آفات على الطريق، الجزء الأول

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
آفات على الطريق، الجزء الأول

بقلم : الشيخ سيد نوح

المقدمة

بسم لله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـوعلى آله وأصحابه والسالكين سبيله والداعين بدعوته إلى يوم الدين بعد ......

فإن توضيح معالم الطريق أمام العاملين الفارين بدينهم إلى ربهم كي يعدوا لكل أمر عدته ويأخذوا لكل شئ أهبته فلا ينقطعوا ولا يتوانوا ولا يتأخروا عن ركب النجاة ضرورة لا مفر منها ولا محيص عنها توجبها الدعوة إلى الله والجهاد من أجل التمكين لدينه في الأرض .

ولعل من أهم هذه المعالم :أن هناك آفات يمكن أن يصاب بها بعض العاملين بل قد تصيبهم بالفعل فتقعد بهم عن أداء دورهم والقيام بواجبهم .

ويطيب لنا في هذا المقام : أن نعرض لهذه الآفات بشيء من التحليل والبيان كي يحذرها العاملون ويتطهروا منها .

و على الله قصد السبيل.

أبو عبد الرحمن

الآفة الأولى: الفتور

معناه

لغة : يطلق الفتور على معنيين :

أ) الانقطاع بعد الاستمرار أو السكون بعد الحركة .
ب)الكسل أو التراخي أو التباطؤ بعد النشاط والجد .

جاء في لسان العرب :

( وفتر الشيء ، والحر ، وفلان يفتر ، ويفتر فتوراً وفتاراً : سكن بعد حدة ولان بعد شدة ).

اصطلاحا : أما في الاصطلاح فهو داء يمكن أن يصيب بعض العاملين بل قد يصيبهم بالفعل . أدناه : الكسل أو التراخي أو التباطؤ . وأعلاه : الانقطاع أو السكون بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة .

قال تعالى عن الملائكة :

{ وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }.

أي (أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به ويصلون ويذكرون الله ليل نهار لا يضعفون ولا يسأمون ).

أسبابه

ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية :

(1) الغلو والتشدد في الدين :

بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي : الانقطاع والترك بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب وهذا أمر بديهي إذ للإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها اعتراه الفتور فيكسل أو ينقطع ولعل ذلك هو السر في تحذير الإسلام الشديد ونهيه الصريح عن الغلو ، والتنطع ، والتشديد إذ يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ) ، ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاث يعنى : المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم أفعالهم .

( لا تشددوا على أنفسكم ، فيشدد عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع ، والديارات - رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ، ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .... )

وعن أنس رضى الله عنه - قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم - في السر ، فلما أخبروها كأنهم تقالوها ، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلى الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الثالث : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال :

( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم إلى لله وأتقاكم له ، لكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى ) ، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة ، فقال من هذه ؟ قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها ، قال : (مه عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه ) ، ( اكفلوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ )

وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - قال : كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار ، وتقوم الليل ، فقيل له : إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال - صلى الله عليه وسلم - :( إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل ) .

2- السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات :

فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى السمنة وضخامة البدن ، وسيطرة الشهوات ، وبالتالي التثاقل ، و الكسل و التراخي ، إن لم يكن الانقطاع و القعود ، ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله ، وتحذيرهما من السرف ، قال تعالى :{ يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه ... )

وقد أدرك سلف الأمة ما يصنعه السرف و التوسع في المباحات بصاحبه ، فحذروا منه ، إذ تقول أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - :( أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع ، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم )

وإذا يقول عمر - رضى الله تعالى عنه - :( إياكم و البطنة في الطعام و الشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وابعد من السرف ،وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه )

وإذ يقول أبو سلمان الدارانى :( من شبع دخل عليه ست آفات : فقد حلاوة المناجاة ، وحرمان الشفقة على الخلق - لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع - وثقل العبادة - وزيادة الشهوات ، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد ، والشباع يدورون حول المزابل ) .

3- مفارقة الجماعة ، وإيثار حياة العزلة و التفرد :

ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد ، متعددة المراحل ، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد ، فإذا سارها المسلم مع الجماعة ، وجد نفسه دوماً ، متجدد النشاط ، قوى الإرادة ، صادق العزيمة ، أما إذا شذّ عن الجماعة وفارقها ، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه ، ويقوى إرادته ، ويحرك همته ، ويذكره بربه فيسأم ويمل ، وبالتالي يتراخى ويتباطأ ، إن لم ينقطع ويقعد .

ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده وتشديده على الجماعة ، وتحذيره من مفرقتها ، و الشذوذ عنها إذ يقول الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }

{ وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان ...}

{ وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ... }

{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم }

وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -

( .... عليكم بالجماعة ،وإياكم و الفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة )

( من فارق الجماعة شبراً ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )

( وآمركم بالسمع و الطاعة ، و الهجرة و الجهاد ، و الجماعة ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا كانت ميتته ميتة جاهلية )

( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم وقد أدرك سلف الأمة ذلك فلزموا الجماعة ، ورغبوا فيها ، وأكدوا عليها ، يقول علىّ رضى الله عنه :_( كدر الجماعة خير من صفو الفرد )

ويقول عبد الله بن المبارك :

لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ولكان أضعفنا نهباً لأقوانا

4- قلة تذكر الموت و الدار الآخرة :

فإن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى فتور الإرادة ، وضعف العزيمة ، وبطء النشاط و الحركة ، بل قد يؤدى إلى الوقوف والانقطاع ، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم - بزيارة القبور بعد النهي و التحذير ، إذ يقول :( إني نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة ) وفي رواية :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ) كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم من تذكر الموت ، وانتهاء الأجل إذ يقول :

( أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء ، فقال رجل : يا رسول الله إنا نستحي من الله تعالى ؟ فقال : من كان منكم مستحيياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه ، وليحفظ البطن وما حوى و الرأس وما وعى وليذكر الموت و البلى ، وليترك زينة الدنيا )

5- التقصير في عمل اليوم و الليلة :

مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السمر الذي لا مبرر له بعد العشاء ، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة ، وترك قيام الليل ، أو صلاة الضحى ، أو تلاوة القرآن ، أو الذكر أو الدعاء ، أو الاستغفار ، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد ، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر ، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات ، وأدنى هذه العقوبات : الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف .

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شئ من هذا إذ يقول :

( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد : يضرب كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، وإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )

6- دخول جوفه شئ محرم أو به شبهة :

إما بسبب تقصيره وعدم إتقانه للعمل اليومي الذي يتعيش منه ، وإما بسبب تعامله فيما نسميه شبهة ، وإما بسبب غير ذلك ، فمثل هذا يعاقب من سيده ومولاه ، وأدني عقاب في الدنيا ، أن يفتر فيقعد ويرقد عن الطاعات ، أو على الأقل يكسل ويتثاقل فلا يجد للقيام لذة ، ولا للمناجاة حلاوة .

ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى أكل الحلال وتحريه ، والابتعاد عن الحرام ، وما كانت به أدنى شبهة، إذ يقول الله عز وجل :

{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين }

{ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون }

{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ، إني بما تعملون عليم }

وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( كل جسد نبت من سحت - أي من حرام - فالنار أولى به )

، ( الحلال بين و الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان ، و المعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ) (دعما يريبك إلى ما لا يريبك ) ، ويربى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عملياً على ذلك حين يجد تمرة في الطريق ويرفض أكلها قائلاً :( لولا أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها )

وعلى هذا المنهج سار سلف الأمة ، فكانوا يفتشون ويتحرون عن كل ما يتعلق بحياتهم من الطعام و الشراب واللباس و المركب .... الخ وإذا وجدوا شيئاً شابته شائبة أو أدنى شبهة اجتنبوه ، مخافة أن يجرهم إلى الحرام ، فتفسد قلوبهم ، فيحرموا العمل أو يحرموا قبوله .

عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :( كان لأبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - غلام يخرج له الخراج ، فجاء في يوم بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : أتدرى ما هذا ؟ فقال أبو بكر وما هو ؟ ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكهانة ، إلا أنى خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شئ أكله )

7- اقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين :

كأن يجعل همه العقيدة فحسب ، ملغياً كل شئ غيرها من حسابه ، أو يجعل همه الشعائر التعبدية ، تاركاً كل ما سواها ، أو يقتصر على فعل الخيرات وراعية الآداب الاجتماعية ، غاضاً الطرف عما عداها فكل هؤلاء وأمثالهم تأتى عليهم أوقات يصابون فيها لا محالة بالفتور ، وهذا أمر بديهي ، نظراً لأن دين الله موضوع لاستيعاب الحياة كلها ، فإذا اقتصر واحد من الناس على بعضه فكأنما أراد أن يحيا بعض الحياة ، لا كل الحياة ، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل : وماذا بعد ؟ فلا يجد جواباً سوى الفتور إما بالعجز وإما بالكسل .

ولعل ذلك هو أحد أسرار الدعوة إلى أخذ منهج الله كلاً بلا تبعيض ، ولا تجزيء :

{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ،أي اعملوا بجميع شعب الإيمان ، وشرائع الإسلام ، ولا تسيروا خلف الشيطان ، لما يكنه لكم من العداوة و البغضاء فيصرفكم عن منهج الله بالكلية ، أو عن بعضه فتفتروا وتضيعوا ....

8- الغفلة عن سنن الله في الكون و الحياة :

فإننا نرى صنفاً من العاملين لدين الله يريد أن يغير المجتمع كله - أفكاره ومشاعره ،وتقاليده وأخلاقه وأنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في يوم وليلة بأساليب ووسائل هي إلى الوهم والخيال أقرب منها إلى الحقيقة و الواقع ، مع شجاعة وجرأة وفية ، لا تستكثر تضحية وإن غلت ، ولا تعبأ بالموت سعت إليه أو سعى إليها ، ولا تهتم بالنتائج أياً كانت ، ما دامت نيتها لله ، وما دام هدفها إعلاء كلمة الله ، غير واضعين في حسابهم سنن الله في الكون و الحياة : من ضرورة التدرج في العمل ، ومن أن الغلبة إنما تكون للأتقى ، فإذا لم يكن فللأقوى ، ومن أن لكل شئ أجلا مسمى لا يقدم ولا يؤخر .... الخ فإذا ما نزلوا إلى أرض الواقع ، وكان غير ما أملوا ، وما أرادوا وما عملوا ، فتروا عن العمل إما بالكسل و التواني و التراخي ، وإما بالقعود والانسلاخ و الترك .

9-التقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات وقلة العاملين :

ذلك أننا نجد بعض العاملين ينفقون كل ما يملكون من جهد ووقت وطاقة في سبيل خدمة هذا الدين ، ضانين على أنفسهم بقليل الراحة و الترويح فهؤلاء وأمثالهم ، وإن كانوا معذورين بسبب ضخامة الأعباء ، وكثرة الواجبات وقلة العاملين ، إلا أنه تأتى عليهم أوقات يفترون عن العمل لا محالة .

ولعل هذا هو سر تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على حق البدن مهما تكن الأعذار و المبررات إذ يقول : إن لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه وفي رواية أخرى : فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزويك عليك حقاً

10- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق :

ذلك أننا نجد بعض العاملين يبدءون السير في الطريق دون أن يقفوا على معوقاته ، من زوجة أو ولد ، أو إقبال دنيا ، أو امتحان ، أو ابتلاء ،أو نحو ذلك ، و بالتالي لا يأخذون أهبتهم ، ولا استعدادهم ،وقد يحدث أن يصدموا أثناء السير بهذه المعوقات ، أو ببعضها ، فإذا هم يعجزون عن مواجهتها ،فيفترون عن العمل إما بالكسل و التراخي ، وإما بالوقوف والانقطاع .

وهذا سر تنبيه القرآن الكريم ، وتحذيراته المتكررة من معوقات الطريق إذ يقول سبحانه :

{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة وإن الله عنده أجر عظيم } ، { واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ... } ، { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم } .

11-صحبة ذوى الإرادات الضعيفة و الهمم الدانية :

فقد يحدث أن يصحب العامل نفراً ممن لهم ذيوع و شهرة ،وحين يقترب منهم ويعايشهم يراهم خاوين فاترين في العمل ، كالطبل الأجوف ، فإن مضى معهم عدوه- كما يعدى الصحيحَ الأجربُ - بالفتور و الكسل .

وهذا هو سر تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة انتقاء واصطفاء الصاحب ، إذ يقول :( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل )

( إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة ) .

12- العفوية في العمل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي :

ذلك أن كثيراً من العاملين أفراداً كانوا أو جماعات يمارسون العمل لدين الله بصورة عفوية لا تتبع منهجاً ، ولا تعرف نظاماً ، فيقدمون الأمور الثانوية أو التي ليست بذي بال ويؤخرون بل ويهملون الأمور الرئيسية و التي لابد منها من أجل التمكين لدين الله ، وهذا يؤدى إلى أن تطول الطريق وتكثر التكاليف و التضحيات ، فيكون الفتور غالباً ، إن لم تتدخل يد الله بالرعاية و التأييد و الثبات .

ولعلنا في ضوء هذا نفهم سر وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما وجهه إلى اليمن إذ قال له : إنك تأتى قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .

إن الحديث قاعدة رئيسية في منهجية العمل ، وترتيبه ودقته .

13- الوقوع في المعاصي و السيئات ولاسيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها :

فإن ذلك ينتهي بالعامل لا محالة إلى الفتور ، وصدق الله الذي يقول :

{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول :( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً ، كمثل قوم نزلوا إلى أرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود و الرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً ، وأججوا ناراً ، وأنضجوا ما قذفوا فيها ) ، ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً ، نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكره - عز وجلّ - { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .

تلك هي الأسباب التي توقع في الفتور غالباً .

آثاره

وللفتور آثار ضاره ، ومهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي :

على العاملين : فمن آثاره على العاملين قلة رصيدهم - على الأقل - من الطاعات ، وربما قبض أحدهم وهو فاتر كسلان ، فيلقى الله مقصراً مفرطاً ، لذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم إني أعوذ بك منالهم و الحزن وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن و البخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) .9

( اللهم اجعل خير عمري آخره اللهم اجعل خواتيم عملي رضوانك ، اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك ) .... ( ..... اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه )10

وكان من بشرياته لأمته :( إذا أراد اله بعبد خيراً استعمله ، قيل كيف يستعمله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه )11

وكان من وصيته لها :( إن العبد ليعمل بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنما الأعمال بالخواتيم )12

( لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له )13

وكان من تأثر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضى الله تعالى عنه - لما مرض مرض الموت إذ جاء : أنه لما مرض بكى فقال :0 إنما أبكى لأنه أصابني على حال فترة ، ولم يصبني على حال جهاد )14 ويقصد أن المرض أصابه وهو في حال سكون وتقليل من العبادات و المجاهدات .

على العمل الإسلامي : ومن آثاره على العمل الإسلامي طول الطريق ، وكثرة التكاليف و التضحيات ، إذ مضت سننه سبحانه : ألا يعطى النصر و التمكين للكسالى و الغافلين و المنقطعين ، وغنما لعاملين المجاهدين الذين اتقنوا العمل ، واحسنوا الجهاد :

{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً }

{ إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون }

{ و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } .

علاجه

ولما كان الفتور يؤدى إلى الآثار و المخاطر التي ذكرنا لزم التحرز و التطهر منه ويستطيع العاملون التحرز و التطهر منه على النحو التالي:

1- البعد عن المعاصي و السيئات كبيرها وصغيرها

فإنها نار تحرق القلوب ، وتستوجب غضب الله ، ومن غضب عليه ربه فقد خسر خسراناً مبينا ً ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى }

2- المواظبة على عمل اليوم و الليلة :

من ذكر ودعاء وضراعة ، أو استغفار ، أو قراءة قرآن ، أو صلاة ضحى ، أو قيام ليل ، ومناجاة ولاسيما في وقت السحر ، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد ، ينشط النفوس ويحركها ويعلى الهمم ، ويقوى العزائم ، قال تعالى

{ وهو الذي جعل الليل و النهار خلفة ، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً }

{ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً ..... سنلقى عليك قولاً ثقيلاً ... }

وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( من نام عن حزبه من الليل ، أو على شئ منه ، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل )

3- ترصد الأوقات الفاضلة و العمل على إحيائها بالطاعات

فإن هذا مما ينشط النفوس ، ويقوى الإرادات يقول : صلى الله عليه وسلم :

( ..... فسددوا وقاربوا وأبشروا واستيعنوا بالغدوة و الروحة وشئ من الدلجة )

4- التحرر من التشدد و الغلو في دين الله

فإن ذلك مما ينشط ويساعد على الاستمرار ، عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :

( كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير ، وكان يحجره من الليل فيصلى فيه فجعل الناس يصلون بصلاته ، ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليلة فقال :( يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ) وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه .

ولا جرم أن نشير هنا إلى أن التحرر من التشدد و الغلو لا يعنى الترك والإهمال ، بل يعنى الاقتصاد و التوسط مع المحافظة عل ما اعتاده من العمل ، ومع اتباع السنة ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .

5- دفن النفس في أحضان الجماعة

وعدم اعتزالها أو الشذوذ عنها بحال من الأحوال ، وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم :( الجماعة رحمة و الفرقة عذاب ) ، ( يد الله مع الجماعة ) ، وقول على رضى الله عنه - المذكور آنفاً :( كدر الجماعة خير من صفو الفرد )

6- الانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون

{ فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } من استفراغ الطاقة وبذل الجهد الإنساني أولاً { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } ، ومن التدرج في العمل ، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضى الله تعالى عنها - ( إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة و النار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام ، ولو نزل أول شئ ، لا تشربوا الخمر ، ولا تزنوا لقالوا : لا ندع الخمر ولا الزنى أبداً ) وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز - رضى الله تعالى عنه - خامس الخلفاء الراشدين ، فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدى الخلفاء الأربعة ، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه ، وكان له ابن يقال له عبد الملك ، فيه فتوة وحماس وحيوية وتقى ، فأنكر على أبيه البطء ، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف و المظالم ، حتى تعود الحياة سيرتها الأولي أيام الراشدين ، إذ قال له يوماً :

( ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي ، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق ) .

فكان جواب الأب الفقيه :( لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة ) ... الخ

7- الوقوف على معوقات الطريق من أول يوم في العمل :

حتى تكون الأهبة ، ويكون الاستعداد لمواجهتها و الغلب عليها فلا يبقى مجال لفتور أو انقطاع .

8- الدقة و المنهجية في العمل

على معنى مراعاة الأولويات وتقديم الأهم ، وعدم الدخول في معارك جانبيه ، أو مسائل جزئية هامشية .

9- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله :

إذ أن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي والإشراق القلبي ، والإشعاع الروحي ، ما يسبى ، ويجذب بل ما يحرك الهمم و العزائم ، ويقوى الإرادات ، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ذلك حين قال :

( ألا أخبركم بخير الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من تذكركم رؤيته بالله عز وجل )

10- إعطاء البدن حقه

من الراحة و الطعام و الشراب مع الاعتدال في ذلك ، فإن هذا مما يجدد نشاط الجسم ويعيد إليه قوته وحيويته .

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم العاملين إلى ذلك ، فقد دخل مرة المسجد فرأي حبلاً ممدوداً بين ساريتين ، فقال :( ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد )

وقال أيضاً : إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه )

11- الترفيه عن النفس بالمباحات

من مداعبة الأهل ، أو ملاعبة الأولاد ، أو القيام ببعض الرحلات النهرية للتجديف ، أو القمرية للرياضة ، و التدبر و التفكر ، أو الجبلية للصعود و التسلق ، أو الصحراوية للتمرس و التعود على مواجهة مشاق الحياة ، أو الحقلية أو غير ذلك ، فإن هذا مما يطرد السأم و الملل ، ويقضى على الفتور والكسل ، بحيث يعود المسلم إلى ممارسة نشاطه ، وكأنما ولد من جديد ، أو صار خلقاً آخر .

عن أبى ربعي حنظلة ابن الربيع الأسيدى الكاتب ، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقيني أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت نافق حنظلة ، قال : سبحان الله ما تقول ؟ قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد ، و الضيعات ونسينا كثيراً ، قال أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد ، و الضيعات ونسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي و في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ) ثلاث مرات

12- دوام النظر و المطالعة في كتب السيرة و التاريخ و التراجم

فإنها مشحونة بكثير من أخبار العاملين المجاهدين ، أصحاب العزائم القوية والإرادات الصادقة التي تسرى عن النفس ، وتسليها وتولد فيها حب الاقتداء و التأسي وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول :

{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب }

وعلى سبيل المثال حين يقرأ المسلم عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا فتر في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وارتفاعها قليلاً أخذ يدور في صحن بيته ، ويردد على نفسه :

وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر أي المحلين تنزل

حين يقرأ المسلم ذلك تتحرك مشاعره وأحاسيسه فينشط ويجاهد نفسه ليكون ضمن قافلة العاملين المجاهدين .

13- تذكر الموت

وما بعده من سؤال القبر وظلمته ووحشته ، و البعث و الحشر ... الخ فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدتها ، وينبهها من غفلتها ، فتنشط وتتابع السير ، وخير وسيلة لتذكر الموت الذهاب إلى القبور - ولو مرة كل أسبوع - وزيارتها للاعتبار بأحوال أهلها :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة )

وجاء عن ابن السماك الواعظ : أنه كان قد حفر حفرة في بيته كأنها قبر ، وكلما أحس من نفسه فتوراً أو كسلاً ، نزل إلى هذه الحفرة واستلقى كأنما قد مات ، ثم يتخيل أنه قد سئل ، وأن أعماله قد قصرت به ، ويأخذ في الاستغاثة و الصراخ وطلب العودة قائلاً :

{ رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت ..}

وبعد طول استغاثة وطلب يجيب نفسه ، ها أنت يا ابن السماك قد أعطيت فرصة أخرى ، ثم يقوم من قبره ، وكأنما نشط من عقال .

14- تذكر الجنة و النار

وما فيهما من النعيم و العذاب ، فإن ذلك مما يذهب النوم عن الجفون ، ويحرك الهمم الساكنة و العزائم الفاترة ، جاء عن ابن هرم بن حيان أنه كان يخرج في بعض الليالي ، وينادى بأعلى صوته :( عجبت من الجنة كيف ينام طالبها ، وعجبت من النار كيف نام هاربها ، ثم يقول : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً بياتاً وهم نائمون } )

15- حضور مجالس العلم

إذ العلم حياة القلوب وربما سمع العامل كلمة من عالم صادق مخلص ، فنشطته سنة كاملة ، بل الدهر كله وصدق الله الذي يقول :

{ إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } ، { وقل رب زدني علماً }

16- أخذ هذا الدين بعمومه وشموله

دون التخلي عن شئ منه ، فإن ذلك يضمن الدوام والاستمرار ، حتى تنقضي الحياة ونلقى الله .

17- محاسبة النفس و التفتيش فيها دائماً

فإن ذلك مما يبصر بالعيوب في بدايتها ، فتسهل معالجتها :

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .... }.

الآفة الثانية: الإسراف

مقدمة

والآفة الثانية التي تصيب العالمين ولابد أن يتخلصوا منها وأن يتحصنوا ضدها إنما هي الإسراف ولكي يكون حديثنا عن إسراف العاملين واضحاً محدد المعلم سنجعله يدور على النحو التالي :

أولاً : معنى الإسراف

لغة : الإسراف في اللغة يطلق ويرد به :

(أ) ما نفق من غير طاعة .
(ب) أو التبذير ومجاوزة الحد .26

اصطلاحا : أما في اصطلاح الدعاة فيراد به مجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب واللباس والسكنى ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية.

ثانياً أسباب الإسراف

وللإسراف أسباب وبواعث توقع فيه وتؤدى إليه ونذكر منه :

(1) النشأة الأولي :

فقد يكون السبب في الإسراف إنما هي النشأة الأولي أي الحياة الأولي ذلك أن المسلم قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ فما يكون منه سوى الإقتداء والتأسي إلا من رحم الله على حد قول القائل :

وينشئ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه

ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة إنصاف الزوجين والتزامهم بشرع الله وهديه :

{ وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ....}

{ ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ,......}

( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ).

(2) السعة بعد الضيق :

وقد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر ذلك أن كثيرا من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر وهم صابرون محتسبون بل وماضون في طريقهم إلى ربهم وقد يحدث أن تتغير الموازين وأن تتبدل الأحوال فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال فينقلب على النقيض تماما فيكون الإسراف أو التبذير .

ولعلنا بهذا ندرك بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر .

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فأبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها تهلككم كما أهلكتم ).

( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء ).

(3) صحبة المسرفين :

وقد يكون في الإسراف إنما هي صحبة المسرفين ومخالطتهم ذلك أن الإنسان غالبا ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله لاسيما إذ طالت هذه الصحبة وكان هذا الصاحب قوى الشخصية شديد التأثير .

ولعلنا بذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الصحاب أو الخليل ولقد مرت بنا بعض النصوص الدالة على ذلك أثناء الكلام عن أسباب الفتور .

(4) الغفلة عن زاد الطريق :

وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن زاد الطريق ذلك أن الطريق الموصلة إلى رضوان الله والجنة ليست طريقاً مفروشة بالحرير والورود والرياحين بل بالأشواك والدموع والعرق والدماء والجماجم وولوج هذه الطريق لا يكون بالترف والنعومة والاسترخاء وإنما بالرجولة والشدة ذلك هو زاد الطريق والغفلة عن هذا الزاد توقع المسلم العامل في الإسراف .

ولعلنا بذلك ندرك سر حديث القرآن المتكرر المتنوع عن طبيعة الطريق : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }.

{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين }.......إلى غير ذلك من الآيات.

(5) الزوجة والولد :

وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الزوجة والولد .

إذ قد يبتلى المسلم بزوج وولد دأبهم وديدنهم الإسراف وقد لا يكون حازما معهم فيؤثرون عليه وبمرور الأيام وطول المعاشرة ينقلب مسرفا مع المسرفين .

ولعلنا بذلك نفهم بعض الأسرار التي قصد إليها الإسلام حين أكد ضرورة انتقاء واختيار الزوجة وقد قدمت بعض النصوص الدالة على ذلك قريبا أثناء الحديث عن السبب الأول وحين أكد على ضرورة الاهتمام بتربية الولد والزوجة .

{ يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }

( ألا كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤل عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤل عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤلة عن عنهم ......الحديث ).

(6) الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون :

وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبت ولا تستقر على حال واحد بل هي متقلبة تكون لك اليوم وعليك غدا وصدق الله العظيم :{ وتلك الأيام نداولها بين الناس }.

والواجب يقتضي أن نكون منها على وجل وحذر : نضع النعمة في موضعها وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم من مال وصحة ووقت إلى الغد أو بعبارة أخرى : ندخر من يوم إقبالها ليوم إدبارها .

تلك طبيعة الحياة الدنيا وهذا ما ينبغي أن تكون والغفلة عن ذلك قد توقع في الإسراف .

(7) التهاون مع النفس :

وقد يكوون السبب في الإسراف التهاون مع النفس ذلك أن النفس البشرية تنقاد وتخضع ويسلس قيادها بالشدة والحزم وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين وعليه فإن المسلم العامل إذا تهاون مع نفسه ولبى كل مطالبها أوقعته لا محالة في الإسراف .

ولعلنا بذلك نفهم السر في تأكيد الإسلام على ضرورة المجاهدة للنفس أولا وقبل كل شئ :

{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.

{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }.

{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }.

(8) الغفلة عن شدائد وأهوال يوم القيامة :

وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الشدائد وأهوال يوم القيامة ذلك أن يوم القيامة يوم فيه من الشدائد والأهوال ما ينعقد اللسان وتعجز الكلمات عن الوصف والتصوير وحسبنا ما جاء في كتاب الله عز وجل ـ وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا اليوم .

ومن ظل متذكرا ذلك متدبرا فيه قضى حياته غير ناعم بشيء في هذه الحياة الدنيا أما من غفل عن ذلك فإنه يصاب بالإسراف والترف بل ربما ما هو أبعد من ذلك .

ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دوام خشيته صلى الله وعيه وسلم لربه وقلة تنعمه ونيله من الحياة الدنيا ,

يقول صلى الله عليه ويسلم :

( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ).

وفي رواية أخرى :

( وما تلذذتم بالنساء على الفراش ).

(9) نسيان الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص :

وقد يكون السبب في الإسراف إنما هو نسيان الواقع الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص :

ذلك أن البشرية اليوم تقف على حافة الهاوية ويوشك أن تتزلزل الأرض من تحتها فتسقط أو تقع في تلك الهاوية وحينئذ يكون الهلاك أو الدمار أما المسلمون فقد صاروا إلى حال من الذل والهوان يرثى لها ويتحسر عليها ومن بقى مستحضرا هذا الواقع وكان متبلد الحس ميت العاطفة فإنه يمكن أن يصاب بالترف والإسراف والركون إلى زهرة الدنيا وزينتها .

ولعلنا بذلك ندرك شيئا من أسرار حزنه واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر البشرية قبل البعثة وبعدها حتى عاتبه ربه ونهاه عن ذلك :

{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } .

{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين }.

{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }.

(10) الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف :

وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف ذلك أن للإسراف آثاراً ضارة وعواقب مهلكة على نحو الذي سنعرض له بعد قليل .

ولقد عرف من طبيعة الإنسان :أنه غالبا ما يفعل الشيء أو يتركه إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه أما إذا غفل عن هذه الآثار فإن سلوكه يختل وأفعاله تضطرب فيقع أو يسقط فيما لا ينبغي ويهمل أو يترك ما ينبغي .

وعليه فإن المسلم العالم إذا غفل عن الآثار المترتبة على الإسراف يكون عرضة للوقوع في الإسراف .

ولعلنا بذلك نفهم السر في اهتمام الإسلام بذكر الحكم والمقاصد المنوطة بكثير من الأحكام والتشريعات .

ثالثاً : آثار الإسراف

هذا وللإسراف آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي وإليك طرفا من هذه الآثار : فمن آثاره على العاملين :

(1) علة البدن :

أي أن الأثر الذي يتركه الإسراف : إنما يكمن في علة البدن ذلك أن هذا البدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص تطرقت إليه العلة وحين تتطرق إليه العلة فإنه يقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات والمسؤليات الملقاة على عاتقه أو المنوطة به.

( 2 ) قسوة القلب :

والأثر الثاني الذي يترتب على الإسراف : إنما هو قسوة القلب ذلك أن هذا القلب يرق ويلين بالجوع أو بقلة الغذاء ويقسو ويجمد بالشبع أو بكثرة الغذاء سنة الله { ولن تجد لسنة الله تحويلا }وحين يقسو القلب أو يجمد فإن صاحبه ينقطع عن البر والطاعات ، والويل كل الويل لمن كانت هذه حالة { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } وحتى لو جاهد المسلم نفسه وقام بالبر والطاعات فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة بل لا يجنى من ورائها سوى النصب والتعب (... ورب قائم حظه من قيامه السهر )

( 3 ) خمول الفكر :

والأثر الثالث الذي يترتب على الإسراف إنما هو خمول الفكر ذلك أن نشاط الفكر وخموله مرتبط بعدة عوامل ، البطنة أحدها ، فإذا خلت البطنة نشط الفكر ، وإذا امتلأت اعتراه الخمول حتى قالوا قديما : ( إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة )

ويوم أن يصاب الفكر بالخمول يوم أن يحرم المسلم الفقه والحكمة وحينئذ يفقد أخص الخصائص التي تميزه عن باقي المخلوقات .

(4) تحريك دواعي الشر والإثم :

والأثر الرابع الذي يخلقه الإسراف إنما هو تحريك دواعي الشر والإثم ذلك أن الإسراف يولد في النفس طاقة ضخمة ووجود هذه الطاقة من شأنه أن يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس وحينئذ لا يؤمن على المسلم العامل الوقوع في الإثم والمعصية إلا من رحم الله ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على الصوم لمن لم يكن قادرا على مؤن النكاح إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )

( 5 ) الانهيار في ساعات المحن والشدائد :

والأثر الخامس الذي يتركه الإسراف إنما هو الانهيار في ساعات المحن والشدائد ذلك أن المسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف فلم يألف المحن والشدائد ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد فيضعف وينهار لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد إلا من جاهد نفسه وكان صادقا مخلصا في هذه المجاهدة { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } .

(6) عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين :

والأثر السادس الذي يتركه الإسراف إنما هو عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين ذلك أن الإنسان لا يرعى الآخرين ولا يهتم غالبا إلا إذا أضناه التعب وعصبته الحاجة كما أثر عن يوسف عليه السلام : أنه لما صار على خزائن الأرض ما كان يشبع أبدا فلما سئل عن ذلك قال :

أخاف أن شبعت أن أنسى الجياع .

والمسرف مغمور بالنعمة من كلا جانب فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين .

( 7) المساءلة غدا بين يدي الله :

والأثر السابع المترتب على الإسراف إنما هي المساءلة غدا بين يدي الله كما قال سبحانه { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }.

ومجرد الوقوف بين يدي الله للمساءلة والمناقشة عذاب كما قال صلى الله عليه وسلم :

(... من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ).

( 8) الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام :

والأثر الثامن الذي يتركه الإسراف إنما هو الوقوف تحت وطأة الكسب الحرام ذلك أن المسرف قد تضيق به أو تنتهي موارده فيضطر تلبية وحفاظا على حياة الترف والنعيم ?التي ألفها إلى الواقع والعياذ الله في الكسب الحرام وقد جاء في الحديث :( كل جسد نبت من سحت أي من حرام فالنار أولى به ).

(9) أخوة الشياطين :

والأثر التاسع يتركه الإسراف هي أخوة الشياطين كما قال سبحانه وتعالى :{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا }.

وأخوة الشياطين تعنى الصيرورة والانضمام إلى حزبهم وإن ذلك لهو الخسران المبين والضلال البعيد { ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون } .

(10) الحرمان من محبة الله :

والأثر العاشر الذي يتركه الإسراف إنما هو الحرمان من محبة الله كما قال سبحانه :{.........إنه لا يحب المسرفين }.

  • على العمل الإسلامي :

وأما آثاره على العمل الإسلامي فتنحصر في :

سهولة القضاء عليه أـو على الأقل تأخيره إلى الوراء عشرات السنين نظرا لأن السلاح الوحيد الذي يواجه به المسلمون أعداء الله ألا وهو الإيمان إنما يتأثر أشد ما يكون التأثير بالإسراف والترف والراحة والنعيم .

تلك هي آثار الإسراف على العاملين وعلى العمل الإسلامي وقد مرت بنا أثناء الحديث عن أسباب الفتور عدة نصوص من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف تتضمن إجمالا لكل هذه الآثار .

رابعاً : الطريق لعلاج الإسراف

ومادامت هذه آثار وعواقب الإسراف وتلك أسبابه وبواعثه فإن طريق العلاج تتخلص في :

(1) التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف

فإن ذلك من شأنه أن يحمل على تدارك الأمر والتخلص من الإسراف قبل فوات الأوان .

(2) الحزم مع النفس

وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها وحملها على الأخذ بكل شاق وصعب من قيام ليل إلى صوم تطوع إلى صدقة إلى مشى على الأقدام إلى حمل الأثقال ....ونحو ذلك .

(3) دوام النظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته

فإنها مليئة بالتحذير من الإسراف بل ومجاهدة النفس والأهل والعيش على الخشونة والتقشف إذ يقول صلى الله عليه وسلم :

( والمؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبع أمعاء ) وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضافه ضيف وهو كافر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها ثم أمر بأخرى فلم يستتمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( والمؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبع أمعاء ) .

ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ).

وإذ تحكى أم عائشة رضى الله تعالى عنها لعروة بن الزبير بن أختها فتقول ( إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، فيقول لها عروة ، ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر و الماء ، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار ، كان لهم منائح ، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقيناه )

وإذ تقول أيضاً : كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف )

( ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض )

بل كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم ارزق آل محمد قوتاً )

وأن المسلم العامل لدين الله حين يقف على ذلك ، وعلى غيره تتحرك مشاعره ،وتتأجج عواطفه فيترسم خطاه صلى الله عليه وسلم ويسير على هديه اقتداء وتأسياً وطمعاً في معيته في الجنة :

ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليماً } .

4- دوام النظر في سيرة سلف هذه الأمة

من الصحابة المجاهدين و العلماء العاملين فقد اقتدى هؤلاء به صلى الله عليه وسلم فكان عيشهم كفافاً ، ولا هم لهم من الدنيا إلا أنها معبر أو قنطرة توصل للآخرة .

دخل عمر بن الخطاب على ابنه عبد الله - رضى الله تعالى عنهما - فرأي عنده لحماً ، فقال : ما هذا اللحم ؟ قال : أشتهيه قال : وكلما اشتهيت شيئاً أكلته ؟ كفي بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه )

وأتى سلمان الفارسي أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنهما - في مرضه الذي مات فيه فقال : أوصيني يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو يكر : ( إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا يأخذن منها أحد إلا بلاغاً )

وكتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضى الله عنهما - وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه فوقع في كتابه :

( ابن ما يسترك من الشمس ويكنك من الغيث ، فإن الدنيا دار بلغة )

وحكى ميمون أن رجلاً من بنى عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما - استكساه إزاراً قائلاً : قد تخرق إزاري ، فقال له عبد الله :( اقطع إزارك ثم اكتسه ) فكره الفتى ذلك فقال له :0 ويحك اتق الله ولا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم وعلى ظهورهم ) ......

إلى غير ذلك من الأخبار المودعة في بطون الكتب المنثورة هنا وهناك .

وأن المسلم العامل حين يقف على هذه الأخبار يتحرك من داخله فيتولد عنه حب السير على نفس المنهج فتراه يطرح الترف و السرف ويعيش على الخشونة و التقشف ليكون ناجياً مع الناجين .

5- الانقطاع عن صحبة المسرفين

مع الارتماء في أحضان ذوى الهمم العالية و النفوس الكبيرة ، الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم ، وكرسوا كل حياتهم من أجل اسئناف حياة إسلامية كريمة ، تصان فيها الدماء والأموال والأعراض ، ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض ، غير مبالين بما أصابهم ويصيبهم في ذات الله ، فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر السرف والدعة و الراحة ، بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى ، لنكون ضمن قافلة المجاهدين وفي موكب السائرين .

6- الاهتمام ببناء شخصية الزوجة و الولد

فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر الترف ، وأن يحول دون التورط فيها مرة أخرى ، بل ويعين على سلوك طريق الجادة حين تنقضي هذه الحياة بأشواكها وآلامها ونرد إلى ربنا فنلقى حظنا هناك من الراحة و النعيم المقيم .

7- دوام التفكر في الواقع

الذي تحياه البشرية عموماً و المسلمون على وجه الخصوص ، فإن ذلك يساعد على التخلص من كل مظاهر الإسراف بل ويحول دون التلذذ أو التنعم بشيء من هذه الحياة ، حتى يمكن لمنهج الله وترفع الراية الإسلامية من جديد .

8- دوام التفكر في الموت

وما بعده من شدائد وأهوال ، فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف و الترف ، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء .

9- تذكر طبيعة الطريق

وما فيها من متاعب وآلام ، وأن زادها ما يكون بالإسراف والاسترخاء و الترف بل بالخشونة و الحزم و التقشف ، فإن ذلك له دور كبير في علاج الإسراف ومجاهدة النفس و القدرة على اجتياز وتخطى المعوقات و العقبات.

الآفة الثالثة: الاستعجال

أولاً : معنى الاستعجال

والآفة الثالثة التي يصاب بها بعض العاملين ولابد أن يحذروها وأن يتخلصوا منها إنما هي(الاستعجال) ولكي يكون لدنيا التصور الدقيق عن هذه الآفة سنتناولها على النحو التالي :

أولاً : معنى الاستعجال :

لغة : الاستعجال والإعجال كلها بمعنى واحد وهو : الاستحثاث وطلب العجلة أي السرعة أو استعجل الرجل الرجل حثه ، وأمره أن يعجل في الأمر ومنه قوله تعالى { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم } .

أي لو عجل الله للناس الشر إذا دعوا به على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم وأولادهم واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير فيسألونه الخير والرحمة لقضى إليهم أجلهم فماتوا ).

اصطلاحا :

ومعناه في اصطلاح الدعاة إرادة تغيير الواقع الذي يحياه المسلمون اليوم في لمحة أو في أقل من طرفة عين دون نظر في العواقب ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ، ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب و الوسائل .

بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها أو ينامون ليلة ثم يستيقظون فإذا بهم يرون كل شئ عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم : زالت الجاهلية من طريقهم ، ورفعت الراية الإسلامية من جديد ، ووجد كل إنسان إنسانيته ، وخلصت الفطرة من كل ما يكدرها ويعكر صفوها .

ثانياً : نظرة الإسلام إلى الاستعجال

ولما كانت العجلة والاستعجال من طبيعة الإنسان بشهادة خالقه وصانعه ، ومدبر أمره { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } ، { خلق الإنسان من عجل ... } فإن الإسلام ينظر إلى الاستعجال نظرة عدالة وإنصاف ، فلا يحمده بالمرة ، ولا يذمه بالمرة ، وإنما يحمد بعضه ، ويذم البعض الآخر :

فالمحمود منه : ما كان ناشئاً عن تقدير دقيق للآثار و العواقب ، وعن إدراك تام للظروف و الملابسات ، وعن حسن إعداد وجودة ترتيب .

ولعل هذا النوع من الاستعجال هو المعنى في قوله تعالى حكاية عن موسى - عليه السلام - { وما أعجلك عن قومك يا موسى ؟ قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى } إذ الظروف مناسبة و الفرصة مواتية و العاقبة محمودة و النفس صافية مشرقة فما الذي يحمل موسى على التواني والتأخير ؟

المذموم منه : ما كان مجرد ثورة نفسية خالية من تقدير العاقبة ومن الإحاطة بالظروف و الملابسات ، ومن أخذ الأهبة والاستعداد .

وهذا النوع الأخير هو الذي عناه رسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لخباب بن الأرت - رضى الله تعالى عنه- وقد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو ما يلقاه هو وإخوانه من الأذى والاضطهاد ، ويطلب منه أن يستنصر ربه ، وأن يدعوه قال له :( كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق اثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )37 وهو الذي نعنيه هنا أيضاً .

ثالثاً : مظاهر الاستعجال

والاستعجال له مظاهر عديدة منها :

1- ضم أشخاص إلى قافلة الدعاة قبل الاستيثاق ، و التأكد من مواهبهم وقدراتهم واستعداداتهم .
2- الارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم واستواء شخصيتهم .
3- القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة ولا تفيدها .

رابعاً : آثار الاستعجال

وكل هذه المظاهر المذكورة آنفاً ، وغيرها تكون لها آثار ، وعواقب

1- فهي قد تؤدى إلى الفتور على النحو الذي شرحنا في الآفة الأولي ، وقليل دائم خير من كثير منقطع :( .... وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ ) .

2- وقد تؤدى إلى موتة غير كريمة ، وذلك حين لا يكون من ورائها عائد أو ثمرة ، وهنالك تكون المسئولية و المعاتبة بين يدي الجبار الأعلى ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ، والأمر يومئذٍ لله و القصة التالية برهان عملي لما نقول :

( كانت الحركة الإسلامية بمصر في نهاية الثلاثينات تعيش أزهي أيامها فها هي : تشق طريقها بين جميع البيئات ، والأوساط كما تشق السفينة البحر الهادئ و الريح رخاء وها هو صوتها مسموعاً في جميع القضايا سواء على المستوى المحلى أو على المستوى العالمي ، في هذه الأثناء وقف أحد أبنائها هو :( أحمد رفعت ) يعترض على كل ما تتخذه الحركة من أساليب ويدعو إلى أساليب أخرى .

ولم يكن في هذا ما يلفت النظر ابتداء ، فلكل عضو في الحركة الحق في نقد ما يرى أنه يستحق النقد ، ثم تكون مناقشة بين الأطراف تنتهي إلى الأصوب و الطريق الأقوم بيد أن الذي استرعى الانتباه ، ولفت النظر هو أن هذه الدعوة لقيت آذاناً صاغية واستجابة سريعة لدى كثير من شباب الحركة ، ولا نريد أن نخوض الآن في البحث عن أسباب ذلك ، وإنما الذي يعنينا هو أنه عقد لقاء لمعرفة اعتراضات ، ومطالب أحمد رفعت وانحصرت في ثلاثة :

الأول : أنه يرى أن الحركة تجامل الحكومة وتتبع سياسة اللف و الدوران ، و الواجب يقتضي مواجهة الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن الكريم :{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .

الثاني : أنه يرى أن الحركة لم تتخذ أي إجراء عملي في موضوع سفور المرأة وتبرجها ، مكتفية بالنصيحة و الكلام ، و الواجب يقتضي أن توزع الحركة نفسها في شوارع القاهرة ومع كل واحد من أبنائها زجاجة حبر ، وكلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ، ألقى عليها من هذا الحبر ، حتى يلطخ ملابسها ، فيكون هذا رادعاًً لها .

الثالث : أنه يرى أن وقوف الحركة في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية لهم وجمع المال إنما هو تقصير في حق هذه القضية ، وقعود عن الجهاد ، وتخلف عن المعركة ، وعلى جميع أبناء الحركة أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من المخالفين .

وتصدى بعض الحاضرين للرد على ( أحمد ) بشأن المطلبين الأولين فقال :

- إن مواجهة الحكومة يجب ألا يكون إلا بعد توفر عاملين :

أ- توعية الشعب بالحقائق الإسلامية التي لا زال حتى اليوم خالي الذهن منها لا سيما علاقة الإسلام بالحكم وعلاقة الإسلام بالتشريع .
ب- اكتساب الحركة قوة شعبية تستند إلى مواجهة أي ظروف تتعرض لها ولا زالت الحركة حتى اليوم حركة وليدة في حاجة إلى تثبيت دعائمها وبسط لرواقها .

- أما موضوع المرأة فكان ردهم عليه هو أننا لو أخذنا باقتراح ( أحمد ) لكانت النتيجة في اليوم الأول للأخذ بهذا الأسلوب أن يلقى القبض على جميع أبناء الحركة ، ويجرى معهم التحقيق ، ويودعوا السجون حتى يحاكموا أمام القضاء الذي يقضى بالسجن و الغرامة ، وإذا قضوا العقوبة وعادوا إلى نفس الأسلوب ، فإن العقوبة تضاعف ، وما دامت التي لطخت ثيابها ستعوض ثمن هذا الثياب مضاعفاً من جيوب أبناء الحركة ، ثم ترى الذي لطخ ثيابها قد أودع السجن ، فما الذي يمنعها من لبس ما كانت تلبسه ، وإذن فلا جدوى من وراء هذا الأسلوب في ردع المتبرجات السافرات .

- وأما موضوع فلسطين ، فقد أجاب عنه كتاب سماحة مفتى فلسطين السيد أمين الحسيني ردّ به على الحركة الإسلامية في مصر ، ومضمونه : أن المجهود الذي تبذله الحركة في الدعاية لقضية فلسطين في مصر هو القدر المطلوب و الذي نحن في أمس الحاجة إليه ، ولا يستطيعه غيرها ، ولسنا في حاجة إلى متطوعين .

ورغم وضوح الجواب فقد أصرَّ ( أحمد ) على موقفه ، وزاد عدد مؤيديه ، ووصلت بهم الحال إلى أن صاروا يسبون في الحركة الإسلامية و القائمين عليها دونما حياء أو خجل ، ولما قاطعه أبناء الحركة ، وانفض من كانوا حوله ورأي في نفسه عزلة تامة قرر السفر إلى فلسطين لينضم إلى المجاهدين في محاربة الإنجليز و اليهود .

وهنا أشفقت عليه الحركة وأرسلت له تطلب منه الحضور لتجهزه بالمال و السلاح ثم تسلمه إلى مجموعة من المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يتصلون بهم حتى يؤمنوا له الطريق ، لأن المجاهدين يشكون في كل من يرونه في طريقهم - ما داموا لا يعرفونه - ويعدونه جاسوساً عليهم ويقتلونه ، فرفض وأصر على الذهاب وحده ، وذهب فعلاً ولقي مصرعه كما كانت الحركة تتوقع - على أيدي المجاهدين ) .

إن هذه القصة تبين لنا عاقبة الحماس مع السطحية في فهم كتاب الله ،وتاريخ الدعوة الإسلامية ، واقع الحياة ، إن عاقبة ذلك إنما هي الاستعجال وآثار الاستعجال قد تكون موتاً غير كريم ، كما وقع لأحمد رفعت .

فإنه لم يكن له - قبل الانضمام إلى الحركة - أدنى معرفة بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالسيرة ولا بالتاريخ الإسلامي ، وحين اقتنع بالفكرة الإسلامية انقض عليها بحماس بالغ ، وقبل أن يتزود بكل معالم الطريق اندفع اندفاعاً غير بصير ، فاصطدم وتحطم ، وكاد يحطم الحركة معه لولا العناية الإلهية ثم حكمة القائمين عليها وإخلاصهم .

3- تعطيل العمل ، أو على الأقل الرجوع به إلى الوراء عشرات السنين وذلك فيه ما فيه من استمرار تدنيس الحياة و المضي في الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض وزيادة وضع الأحجار و العقبات على الطريق .

خامساً أسباب الاستعجال

وإذا كانت هذه آثار الاستعجال ، فلابد من معرفة الأسباب التي تؤدى إليه لتكون خطوة على طريق العلاج ، فما هي إذن الأسباب التي توقع في الاستعجال ؟ حقيقة هنالك أسباب كثيرة توقع في الاستعجال نخص منها :

1- الدافع النفسي :

فقد يكون الدافع النفسي هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن الاستعجال طبيعة مركوزة في فطرة الإنسان كما قال المولى تبارك وتعالى :{ خلق الإنسان من عجل … } ، { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } ، { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم …. } وإذا لم يعمل الداعية على ضبط نفسه وإلجامها بلجام العقل و التخفيف من غلوائها فإنها تدفعه لا محالة إلى الاستعجال .

2- الحماسة أو الحرارة الإيمانية :

وقد يكون الحماس أو الحرارة الإيمانية هي السبب في الاستعجال ، ذلك أن الإيمان إذا قوى ، وتمكن من النفس ، ولَّد طاقة ضخمة ، تندفع - ما لم يتم السيطرة عليها وتوجيهها - إلى أعمال تؤذى أكثر مما تفيد وتضر أكثر مما تنفع .

ولعل هذا هو السر في أن الله سبحانه وتعالى تولى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم و المؤمنين في المرحلة المكية إلى الصبر و الجلد ، وقوة التحمل فقال { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً } ، { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } ، { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً } … إلى غير ذلك من الآيات .

3- طبيعة العصر :

وقد تكون طبيعة العصر هي الباعث على الاستعجال ، ذلك أننا نعيش في عصر يمض بسرعة ويتحرك فيه كل شئ بسرعة ، فالإنسان يكون هنا وبعد ساعات يكون في أقصى أطراف الأرض ، بسبب التقدم في وسائل المواصلات ، والإنسان يضع أساس بيت اليوم ويسكنه غداً بسبب التمكن من وسائل العمارة الحديثة ، وقس على ذلك أشياء كثيرة في حياة الإنسان ، فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال لمواكبة ظروف العصر و التمشي معه .

4- واقع الأعداء :

وقد يكون واقع الأعداء هو السبب في الاستعجال ، ذلك أنه ما يمر من يوم الآن إلا وأعداء الله يحكمون القبضة ويمسكون بزمام العالم الإسلامي ، ويلاحقون العمل الإسلامي في كل مكان لإسكات كل صوت حر نزيه ، وحسبنا أن إسرائيل كانت بالأمس فكرة في الأذهان فإذا بها اليوم واقع يحكم القبضة على جزء غال عزيز من ديار الإسلام هو فلسطين ، وينطلق منه إلى لبنان ، وسائر بلدان العالم العربي ليحقق حلم اليهود :( إسرائيل من النيل إلى الفرات ) فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال ، قبل أن يتفاقم الخطر ويصعب الخلاص .

5- الجهل بأساليب الأعداء :

وقد يكون الجهل بأساليب الأعداء هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن أعداء الله لهم أساليبهم الخبيثة ، و المتنوعة في الوصول إلى قلب العالم الإسلامي ، وإحكام القبضة عليه ، وأخطر هذه الوسائل وأشدها دهاء ومكراً أن يواجه المسلمين نفر من بينهم يعلنون الإسلام ويبطنون الكفر ، و الحقد و الضلال ، إن مثل هذا الأسلوب من الكيد يحول دون التعبئة العامة في الأمة ، وما أكثر هؤلاء ، لمواجهة الشر أو الباطل وإزاحته من الطريق ، بل إنه ليجعل العامة معهم وفي صفهم ولقد لجأ أعداء الله لمثل هذا الأسلوب ، بعد أن جربوا زماناً طويلاً ، ومرات عديدة ، أسلوب المواجهة الصريحة السافرة ، ورأوا أنه لن يغنى عنهم من الله شيئاً ، وأنه يحمل المسلمين حتى المفرطين و المستهترين منهم على التصدي وبذل الغالي و الرخيص ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .

فلعل الجهل بمثل هذا الأسلوب وغيره من الكيد يكون سبباً من الأسباب التي توقع في الاستعجال .

6- شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها :

قد يكون شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن الإنسان لا يتحرك حركة الآن إلا وقد أحاطت به المنكرات ، ولفته من كل جانب ، وواجب المسلم حين يرى ذلك أن يعمل على تغيير المنكر وإزالته ما في ذلك شك ، لئلا تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد ، قال تعالى :{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض … } ، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز }.

وقال - صلى الله عليه وسلم - :

( من رأي منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )

( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ) بيد أنه ليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور ، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدى إلى منكر أكبر منه فإن أدى إلى منكر أكبر منه وجب التوقف بشأنه ، مع الكراهة القلبية له ، ومع مقاطعته ، ومع البحث عن أنجح الوسائل لإزالته ، والأخذ بها ، ومع العزم الصادق على الوقوف في أول الصف حين تتاح فرصة التغيير .

وفي السنة و السيرة شواهد على ذلك :

فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث والأصنام تملأ جوف الكعبة ، وتحيط بها وتعلوها من كل جانب ، ثم لا يقبل على إزالتها بالفعل إلا يوم فتح مكة في العام الثامن من الهجرة ، أي أنها بقيت منذ بعث إلى يوم تحطيمها إحدى وعشرين سنة .

ليقينه صلى الله عليه وسلم بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم ، قبل أن يحطمها من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع ، وأشنع فيعظم الإثم ، ويتفاقم الضرر ، لذلك تركها ، وأقبل يُعِد الرجال ، ويزكى النفوس ، ويطهر القلوب حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة ، ويزيل الأصنام مردداً :{ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } .

وها هو - صلى الله عليه وسلم يخاطب أم المؤمنين عائشة قائلاً :

( ألم ترى أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ ، قال : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت )

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا توقف في شأن تجديد الكعبة ، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفاً من أن يؤدى ذلك إلى منكر أكبر ، وهو الفرقة و الشقاق ، بدليل قوله في رواية أخرى :( …. ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم … )

بل إن المسلم حين يسكت عن منكر خوفاً من أن يؤدى إلى منكر أكبر ، مع الرفض القلبي و المقاطعة ومع البحث عن الأفضل السبل للتغيير ، ومع العزم الصادق على أنه حين تتاح الفرصة لن يكون هناك توان ولا تباطؤ ، لا يكون آثماً بذلك وصدق الله الذي يقول :

{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها … } ، { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، وأنفقوا خيراً لأنفسكم } .

فإذا نسى العامل أو الداعية فقه أسلوب تغيير المنكر وإزالته وقع - لا محالة - في الاستعجال لظنه ، أو لتصوره أن الأمر يجب تنفيذه فوراً ، وأنه آثم ومذنب إن لم يقم بذلك .

7- العجز عن تحمل المشاق ، ومتاعب الطريق :

وقد يكون العجز عن تحمل المشاق ومتاعب الطريق هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن بعضاً من العاملين يملك جرأة وشجاعة وحماساً لعمل وقتي ، ولو أدى به إلى الموت ، لكنه لا يملك القدرة على تحمل مشاقّ ومتاعب الطريق لزمن طويل ، مع أن الرجولة الحقة هي التي يكون معها صبر ، وجلد ، وتحمل ، ومثابرة ، وجد ، واجتهاد حتى تنتهي الحياة .

لذلك تراه دائماً مستعجلاً ليجنب نفسه المشاق و المتاعب ، وإن تزرَّع بغير ذلك .

وقد أفرزت الحركة الإسلامية في العصر الحاضر صنفاً من هذا ، عجز عن التحمل والاستمرار فاستعجل وانتهي ، وصنفاً آخر أوذي في الله عشرات السنين فصبر ، وتحمل واحتسب لأن الظروف غير ملائمة ، و الفرص غير مواتية ، و العواقب غير محمودة و المقدمات ناقصة أو قاصرة ، وكانت العاقبة أن وفقهم الله وأعانهم فثبتت أقدام على الطريق ولا تزال .

8- الظفر ببعض المقدمات ، أو ببعض الوسائل مع عدم تقدير العواقب :

وقد يكون الظفر ببعض المقدمات أو ببعض الوسائل مثل العدد البشرى ، ومثل الأدوات مع عدم تقدير العواقب ، من زيادة تسلط أعداء الله ومن حدوث فتنة وردة فعل ، لدى جماهير الناس قد يكون كل ذلك هو السبب في الاستعجال .

ولعل هذا هو السر في أمر الإسلام بالصبر على جور الأئمة ، ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح و الخروج السافر عن الإسلام .

يقول - صلى الله عليه وسلم - :

( من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية )

ويقول عبادة بن الصامت - رضى الله تعالى عنه -دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه ، فقال فيما أخذ علينا :( أن بايعنا على السمع و الطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )

بل حتى الكفر البواح لا يكون معه خروج إلا إذا أمنت الفتنة ، وتوفرت القدرات والإمكانات وهذا لا يمنع أن ننكر عليهم باللسان وبالقلب .

يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرح حديث عبادة :

معنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم ، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين ) .

ونقل ابن التين عن الداودى قال :

( الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر ) .

9-عدم وجود برنامج أو منهاج يمتص الطاقات ، ويخفف من حدتها وغلوائها :

وقد يكون عدم وجود برنامج أو منهاج يمتص الطاقات ويخفف من حدتها وغلوائها هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن نفس الإنسان التي بين جنبيه إن لم يشغلها بالحق شغلته بالباطل .

ولعل ذلك هو السر في أن الإسلام غمر المسلم ببرنامج عمل في اليوم و الليلة ، وفي الأسبوع وفي الشهر و في السنة وفي العمر كله بحيث إذا حافظ عليه كانت خطوته دقيقة وكانت جهوده مثمرة .

ولعله السر أيضاً في تشديد الإسلام على الأئمة أن يستفرغوا كل ما في وسعهم وكل ما في طاقتهم لاستنباط ما يملأ حياة المسلمين بالعمل الجاد المثمر الخالي من الضر و الشرر وإلا حرموا الجنة .

يقول - صلى الله عليه وسلم -

“ ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة

10- العمل بعيداً عن ذوى الخبرة و التجربة :

وقد يكون العمل بعيداً عن ذوى الخبرة و التجربة هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن الإنسان يولد ولا علم له بشيء في هذه الحياة كما قال سبحانه :

{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً …. }

ثم يبدأ - عن طريق ما وهبه الله من السمع والأبصار والأفئدة - التعلم ، و التعلم لا يكون من الكتب وحدها ، بل يتم أيضاً بواسطة التجربة ، و الممارسة ، و العامل الواعي هو الذي ينتفع بخيرات وتجارب من سبقوه على الطريق ليوفر على نفسه الجهد ، و الوقت و التكاليف ، أما إذا شمخ بأنفه ونأي بنفسه وبدأ العمل بعيداً عن ذوى الخبرة و التجربة فستكون له أخطاء ، وقد يكون الاستعجال واحداً منها .

ولعل السر في وصية الإسلام باحترام العلماء وكبار السن الصالحين وذوى الفضل حيث يقول - صلى الله عليه وسلم - : يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً ولا يؤمَّن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه

11- الغفلة عن سنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع :

وقد تكون الغفلة عن سنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع هي السبب في الاستعجال ، ذلك :

أن من سنن الله في الكون : خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وخلق الإنسان و الحيوان و النبات على مراحل مع أنه قادر على خلق كل ذلك وغيره بكلمة كن { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } .

ومن سنن الله في النفس : أنها لا تضحي ولا تبذل ولا تعطى إلا إذا عولجت من داخلها ، واقتلعت منها كل الحظوظ ، وأدركت قيمة وفائدة التضحية و البذل و العطاء { قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها } وذلك لا يتم بسهولة ويسر ، وإنما لابد له من جهد ووقت وتكاليف .

ومن سنن الله في التشريع : أن الخمر حرمت على مراحل وكذلك الربا ، وإذا نسى العامل أو الداعية هذه السنن كانت السرعة و العجلة ، أما حين تظل ماثلة أمام عينيه ، حاضرة في ذهنه وفؤاده ، فإنها تهدئ من نفسه ، وتضبط حركته ، وتبصره بموضع قدميه .

12- نسيان الغاية التي يسعى إليها المسلم :

وقد يكون نسيان الغاية التي يسعى إليها المسلم هي السبب في الاستعجال ، ذلك أن المسلم يسعى أساساً لتحقيق مرضات الله ، وهذا إنما يتحقق بالتزام منهجه ، وعدم التفريط فيه ، و الثبات على عليه إلى يوم اللقاء قدر الطاقة مع الإخلاص { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } ، { فاتقوا الله ما استطعتم … }

وتلك مقدمات يسأل عنها المسلم بين يدي الله يوم القيامة وعليها تكون النجاة أو عدم النجاة أما النتائج من التمكين أو عدم التمكين فلا يسأل عنها ، لأنها بيد الله يأتي بها حيث يشاء وكما يشاء .

فإن حدث ونسى العامل أو الداعية هذه الحقيقة فإنه يقع لا محالة في الاستعجال .

13- الغفلة عن سنة الله مع العصاة و المكذبين :

وقد تكون الغفلة عن سنة الله مع العصاة و المكذبين هي السبب في الاستعجال .

ذلك أن من سنة الله مع العصاة و المكذبين ، الإمهال ، وعدم الاستعجال { وأملي لهم إن كيدي متين } ، { وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } .

ومن سننه كذلك معهم : أنه إذا أخذهم لم يفلتهم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة * إن أخذه أليم شديد } ، { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } .

ومن سنته أيضاً : أن أيامه ليست كأيامنا هذه { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } .

وإذا غفل العامل أو الداعية عن هذه السنن استعجل قائلاً : نناجزهم قبل أن يستفحل شأنهم ، وقبل أن يمسكوا بزمام الأمور ، فتستحيل إزاحتهم بعد ذلك من طريق الناس .

14- صحبة نفر من ذوى العجلة وعدم التأني :

وقد تكون صحبة نفر من ذوى العجلة وعدم التأني هي السبب في الاستعجال ، ذلك أن الطبع يعدى ، و المرء على دين خليله ، وإذا لم يحسن المسلم اختيار صاحبه ، فإنه يقتدي به لا محالة في ما يعتنق وفي كل ما يسلك - سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية - وقد يكون من بين ذلك الاستعجال ، ولعل هذا هو سر تأكيد الإسلام على ضرورة مراعاة الدقة والأمانة في اختيار الصديق و الصاحب ، وقد قدمنا طرفاً من الأحاديث الدالة على ذلك أثناء الحديث عن الفتور .

تلك هي الأسباب التي توقع في الاستعجال .

سادساً : طريق علاج الاستعجال

وما دمنا قد وقفنا على أهم الأسباب التي تؤدى إلى الاستعجال ، فإنه صار من السهل علينا أن ندرك طريق العلاج وتتلخص في :

1- إمعان النظر في الآثار و العواقب المترتبة على الاستعجال ، فإن ذلك مما يهدئ النفس ويحمل على التريث و التأني .

2- دوام النظر في كتاب الله عز وجل ، فإن ذلك يبصرنا بسنن الله في الكون وفي النفس ، وفي التشريع ومع العصاة و المكذبين و البصيرة بهذه السنن تهدئ النفس وتساعد على التأني و التروي ، قال الله تعالى :{ ... سأريكم آياتي فلا تستعجلون } ، { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } ، { إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم } .

3- دوام المطالعة في السنة و السيرة النبوية ، فإن ذلك مما يوقعنا على مقدار ما لاقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشدائد و المحن ، وكيف أنه تحمل ، وصبر ولم يستعجل ، حتى كانت العاقبة له ، وللمنهج الذي جاء به .

ومعلوم أن الوقوف على ذلك مما يضبط حركة المسلم ، إقتداء وتأسياً به - صلى الله عليه وسلم - { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيراً }

4- مطالعة كتب التراجم و التاريخ ، فإن ذلك مما يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات و السلف في مجابهة الباطل ، وكيف أنهم تأنوا وتريثوا حتى مكن لهم ، وهذا بدوره يحمل على الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و المشابهة على حد قول القائل :

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح

وقد مرت بنا قصة عمر بن عبد العزيز مع ولده في هذا الشأن ، ونحن نتحدث عن علاج الفتور

5- العمل في أحضان وفي ظل ذوى الخبرة والتجربة ممن سبقوا علي الطريق فإن ذلك من شأنه أن يجعل خطوات العاملين دقيقة محسوبة وأن يوفر عليهم الكثير من الجهد والوقت وباقي التكاليف :

وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم - النظر إلى ذلك حين قال :

( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )45

6- العمل من خلال منهاج و برنامج واضح الأركان محدد المعالم يستوعب الحياة كلها ويأخذ بيد العامل من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة فيشبع تطلعاته ويجيب على تساؤلاته ويرفع من مستواه.

7- الفهم الدقيق لأساليب ومخططات الأعداء فإن ذلك من شأنه أن يحمل العامل على النظر في عواقب الأمور وعلى التريث والتأني والتصرف بحكمة وعلى بينة .

8- عدم الرهبة أو الخوف من تسلط الأعداء وإحكامهم القبضة على العالم الإسلامي لأن ذلك يمكن أن يزول في لحظات وما هو على لله بعزيز : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد }. { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم }. { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }.

بيد أن هذا الشرط بأن تقيم الإسلام في أنفسنا وفيمن حولنا بكل ما نملك وبكل ما نستطيع : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}. { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا }.

9- مجاهدة النفس وتدريبها على ضرورة التريث والتأني والتروي فإنما الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله والرجولة لا تكون إلا بذلك .10- الانتباه إلى الغاية أو الهدف الذي من أجله يحيا المسلم فإن ذلك يحول دون الاستعجال ويحمل على إتقان المقدمات والوقوف عندها وعدم تجاوزها إلى النتائج .11-الانتباه إلى موقف المسلم من المنكرات وأسلوب تغييرها فإن ذلك يبصره بمعالم الطريق ويحول بينه وبين الاستعجال .تلك خطوات لابد منها على الطريق العلاج .

سابعا : الاستعجال ومنهج الحركة الإسلامية المعاصرة

وجدير بالذكر أن نشير إلى أن الاستعجال على النحو الذي ذكرنا غير وارد في منهج الحركة الإسلامية المعاصرة بالمرة بل أنه مرفوض صراحة والنص التالي - وهو جزء من منهج هذه الحركة يصدق ذلك :

( أيها المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم :

اسمعوها منى كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل اقتناع بأنها أسلم طريق للوصول .

أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة .

أيها المسلمون :

ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة ولا تميلوا كل ميل فتذروها كالمعلقة ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وتراقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .

أيها المسلمون :

إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ذلك مكفول لكم مادمتم مخلصين ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ونحن بعد ذلك : إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين وإما مصيبون فلنا مع ذلك ضعف أجر الفائزين المصيبين على أن التجارب في الماضي والحاضر أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ولا إنتاج إلا مع خطتكم ولا صواب إلا فيما تعلمون فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالك والفوز للعاملين -{ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم }.

ثامنا : الداعية بين الفتور والاستعجال

ويظهر من حديثنا عن الفتور والاستعجال : تحديد موقع الداعية إن موقعه يجب أن يكون وسطا بين الفتور والاستعجال عل معنى أنه مع المقدمات كخلية النحل دائب النشاط والحركة لا يقصر ولا يتوانى لحظة من ليل أو من نهار ولا يضيع فرصة تتاح له أما أوانه مع النتائج فهو هادئ متريث متأن غير متهور لا يستعجل شيئا قبل أوانه وإلا عوقب بحرمانه .

هذا ولم يفت الحركة الإسلامية المعاصرة أن تحدد هذا الموقع وتلك كلماتها أحرف من نور ومشاعل على الطريق :( إن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل ، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ .

يسهل على كثيرين أن يتخيلوا ، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوال باللسان ، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل ، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل ، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق و العمل المضني ، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله ، وفي قصة طالوت بيان لما أقول ، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل ، العمل القوى البغيض لديها الشاق عليها ، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها ..... ولا تضيعوا دقيقة بغير عمل وعند ذلك يكون عون الله وتأييده ، ونصره ).

الآفة الرابعة: العزلة

أولاً : معنى العزلة أو التفرد

و الآفة الرابعة التي يصاب بها بعض العاملين ، وعليهم أن يعملوا جاهدين على التطهر منها : إنما هي العزلة أو التفرد ، ولكي يكون لدينا إلمام دقيق بأبعاد ومعالم هذه الآفة سنتناولها على النحو التالي :

أولاً : معنى العزلة أو التفرد :

لغة : العزلة أو التفرد في اللغة تعنى الابتعاد أو التنحي جانباً ، قال صاحب لسان العرب :( عزل الشيء يعزله عزلاً ، وعزّله فاعتزل وانعزل وتعزّل : نحَّاه جانباً فتنحى ، وقوله تعالى :{ إنهم عن السمع لمعزولون } معناه : أنهم لما رموا بالنجوم - كما في قوله تعالى { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } منعوا من السمع ) .

اصطلاحاً : أما في اصطلاح الدعاة فيراد بها إيثار حياة التفرد على حياة الجماعة ، وذلك بأن يكتفي العامل بإقامة الإسلام في نفسه ، غير مبال بالآخرين ، وبما هم فيه من ضياع وهلكة ، أو أن يقيم الإسلام في نفسه ، ويسعى جاهداً لإقامته في الناس ، ولكن بجهود فردية بعيدة عن التعاون و التآزر من بقية العاملين في الميدان .

ثانياً : أسباب العزلة أو التفرد

وهناك أسباب تؤدى إلى هذه العزلة أو التفرد نذكر منها

1- الوقوف عند بعض النصوص الشرعية المرغبة في العزلة مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية إلى حياة الجماعة :

فقد جاءت بعض النصوص الشرعية مادحة للعزلة ، ومرغبة فيها كقوله صلى الله عليه وسلم :( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)

وكإجابته للذي سأل : أي الناس أفضل ؟ قائلاً :( رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ، قال : ثم من ؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره )

وكقوله في حديث حذيفة بن اليمان :( .... فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت ، وأنت على ذلك )

وكقوله :( من خير معاش الناس لهم : رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه ، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه ، يبتغى القتل و الموت مظانة أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف ، أو بطن واد من هذه الأودية ، يقيم الصلاة ، ويؤتى الزكاة ، ويعبد ربه ، حتى يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في خير )

وكذلك جاءت بعض النصوص الشرعية الأخرى داعية إلى السير تحت لواء الجماعة ، و العيش في كنفها كقوله تعالى :

{ وتعاونوا على البر و التقوى ، ولا تعاونوا على الإثم و العدوان }

{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ... }

{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص }

وكقوله صلى الله عليه وسلم :( ... إياكم و الفرقة ، وعليكم بالجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة )

( .... وأنا آمركم بخمس : الله أمرني بهن : بالجماعة و السمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع ، قالوا : يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ قال : وإن صام و صلى وزعم أنه مسلم )

( يد الله مع الجماعة )

و العامل الذي يقف عند النصوص الأولي المرغبة في العزلة ناسياً أو متناسياً صلتها بالنصوص الأخرى الداعية إلى مخاطبة الجماعة ، و العيش في رحابها ، يبتلى أو يصاب لا محالة بآفة العزلة أو التفرد .

2- الوقوف عند ظاهرة العزلة التي أثرت عن بعض السلف مع الغفلة عن الظروف التي دعت إلى ذلك :

وقد يكون الحامل على العزلة ما أثر عن بعض السلف : أنهم آثروا العزلة على مخالطة الجماعة ، ومعايشتها ، فها هو نبي الله إبراهيم - عليه السلام - يقول لقومه كما حكى القرآن الكريم :

{ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ... }

وقد كان الحامل له على ذلك استنفاذ وسائل التغيير والإصلاح ، ثم إصرار قومه على الكفر ، الأمر الذي خشي معه الفتنة في الدين ، ففر منهم واعتزلهم .

وها هو أبو ذر ، وابن عمر ، ومعهما جمع من الصحابة يعتزلون جماعة المسلمين ، ويعيشون وحدهم لما وقعت الفتنة ، وقد كان الباعث لهم على ذلك ، صيانة أيديهم أن تغمس في دماء زاكية ، طهرها الله - عز وجل - ولا يعرف : من المصيب ومن غير المصيب .

وهذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ، يقضى أخريات أيام حياته في عزلة بعيداً عن الناس ، وقد كان عذره ، تجنب مصادمة السلطات حقناً لدماء المسلمين .

وإن العامل الذي يقرا عن هذه العزلة ، التي عاشها هؤلاء وينسى ظروفها وملابساتها يتولد في نفسه معنى الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و التشبه ، فيلجأ إلى حياة العزلة ، بعيداً عن جو الجماعة حتى وإن لم يكن لهذه العزلة ما يبررها وما يدعو غليها .

3- الظن أن حياة الجماعة تلغى دائماً ذاتية المنتمى إليها وتؤثر على شخصيته مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية و الجماعة :

وقد يكون الحامل على العزلة ظن بعض العاملين أنه يعيش مع الجماعة وانتمائه إليها يلغى ذاتيته ، وتذوب شخصيته فيبقى إمعة ، إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساءوا أساء ، مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية و الجماعية ، إذ يقول هذا المنهج على دعوة الفرد إلى أن يعيش في كنف الجماعة ، ويستظل بظلها على النحو الذي قدمنا في الوقت الذي يؤكد فيه أنه مسئول مسئولية كاملة عن كل تصرف يقع منه فيقول له :

{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }

{ كل نفس بما كسبت رهينة }

{ لا تجزى نفس عن نفس شيئاً }

{ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره }

{ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى }

وأن عليه أن يبذل النصيحة بشروطها وآدابها لكل واحد في الجماعة مهما علا كعبه ، ومهما عظمت مكانته ( الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )

( المؤمن مرآة أخيه و المؤمن أخو المؤمن يكف عن ضيعته ويحوطه من ورائه ) وفي رواية :( المؤمن مرآة أخيه إن رأي فيه عيباً قومه ) .

ولقد عاش الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وعاش المسلمون بعضهم مع بعض فما رأينا فرداً ذابت شخصيته أو تلاشت فرديته في الجماعة وإنما رأينا النصيحة و الشورى والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، وما قول بعضهم لعمر :( لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ) عنا ببعيد .

وبهذه الدعوة ينشأ ويبنى في نفس المسلم كيان داخلي متميز واضح المعالم و الحدود ، وتبقى أعصابه صاحية منتبهة لكل ما يمسه ، ولو من بعيد .

إن هذا الظن ، وهذه الغفلة ينتهيان بالعامل لا محالة إلى أن يلجأ إلى العزلة ، فيصاب بآفة من أخطر الآفات .

4- الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة و العيش بين الناس :

وقد يكون الحامل على العزلة الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة و العيش بين الناس ، إذ أن طبيعة هذه التكاليف : أنها كثيرة ضخمة ، تستوعب حياة الإنسان من أول يوم إلى آخر يوم ، وقد لا تنتهي ، وغالباً ما تكون على خلاف ما تهوى الأنفس ، وما لم يكن العامل منتبهاً إلى ذلك ، فإنه يعمل نفسه من التزكية و التربية ، و المجاهدة وتسيطر عليه الأهواء و الشهوات وبمرور الأيام يضعف ويعجز عن القيام بهذه التكاليف ، وحينئذٍ يبحث عن مخرج أو ملجأ فلا يجد سوى العزلة أو التفرد

5- التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة :

وقد يكون الحامل على العزلة التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة من صلاة إلى صيام إلى قراءة القرآن إلى ذكر إلى دعاء ، إلى استغفار إلى تفكر .... الخ مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة ، إذ المفهوم الصحيح للعبادة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -

( أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من القوال والأعمال الظاهرة و الباطنة ، فالصلاة و الزكاة و الصيام و الحج عبادة ، و الدعاء والاستغفار و الذكر وتلاوة القرآن عبادة ، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام عبادة و الوفاء بالعهود عبادة و الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد للكفار و المنافقين عبادة ، والإحسان للجار و اليتيم و المسكين وابن السبيل و الخادم و الرحمة بالضعيف و الرفق بالحيوان عبادة ، وكذلك حب اله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له ، و الصبر لحكمه و الرضا بقضائه و التوكل عليه و الرجاء في رحمته و الخوف من عذابه وأمثال ذلك كله عبادة ) ...

و القرآن الكريم و السنة النبوية يصدقان هذا المفهوم الذي قاله شيخ الإسلام .

على أن مخالطة الناس لا تمنع أن يكون للمسلم أوقات يخلو فيها بنفسه ليؤدى واجباً ، أو يتقرب إلى الله بنفل أو يحفظ علماً ، أو يحقق مسألة ، أو يتلو قرآناً ، أو يذكر ويتفكر ، أو يحاسب نفسه ، وذلك هو معنى قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه :( خذوا حظكم من العزلة )

كأن غياب المفهوم الصحيح للعبادة عن بال المسلم العامل ، وحصره العبادة في دائرة الشعائر التعبدية ، متوهماً أن حياة الجماعة تحول بينه وبين التفرغ الكامل لأداء هذه الشعائر ، كل هذا يوقع لا محالة في آفة العزلة أو التفرد .

6- الاعتذار بانتشار الشر و الفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر و الفساد :

وقد يكون الحامل على العزلة الاعتذار بانتشار الشر و الفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر و الفساد ، إذ أن دور المسلم في هذه الحال أن ينشط للمقاومة بكل الأساليب المتاحة ، و الوسائل الممكنة ولا يلجأ إلى العزلة إلا عند تمكن الداء وعجز الوسائل وخوف الفتنة .

وإذا ما غفل المسلم العامل عن حقيقة هذا الدور فإنه يفر لأول وهلة إلى العزلة أو التفرد ، وتتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد ، وصدق الله العظيم القائل :

{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } .

{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } :

وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناصح : ( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )

7- الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلى ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور :

وقد يكون الحامل على العزلة الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلى ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور، إذ أن موقف هؤلاء إنما كان اليقين التام بأن الابتلاء سنة من سنن الله في الدعوات ، ثم الاعتراف بالتقصير و اللجوء إلى الله أن يثبت أقدامهم على الطريق ، وأن ينصرهم وقد قبل الله منهم فثبتهم ونصرهم { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين *وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين }

نعم إن العامل إذا اطلع على هذه الصور ، وكان في غفلة عن موقف أولئك الممتحنين يسيطر عليه الخوف و الهلع ، ويحاول أن يجد مخرجاً ، وحينئذٍ تسول له نفسه ، ويزين له الشيطان أن المخرج إنما يكون في العزلة أو التفرد فيركن إلى ذلك .

8- صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة ، وسيرتهم التفرد :

وقد يكون الحامل على العزلة صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة ، وسيرتهم التفرد نظراً لأن المرء شديد التأثر بقرينه ، لاسيما إذا كان هذا القرين ذا شخصية مؤثرة وممن يقتدي أو يتأسى به .

يقول صلى الله عليه وسلم :( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .

9- تعدد الهيئات و الجماعات العاملة لدين الله :

وقد يؤدى تعدد الهيئات و الجماعات العاملة لدين الله إلى أن يقع المسلم العامل في حيرة من أمره ، مع أي من هذه الهيئات وتلك الجماعات يعمل ، وعن أي منها يبتعد ؟ وتنتهي به هذه الحيرة إلى العزلة أو التفرد ، لاسيما إذا لم يكن يعرف حقيقة هذه الهيئات و تلك الجماعات وموقفه منها ، غذ أن حقيقة هذه الهيئات وتلك الجماعات أنها جميعاً على خير بيد أن هذا الخير متفاوت ، فمنها ما هو على جزء يسير من الخير ، ومنها ما هو على كثير من الخير ، ومنها ما هو على الخير كله ، وأن موقفه منها يفرض عليه أن يتعرف عليها جميعاً :( أهدافاً ووسائل ، ثم يسير مع من كانت على الخير كله )

- بأن يكون هدفها تطبيق شرع الله ، ومنهجه في الأرض { إن الحكم إلا لله } ، { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } .

-وأن تقصد بكل ما يصدر عنها من أقوال وأفعال وجه الله { قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }

- وأن تخلعه كل ولاء إلا ولاء الله ورسوله ، و المؤمنين المتمسكين بهدى الله :{ إنما وليكم الله ورسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، ومن يتول الله ورسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }

- وأن تفهم الإسلام فهماً وسطاً دون غلو أو تشدد ودون تفريط أو إسراف ثم تعمل به كله من السواك إلى الجهاد { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } .

- وأن تعمل ابتداء على إيجاد الشخصية المسلمة الجامعة لكل خصال الخير ، المتأبية على كل خصال الشر المستأهلة لعون الله وتأييده نصره { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }

{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }

- وأن تتوسع في تحقيق هذه الشخصية المسلمة بحيث تنتشر وتعم المجتمع كله ، بل العالم كله :{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }

- وأن تجتهد في الربط بين هذه الشخصيات المسلمة بحيث تصدر عن رأي واحد وتصير فكراً واحداً وقلباً واحداً وروحاً واحدة ومشاعر واحدة وإن تعددت الأجساد { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }

- وأن تنطلق من ترتيب واع دقيق مبنى على دراسة وفهم الواقع باستمرار ثم التعامل معه بناء على هذه الدراسة ، وهذا الفهم { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المؤمنون ... } .

{ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون .

- وأن تراعى الأولويات في العمل بحيث إذا أصيبت بضيق ذات اليد وقصرت بها إمكانياتها ووسائلها قدمت بعض الأصول على بعض ، بل والأصول على الفروع ، و الفرائض على النوافل ، و المجمع عليه على المختلف فيه ، كما صنع - رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين سعى إلى تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفس البشرية قبل تحطيم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة وعلى سطحها .

- وألا تتساهل أو تتهاون في الأصول المجمع عليها ، مع التماس الأعذار في الفروع المختلف فيها وبذلك تفتح الباب للتعاون مع جميع العاملين .

- وأن يكون لها منهاج واضح الأركان ، محدد المعالم ، يأخذ بيد الفرد من طور إلى طور ، ومن مرحلة إلى مرحلة ، فيشبع تطلعاته ، ويجيب على تساؤلاته ويرفع من مستواه .

- وأن يكون قد ظهر ثباتها أو صبرها على مشاق ومتاعب الطريق فصمدت أمام الإرهاب ، واستعلت على المحن و الشدائد وبذلك استحقت أن تكون إماماً ورائداً لباقي العاملين :

{ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم } .

- وأن تكون قد قطعت شوطاً طويلاً في العمل ، بحيث صارت ذا دراية وخبرة بالطريق ، وبهذا توفر على من يسير معها جهداً ووقتاً ومالاً .

- وأن يكون دأبها التأني ، و التروي ، وعدم الاستعجال :{ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم .

- وأن يكون معها من يوجهها ويرشدها بحيث يرتب العمل وتوضع الأمور في نصابها .

- وأن ينزل جميع أبنائها على رأي من يوجههم مادام في المعروف .

- وأن يكون هناك التناصح بشروطه وآدابه ، وقبول هذا التناصح و الرضا به .

- وأن تكون هناك الدقة والأمانة في اختيار العاملين ليقطع الطريق على المتربصين { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة }

- وأن يكون هناك الاتباع لا الابتداع { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً } .

10- الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي :

وأخيراً قد يكون الحامل على العزلة الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي ، على النحو الذي سنعرض له بعد قليل ، إذ أن من غفل عن الآثار الضارة المترتبة على أمر ما وقع لا محالة في هذا الأمر .

ثالثاً : آثار العزلة أو التفرد

هذا وللعزلة أو التفرد آثار ضارة ، وعواقب سيئة ، سواء على العاملين ، أو على العمل الإسلامي ودونك هذه الآثار :

على العاملين :

فمن آثارهم على العاملين :

1- جهلهم بأبعاد ومعالم شخصيتهم :

ذلك أن الإنسان - مهما يكن ذكاؤه ، ومهما تكن فطنته - لا يمكنه وحده أن يعرف أبعاد ومعالم شخصيته معرفة دقيقة ، بل لابد من آخرين يعينونه على ذلك ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، لا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما في شخصيته من أثرة وأنانية أو إيثار ، وتعاون ، إلا إذا عاش بين الناس وخالطهم ، ورأي أصحاب الحاجات منهم ، ثم تأمل في نفسه ، هل تقسو وتجمد ، فتشح وتبخل ؟ وحينئذٍ تكون الثرة والأنانية ، أو ترق وتلين فتجود وتعطى ؟ وحينئذٍ يكون الإيثار و التعاون ، وكذلك لا يمكنه أن يقف على ما في شخصيته من حلم وأناة ، أو حمق وعجلة ، إلا إذا خالط الناس وصادف طبقات من غير أولى الكياسة ، ونظر : هل يقابل خشونة ألسنتهم باللين ، وغلظة قلوبهم بالرفق ؟ وهنا يكون الحلم والأناة ، أو يقابلها بمثلها أو أشد ؟ وهنا يكون الحمق و العجلة .

وأيضاً لا يعرف الإنسان ما لديه من الشجاعة الأدبية أو الجبن و الخور إلا إذا لزم الجماعة ، ورأي من يخطئ ثم تبصر في نفسه :

هل يهون عليها أن تقول لهذا المخطئ : إن الصواب في غير ما نطقت ، والحق في غير ما رأيت ، و الخير في غير ما أتيت ؟ وهنالك تكون الشجاعة الأدبية ، أو يعز عليها أن تقول ذلك فتصمت وتخرس ؟ وهناك يكون الجبن و الخور .

وبالمثل لا يدرك الإنسان ما تنطوي عليه شخصيته من صدق وكذب ، من أمانة وخيانة ، من نظام أو فوضى ، إلا إذا عاش في وسط الجماعة ، وحدَّث أفرادها ، أو ائتمنوه على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، أو ضرب لهم موعداً ، أو أعطى من نفسه عهداً لهم ، ثم نظر :

هل يحدثهم بما يوافق الحقيقة و الواقع ؟ فيكون صدوقاً ، أو بما يخالفها فيكون كذوباً .

وهل يحافظ على دمائهم وأموالهم وأعراضهم فيكون أميناً ، أو يعتدي عليها ويهدرها ؟ فيكون خائناً .

وهل يحافظ على عهده ، ويفي بوعده ؟ فيكون دقيقاً منضبطاً منظماً أو يهمل ويخلف ؟ فيكون فوضوياً غير دقيق ولا منظم ولا منضبط .

كأن المسلم إذا عاش في عزلة أو منفرداً فإن شخصيته تبقى مجهولة لديه ، وذلك هو الخسران بعينه ، إذ ربما يفعل الشر ظاناً أنه الخير ، وربما يترك الخير ، معتقداً أنه الشر { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } .

ولعل هذا الأثر هو المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم - ( المؤمن مرآة المؤمن … )

ومن قول عمر - رضى الله عنه - :( أهديت إلينا عيوبنا )

أي أن الطريق التي يعرف بها المسلم أبعاد ومعالم شخصيته من كمال أو نقص ، قوة أو ضعف - فينمى نواحي الكمال و القوة ، ويستكمل ويقوى نواحي النقص و الضعف - إنما هي الجماعة ، وبغيرها يعيش المسلم في عماية وعلى غير هدى .

2- حرمانهم من المعين الذي يمكن أن يأخذ بأيديهم

ويساعدهم على إصلاح عيوبهم ، ذلك أن الإنسان قد يهدى إلى عيوبه ، لكنه قد يكون من ضعف الإرادة ، وخور العزيمة بحيث يعجز بمفرده عن إصلاح وتقويم هذه العيوب ، ولابد له من معين ، يعينه على نفسه ، وحين يختار العزلة أو التفرد يحرم هذا المعين ، ويبقى طوال حياته غارقاً في المعاصي و السيئات .

ولعل هذا الأثر هو المفهوم مما جاء :( المؤمن مرآة أخيه إذا رأي فيه عيباً أصلحه )

( من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً ، إن نسى ذكره ، وإن ذكر أعانه )

3- تعطيل بعض طاقاتهم وإمكاناتهم

الأمر الذي يجعلهم فريسة لإغواء الشيطان وإضلاله ، ووسوسته ، فضلاً عما يلحق شخصيتهم من الانفصام أو الخلل ، ذلك أن الإنسان - كما هو معلوم - مؤلف من جسد وعقل وروح ،أو بعبارة أخرى من مادة وروح ، و الروح مزود بطاقة من الغرائز تشبه الخيوط الدقيقة المتقابلة المتوازية ، كل غريزتين منهما متجاورتين في النفس ، وهما في الوقت ذاته مختلفتان في الاتجاه ، الخوف و الرجاء ، الحب و الكره ، الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال ، الطاقة الحسية والطاقة المعنوية ، الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس ، حب الالتزام و الميول إلى التطوع ، الفردية و الجماعية ، السلبية والإيجابية ….الخ كلها غرائز متوازية ، ومتقابلة - كما ترى - وهي بتوازيها وتقابلها - تؤدى مهمتها في ربط الكائن البشرى بالحياة ، كأنما هي أوتاد متفرقة ، متقابلة تشد الكيان كله ، وتربطه من كل جانب يصلح للارتباط ، وهي في الوقت ذاته توسع أفقه وتفسح مجال حياته ، فلا ينحصر في نطاق واحد ، ولا في مستوى واحد ، بيد أن تحقيق التوازن و التكامل في حياة الإنسان مرهون بإعطاء كل غريزة من هذه الغرائز حقها ، دون زيادة أو نقص .

و الجماعة هي المجال الوحيد الذي يوظف سائر طاقات المسلم ويعمل كل الغرائز بدرجات متساوية ومتوازية في نفس الوقت ، فتتكون الشخصية السوية المتكاملة ، الخالية من أي انفصام أو اعوجاج و المحصنة ضد كيد الشيطان وإغوائه .

وإذا حدث أن ابتعد المسلم عن الجماعة وآثر حياة العزلة أو التفرد فإنه تتعطل - لا محالة - بعض طاقاته وإمكاناته ، وحينئذٍ يكون الخلل أو الانفصام في شخصيته ، فضلاً عن وجود الفراغ الذي يمكن أن يستغله شياطين الإنس و الجن في إغوائه وإضلاله ، ولعل هذا الثر هو ما لفت النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر إليه بقوله :

( … فمن أحب منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد … )

4- قلة رصيدهم من الخبرات و التجارب التي تعينهم على مواجهة كل ما يعترض طريقهم من صعاب وعقبات :

ذلك أن العمل لدين الله طريق مليئة بالأشواك محفوفة بالمخاطر ، و المسلم الحصيف الذكي هو الذي تكون لديه الخبرة أو التجربة التي تمكنه من التغلب على هذه المخاطر ، و النجاة من تلك الأشواك .

وليس هناك مجال أرحب وأوسع - يكتسب فيه المسلم الخبرات ويتعلم التجارب - سوى العيش مع الناس ومخالطتهم .

وحين ينأى المسلم العامل بنفسه عن الجماعة ، ويرضى بالعزلة أو التفرد فإنه يحرم هذه الخيرات ، وتلك التجارب ، ويبقى طول حياته ضيق الأفق قاصر النظر ، لا يعرف كيف يواجه أبسط المشكلات ، فضلاً عن أمهاتها وعظائمها .

ولعل هذا الثر هو ما نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم :

(إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة ) .

5- سيطرة اليأس و القنوط على نفوسهم

الأمر الذي قد ينتهي بهم إلى الفتور ، ذلك أن المسلم العامل لدين الله - لاسيما في هذا العصر - يأتيه الشيطان بين الحين و الحين ويلقى عليه هذه التساؤلات :

ما المخرج وأعداء الله - في داخل الأمة الإسلامية وفي خارجها - كثير ؟ وهم الآن ممسكون بخناق العالم الإسلامي ، ولديهم خطط ماكرة وأساليب خبيثة ؟

ويستطيع المسلم المخالط للناس و العامل من خلال جماعة دفع هذه التساؤلات ، بأنه ليس وحيداً في هذا الميدان ، وإنما هناك آخرون سواه يسيرون في نفس الطريق ، وأولئك لهم من الأساليب والإمكانات ما يعينهم على مواجهة أعدائهم ، وإحباط مكائدهم ومخططاتهم .

أما إذا كان في عزلة أو يعمل وحده ، فإن هذه التساؤلات تظل تلح عليه وليس هناك ما يدفعها به ، حينئذٍ يدب اليأس في قلبه و القنوط إلى نفسه فيفتر وربما ترك العمل لدين الله .

6- قلة رصيدهم من الأجر و الثواب :

ذلك أن الذي يعيش مع الناس ويخالطهم يجد أمامه مجالات رحبة ، وميادين واسعة لتحصيل الأجر و الثواب ، فهناك مجالس العلم للإفادة أو الاستفادة ، وهناك عيادة المرضى وزيارة الإخوان تأكيداً لمودتهم أو تهنئة بنعمة ، أو تعزية على مصيبة ، وهناك إرشاد للناس وتوجيههم إلى الخير ، ومد يد المعونة على ما يسد حاجاتهم ، أو تقوى به شوكتهم …. وهكذا .

أما الذي يعيش منفرداً أو منعزلاً فإنه يحرم من هذه الميادين وتلك المجالات ، وبالتالي يقل رصيده من الأجر و الثواب .

7- عدم تمكنهم من إقامة دين الله في أنفسهم اليوم أو غداً :

ذلك أن الباطل لا يفتأ لحظة عن العمل بهدف أن تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد ، فلا يستطيع المسلم العامل أن يؤدى دوراً أو أن يقوم بواجب ، وما يمكن أن يتحقق للباطل مثل ذلك ، إلا إذا فرَّ أهل الحق من الميدان ، أو عملوا متفرقين ، و المعتزل واحد فرَّ من الميدان ، أو آثر أن يعمل وحده ، ومن كان كذلك فإنه سيضيق عليه حتماً اليوم أو غداً .

ولعل ذلك هو ما أشارت إليه تلك النصوص التي ذكرناها آنفاً في أسباب العزلة أو التفرد :

{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض … } ، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز }.

( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )

8- تعريضهم أنفسهم للإثم و الغضب الإلهي

- بسبب اعتزالهم الناس ومفارقتهم الجماعة ، وأنى للمسلم أن يطيق ذلك أو يتحمله ؟ ولعل هذا الأثر هو ما تفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم :

( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية … )

تلكم أهم آثار العزلة أو التفرد على العاملين وهي في جملتها مستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم :

( من فارق الجماعة شبراً ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )

وكأنه يعنى بذلك أن من خرج عن الجماعة وفارقها في الأمر المجمع عليه .

فقد عرَّض نفسه للهلاك والضياع إذ لا يؤمن عليه حينئذ الوقوع في جميع الآثار المذكورة آنفا أو على الأقل في بعضها ، تماما كما يحدث للدابة إذا جعلت الربقة أو الطوق الذي يجعل في عنقها لئلا تشرد فإنه لا يؤمن عليها الهلاك والضياع .

*على العمل الإسلامي : أما آثارها على العمل الإسلامي فتدور حول :

(1) سهولة ضربه والقضاء عليه أو على الأقل إجهاضه

فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل نظرا لضعفه بسبب تفرق العاملين وعدم تضامنهم ولعل ذلك هو السر في حرص أعداء الله على أن يظل المسلمون منقسمين على أنفسهم تحت شعار : ( فرق تسد ).

ولعله السر أيضا في الأمر بالوحدة ونبذ الفرقة والتنازع :

{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } .

{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .

{ وتعاونوا على البر وتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .

(2) الحرمان من العون أو المدد الإلهي :

ذلك أن العمل الإسلامي مهما تكن طاقاته وإمكاناته فهو بحاجة إلى عون وتأييد من الله عز وجل وقد وعد الله أنه لا يعطى هذا العون وذلك التأييد إلا إذ كان القائمون على العمل الإسلامي متضامنين متكاتفين ,

يقول النبي صلى الله عليه وسلم :

(يد الله مع الجماعة )

ولئن ترتب على هذا الحرمان امتحان أو ابتلاء فإنه يكون رحمة وبركة على العاملين المتضامنين ونقمة وعذابا على القاعدين وكذلك على العاملين المتفرقين :

{ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعماله سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم } .

( إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم )59.

رابعاً : الطريق للخلاص والوقاية من العزلة

ومادمنا قد وقفنا على أسباب العزلة وآثارها فإن من السهل أن ندرك طريق الخلاص والوقاية منها وتتلخص في (1) الفهم التام للعلاقة أو الصلة القائمة بين النصوص الشرعية المرغبة في العزلة والأخرى الداعية إلى مخالطة الناس ولزوم الجماعة :

فإن ذلك الفهم كفيل بانتزاع المسلم إن كان صادقا مع نفسه من حياة العزلة وإلقائه في أحضان الجماعة نظرا لأن مخالطة الجماعة هي الأصل والعزلة أمر طارئ لا يكون إلا عند الضرورة التي لا يبقى معها دين ولا حياة .

(2) الفهم التام للظروف أو الأسباب التي دعت بعض السلف إلى العزلة أو التفرد :

فإن ذلك الفهم كثيرا ما يحول بيننا وبين الاقتداء بهم في هذا الشأن لا سيما إذ عرفنا أن عزلة هؤلاء لم يكن من ورائها ضرر فقد كانت دولة الإسلام قائمة والراية مرفوعة والدين كله لله أما عزلتنا الآن فمن ورائها ضرر كثير نظرا لغياب دولة الإسلام وإمساك أعداء الله بخناقنا وصدهم عن سبيل الله كثيرا وحاجتنا إلى سواد كثير وجهود ضخمة متعاونة متآزرة لإعادة السلطان لله.

(3) الإلمام الدقيق بمنهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعية :

فإن ذلك كفيل بدفع السلم إلى أن يعيش في أحضان الجماعة في الوقت الذي يحافظ فيه على ذاتيته أو فرديته .

(4) الوقوف على المفهوم الصحيح للعبادة :

فإنه كاف في القضاء على العزلة والحمل على ملازمة الجماعة ومخالطة الناس دون أن يكون هناك أدنى حرج في أن الأوقات تنفق في غير الطاعة والعبادة .

(5) مجاهدة النفس وأخذها دوما بالشدة والحزم :

لئلا تسيطر عليها الأهواء وتستبد بها الشهوات فتدفعها إلى العزلة والفرار من تكاليف مخالطة الجماعة والعيش بين الناس .

(6) فهم الدور الواجب على المسلم حين ينتشر الشر ويعم الفساد :

فإن ذلك كاف في إخراج أي عامل من عزلته وحمله على مخالطة الناس واقتحام الخطوب من أجل القضاء على الشر ومقاومة الفساد أو على الأقل تحجيمهما .

(7) اللجوء التام إلى الله عز وجل والاستعانة الصادقة به فإن من يستعين بالله يعينه الله :

{ وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } .

(8) التخلص من صحبة من كان منهجهم العزلة وسيرتهم التفرد مع ملازمة صف العاملين :

فإن ذلك له دور كبير في القضاء على العزلة .

(9) الإلمام التام بحقيقة الهيئات والجماعات العاملة لدين الله :

فإن ذلك سينتهي به حتما إلى نبذ حياة العزلة والسير مع من كانت على الخير كله وقائمة بالحق جميعه.

(10) الوقوف على حقيقة المنهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم

في تشييد صرح ودولة الإسلام الأولي فإن ذلك يعين على التخلص من العزلة ويحمل على الانحياز للجماعة اقتداء وتأسيا به صلى الله عليه وسلم :

{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }.

(11) إدراك أن أعداء الله من الكافرين والمنافقين يتعاونون فيما بينهم

ويعملون لضرب الإسلام مجتمعين لا متفرقين في شكل أحلاف عسكرية : ( حلف وارسو - حلف الأطلنطي ) وفي شكل أسواق تجارية : ( السوق الأوروبية المشتركة ) وفي شكل برلمانات وهيئات سياسية : ( البرلمان الأوروبي ) وفي شكل اتحادات جمهورية وولاياته ( جمهوريات الاتحاد السوفيتي ، والولايات المتحدة الأمريكية ).

وإذا كان هذا شأن أعداء الله وهم على الباطل وبينهم من خلافات جوهرية فأولى بنا نحن المسلمين لا سيما أننا على الحق وليست لدينا خلافات جوهرية أن نواجههم بنفس الأسلوب أي مجتمعين لا متفرقين :

{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير }.

(12) التأمل في حياة المخلوقات المحيطة بنا الموجودة حولنا

فإن ذلك التأمل سيقودنا حتما إلى أن هذه المخلوقات ما تعيش في عزلة وإنما تعيش مجتمعة متعاونة لتؤدى دورها فها هي المجموعة الشمسية تتعاون لتوفير الضياء والدفء لسائر الكائنات الحية وها هي جماعة النحل تتعاون في بناء بيوتها وتنظيفها وتوفير الحماية لها ثم تسرح لتمتص رحيق الأزهار ولتخرجه في النهاية عسلا مصفي فيه شفاء للناس ومثل ذلك يحدث لجماعة النمل وباقي المخلوقات مما حدا بالشاعر أن يقول :

النمل تبنى قراها في تماسكها والنحل تجنى رحيق الشهد أعوانا

وإذا كان هذا شأن المخلوقات التي لا عقل لها فكيف بنا نحن بني آدم الذين ميزنا الله بالعقل والحرية والإرادة وجعلنا سادة في هذا الكون وهكذا يمكن أن يؤدى مثل هذا التأمل إلى نبذ حياة العزلة والعيش مع الجماعة وبين الناس .

(13) الوقوف على حقيقة الآثار المترتبة على العزلة أو التفرد

وقد ذكرناها آنفا فإن ذلك يقود من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد إلى العيش بين الناس ومخالطتهم حذرا من الوقوع في هذه الآثار أو تلك العواقب .

‌‌الآفة الخامسة: الإعجاب بالنفس

أولاً : معنى الإعجاب بالنفس

والآفة الخامسة التي يصاب بها بعض العاملين وعليهم أن يعملوا جاهدين على مداواة أنفسهم وتحريرها بل والاحتراز والتوقي منها : إنما هي الإعجاب بالنفس .

ولكي يكون حديثنا عن هذه الآفة واضح الأبعاد محدد المعالم سنجعله يدور على النحو التالي :

أولاً : معنى الإعجاب بالنفس :

لغة : يطلق الإعجاب بالنفس في اللغة ويراد به :

(أ) السرور والاستحسان تقول : أعجبه الأمر : سره وأعجب به : سر به ومنه قوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم }.

{ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث }.

{ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا }.

(ب) الزهو أو الإعظام والإكبار تقول : أعجبه الأمر أي زها به وعظم عنده وكبر لديه ، ورجل معجب أي مزهر أو معظم ومكبر لما يكون منه حسنا أو قبيحا ومنه قوله تعالى : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا }.

اصطلاحا : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن الإعجاب بالنفس هو : السرور أو الفرح بالنفس وبما يصدر عنها من أقوال أو أعمال من غير تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس سواء أكانت هذه الأقوال وتلك الأعمال خيراً أو شراً محمودة أو غير محمودة فإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقار واستصغار ما يصدر عنهم فهو الغرور أو شدة الإعجاب وإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقارهم في أشخاصهم وذواتهم والترفع عليهم فهو التكبر أو شدة الإعجاب.

ثانياً : أسباب الإعجاب بالنفس

للإعجاب بالنفس أسباب تؤدى إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها:

1- النشأة الأولى :

فقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي النشأة الأولى .

ذلك أن الإنسان قد ينشأ بين أبوين يلمس منهما أو من أحدهما : حب المحمدة ودوام تزكية النفس أن بالحق وإن بالباطل والاستعصاء على النصح والإرشاد ونحو ذلك من مظاهر الإعجاب بالنفس فيحاكيهما

وبمرور الزمن يتأثر بهما ويصبح الإعجاب بالنفس جزء من شخصيته إلا من رحم الله .

ولعل ذلك السر في تأكيد الإسلام على التزام الأبوين بمنهج الله على النحو الذي قدمنا الآفة الثانية ((آفة الإسراف )).‎

إذ منهج الله وحده هو الذي يحمى الأبوين من أي انحراف وبذلك يصلحان أن يكونا قدوة للأولاد.

2- الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هو الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك :

ذلك أن هناك فريقا من الناس إذا أطرى أو مدح في وجهة دون تقيد بالآداب الشرعية في هذا الإطراء وذلك المدح اعتراه أو ساوره لجهله بمكائد الشيطان خاطر : أنه ما مدح وما أطرى أي أنه يملك من المواهب ما ليس لغيره وما يزال هذا الخاطر يلاحقه ويلح عليه حتى يصاب والعياذ بالله بالإعجاب بالنفس ولعل ذلك هو السر في ذمه صلى الله عليه وسلم للثناء والمدح في الوجه بل وتأكيده على ضرورة مراعاة الآداب الشرعية إن كان ولابد من ذلك .

جاء عن مجاهد عن أبى معمر أنه قال : قام رجل يثنى على الأمير من الأمار فجعل المقداد بن السود في وجهة التراب وقال :(( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثى في وجوه المداحين التراب))

وجاء عن عبد الرحمن بن أبى بكر عن أبيه قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال :(( ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك)) مرارا (( إذا كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا ـزكى على الله أحدا أحسبه إن كان يعلم ذلك كذا وكذا )) .

3-صحبة نفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الصحبة والملازمة لنفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم

ذلك أن الإنسان شديد المحاكاة والتأثر بصاحبه لا سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية ذا خبرة ودارية بالحياة وكان المصحوب غافلا على سجيته يتأثر بكل ما يلقى عليه وعليه فإذا كان الصاحب مصابا بداء الإعجاب فإن عدواه تصل إلى قرينه فيصير مثله ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على ضرورة انتقاء واختيار الصاحب لتكون الثمرة طيبة والعواقب حميدة وقد قدمنا طرفا من النصوص الشرعية المتعلقة بذلك أثناء الحديث عن آفة (( الفتور )).

4- الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم :

وقد يكون السب في الإعجاب : إنما هو الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم : كذلك أن هناك صنفا في العاملين إذا حباه الله نعمة من المال أو علم أو قوة أو جاه أو نحوه وقف عند نعمة ونسى المنعم وتحت تأثير بريق المواهب وسلطانها تحدثه نفسه أنه ما أصابته هذه النعمة إلا لما لديه من ولا يزال هذا الحديث على حد قول قارون :(( إنما أوتيته على علم عندي )) ولا يزال هذا الحديث يلح عليه حتى يرى أنه بلغ الغابة أو المنتهي ويسر ويفرح بنفسه وبما يصدر عنها ولو كان باطلا وذلك هو الإعجاب بالنفس .

ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على أن مصدر النعمة أي نعمة إنما هو الله عز وجل : { وما بكم من نعمة فمن الله .....} .

{ والله أخرجكم منبطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم سمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون }. {ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه}.

{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم }.بل وعلى أن يناجى المسلم ربه كل صباح ومساء قائلا ثلاث مرات :

اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك ‎الشكر))

5- الصدارة للعمل قبل النضج وكمال التربية :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الصدارة للعمل قبل النضج وكمال التربية : ذلك أن ظروف العمل الإسلامي قد تفرض أن يتصدر بعض العاملين للعمل قبل أن يستوي عودهم وقبل أن تكتمل شخصيتهم وحينئذ يأتي الشيطان فيلقى في روعهم أنهم ما تصدروا للعمل وما وضعوا في الموقع الذي هم فيه الآن إلا لما يحملون من مؤهلات ما لديهم من مواهب وإمكانات وقد ينطلي عليهم لجهلهم بمكائد الشيطان وحيله مثل هذا الإلقاء فيصورونه حقيقة ويرفعون من قدر نفوسهم فوق ما تستحق حتى يكون الإعجاب بها والعياذ بالله........

ولعل هذا هو السر حرص الإسلام على الفقه فقه وعلى أن يكون هذا الفقه قبل الصدارة أو القيادة إذ يقول الله تعالى :{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.

{ يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا }.

وإذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم -:

(( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )) .

وإذ يقول عمر رضى الله تعالى عنه -:(( تفقهوا قبيل تسودوا )) يعنى : تعلموا العلم قبل أن تصيروا سادة أو أصحاب مسئولية لتدركوا ما في السيادة أو ما في المسئولية من آفات فتتقوها .

6- الغفلة أو الجهل بحقيقة النفس :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الغفلة و الجهل بحقيقة النفس : ذلك أن الإنسان إذا غفل أو جهل حقيقة نفسه ، وأنها من ماء مهين خرج من مخرج البول ، وأن النقص دائماً طبيعتها وسمتها ، وأن مردها أن تلقى في التراب ، فتصير جيفة منتنة ، تنفر من رائحتها جميع الكائنات ، إذا غفل الإنسان أو جهل ذلك كله ربما خطر بباله أنه شئ ، ويقوى الشيطان فيه هذا الخاطر حتى يصير معجباً بنفسه .

ولعل هذا هو السر في حديث القرآن و السنة المتكرر عن حقيقة النفس الإنسانية بدءاً ، ونهاية .

إذ يقول الحق سبحانه { الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } ، { ألم نخلقكم من ماء مهين } ، { ثم أماته فأقبره } .

7- عراقة النسب أو شرف الأصل :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي عراقة النسب ، أو شرف الأصل ، ذلك أن بعض العاملين قد يكون سليل بيت عريق النسب ، أو شريف الأصل ، وربما حمله ذلك على استحسان نفسه وما يصدر عنها ، ناسياً أو متناسياً أن النسب أو الأصل لا يقدم ولا يؤخر ، بل المعول عليه إنما هو العمل المقرون بالجهد و العرق ، وهكذا تنتهي به عراقة نسبه أو شرف أصله إلى الإعجاب بنفسه ، ولعل ذلك هو سر تأكيد الإسلام على العمل و العمل وحده :

إذ يقول الحق سبحانه { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون } { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } .

وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، ( يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً ، يا بنى عبد المطلب : لا أغنى عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت رسول الله : سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئاً )

8- الإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس ، إنما هو الإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام ، ذلك أن بعض العاملين قد يحظى من الآخرين بتوقير واحترام فيهما مبالغة أو إفراط يتعارض مع هدى الإسلام ، ويأباها شرع الله الحنيف ، كدوام الوقوف طالما أنه قائم أو قاعد ، وكتقبيل يده والانحناء له و السير خلفه ... الخ .

وإزاء هذا السلوك قد تحدثه نفسه أنه ما حظي بهذا التوقير والاحترام إلا لأن لديه من المواهب ، و الخصائص ما ليس لغيره ، ويظل هذا الحديث يقوى ويشتد إلى أن يكون الإعجاب بالنفس - و العياذ بالله - ولعل هذا هو سر نهيه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه : أن يقوموا له ، وأن يعظموه كما يعظم الأعاجم ملوكهم فيقول :( من أحب أن يتمثل له الناس فليتبوأ مقعده من النار )

ويخرج صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه يوماً متوكئاً على عصا فيقومون له فيقول :( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً )

9- الإفراط أو المبالغة في الانقياد ، و الطاعة :

وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هو الإفراط أو المبالغة في الانقياد ، و الطاعة ، ذلك أن بعض العاملين قد يلقى من الآخرين انقياداً وطاعة فيهما إفراط أو مبالغة لا تتفق ومنهج الله ، كأن يكون هذا الانقياد وهذه الطاعة في كل شئ سواء كان معروفاً أو منكراً ، خيراً أو شراً .

وتبعاً لذلك قد تسول له نفسه أنه ما كان الانقياد ، وما كانت الطاعة إلا لأنه يملك من الخصائص ، و المزايا ما لا يملك غيره ، وربما صدق فكان الإعجاب بالنفس .

ولعل ذلك هو بعض السر في تأكيد الإسلام على أن يكون الانقياد و الطاعة في المعروف ، وليس في المعصية .

يقول - صلى الله عليه وسلم - :( على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )

10- الغفلة عن الآثار المترتبة على الإعجاب بالنفس :

وأخيراً قد يكون السبب في الإعجاب بالنفس ، إنما هي الغفلة عن الآثار و العواقب ، ذلك أن سلوك الإنسان في الحياة غالباً ما يكون نابعاً من إدراكه أو عدم إدراكه لعواقب وآثار هذا السلوك .

وعليه فإن العامل أو الداعية إذا لم يدرك العواقب المترتبة على الإعجاب بالنفس فإنه قد يصاب به ، ولا يراه إلا أمراً بسيطاً هيناً ، لا يحتاج منه أن يقف عنده ، أو أن يضيع فيه وقته .

ولعل ذلك السر في حرص هذا الدين على عرض مبادئه ومقاصده مقرونة بآثارها وعواقبها .

ثالثاً : آثار الإعجاب بالنفس

هذا وللإعجاب بالنفس آثار سيئة ، وعواقب وخيمة ، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ، ودونك طرفاً من هذه الآثار ، وتلك العواقب هذا وللإعجاب بالنفس آثار سيئة ، وعواقب وخيمة ، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ، ودونك طرفاً من هذه الآثار ، وتلك العواقب :

على العاملين :

فمن آثاره على العاملين :

1- الوقوع في شراك الغرور بل والتكبر :

أي أن الأثر الأول للإعجاب بالنفس ، إنما هو الوقوع في شراك الغرور بل والتكبر ، ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يؤدى به الإعجاب إلى أن يهمل نفسه ، ويلغيها من التفتيش و المحاسبة ، وبمرور الزمن يستفحل الداء ، ويتحول إلى احتقار واستصغار ما يصدر عن الآخرين ، وذلك هو الغرور ، أو يتحول إلى الترفع عن الآخرين ، واحتقارهم في ذواتهم وأشخاصهم وذلك هو التكبر .

وللغرور و التكبر آثارهما الخطيرة ، وعواقبهما المهلكة التي سنقف عليها بالتفصيل عند الحديث عن هاتين الآفتين إن شاء الله تعالى .

2- الحرمان من التوفيق الإلهي :

أي أن الأثر الثاني للإعجاب بالنفس ، إنما هو الحرمان من التوفيق الإلهي :

ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما ينتهي به الإعجاب إلى أن يقف عند ذاته ، ويعتمد عليها في كل شئ ناسياً أو متناسياً خالقه وصانعه ، ومدبر أمره ، و المنعم عليه بسائر النعم الظاهرة و الباطنة .

ومثل هذا يكون مآله الخذلان ، وعدم التوفيق في ظل ما يأتي وفي كل ما يدع ، لأن الحق - سبحانه - مضت سنته في خلقه ، أنه لا يمنح التوفيق إلا لمن تجردوا من ذواتهم ، واستخرجوا منها حظ الشيطان ، بل ولجأوا بكليتهم إليه ، تبارك اسمه ، وتعاظمت آلاؤه ، وقضوا حياتهم في طاعته وخدمته ، كما قال في كتابه { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .

وكما قال في الحديث القدسي :( …. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ) .

3- الانهيار في أوقات المحن و الشدائد :

أي أن الأثر الثالث للإعجاب بالنفس ، إنما هو الانهيار في أوقات المحن و الشدائد :ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يهمل نفسه من التزكية ، و التزود بزاد الطريق ، ومثل هذا ينهار ويضعف مع أول شدة أو محنة يتعرض لها ، لأنه لم يتعرف على الله في الرخاء حتى يعرفه في الشدة ، وصدق الله إذ يقول :{ إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون } ، { وإن الله لمع المحسنين } .

وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ ينصح عبد الله بن عباس فيقول :

( … احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة … )

4- النفور و الكراهية من الآخرين :

أي أن الأثر الرابع للإعجاب بالنفس ، إنما هو النفور و الكراهية من الآخرين ، ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بصنيعه هذا لبغض الله له ، ومن ابغضه الله أبغضه أهل السموات ، و بالتالي يوضع له البغض في الأرض ، فترى الناس ينفرون منه ، ويكرهونه ولا يطيقون رؤيته بل ولا سماع صوته جاء في الحديث :( إن الله إذا أحب عبداً ، دعا جبريل فقال : إني أحب فلاناً فأحبَّه ، قال: فيحبه جبريل ، ثم ينادى في السماء فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، قال : ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلاناً فأبغضْه ، قال فيبغضه جبريل ، ثم ينادى في أهل السماء ، إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، قال : فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض ) .

5- العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً :

أي أن الأثر الخامس للإعجاب بالنفس ، إنما هو العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً : ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بهذا الخلق إلى العقاب والانتقام الإلهي عاجلاً بأن يخسف به كما كان في الأمم الماضية ، أو على الأقل يصاب بالقلق ، و التمزق والاضطراب النفسي ، كما في هذه الأمة ، أو آجلاً بأن يعذب في النار مع المعذبين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :( بينما رجل يمشى في حلة تعجبه نفسه ، مرجِّل جمَّته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )

*على العمل الإسلامي :وأما آثاره على العمل الإسلامي فتدور حول :

1- سهولة اختراقه وبالتالي ضربه ، أو على الأقل إجهاضه ، فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة ، وزمن طويل ، نظراً لانهيار العاملين المعجبين بأنفسهم في أوقات المحن و الشدائد ، بل وحرمانهم من خاصية نفاذ البصيرة ، تلك التي تساعد على معرفة الأدعياء ، وتمييز الدخلاء من غيرهم .
2- توقف أو على الأقل بطء كسب الأنصار والأصدقاء ، نظراً لنفور الناس وكراهيتهم للعاملين المعجبين بأنفسهم وهذا فيه ما فيه من طول الطريق وكثرة التكاليف ، تلكم هي آثار الإعجاب بالنفس على العاملين ، وعلى العمل الإسلامي .

رابعاً : مظاهر الإعجاب بالنفس

ويمكن اكتشاف هذا الداء من خلال المظاهر التالية :

1- تزكية النفس :

أي أن المظهر الأول للإعجاب بالنفس ، إنما هو دوام التزكية للنفس و الثناء عليها ، و العرف من قيمتها ، مع نسيان أو تناسى قول الله عز وجل { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } .

2- الاستعصاء على النصيحة :

و المظهر الثاني للإعجاب بالنفس ، إنما هو الاستعصاء على النصيحة بل و النفور منها ، مع أنه لا خير في قوم لا يتناصحون ولا يقبلون النصيحة .

3- الفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه :

و المظهر الثالث للإعجاب بالنفس إنما هو الفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه ، حتى قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - ( إن من علامة المنافق : أن يفرح إذا سمع بعيب أحد من أقرانه )

خامساً : الطريق لعلاج الإعجاب بالنفس

وما دمنا قد وقفنا على أسباب وباعث الإعجاب بالنفس ، فإن من السهل معرفة طريق علاج واقتلاع هذا الداء ، بل الوقاية منه ، وتتلخص في :

1- التذكير دائماً بحقيقة النفس الإنسانية

وذلك بأن يفهم المعجب بنفسه أن نفسه التي بين جنبيه لولا ما فيها من النفخة الإلهية ما كانت تساوى شيئاً ، فقد خلقت من تراب تدوسه القدام ، ثم من ماء مهين يأنف الناظر إليه من رؤيته ، وسترد إلى هذا التراب مرة أخرى ، فتصير جيفة منتنة ، يفر الخلق كلهم من رائحتها ، وهي بين البدء والإعادة تحمل في بطنها العذرة أي الفضلات ذات الروائح الكريهة ، ولا تستريح ولا تهدأ إلا إذا تخلصت من هذه الفضلات .

إذ أن مثل هذا التذكير يساعد كثيراً في ردع النفس ، وردها عن غيها ، واقتلاع داء الإعجاب منها ، بل وحمايتها من التورط فيه مرة أخرى .

وقد لفت أحد السلف النظر إلى هذه الوسيلة حين سمع معجباً بنفسه قائلاً :( أتعرف من أنا ؟ فرد عليه بقوله : نعم : أعرف من أنت ، لقد كنت نطفة قذرة وستصير جيفة قذرة ، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة ) .

2- التذكير دائما بحقيقة الدنيا والآخرة

وذلك بأن يعرف المعجب بنفسه أن الدنيا مزرعة للآخرة ، وأنه مهما طال عمرها فإنها إلى زوال ، وأن الآخرة إنما هي الباقية ، وأنها هي دار القرار ، إذ أن مثل هذا التذكير يحمل الإنسان على أن يعدل من سلكوه ، أو يقوم عوج نفسه ، قبل أن تنتهي الحياة ، وقبل أن تضيع الفرصة ، ويفوت الأوان .

3- التذكير بنعم الله التي تغمر الإنسان

وتحيط به من أعلى إلى أدنى كما قال سبحانه { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ، { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } ، فإن هذا التذكير من شأنه أن يشعر الإنسان بضعفه وفقره ، وحاجته إلى الله دائماً ، وبالتالي يطهر نفسه من داء الإعجاب ، بل ويقيه أن يبتلى به مرة أخرى .

4- التفكر في الموت :

وما بعده من منازل ، من شدائد وأهوال ، فإن ذلك كفيل باقتلاع الإعجاب من النفس ، بل وتحصينها ضده ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

5-دوام الاستماع أو النظر في كتاب الله عز وجل وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -

فإن فيهما البيان الشافي ، و التحليل الدقيق لكل ما يتصل بالوسائل الأربع المذكورة آنفاً ، وبهما يتخلص الإنسان - إن كان موضوعياً وصادقاً مع نفسه - من كل داء .

6-دوام حضور مجالس العلم

لا سيما تلك التي تدور حول علل النفس وطريق الخلاص منها ، فإن أمثال هذه المجالس كثيراً ما تعين على تطهير النفس ،بل وصيانتها من داء الإعجاب .

7-الإطلاع على أحوال المرضى وأصحاب العاهات بل و الموتى

لا سيما في وقت غسلهم وتكفينهم ودفنهم ، ثم زيارة القبور بين الحين و الحين و التفكر في أحوال أهلها ومصيرهم ، فإن ذلك يحرك الإنسان من داخله ، ويحمله على اقتلاع العجب ونحوه من كل العلل والأمراض النفسية أو القلبية .

8- وصية الأبوين أن يتحررا من داء الإعجاب بالنفس ونحوه

وأن يكوناً قدوة صالحة أمام الولد ، وأن يفهماه بأن ما وقع منهما كان خطأ وأنهما قد أقلعا عن هذا الخطأ ، وعليه أن يقلع عنه مثلهما ويتوب إلى الله عز وجل .

9- الانقطاع عن صحبة المعجبين بأنفسهم

مع الارتماء في أحضان المتواضعين العارفين أقدارهم ، ومكانتهم ، فإن ذلك يساعد في التخلص بل وفي التوقي من الإعجاب بالنفس .

10- التوصية و التأكيد على ضرورة اتباع الآداب الشرعية

في الثناء و المدح في التوقير والاحترام ، في الانقياد و الطاعة ، مع الإعراض والزجر الشديد لكل من يخرجون على هذه الآداب ، فإن ذلك له دور كبير في مداواة النفس وتحريرها من الإعجاب .

11- التأخير عن المواقع الأمامية بعض الوقت

إلى أن تستقيم النفس ويصلب عودها ، وتستعصي على الشيطان فإن ذلك يسهل طريق العلاج .

12- دوام النظر في سير السلف

وكيف كانوا يتعاملون مع أنفسهم حين يرون منها مثل هذا الخلق ، فإن ذلك يحمل على الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة ، و المشابهة في استئصال هذا الداء ، وقطع الطريق عليه أن يعود إلى النفس مرة أخرى .

13- تعريض النفس بين الحين و الحين لبعض المواقف التي تقتل كبرياءها وتضعها في موضعها الصحيح

كأن يقوم صاحبها بخدمة إخوانه الذين هم أدنى منه في المرتبة ، أو أن يقوم بشراء طعامه من السوق ، وحمل أمتعته بنفسه ، على نحو ما أثر عن كثير من السلف .

فقد روى عن عمر - رضى الله تعالى عنه - أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضة ، فنزل عن بعيره ونزع خفيه وخاض الماء ومعه بعيره ، فقال له أبو عبيدة عامر بن الجراح : لقد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض ، فصك صدره وقال : أوَّه ، لو غيرك قال هذا يا أبا عبيدة ، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس فأعزكم الله برسوله فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله ) .

وجاء في رواية أخرى :( أنه لما قدم الشام استقبله الناس ، وهو على بعيره ، فقيل له ، لو ركبت برذوناً تلقى بع عظماء الناس ووجوههم ؟ فقال عمر - رضى الله تعالى عنه - لا أراكم ههنا ، إنما الأمر من ههنا - و أشار بيده إلى السماء - خلوا سبيل جملي ) .

14- متابعة الآخرين له

ووقوفهم بجانبه حتى يتمكن من التخلص من هذه الآفة .

15- محاسبة النفس أولاً بأول

حتى يمكن الوقوف على العيوب وهي لا تزال في بداياتها فيسهل علاجها و الوقاية منها .

16- إدراك العواقب والآثار المترتبة على الإعجاب بالنفس

فإنها ذات أثر فعال في علاج هذه الآفة و التحصن ضدها .

17- الاستعانة بالله - عز وجل

وذلك بواسطة الدعاء والاستغاثة و اللجوء إليه ، أن يأخذ الله بيده ، وأن يطهره من هذه الآفة ، وأن يقيه شر الوقوع فيها مرة أخرى ، إذ أن من استعان بالله أعانه الله ، وهداه لصراطه المستقيم .

18- التأكيد على المسئولية الفردية بغض النظر عن الأحساب والأنساب ، فإن ذلك له دور كبير في علاج النفس ، بل وحفظها من أن تقع مرة أخرى في آفة الإعجاب .

الآفة السادسة: الغرور

أولاً : معنى الغرور

والآفة السادسة التي يبتلى بها بعض العاملين ، وعليهم أن يعملوا جاهدين على التحرر منها ، وعدم الوقوع فيها مرة أخرى إنما هي : الغرور ، ولكي يكون حديثنا عن هذه الآفة واضح الأبعاد ، محدد الملامح و المعالم سنجعله يدور على النحو التالي :

أولاً : معنى الغرور

لغة : يطلق الغرور في اللغة على عدة معان أهمها :

أ- الخداع سواء أكان للنفس أو للغير ، أو للنفس وللغير معاً ، تقول : غرّه ، يغرّه ، غروراً أي خدعه ، وغرّ نفسه يغرها غروراً تعنى خدعها .

ومنه قوله تعالى { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً }

ب- ما يؤدى إلى الغرور ، وما يوقع فيه ، قال الجوهري ، و الغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا .

ومنه قوله سبحانه { يا أيها الناس إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } .

اصطلاحاً : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن الغرور : هو إعجاب العامل بنفسه إعجاباً يصل إلى حد احتقار أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجنب ما يصدر عنه ، ولكن دون النيل من ذواتهم أو الترفع على أشخاصهم .

ولا شك أن من كان بهذه المثابة فهو مخدوع ، وتبعاً لذلك فإننا يمكن أن نفهم مدى التلاقي بين المعنى الاصطلاحي و المعنى اللغوي .

ثانياً : أسباب الغرور

ولما كان الغرور شدة الإعجاب بالنفس ، فإن أسبابه التي تؤدى إليه وبواعثه التي توقع فيه هي في جملتها أسباب الإعجاب بالنفس ويزاد عليها :

( 1 ) إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة :

إذ قد يكون السبب في الغرور إنما هو إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة ذلك أن بعض العاملين قد يبتلى بالإعجاب بالنفس ولإهماله نفسه من التفتيش والمحاسبة يتمكن الداء منه ويتحول إلى احتقار أو استصغار ما يقع من الآخرين بالإضافة إلى ما يقع منه وبذلك يصير مغرورا ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بالتفتيش في النفس ومحاسبتها أولا بأول :

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }

(2) الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين :

ذلك أن بعض العاملين قد يصاب بآفة الإعجاب بالنفس ويكون من ضعف الإرادة وخور العزيمة وفتور الهمة بحيث لا يستطع التطهر بذاته من هذه الآفة وإ نما لابد له من متابعة الآخرين ووقوفهم بجواره وأخذهم بيده وقد لا يلتفت الآخرين إلى ذلك فيقعدون عن أداء دورهم وواجبهم وحينئذ تتمكن هذه الآفة من النفس وتتحول بمرور الزمن إلى غرور والعياذ بالله 0

ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على النصيحة حتى جعل الدين كله منحصرا فيها وراجعا إليها : إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) قلنا : لمن ؟ قال : الله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسمين وعامتهم ) ولعله السر أيضا في دعوته إلى التضامن والتعاون بين المسلمين :إذ يقول الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه )

(3) الغلو أو التشدد في الدين :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الغلو أو التشدد في الدين ذلك أن بعض العاملين قد يقبل على منهج الله في غلو وتشدد وبعد فترة من الزمان ينظر حوله فيرى غيره من العاملين يسلكون المنهج الوسط فيظن لغفلته أو عدم إدراكه طبيعة هذا الدين أن ذلك منهم تفريط أو تضيع ويتمادى به هذا الظن إلى جد الاحتقار والاستصغار لكل ما يصدر عنهم بالإضافة إلى ما يقع منه وذلك هو الغرور

ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى الوسطية بل وتحذيره من الغلو أو التشدد في الدين :

إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرهط الذين عزموا على التبتل واعتزال الحياة: ( أنتم قلتم كذا وكذا : أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى ) ويقول : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثا يعنى : المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ) ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا 000 الحديث )

(4) التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهمال العمل :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهمال العمل :ذلك أن بعض العاملين قد يكون كل همه التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهماله العمل وربما لاحظ أثناء طرح هذه المسائل غفلة بعض العاملين عنها وعدم إلمامهم بها إنما لأنها ثانوية لا يضر الجهل بها وإما لأنه لا يترتب عليها عمل فيخطر بباله أن هؤلاء لا يتقنون من مسائل العلم شيئا وإن أتقنوا فإنما هو قليل في جانب ما لديه من الغرائب والشواذ وما يزال هذا الخاطر يتردد في نفسه ويلح عليه حتى يتحول إلى احتقار واستصغار ما لدى الآخرين بالإضافة إلى ما عنده وذلك هو داء الغرور 0

ولعل ذلك هو السر في دعوة الإسلام إلى أن يكون السعي في طلب العلم دائما حول النافع والمفيد إذ كان من دعائه صلى الله عليه وسلم( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ) بل وفي تأكيده على أن يكون هذا العلم مقرونا بالعمل وإلا كان الهلاك والبوار إذ يقول الله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }

{ أتأمرون الناس بالير وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون }

وإذ يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :( يجئ بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه )

(5) الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات ذلك أننا جميعا بشر وشأن البشر سوى النبيين الصواب والخطأ وإذا غفل العامل عن ذلك فإنه كثيرا ما يقف عند الطاعة أو الصواب في الوقت الذي ينسى فيه المعصية أو الخطأ وتكون العاقبة الإعجاب بالنفس المقرون باحتقار ما يقع فيه الآخرون إلى جانب ما يصدر عنه وهذا هو الغرور

ولقد لفت المولى سبحانه وتعالى النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث وهو يمدح صنفا من المؤمنين يؤدى الطاعة ويخاف أن يكون قد وقع منه ما يحول بينه وبين قبولها فقال : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } تقول عائشة رضى الله تعالى عنها قلت يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : ( لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل )

كما لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك حين دعا إلى أن يكون التعويل بعد الفراغ من العمل على فضل الله ورحمته لا على العمل نفسه وإلا كان الغرور والضياع فقال : ( لن ينجى أحدا منكم عمله ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشئ من الدلجة والقصد تبلغوا ) وقد عبر عن ذلك كله بوضوح سيدنا عبد الله بن مسعود حين بين أثر تذكر الذنب ونسيانه على سلوك الإنسان فقال ( إن المؤمن من يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي نحاه بيده ودفعه عنه )

(6) الركون إلى الدنيا :

وقد يكون السبب في الغرور هو الركون إلى الدنيا : ذلك أن بعض العاملين قد يفطن إلى أنه مبتلى بآفة الإعجاب بالنفس بيد أنه لركونه إلى الدنيا وانغماسه فيها ربما يعتريه الكسل فلا يستطيع أن يجمع همته لمداواة نفسه بل قد يأخذ في التسويف وتأخير التوبة وبمرور الزمن يتحول الإعجاب بالنفس إلى داء أكبر وأبعد ألا وهو الغرور

وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث من خلال ذم الدنيا والتحذير منها إذا اتخذها الناس هدفا أو غاية فقال { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما }

{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا } { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون }

وقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة : إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله وأشعت رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذى له وإن شفع لم يشفع ) وقلما كان صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه :

( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منها واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) .

ولقد وعى سلف الأمة ما يجره الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها على المرء من وبال فأعرضوا عنها إلا بمقدار ما يتزودون منه للآخرة وجرى ذلك كثيرا على ألسنتهم يقول على رضى الله تعالى عنه :_

( ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهم بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ) .

ويقول الحسن رحمه الله :-

( من نافسك في دينك فنافسه فيه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره ) .

ويصور بعضهم هذا الوعي وذلك الإحساس قائلا :

إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحى وطنا

جعلوه لجة واتخذوا صالح العمال منها سفنا

7- رؤية بعض ذوى الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هي رؤية بعض ذوى الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها .

ذلك أن بعض ذوى الأسوة والقدوة قد ينزلون لسبب أو لآخر عن الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها من أخذ أنفسهم بالعزيمة في غالب الأحيان إلى حال أقل منها من أخذ أنفسهم بالرخص في بعض الأوقات .

وربما رأي ذلك من يحاول الإقتداء والتأسي بهم ولقلة رصيده من الفقه أو لعدم اكتمال تربيته يتوهم أو يظن أنهم بذلك دونه في العمل بمراحل ويظل هذا الوهم أو هذا الظن يلاحقه ويلح عليه حتى يتحول والعياذ بالله إلى الإعجاب بالنفس ثم الغرور .

ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى البعد عن مواطن التهم من خلال بيان وجه حق في سائر التصرفات المباحة التي ربما تؤدى إلى سوء الظن :

عن صفية بنت حيى زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( على رسلكما : إنما هي صفية بنت حيى )فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم _( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ) .

وصلى يزيد الأسود مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجئ بهما ترعد فرائصهما فقال : ( ما منعكما أن تصليا معنا )؟ قالا : قد صلينا في رحالنا فقال: لا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصلى فليصل معه فإنها له نافلة ) .

ولذا قال ابن دقيق العيد .

وهذا أي التحرز من كل ما يوقع في التهم متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم وقد قالوا : أنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحق للمحكوم عليه إذا خفي عليه وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم ).

8- مبالغة بعض العاملين في إخفاء ما يصدر عنهم من أعمال :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هي مبالغة بعض العاملين في الإخفاء ما يصدر عنهم من أعمال :

ذلك أن بعض العاملين قد يحمله الحرص على تحقيق معنى الإخلاص إلى أن يبالغ في إخفاء ما يصدر عنه من عمل فلا يظهر منه إلا أقل القليل وربما لا حظ أو رأي بعض من لم تتضح تربيتهم بعد هذا الذي يظهر فقط فيتوهم أن عمل هؤلاء قليل في جنب عمله ويظل هذا الوهم يساوره ويلح عليه حتى يقع في أحبولة الإعجاب بالنفس ثم الغرور .

ولعل دعوة الإسلام إلى إبراز الأعمال الطيبة والتعرض بها للناس فوق كونها تحريضا لهم على الإقتداء والتأسي فيها إشارة إلى هذه السبب أو إلى هذا الباعث مع بيان طريق الخلاص منه : إذ يقول الله تعالى:

{ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم.... .....}.

وإذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم _:

( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ).

( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ .... الحديث )

9- تفرقة بعض ذوى الأسوة والقدوة في معاملة المتأسين أو المقتدين :

وقد يكون السبب في الغرور إنما هي : تفرقة بعض ذوى الأسوة والقدوة في معاملة المتأسين أو المقتدين :

ذلك أن بعض ذووا الأسوة والقدوة قد تغيب عن بالهم الأسلوب الأمثل في معاملة المتأسين أو المقتدين فتراهم يقربون البعض ويفسحون صدورهم له ويتغاضون عن هفواته وأخطائه في الوقت الذي يعرضون فيه عن البعض الآخر ويضيقون به ذرعا ويفتحون عيونهم على أدنى الهفوات والزلات التي تقع منه وربما كان في الصنف الأول من لم تكتمل تربيتهم ولم تنضج شخصايتهم بعد ويشاهد هذه الفرقة في المعاملة فيخطر بباله أنها نابعة مما لديه من إمكانيات ومواهب لا توجد عند الآخرين ويظل هذا الخاطر يلح عليه حتى يكون الإعجاب بالنفس ثم الغرور .

ولقد سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب من خلال حرصه على معاملة أصحابه بالسوية إذ كان من هديه صلى الله عله وسلم كما يقول واصفوه :

( أن يعطى كل جلسائه نصيبه ولا يحسب جليسه أن أحد أكرم عليه منه ) .

ويوم أن كانت الحاجة تلجؤه صلى الله عليه وسلم إلى التفرقة في المعاملة ولا يفهم جليسه الحكمة من وراء ذلك يبين صراحة إذ يروى سعد بن أبى وقاص فيقول :

( أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فترك رجلا هو أعجبهم إلى فقلت يا رسول الله مالك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( أو مسلما ) فسكتّ قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت : مالك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( يا سعد إني لأعطى الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار )

الآفة السابعة: التكبر

أولا معنى التكبر

والآفة السابعة التي تصيب بعض العاملين وهى ذات أثر خطير في حياتهم وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم للتطهر منها بل وأن تصير لديهم حصانة ضدها إنما هي : آفة التكبر ، وحتى يكون حديثنا عن هذه الآفة واضحا محدد الأبعاد والمعالم فإننا سنتناولها على النحو التالي :

أولا معنى التكبر :

لغة : التكبر في اللغة هو التعظم أي إظهار العظمة قال صاحب اللسان : ( والتكبر والاستكبار : التعظم ومنه قوله تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق }

أي : أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم).

اصطلاحا : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن التكبر هو إظهار العامل إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم وينال من ذواتهم ويترفع عن قبول الحق منهم جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدجل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال : أن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس).

ثانيا : الفرق بين التكبر وبين العزة

والفرق بين التكبر والعزة واضح إذ التكبر ترفع بالباطل والعزة ترفع بالحق أو أن التكبر : نكران النعمة وجحودها والترفع : اعتراف بالنعمة وتحدث بها على نحو ما تضمنه الحديث المذكور آنفاً.

ثالثا : أسباب التكبر

ولما كان التكبر شدة الإعجاب بالنفس المؤدية إلى احتقار الناس والترفع عليهم فإن أسبابه التي تؤدى عليه وبواعثه التي ينشأ منها هي بعينها : أسباب وبواعث الإعجاب بالنفس والغرور إذا أهملت ولم تعالج وهى لا تزال في مهدها أو في أوائلها ويزاد عليها :

ولما كان التكبر شدة الإعجاب بالنفس المؤدية إلى احتقار الناس والترفع عليهم فإن أسبابه التي تؤدى عليه وبواعثه التي ينشأ منها هي بعينها : أسباب وبواعث الإعجاب بالنفس والغرور إذا أهملت ولم تعالج وهى لا تزال في مهدها أو في أوائلها ويزاد عليها :

(1) مبالغة الآخرين في التواضع :

فقد يكون السبب أو الباعث على التكبر : إنما هي مبالغة الآخرين في التواضع وهضم النفس ذلك بعض الناس قد تحملهم المبالغة في التواضع على ترك التجمل والزينة في اللباس ونحوه وعلى عدم المشاركة بفكر أو برأي في أي أمر من الأمور بل والعزوف عن التقدم للقيام بمسؤلية أو تحمل أمانة وقد يرى ذلك من لم يدرك الأمور على حقيقتها فيوسوس له الشيطان وتزين له نفسه أن عزوف الآخرين عن كل ما تقدم إنما هو للفقر أو لذات اليد ، وإلا لما تأخروا أو توانوا لحظة ،وتظل مثل هذه الوساوس وتلك التزيينات تلح عليه وتحيط به من هنا وهناك حتى ينظر إلى الآخرين نظرة ازدراء وسخرية في الوقت الذي ينظر فيه إلى نفسه نظرة إكبار وإعظام وقد لا يكتفي بذلك ، بل يحاول إبراز هفي كل فرصة تتاح له أو في كل مناسبة تواتيه وهذا هو التكبر .

وقد لفت القرآن الكريم والسنة النظر إلى هذه السبب أو إلى هذا الباعث من خلال دعوتهما إلى التحدث بنعمة الله تعالى إذ يقول سبحانه :

{ وأما بنعمة ربك فحدث }.

وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم -:

( إن الله جميل يحب الجمال )

(واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا ).

وعن مالك بن نضلة الجشمى قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون فقال : ألك مال ؟ قال : نعم قال : من أي المال ؟ قال : قد أتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال : فإذا أتاك اله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته )

وقد فهم السلف ذلك فحرصوا على التحدث بما يفيض الله عليهم من نعم وعابوا على من يغفل هذا الأمر من حسابه قال الحسن بن على رضى الله تعالى عنهما : ( إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك ) وقال بكر بن عبد الله المزني : ( من أعطى خيرا فلم ير عليه سمى بغيض الله معاديا لنعم الله )

2- اختلال القيم أو معايير التفاضل عند الناس :

وقد يكون السبب أو الباعث على التكبر غنما هو اختلال القيم أو معايير التفاضل عند الناس ، ذلك أن الجهل قد يسود في الناس إلى حد اختلال القيم أو معايير التفاضل عندهم ، فتراهم يفضلون صاحب الدنيا ، ويقدمونه حتى لو كان عاصياً أو بعيداً عن منهج الله ، في الوقت الذي يحتقرون فيه البائس المسكين الذي أدارت الدنيا ظهرها له حتى وإن كان طائعاً ملتزماً بهدى

الله ، ومن يحيا في هذا الجو يتأثر به لا محالة - إلا من رحم الله - ويتجلى هذا التأثر في احتقار الآخرين و الترفع عليهم .

وقد ألمح القرآن و السنة إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث من خلال رفض هذا المعيار ، ووضع المعيار الصحيح مكانه ، إذ يقول الله سبحانه وتعالى - :

{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } .

{ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين ، قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ، إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } .

وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وقد مرّ عليه رجل : ما تقولون في هذا الرجل ؟ قالوا: رأيك في هذا ، نقول هو من أشرف الناس ، هذا حري إن خطب أن يخطب ، وإن شفع أن يشفع ، وإن قال أن يسمع لقوله ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرَّ رجل آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا ؟ قالوا : نقول والله يا رسول الله ، هذا من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب لم ينكح ، وإن شفع لا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم

( لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا )

3- مقارنة نعمته بنعمة الآخرين ونسيان المنعم :

وقد يكون السبب في التكبر إنما هو مقارنة نعمته بنعمة الآخرين ونسيان المنعم ، ذلك أن من الناس من يحبوه الله - لحكمة يعلمها - بنعم يحرم منها الآخرين ، كالصحة أو الزوجة أو الولد أو المال أو الجاه أو المركز أو العلم أو حسن الحديث أو الكتابة أو التأليف أو القدرة على التأثير ، أو كثرة الأنصار والأتباع ... الخ ، وتحت بريق وتأثير هذه النعم ينسى المنعم ، ويأخذ في الموازنة أو المقارنة بين نعمته ونعمة الآخرين فيراهم دونه فيها ، وحينئذٍ يحتقرهم ويزدريهم ويضع من شأنهم وهذا هو التكبر .

وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب ، أو إلى هذا الباعث من خلال حديثه عن قصة صاحب الجنتين فقال :

{ واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً .... }

4- ظن دوام النعمة وعدم التحول عنها :

وقد يكون السبب في التكبر إنما هو ظن دوام النعمة وعدم التحول عنها ، ذلك أن بعض الناس قد تأتيه النعمة من الدنيا ، وتحت تأثيرها وبريقها يظن دوامها أو عدم التحول عنها ، وينتهي به هذا الظن إلى التكبر أو الترفع أو التعالي على عباد الله ، كما قال صاحب الجنتين لصاحبه :

{ ... ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً } ، وكما قال الله عن الإنسان :

{ ... ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى } .

5- السبق بفضيلة أو أكثر من الفضائل :

وقد يكون السبب في التكبر إنما هو السبق بفضيلة أو أكثر من الفضائل ، كالعلم أو الدعوة أو الجهاد أو التربية أو نحو ذلك .

ذلك أن بعض الناس قد يحبوهم القدر بفضيلة السبق في بعض خصال الخير ، وإذا بهم ينظرون إلى اللاحق نظرة ازدراء واحتقار ، ولسان حالهم أو مقالهم ينطق في استكبار : ومن هؤلاء الذين يعملون الآن ؟ لقد كانوا عدماً أو في حكم العدم يوم أن مشينا على الأشواك ، وتحملنا مشاق ومتاعب الطريق ، حتى عبَّدناها لهم ولغيرهم من الناس .

وقد لفت المولى سبحانه إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث حين بين : أن السبق لا يعتبر ، ولا قيمة له إلا إذا كان معه الصدق ، فقال :

{ و السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } .

{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ..... } إلى قوله { ربنا إنك رءوف رحيم } .

ولم ينظر المولى سبحانه إلى سبق هؤلاء إلا من خلال ما قدموه من الأدلة على صدقهم وثباتهم على الحق ، مثل : الهجرة و النصرة واتباع سبيل المؤمنين ، وحسن الصلة بالله ومعرفة الفضل لذويه ... وهلم جراً .

وهكذا صار مبدأ الإسلام :( ليس الفضل لمن سبق ، بل لمن صدق ) وصدق الله :

{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً }

6- الغفلة عن الآثار المترتبة على التكبر :

وقد يكون السبب في التكبر ، إنما هو الغفلة عن الآثار الخطيرة و العواقب المهلكة المترتبة على التكبر في الأرض بغير الحق ، ذلك أن من غفل عن الآثار الضارة لعلة من العلل ، أو آفة من الآفات ، فإنه يصاب بها

وتتمكن من نفسه ، ولا يشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان ، وبعد الاستعصاء على القلع و العلاج .

رابعا : مظاهر التكبر

هذا وهناك مظاهر للتكبر يعرف أو يستدل عليه بها ، نذكر منها :

1- الاختيال في المشية مع لي صفحة العنق وتصعير الخد ، قال تعالى { ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله } ، { والله لا يحب كل مختال فخور } ، { ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور .

2- الإفساد في الأرض عندما تتاح الفرصة مع رفض النصيحة ، والاستنكاف عن الحق ، قال تعالى :{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ... }

3- التقعر في الحديث ، يقول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - :

( إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه ، كما

تخلل البقرة بلسانها )97 ، ( ألا أنبئكم بشراركم ؟ فقال : هم الثرثارون المتشدقون .... ) 98

4- إسبال الإزار بنية الاختيال و التكبر ن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :

( من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر صلى الله عليه وسلم إليه يوم القيامة ) قال أبو بكر : إن أحد جانبي إزاري يسترخي ، إني لأتعاهد ذلك منه ، قال : لست ممن يفعله خيلاً )99

5- محبة أن يسعى الناس إليه ، ولا يسعى هو إليهم ، وأن يمثلوا له قياماً

إذا قدم أو مر بهم ، وقد جاء في الحديث :( من أحب أن يمتثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار )100

6- محبة التقدم على الغير في المشي أو في المجلس أو في الحديث أو نحو ذلك .

خامساً آثار التكبر

وللتكبر في الأرض بغير الحق آثار ضارة ، وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي :

على العاملين :

1- الحرمان من النظر والاعتبار :

أي أن الأثر الأول الذي يتركه التكبر على العاملين : إنما هو الحرمان من النظر والاعتبار ، ذلك أن المتكبر - بترفعه وتعاليه على عباد الله - قد اعتدى من حيث يدرى أو لا يدرى على مقام الألوهية ، ومثل هذا لابد له من عقوبات ، وأول هذه العقوبات : الحرمان من النظر والاعتبار فتراه يمر على آيات الله المبثوثة في النفس وفي الكون ، وهو في إعراض تام عنها { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } ، ومن حرم النظر والاعتبار ، كانت عاقبته البوار و الخسران المبين ، لأنه سيبقى مقيماً على عيوبه وأخطائه ، غارقاً في أوحاله ، حتى تنتهي الحياة ، كما عقب النبي - صلى الله عليه وسلم حين قرأ الآيات الأخيرة من سورة آل عمران { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل و النهار لآيات لأولى الألباب ... } إلى قوله سبحانك فقنا عذاب النار } عقب بقوله :( ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ) وقد صرح المولى - سبحانه وتعالى - بهذا الأثر في قوله :{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ... } .

2- القلق والاضطراب النفسي :

وأما الأثر الثاني الذي يتركه التكبر على العاملين ، فإنما هو القلق

والاضطراب النفسي ، ذلك أن المتكبر يحب - إشباعاً لرغبة الترفع و التعالي أن يحنى الناس رؤوسهم له ، وأن يكونوا دوماً في ركابه ، ولأن أعزة الناس وكرامهم يأبون ذلك ، بل ليسوا مستعدين له أصلاً ، فإنه يصاب بخيبة أمل ، تكون عاقبتها القلق والاضطراب النفسي ، هذا فضلاً عن أن اشتغال هذا المتكبر بنفسه يجعله في إعراض تام عن معرفة الله وذكره ، وذلك له عواقب أدناها في هذه الدنيا القلق و الاضطراب النفسي .

وصدق الله إذ يقول :

{ ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ... }

{ ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعدا ... }

3- الملازمة للعيوب و النقائص :

وأما الأثر الثالث الذي يتركه التكبر على العاملين ، فإنما هي ملازمة العيوب و النقائص ، ذلك أن التكبر لظنه أنه بلغ الكمال في كل شئ لا يفتش في نفسه ، حتى يعرف أبعادها ومعالمها ، فيصلح ما هو في حاجة منها إلى إصلاح ، ولا يقبل كذلك نصحاً أو توجيهاً أو إرشاداً من الآخرين ، ومثل هذا يبقى غارقاً في عيوبه ونقائصه ، ملازماً لها إلى أن تنقضي الحياة ، ويدخل النار مع الداخلين :

{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً }

{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }

4- الحرمان من الجنة :

وأما الأثر الرابع الذي يتركه التكبر على العاملين ، فإنما هو الحرمان من الجنة ، وذلك أمر بدهى ، فإن من يعتدي على مقام الألوهية ، ويظل مقيماً على عيوبه ورذائله ، ستنتهي به الحياة حتماً وما حصل خيراً يستحق به ثواباً أو مكافأة فيحرم الجنة مؤبداً أو مؤقتاً ، وصدق الله ورسوله إذ يقول الحق في الحديث القدسي :

( الكبرياء ردائي و العظمة إزاري من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ) ، وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم :

( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال ذرة من كبر ..)

( ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جوَّاظ متكبر ).

على العمل الإسلامي

ومن آثاره على العمل الإسلامي :

1- قلة كسب الأنصار بل و الفرقة و التمزق :

ذلك أن القلوب جبلت على حب من ألان لها الجانب ، وخفض لها الجناح ، ونظر إليها من دون لا من علٍ ، أما من ترفع عليها واحتقرها أو ازدراها ونال منها ، فإنها تبغضه وتنفر منه ، بل وتحاول الابتعاد عنه ، وتكون العاقبة خواء ذات اليد من الأنصار من ناحية ، ووقوع الفرقة و التمزق بين من هو نصير وظهير بالفعل من ناحية أخرى .

ويوم ينتهي الأمر بالعمل الإسلامي إلى انعدام النصير من الخارج ووقوع الفرقة و التمزق من الداخل ، فإنه يسهل ضربه ، أو على الأقل إجهاضه فلا يؤتى ثمره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل .

وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا الأثر ، وهو يتحدث عن المنافقين فقال :{ ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } .

وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :( وإن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد .

2- الحرمان من العون و التأييد الإلهي :

ذلك أن الحق سبحانه مضت سنته أنه لا يعطى عونه وتأييده ، إلا لمن هضموا نفوسهم حتى استخرجوا حظ الشيطان من نفوسهم بل حظ نفوسهم من نفوسهم ، و المتكبرون قوم كبرت نفوسهم ، ومن كانت هذه

صفته ، فلا حق له في عون أو تأييد إلهي ، ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ...} حيث ربط نصره لهم بحالهم التي كانوا عليها من المسكنة و التواضع وهضم النفس ، وكأن هذه الحال إذا انعدمت أو غابت غاب معها العون و التأييد.

سادساً : علاج التكبر

هذا وعلاج التكبر - بحيث تطهر منه النفس ، ولا يعود إليها مرة أخرى - إنما يكون باتباع الأساليب و الوسائل التالية :

1- تذكير النفس بالعواقب والآثار المترتبة على التكبر ،سواء كانت عواقب ذاتية أو متصلة بالعمل الإسلامي ، وسواء كانت دنيوية أو أخروية على النحو الذي قدمنا ، فلعل هذا التذكير يحرك النفس من داخلها ، ويحملها على أن تتوب ، وتتدارك أمرها قبل ضياع العمر وفوات الأوان .

2- عيادة المرضى ، ومشاهدة المحتضرين وأهل البلاء وتشييع الجنائز ، وزيارة القبور ، فلعل ذلك أيضاً يحركه من داخله ، ويجعله يرجع إلى ربه بالإخبات ، و التواضع .

3- الانسلاخ من صحبة المتكبرين ، والارتماء في أحضان المتواضعين المخبتين ، فربما تعكس هذه الصحبة بمرور الأيام شعاعها عليه ، فيعود له سناؤه ، وضياؤه الفطري كما كان عند ولادته .

4- مجالسة ضعاف الناس وفقرائهم ، وذوى العاهات منهم ، بل ومؤاكلتهم ومشاربتهم ، كما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام ، وكثير من السلف ، فإن هذا مما يهذب النفس ويجعلها تقلع عن غيها ، وتعود إلى رشدها .

5- التفكر في النفس ، وفي الكون ، بل وفي كل النعم التي تحيط به من أعلاه إلى أدناه ، مَن مصدر ذلك كله ؟ ومن ممسكه ؟ وبأي شئ استحقه العباد ؟ وكيف تكون حاله لو سلبت منه نعمة واحدة فضلاً عن باقي النعم ؟؟؟ فإن ذلك التفكر لو كانت معه جدية ، يحرك النفس ويجعلها تشعر بخطر ما هي فيه ، إن لم تبادر بالتوبة و الرجوع إلى ربها .

6-النظر في سير وأخبار المتكبرين ، كيف كانوا ؟ وإلى أي شئ صاروا ؟ من إبليس و النمرود إلى فرعون ، إلى هامان ، إلى قارون ، إلى أبى جهل ، إلى أبى بن خلف ، إلى سائر الطغاة و الجبارين و المجرمين ، في كل العصور و البيئات فإن ذلك مما يخوف النفس ويحملها على التوبة والإقلاع ، خشية أن تصير إلى نفس المصير ، وكتاب الله - عز وجل - وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتب التراجم و التاريخ خير ما يعين على ذلك .

7- حضور مجالس العلم التي يقوم عليها علماء ثقات نابهون ، لاسيما مجالس التذكير و التزكية ، فإن هذه المجالس لا تزال بالقلوب حتى ترق وتلين وتعود إليها الحياة من جديد .

8- حمل النفس على ممارسة بعض الأعمال التي يتأفف منها كثير من الناس ممارسة ذاتية ما دامت مشروعة ، كأن يقوم هذا المتكبر بشراء طعامه وشرابه وسائر ما يلزمه بنفسه ، ويحرص على حمله

و المشي به بين الناس ، حتى لو كان له خادم ، على نحو ما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه و السلف ، فإن هذا يساعد كثيراً في تهذيب النفس وتأديبها ، و الرجوع بها إلى سيرتها الأولى الفطرية ، بعيداً عن أي التواء أو اعوجاج .

9- الاعتذار لمن تعالى وتطاول عليهم بسخرية أو استهزاء ، بل ووضع الخد على التراب وإلصاقه به ، وتمكينه من القصاص على نحو ما صنع أبو ذر مع بلال لما عاب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - تعييره بسواد أمه .

10.- إظهار الآخرين بنعمة الله عليهم ، وتحدثهم بها - لاسيما أمام المستكبرين - علهم يثوبون إلى رشدهم وصوابهم ، ويتوبون ويرجعون إلى ربهم ، قبل أن يأتيهم أمر الله .

11- التذكير دوماً بمعايير التفاضل و التقدم في الإسلام :

{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم }

( كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله - تعالى - من الجعلان ).

12- المواظبة على الطاعات : فإنها إذا واظب عليها ، وكانت متقنة لا يراد بها إلا وجه الله ، طهرت النفس من كل الرذائل ، بل زكتها.