.. بايع محمد نجيب..

يقول الأستاذ صلاح شادي في كتابه " صفحات من التاريخ" : ولقد ظهر الخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب لدى التنافس بينهما على زيارة قبر الإمام الشهيد حسنا لبنا في 12 فبراير سنة 1954 ففي هذا اليوم الذي ظهر فيه هذا الخلاف بين محمد نجيب وعبد الناصر كان قرار حل الجماعة قائما ودار الإخوان مغلقة وكنا في السجن الحربي حينذاك مع المرشد نحو أربعمائة من الإخوان وذلك بخلاف المعتقلين بالسجون الأخرى ويبدو أن محمد نجيب عندما علم برغبة عبد الناصر في هذه المجاملة ظن أن جمال أراد أن يكسب لنفسه شعبية لدى الإخوان المسلمين ينفرد بها دونه .

وفي 27 فبراير – كما يقول الأستاذ عمرا لتلمساني- لقد زحفت الآلاف إلى ميدان عابدين وقتذاك تطالب السيد محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين وتنحية الباطش ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبري قصر النيل وتطبيق شرع رب العالمين وأدرك القائمون على الأمر خطورة الموقف وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا ولكن بلا مجيب فاستعان محمد نجيب بالشهيد عبد القادر عودة على تهدئة الموقف متعهدا بإجابة الأمة إلى مطالبها ومن شرفة قصر عابدين وقف الشهيد يطلب من الجماهير الثائرة أن تنصرف في هدوء وقد وعد رئيس الجمهورية بإجابة مطالبها .. فإذا بهذا البحر الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة وبمنطق الحكم الديكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك كان لا بد أن يصدر قرار في شأن عبد القادر عودة فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموع الحاشدة التي جاءت محتجة تطالب بإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستورية السليمة الأصلية والوفاء بالوعود وتأدية الأمانات .. فهو يمثل خطورة على هذا الحكم الذي كان مفهومة لدى الحاكم أن يضغط على الأجراس فيلبى نداؤه وعلى الأزرار فتتحرك الأمة قياما وقعودا .

ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد عبد القادر عودة بعد ذلك بالإعدام ولذلك لم يكن غريبا أن أعتقل هو والكثيرون من أصحابه في مساء اليوم نفسه ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحا حتى السابعة صباحا يضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة .

يواصل الشيخ عمر التلمساني:

عندما سمعنا ونحن في السجن الحربى سنة 1954 بذهاب عبد الناصر إلى قبر الإمام الشهيد أدركت أن وراء ذهابه إلى القبر محاولة جديدة منه لتقسيم الإخوان إلى فريقين : فريق راض عنه وفريق آخر غاضب عليه لأنهم كما كان يقول عنهم دائما ـ عصاة ـ ويزعم أنه ليس معارضا للجماعة ذاتها وإنما هو يعارض أصحاب الأفكار المنحرفة فيها.

فلنعد إلى جمال حماد..

سرعان ما تبدل الحال، مع مطلع عام 1954؛ فقد اشتعل الصراع، بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، وعلى رأسه عبدالناصر، ذلك الصراع، الذي بلغ ذروته في مارس 1954. وأخيراً اختتمت الرواية فصولها في 14 نوفمبر 1954، بتنحية محمد نجيب عن منصب رئيس الجمهورية، ووضعه رهين الاعتقال، في استراحة ريفية نائية، بضاحية المرج شمال القاهرة، (قصر زينب الوكيل زوجة النحاس باشا) حيث بقي بها ثمانية عشر عاماً.

وسرعان ما حدث التحول الهائل في مقالات الكتاب، وأجهزة الإعلام، بل حتى في كتابات المؤرخين، واشتد التنافس بينهم، لا في تمجيد محمد نجيب، كما كان الحال عليه من قبل، ولكن في سلبه كل ما أُضفي عليه، في الماضي، من صفات العظمة، وآيات البطولة. وفي طمس معالم كل ما قام به من أعمال جليلة، سواء في خدمة جيشه، أو وطنه، ووصل الأمر، في الاستخفاف بشأنه، إلى حد تصوير دوره في قيادة الحركة، بأنه كان أشبه بخيال المآتة، وأنه كان في منزله لا يعلم شيئاً عما يدور حوله من أحداث، طوال شهر يوليه 1952. وقد صور السادات هذه الصورة في كتابه "قصة الثورة كاملة" فقال: "كان (نجيب) مثل أي رجل في مصر، وفي مثل سنه، كان موظفاً يجلس إلى مكتبه، من الصباح حتى الظهر، وليس في ذهنه أي شيء عن العدالة الاجتماعية، أو عن الاستغلال، والاستبداد، ومحنة الاستعمار.

تخيلوا يا قراء..

السادات .. ربيب كمال أدهم .. الجاهل كما وصفه هيكل يقول ذلك.. بينما يقول عماد مطاوع -إسلام أون لاين- تحت عنوان : محمد نجيب.. قائد الثورة التي أنكرته! أن محمد نجيب قد حصل في عام 1927 على ليسانس الحقوق، بالإضافة لذلك كانت للرجل مكانة علمية مرموقة فهو مؤلف لعدة كتب قيمة، وكذلك حصل عام 1929 على دكتوراه في الاقتصاد. كما كان علما عسكريا فقد حصل على نجمة فؤاد الأول مرتين لبسالته، كما حارب في فلسطين 1948 ونال شرف الإصابة فيها 3 مرات، وحصل على رتبة فريق.

يكمل لنا جمال حماد جزءا آخر من الصورة:

وفي يوم 18 يناير 1953 أعلن عن إلغاء الملكية التي عدت مدانة بأن كانت دوماً دعامة الامبريالية في البلاد وأعلنت الجمهورية. وفي 23 يونيو جرى احتفال عام ضخم أعلن فيه ممثلو مختلف الطوائف الدينية من مسلمين وأقباط ويهود مساندتهم للنظام المتماشي مع الشرائع الدينية. وطبقاً لعادة تعود إلى بداية الإسلام قام عبد الناصر بقراءة يمين المبايعة لرئيس الجمهورية الجديد، محمد نجيب:

"اللهم إنا نشهدك أنت السميع العليم على مبايعتنا اللواء محمد نجيب قائد الثورة بصفته رئيساً لجمهورية مصر. وأشهد اللهم أيضاً على أننا سننذر للوطن أرواحنا وأموالنا وعلى أن شعارنا سيكون دوماً (الاتحاد والنظام والعمل) والله على ما نقول شهيد والله أكبر. عاشت الجمهورية. والله أكبر والعزة لمصر!"

ثم يصف عادل حمودة مشهدا من مشاهد النهاية الفاجعة: ثم حانت الساعة الفاصلة في نوفمبر 1954 عندما فوجئ الرئيس وهو يدخل قصر عابدين بضباط البوليس الحربي، وإذا بهم يقتادونه إلى فيلا قديمة في ضاحية المرج أقصى شرق القاهرة، على وعد بأن يعود بعد أيام، ولكنه ظل حبيس هذه الفيلا حتى عام 1982، إلى أن نقلوه إلى شقة أكثر ضعة لحين وفاته عام 1984.

لم يجد أول رئيس جمهورية مصري من سلوى إلا تربية القطط والكلاب.. طيلة 30 عاما هي فترة إقامته الجبرية في منزل بعيد بضاحية المرج، مُنع من مقابلة أحد حتى إنه ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه، حتى سمح له جنوده "ضباط الثورة" بخادم عجوز يرعاه، ولم يقفوا معه عند هذا الحد بل تفننوا في إيلامه وتعذيبه، وانسحب ذلك على أسرته أيضًا وتلك مأساة أخرى، فابنه الأكبر "فاروق" اتهم بمعاداة النظام بعد أن افتعل معه أحد أفراد الشرطة مشاجرة وزج به في السجن ليتعرض لأقسى ألوان التعذيب النفسي والجسدي ثم يخرج ليموت كمدا وقهرا.

والابن الأوسط "علي" الذي كان يكمل دراسته بألمانيا، ويقوم بنشاط هام في الدفاع عن القضية العربية وعن مصر ضد من يهاجمونها، اتُّهم من قبل أصدقاء والده القدامى الذين لم يعجبهم أمره بأنه يريد أن يعيد صورة والده إلى الأضواء، وقُتل في بلاد الغربة وأحضروا جثته، ومُنع الأب رغم توسلاته من شهود دفن ابنه أو الصلاة عليه، ولم يتبق له من الدنيا سوى ابنه الأصغر يوسف الذي تعثر في دراسته، وحصل على شهادة متوسطة ثم التحق للعمل بالحكومة، وتم فصله بقرار رئاسي (!!) ولم يجد أمامه إلا أن يعمل سائقا للتاكسي.

انتهت شهادة عماد مطاوع.. والقلب يصرخ: ما سر كل هذه القسوة والدموية..

إن كان جمال عبد الناصر يريد الانفراد بالسلطة فلماذا تعذيب الرجل وقد نال ما يريد..

ولماذا كل هذا الازدراء من هيكل للرجل حين أراد أن يتكلم..

شهادة أخرى في مجلة آخر ساعة العدد: 3490 ترويها ابنة المصور حسين الرملي:

"كان والدي من الأشخاص المعدودين من الزائرين لمحمد نجيب، رغم إجراءات الزيارة المعقدة من الحرس. وهذا غير أن نجيب نفسه كان يرفض مقابلة الناس، لأنه كان متعبا نفسيا، ولكنه كان يستريح عندما يشاهد والدي لدرجة أن والدي يكاد يبكي بعد كل زيارة لنجيب.. لأنه كان يحكي لوالدي عن أولاده التعبانين، وهو مش مهم.. ولكن المهم أولاده، وكان يشدد علي والدي قائلا: 'ودهم وكلمهم واتصل بيهم ياحسين..'..

ومن الأشياء التي كانت مؤثرة في نفس الرئيس 'محمد نجيب' في المعتقل.. هو تصرفات الحرس المستفزة ومراقبتهم الدائمة لتحركاته التي وصلت في بعض الأحيان، أنهم كانوا يراقبونه، وهو يدخل الحمام.."

يتحدث عادل حمودة في صحيفة البيان 6/7/2002 فيكشف لنا بعدا آخر للمأساة..

اليوم الأول لاعتقاله أحس محمد نجيب بأنه ألقى في الجحيم.. فقد سبقه أحمد أنور قائد البوليس الحربي الى الفيلا.. ووزع 20 نقطة حراسة قوية.. حول السور.. وفوق السطح.. وبين الحجرات.. وكان تسليح الجنود.. مدافع رشاشة.. وقنابل يدوية.. ومدافع صغيرة.. وراح أحمد أنور يتصرف في تلك اللحظة وكأنه قائد يدير معركة حربية شرسة.. وفي تلك اللحظة أيضا سارع الجنود بتجريد الحديقة من أشجارها وبتجريد الفيلا من أثاثها.. وبتجريد محمد نجيب من أوراقه وكتبه وتذكاراته.. وكل ما سمحوا له به هو وزوجته وأولاده: ثلاث حقائب بها ملابسهم الضرورية. لا يملك سوي أن يحاول كتابة مذكراته.. لكن.. حتى هذه لا يمكن منها..

وفي يوم السبت 20 نوفمبر كتب: «أنا اليوم أفضل.. حاولت ممارسة رياضتي الصباحية لكن تعرضت لسخرية لم أحتملها من الضباط والجنود الذين يراقبونني»..

وفي اليوم التالي كتب: «تليفون من أنور أحمد سبني فيه بأفظع الألفاظ».. وفي يوم الثلاثاء 23 نوفمبر كتب: «فوجئت بمجموعة من الحرس يدخلون علينا الحجرة التي أجلس فيها أنا وزوجتي ويجلسون بيننا.. حاولت أن أثنيهم عن ذلك.. عملوا ودن من طين وودن من عجين»..

وفي اليوم التالي كتب: «لا أجد وسيلة أدافع بها عن أسرتي سوى أن أصلي وأقرأ القرآن وهذا ما جعلني لا أترك سجادة الصلاة ولا المصحف طوال هذا اليوم»..

وكتب يوم الجمعة 28 نوفمبر: «سبني صلاح سالم وقال عني إنني مصاب بالشذوذ.. إلى هذا الحد وصل مستوى هؤلاء الذين رفعتهم من رتبة الذل الى رتبة السلطة والنفوذ.. لو في البلد قانون محترم ما تجرأ أمثال صلاح سالم على أن يقول مثل هذا الكلام ولا حتى أقل منه.. لكني واثق أن الله سيريني فيهم يوما».

ينشر عادل حمودة أيضا على بعض هذه النسخ من خطابات نجيب التي أرسلها إلى جمال عبد الناصر يطلب فيها أن يشارك في حرب السويس عام 1956 على أن يعود بعدها إلي منفاه.. وخطاباته إلى عبد الحكيم عامر يشكو فيها مما يلقاه من معاملة الضباط الصغار.. وقد لخصها في تلغراف قال فيه: «السيد المشير عبد الحكيم عامر - النائب الأول لرئيس الجمهورية - القاهرة: أرجو من سيادتكم إرسال مندوب يرى بعينه ما نحن فيه من آلام واعتداءات - التوقيع اللواء محمد نجيب.. العنوان قصر المرج قسم المطرية.. التليفون: 86959 أو 8697575 والتاريخ: 11 أكتوبر عام 1965.

وفي مقال آخر بنفس الصحيفة يوم السبت 13 يوليو 2002 يكتب عادل حمودة أن محمد نجيب كان يرسل برقيات التهنئة إلى جمال عبد الناصر في كل المناسبات القومية والشخصية..

و يذكر أيضا أنه – أي محمد نجيب- ذهب إلى جمال سالم «واحد من مشاهير الضباط الأحرار» لتعزيته في وفاة شقيقه صلاح سالم «عضو مجلس قيادة الثورة اشتهر بتجاوز الحدود الإنسانية مع خصومه».. يقول محمد نجيب: وقد فوجئ بحضوري وتساءل مندهشا: هل أنت الرئيس نجيب؟.. وهززت رأسي.. فاستطرد متأثرا: هل تعزيني في صلاح بعد كل ما فعلنا فيك؟.. فقلت له: الواجب واجب يا جمال.. وقبل ذلك زرت صلاح سالم وكان مريضا قريبا من الموت وعندما رآني أجهش بالبكاء وأمام أهله وحرسه قال: سامحني يا نجيب لقد حركنا الشيطان الرجيم ضدك.. ووجدت نفسي صامتا عاجزا عن حبس دموعي..

يقول عادل حمودة:

إن صلاح سالم الذي راح محمد نجيب يزوره مريضا ويقرأ الفاتحة عليه ميتا كان قد تخصص في التشهير به.. وادعى عليه ما لا تحتمله رجولة رجل.

كلمات محمد نجيب ورسائله تفتت الصخر..

لكن هناك قلوبا أشد من الصخر قسوة..

ولم يكن الإفراج عنه يمثل أي خطورة بعد أن قام الجهاز الإعلامي الجبار بغسيل مخ الناس..

يا محمد حسنين هيكل.. ألم يقع في يدك و أنت تجمع أوراق الثورة والوطن والتاريخ وجمال عبد الناصر.. ألم يقع في يدك خطاب محمد نجيب إليه عام 1956.. والرجل يتوسل.. ويتذلل كي يفلت من الورطة التي أوقعته فيها بطولته وسلامة طويته واستراتيجية جمال عبد الناصر للانفراد بالسلطة.. وتأييدك لكل هذا يا محمد حسنين هيكل..

.. ألم يقع في يدك يا محمد حسنين هيكل خطاب أرسله له محمد نجيب من بلدة أطلق عليها اسم "س" في الصعيد كان قد خطف إليها أثناء حرب السويس بعد أن تردد أن بريطانيا ستنزل بالمظلات فوق بيته في المرج وتفرضه مرة أخرى رئيسا للبلاد بعد أن تتخلص من جمال عبد الناصر.. أما وصفه المكان ببلدة "س" فسببه أنه لم يكن يعرف إلى أين حملوه بالضبط؟.

يقول خطاب محمد نجيب:

شخصي وسري جدا وعاجل وهام.. بسم الله الرحمن الرحيم.. بلدة س.. في يوم الاثنين 2 ربيع الثاني 1376 الموافق 5 نوفمبر 1956. الى السيد الرئيس جمال عبدالناصر: السلام عليكم ورحمة الله ـ وبعد.. فلست هازلا أو محاولا الدعاية لنفسي أو أن أتخلص من الوضع الذي أنا فيه ولكني مؤمن بصدق ما أقول لما تعلمه عني من أخلاقي ومن ميزاتكم الفريدة القدرة على معرفة الرجال كما أن أي رجل شجاع أو وطني صميم يستطيع بسهولة أن يؤمن بصدق ما أسطره إليكم الآن.

أريد أن نضرب للمواطنين بل للعالم أجمع مثلا جديدا على إنكار المصريين لذواتهم وعلى تضحيتهم بكل شئ في سبيل الوطن.. أريد أن ننسى كل شئ ونقف رجلا واحدا ندافع عن شرف مصر في هذه الساعة الحرجة من تاريخنا.. أريد أن تأمر بتمكيني من أعز أمنية وهي المشاركة في أقدس واجب وأشرفه وهو الدفاع عن البلاد.. لا كقائد أو ضابط بل كجندي عادي في جبهة القتال وباسم مستعار وتحت أية رقابة تشاءون دون أن يعلم أحد بذلك إلا من تقضي الضرورة بعلمهم.

وإني تأكيدا لإخلاصي أقول أنه لو خامركم أدنى شك فيما ذكرت فإني مستعد للقيام بأي عمل انتحاري كقيادة طوربيد أو أن أسقط محاطا بالديناميت على أي هدف مهم من أهداف العدو على نمط ما يصنعه اليابانيون.. وإني أؤكد لك أني إذا بقيت حيا بعد القتال فسأعود وأسلم نفسي لإعادتي إلى الاعتقال وأعدكم بأثمن ما أملك وهو شرفي العسكري فإذا أجبتم رجائي هذا غسلتم كل ما لحقني من آلام.. والسلام عليكم ـ المخلص لواء أ.ح محمد نجيب «توقيع».

هل هو مهم الآن أن نروي قيام أحمد أنور بضربه بالحذاء وهو رئيس للجمهورية ( ضرب المجرم أحمد أنور أيضا رموزا لمصر بحذائه منهم الشهيد عبد القادر عودة و أحمد حسين وعمر التلمساني)..

هل مهم الأن أن نعود إلى عام 56 حين فوجئ محمد نجيب بحضور ضابطين من البوليس الحربي هما جمال القاضي ومحمد عبد الرحمن نصير ليطلقا عليه سيلا من الشتائم .. ويصف محمد نجيب ما حدث: حاولت وقفهما بصرخة احتجاج فإذا بضابط منهما يرفع يده إلى صدري ويلكزني فيه، ودارت بي الدنيا وهانت علي الحياة وهممت بالهجوم عليه لكن أيدي الجنود حالت بيني وبينه.

يتدهور الحال بالسيد الرئيس محمد نجيب .. الذي بايعه جمال عبد الناصر.. فيكتب استرحاما إلى المجرم أحمد أنور الذي ضربه بالحذاء وهو رئيس للجمهورية لصالح عبد الناصر..

عندما اختطفوه إلى الصعيد أثناء العدوان الثلاثي ذهبوا به إلى بيت شقيقة أحمد أنور..

وبقى هناك في غرفة رطبة 51 يوما تحت حراسة مشددة كانت تنام معه داخل الغرفة.. وكثيرا ما كان جنود الحراسة يقولون له إنه سيقتل الليلة وعليه أن يقرأ الفاتحة على روحه..

يقول محمد نجيب: ولم أكن أشعر بالخوف من هذا الكلام بل على العكس كنت أتمنى الموت فعلا ولكني كنت أرفض الانتحار.

أيامها راجت نكتة حزينة دامية..

تقول النكتة:

وفي السجن التقى ثلاثة لا يعرفون بعضهم وبدءوا الحديث لتمضية الوقت فسأل أحدهم الأول حول سبب سوقه إلي السجن فقال لأنه شتم محمد نجيب . وسأل هذا الشخص السجين الثاني عن سبب وجوده في السجن فقال لأنه حيّا محمد نجيب ، وحينما سأل الاثنان الثالث عن سبب وجوده في السجن أيضا اخبرهم بأنه هو محمد نجيب .

لم يكن محمد نجيب من الإخوان المسلمين.. ولا هو يمثل الشخصية التي نندم بشدة عليها فقد كان عسكريا مثلهم.. وعندما علم أن أحمد حسين يخطب خطبا حماسية أمر بوقفه بأي طريقة لأن الشعب المصري " ما يمشيش إلا بالكرباج".

كان جمال عبد الناصر قد استخدم كل أنواع الحيل – بل والغدر – كي يصفي كل معارضيه في الجيش وليضمن ولاءه..

وحاول محمد نجيب – رئيس الجمهورية – أن يعادل قوة الوفد بقوة الإخوان..

كانت مصر قد فقدت عقلها وضميرها وقدرتها على الحكم والتمييز والمقاومة..

وكان الإخوان – ومعهم نجيب- قد أخطئوا خطأ العمر حين لم يستولوا تماما على الحكم في 27 فبراير 1954..

كانت الفرصة التي لا تلوح إلا مرة..

وقد ضاعت بسبب تردد محمد نجيب وسذاجته.. وبسبب سلامة نية الإخوان والتزامهم الديني الذي يمنعهم من الخيانة والغدر.. وكان الطرف الأخر يخون ويغدر ويخدع حتى سحقهم جميعا.. و اعتقلهم وسجنهم وحاكهم مجنونه جمال سالم و أعدمهم..

يصف الأستاذ عمر التلمسانى أحوال السجون والمعتقلات في تلك الفترة فيقول: لقد كان الضباط في أجهزة الأمن والسجون يجمعون معلومات من هنا وهناك ثم يطلبون من الأخ المعتقل أن يكتبها بخط يده ويعترف بأنه ارتكب أفعالا معينة فمن رفض كان يعذب حتى الموت فقد مات كثيرون بل عشرات من الإخوان من التعذيب للأعتراف بمسائل لا يعلمون عنها شيئا ولا دراية لهم بها .. حقا لقد حصل تعذيب في الحصول على الاعترافات بالغ الشناعة والبشاعة فيما يختص بالاخوان البعض استجاب والبعض الآخر لا يدرى شيئا ولا يعلم شيئا فمات من التعذيب " .

.. وامتد التخطيط المرسوم بدقة ليكمل الصورة ففي الجلسات الأولى للمحكمة الصورية ورد اسم ـ أو أريد لاسم محمد نجيب أن يرد ـ في خلال مناقشة المحكمة لأقوال هنداوى دوير المحامى وأن هناك اتفاقا تم بين محمد نجيب والإخوان أن يقوم محمد نجيب بمسايرة الإخوان بعد اغتيال الرئيس عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة وفي نفس اليوم وفي نفس اليوم أطاح عبد الناصر بآخر وجه كان ينافسه الشعبية الجماهيرية وصدر قرار مجلس قيادة الثورة بتنحية محمد نجيب من رئاسة الجمهورية وإبعاده من مجلس قيادة الثورة لينفرد عبد الناصر بحكم البلاد دون منافس أو معارض واحد !!

أما ما دار في " كواليس " هذه المهزلة التي سميت محاكمة فهناك الكثير كانت أسئلة المحامين تستهدف إدانة المتهمين وليس الدفاع عنهم وإيجاد الثغرات والظروف المخففة لهم..ووجه جمال سالم من ألفاظ السباب ما يعف اللسان عن ذكره وكان يكره بعض المتهمين على الاعتراف بالتهديد ولم يكن يسمح لمتهم أن يلتقي بمتهم آخر وكان يسمح للجمهور الذي يحضر المحاكمات أن يشارك المحكمة في ممارسة السخرية والاستهزاء بالمتهمين .

أما صحافة تلك الفترة فكانت صحافة موجهة مزيفة للحقائق فقد أفاضت في ذكر الاتهامات وإلصاقها بقيادات وأعضاء الإخوان وتبارت فيما بينها في توجيه أفظع السباب والشتائم لجماعة الإخوان ولم تنشر سطرا واحدا من محاورات الدفاع وإنما كانت كل مساحتها مخصصة للإدعاء ـ والقول بأن محاولة اغتيال عبد الناصر كانت جزءا من مخطط شامل أومؤامرة كبرى للإطاحة بنظام الحكم والقضاء على " الثورة ".

كانت تلك الصحف هي الأم الشرعية لصحف الخيانة والكذب الدعارة والمخدرات والشذوذ التي تنتشر بيننا الآن.. في القرن الحادي والعشرين..

سوف نوافق – جدلا على ما حدث للإخوان المسلمين..

فلماذا حدث للوفد ما حدث..

ولماذا حدث لمحمد نجيب ما حدث؟..

نحن أمام شهوة هائلة للانفراد بالسلطة..

شهوة عارمة لا تبقي ولا تذر..

شهوة قاسية باردة لا تتورع عن أي فعل..

شهوة عاقلة تحمل فكرا استراتيجيا مخططا بمهارة يعرف قبل أن يبدأ خطوته الأولى ماذا ستكون خطوته الأخيرة.. مهما كانت التفاصيل والعقبات والعوائق..

يقول جمال حماد: " وفي الوقت الذي تمت فيه تصفية العناصر المنافسة والمناوئة من العسكريين وخلا الجو تماما لعبد الناصر داخل القوات المسلحة بفضل مؤازرة صديقه الحميم عبد الحكيم عامر القائد العام كانت الخطة تنفذ بدقة ومهارة لإحكام السيطرة على الساحة السياسية في مصر عن طريق الإطاحة بكل القوى السياسية التي كانت موجودة على المسرح عند قيام الثورة في 23 يوليو 1952 ففي 10 ديسمبر 1952 صدر القرار بإلغاء دستور عام 1923 وفي 16 ينار 1953 صدر القرار بحل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميع أموالها لصالح الشعب وقيام فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات وفي 18 يناير1953 ولحماية حركة الجيش من رقابة القضاء صدر مرسوم بقانون باعتبار التدابير التي اتخذها رئيس حركة الجيش لحماية الحركة ونظامها من أعمال السيادة، العليا أي لا تخضع لرقابة القضاء وفي 15 فبراير 1953 صدر الإعلان الدستوري بإعلان الدستور المؤقت الذي تقرر أن تحكم مصر بموجبه خلال فترة الانتقال.

وفي مطلع عام 1954 لم يكن باقيا في الساحة السياسية في مصر سوى جماعة الإخوان المسلمين التي أسهمت بدور بارز في مؤازرة حركة الجيش قبل قيامها وكذا بعد قيامها مما دعا قيادة الحركة إلى عدم تطبيق قرار مجلس الثورة الذي صدر في 16 يناير 1953 بحل الأحزاب على جماعة الإخوان المسلمين. ولكن الخلافات العميقة التي نشبت بين مجلس الثورة وجماعة الإخوان المسلمين أدت إلى صدور قرار المجلس في 14 يناير 1954 باعتبار الجماعة حزبا سياسيا ورضوخها بالتالي لقرار حل الأحزاب الذي صدر منذ عام سابق وترتب على ذلك القرار حل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها وممتلكاتها والزج بقادتها في أعماق السجون. وعندما اشتد الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب وأعلن مجلس الثورة قبوله لاستقالة محمد نجيب يوم 25 فبراير 1954 لعب الإخوان المسلمون رغم حل جماعتهم دورا بارزا في إعادة محمد نجيب إلى السلطة مساء27 فبراير عن طريق المظاهرات الشعبية الضخمة التي نجحوا طوال اليوم في حشدها وفي تولى قيادتها في شوارع القاهرة وميادينها خاصة ميدان عابدين.

وقد اضطر مجلس الثورة تحت الضغط الشعبي وتحت ضغط الرأي العام في الجيش خاصة في سلاح الفرسان إلى إصدار قرارات 5 و 25 مارس الديمقراطية التي تقرر فيها عودة الحريات والأحزاب والحياة. الدستورية إلى البلاد. ولكن عبد الناصر مع طائفة من زملائه كانوا يأتمرون للنكوص عن هذه القرارات والاستمرار في الحكم العسكري وكان خوفهم الوحيد "أن تتكرر المظاهرات الشعبية الضخمة التي ملأت شوارع القاهرة يوم 27 فبراير والتي تزعمها بعض قادة الإخوان المسلمين للمطالبة بعودة محمد نجيب وعودة الحياة الديمقراطية مما كان كفيلا بإفشال المخطط الذي دبروه وهو قيام مظاهرات مأجورة تجوب شوارع العاصمة للهتاف ضد الديمقراطية والحريات والمطالبة بتراجع مجلس الثورة عن قراراته.

ونظرا لأن الإخوان المسلمين كانوا هم القوة الوحيدة المنظمة و التي كان عبد الناصر يخشى من تواجدها في الشارع لذلك قام بلعبة بارعة لكي يضمن سكوت الإخوان المسلمين وابتعادهم مؤقتا عن حلبة الصراع فقد تم الإفراج عن زعمائهم المعتقلين وهرع عبد الناصر إلى زيارة المرشد العام حسن الهضيبى عقب الإفراج عنه في منزله بعد منتصف الليل ومضى في سياسة التهادن مع الإخوان المسلمين بمنحهم الوعود عن قرب استئنافهم لنشاطهم السياسي ريثما تم إلغاء قرارات 5 و 25 مارس الديمقراطية والتخلص من الجبهة المعارضة للدكتاتورية العسكرية داخل الجيش والمتمثلة في ضباط سلاح الفرسان ثم تحجيم زعامة ودور محمد نجيب بإرغامه على الاكتفاء بتولي منصب رئيس الجمهورية بدون سلطات حتى تم في النهاية تنحيته عن منصبه بعد بضعة أشهر.

وسرعان ما ظهرت نوايا عبد الناصر الحقيقية تجاه الإخوان المسلمين بعد أشهر ثلاث فقط من سياسة الملاينة والمهادنة التي اتبعها معهم فلم يكد يا حادث محاولة الاعتداء على حياته في مساء26 أكتوبر 1954 خلال الاحتفال الكبير الذي أقيم في ميدان المنشية بالإسكندرية بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا والذي اتضح أن الذي قام به عامل يدعى محمود عبد اللطيف ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين حتى كشف عبد الناصر عن خبيئة نواياه وتعرضت الجماعة لمحنة دامية لم يسبق لها مثيل فقد قامت علم أثر الحادث حملة اعتقالات واسعة النطاق شملت عدة آلاف من الإخوان المسلمين وتشكلت محكمة عسكرية سميت بمحكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي وأصدرت المحكمة حكمها بالإعدام شنقا على سبعة أفراد هم المرشد العام حسن الهضيبى ومحمود عبد اللطيف وعبا القادر عودة ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وهنداوى دوير ومحمد فرغلى وقد خفف الحكم على حسن الهضيبى إلى السجن المؤبد لكبر سنه ومرضه بينما نفذ حكم الإعدام في الستة الآخرين . وكانت ثلاث دوائر عسكرية فرعية من محكمة الشعب قد تشكلت في نفس الوقت ومثل أمامها في قفص الاتهام آلاف من الإخوان المسلمين وبلغ عدد الذين حكمت عليهم محاكم الشعب من الإخوان 867 شخصا سواء بالحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤكدة." وهذا العدد لا يشمل الأحكام العسكرية.. كما لا يشمل أحكام البراءة التي لم تنفذ فظل الأبرياء في السجن.. يسخرون من حالهم فيقولون أنهم قد حصلوا على حكم : "بالبراءة مع وقف التنفيذ"!!..

التسلسل عبقري وسواء كان حادث المنشية مدبرا أو مصطنعا .. وسواء دبره محمود عبد اللطيف أو جمال عبد الناصر نفسه أم خبير في المخابرات الأمريكية.. وحتى لو لم يحدث قط.. لم اختلف التسلسل في أي شيء.

إرهاب الضباط الأحرار

الرئيس جمال عبد الناصر

شهادة حسين الشافعي

راقبوا يا قراء ولاحظوا..

أنتم لا تتعاملون مع أفعال وردود أفعال بل تتعاملون مع خطط سابقة التجهيز تتلمس لها الذرائع فإن لم توجد اختلقت.. و إلا فهل كان الحمار المالطي سبب احتلال مصر أكثر من سبعين عاما؟؟..

هل كانت أسلحة الدمار الشامل سبب غزو العراق؟..

هل كان جرح الدبلوماسي الإسرائيلي في لندن عام 82 سبب غزو لبنان؟..

لدينا شاهدان من الضباط الأحرار يؤيدان ما نقول ويتفقا معا من أن سحق الإخوان كان لا مفر منه..

في برنامج قناة الجزيرة الشهير: " شاهد على العصر" يسأل المذيع والصحافي أحمد منصور السيدحسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الأرسبق عن سبب اشتراكه في الحكم بالإعدام على الشهيد عبد القادر عودة رغم أنه لم يكن ثمة شبهة عليه في حادث المنشية.. ويجيب حسين الشافعي:

"تعلم أن الذي يضع نفسه في موضع شبهة في ظروف ثورية،لابد أن يكون مستعدًّا أن يلقى شيئًا يتجاوز حدود الذي قام به، لأنه أن يقف في الشرفة إلى جانب (محمد نجيب) في المرحلة التي كانت فيها الأزمة، ويرفع عصًا عليها منديل مخضبٌ بالدماء في(عابدين) في استقبال المظاهرة التي كانت موجودة،هذا في حد ذاته عمل كبير جدًّا، يضع نفسه موضع شبهة، قد يكون الجزاء فيها استشعارًا لخطر هذا المظهر بالنسبة لردود فعله".

وهذا اعتراف كامل من حسين الشافعي بأن الشهيد عبد القادر عودة قد أُعدم بسبب شعبيته الطاغية وسيطرته على الجماهير..

هذا اعتراف كامل من عضو محكمة خارجة على الشرعية تحاكم وتعدم رجلا لأنه ساعد رئيس الجمهورية محمد نجيب..

هذا إرهاب و إجرام..وهذه عصابة..لكنه ليس إرهاب الإخوان المسلمين بل إرهاب الضباط الأحرار الذين انقلبوا على الشرعية وعلى رئيس الجمهورية..وسينتظر جمال عبد الناصر ثلاثة عشر عاما حتى يقولها بنفسه: "البلد كانت بتحكمها عصابة" وكان يقصد مجموعة المشير وصلاح نصر..لكن هؤلاء لم يكونوا سوى جزء من العصابة..نعود إلى حسين الشافعي.. يسأله أحمد منصور:

- بعد 45 عامًا من المحاكمة،أنت ترى أن(عبد القادر عودة)حُوكم-في هذه المحكمة-على موقفه الذي وقفه من قبل؟

حسين الشافعي:

على كل حال،المرء يقول أنه في الثورات يمكن أن تحدث أمور فيها تجاوزات(...)..

أحمد منصور:

- .. هناك شخصيتان ممن حُكم عليهم بالإعدام،كانا مطلوبين من البريطانيين بسبب بطولاتهم في حرب(فلسطين)،وفي المقاومة المسلحة في عام 1950 ..

ولا يحير الشافعي جوابا .. فيدافع عن نفسه بكلمات عامة.. لكن هذه الكلمات العامة كانت كارثة أخرى.. فهو يشبه الثورة بالشمس.. لها فلكها ومدارها.. وما دامت قد بزغت فليس مسموحا لأي كوكب آخر أن يظهر معها و إلا كان ككوكب يخاطر بالاصطدام مع الشمس وعليه أن يتحمل نتائج مخاطرته..

الحوار يوجز الأمر:

حسين الشافعي(مقاطعًا):

- على أن الناس تعرف أن هناك فلك واحد لابد أن تمشي فيه..

أحمد منصور(مقاطعًا):

- والذي لا يريد أن يسير في إطار هذا الفلك؟

حسين الشافعي:

- إذن يعمل فلكًا جديدًا،ويصطدم،وإذا اصطدم لابد أن يتحمل مسئولية اصطدامه.

أحمد منصور:

- الآن-سعادتك-تستند للأسانيد الإيمانية في هذا الأمر،وهناك-أيضًا-بعض المراقبين أو المحللين-ربما يكونون من المستقلين-الذين يقولون أنه لم تحدث عملية قتل أصلاً،فكيف يُقْتَل ستة أفراد دون أن يكون هناك دم بدم،أو نفس بنفس؟

حسين الشافعي:

هذا رأيك،فأنت وما ترى.

أحمد منصور:

- لا،أنا أسأل سعادتك،وليس رأيي أنا،أيْ-الآن-النفس بالنفس،و(عبد الناصر)لم يُقْتَل،وحكم بالإعدام على ستة،وأعدموا بالفعل في ظل مقياس النفس بالنفس،أنا نفسي أسمع شهادتك للتاريخ بنفس الوضوح الذي تتحدث به سعادتك،أنا أعرف أن هذا أمر قاسٍ،لكنْ أنا أكرر شكري لك على أنك قبلت أن تتحدث فيه،وفي نفس الوقت آمل أن تقول شهادتك فيه التي ستُسأل عنها أمام الله-سبحانه وتعالى؟

حسين الشافعي:

والله،نحن سنحاسب لا بواسطة(قناة الجزيرة)،إنما هو الله،هو الذي سيحاسبنا،وما حدث لظروف واعتبارات تضع مصلحة الوطن والبلد في الاعتبار الأول،و"اللي يشيل قربة مقطوعة،تخرّ على دماغه".

يا إلهي..

اللهم إني أستغفرك و أتوب إليك من أي كلمة تقريظ كتبتها في حسين الشافعي بسبب موقفه من السادات ومن مبارك..

أستغفرك و أتوب إليك..

خالد محيي الدين كان أكثر اختصارا ووضوحا :

" تصفية الجماعة كانت أمرا لازما لأن الثورة بقيادتها وحكمها لا يمكن أن تقبل أبدا بوجود قوة أخرى معها خصوصا وأن تلك القوى مسلحة. وأي حاكم كان يجب أن يفعل ذلك. الإخوان لا يريدون أن يفهموا ذلك ولا يريدون أن يفهموا وضعهم الآن . " حديث منشور في مجلة فلسطين.


شهادة أحمد حسين

بقي أن نستمع إلى شهادة أخري للأستاذ أحمد حسين ( نشرتها صحيفة الشعب في مذكراته عام 1982) .. يقول أحمد حسين:

نحن الآن في عام 1955 أفرج عنى وتنازلت عن القضية ولكنني ظللت مجروحا فلم يحدث في كل تاريخي النضالي أن أهنت كما أهنت واعتدى على كما اعتدى على في ظل الثورة ووقعت الواقعة: أطلق الرصاص في ميدان المنشية على جمال عبد الناصر وكان الضارب يدعى محمود عبد اللطيف من الإخوان المسلمون وعلى الرغم من أن عبد الناصر نجا فقد ظن أنه أصيب في مقتل وراح يثرثر بكلام فارغ يكشف عما في عقله الباطن 000 فراح يخاطب الشعب بقوله : غرست فيكم العزة والكرامة 0 واستغل هذا الحادث للبطش بالإخوان المسلمون وتألفت محكمة خاصة لمحاكمتهم وقضت على زعمائهم بعقوبات قاسية وعلى الرغم من أن واحدا منهم وهو عبد القادر عودة .. كان مسجونا قبل وقوع الحادث فلم ينج من عقوبة الإعدام وفزعت من هول المحاكمة .. ومن فظاعة أحكامها وأدركت أننا أصبحنا نعيش في ظل عهد جديد. حيث لا قانون ولا حدود وإنما إرادة الحاكم ومطلق مشيئته. فقررت أن أهاجر من مصر .. وإذا كان الوقت هو موسم العمرة، فقد قررت أن أسافر إلى السعودية طلبا للعمرة.. ومن السعودية أختار البلد الذي أتوجه إليه، وإمعانا في التمويه والتعمية طلبت مقابلة عبد الناصر لأستأذنه في السفر. وبالرغم من أننى كنت مقررا أن لا أتحدث في غير التحيات والسلامات والمجاملات العادية. فقد كان هو الذي دفعني للكلام. حيث لم أتمالك نفسي عن نقده سألني وما رأيك في الإخوان المسلمون قلت : إنك تعرف رأيي – أقصد الموقف الأخير . ووجدتني أندفع بلا وعى أندد بإعدام عبد القادر عودة. قلت : لقد كان باستطاعتك أن توفر 50% من النقد الذي وجه إليك لو وفرت حياة إنسان واحد وأسرع يقول : تقصد عبد القادر عودة؟ قلت نعم فإن عبد القادر عودة برئ من الحادث الذي وقع عليك، كما أنه برئ من أعمال العنف ومضيت أترافع في حماسة! هناك ثلاثة أدلة يكفي كل واحد منها لتبرئة عبد القادر عودة. وقد ثبتت كلها أمام المحكمة :

الأول : أنه كان سجينا قبل وقوع الحادث بعدة أسابيع .

الثانى : أنه اقترح من بعض الأعضاء القيام بمظاهرة مسلحة، فاستنكر عبد القادر عودة هذا الاقتراح بشدة .

الثالث : أن البعض اقترح بمظاهرة سلمية فرفض عبد القادر عودة القيام بأية مظاهرة .

وأصغى جمال عبد الناصر لمرافعتي ثم قال :

- والله يا أحمد نحن لم ننظر للأمر من الناحية القانونية – بل نظرنا إليه من الناحية السياسية .

غادرت مصر إلى السعودية، وأنا لا أكاد أصدق أنني هربت من الجحيم الذي أصبح الأبرياء فيه – يعدمون لأسباب سياسية .. وبعد أن أديت مناسك العمرة وجاء وقت الرحيل رحلت ولكن لا إلى مصر – بل إلى سوريا..

إنني أحترم المجاهد أحمد حسين كثيرا لكنني لا أوافقه فيما ذهب إليه..

لقد كان قتل الشهيد عبد القادر عودة جريمة.. وكذلك قتل الآخرين جميعا.. ومن قتل نفسا منهم فكأنما قتل الناس جميعا..


إعدام عبد القادر عودة إذن كان لسبب سياسي..

حياة إنسان تنهى لسبب سياسي..

قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق تهدر لسبب سياسي..

والسؤال هو..

لا..

ليس سؤالا..

إنها إجابة..

لقد دبر حادث المنشية كله لهدف سياسي..

يقول الأستاذ الأستاذ عباس السيسي في كتابه :"حكايات عن الإخوان"..

" وهم الذين رسموا له خطة تصفية الإخوان المسلمين من خلال حادث إطلاق الرصاص عليه في ميدان المنشية بالإسكندرية قبل نهاية 1954، أو المسرحية المرسومة دون إتقان للقبض على عشرات الآلاف من أبناء الإخوان المسلمين، وأنا أكتب هذا الكلام دون أن يكون إلى أدنى ارتباط بهم. ولكن ما حدث بعد إطلاق الرصاص أثار الشعب بأكمله، فالمفروض أن يتم القبض على مدبري الحادث والمحرضين عليه.. خمسة، عشرة، خمسين رجلاً، وليس الإخوان المسلمين بأكملهم00 ومن هنا قال الشعب المصري والمراقبون اليقظون: " ليس هذا بتصرف غاضب بل تخطيط للتصفية!" تماماً كما فعل "هتلر" حين أمر أعوانه بحرق البرلمان الألمانى0"

نعم..

تخطيط للتصفية..

تخطيط استراتيجي عبقري كانت آخر خطوة فيه محسومة قبل الشروع في الخطوة الأولى..

هل كان جمال عبد الناصر يجرؤ على كل هذا العبث بالدستور لولا حادث المنشية..

هل كان جمال عبد الناصر يجرؤ على أول استفتاء في التاريخ ينجح فيه الحاكم بنسبة 99و99% لولا حادث المنشية..

وهل كان ممكنا أن تنشر الأهرام موضوعاتها الداعرة في تمجيد ذلك كله لولا حادث المنشية..

جمال حماد يحكي عن المصائب التي جرت

سوف نعود إلى جمال حماد ليحكي لنا عن المصائب التي جرت:

".. وفيما يتعلق بالدستور كانت لجنة خاصة قد شكلت بقرار من مجلس الثورة في 13 يناير 1953 لوضع مشروع دستور جديد بعد إلغاء دستور عام 1923 وقد روعي في تشكيل اللجنة التي ضمت 50 عضوا أن يمثل أعضاؤها مختلف الأحزاب والطوائف والهيئات علاوة على أن يكون من بينهم طائفة من جهابذة رجال القانون في مصر. واستمرت هذه اللجنة التي كان يرأسها على ماهر هي ولجانها الفرعية تعمل عملا دائبا لمدة عامين كاملين حتى انتهت من إعداد مشروع دستور جديد يتمشى مع أحدث وأفضل الدساتير في العالم وأقرته اللجنة الفرعية للصياغة وأحيل في 17 يناير 1955 إلى رئيس مجلس الوزراء وقتئذ جمال عبد الناصر لاستطلاع رأيه قبل عرضه على اللجنة العامة تمهيدا لإصداره. ولكن عبد الناصر تجاهل هذا الدستور الذي أنفقت لجنة الدستور عامين كاملين في إعداده والتي استرشدت في صياغته بأبرز وأهم النظم الدستورية في العالم واكتفي بأن عهد إلى مستشاره القانوني الخاص محمد فهمي السيد (قريب السيدة قرينته) بوضع دستور آخر بمعاونة المكتب القانوني برئاسة مجلس الوزراء الذي كان يتولى رئاسته. وبعد دراسة استغرقت بضعة أشهر تم إعداد مشروع الدستور الجديد الذي عرض على مجلس الثورة وعلى مجلس الوزراء في أيام 10 و 11 و 13 يناير وبعد التصديق عليه صدر الدستور الجديد في 16 يناير عام 1956 أي في نهاية السنوات الثلاث التي حددت من قبل كفترة انتقال لإقامة حكم ديمقراطي سليم. ودعى الشعب إلى استفتاء عام في 25 يونيو 1956 على الدستور الجديد وعلى رئاسة الجمهورية وقد حصل عبد الناصر في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية على 99.9% وهى نسبة لم يسبق لها مثيل من قبل في تاريخ الاستفتاءات في العالم كما كانت نتيجة الاستفتاء على الدستور هي 99.8% في صف الموافقين عليه."

حتى جمال حماد.. وهو ليس من الإخوان المسلمين ولا من الوفد ولا منمصر الفتاة.. بل إنه زميل جمال عبد الناصر..من الضباط الأحرار .. حتى هو لا يحتمل فيصرخ:

" ولعل خير ما نستدل به على مدى النفاق السياسي الذي كان سائدا في تلك الفترة أن نطلع على ذلك المقال الذي نشر بجريدة الأهرام العدد الصادر في 26 يونيو 1956 الذي نشرت فيه نتائج الاستفتاء بالعناوين الضخمة في صدر الصفحة الأولى وهو بالطبع صورة تكاد تكون طبق الأصل مما نشر في الصحف الأخرى وقد ورد في هذا المقال ما يلي بالحرف:

(فاز الرئيس جمال عبد الناصر برئاسة الجمهورية بنسبة عددية قدرها 555. 5.494 وبنسبة مئوية قدرها 99.9%، فوز إجماعي ساحق بل وفوز تاريخي لم يحصل عليه مرشح في أي انتخاب ولم يتح مثله لرئيس أو زعيم. وفي هذه الأرقام الدليل القاطع والبرهان الدامغ على مبايعة الشعب الإجماعية للسيد الرئيس وتقدير جهده وجهاده من أجل مواطنيه وبلاده لاسيما إذا وضعنا في الحساب ما امتازت به هذه الانتخابات من حرية ونزاهة وسرية وهدوء لم تشهدها البلاد في سلسلة حياتها النيابية. وإذا قورنت هذه النسبة الإجماعية التي فاز بها السيد الرئيس عبد الناصر بما ناله رئيس جمهورية أمريكا أو ألمانيا الغربية أو رئيس وزراء بريطانيا لكانت ضئيلة أمام النسبة التي نالها الرئيس جمال عبد الناصر. فقد فاز " ايزنهاور " رئيس جمهورية الولايات المتحدة في الانتخابات الأخيرة بنسبة لا تتجاوز 33.86% وفاز " اديناور " رئيس جمهورية ألمانيا الغربية في انتخابات 1953 بنسبة لا تزيد على 86.2% وفاز حزب المحافظين بالحكم في إنجلترا بنسبة بلغت 38.26%. ونال الدستور كذلك موافقة إجماعية بنسبة عددية قدرها 5.488.225 وبنسبة ه قدرها 99.8% وهى نسبة تبلغ حد الكمال وتدل أرقامها يقظة الوعي القومي وتقديره) انتهى مقال الأهرام.

وبتولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية وتصديق الشعب على الدستور الجديد أصبح مجلس قيادة الثورة منحلا وأصبح " الناصر هو صاحب السلطة الشرعية في البلاد .

المشروع العسكري العلماني التحديثي

ألا يحدث أبدا أيها القارئ أن تري شخصا لم تقع عليه عينك قبل ذلك أبدا لتصرخ: أنت أخو فلان أو ابن فلان أو قريب فلان أو من عائلة فلان..؟! وتكون مصيبا..

ألم تفكر أيها القارئ أن مذبحة المنشية تمت بصلة القرابة إلى مذبحة المماليك.. و أن مذبحة مؤامرة المشير ومذبحة 15 مايو من نفس العائلة غير الكريمة.. و أن كل هذا ينبع من نفس ينبوع الغدر والخيانة..

ألا يحدث أحيانا أيها القارئ أنك تشهد موقفا فيذكرك بأخر.. وشتان ما بين الموقفين..

هل تذكرون فتاة العتبة التي اغتصبت جهارا أمام المئات.. وأربعمائة ديوث لم يحرك منهم ديوث ساكنا ولم ينتفض منهم لصون العرض أحد..

ألم يذكركم هذا الموقف أيام حدث بموقف الأمة العربية والإسلامية تجاه العراق وفلسطين..

هذه الآلية النفسية التي تقوم مقام الأمثلة في الرياضة والرمز في الأدب والنبوءة في الأسطورة..

ألم تجعلكم هذه الآلية نفسها تربطون ما بين اعتزال هيكل وتنحي عبد الناصر

نفس الآليات النفسية..

نفس الانهيار ونفس الفشل..

نفس الهزيمة ونفس النكسة..

المشروع العسكري العلماني التحديثي..

والمشروع الفكري..

المشروع الفكري الذي ظل هيكل يكرسه نصف قرن ليحيط به بلاد العرب بسياج العروبة.. هذا المشروع أقصى ما وصل إليه هو تأمين قصر العروبة..

نعم ..

تأمين قصر العروبة لشاغليه و أنجاله..

هذا هو الجزء الباقي من الناصرية ومن الضباط الأحرار شئنا أم أبينا..

وفي أحاديث هيكل الأخيرة المفعمة بالأسى واليأس لم يفصح هيكل عن سبب ذلك.. بل الأقرب أن كل ما قاله إنما كان ليخفيه..

لقد كان هيكل شريكا في كل شئ.. في الحرب والسلام والفن.. و أيضا في نصب المشانق والتعذيب.. وكان أسوأ ما فعله أن قدم لنا صورة خيالية تجعلنا الآن نصرخ:

" الثورة .. لم تكن كذلك"..

"و هيكل.. ليس كذلك"..

وتلك الصورة المثالية الحالمة ليست كذلك..

والبطولة والإبهار والمجد والزعامة و الإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما ... كل ذلك لم يكن كذلك..

نعم.. برنامج صناعة النجم غير الحقيقة وألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق..

كل ذلك.. لم يكن كذلك ..

لذلك فإن هذا الألم الفاجع الذي فاض من محمد حسنين هيكل على قرائه هو أكبر من أن يكون ألم فقد. إنه ألم آخر. ألم ضمير طالما برر الوسيلة بالغاية فلما ضاعت الغاية تبدت بشاعة الوسائل.

ألم ضمير يعرف ما لا نعرف ولا يستطيع الكشف عنه..

ألم خدعة هائلة.. اقتلوا الإخوان المسلمين ولكم ما شئتم..

فلما قتلوهم انقلبوا عليهم..

لكم كرهت كتاب مايلز كوبلاند ولكم كرهت الاتهامات التي يكيلها لهيكل ثم لعبد الناصر..

ولكم كذبته..

لكنني أفاجأ بالدكتور مصطفي خليل وهو صنيعة هيكل وربيبه وتلميذه يقول في حوار أخير مع قناة الجزيرة أن معظم ما قاله مايلز كزبلاند كان صحيحا..

يا للألم..

كنت قد اقتنعت بما قاله هيكل عنه من أنه نصاب ومهرج..

فإذا به واحد من أهم رجال المخابرات الأمريكية..

و هيكل ليس جاهلا وليس غبيا..

بل على العكس تماما تماما..

أعترف أنه أسطورة وموسوعة..

لكنه لا يقول الحق..

إنه يلونه بما شاء له الهوى..

ولقد اصطدم الإخوان فعلا – كما يقول هيكل لصحيفة العالم اليوم - بالأنظمة الأربعة في ستين عام.. لكن الذي لم يذكره هيكل أن كل نظام منها كان أشد فسوقا و إجراما من سابقه..

هذه واحدة..

أما الأشد والأنكى فهي أن كل هذه النظم هي التي بادرت الإخوان بالعداء وبالخيانة والغدر و أن ذلك تم دائما – نعم : دائما – بإيعاز من، ولصالح جهات وأجهزة أجنبية..

سوف نتناول هذا فيما بعد.. لكننا الآن نكرر:

هيكل لا يقول الحق..

إنه يلونه بما شاء له الهوى..

أعترف أنه أسطورة وموسوعة..لكنه لا يقول الحق..

كان، من الحقائق التي استقرت في أذهاننا، أن هيكل كاتب موضوعي عفيف..

ها قد اكتشفنا أنه ليس موضوعيا.. فهل كان عفيفا؟..

فلنقرأ له ( والاستشهادات مأخوذة من مقالاته في الكتب وجهات نظر):

“دخلت الأم ( يقصد الملكة نازلي) إلى الجناح الخاص بابنها والدموع في عينيها وفوجئ “فاروق” بها تنزل راكعة تحت قدميه تعترف له، ومؤدى اعترافها أنها أحبت “أحمد حسنين” وأنه أول رجل دخل حياتها وهي تريد من ابنها أن يسامحها بفهمه، وهو أول من يعرف أن علاقتها بأبيه لم تكن مرضية لا له ولا لها (وأفاضت في الشكوى)، ثم أقسمت إنه لولا “فاروق” وحرصها عليه لكانت تجرأت على طلب الطلاق رغم يقينها أن الملك “فؤاد” لن يمنحها هذه الفرصة أو لأقدمت على الانتحار، ولكن الأم كتمت أحزانها في قلبها وعاشت من أجل ابنها. ثم راحت الأم تروي لابنها ما أصابها في القصر من ذل بسبب جبروت الملك “فؤاد”، وضمن ما روته أنها ذهبت إلى عيادة الأسنان في القصر وفيها طبيب ألماني اسمه “شفارتز”، وأن الطبيب بعد أن نظر في فمها، اكتشف اهتراء لثتها، وقال لها إن تلك “لا بد أن تكون عدوى” من “صاحب الجلالة” لأنه مصاب “بالبيوريا” (ولم تكن المضادات الحيوية قد ظهرت بعد لعلاجه)، ورغم علم الملك “فؤاد” بما أصابها، فقد تأكد لها من تصرفه أنه يتعمد نقل مرضه إليها، وحدث حين ترددت أمامه مرة، أن أمر بحبسها في غرفة نومها أسبوعا كاملا عقابا لها أن تأففت من طلب له(...) ثم قالت الملكة الأم وهي في “حالة صعبة” إنها “لم تفعل شيئا في الحرام” وما فعلته أنها تزوجت من “أحمد حسنين” على سنة الله ورسوله، حفاظا على شرف ابنها، واحتفظت بالزواج سرا حتى تنتهز فرصة مناسبة وتحكي له، وانتهت الملكة بأن قالت لابنها، إنها اعترفت بكل الحقيقة متوسلة إليه أن لا يؤذي “أحمد حسنين” بسببها، وهي تقسم له إن “أحمد حسنين” مخلص له ولعرشه، وإنه تردد في قبول الزواج ولكنها تعهدت له بأنها واثقة من أن ابنها وهو الأقرب إليها من كل الناس سوف يفهمها ويسامحها، وهي الآن أمامه راكعة على ركبتيها وإذا عفا عنها وعن “حسنين” بقيت عمرها تحت قدميه، وإذا أبى العفو فإنها سوف تشعل النار في نفسها وتنهي حياتها مثل أي بنت بلد “وقعت في الغلط”. وفي ما بعد وعقب وفاة “أحمد حسنين” (باشا) في حادثة سيارة على كوبري قصر النيل سنة 1946 هرع الملك إلى بيت “حسنين” في الدقي، يسبق كل الناس ليأخذ من غرفة نومه أي ورقة تكشف عن علاقته بالملكة الوالدة. وترامت وقتها شائعات بأن الملك أخذ بعض المقتنيات الذهبية والماسية (بالذات الأوسمة مما كان في بيت أحمد حسنين)، ولم يكن ذلك منصفا.

هل قرأت أيها القارئ..؟؟..

كأنه هيكل آخر غير الذي نعرفه..

أسلوب.. نعم.. بلاغة.. حاضر.. جزالة.. موافق.. معلومات.. لا بأس ..

لكن..

هل يوجد جملة واحدة يمكن توثيقها أو إسنادها.. خاصة أن كل ما حدث كان سرا بين الملك وبين أمه.. فكيف عرف هيكل كل هذه التفاصيل..

دعنا من التفاصيل المثيرة للاشمئزاز والغثيان.. ( كيف استطاع هيكل على سبيل المثال أن يتوصل إلى أن الملك فؤاد كان يتعمد نقل البيوريا إلى الملكة نازلي)..

يا للاشمئزاز والقرف

يا لامتهان عقول الناس..

لكن..

هذا هو اللون الذي يجب أن يصبغ به هيكل الملك و أبيه و أمه وزوج أمه..

هذا هو اللون الذي يسلب به ضحاياه إنسانيتهم ليتحولوا إلى حشرات مقززة يرحب الناس جميعا بدهسها بالأحذية..

هذا هو اللون الذي يجعلك لا تتساءل بعد ذلك عن شرعية أي إجراء اتخذ مع هذا الملك وعائلته القذرة!!..


وكان لابد لنفس اللون أن يصبغ مصطفي النحاس أيضا..

لقد ظلمت الثورة النحاس.. وأساءت إليه .. وافترت عليه.. وغدرت به.. وخدعته.. وكانت معه بمنتهى الخسة..

هذا هو الواقع..

لا بد إذن من صبغ صورة مصطفي النحاس بما يجعله يستحق كل ما فعلته الثورة فيه..

لابد إذن من تشويهه والتشهير به.. وبنفس الطريقة.. لا توجد واقعة يمكن إثباتها أو إسنادها .. يوجد فقط القدرة المذهلة للخيال البشري على تصور ما يشاء.. ثم سرده كما لو كان واقعا..

فلنقرأ إذن مصطفي النحاس مصبوغا بهوى هيكل:

.. كانت للنحاس (باشا) حياة خاصة حرص على صيانتها، لكنه تعرض سنة 1932 لواقعة أخرجت حياته الخاصة رغما عنه من الصون الذي حرص عليه. ففي تلك السنة التقى “النحاس” (باشا) بصحفية إيطالية يظهر أنها كانت على شيء من الجمال اسمها “فيرا” (ولم أجد في السجلات اسمها كاملا). وطبقا للروايات (وهي موثقة) أن لقاءات “النحاس” (باشا) بالصحفية الإيطالية تكررت، وفي بعض الشهادات أن “فيرا” كانت مدسوسة على “النحاس” (باشا) بتدبير من “إسماعيل صدقي” (باشا) رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وكان قصده الإيقاع بزعيم الوفد بموافقة من الملك "فؤاد"، والوسيلة كشف المقابلات المتكررة بين زعيم الوفد وبين الصحفية الإيطالية.

وكان “النحاس” (باشا) يقابل “فيرا” في عوامة على النيل عند شاطئ العجوزة المقابل لنادي الجزيرة، ورتب “صدقي” (باشا) لمداهمة يقوم بها البوليس للعوامة ومفاجأة من فيها بما لا يتوقعون.

وكان ذلك بعد ظهر يوم أحد، وتصادف وجود “أحمد ماهر” (باشا) في سباق الخيل في نادي الجزيرة، وحدث أنه تقابل مع “أحمد عبود” (باشا)، وإذا هو يفهم منه أن رئيس الوفد على وشك أن يقع في الفخ. وأدرك “أحمد ماهر” خطورة الموقف وهرع مسرعا إلى موقع العوامة، وكان يعرفه، واقتحم طريقه إلى داخلها، والنتيجة أنه عندما وصل البوليس كان رئيس الوفد جالسا في صالون العوامة يتحدث مع واحد من أكبر معاونيه في قيادة الوفد وهو “أحمد ماهر” (باشا).

وفشلت خطة الإيقاع بالنحاس (باشا) .

إنني أنبه القارئ إلى الرواية كما رواها هيكل تستوجب لإقامة حد القذف عليه.. وليس فيها جملة واحدة يمكن إثباتها أو إسنادها..

يمكن للقارئ أن يتخيل، إذا كان هيكل قد كتب هذا عن الملك و أمه و أبيه، وعن مصطفي النحاس، فماذا يمكن أن يكتب عن الإمام الشهيد حسن البنا، وكيف اضطر للسفر هربا من إلحاح الإمام الشهيد وهو يطارده كي يعمل صحفيا معه..

في ذلك الوقت كان هيكل في الثالثة والعشرين من عمره، وكان يعمل في صحيفة الإجيبشيان جازيت وثيقة الصلة بالسفارة الأمريكية.. وفي نفس هذا الوقت كان الإمام حسن البنا يقابل في الدول العربية مقابلة الملوك..

لا ينسى هيكل أيضا أن يقدم صك غفران جماعي و بأثر رجعي لكل الجرائم التي ارتكبت في حق الأمة ممثلة في الإخوان المسلمين..

لا ينسى..

وهو ليس جاهلا وليس غبيا..

بل على العكس تماما تماما..

أعترف أنه أسطورة وموسوعة..

لكنه لا يقول الحق..

إنه يلونه بما شاء له الهوى..

ولنقرأ صك الغفران الذي يمنحه للعهود جميعا كما يرويه عادل حمودة في صحيفة البيان الإماراتية:

وفي السجن وجد هيكل في زنزانته من التيار الديني ممن شملتهم اعتقالات سبتمبر 1981. . ومنهم شاب اسمه "أكمل". . لقيته قافل. . على حد تعبير هيكل. . سألته عن دوره في تعبد ربنا بالصلاة والعمل والاتصالات مع المجتمع. . بدأ يقول "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون" قال له هيكل : "طيب يا رجل. . أنا باعتقد أن ربنا خلق الإنسان في الأرض ليعمل مهمة أكبر من كده. . ليعمر الأرض. . ليطور الحياة . . لأن في الإنسان جزءاً من نور الله. . لكنه لم يفهم. . ثم دخل المحامي الوفدي إبراهيم طلعت مناقشة سياسية معه. . لكنه تركهم ونام. . وحاول هيكل أن يشده إلى الحديث.. فكان أن قال : "هذه أمور الدنيا لا أناقشها". . والغريب أنه كان طالباً في كلية الهندسة.

إذن.. هذا الـ"قافل" ليس بشرا.. إنه وباء.. وهو خطر على الإنسانية والحضارة.. وهو غبي رغم أنه طالب هندسة.. وهو لا يفهم لا في العلم ولا في الدين.. وهو جلف عديم الذوق أيضا إذ يترك اثنين من أساطين المجتمع (هيكل و إبراهيم طلعت ) لينام..

هذا نموذج لا يمكن أن تتعاطف معه..

وهو نموذج سوف تضطر للموافقة على ذبحه لإنقاذ الأمة من خطره..

هذه إذن شهادة براءة لكل الجلادين وما فعلوه بالإسلاميين.. بل إنهم لم يكونوا جلادين.. بل مواطنين شرفاء اضطرتهم مناصبهم لمواجهة هذا الخطر الداهم.

...

...

...

نوافق على أن تحكموا.. لكن بغير دين الإسلام..

الكارثة..

الكارثة..

الكارثة.. أن هذا المنطق بحذافيره هو الذي تتبعه أمريكا اليوم وهي تسحق دول العالم الإسلامي..

كنا نحن المشتل الذي استنبتت فيه البذور الشيطانية منذ خمسين عاما.. فهنيئا لك يا محمد حسنين هيكل..

مبروك .. ومبارك..

هل تريد نجاحا أعظم من هذا.. ما فعلتموه منذ خمسين عاما هو الذي يفعله العالم اليوم..

والأكاذيب التي روجتموها عن الإخوان المسلمين منذ خمسين عاما هي التي يرددها الصليبيون واليهود اليوم..

وخداع الأمة بأن الإخوان يعاقبون بسبب إجرامهم و إرهابهم لا بسبب إسلامهم هو ذات ما تفعله أمريكا اليوم .. حين تسحق المسلمين وتدمر بلاد المسلمين وتغزوها ليس لأنهم مسلمون بل لأنهم إرهابيون..

مرحي لخطتكما الفذة.. خطتك أنت وجمال عبد الناصر..

أنتم أيضا ادعيتم أنم لا تحاربون الإسلام..

وما حاربتم غيره..

ما حاربتم غيره..

ما حاربتم غيره..

ألم تفكر ياسيد القرطاس و القلم أن القصاص الإلهي كان عاجلا..

وبعد مذبحة المنشية كانت الهزيمة العسكرية في 56 والسماح لإسرائيل بالمرور في خليج العقبة..

ألم تلاحظ أن محنة الإخوان الصاعقة في 1965 أعقبتها الهزيمة الصاعقة في 1967..

أقدر يأسك و أفهمه..

فأنت مسئول..

وأنت ذكي جدا.. ومن المؤكد أنك تفهم لكنك محاصر بين ماض لا تستطيع الهروب منه ومستقبل لا تستطيع الولوج فيه وكلمات الشهيد العظيم سيد قطب تطاردك:

"كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فانما هو من عملاء يهود، سواء عرف ام لم يعرف، أراد ام لم يرد، وان اليهود سيظلون في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها… حقيقة العقيدة الايمانية والشريعة الايمانية، فهذا هو الطريق، وهذه هي معالم الطريق".

لماذا لم تتوسط لسيد قطب يا محمد حسنين هيكل..

لقد شاهدك الصحافي جابر رزق في السجن الحربي حين ذهبت تنقذ أحد أصحابك من بين براثن الجلادين..

لماذا لم تجنب جمال عبد الناصر هذا العار..

حتى نابليون وكرومر لم يحكما بالإعدام على الكتاب والعلماء والمفكرين..

كان هيكل هو المسئول عن مراجعة خبر إعدام الشهيد سيد قطب..

ليس في الأهرام فقط..

بل في كل الصحف ..

كان مطلوبا منه أن يصبغ الخبر بالتقليل من شأن البطل الشهيد..

زهير مارديني.. كاتب .. ليس مصريا.. لا يحب الإخوان.. حاول مرتين أن يستمع إلى الإمام الشهيدحسن البنا لكنه لم يستطع الصبر أكثر من خمس دقائق..

لكنه بالرغم من ذلك كان يملك من الحيدة والنزاهة والضمير والوجدان والعقل ما دفعه للقول – في كتابه الشهير: اللدودان: الوفد والإخوان- دار إقرأ- بيروت:

"ولكن الصحيح أيضا أن لي بينهم أصدقاء كنت أعتز بصداقتهم في طليعتهم شهيد الدعوة وشهيد العلم والعلماء سيد قطب... إنه أحقهم بلقب الشهادة ، ذلك أنه لم يقتل أحدا ولم يحرض على قتل أحد، ومع ذلك فقد أعدم وقتل مظلوما، فكان سيد شهداء الإخوان وقطبهم الذي لا يدانيه قطب!."

ثم يضيف زهير مارديني جملة كارثة..

نعم..

جملة كارثة ..

هل تذكرون يا قراء ما سماه هيكل – وكان صادقا – بالجملة الكارثة في خطاب السادات إلى كيسنجر صباح يوم 7 أكتوبر 1973، حيث يخطره بأن الجيش المصري لا ينوي تطوير الهجوم.. وكانت هذه الجملة أشبه بتصريح مجاني للجيش الإسرائيلي لكي يتفرغ للجبهة السورية حتى يقضي عليها ثم يتحول بعد ذلك إلى الجبهة المصرية..

لقد صدق هيكل.. ومعه حق في أن يرفع مستوي التورط فيها إلى جريمة الخيانة العظمى..

نعود إلى الجملة الكارثة لزهير مارديني حيث يقول:

وهنا أذكر حديثا خاصا جرى بيني وبين الأستاذ " مرتضى المراغي" مدير الأمن العام في تلك الأيام، والرجل الذي حقق في مقتل الشيخ حسن البنا ، سألته عن الانطباع الذي كونه عن الشيح البنا فقال لي:

" زارني الشيخحسن البنا في مكتبي شاكيا تصرفات رجالي حيال الإخوان، وكانت أول مقابلة خاصة بيني وبين الرجل الذي تربطه بوالدي شيخ الأزهر مصطفي المراغي صلات ودية، فقلت له: إن أنصارك يدعون أن يكون القرآن هو الدستور والقانون ومصدر التشريع والحكم، وأنت تعلم أن الدول الأجنبية وافقت على إلغاء الامتيازات شرط أن يكون التشريع وفق المبادئ الحديثة "..

نعم..

جملة كارثة..

جملة كارثة تحكم بما هو أكثر من الخيانة العظمى على كل النظم السابقة واللاحقة..

"الدول الأجنبية وافقت على إلغاء الامتيازات شرط أن يكون التشريع وفق المبادئ الحديثة "..

أي: نوافق على أن تحكموا.. لكن بغير دين الإسلام..

هذه هي المقايضة..

في البداية كان بيع الدين مقابل استقلال الأمة والدولة..

ثم أصبح بيع الدين ثمنا لاستمرار الدولة..

ثم تقلص الثمن إلى الاستمرار في الحكم..

هل تذكرون يا قراء سؤالي لهيكل: هل هي أزمة فكر قومي أم أزمة ضمير شخصي..

أظن أن هذا هو السبب..

لقد اكتشف هيكل أن الأمة دفعت ثمنا هائلا ظلت تدفعه ستين عاما أو يزيد.. وقد تقلص مقابل هذا الثمن في النهاية إلى شئ واحد هو استمرار حكم مبارك..

لقد اكتشف هيكل أنه لم يخطئ في الحساب فقط.. بل لقد ساهم في تمرير الصفقة مهما التمس من أعذار بأنه لم يكن يتخيل أن يحدث ما حدث..

نعم..

بدأت الصفقة مقابل القومية العربية ووحدة أساسها العروبة..

وانتهت إلى ضمان أمن قصر العروبة..

وكان الثمن فادحا والخديعة أفدح..

وكانت كارثة الشريف حسين تتكرر..

لم تكن في الأولى مأساة وفي الثانية مهزلة..

بل كانت في المرتين مهزلة..


للمزيد عن حادثة المنشية ومحكمة الشعب

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

مقالات متعلقة

ترجمة لبعض المتهمون في القضية

.

تابع ترجمة لبعض المتهمون في القضية

أحداث في صور

وصلات فيديو

.

أقرأ-أيضًا.png
ملف الإخوان وجمال عبد الناصر