أبعاد غائبة عن فكرة وممارسات الحركات الإسلامية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أبعاد غائبة عن فكرة وممارسات الحركات الإسلامية

تأليف : أ.د طه جابر العلواني

منتدى سور الأزبكية

دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع

كافة حقوق الطبع والنشر والترجمة محفوظة للناشر

دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة

الطبعة الأولى لصاحبها عبد القادر محمود البكار

1425هـ - 2004م

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

أ.د. عبد الله الزايد

أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سابقا. " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. ونصلي ونسلم عل سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

ثم أما بعد:

فإن أصل هذا الكتاب ورقة صغيرة بها الأخ الكاتب إلى ندوة " مستجدات الفكر الإسلامي" الثانية التي عقدت في الكويت عام 1922م، وقد أثارت الورقة نقاشا كبيرا داخل الندوة وخارجها وعقب عليها الكثير من المشاركين فقام الأخ المؤلف - حفظه الله - بتطوير الورقة وتعديلها والإضافة عليها، لكنها لم تنشر بصفتها المعدلة.

ويبدو أن ملخصا لأفكارها كان قد نشر باللغة الإنجليزية فلفت أنظار بعض المفكرين في الخارج. وأثناء زيارة المؤلف لماليزيا صيف عام 1944 م دعاه نائب رئيس الوزراء معالي الأستاذ أنور إبراهيم لإلقاء محاضرة عامة يتناول المؤلف فيها أهم القضايا التي يرى أن الحركات الإسلامية تحتاج إلى مراجعتها في برامجها

وذلك في أهم مركز ثقافي في عاصمة ماليزيا (I k m) وفي فترة حرجة في تاريخ ماليزيا حيث كانت هناك " منظمة دار الأرقم" الواسعة الانتشار في جنوب شرقي آسيا تتعالى أصواتها في الدعوة إلى تأييد رئيسها وزعيمها الماليزي الذي ادعى أنه وكيل المهدي المنتظر أو نائبه الذي سيقوم باستقباله وتسليم الراية له لقيادة الأمة الإسلامية.

وقد دعي لحضور المحاضرة مائتان وخمسون من كبار رجال الفكر والدعوة وأساتذة الجامعات في ماليزيا، وفي مقدمتهم معالي نائب رئيس الوزراء وزير المالية بنفسه - فرج الله كربه - الذي رأس الجلسة وقدم المحاضر جمهور المستمعين وعقب على المحاضرة بعد الفراغ منها.

هذا، والمحاضرة تتألف من مقاطع ثلاثة:

أولها: في بيان أهم خصائص الإسلام والتذكير بها ليستطيع العاملون في الحقل الإسلامي إعادة النظر في خطابهم وبرامجهم على ضوء منها.
أما المقطع الثاني: فقد كرس لبيان ما اعتبر أبعادا غائبة على سبيل الإجمال .
وأما المبحث الأخير: أو الخاتمة فقد حاول فيه المؤلف – جزاه الله خيرا - أن يقدم خلاصة لموضوع البحث وتوضيحا لأهم قضاياه. وقد اشتملت المحاضرة الكتيب - إضافة لذلك - على موضوعات هامة متنوعة يمكن أن يكون كل منها موضوع محاضرة أو حوار أو ندوة متخصصة.

فالرسالة التي بين أيدينا - إذن - ورقة عمل شاملة لا شك أنها كبيرة الفائدة للدعاة حاملى الهم الإسلامي، وقد يتفق البعض مع الكاتب الكريم في كل ما آثاره وقد يختلفون معه في بعض ما توصل إليه، ولكن ذلك كله لا يقلل من خطورة وأهمية النقاط المطروحة، التي جرى تداولها وتناولها بدقة تقف وراءها خبرة الكاتب ومعاناته الطويلة في دوائر العمل الإسلامي المختلفة ومستوياته المتنوعة

ولذلك فإن الأمل كبير بأن تكون روح الإخلاص التي أملت إعدادها على مؤلفها عاملا مساعدا في حسن فهمها ، واستقبال قضاياها. ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي. جزى الله أخانا الدكتور طه العلواني كل خير,ونفع به إنه ولي التوفيق.

وللمؤلف - وفقه الله لصالح العمل- من الجهود الخيرة الشيء الكثير خاصة في مجال الكتابة والتأليف، فمن ذلك:

  1. تحقيق كتاب (المحصول في أصول الفقه) الذي قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - مشكورة - بطباعته ونشره في ستة مجلدات، ثم عادت مؤسسة الرسالة طباعته طبعة ثانية.
  2. أدب الاختلاف في الإسلام. وقد تم ترجمته إلى لغات عديدة ثم ترجمته إلى لغات عديدة وطبع طبعات عدة.
  3. الجهاد والتقليد.
  4. ابن تيمية وإسلامية المعرفة .
  5. أصول الفقه الإسلامي: منهجه بحث ومعرفة.

هذا بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات.

ويسرني أن أقدمه لقراء الضاد من خلال محاضرته القيمة هذه التي تحولت إلى بحث علمي مفيد بإذن الله.ولقد كانت لي زمالة كريمة بالمؤلف في كلية الشريعة بقسم أصول الفقه لسنوات عرفت فيه غيرته الدينية وصفاء عقيدته التوحيدية فجزاه الله خيرا على ما قدم وما سيقدم كمن بحوث ومؤلفات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

مدخل

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. ثم أما بعد:

فإن السامع والقارئ " للخطاب الإسلامي المعاصر" يبدو له هذا الخطاب للوهلة الأولى "خطابا جغرافيا أو إقليميا أو قوميا في بعض الأحيان". وفي بعض الأحيان يبدو خطابا قانونيا جل همه ينحصر في بيان سلامة مود القانون الذي يدعو لتبينه، وضرورتها وترابطها، وسلامة منطلقاتها التشريعية.

وفي أحيان أخرى، يبدو هذا الخطاب الإسلامي وكأنه خطاب يعبر عن برنامج سياسيى لفئة من الفئات تتقدم به إلى الناخبين ليقبلوه فيمنحوا المتقدمين بالثقة. أو يرفضوه فيخذلونهم. والإسلام في حقيقته - أجل وأعظم وأعلى وأعز وأكبر من أي إقليم أو قوم أو قضية، أو برنامج وإن كان يتجلى وينعكس على قوم أو أرض أو قضايا أو برامج، ولكن يبقى ما يتجلى منه هو أنوراه ولشيء من حقائقه التي لا يحيط بها إلا الله تبارك وتعالى.

إن التفاوت الشديد في صياغة خطاب الإسلامي شكلا ومضمونا سرعان ما يكشف لمتلقي ذلك الخطاب عن التفاوت والاختلاف والاضطراب الشديد لدى حملة هذا الخطاب ، وصاغته في التصورات والمنطلقات والأولويات فضلا عن الأهداف والغايات .

ولولا وجود القرآن المجيد نصا محفوظا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لبلغ التمزق غايات تجعل من عودة الائتلاف إلى هذه الأمة من الخيال ، فالخطاب "الماضوي" يكاد يحصر الإسلام كلها في معالجة ما يعتبره انحرفا عن العقيدة- كما يتصورها رموز هذا الخطاب إلى "العقيدة" باعتبارها القاعدة والمنطلق لسائر أفكار وتصورات ومنطلقات الإنسان المسلم كما لا ينظر إليها باعتبارها الجواب الشافي عن " الأسئلة النهائية" أو الحل الأكبر للعقدة الكبرى كما يقول الفلاسفة.

وكذلك لا ينظرون إليها باعتبارها رؤية كلية للخالق جل شأنه وللكون والإنسان والحياة بمقتضياتها وانطلاقا منها ينبغي أن تصاغ كل نظم الحياة، وكذلك لا ينظرون إلى هذه العقيدة باعتبارها القاعدة الأساس للنظام المعرفي الإسلامي، بل يقتصر دورها عند هؤلاء في إطار ما ارتبط في أذهان البعض منهم من صراعات بين الفرق في بعض مراحل الواقع التاريخي، وهي الصراعات التي لا يزال العقل المسلم والتراث الإسلامي يعانيان من آثارها السيئة المدمرة.مسلم يطبق الأحكام.

فإذا صوبنا الأنظار تلقاء الخطاب السياسي وجدناه في بعض صوره الحزبية خطابا يكاد يحصر كل مشاكل العالم بعدم " وجود خليفة مسلم يطبق الأحكام ويقيم الحدود" وهذا الخطاب يكاد يتجاهل أن ِفي العصور السابقة لذلك فإن هؤلاء يؤكدون على أنها كانت موجودة وقائمة ولو في الجانب القضائي وبعض جوانب المعاملات. وهناك خطاب سياسي آخر يرى الإسلام- كله- سيتحقق سبيل التدرج أو دفعة واحدة بمجرد وصول أصحاب ذلك الخطاب إلى السلطة وتمكنهم منها .

وهناك الخطاب التربوي على المستوى الفردي أو الجماعي، وهو خطاب يكاد يحصر المشاكل في الانحرافات التربوية، والحلول في معالجة تلك الانحرافات والعناية بالتربية وصفاء النفس، وتنقية الوجدان. وهناك الخطاب الدعوي الذي يهمه الانتشار الأفقي والعددي للجماعات باعتبار أن النظر إلى الكثرة والامتداد يسبق النظر إلى السنن الكونية، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وسائر التحولات النوعية لدى أصحاب هذا من الخطاب.

وهناك أنواع أخرى متعددة للخطاب لإسلامي. ولو أن هذه الخطابات المتعددة أدركت ما بينها من أواصر، وسعت إلى إنماء المشتركات والتنسيق والتكامل لما كان هناك ما يستدعي الخوف والقلق، ولكن كثيرا من صاغة الخطابات الإسلامية هذه يقدمون خطابهم باعتباره الخطاب الإسلامي العام الشامل، وأحيانا يصوبون خطابهم وحده، ويخطئون سائر الخطابات وفي ذلك ما فيه.

ونحن - في هذه العجالة - لا نريد أن يتجاهل فضل أي من هذه الخطابات أو أصحابها ، أو ينسى أثرها في مراحل معينة من مراحل صياغتها والمناداة بها وبخاصة مرحلة التحرر من سيادة المحتلين، واستعادة الهوية، ولكننا نود أن نشير إلى أن الخطاب الذي قد يكون فعالا في مرحلة ما ليس بالضرورة أن يكون فعالا في جميع المراحل، ولا مع سائر أنوع المخاطبين

ولكي يتنبه إلى ضرورة إعادة بناء وتشكيل الخطاب الإسلامي المعاصر المناسب الفعال لابد من ملاحظة خصائص الرسالة الإسلامية الخاتمة التي يحاول هذا الخطاب أن يكون تعبيرا عنها واتخاذ هذه الخصائص بمثابة المحددات المنهاجية التي ينبغي الرجوع إليها من حين لآخر كد من أن الخطاب لا يزال يمثل لسان صدق لتلك الرسالة والتعبير الفاعل عن أهدافها ومقومات والتأكد من أن جميع الأبعاد المتعلقة بتلك الرسالة متضمنة في ذلك الخطاب ومعبر عنها بالشكل المناسب.

ولنأخذ مثلا من واقعنا التاريخي ذلك الخطاب عامر رضي الله عنه حين أجاب رستم وقادة الفرس وقد سألوه عن سبب قدومهم إلى بلاد فارس غزاة مقاتلين هذه المرة وقد كانوا سابقا يأتون لطلب القوت والمساعد ة وأشار رستم إلى ما لاحظوه من تغير طرأ على طبيعة العرب لم يعرفوا أسبابه، وحين فكروا بها لم يجدوا أمامهم من التفسير لتلك الحالة الجديدة والظواهر المحيطة بها إلا التفسير المادي.

إن من يتأمل ما قاله ربعي بن عامر رضي الله عنه وصحابة آخرون وهم يشرحون لقيادة الفرس مجئ المسلمين إلى بلاد فارس يجد بونا شاسعا بين فهم الصدر الأول لطبيعة الرسالة وخصائص الخطاب، وبين فهم من جاء بعدهم. وحين نطوي فترات الزمن لنصل إلي عصرنا هذا يبدو لنا واضحا ضعف هذا الخطاب، وعجزه عن الإقناع والتفسير وإثارة الاهتمام.

فخطاب ربعي والآخرين يدل دلالة واضحة على أن القوم كانوا يدركون تماما طبيعة وخواصها وسائر ينبه ذلك الخطاب منهم إلي متانته ورصانته ووحدة قضاياه، واتفاق حملته في تقديم ما يقدم وتأخير ما يؤخر إضافة إلي وحدة منطلقات القوم، ووحدة تصورهم الإسلامي في خصائصه ومقوماته.

أخرج الطبري في تاريخه أن رستم قال لزهرة حين أتاه: "أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جوارهم ونكف الأذى عنهم ونوليهم المرافق الكثيرة ونحفظهم في أهل باديتهم فنرعيهم مراعينا ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا " وقد كان لهم في ذلك معاش- قال رستم ذلك وهو يعرض لهم بالصلح، وإنما بصنيعهم والصلح يريد ولا يصرح فقال له زهرة: " صدقت قد كان ما تذكر وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا طلبتهم، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما الدنيا طلبتنا وهمتنا الآخرة

كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولا فدعانا إلى ربه فأجبناه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز "فقال له رستم" وما هو؟ قال: " ما أحسن هذا . وأي شيء أيضا؟"

قال: "وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى" قال: حسن وأي شيء أيضا؟" قال: " والناس بنو آدم وحواء أخوة لأب وأم" قال: " ما أحسن هذا" ثم قال له رستم : " أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون؟" قال: إي والله ثم لا نقرب بلادكم أبدا إلا في تجارة أو حاجة"

قال: " صدقتني والله أما أن أهل فارس منذ ولي أزدشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا أحدا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم" فقال له زهرة: " نحن خير الناس فلا نستطيع أن نكون كما تقولون نطيع الله ٍفي السفلة ولا يضرنا من عصي الله فينا فانصرف عنه ودعا فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وانفوا فقال:" أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبنا".

ويذكر الطبري أن ربعي بن عامر قد أشار على سعد - وكان قد دعا مجموعة من خيرة رجاله لإيفادكم إلى رستم - أن لا يبعث إلا واحدا فكلفه سعد بأن يذهب وحده لمخاطبة رستم. وبعد أن عرض الطبري كثيرا من التفاصيل حول طريقة دخوله ذكر الحوار الذي دار بينه وبين رستم وفيه تتجلى طريقة ربعي في فهم خطاب الرسالة الخاتمة وعناصره الأساسية وكيفية مخاطبة الناس به.

فحين وجه إليه رستم سؤاله قائلا: " ما جاء بكم؟" قال: " الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى يشاور أهل فارس. وأشار الطبري في أكثر من موقع أن رستم حاول إقناع القادة الفرس بقبول الإسلام خاصة وأن ما سمعه

من ربعي يقدم حلولا لمشكلات الأمة الفارسية آنذاك، لكن قومه رفضوا كبرا وغرورا وتعاليا فسايرهم في ما وصلوا إليه حذر الشقاق والمخالفة وهو من هو في مركزه وسلطته. فانظر كيف يمكن للخطاب الحكيم أن يحدث من الأثر ما تعجز وسائل كثير أخرى عن إحداثه. وفي القصة بطولها كما يرويها الطبري وابن كثير، كثير من الفوائد التي تستحق التأمل.

وكما أوضح أخي فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله الزايد في مقدمته كان أصل هذا الكتيب محاضرة عامة وقعت في فقرات أو مباحث ثلاثة:

المبحث الأول: حاولنا التذكير فيه بأهم خصائص ومقومات "رسالة الإسلام الخاتمة" شرعة ومنهاجا إلى البشرية كافة لتكون قاعدة ومنطلقا لنا في معرفة ورصد ما اعتبرناه "أبعادا غائبة" عن فكرنا "الحركي الإسلامي" لأسباب كثيرة، منها تكاثر الهموم، وتكالب الخصوم، والفصامات الكثيرة بين الأمة وقادتها من ناحية، وبين الفقيه والسلطان من ناحية أخرى، وبين الفقيه والمفكر من ناحية ثالثة، وبين العلم والعمل من ناحية رابعة. إضافة إلى الحلقات المفقودة سواء في مجال المنهج والفكر والثقافة والمعرفة، أو السلوك والعمل ، أو التربية والتعليم، أو مجالات الحياة الأخرى.
أما المبحث الثاني: فقد حاولنا فيه ذكر بعض ما اعتبرناه "أبعادا غائبة" ونحن - هنا - لا نعني أنها غائبة تماما، كما لا نقصد أنها غائبة عن الجميع وحاضرة في أذهاننا فقط، بل قصدنا بذلك أن آثارها ليست ظاهرة أو بارزة بالقدر الكافي في "الخطاب الحركي الإسلامي" كما أن آثارها في برامج وخطط "التيار الحركي، " غير بادية للعيان، لذلك فقد رأينا أن التذكير بها يعد أمرا جديرا بالاهتمام ، والتذكير والذكرى تنفع المؤمنين، وليس من مقتضيات التذكير الغفلة فرب مذكر أوعى ممن يذكر. ورب مبلغ أوعى من سامع.
أما المبحث الثالث: فقد حاولنا أن نلخص فيه قضية الكتيب - المحاضرة وأن نؤكد بعض النقاط الهامة التي وردت في المبحثين، ونسلط عليها مزيدا من الضوء. كذلك حاولنا أن نعطي بعض المؤشرات حول ذكرناه، وإعادة صياغة بعض جوانبه بحيث تعود عملية الالتحام بين الفصائل الإسلامية
وبين قاعدتها العريضة في الأمة ممكنة، ويدرك المعنيون في هذا الخطاب نبرة تجسير العلاقة بين التيار الإسلامي، وقوى وفصائل الأمة الأخرى لكيلا تبدد بقايا طاقات هذه الأمة في صراعتها الداخلية، وعراكاتها الجانبية. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهيأ لهذه الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته، ويذل به أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهي فيه عن المنكر. إنه سميع مجيب.

المبحث الأول الخصائص العامة لرسالة الإسلام

في إطار من عملية مراجعة ونقد ورصد لتلك الأبعاد الغائبة عن الخطاب الإسلامي المعاصر التي جعل غيابها عنه- كما أشرنا - خطابا جغرافيا إقليميا أو قوميا في بعض التأكيدات اللفظية على "العالمية" والعموم والشمول كان لابد من تفصيل القول في بيان هذه الأبعاد الغائبة عن الخطاب الإسلامي المعاصر، وكيفية استرجاعها وتضمينها - ذلك الخطاب من جديد لعله يسترد فاعليته ، ويتجاوز - بإذن الله أزمته ويصبح قادرا أو كثر قدرة على تحقيق أهدافه، فنقول وبالله التوفيق:

إن من أهم خصائص الإسلام للوعي به وعليها في هذا المجال لنستحضر ما غاب عن خطابنا الإسلامي من أبعاد: الشمول في الشريعة مع التخفيف والرحمة . والعموم في الإسلام عبر الزمان والمكان، والغائبة في كل ركن من أركان العقيدة وفي كل حكم من أحكام الشريعة، والعالمية في الخطاب، والحاكمية للكتاب، والخاتمية في النبوة والرسالة، والتجديد الإنساني السنني المعتمد على وعي الإنسان وقدرته على اكتشاف منهجية التجديد ، وكيفية استعماله وآلياته وتحقيق القدرة على قراءة الوحي والجمع بينها وبين قراءة الكون والواقع.

تصحيح المفاهيم، وفي مقدمتها مفهوم الدين

لقد كان المفهوم الشائع لكلمة "دين" ومشتقاتها في اللغات السامية وفي الحضارات القديمة خاصة "البابلية" وتشريعات حمورابي يرتبط ارتباطا تاما "بالقانون" وما يتعلق به قاض وحاكم وحكم. وفي سفر التكوين - من التوراة - وردت الكلمة ومشتقاتها بمعنى "الله" و "حكم الله" وذلك ينبه إلى علاقة ذلك بالتصور اليهودي لفكرة "الحاكمية الإلهية" وينظر سفر التكوين (30- 6، 49:16)

وفي الموسوعة اليهودية في الجزء الرابع أوردت معان خمسة لكلمة "دين" لم تتجاوز كثيرا معاني القضاء، والعدل، والحكم، وما له علاقة بذلك. كما إن الموسوعة اليهودية في مواضع أخرى من الجزء السادس أشارت إلى أن كلمة "دين" تشمل القانون بسائر مصادره فحتى القانون المنبثق عن النماذج العلمانية يطلق عليه "دين".

فلا غرابة - بعد ذلك - أن يسود هذا المعنى في مرحلة الثقافة الشفوية، وينزل المفهوم القرآني للفظ "دين" على المعاني الواردة في تلك الثقافات القديمة، ولا يبذل جهد يذكر في إعادة بناء المفهوم قرآنيا. وهو مفهوم يقوم - قرآنيا- على دعائم أساسية تتصدرها القيم العليا الحاكمة فيه الإسلام وهي قيم "التوحيد والعمران والتزكية" ثم ما يندرج تحتها من مراتب للقيم المتنوعة من عدل وحرية ومساواة، وحقوق تحفظ بها ضروريات الإنسان وحاجياته وتحسيناته.

ثم يمتد المفهوم ليشمل كل ما يندرج تحت مفاهيم "الإيمان والإسلام والإحسان" ثم يمتد ليشمل كل ما يندرج تحت "الشرعة والمنهاج" ثم يتجاوز ذلك إلى بعض لوازمه ليشمل "فقه التدين" و" الالتزام بالدين" وما يترتب على ذلك من حساب وجزاء.

إن مناقشة هذه القضية الهامة بتفصيل مناسب وبيان ما ترتب عليها ليس من أغراض بحتنا هذا. أما ما يهمنا توضيحه الآن فهو: أن اشتمال الإسلام على كل ما ذكرنا يقتضي أن ينفرد عن سواه من الأديان بخصائص يمكن إجمالها فيما يلي:

الشمول

أما الشمول فنعني به أن الإسلام قد بين التصور السليم للحقائق الأساسية وعناصر العقيدة ودعائم الشريعة، ومنهج الفكر، ومنهج الحياة المنبثق عن العقيدة والتصور، ومنهج البحث عن الحقائق والتعامل معها، كذلك حدد العلاقة بالكون كله والحياة والأحياء والإنسان والأشياء

وأوضح أنها - كلها - مخلوقة لله العلي الكبير متصلة به، محكومة بإرادته مشيئة به كذلك ، وأن الحقائق الكبرى، وفي مقدمتها حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية وحقيقة الحياة كلها موضحة بوحي الله تعالى في كتابه.

كذلك تناول القرآن سائر أوجه النشاط الإنساني من عبادات أو معاملات أو أي نوع من أنواع الممارسات الإنسانية لتأتي موصوفة موضحة، مبينا حكمها في إطار حقيقة الخلافة الإنسانية في الأرض فليس هناك نشاط عبثي أو عدمي او لا ينطبق عليه وصف ما في إطار هذا المنهج الشامل الذي اعتبر كل ممارسات الإنسان المنبثقة عنه أو المنسجمة معه عبادة حتى اللقمة يضعها الإنسان في فم زوجه أو أولاده

وحتى "البضع" في إطار هذا المنهج محوط بتلك القدسية التي تصون الإنسان المكرم من الهبوط إلى مستوى المسخرات له من حيوان ونبات وجماد وسواها فتكون عبادة. فيأنس الإنسان بربه ويفارقه أي إحساس بالعدم أو العبث أو الرباني الشامل للحياة كلها، لا شمول التقييد والتعطيل، بل التوجيه والهداية والترشيد.

العموم

وأما "العموم" فهو العموم في البشر كافة والعموم في الزمان والمكان، فهذه الرسالة لم تستهدف قوما محددين في وقت أو بلد محدد كالرسالات المحصورة في أقوام أو قرى، بل هي نداء إلى البشرية كلها، وخطاب للإنسانية جمعاء.

فالبشر في إطار المنهج الإسلامي وحدة واحدة وكل موحي لا يتجزأ، فالوحدة الإنسانية في هذا المنهج هي حقيقة الحياة والأحياء على تنوع الأجناس والأنواع، والوحدة الإنسانية هي حقيقة الإنسان والاجتماع البشري على تنوع الشعوب والقبائل، واختلاف الديار، ووحدة الدين سمة من سمات هذا المنهج، ووحدة الرسل والرسالات جزء من العقيدة التي جاء بها، فالبشر - كلهم - قد خلقهم الله من نفس واحدة

وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ليصبح الناس شعوبا وقبائل تسعى لبناء علاقات التآلف بينها بد التعارف، ثم الدخول في "السلم" كافة. ويضع الإمام الشافعي رضي الله عنه مراحل هذه الرسالة في صدر رسالته الأصولية، وقد أوضح كيف تتدرج هذه الرسالة في خطابها من عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تصبح خطابا عاما للبشرية كلها.

فقال رضي الله عنه : " فكان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته، وختم نبوته ، وأعم ما أرسل قبله فتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم "وأنذر عشيرتك الأقربين" (الشعراء 214)، فخرج عليه الصلاة والسلام ونادى قريشا فقال : " اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئا"

ثم نادى بطون قريش فقال : " يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا"، (والحديث بطوله في البخاري وفي مسلم). كما أمر عليه الصلاة والسلام بأن ينذر أم القرى ومن حولها فقال عز من قائل:" لتنذر أم القرى ومن حولها" (الشورى:7).

ثم أمر بأن يدعو قومه جميعا وامتن الله تبارك وتعالى عليه وعلى قومه بشرف نزول الذكر فيهم وابتدائه بهم، فقال تبارك وتعالى : " وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" (الزخرف:44) وقوم الرجل من ينتمي إليهم على سبيل الإجمال والعموم وها هنا هم العرب. فيقال: "من أي العرب؟ فيقال من قريش. ثم بعد ذلك عم الخلق كلهم بالبشارة والنذارة بهذه الرسالة الخالدة".

وهنا أوضح القرآن الكريم عموم الرسالة فقال تبارك وتعالى : " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" كما قال جل شأنه : " وما أرسالناك إلا رحمة للعالمين" فبه عليه الصلاة والسلام ختمت النبوة "وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم".

وإذا كان لنا ما نضيفه إلى ما ذكره الإمام فهو أن الخطاب بعد توجهه إلى العرب كافة وجه إلى الشعوب الأمية كافة، وهي الشعوب التي لم تتلق قبل الإسلام دينا، ولم تتل قبل القرآن كتابا، ولم تعرف قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، ليجعل من هذه الشعوب شعوبا كتابية بعد أن كانت شعوبا أمية ثم وجه بعد ذلك إلى البشرية كلها لتصحيح الدين وتوحيد مرجعيته، وإعلاء كلمته على كل كلمة.

الغائية

وأما "الغائية" فتظهر واضحة جلية عند ملاحظة أي جانب من جوانب الخلق، فما من مخلوق صغر أو كبر إلا ولوجوده غاية، وله دور يؤديه في هذه الحياة علمه الإنسان أو جهله: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون" (المؤمنون:115)، "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون "(العنكبوت :2) "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" (القيامة:36).

وليس في الكون شيء يمكن أن يقال:

إنه حدث بطريق المصادفة، أو عن غير حكمة أو علة أو دور يؤديه. فالقول بالمصادفات مظهر من مظاهر الفكر الإحيائي البدائي المتخلف العائد إلى مرحلة النشأة الإنسانية، لكن الإسلام قد أخرج الناس من ظلمات تلك المرحلة ونقلهم من فكر المصادفات إلى فكر يعتمد التعليل المنهجي المنطقي الذي يؤدي إلى اكتشاف العلاقات بين الظواهر والأشياء، ويوجد حالة عقلية تستطيع الكشف عن سنن الله تعالى في الكون والحياة والإنسان

وإدراك حسن تقديره جل شأنه في كل شيء، ويحدث عن ذلك النشاط العقلي من العلوم والمعارف ما ينظم العقل الإنساني، ويرشد مسيرته، ويجعله قادرا على تجاوز الدلالات الجزئية للأشياء والظواهر والحياة إلى ربطها ببعضها لاكتشاف شبكة العلاقات والمحتوى الغائي لها: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون" (الدخان: 38،39).

العالمية

أما الخاصية الأخرى فهي "العالمية"، وهذه خاصية شديدة الأهمية وإدراكها وفهمها في هذه المرحلة من تاريخ البشرية بالغ الخطر، كبير الأثر، لقد نزل القرآن بلغة العرب وعلى رسول منهم وفي البلدة المحرمة بدأ نزوله، وفي الحرم النبوي - المدينة - اكتمل نزوله، وبه كمل الدين، وقد خرج العرب بهذا القرآن إلى حوض الحضارات القديمة، ولم يكن خروجهم ذاتيا من عند أنفسهم، أو باختيارهم، وما كان الخروج من طبيعتهم

فارتباطهم بأن القرى وما حولها جعلهم يرجعون إليها بعد كل رحلة في لهفة وشغف، واعتزازهم بشبه جزيرتهم وافتخارهم بها فاض به شعرهم ونثرهم أن الله تعالى أخرجهم في إطار دفع إلهي- لا في إطار استعلاء قومي ذاتي، وعلاقتهم بالقرآن والرسالة التي اشتمل عليها علاقة تكليف وتبن وإيمان لا علاقة إنشاء وتوليد من ذواتهم.

وقد خرج حملة رسالة الإسلام الأولون ليحققوا مهمتين: الدعوة إلى الإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110).

فهي دعوة لتحقيق غايات إنسانية مشتركة بين البشر جميعا تتلخص في "إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ون ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" وكل هذه الأمور يعود نفعها على الناس الذين يوجه إليهم الخطاب جميعا، وبذلك الخطاب المتجرد عن أية مكاسب قومية أو ذاتية، المتجه لصالح الآخرين تحققت في هذه الرسالة وفي "الأمة القطب" التي تحملها قابلية الاستيعاب للآخرين وحضاراتهم وأنساقهم الثقافية، وتحويلهم إلى شركاء متساوين في تبني الرسالة

وحمل أعباء توصيلها إلى الآخرين، ولم تكد تمضي على بدء الدعوة، وتبليغ الرسالة عقود قليلة حتى غمر الإسلام بنوره النصف الجنوبي من العالم - المعروف آنذاك - أي من جنوب الصين شرقا إلى جنوب اوربا غربا، وقد استطاع استيعاب الشعوب الأمية الوثنية من عرب ومغول وفرس وأتراك وبربر وسواهم في حركة فتح واسعة جرت في إطار نظام وطبيعة علاقات العالم آنذاك

أما الشعوب الكتابية فقد دخل منها في عقود ذمة مع المسلمين حفظت لهم شخصياتهم القومية وخصائصهم الدينية والثقافية واستوعبتهم، وانهارت الدولة الرومية في الشام وكذلك الفارسية ليصبح حوض الحضارات القديمة - كله - مستنيرا بنور الإسلام، ولتصبح دولة أمة المسلمين "الدولة العالمية الأولى".

لقد استطاع المسلمون أن يتجاوزوا ثنائية الشرق والغرب، كما استطاعوا استيعاب التعدديات الدينية والثقافية والحضارية كلها في إطار "عالمية الخطاب الإسلامي"، وإذا كان أقصى ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة هو إقرار التعدد فإن عالمية الخطاب الإسلامي عملت وتعمل على استيعاب التعدد بعد الإقرار به، ودفعه باتجاه "العالمية" ليتحول إلى عامل دفع في إطار تنوع بشري إيجابي، تهيمن عليه أنوار الهدى ودين الحق- التي لا تسمح ببروز أية اسباب أو عوامل للانقسام الديني والطائفي.

فالإسلام قد جعل من نفسه محور جذب لا محور تنابذ وطرد كالمركزية الغربية المعاصرة، وجعل من الأمة المخرجة قطب تأليف واستيعاب ، تقدم نفسها للناس نموذجا دون أن تفرض عليهم الانضمام إليها، أو تبني دينها وقيمها.

إن الآيات الثلاث التي ورد فيها الوعد الإلهي في سورة التوبة وسورة الفتح وسورة الصف بظهور الهدى ودين الحق على الدين كله تذكر بأهم الخصائص المساعدة على الظهور، وهي تحري الهدى، والسعي وراء الحق، فالدين مضاف إلى الحق والحق مضاف إليه، ولم تستخدم كلمة الإسلام في هذه الآيات لئلا يتوهم البعض أن المراد به إطاره البشري القائم الذي يشمله في إطار امتداده الأول

وعمقه الجغرافي الذي وصل إليه خلال الفتح، وعمليات الانتشار الأولى فيؤدي إلى لبس أو توهم بأن عالمية الإسلام المنتظرة ستتخذ الأبعاد والوسائل ذاتها كما هو الحال في نبوءات أنبياء أهل الكتاب يتوهمون حدوثها كخوارق تقع بشكل غيبي وبدون أسباب، أو بذات الأسباب التي وجدت في عصور أولئك الأنبياء والرسل. لا .. ما الأمر كذلك، فإن الصيرورة التاريخية محكومة بسنن الله والقوانين التي أحكم الله - تعالى - إيجادها.

إن الله سبحانه وتعالى قد من على الإنسان، وفتح له طريق المعرفة منذ أن قضى باستخلافه، فبدأ بتعليم آدم من الأسماء ما هو ضروري لقيامه بتأسيس مهمة الاستخلاف. ثم تتابعت النبوات بتقدير العزيز العليم لتعين الإنسان على المعرفة وتجاوز القصور الذي يعتريه ومساعدته على القراءة في الكون وفي الوحي ليتمكن من أداء مهامه، والقيام بحق أمانته التي اؤتمن عليها

وحسن الانتفاع بالكون الذي سخر له واؤتمن عليه، وهذا التسخير لا يقف فقط عند حد الاستخدام المادي للأشياء وإنما هو تسخير معرفي حيث خلق الله سبحانه هذا الكون، وأودع فيه سر صنعته وركبه على سنن مسخرة للعقل الإنساني يستطيع إدراكها. أو إدراك ما يكفيه منها للانتفاع بمواد هذا الكون ومكوناته.

ولقد بلغت البشرية في طورها المعاصر مستوى متقدما جدا في العلوم والمعارف والمناهج العلمية، وتجاوزت في عمرها المديد العقل الإحيائي الجزئي والعقل الطبيعي، وظلت تتدرج في مراقي المعرفة حتى بلغت "العقل العلمي".

وها هي قد بدأت تتشكك في بعض معطيات العقل العلمي وتنتقدها، كما بدأت تدرك أن العقل العلمي وإن استطاع أن يقودها إلى التفكيك من خلال "التحليل" في مرحلي "الحداثة وما بعد الحداثة" فإنه قد عجز عن تمكينها من التركيب، وصارت تدرك خطورة المرحلة التي بلغتها بقيادة العقل العلمي، وتشعر أنها إن استمرت في طريقها هذا فإنها سائرة إلى العدم والعبث والهاوية أو ما سمي "بنهاية التاريخ".

والتوتر والقلق الذي يسود أوساط العلماء في الغرب خاصة كبيرا جدا، إن إخضاع العلوم الاجتماعية والإنسانية لفلسفة العلوم الطبيعية إخضاعا تاما دون ملاحظة أي فارق بين الإنسان المكون من نفس ومادة وقوة وعي ذاتية وبين المادة المجردة قد أدى إلى أن يخضع الإنسان فردا وأسرة، ومجتمعا ودولة، ونفسا وطبيعة، لمناهج تفكيك وتحليل إذا كانت قد أدت كثيرا من الخدمات للإنسان في ميادين الجسم والصحة البدنية فإنها لم تستطع أن تقدم له الكثير في مجالات النفس وما ترتاده من عوالم تتجاوز عالم المادة القابلة للتفكيك والتركيب معا.

ولذلك فإنه حين جرى تفكيك الإنسان بمقتضى تلك المناهج لم يكن من الممكن إعادة تركيب ما فكك كما يحدث عادة في المجال الطبيعي. فحين نظر غلى الجانب الغريزي نظرة بيولوجية محضة وتم تفكيكه بمقتضاها وإلحاقه بسائر الحيوانات الأخرى من هذا الجانب لم يعد من الممكن المحافظة على "مفهوم الأسرة" الذي يمثل النواة الحقيقية والوحدة الصغرى للنظام البشري كله.

فإذا بمفهوم الأسرة في حضارة الغرب الحديث يصبح فجأة مفهوما سائلا لا ثبات له، فهناك ما يسمى اليوم " بالأسرة التقليدية" التي تقوم وتتألف من زوج رجل وزوجة امرأة يتم بينهما التعاقد في ظل الدين ويعتد بذلك التعاقد القانون وتكون ثمرته أسرة تمتد لتشمل أبناء وبنين وحفدة. وهناك أيضا ما أصبح متعارفا عليه أن يتم اتفاق لتشمل أبناء وبنين وحفدة.

وهناك أيضا ما أصبح متعارفا عليه أن يتم اتفاق بين ذكرين شاذين يعترف القانون بهما. ويتعامل معهما أسرة، وكذلك يعترف القانون باتفاق شاذتين من النساء تتفقان معهما أسرة، وكذلك يعترف القانون باتفاق شاذتين من النساء تتفقان على الإقامة تحت سقف واحد يتبادل كل منهما اسمي الزوج والزوجة كما يحلو لهما، وكذلك ما يسمى بـ single parent family بإنجاب ولد زنا أو تبني لقيط أو أي صيغة أخرى.

أو تنجب الزانية وتحتفظ بثمرة زناها وتعيش معه منفردة فيتعامل القانون معهما كما يتعامل مع مطلقة من زواج شرعي وثمرة نكاحها. وقد يتبنى اللوطي أو الزاني لقيطا يضمه إليه، أو من يتفق معه على اللواط ويسميان نفسيهما أسرة أمام القانون ويعاملان في كثير من القضايا القانونية معاملة الأسرة المعتادة، أو التي صارت تسمى بالتقليدية.

كما أنه لم يعد ما يعرف "بالزواج التقليدي" عائقا دون ما اصطلح البعض على تسميته "بالزواج المفتوح" أو "الأسرة المفتوحة" وهي طرفان من الزناة رجل وامرأة يتفقان على الزواج بشرط أن يكون لكل منهما الحرية في ممارسة الزنا مع أطراف أخرى من غير أن يحق للطرف الثاني الاعتراض على ذلك.

وحينما جاء هؤلاء إلى الدين أو اللاهوت يحاولون الاستفادة به لإعادة تركيب الأسرة وبنائها، وجدوا الدين ذاته قد تم تفكيكه في إطار مناهج التحليل وعجزوا عن تركيبه فصاروا يستخدمونه قطعا متناثرة تسمح أحيانا بتشكيل كنسية خاصة للوطيين يكون رجل الدين فيها لوطيا أيضا وكذا الحال بالنسبة للواعظات من النساء

فهناك كنائس للسحاقيات اللواتي ابتلين بالشذوذ لهن واعظات - أيضا - ابتلين بنفس المرض، وبذلك اتخذ الدين شكل خدمة وظيفية كسائر الخدمات يؤديها لإنسان العصر المفكك الذي لم يعد هناك أي مجال لتركيبه بعد كل ذلك التفكيك الذي جرى إلا بـ "كتاب كوني" يستطيع أن يعيد الاستقامة إلى المنهج نفسه، وإلى فلسفة العلوم الطبيعية ذاتها، وتصحيح مسارها

ووضع كل شيء في نصابه، واستيعاب قضايا العلم والهيمنة عليها لئلا ينتحر الإنسان في ما يصنع وبما كسبت يداه. ولا شك أن "الإسلام هو الحل" ونعني بهذا أن المسلمين يستطيعون أن يقدموا بالقرآن العظيم ومنه "بديلا حضاريا على مستوى العالم" فكيف يمكن أن يتم ذلك؟ وما السبيل إليه؟

إن الواقع التاريخي قد رسخ في أذهان غالبية الناس الوسائل التي اتبعت في عمليات الانتشار الإسلامي الأولى وهي الفتح، واستقر في الأذهان أن على الأمة المسلمة أن تقيم دولة كدولة المدينة لتتولى هذه الدولة مهام دولة مهام دولة المدينة في العالم المعاصر.

وتكون قاعدة الانطلاق نحو العالم لإخضاعه للخليفة المسلم الذي عليه أن يقاتل دار الحرب بدار الإسلام حتى ظهور المهدي ونزول السيد المسيح كما استقر في الأذهان أن المسلمين في حاجة إلى التعبئة الدائمة المستمرة لتحقيق هذا الحلم - بناء على التمكين والمنطلق.

وقد بقي الخطاب الإسلامي المعاصر حبيس هذه الأمنية محاطا بتأثيرات التصورات المختلفة لما يعتبر من عوامل أو أسباب أو وسائل تحقيقها، وبقيت العقول المسلمة والأنظار معلقة بالواقع التاريخي فقط (غير ملتفتة إلى الواقع المعاصر أو المستقبل) باحثة عن وسائل تحقيق ما اعتبرته أم الأماني "بناء الدولة والوصول إلى الحكم".

فلم يزدها ذلك إلا بعدا عن تحقيق أهدافها في استئناف حياة إسلامية. وقد زادت تعقيدات العلاقات مع الغرب الطين بلة، وخاصة بعد تحطيم دولة آل عثمان وتمزيق كيان المسلمين إلى أشلاء وفقا لتخطيطات "سايكس بيكو"، ذلك التمزيق الذي أدى إلى أن يستنفر كل قطر طاقاته - كلها - ومنها طاقاته الإيمانية ورصيده الديني لمواجهة غزاته ومستعمريه، وطرد أعدائه ومستذليه من أرضه ودياره فعزز ذلك من مكانة ذلك الموروث بشكل عام.

كما عزز من حالة الرفض للوارد من طرف الصراع أيا كان ذلك الوارد، فتكرست وانحدرت سائر المعطيات الفكرية في الواقع التاريخي الإسلامي إلى العقل المسلم المعاصر، وبقيت الأجيال المسلمة تستعيدها وتسترجعها على الدوام، واعتبرت معطيات ذلك الواقع التاريخي على اختلافها وسائل حفظ وحماية لكيان الأمة المعاصرة لابد من حمايته والدفاع عنه، والتشبث به كله، خيره وشره، جيده ورديئه، طيبه وخبيثه، دون مراجعة أو نقد أو تمحيص.

كما أن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وتصرفاته يغلب عليها أن تكون ردود أفعال تجاه من سيطر عليه وغلبه، خاصة إذا كان المغلوب يعيش حالة أزمة فكرية مستعصية وتوقف عقلي. وهذا قد جعل عملية "تقديم البديل الحضاري القرآني المعاصر" لعالم اليوم في غاية التعقيد والصعوبة.

ومن الخصائص الفكرية للعالمية أو المركزية الغربية الراهنة:

أنها عالمية وضعية تتدرع بالمنهجية العلمية، وقد فجرت في الإنسان قدراته النقدية والتحليلية، وكرست فيه نزعات النفور من كل ما يؤثر في حرية الاختيار لديه، ولقد انداحت هذه العالمية لتفرض نفسها وقيمها وخصائصها على الناس جميعا، ولتضع المعمورة كلها في دائرة تأثيرها بما في ذلك المسلمون وديارهم
كما دعت فكرة الحذر والشك في كل ما هو ديني خوفا من الوقوع مرة أخرى في دائرة التأثير اللاهوتي الديني الكنسي، فكيف يمكن تقديم القرآن مصدرا للبديل الحضاري؟ وكيف تقنع البشرية بأن القرآن الكريم المجيد المكنون المفصل يحمل الحل وهو في نظرها مجرد كتاب ديني؟ ذلك هو التحدي الأكبر لمسلمي العصر.

إن الإسلام لو قدم بذات الشكل الذي يقدمه المسلمون اليوم به ومنهم جل الحركات والأحزاب الإسلامية فإن نصيبه من العالم استمرار الرفض والمحاصرة والاضطهاد والاتهام ولا شك، فإذا قدم الإسلام باعتباره عنوانا شاملا للبقعة الجغرافية التي يعيش المسلمون بها- اليوم- وللعناصر البشرية التي تنتمي إليه وتدعي تمثيله

ولمجمل الواقع التاريخي الذي ينتسب إليه ولمعطيات تراث المسلمين في عصر التدوين للتراث الإسلامي وما تلاه فإنه سينظر إليه على أنه الصورة المشوهة ليهودية ونصرانية استطاع أهلوهما تنقيتهما من سلبياتهما وتحجيم تلك السلبيات، وتحويلهما غلى مجرد أديان وظيفية تقدم للإنسان خدمات هو بحاجة إليها فتشبع أشواقه الروحية، وقد تعالج بعض أمراضه النفسية.

أما القرآن فإنه لا يقدم، - وإذا قدم - فإنه يقدم بشكل لا يتناسب وعظمته وقدراته، وذلك من خلال فهم المسلمين التاريخي المدون في التراث والفقه الموروث الذي مثل محاولة فقهائنا العظام في معالجة مشكلات مجتمعاتهم الزراعية البسيطة أو الرعوية أو ذات التجارة الفردية المعتمدة على التبادل البسيط للمنافع في تلك المجتمعات.

وحين يراد لهذا التراث وهذا الفقه أن يستجيب لحاجات معقدة لهذا النوع من المجتمعات المعاصرة واقتصاديتها، فإننا نكلفه ما لا يطيق، وهذا سوف ينعكس على الإسلام وعالميته انعكاسا سلبيا فلا ينفي عنه عالميته فحسب، بل يظهره بأنه دين لا يصلح إلا لمجتمعات قروية رعوية بسيطة

وهنا يكمن الخطر فالإسلام دين عالمي منذ انطلاقته الأولى للناس عند نزول "اقرأ" على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تأسيسه لمجتمع الدعوة الإسلامية العالمية الذي شمل ما بين المحيطين الأطلسي غربا والهادي شرقا في الوسط من العالم الرابط بين القارات الثلاث (آسيا، وإفريقيا، وأوربا)

وقد تداخلت في تلك العالمية الإسلامية الحضارات والثقافات والأعراق، في إطار إنساني واحد، فألغت بذلك (ثنائية) الشرق والغرب، وامتدت أنوار الإسلام إلى أوروبا كما غمرت أنواره آسيا وإفريقيا، واتخذ الإسلام وضعه رسالة خاتمة لكل النبوات مهيمنة على سائر الرسالات، بحيث استوعبت الجميع بمضمونها الإلهي منطلقة من رسالة دينية منفتحة على الجميع "لا إكراه في الدين" (البقرة:256).

والعالمية الإسلامية هذه مثلث ولا تزال تمثل قوة تفاعل عضوي وحد البشرية ورفع الحواجز بينها خلافا لسائر عالميات الهيمنة القديمة والمعاصرة. إن العالميات في إطارها الوضعي البشري أكثر ما تبرز الحاجة إليها عندما تتفاقم الأزمات القومية والإقليمية ، وتبدأ الأنساق الحضارية الإقليمية بالتراجع والتلاشي. أما العالمية الإسلامية فقد قاد إليها بالإضافة غلى ذلك غيب إلهي أحكم الله بداية المسير إليه، لتحكم النهاية الآيات والأحاديث المتعلقة بظهور الدين إن شاء الله.

معالم الحضارة الغربية المعاصرة وخلفياتها

إن كلا من الحضارات الأسيوية السابقة والإفريقية كذلك لم تشكل (بعدا عالميا) يقابل في عالميته عالمية الإسلام، فالغرب الأوربي هو الوحيد الذي شكل (عالميتين) مقابلتين تاريخيا للعالمية الإسلامية الأولى وها هو (يتحدى) ويعمل على إعاقة انبثاق العالمية الإسلامية الثانية المرتقبة

وذلك بالشكل التاريخي التالي:

(أ‌) إن الغرب المعاصر يعتبر نفسه وارث العالمية الهيلينية التي استوعبت حضارات الشرق التقليدية الإقليمية كافة وشمال المتوسط، فتلك أولى العالميات بحكم الاتساع والاستتباع والاستقطاب منذ غزوات الإسكندر المقدوني (356- 323 قبل الميلاد).
(ب‌) وكذلك العالمية الرومانية التي خلفت العالمية الهيلينية منذ توسعها في البحر الأبيض المتوسط (عم 201 قبل الميلاد) ثم سيطرتها على الشرق الأوسط.

وقد تميزت الحضارتان الهيلينية والرومانية بالمنهج الوضعي، إذ أن تراثهما الديني وثني غير سماوي يستمد من قوة آلهة الأولمب (بالنسبة لأثينا) ومن قوة القياصرة المؤلهين (في روما) قوته، وشرعيته، وذلك قبل اعتناق روما للاهوت المسيحي الذي وصل إليها محرفا في شكل الإله المجسد، أي بوصفه إلها يستمد خصائصه من مواصفات آلهة الأولمب والقياصرة مؤلهي أنفسهم. فالمسيحية قد تحولت على يد الغرب الأوروبي إلى رسوم مثقلة بالموروث الهيليني والروماني ولم يعد لها ثمة علاقة بالأصل (التوحيدي) الذي جاء به عيسى عليه السلام في الأرض المقدسة التي بارك الله حولها.

ولقد تكونت الحضارتان الهيلينية والرومانية ضمن نسق حضاري له نظرته الخاصة للإنسان وهي نظرة تسمح باستبعاد الإنسان بوصفه طاقة للعمل وتسخيره بدون أجر وتحويله إلى قوة مسخرة في نظر أثينا وروما.وأفضل العبيد في نظر كل منهما مصارع في ساحات القتال.

والغربيون المعاصرون ورثة تراث هاتين الحضارتين لم تختلف نظرتهم للإنسان كثيرا حيث سخروه في المناجم والصناعات المختلفة، كما سخره أسلافهم في بناء الهياكل... وسمحوا لأنفسهم خطف الأفارقة من مسلمين وغيرهم وجعلوهم رقيقا في مزارعهم ومصالحهم في العالم الجديد وهذا النسق الحضاري بشقيه الوارث والموروث بنى على هذه النظرة للإنسان المؤدية للصراع والتضاد والتنابذ لا محالة.

وفي مقابل ذلك كله تأتي عالمية الإسلام الأولى - عالمية الأميين - لتنسخ هذه الوضعيات الثلاث: الإغريقية والرومانية والغربية المعاصرة على النحو التالي:

أولا: في مقابل العالميتين القهريتين الاستلايتين : الهيلنية والرومانية جاء الإسلام محررا للشعوب إذ لم يسجل لنا التاريخ، حتى التاريخ الوضعي منه، واقعة واحدة قاتل فيها المسلمون شعوب المناطق التي فتحوها، فقد كان القتال – كله - موجها ضد جيوش الروم وجيوش أباطرة الفرس
وقد ساندت تلك الشعوب الفاتح المسلم ضد سادتها، فهو أول فاتح في التاريخ يأتي إلى من حوله من الشعوب، لا فاتحا، بل محررا ملتزما بكتاب سماوي يقيده بقيود أخلاقية كثيرة تمنعه من أن يعلو في الأرض أو يفسد فيها أو يذل الناس ويستعبدهم، وبذلك أسس الإسلام أول عالمية (مقابلة) للعالمية القهرية.
ثانيا: تميزت الحضارات الإسلامية ضمن مراكزها العربية (المدينة المنورة، دمشق، بغداد، القاهرة وغيرها) بعقيدة توحيد كان من شأنها ألا تستعلي بإلهها (الخاص) الذي لم يكن خاصا، لأنه إله الجميع، على آلهة الشعوب الأخرى.
فقد انطلقت الحضارة الإسلامية من محاربة الشرك ونشر التوحيد ومد الجسور مع تراث النبوات التوحيدية بقطع النظر عما أصابه من الانحراف فبقيت اليهودية والنصرانية وقبلتهما، وأضيفت إليهما المجوسية وكذلك الصائبة يسن بهم سنة أهل الكتاب ضمن ديانات متعايشة في إطار الكيان الإسلامي الجامع وبحمايته. فكان الكيان الإسلامي أول كيان يتآلف فيه جميع الذين يصدون عن الأديان الإبراهيمية وغيرهم ولا يكره أحد على تغيير دينه : " لا إكراه في الدين" (البقرة: 256).
ثالثا: تميز النسق الحضاري الإسلامي بعدم استبعاد شعوب المناطق المفتوحة، فلا المدينة المنورة بناها عبيد استقدموا من المستعمرات وسخروا لبناء الهياكل ولم تبن دمشق أو بغداد أو القاهرة بهذا الشكل، والزكاة كانت توزع في مناطق جبايتها، وللمؤلفة قلوبهم من غير المسلمين - حظ فيها- وللفقراء والعاجزين عن العمل من غير المسلمين مثل ما للمسلمين. في حين بنى العبيد المسخرون صروح أثينا وروما. فالنسق الحضاري الإسلامي في إنسانيته هو نقيض النسق الهيليني والروماني.

هذه مقابلات ثلاث لمقابلات إسلامية لها:

إسلام وتوحيد قائم على استرجاع تراث الأنبياء كلهم، وتحريره من كل ما أضيف إليه ودمجه بعالميته يخلف عالمية أوروبية سابقة، ثم لا يكون مثلها في توجيهه العالمي، إذ يطرح التوحيد في مقابل الوضعية الملحدة أو المشركة، ويطرح النسق الحضاري الإسلامي مقابل النسق القهري لاستعبادي، ويربط العباد بخالقهم ولا يسخرهم للحاكم أو السلطان.

إذن فقد نسخت العالمية الوضعية المتمثلة بالحضارة الرومانية الهيلينية بعالمية إسلامية أولى أن تختلف عنها، ويمكن لعلماء التاريخ والنصوص والتاريخ الحضاري ودراسة نمو الأفكار وتشكيلها وانتشارها أن يسترجعوا ويعدوا بالتفصيل (دراسات وافية) لما أشرنا إليه: كل من زاوية تخصصه أو اهتمامه، لتتضح هذه الفروق بجلاء.

إن الحضارة الأوربية المركزية - سواء تفرعت شرقا أو غربا - بدأت بإرساء دعائم عالميتها منذ بداية عالميتنا الأولى سواء في بغداد إثر الاجتياح المغولي، أو في الأندلس إثر الاجتياح الأوروبي، ثم ما تلا ذلك من امتداد لما سبقه من حروب لما نسمها نحن "صليبية" فهم الذين سموها بذلك، أما نحن فسميناها ـ "حروب الفرنجة" أو "الإفرنج"

وتلك كتب تراثنا وتاريخنا شاهدة على ما نقول، فلم يعودنا إسلامنا شن حروب بين هلال وصليب، ولا بين شرق وغرب، قطبيعة الإسلام تأبى ذلك وترفضه. وبعد أن تمكنت عالميتهم الأوربية "الثالثة" كان غزوهم لأراضينا بداية من نهاية القرن التاسع عشر، ثم كان زرعهم لإسرائيل في قلب الوطن العربي من عالم الوسط الإسلامي في منتصف القرن العشرين.

وهكذا فرضوا هيمنتهم وعالميتهم أو مركزيتهم الجديدة على أرض الإسلام كلها، ما بين المحيطين الأطلسي غربا والهادي شرقا، وانتشروا إلى ما وراء ذلك، ثم سادوا العالم بأكمله، فأصبحت الحضارة الغربية الأوربية ذات الجور الرومانية من بعد الهيلينية عالمية العالم الجديد تكاد تستوعب كل شيء فيه بدءا من تفاصيله الحياتية والعقائدية، وتفرض عليه نماذجها في كل شيء. إنها تريده عالما على صورتها في كل شيء، فما هي صورتها هذه التي تعود إليها – اليوم- في شكل "نظام عالمي جديد" ؟ وهذه - أيضا - تسميتهم المعبرة عن نظرتهم المركزية الشمولية التي أسسوا لها.

نعود مرة أخرى غلى المتقابلات الثلاث التي كانت لدى الهيلينية والرومانية. إن الصورة الثلاثية نفسها تتكرر من جديد ضمن عالمية أو عولمة "شاملة" هذه المرة، وهي كما كانت من قبل:

(أ‌) مركزية أصبحت شاملة وعالمية ولم تعد أوربية فحسب.
(ب‌) مركزية وضعية لم تعد القيم الدينية من مبررات عالميتها الجارية، حتى اللاهوت المسيحي طلق قيمه الدينية الأخلاقية، وأصبح موظفا في النموذج العلماني.
(ج‌) نسق حضاري يستند غلى الصراع والاستحواذ والاستلاب بالقوة القاهرة.

فماذا علينا أن نفعل في مقابل ذلك؟ لا لإنقاذ أنفسنا فحسب، بل لإنقاذ أوربا وأمريكا والعالم كله، وتحويل العالم إلى بيت كبير يستقر الإنسان فيه مستمتعا بالسلم والأمن سالكا سبيل الهدى والحق؟ كما أمر الله تبارك وتعالى أن يكون.

منطلق الدخول في السلم كافة

حين أوضحنا شيئا من طبيعة وخصائص هذه الحضارة الغربية المعاصرة لم نكن منطلقين غلى ذلك من منطلق التحيز ضد أوربا والغرب، ليس من أهدافنا تكريس الصراعات الحضارية، فعالميتنا الإسلامية (وخروجنا) من قبل بالرسالة الخاتمة إلى الناس كافة، ودمجنا بين الحضارات والثقافات والأعراق، ونبوة خاتم النبيين الوارثة لكافة النبوات والمصدقة لها والمهيمنة عليها

والدين الإسلامي الوارث لكافة الرسالات، وإلغاؤنا – بتوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لثنائيات الحضارات البشرية المتصارعة، والتزامنا بعقيدة التوحيد (والتعارف) بين الناس، وعقيدة وجوب الدخول في (سلم كافة) ، كل هذا لا يسمح لنا أن ننطلق من منطلق التحيز وقد نعذر الغير إن تحيز ضدنا، فللغير – من موروثه التاريخي ونسقه الحضاري ولاهوته الديني – ما قد يدفعه لذلك. أما نحن فما كنا متحيزين من قبل وما ينبغي لنا أن نكون.

إن الله سبحانه وهو رب المسلمين كما هو رب الأوربيين والأمريكيين ورب الناس كافة، قد وعد وأوعد لعالمية إسلامية أخرى تقابل في شموليتها واتساعها مركزية الغرب الشاملة، والمهيمنة – اليوم - على العالم. فكما كانت عالميتنا الأولى بديلا ومقابلا للهيلينية والرومانية ستكون عالميتنا الثانية المرتقبة بديلا عن المركزية الغربية الشاملة، وذلك حين نعرف كيف نستخدم مداخل منهجيتنا بشكل مناسب فيظهر الهدى ودين الحق على الدين كله.

إن عالميتنا ليست عالمية تعصب، أو دعوة تنطلق من الخصوصية الجغرافية أو البشرية لمضاهاة العالمية الغربية. إنها عالمية "الرحمة" لنا وللغربيين بل وللعالمين على حد سواء وللعالم كله أن يستمتع بها

ولتفصيل ذلك يمكن أن نوضح الأمور التالية:

أولا: إنها عالمية إسلامية أعدها العليم الخبير للعالم كله، لأن العالم يحتاج إليها للخروج من أزماته السياسية والاقتصادية والفكرية والبيئية التي تراكمت نتيجة أنساقه السياسية والاجتماعية والأخلاقية ولم تكن أزمة الحضارة الغربية المركزية المهيمنة بأقل من أزمة الأمة الإسلامية، وهي في أشد حالات تراجعها. والله سبحانه قد أعد رسالته الشاملة ليخاطب بها البشرية جمعاء وينقذها من هذا التردي والمصير الهالك الذي ينتظرها.
ثانيا: إن الخطاب العالمي الذي علينا أن نخاطب به العالم وأن نوجهه للحضارة ا لمعاصرة بتفرعاتها الغربية وغيرها حين نوجهه إلى الحضارة الغربية الأوربية الأمريكية، فإننا نفعل ذلك، لأن هذه الحضارة هي الحضارة المهيمنة على السلوكيات البشرية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية بحكم مركزها العالمي
وتقدمها التقني وعلومها السائدة، والعالمية الإسلامية هي القادرة – في نظرنا - على القضاء على القلق الغربي، والأمة المسلمة لن تستطيع أن تجد خلاصها إلا في حمل هذه العالمية وتبنيها، فعلى العقل المسلم أن يستحضر هذا البعد في سائر أحواله ليكون قادرا على توجيه الخطاب الإسلامي المناسب إلى الغرب وإلى العالم كله.
ثالثا: إنها عالمية إسلامية منتظرة وحتمية الوقوع بإذنه تعالى، وحين نبدأ العمل لها من الآن فإننا نفعل ذلك (التزاما) بالمسئولية الخلافية ومسئولية الشهادة على الناس وليس (تفضلا) منا على الآخرين ولا يسعنا أن نضن بها أو نكتمها. وفي لتزامنا بمسئولياتنا أمام الله سبحانه تكمن حريتنا - وبخاصة نحن المسلمين- ورسالتنا العالمية سوف تخلصنا بذات الوقت من أزماتنا.

فما نفعله لغيرنا سوف ينعكس إيجابيا علينا، فقد قضى الله سبحانه أن نكون حملة رسالته والشهداء على الناس من بد رسله، فما نفعله للغير نجني ثماره في واقعنا، فإذا لم نبلغ رسالته - كما ينبغي أن نبلغ - ونوصل إلى الناس هداه كما يجب يبقى حالنا على ما هو عليه.

فهي علاقة أخذ وعطاء بين المولى الكريم وبين عباده المسلمين فلا ينبغي أن نستعلي بها على أحد أو من على أحد حين نقدم للناس عطاء الله سبحانه وليس لنا أن نستحوذ على غيرنا بعطائنا، بل علينا أن نعمل لتقبل كلمات الله منا

ولنا شهادة من نسقنا الحضاري حيث لم نستعبد أحدا ليبني الهياكل في المدينة المنورة، ولم نكره أحدا على ديننا، ولم نأت بغير رسالة التوحيد، ولم نوجد في الأرض تنابذا ونفيا وصراعا، بل استوعبنا سائر الأنساق الحضارية والثقافية، وبشكل لم يسبق له مثيل من قبل، ولم يأت بعده ما يشبهه، كما أشرنا غلى ذلك من قبل.

إن الحضارة الأوربية الغربية العالمية صارت شاملة، واستحكمت بعالميتها من اليابان وعبر الجمهوريات التي كانت تسمى سوفيتية ومرورا بأوروبا الغربية وامتدادا بثقافتها إلى كل من أمريكا الشمالية ثم أمريكا الجنوبية.

ومهمتنا نحن المسلمين رغم سوء أحوالنا وظروفنا أن ندخل وندخل الناس كافة في مرحلة الهدى ودين الحق. فأوربا وأمريكا - ونعني بهما حضارتهما المركزية الشاملة عالميا - تدرك من نفسها، ومن خلال دراسات وتحليلات فلاسفتها أنهل لن تستطيع إخراج نفسها ولا العالم من المأزق الذي هو فيه

لأنها تعاني المشكلات الجوهرية التالية:

أولا: إن الحضارة الغربية تتلمس المزيد من التقدم التكنولوجي الذي أعقب ثوريتها الصناعيتين الأولى والثانية، وتعاني في المقابل تدهورا اجتماعيا وحضاريا وقيميا لم تجد له حتى الآن علاجا، فالرقي التقني قابله انهيار إنساني. ولم تستطع الحضارة الغربية - حتى الآن - حل هذا الذي يبدو لها وكأنه لغز حضاري.
فالتقدم الحضاري المستوى على كل المجالات يجب أن يكون أفقيا ومتصاعدا، وبذات الوقت يفترض أن يتطور الإنسان بموجبه قيميا وأخلاقيا. كما تتطور تقنيته بقدر حاجته إلى ذلك التطور. غير أن الذي يحدث في الحضارة الغربية هو العكس تماما، العلوم تتقدم والإنسان ينهار، وقيمه تتلاشى، وعذابه ومآسيه تتزايد.
ثانيا: إن كل محاولات السيطرة على التاريخ لم تعد مجدية بالرغم من المحاولات المتفائلة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولي وما قبل الحرب العالمية الثانية، فالكل قد تفاءل وقتها بن عصور الحروب الكبرى قد ولت ولكن الحرب قد اندلعت، وتحول البشر فيها إلى وحوش ضارية، فما الذي يمنع حدوث ذلك من جديد وليس ثمة (منهج) للسيطرة على التاريخ كالمنهج الرباني؟ وكل ما يحدث هو تغير في آليات الصراع ووسائله وأدواته، أما الصراع واستلاب الإنسان فإنه مستمر دائم مهما تغيرت الآليات.
ثالثا: إن كل محاولات السيطرة على الإنسان في النظامين (الاشتراكي المقبور والرأسمالي القائم) استتبعها ويستتبعها (تمرد) الإنسان. فالإنسان في اطار الشمولية المادية يبحث عن قيمته الذاتية، فيرتد إلى قوميته، ويبحث عن ذاكرته الوجودية فيرجع إلى دينه. وذلك ما حدث في الاتحاد السوفيتي المقبور.
والإنسان في إطار الليبرالية والوضعية الغربية لا يحصل ولا تعطيه هذه الليبرالية سوى الفكر الانتقائي المجزأ والمبعثر، الذي يكرس كونه إنسانا ذا بعد واحد، فيبحث الإنسان عن ذاته فلا يجدها، فيفرغ ذاته في ذاته، انهماكا في الجزئيات، ثم يتأزم ويفارق كل شيء حتى جذره العائلي، فالحرية بلا مضمون، والإنسان بلا التزام بشيء، وبلا عائلة ينتمي إليها، وبلا شريك في الحياة يأوي إليه، وبلا ولد يفرغ عليه أبوته أو أمومته..
مارس حرية إلى حد الموت الذاتي، وإلى حد النفس المفككة، وإلى حد التردي والهلاك. ماركس تمنى الخبز فوجده، فرويد تمكنى الجنس فوجده، أنشتاين تمنى الطاقة فوجدها، داروين تمنى التطور فوجده، فماذا بعد ذلك؟ إنها العدمية، إنه اليأس، إنه العبث فالانتحار.
رابعا: النسق الحضاري القائم على الصراع وغلبة الأقوى وسيطرة الشركات الكبرى حتى على مستوى الإعلانات التافهة أمر يأخذ الإنسان الغربي باستلاب تام ليختار نموذج التعليم لابنه وطبيعة ما يأكل ويتذوق ويلبس ويمارس، ويتصرف تحت ضغط ذلك كله، وفي ظل العولمة وسيادة هذا النموذج أصبحت البشرية - كلها - تحت رحمة هذه المؤثرات. ولذلك شاع أن الإنسان حيوان إعلامي.

لو أردنا تقييم آلاف الصفحات فيما كتب ويكتب في هذه المجالات لفعلنا، فالشواهد لا تنقنا بحال من الأحوال، فإذا أتينا بهذه الشواهد ونسقناها فلسفيا سنكتشف المحددات الموضوعية التالية لأزمة الحضارة العالمية الراهنة:

أولا: اللاهوت الكنسي - بعد أن استلبه الموروق الهيليني والروماني - لم يعد قادرا على أن يمنح العقل الغربي رؤية كونية تتجاوز مفهوم الإله (المتجسد) ، فقضى اللاهوت الكنسي بذلك الوضع على نقاء التوحيد واستبدله بحلولية شركية، وقضى على المفهوم الكوني المتجاوز للطبيعة في الفكر الفلسفي، فأصبح الجهد العقلي الإنساني مقيدا غلى (موضعية) ضيقة، لأن مفهوم الألوهية – الله - (وهو أساس الكونية والعالمية) اختزل إلى مستوى (الشيء) الطبيعي. فاللاهوت نفسه يعد أحد أكبر مشكلات الفكر الغربي المعاصر.
ولهذا فإن العودة إلى الله - حين تتم بموجب هذا التوجه اللاهوتي - فإنه لم تتجاوز العودة إلى ما هو خارج الذات الضيقة، فالغائب الفلسفي في اللاهوت المسيحي هو (الله أكبر) الذي يمثل نقاء وصفاء مفهوم الألوهية والتوحيد ويقدم حلا لأزمة الحضارات والتعالي الإنساني والتحيز الحضاري.
ودلالة تكبير الله عميقة للغاية، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فحين ينتفي التوحيد أو التنزيه يصبح الإله (متجسدا) حالا في خلقه أو مشابها لهم أو متجسدا فيهم، والمدلول الحضاري لتجسد الإله يحمل دليل حاجته باعتباره ربا أو إلها (لاعتراف) الإنسان به، أي أنه يفتقر إلى الإنسان ولو من جل أن يمنحه حبه وولاءه، وليجسد الإنسان نفسه فيه طلبا لقوته - أي قوة الإله.
وحين يستغني الإنسان عن قوة الإله المتجسد ينفصل ويستقل عنه، ويتجاوز تعاليمه وشرائعه ويطغى، وهذا ما حدث في الحضارة الغربية، فقد صرف الإله عن الفعل والتأثير، ثم حين أراد العودة غلى موقعه في إطار أصوليتهم، طلبوا منه أن يعود بطريقتهم . فاللاهوت المسيحي هو أصل في الأزمة الحضارية الغربية. ولا يمكن حل هذه المشكلة الفكرية الكبرى إلا بتقديم مفهوم (الله الواحد - الله أكبر) أمام الحضارة الغربية.
فالله سبحانه إذ هو أكبر من كل زمان ومكان طبيعي لا يستلب لأي منهما ولو بقوة الفعل في الأشياء (كما فعل المسيح عليه السلام) بإذن ربه، ومن هنا يتم التفريق بين منهجية الخلق والتكوين الإلهي، ومنهجية جعل الأشياء جعلا وتحديد وظائفها. ولأن اللاهوت الكنسي لا يعرف التوحيد ولا يؤمن بأن (الله أكبر) لذلك فإن مفهوم الخلق - نفسه - اضطرب لديه، ومنهجية الخلق قد اضطربت كذلك.
ومن هنا أنتج الفكر الغربي فلسفات العلوم الطبيعية بالطريقة التي أنتجها بها، وهي طريقة مبتوتة مبتورة جعلت هذه الفلسفة غامضة مبهمة لا تكاد تدرك أو تفهم، بعد أن نفت عنصر الألوهية من حسابها واستبعدته أو تغافلت عنه، لقد خسرت الكثير من قدرات الامتداد فيها، وتجاوزت الجمود والتوقف.
ثانيا: العقل الطبيعي ثم العلمي - حين حاكم العقل الأول، أي الطبيعي الخارج من أسر اللاهوت الكنسي، ثم دعمه العقل الثاني، أي العلمي، بتوجهات وصلت إلى حد القطيعة المعرفية مع اللاهوت، تبنت (الثقافة الغربية) – ونركز هنا على عبارة (ثقافة) اتجاه القطيعة مع اللاهوت أو موقف (الحياد) منه.
فاستغل الماديون استدراجات القطيعة لتكريس مذهب يريد الله سبحانه في حين استغل الوضعيون استهواءات التحييد لجعل مفهوم الله سبحانه نسيا منسيا. وتلك هي الظاهرة الأولى في النتائج العكسية (السلبية والإيجابية معا)، للعقليين الأوربيين، الطبيعي والعلمي، أي: القطيعة مع اللاهوت المسيحي، ولكن الظاهرة الثانية، وهي التحييد هي الأخطر.
ثالثا: التفكيك والعجز عن التركيب - فبعد نمو العقليتين الطبيعية والعلمية في مواجهة اللاهوت المسيحي الضيق، اتجهت العقلية العلمية مزودة بقوة النقد والتحليل إلى البحث في (ما ورائيات) كل شيء بتحليل عميق، يرد كل المقولات إلى اصولها، اتساقا مع منطلق الحضارة الصناعية أي تحليل كل مادة إلى أولياتها وعناصرها امكونة لها.

وقد نجحت الحضارة الأوربية الغربية بشقيها الشرقي الذي تفكك والغربي الذي ينتظر، إلى أن توصلنا إلى (الغزو) الفضائي- وهو في مفهومنا الإسلامي تسخير إلهي وليس غزوا- ولكن ماذا بشأن التركيب...؟

قد صادفوا النجاح في فن التركيب - فيما يختص بالمادة الطاقة - ولكنهم عجزوا عن ذلك في الجوانب الإنسانية نتيجة ما أوردناه في الفقرتين (الأولى) ثم (الثانية) فعاشت الحياة الغربية، أو بالأحرى الحضارة الغربية المركزية، مشكلة التركيب. ثم تأتي بعد ذلك المسألة الأخطر في تركيب الحضارة الغربية الأوروبية وهي الخاصة بمشكلة (النسق الحضاري وبنائية التطور التاريخي والاجتماعي).

لتوضيح هذه النقطة المهمة نقول:

إن النسق الحضاري الغربي، كما أوضحنا تكوينه منذ اعتماده واستمداده التاريخي للمرحلتين الهيلنية والرومانية، كون ذاته على أساس الصراع والاستعلاء على الآخرين. فالنسق الحضاري الغربي تنابذي، يعتمد على سيطرة الأقوى، والتحكم في كل سيء بمنطق القوة لذلك تصعب فيه نشأة وممارسة الدعوات الأخلاقية إلا أن تكون فارغة من القوة

ذات الفعالية (الإصلاحية) فلك أن تدعو إلى الله سبحانه أو المسيح أو اي دين بما تشاء وكيف تشاء، ولكن ليس لك أن تتصرف اقتصاديا واجتماعيا بشكل يتناقض و "مصالح" المسيطرين، وكل الأشكال المغيرة لفلسفتهم الاقتصادية وفكرهم الاجتماعي تناقض مصالحهم حتما. ومن هنا استهدف النظام العالمي القديم ثم الجديد تذويب خصوصيات الأمم والشعوب الأخرى دون هوادة، والتدخل في ثقافتها ونظم تعليمها.

هنا تبدو القضية قضية (نسق حضاري) وليست قضية دين أو أخلاق أو تعاليم، فالغرب بمعنى النسق الحضاري الغربي، يسمح لك بالتكلم في الدين كما تشاء، ويحبذ لو تكون داعية للسيد المسي بالطريقة التي يراها هو، ولكن حين تتجاوز دعوتك قواعد هذا النظام المسيطرة فإن الأمر - آنذاك - يدرج في إطار (التعبئة السياسية المضادة والأصولية والتعصب والتطرف والإرهاب). إذن ، فماذا ينبغي علينا أن نفعل لإيجاد تفاعل بين عالمية الإسلام والغرب بقيادة أمريكا ومركزيتها بعد كل هذه المعطيات.

المشوار ليس سهلا، ولكنه ليس مستحيلا كذلك:

أولا: ليس سهلا، لأن الغرب يعيش الحالات والأزمات التي ذكرنا، ويبحث عن حلول ولكنه سيقاوم بشدة أي إصلاح قادم إليه خاصة من الإسلام والمسلمين، فذلك الإصلاح صادر عن فكر (ديني) وبصورة أخص هو صادر عن تفكير ديني إسلامي. فللغرب ميراث عقلي طبيعي وذاكرة تاريخية مشحونة بكل ما هو سلبي عن الإسلام والمسلمين، وله عقل علمي يقف ضد اللاهوت الديني وذاكرته التاريخية مترعة بعوامل الصراع مع الإسلام بالذات، وهو لا يفرق في ذلك العداء بين اللاهوت المسيحي ومصادره والقرآن العظيم إلا تفريقا شكليا.
ثانيا: إن نسق الغرب الحضاري لا يتقبل دعوات أخلاقية وقيمية تخل بنسقه المهيمن على مجتمعاته وعلى الشعوب المندرجة تحت نفوذه السياسي والاقتصادي خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث اعتبر انهياره شهادة صحة للنظام الليبرالي، وتأييدا لسلامة موقفه بدلا من أن ينظر إليه على أنه سقوط محاولة الإنقاذ الكبرى للنظام الليبرالي الرأسمالي وبقائه مكشوفا.
ثالثا: إن أي دعوة إصلاحية تصدر عن عالم المسلمين بالذات، يعتبرها الغرب، طبقا لخلفيات كل ما ذكرناه ولذاكرته التاريخية، صادرة عن طرف معاد، يجب عليه الوقوف ضدها وتحطيمها مهما بذلنا لإقناعه أو ادعاء التقرب إليه من جهود.

إذن ما العمل؟

رغم كل ما ذكرناه فإنه لا تزال هناك بعض المسالك المفتوحة، ومنها:

أولا: إن الحضارة الغربية تعيش أزمة حادة نتيجة التفكيك التحليلي والعجز عن التركيب . وبما أننا – وحدنا- في العالم المعاصر نملك بالقرآن المجيد - الكتاب الكوني - القدرة على التركيب عبر (المنهج المعرفي القرآني) فمهمتنا الأولية والأساسية جدا والضرورية جدا أن نمارس أقوى العلاقات مع مدارس لتحليل الغربي - ايا كانت اتجاهاتها وتوجهاتها - وهي مدارس تتسع قواعدها الفكرية والثقافية والفلسفية يوما بعد يوم، فهذه المدارس هي أهم بواباتنا لتحقيق الاتصال المعرفي بالغرب، لأننا - وحدنا وبالقرآن العظيم - نستطيع أن نمنحها قدرة التركيب من خلال (المنهج المعرفي القرآني) وهو ما ينقصها.
ثانيا: أن نمنح كل الطاقات الممكنة لحركة "أسلمة المعرفة" في مجالات توجيه العلوم الطبيعية وإعادة بناء العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإن تطور هذه العلوم في وحدتها الكونية سوف يشكل حافزا لمعظم الغربيين على الانفتاح على منهجنا أو اكتشافه أو الإفادة منه أو إدراك الفروق الجوهرية بين ما لدينا وبين اللاهوت الكنسي.
ثالثا: وذلك سوف يفتح الطريق أمامنا للوصول غلى الملأ الغربي والنخبة الغربية، والتحاور معها في إطار منهجي علمي لا نحتاج فيه إلا إلى التسلح بوعي مفاهيمي على القرآن المجيد وعطائه الذي لا ينفد وعجائبه التي لا تنقضي. وآنذاك سيكون المدخل الجديد للعالمية الإسلامية المرتقبة مدخلا معرفيا ومنهجيا يستطيع أن يتحدى عالميا وعلى مستوى السقف المعرفي والمنهجي العالمي الراهن.

ولا ينبغي أن نلجأ ونحن نحاول أن نشق طريقنا إلى العقل الغربي - إلى الدعاوي المثيرة للحساسيات أو أساليب الدعاة، ولكنها البحوث والدراسات العلمية التي تعالج قضايا العالم المعاصر وأزماته ومشكلاته انطلاقا من منهجية القرآن العظيم المعرفية، ومنهج الرسول عليه الصلاة والسلام في تطبيقها في الواقع.

وهنا لابد من الالتفات مرة أخرى إلى الحركات الدينية والداخل الإسلامي للنظر في ندى قدتها على تفهم هذا الدور الخطير، ثم مدى قدرتها- بعد ذلك- على ممارسته. إن الحركات الدينية وقد قامت تنظيماتها المختلفة انطلاقا من مشروعية دينية تراثية وتاريخية وثقافية قد شدت رؤيتها وأفكارها إلى الواقع التاريخي الإسلامي الغابر، فكأنها قد غادرت واقعها إليه، أو هي تغادر إليه عند كل أزمة على الأقل.

وحين يحدث أن تستدعي ذلك التراث إلى واقعها فإنها غالبا ما تستدعيه "بمنطق سكوني" لا يلتفت كثيرا إلى خصائص النص القرآني وبخاصة "إطلاقيته" فيضعه وكذلك نصوص السنة داخل الهياكل الأولية التي بناها الجيل الأول في إطار سقف معرفي ومنهجي وخصائص مرحلية محددة ووقائع تاريخية مغايرة ولم تأخذ حظها من التوثيق فضلا عن الدراسة والتحليل

ولا يحاول الخطاب الإسلامي المعاصر أن يقوم بعمليات تحليل لتلك الهياكل تساعده على دراستها من الداخل لفهم وتقدير التحولات الهائلة التي يمكن أن تطرأ على تلك الهياكل من خلال ا لتفاعل الإنساني وتغيرات الزمان والمكان وسنن التحول والصيرورة، ليستطيع أن يلتفت - بعد ذلك - إلى قيمة وحجم ومقدار تأثير التداخل بين المحلي والعالمي في سياق تفاعلي لا يعرف توقفا أو انقطاعا.

وإذا كانت الأزمة في دائرتها الغربية أزمة تفكيك عاجز عن التركيب لاستبعاد الله والوحي والغيب، فإن الأزمة في دائرتها الإسلامية تبدو واضحة في افتقاد منهجية للتعامل مع تراث ذي شمولية لها ما يبررها، لكنها تصطدم على الدوام " بمنطق سكوني" في تفسيره وتأويله يجعلها عاجزة عن استعمال مداخل التصديق والاسترجاع والاستيعاب والهيمنة القرآنية

وأخيرا التركيب المفتقد عالميا كمداخل منهاجية للتغيير، وإذ تعجز الحركات الإسلامية عن التغيير بمنهجية معرفية إسلامية فإنها تلجأ غلى العنف التكفيري، والتشبث بمعطيات الواقع التاريخي الإسلامي في امتداد الدعوة الأول، والإحالة على الغيب بعيدا عن منهجية الإسلام في التفاعل والجدل بين الغيب والإنسان والكون، أو التوثب إلى السلطة لإحداث التغيير بإسناد الحاكمية لله تعالى مع ولاية فقيه أو بدونها لمعرفة ماذا يصنع جل شأنه بعد أن يتم استرضاؤه- تنزه وتقدس وتبارك - بتطبيق التشريع الجنائي وإقامة الحدود.

وفي إطار هذا التبسيط المخل للإسلام والاختزال الكبير له تصاغ البرامج والمشاريع السياسية التي ترفع تلك اللافتات التي يؤكد صانعوها بكل المؤكدات الممكنة أنها تمثل الإسلام وتعبر عنه، وتنطق باسمه، وأن من قتل دونها فهو شهيد.

وقد بلغ العالم - كله - حد القناعة بأن الحركات والقوى الإسلامية تستهدف بالتغيير سائر أشكال الحكم وجميع الأنظمة، ومنها الأنظمة التي يعملون في نطاقها، أو يتلقون شيئا من العون منها ويتحركون داخل مشروعيتها السياسية بغض النظر عن استمدادها من الشرع أو الشارع، فالحركات تستهدف - في نظر الناس على الأقل- بالتغيير الأنظمة الليبرالية التعددية ذات المنحى الديمقراطي المتسع أو المقيد

وكذلك الأنظمة الاشتراكية ذات الطابع الشمولي والحزب الواحد - إن وجدت - ولا تتجاوز الأنظمة الملكية دستورية كانت أو مطلقة ولا الأنظمة الملفقة أو المركبة من ذلك كله، وذلك انطلاقا من شموليتها ومفاهيم الحاكمية والشرعية والشريعة لديها.

والحركات الدينية ترى نفسها الولى والأحق والأقرب إلى "الشرعية" ولذلك فهي أولى بالأمر من أية جهة كانت، وهي تحاول أن تخرج باستمرار سائر النظم والحركات الأخرى في تدينها وإسلامها، وهي لا تهاون ولا تهادن أية شمولية أخرى، فهي تناقض التعددية الليبرالية في مضمون "الحرية" وتصارع الأنظمة المختلفة، وتنفي عنها "الشرعية" لأنها لا ترى الشرعية إلا فيما تقيمه هي أو تنوي أن تقيمه من هياكل لم يتفق عليها، ولم تتضح بعد معالمها حتى في الأذهان التي تنظر لبعض هذه الحركات، أو ترسم لها سبلها.

ومن هنا تسمرت أنظار معظم هذه الحركات باتجاه السلطة في الدوائر الجغرافية التي تعيش فيها، وغفلت أو تغافلت عن مفاهيم "العالمية الإسلامية" فضلا عن التفكير في مناهج بلوغها، ومستلزماتها ووسائلها وأدواتها، وآثارها التي لابد أن تبرز في سائر جوانب الخطاب الإسلامي، وكذلك جوانب الحركة الفكرية والعملية.

وهي تظن أن أي نجاح تحققه في قطر محدد بالوصول إلى مقاليد الحكم فيه يمكن أن يتخذ قاعدة ومنطلقا- بعد ذلك- لبلوغ العالمية، هذا إن خطرت العالمية على البال، وذلك بعد استكمال مقومات القوة في ذلك القطر بحيث تسمح له بالانطلاق بالرسالة باتجاه العالم، وهو تفكير يتجاوز السنن والأسباب ويفتقر إلى مراجعات وتصويبات كثيرة ليستقيم وينسجم مع السنن الإلهية التي لا تقبل تحويلا ولا تبديلا.

إن الحركات الدينية قد تمثلت بعض أهداف إسلامية ولا شك، ولكن بوعي مفاهيمي محدد ولم تستطع بناء نموذج يربط بين تلك الأهداف وقوانين وسنن التحول والتغير في المجتمعات، ولذلك أخذت تقنع نفسها بعمليات "الاستقطاب الكمي" للأعضاء والامتداد الأفقي مستخدمة كل ما تيسر لها لتجميع القوة العددية، ومنها وسائل الدعوة

فالتغيير لا يزال في ذاكرتها مرتبطا بتكوين "الجماعة" ذات القوى العديدة، أما التعامل مع قوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية وقواعد وسنن التغيير والتحولات الفكرية والثقافية واتجاهاتها العالمية فذلك خارج عن دائرة تفكير الكثير منها. ولذلك فكثير منها يتعالى على لفكر والمعرفة ويجعلهما نقيضين للإيمان ويفترض بينهما فصاما قد يصل إلى حد التنافي والتعاند.

لا شك أن هذه الظاهرة في طريقها إلى الاختفاء أو التغير في اقل تقدير، وأن هناك محاولات كثيرة لتجاوز هذه المآزق والخروج من دائرة الأزمة، لكن تلك المحاولات لا تزال عاجزة عن إعطاء الدافعية المطلوبة للخروج من الأزمة، أو هي أقل من المطلوب بكثير. فمحاولات التجديد في "اصول الفقه" أو في "الفقه" أو بناء علوم معاصرة تحل محل "علم الكلام" " لن تحل" إشكالية الربط بين النص القاطع والواقع المتغير بسنن الصيرورة والزمان والمكان.

كما أن التسامح الفقهي وتجهيز الفتاوى باتجاه التشديد أو التيسير لإيجاد التوافق بين ما يعتبره البعض معطيات النص ومعطيات الواقع لن يفعل أكثر من توسيع دائرة الفكر الذرائعي والتبريري والتوفيقي.

وحين يبلغ الأمر هذه المرحلة تلوح فكرة السلطة كوميض برق أو كحل أو كمخرج من أزمة لم تستطع الوسائل والمناهج الفكرية أن تعالجها، فتصبح السلطة هدفا تكرس الجهود لبلوغه قبل بلوغه، وتكرس الجهود للمحافظة عليه بعد بلوغه، وما دام الفكر قد عجز فلم لا تجرب العصا؟ وذلك ما فعلته الحركات التي وصلت إلى السلطة.

إن "الخطاب الإلهي" إلى البشرية حتى في المراحل التي سبقت بعثة رسول الله صل الله عليه وسلم هو خطاب متحد ومعجز ، فلا يمكن أن يتقاصر عن تطور البشرية التاريخي، فإذا كانت البشرية تتقدم بخطى سريعة باتجاه العالمية فهل من الممكن أن يتراجع خطاب الرسالة الخاتمة إلى حال الإقليمية أو القومية، أو المجال الحيوي المحدد؟ لا يمكن ذلك، فالعالمية التي يتوحد البشر في إطارها على قيم مشتركة جامعة تقوم على الهدى ودين الحق هي أرضية التحرك، ولها شروطها وقوانينها ووسائلها لبناء قواعد التفكير الإنساني المشترك.

إن الإمام فخر الدين الرازي المتوفى عام (606هـ) نقل في تفسيره عن القفال قوله: إن تقسيم الفقهاء للأرض إلى "دار حرب، ودار إسلام، ودار عهد" لم يعد مقبولا، والأولى تقسيم الأرض كلها إلى "دار إسلام، ودار دعوة" أو "دار جباية ، ودار دعوة" . وأن تقسيم الناس إلى أمة مسلمة وأمم غير مسلمة يمكن أن يستبدل بتقسيم الناس إلى "أمة إجابة" وهم المسلمون وإلى "أمة دعوة" وهم غير المسلمين

وتفكير هؤلاء الأئمة بخاصة الشاشي الذي نقل رسالة الإمام الشافعي إلى الإمام ابن مهدي - وذلك يعني أنه من علماء القرن الثالث الهجري - أقرب إلى أصول الإسلام وألصق بأدلته، وأقرب إلى فهم العالمية وإدراكها من هؤلاء المعاصرين أو من قيادات تجهل أو تتجاهل "عالمية الإسلام" وتكرس الإسلام في مواقعها الجغرافية المستندة إلى الخصوصيات الإقليمية والتاريخية المغلقة.

ولا تزال في تكوينها الفكري والثقافي وبنائها النفسي تقسم الناس والأرض إلى " دار إسلام ، ودار حرب" وإلى شرق وشرقيين وغرب وغربيين. وفي داخل كل قطر تقسم الناس وتصنفهم أيضا غلى طوائف ومذاهب وأحزاب.

إن غياب هذا البعد بعد "العالمية" قد أدى إلى العديد من الإصابات الفكرية المنهجية في العقل المسلم، فلو استطاعت الحركات الدينية إدراك هذا البعد مبكرا لما نشأ فكر المقاربات وفكر المقارنات وفكر التجاوز دون استيعاب، وهي من أبرز السمات الأساسية للفكر الإسلامي في العقود الأخيرة.

عالميتنا وعالميتهم

لعل ما تقدم في الصفحات السابقة وخاصة تأكيدنا على بعد "عالمية الإسلام " وكيفية استعمالها محددا منهاجيا لتعديل كثير من الأفكار يثير في بعض الأذهان تساؤلا: أين هذا النداء - نداء التأكيد على "عالمية الإسلام" من نداءات الآخرين وتأكيداتهم على عالمية الحضارة المعاصرة ونسقها الفكري والثقافي؟ بل قد يرجح البعض الاستجابة لفكرة "العالمية" الصادرة عن الغرب على الاستجابة للتأكيد على "عالمية الإسلام".

وهناك نود أن نؤكد أن الفرق بين عالميتنا وعالميتهم كبير جدا. فليس كل من ادعى "العالمية" أو تكلم على بعض الأزمات من منطلق universal أو global أو international هو مناد "بالعالمية" كما نفهمها وندركها، بل معظم تلك النداءات أو كلها صادرة عن إيمان بمركزية الغرب ومركزية الرجل الأبيض صانع الحضارة والثقافة وحامل مشاعل التنوير والخلاص.

"فالعالمية" التي ننادي بها عالمية تؤمن بأن البشرية أسرة واحدة خلقت من نفس واحدة كلها لآدم وآدم من تراب، وأن الكون كله بيت للإنسان كله لا يحق لأحد أن يعبث في اي جزء منه فسادا أو يجعله ميدانا لتجارب الدمار والتخريب، وأن هداية هذه الأسرة الممتدة والضمانات التي تكفل لها العيش السعيد في بيتها الكوني اشتمل عليه كتاب كوني معادل للكون وحركته متجاوز للنسبي، مطلق في خصائصه

قادر على استيعاب حاجات كل جيل وتجاوزها ألا وهو "القرآن الكريم" فهذا الكتاب الكوني معادل للكون وحركته - هو وحده الذي يحمل القدرة على استيعاب تراث النبوات كلها، والتصديق عليه، واستيعاب التاريخ الإنساني، وتحديد مقاصده واستيعاب الحياة الإنسانية حتى اليوم الآخر، واستيعاب الأنساق الثقافية والحضارية، وتصحيح مسارها، فلذلك هو الذي يحقق "العالمية" بمعناها الحقيقي وليست الادعاءات الأخرى.

إن الفصائل اللادينية أو الدنيوية أو الدهرية العلمانية تحاول أن تنادي "بالعالمية" ولكن في إطار الدعوة إلى التبعية والاستسلام لمركزية أو عالمية الاستحواذ الغربي في إطار ما يعرف بـ" النظام العالمي الجديد"، وهي دعوة نقيض لدعوتنا إلى العالمية، وشعار مفارق ومغاير لشعارنا. إن دعوتهم تلك تمثل خضوع عقلية التقليد والتبعية ويأسها واستقالتها للاستسلام إلى عمليات الابتلاع والقضاء على الخصوصيات كلها.

إن "عالميتنا الإسلامية" عالمية تسعى لتوظيف هذه التوجهات التاريخية التي نجمت عن الثورات المتتالية التي شهدتها البشرية في القرون الأخيرة، وآخرها "ثورة المواصلات والاتصالات " وما سبقها وزامنها من ثورة تقنية جعلت العالم يسير بخطى حثيثة نحو عالمية ووحدة بشرية عضوية لم يعد الحديث عنها أو البحث عن أفضل الصيغ لها مستغربا.

فإذا تم توظيف هذه التوجهات، وإدراك كونها توجهات تولدت عن تطور تاريخي طويل... قطعت مشواره الأنساق الحضارية للإنسان منذ نشوء الحضارات القديمة وكأنها تعبير عن نزوع فطري لدى الإنسان كامن ينتظر الفرص المناسبة ليعبر عنه فكان الاتجاه العالمي في الإسلام تعبيرا صادقا عنه في الانطلاقة الإسلامية الأولى

وسرعان ما شملت عالمية الإسلام في انفتاحها الأول ما بين المحيطين الهادي شرقا والأطلسي غربا في الوسط من العالم، فألغت ثنائية الشرق والغرب التي كانت سائدة قبل الإسلام، واستوعبت بمنهجها المميز ونسقها الحضاري المتميز مختلف الحضارات والثقافات والأعراق، وتفاعلت بانفتاح عجيب مع ثقافاتها وأنظمتها الفكرية والفلسفية، فكان ذلك النتاج الحضاري الثقافي الهائل الذي مثلته الحضارة الإسلامية في كل شيء.

إن "عالمية الإسلام" وهي تحمل ذلك الرصيد التاريخي والتجارب المتميزة لا تخشى عملية الاستحواذ من قبل المركزية الغربية، لأنها تدرك أنها ليست بعالمية، بل مركزية ولذلك فإنها لن تؤدي إلى حالة اندماج توحد البشرية عضويا، فهي في هذه الناحية يغلب عليها القشر الخارجي لـ"فاست فود" و "الجينز" ونحوها.

أما على مستوى الأفكار والنظم فإنها تعاني من أزمات عميقة جدا - وإن اختلفت عن أزماتنا، فللتقدم أزماته وللتخلف أزماته. إن الحضارة الغربية نفسها بحاجة إلى إنقاذ، فهي تعيش حالة اضطراب شديد بعد أن فككت مقولات اللاهوت الديني، ومبادئ المعرفة العقلية القبلية الفطرية عبر مناهج العلوم الطبيعية التي فهمتها في الحدود السطحية للجدلية المادية والتطوراتية الداروينية والنفسانية الفرويدوية ونسبية أنشتاين. فالغرب إذا لم يستطع أن يمتد بمناهج العلوم الطبيعية نفسها غلى مداها الكوني ونهاياتها الفلسفية فإنه لن يجد المخرج السليم من أزماته.

إن "الحضارة الغربية" قد أطلقت مارد العلوم الطبيعية لكنها لم تستطيع أن تتعامل معه إلا في حدود فلسفاتها الوضعية القاصرة، ولذلك تتابعت أزماتها. لقد حاولت الماركسية أن تمنح الفكر الغربي نهاياته الفلسفية، لكن نسبة الأزمة في الماركسية كانت أكبر بكثير من نسبة الحل فتهاوت، وعادت الأزمة أقوى مما كانت. إن النسق الحضاري الغربي- بوضعه الحالى- لن يتمكن من مغادرة خندق الأزمة.

لقد عمت الأفراح ساحات الأنظمة الغربية الرأسمالية عندما انهار الاتحاد السوفيتي وأعلنت شهادة وفاته. واعتبرت ذلك انتصارا لفكرها ونهجها الليبرالي الرأسمالي الذي لولا أزماته لما قامت الماركسية وما علمت أن ذلك راجع غلى أن اي نهج وضعي يتجاوز الله والغيب لابد أن ينتهي إلى ذات النهاية

"وأن جدلية الإنسانية الممتدة إلى الغيب والطبيعة تصرع كل نظام لا يستجيب لصيرورتها أيا كانت طبيعة ذلك النظام سواء أكان نظاما لاهوتيا يتجاوز أو يتجاهل قوانين وسنن الطبيعة الكونية، أو لاهوتيا وضعيا انتقائيا يحول الإنسان إلى ترس في آلته الإنتاجية، أو لاهوتيا وضعيا مثاليا يجعل الإنسان موضوعا لآلية الزمان، أو لاهوتية دينية لا تلتفت إلى حقائق الدين ومداخله وأبعاده المنهاجية وحقائقه".

إن أزمات العالم اصبحت تتداخل، ومع تداخل الأزمات وتحولها إلى أزمات عالمية تصبح الحلول المطلوبة حلولا عالمية. ذلك أنه لم تعد أزمات أي بلد أو شعب أزمات محكومة بالعوامل الداخلية أو الذاتية وحدها، فالتداخل الاقتصادي والبيئي والاستراتيجي والسياسي والثقافي الذي نجم عن ثورة الاتصالات والمواصلات جعل من الخصوصيات والأنساق الحضارية الخاصة أجزاء صغيرة تتداخل في بناء كلي عالمي للمستقبل العالمي، أو يمنطق التفاعل الجدلي الذي لن يسمح ببقاء أي قطر أو شعب بمعزل عن التوجهات العالمية المندفعة بتفاعلاتها ومؤثراتها وتداخلها.

لقد كتب صموئيل هنتنجتن Samuel p huntingtion في مجلة foreing affairs صيف عام 1993م، دراسته أو رؤيته عن صراع الحضارات وتكهن أن العقود المقبلة ستشهد صراعا حضاريا سيكون المرحلة الأخيرة في نشوء وتطور الصراع في العالم الحديث. وأشار إلى الشعوب والحكومات اللاغربية التي لم تكن أكثر من أهداف كيف تحولت غلى محركة ومشكلة للتاريخ بجانب الغرب وأضاف إلى تكهناته.

أن العالم في المستقبل سوف يتم تشكيله من خلال تفاعل أو تصارع سبع حضارات: الحضارة الغربية، والكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والأرثوذكسية، والأمريكية اللاتينية، ومن الممكن أن تضم إليها الحضارة الإفريقية.

وقد قسم الحضارة الإسلامية إلى عربية وتركية وملايوية وتجاهل الفارسية والهندية، والشعوب الأخرى المنضوبة تحت الحضارة الإسلامية. كما قسم الحضارة الغربية إلى أوروبية وأمريكية. وأكد على جوهرية الخلاف بين الحضارات، كما أكد على اثر اختلاف الدين في جوهرية الصراع بين الحضارات والذي يجعل هذا النوع من الصراع- في نظره- أطول الصراعات وأكثرها عنفا.

وقد رصد في مقالته الهامة جملة مهمة من الظواهر الحضارية جديرة بالدراسة، لكن الذي فاته سذاجة أو قصورا هو نظرته إلى الإسلام وثقافته وحضارته التي تتسم بأنها نظرة استشراقية تقليدية. كما أن خلفيته الغربية وانتماءه إلى حضارة الصراع والتنابذ وربما انتماءه الديني حرمه من رؤية أي جانب من جوانب الحضارات والأديان والثقافات غير الجانب الصراعي التنابذي الذي هو محور ارتكاز الحضارة الغربية.

كما أنه - على ما يبد - قرأ خارطة الحضارات المذكورة، كما لو كنا في عام 1500م فلم يعط لثورة التقنية - وما أحدثته، ولا لثورة الاتصالات وما أفرزته - نصيبها في البحث والدراسة ليتبين آثارها.

كما أنه أغفل إلى حد كبير آثار العلوم الاقتصادية والبيئية رغم أنه أشار إشارة عابرة إليها، ولم يستطع الوقوف أمام دلالة عقد "قمة الأرض" لبحث مشكلات البيئة المشتركة أو الكون الذي يمثل البيت الإنساني المشترك. كما لم يستطع الوقوف أمام " النموذج الغربي العلماني" الذي يكاد يتحول إلى نموذج شامل للغرب تمتد آثاره في الأديان والثقافات والحضارات.

وقد ركز الكاتب على صدام الإسلام والغرب، وأعطى مؤشرات كثيرة حول كيفية كسب الغرب لمعركته المقبلة ضد حضارة الإسلام، وكيف يستقطب ضدها من الحلفاء من يعينه في كسب معركته الحضارية ضد الإسلام الذي لم يعرف الكاتب منه غير صورته الدينية التي استصحبها من مخزون الذاكرة الغربية الصراعي.

لا شك أن هذا النوع من التفكير والتحليل ليس بغريب على كاتب غربي مثله، لكنه لو أعطى العناصر - التي لم يولها عناية تذكر - ما تستحقه من البحث لخرج بنتائج مغايرة، ولأدرك أن كهانته قد تصح وقد تقع إذا لم يكتشف العالم أسسا سليمة لبناء تآلفه في إطار نسق حضاري منفتح لا منغلق، يشكل قطبا لا مركزا يقوم على قيم مشتركة، لا على قيم ذات خصوصية قومية أو إقليمية أو دينية، قيم تمثل ثوابت بالنسبة للبشرية كلها وجوامع تساعد على بناء سلام عالمي.

وقيم الهدى ودين الحق تطالب البشرية بالمعروف في فطرتها، وتنهاها عن المنكر الذي ترفضه فطرتها، وتحل لها الطيبات، وتحرم عليها الخبائث، وتضع عن البشرية إصرها والأغلال التي كانت عليها. فتجعل من الإنسان سيد هذا الكون والمستخلف فيه وتجعل من الكون بيتا للإنسان مسخرا له، وتدعو الناس - كل الناس - أن يلتزموا بتلك القيم ويدخلوا في السلم كافة، في حضارة تنظر للناس كلهم على أنهم لآدم وآدم من تراب وتستوعبهم جميعا.

وإذا تركنا هنتنجتن ومن إليه جانبا، ونظرنا في أطروحة جارودي الذي اطلع على الإسلام وأدرك أن هذه الخصائص فيه نجد أنه لم يتوقع صراعا بين الحضارات بل حوارا بينها يمهد للعالمية ويهيئ لها. فهو يؤكد في مستهل كتابه "حوار الحضارات" ص17 " أن ما اصطلح الباحثون على تسميته بـ " الغرب" إنما ولد في " ما بين النهرين" وفي "مصر" ويوجه لوما شديدا للغرب على جهله بمزايا وخصائص الحضارة الإسلامية خاصة، والحضارات الأخرى عامة.

ويحاول أن يدعو الغرب من خلال تجربته الذاتية إلى محاولة اكتشاف الخصائص الحضارية الإسلامية، وينوه إلى أن أزمته الذاتية الشخصية قبل اكتشافه الإسلام كأزمة الغرب، لأنها أزمة نابعة من انتمائه الحضاري الغربي

ولذلك فإن اكتشاف الغرب للإسلام كفيل بمعالجة أزماته، ثم يقدم دليلا عمليا لإحداث "ثورة ثقافية" على مستوى عالمي يتلخص بما يلي:

  1. أن تحتل الحضارات غير الغربية في الدراسات مكانة متساوية في الأهمية على الأقل لمكانة الثقافة الغربية، في جامعات الغرب ومدارسه وهذا – في نظرنا- أمر عزيز المنال، لكنه ليس بمستحيل.
  2. أن ينظر إلى الفكر الفلسفي نظرة جديدة ، وهو يعني بذلك أن لا يقلل من شأن الدراسات النظرية والفكرية والفلسفية المتعمقة لحساب الدراسات العملية والأدائية.

3#الاهتمام "بعلم الجمال" وإعطائه أهمية لا تقل عن أهمية العلوم التقنية.

  1. الاهتمام بالدراسات المستقبلية مع ربط مستمر لها بالتاريخ الإنساني.

لكن جارودي وأمثاله إذا كانوا قد عالجوا أزمتهم مع الفكر الغربي بالإسلام فإنهم لم يتمكنوا من معالجة أزمتهم الجديدة باعتبارهم مسلمين جددا "لم يرثوا الإسلام إرثا، بل جاؤوا إليه من نسق ثقافي حضاري مغاير" للتراث الإسلامي.

والذي يلاحظ أزمة هذا النوع من المسلمين - الذين يمثلون أوائل ثمار عالميتنا المرتقبة - مع تراثنا وتراثهم الجديد يشفق عليهم كثيرا، ويرى كيف تضمحل طاقاتهم بعد الإسلام حتى تتلاشى في بحر "تصوف غنوصي" قد لا يختلف كثيرا عما كانوا عليه قبل أن يكتشفوا الإسلام، وذلك لأنهم لم يستطيعوا من خلال ذلك التراث المتراكم أن يكتشفوا حقائق الإسلام وخصائصه العالمية بشكل شامل، ولا الفكر الإسلامي المعاصر المكبل بكل تلك القيود الموروثة عن عصر التدوين تمكن من أن يقدم لنفسه ولهم تلك الخصائص.

إن غالبية هؤلاء قد اكتشفوا الإسلام من خلال القرآن المجيد فاقتنعوا به وأدركوا أهميته لكنهم حين جاؤوا إلى التراث الذي جعل منه بعض المسلمين نصا موازيا بحجة أنه شرح للقرآن والسنة أو فهم لقيمتهما وجدوا فيه الكثير مما فروا منه، أو حاولوا مغادرته من إسقاطات تراث الأمم الأخرى، أو فهم عصور تاريخية غادرتها البشرية منذ قرون.

لقد نسي بعض المفكرين المسلمين والدعاة أن الإمام الشافعي بنى فقهه في بغداد، وكتب كتابه "الحجة" وقرأه وتلقاه عنه تلامذته البغداديون أحمد بن حنبل وأبو ثور والكرابيسي وسواهم، ولما غادر إلى مصر أعاد النظر في ذلك الفقه كله، وقال بخلاف أقواله تلك إلا ثلاث عشرة مسالة، وصار له فقه قديم وفقه جديد، وهو إنسان عاش خمسين عاما فقط مع أن الاختلاف بين النسقين الحضاريين البغدادي والقاهري لم يكن بالعمق الموجود الآن بين النسق الياباني والحجازي مثلا أو النجدي والأمريكي.

ومع ذلك فإن فقيه العصر يحاول أن يحمل المسلم اليوم بنى نسق حضاري جاء على فقه مدرسة الحجاز أو مدرسة الكوفة في القرن الثاني الهجري أو على فقه أهل الرأي وأهل الحديث في تلك الفترة، ويحاول أن يدخل الجمل في سم الخياط لا لشيء إلا لعدم إدراكه لما يعنيه ويستلزمه مفهوم "عالمية الإسلام" من قدرة على استيعاب الأنساق المختلفة في إطار ثوابت قيمية لا في إطار متغيرات فهم معتنقيه المتأثرة بعوامل لا تكاد تحصى.

إن مدخل "عالمية الإسلام" ليس شعارا نرفعه لنفخر به وننتشي بترديده، أو لنضيف به للإسلام فضيلة ليست فيه، بل هو مدخل منهاجي عظيم الأثر، كبير الخطر سيفرض علينا مراجعة تراثنا كله مراجعة دقيقة فاحصة وقراءته قراءة معرفية منهجية، لاكتشاف نماذجه، وإعادة تصنيفه ومحاكمته إلى القرآن المجيد ومنهجيته، والسنة ومنهجها في التنزيل على الواقع.

وهذا يحتاج إلى آلاف العقول الذكية المتنوعة الجادة المجتهدة، المستنيرة بمنهجية القرآن المعرفية ومنهجية السنة التطبيقية. كما يحتاج إلى مئات المؤسسات الجادة في سائر أنحاء الأرض. وآنذاك سنجد تراثا كثيرا في مختلف علومنا ومعارفنا لابد من استبداله، وتراثا مثله لابد من تصحيحه، وآخر لابد من تجديده، كذلك سنجد تراثا يمكن البناء عليه وتقويمه.

وقد يقول قائل: ولم كل هذا العناء؟ فنقول: إنه قدر هذه الأمة ومهمتها، ومقتضى مهمتها في الشهادة على الناس، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده والله سبحانه يولي إرسال الرسل لئلا يكون للناس عليه حجة: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى".(طه:134) وأكد جل شأنه أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث رسولا:" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا". (الإسراء: 15).

إن النبوة قد ختمت وهذا يعني أن هذه الأمة صارت هي المسئولة مجتمعة عن تعويض البشرية عن إرسال الأنبياء إليها، وعلماؤها ومفكروها هم "كأنبياء بني إسرائيل" كما في الأثر، فتجديد الرسالة، وحملها إلى الناس، والقيام بأمانة الشهادة ليس خيارا إسلاميا تستطيع الأمة أن تقوم به أو تتخلى عنه أو تتساهل فيه، وأجيالها مسؤولية باستمرار عن تجديد الخطاب الإسلامي، وجعله في متناول عقول وأفهام أمم الأرض كلها.

وإذا لم تؤد هذه الأمة هذا الواجب ولم تتوافر فيها هذه الصفات يصيبها ما يصيب الرسول الذي يتخلى عن مهمته أو أمته، ولم نعرف نبيا أو رسولا تخلى عن رسالته إلا ذلك الذي أشار إليه قول الله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون، ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون" (الأعراف : 175: 177).

ترى هل هذا الذل والهوان الذي تتمرغ فيه أمتنا في مختلف بقاع الأرض، لأنها أوتيت آيات الله فانسلخت منها؟ وهذا التفكك والتفسخ الذي نعايشه أهو ناجم عن استبدال الخروج إلى الناس بالرسالة والنموذج والمثل والقدوة بالخلود إلى الأرض والالتصاق بها؟

ولا نعرف نموذجا لنبي فر من قومه إلا نموذج يونس عليه السلام: "وإن يونس لمن المرسلين، إذ ابق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو ميلم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين" (الصافات: 139: 148).

فهل ما تعانيه أمتنا من سقم وأزمات دونها أزمة يونس في بطن الحوت لأنها تخلت عن البشرية؟ والعمل على هدايتها وترشيدها وإنارة عقولها وقلوبها بالهدى ودين الحق؟

إن دلالات ختم النبوة، ومفهوم الشهادة على الناس يشيران إلى هذا، والله أعلم. ترى لو أن هذه الأمة أدركت حقيقة دورها جوهر رسالتها هل كانت ستنصرف إلى ما تتخبط فيه حاليا من أوحال؟ ولو أن طلائع هذه الأمة من العلماء والمفكرين والجماعات والحركات والدعاة حدث لديهم الوعي على هذه المداخل هل كانوا انشغلوا بما هم منشغلون فيه عن هذه الرسالة وهذه المهمة؟

أما مدخل "حاكمية الكتاب" (وهو خاصية أخرى من خواص الرسالة الخاتمة) فهو مدخل آخر شديد الأهمية، لأن الإسلام رسالة خاتمة جاءت على فترة من الرسل وفي إطار جملة من السنن الإلهية الحاكمة، ومن بينها سنة الاستبدال: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (محمد: 38). ومنها: سنة التداول " وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران : 140).

والذين تم استبدالهم، أو جرى التداول معهم هم بنو إسرائيل الذين كانوا آخر الشعوب القومية الذين حملوا رسالة الله فانحرفوا عنها، ولم يفوا بشيء من متطلباتها، وحملوا التوراة ثم لم يحملوها، وقتلوا انبياءهم وتمردوا على أوامر الله ووصايا أنبيائهم بالرغم من تلك المزايا الحسية والتفضيل القومي الذي لم يحظ به أي شعب قبلهم.

ومن بين المزايا التي متعوا بها فلم يرعوها حق رعايتها، ولم يعرفوا قيمتها أنه سبحانه وتعالى اصطفاهم باعتبارهم شعبا، وفضلهم على جميع الشعوب المعاصرة لهم، وجعل من نفسه تبارك وتعالى حاكما عليهم يمنحهم كل ما يطلبونه من معجزات حسية مقابل انصياعهم وطاعتهم لله تعالى، والتي تصلهم من طريق أنبيائهم. وقد غرهم ذلك فزعموا لأنفسهم أنهم شعب الله المختار، ثم تزايد غرورهم فادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه.

ثم لجوا في تمردهم فطالبوه- جل شأنه- بأن يتجاوز حاكميته إليهم ليكلها إلى خلفاء له من أنبيائهم فجعل الله سبحانه فيهم داود خليفة نبيا، وسليمان ملكا نبيا، وكان جل شأنه يوجه داود وسليمان للحكم بينهم فيما يثيرون ثم لم يستريحوا لذلك ، فطالبوه- جل شأنه- بالتنحي عن حكمهم حيث أمرهم بدخول الأرض المقدسة: " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" فجعل لهم طالوت ملكا : " قالوا أني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال" (البقرة : 246- 247).

وشاءت إرادة ا لله – جل شأنه - إنهاء الحالة القومية الاصطفائية والتمهيد للعالمية الإنسانية الشاملة فاستبدل بني إسرائيل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتبدأ الإنسانية سيرها باتجاه العالمية انطلاقا من بناء الأمة القطب، واستبدل مفهوم الشعب بمفهوم "الأمة" والرسول القومي بالرسول المبعوث رحمة للعالمين، وهنا تم نسخ جملة ما كان مرتبطا بالحالة القومية والاصطفائية المحدودة.

  1. نسخت القومية بالأمة المتداخلة القادرة على استيعاب الشعوب والقوميات والأديان مهما تعددت.
  2. نسخت النبوة الخاصة بالرسالة العامة الشاملة.
  3. نسخت حالة التشريع الإلهي واستبدال التشريع المرتبط بالعقاب "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" (النساء: 160). بالتشريع لحكمة وعلة ومقاصد تعود إلى مصالح الناس أنفسهم.
  4. نسخت القبلة وحولت من التوجه إلى الأرض المقدسة إلى الأرض المحرمة.
  5. نسخت شرائع الإصر والأغلال إلى شريعة التخفيف والرحمة ورفع الحرج.
  6. نسخت العقوبات الدنيوية العامة المعجلة التي كانت تصيب بني إسرائيل بسبب المعاصي إلى العقاب الأخروي إلا في جرائم محدودة، وفي ظروف وضوابط محددة.
  7. نسخت الحاكمية الإلهية الدنيوية المباشرة، أو بالواسطة بحاكمية الكتاب الكريم.

وهنا لابد من التنبيه إلى أن الحاكمية الإلهية المباشرة لبني إسرائيل اقترنت بعطاء إلهي خارق للعادة يستجيب لهم في كل ما يطلبون. فقد كانوا يمثلون حالة ومرحلة بشرية يرتبط وعي الانساق فيها بحواسه أكثر مما يرتبط بأي شيء آخر، وعلاقته بالله تقوى أو تضعف تبعا لانبهاره الحسي بما يقدمه الله تعالى له.

فهو يعرفه رب الجنود، الصانع للخوارق والمعجزات المادية، والقادر على ما لا يقدر عليه الإنسان من تصرف في قوى الطبيعة، ولذلك رأوا ش البحر، وانبجاس الماء من الصخر ليستقوا بحسب قبائلهم وأسباطهم "قد علم كل أناس مشربهم" (البقرة: 60) وأنزل عليهم المن والسلوى، وأحيا لهم الميت القتيل بضربه بجزء من لحم بقرة تشبه في لونها الأصفر عجلهم الذهبي اذلي عبدوه، وأتاهم موسى بالألواح.

مقابل هذا العطاء الخارق والمعجزات الحسية، فلابد أن تكون هناك عقوبات حسية غليظة عند الانحراف فكان المسخ إلى قردة وخنازير، وشق الجبل وتهديدهم به حتى يظنوا أنه واقع بهم، وصعقهم حتى الموت، وحملهم على دخول الأرض المقدسة.

وحين شاء- جل شأنه- نسخ تلك الحالة بكل ما فيها وبجميع مواصفاتها كان من بين ما نسخ المفهوم الإسرائيلي للحاكمية الإلهية لتستبدل بحاكمية القرآن العظيم يقرأه البشر ويفهمونه باعتباره مصدرا وحيدا منشئا للأحكام، ويرجعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارها المصدر الوحيد منشئا للأحكام، ويرجعون لسنة رسول الله الله صلى الله عليه وسلم باعتبارها المصدر الوحيد المبين للقرآن على سبيل الإلزام

وذلك لمعرف منهجيته عليه الصلاة والسلام في تنزيل أحكام القرآن على الواقع وفهمه، وتحليل النص وإدراك معانيه في ضوء إدراك دقيق لبنائية القرآن المجيد ووحدته البيانية، وكونه المعادل للكون، والمشتمل علت منهجية معرفية أشبه ما تكون بسنن الكون الحاكمة فيه، والضابطة لحركته، وهذا - أيضا - جعل الإنسان هو المحور، وجهده هو الأساس في مجال التطبيق فهو القارئ للقرآن وهو القارئ للكون كذلك، لتصبح حاكمية للكتاب بفهم وتطبيق إنسانيين بشريين، للمجتهد المصيب أجران وللمخطئ أجر.

ويبدو أنه قد عز على بعض المسلمين أن يفوتهم بنو إسرائيل بذلك القيد فأخذوا من تراث بني إسرائيل ما شاءوا ، ومن إسقاطات التلمود والتوراة كل ما أمكن ليثبتوا أن حاكمية الله – تعالى - قائمة فيهم، كما كانت في بني إسرائيل . ولم يدرك الكثيرون الفرق بين حاكمية الكتاب ودور الإنسان فيها والحاكمية الإلهية التي يكون الإنسان فيها منفعلا ومحكوما عليه فقط.

وهكذا أعطى البعض لأنفسهم صلاحية توقيع الأحكام عن رب العالمين وتوكيد كثير من شرائع الإصر والأغلال، وصلاحية تجاهل نسخ حالة بني إسرائيل جملة وتفصيلا ليؤكدوا " أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ" ولتصبح هذه قواعد بعض علمائنا الأصولية التي ندرسها في أصول الفقه ناسين أن الله – تعالى - قد طلب من بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله

ومن جاء بعدهم الانضواء تحت لواء القرآن، والانتماء إلى أمة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم، ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير، ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، أ تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" (البقرة:104- 108).

أما بعد شرعة التخفيف والرحمة فلنا إليه عودة لتفصيله ، وبيان ما في هذه الخاصية العظيمة، وكيف يمكن أن تسهم في بناء الخطاب الإسلامي القادر على استيعاب الحضارات والأنساق الحضارية وتجاوزها من مداخل التصديق والهيمنة، وذلك بعد تناول " منهجية الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون".

المبحث الثاني: بعض الأبعاد الغائبة

منذ أن خلق الله آدم وعلمه الأسماء، واستخلفه في الأرض والتاريخ الإنساني سائر نحو غايته التي رسمها الباري جل شأنه. والناس صنفان : صنف ينطلق في ممارسة دوره في الحياة من تعاليم الأنبياء ورسالات المرسلين، وصنف ينطلق من أوهامه أو أفكاره أو شهواته ورغباته أو رؤية آبائه وأجداده:

الصنف الأول: يرى التاريخ نتاج تفاعل مبارك بين الله والأنبياء والكون والإنسان.

والثاني: يرى التاريخ صراع بين الإنسان والطبيعة ويتجاهل أو ينكر أو يجحد الدور الإلهي أو يتجاوزه، أو يتخذ مما يشتهي آلهة زائفة يحاول أن يسند إليها دورا لا يعرفه ولا تعرفه، وما كان لها أن تمارسه ولا تستطيعه.

ولذلك كان "الدين الحق" الدين الخالص

"ضرورة لا غنى عنها لتصحيح منطلقات الإنسان، وبناء رؤيته، وتطمين قلقه، وإعطائه الجواب الصحيح عن الأسئلة الضرورية النهائية التي لا يستقيم عقله ولا يستقر وجدانه دون الوصول إلى الجواب الصحيح عنها وليس من شك في أن الانطلاق من الدين باعتباره أساسا للفكر والممارسة معا، وفي مختلف جوانب الحياة، هو ركيزة المسلم الأولى، ومنطلقه الأساسي
لأن الدين منهاج وشرعة شاملان، يعني بقضايا الإنسان وبالمصير الإنساني في كليته، ولهذا أنزل الله تعالى القرآن نصا مطلقا محفوظا معصوما يتسع لكافة قضايا الوجود وحركته، على مستوى الكون الطبيعي المسخر وعلى مستوى الإنسان المستخلف معا، فهو كلام الله تعالى والكتاب الشامل المحيط، الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: " يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" (النحل: 89).

الشهادة والشهود: فربط الله بين كلية الكتاب وإحاطته بكل شيء " تبيانا لكل شيء" الآية، ومسئولية الشهود "شهيدا على هؤلاء" ومد الله نطاق الشهادة والشهود من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة:" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة: 143).

فمن شهادة الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم إلى شهادة "الأمة الوسط القطب" التي لا تجتمع على اله، والمؤهلة في طبيعة نسقها الحضاري لتتسع للعالم كله بد ذلك، فالله سبحانه وتعالى بالغ أمره وهداه الديني إلى الناس كافة: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" (الصف: 9).

والشهود: حضور مسئول بالوعي وبالفعل معا أو بتلازمهما، في الواقع التطبيقي ولكل واقع تطبيقي خصائصه الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والمركبة بدورها على نسق حضاري محدد من جهة، وعلى نسق محدد في الرؤية والتصور ومناهج العلم ومنطلقات البحوث من جهة أخرى.

والقرآن الكريم - وحده - بحكم كونه نصا إلهيا مطلقا، هو القادر على استيعاب وتصويب مختلف مناهج العلوم النقلية والعقلية الطبيعية والاجتماعية والإنسانية وغيرها، وتقويمها كذلك، وهو وحده بحكم عالمية رسالته: القادر على استيعاب مختلف الأنساق الحضارية وتصويبها وتقويمها. فجمع الله سبحانه وتعالى لنا في ديننا القدرة على استيعاب مشكلات الأزمات الحضارية للإنسان والمشكلات المنهجية في علومه لإعادة صياغتها واستيعابها وفق الهدى ودين الحق.

فمسؤوليتنا في الشهود أكبر مما هو " حاضر" في أذهاننا وتصوراتنا وممارساتنا وهي "غائبة" نكتشفها من خلال "التقييم النقدي" لتطبيقاتنا الراهنة وممارساتنا قياسا إلى الأهداف المناطة بنا بحكم الشهود على الناس الذي حدد علة لجعلنا أمة وسطا، وهي الأهداف المحددة بغاية التنزيل المجيد: " الر تاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" (إبراهيم: 1) . وليس المهم أن لا يكون هناك أبعاد غائبة، بل المهم أن تكون محدودة، وأن نكون قادرين على الكشف عنها.

فالغاية تمضي بإذن الله وإرادته بنا إلى صراط التوحيد المستقيم الذي يجعلنا قادر على بناء أنفسنا وتأهيل أمتنا لإخراج أمم الأرض وشعوبها من الظلمات إلى النور بحيث تستطيع تجاوز قصور المناهج العلمية المنبتة عن الله وترديها الوضعي الذي يجعل منها مجرد علم بظاهر الحياة الدنيا وفلكياتها الجزئية، وكذلك تفكك الشخصية الإنسانية، وانحلاها وقصور العقل الإنساني ومحدوديته ونسبيته.

وعجزه عن تجاوز أزماته فالظلمات الحضارية المعاصرة "ظلمات مركبة" وليست بسيطة إذ تمتد لتشمل مناهج الحضارات، ومناهج ومعطيات العلم معا فتتراكم الخبرات السلبية لنا وللعالمية الغربية المعاصرة بعضها فوق بعض مما يقتضي وعيا عميقا ومتسعا بذات الوقت للتعامل مع هذه الظلمات المركبة، وإلا فإننا في أحسن أحوالنا سنبدأ من حيث انتهى الغرب إلى حيرته هذه التي يتخبط الآن فيها: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" (النور: 40).

إن مقابل مركب الظلمات مركب النور الذي يهدي الله له من يشاء: "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم "(النور: 35).

ولذلك فإننا لن نكون قادرين على معالجة أزماتنا ولا أزمات غيرنا إلا بهذا القرآن شريطة أن نتقن القراءة ونحسنها، ونؤهل بالتطهير والتزكي بكل أنواعهما لمس معاني القرآن والتهيؤ لتلقي ساطع أنواره، فالقرآن قول ثقيل يكون شفاءا ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا.

أولا ضرورة الوعي الشامل

إن قضية "الإصلاح والتغيير" قضية مركبة وليست بسيطة، وعالمية، ولم تعد إقليمية، واتساقية تتطلب وعيا بشريا مركبا بمستواها، وهذا الوعي المركب لا يكون بالمستوى المركب الفاعل إلا "منهجيا" يأخذ بأبعاد الظلمات كلها: الظلمات الحضارية والعلمية - معا - على مستوى التنظير والتطبيق، بشكل ينفذ عميقا إلى فهم خصائص الواقع المتغير

والعوامل الفاعلة في تغييره، والمحدثة لانحرافاته أو أزماته، وذلك بغية معالجتها بمنهج كلي بعيد عن الأحادية والجزئية والمحدودية والقصور. وهذا شرط أولي لابد لجميع العاملين في حقول الإصلاح والتغيير الاجتماعي من فهمه وإدراكه.

ثانيا: عالمية الأزمة تستدعي عالمية الحل

وبما أن العوامل الفاعلة في متغيرات الواقع ليست محصورة (في مستوياتها الفكرية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية) بالخصوصية الجغرافية للمجتمعات المسلمة المعاصرة أي ليست مجرد عوامل محلية ولكنها جزء وانعكاس لأزمة عالمية بحكم التداخل المعاصر الشامل بين مختلف الأمم والشعوب نتيجة ثورة المواصلات والاتصالات المعاصرة لذلك فإن استيعاب هذه العوامل المؤثرة عالميا

والواردة إلينا عبر تداخلنا مع أنساق الحضارات الأخرى، ومناهج العلوم المختلفة، يعتبر من المداخل الضرورية في فهمنا لما يحدث في واقعنا نفسه، فتلك المناهج والأنساق الحضارية لم تنتقل إلينا في شكل أنظمة الحكم والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل إنها أسهمت وتسهم في تشكيل عقليتنا على نماذجها لتنتهي بنا إلى ضوابط نسقها الحضاري والمعرفي

فكل نموذج معرفي قابل لأن يعمم على الآخر عبر ما يسمى عادة " بالغزو الفكري أو الغزو المؤسساتي" ، خصوصا حين نكون في موقع الضعف أو الهامش من مركزية حضارية متنفذة طاغية بنسقها الحضاري والمعرفي على مستوى عالمي، وبوسائلها الإعلامية والاتصالية الحبارة المنتشرة القاهرة.

ثالثا: نشأة فكر المقاربات والمقارنات

نتيجة لما تقدم كان من الطبيعي أن تتولد لدينا إحدى قابليتين: قابلية الانتماء للمنتصر أو المتغلب كما يقول ابن خلدون، أو تتولد لدينا حالات الرفض السلبي، فحالة قابلية الانتماء للمتغلب تبدأ بفكر "المقاربات" حيث تنزع الأمة المغلوبة إلى البحث عن صلات قربى مع فكر الغالب لأسباب عديدة

وقد مررنا بهذه الحالة حين أخذنا نقارب الديمقراطية الغربية بالشورى الإسلامية مثلا متناسين بذلك فوارق النموذج المعرفي والحضاري وآثارها في الفرق بين الديمقراطية ذات الجذر الفردي الليبرالي والقائمة على تقنين الصراع، وبين الشورى الإسلامية القائمة على وحدة الجماعة ونبذ الصراع

وكذلك حين صرنا نقارب الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية متناسين الجذر الطبقي للاشتراكية كتدافع بين البشر، والجذر الإسلامي للعدالة الاجتماعية وفق ضوابط التوزيع للثروة بين الفرد والجماعة بأحكام الزكاة والمواريث ومنع الاكتناز.

وهناك مقاربات أخرى كثيرة قمنا بها في مجالات فكرية ومعرفية وفي نظم الحياة لا يتسع المجال لذكرها، وهذا كله ناتج عن تأثرنا بنسق حضاري معرفي متداخل في وعينا وثقافتنا بحكم الهيمنة العالمية لذلك النسق.

كما أن هناك من لجأ إلى الرفض السلبي للنسق الحضاري القائم عبر الاكتفاء بالمقارنات بين ما لدينا وما لديهم فبالغ في تمجيد ما لدينا على الجملة واعتبره الصورة المثالية بحيث طغى هذا التمجيد الذاتي بطريقة دفاعية على تناول ما لدينا من تراث بالنقد والتحليل للكشف عن ضعفه وجوانب قصوره

ففهمنا وقراءتنا لم تبلغ من القوة - في الحقيقة - حد القدرة على تجاوز أزماته وإلا لكنا في وضع أفضل في مقابلة الحضارة المركزية المتغلبة ولم نكن في موقع الهامش الذي نتمرغ فيه الآن؟ كما أن الانطلاق من تلك المقارنات قد أوجد حالة غفلة عن حجم التداخل الحاصل بين الأنساق المعرفية والحضارية في عصرنا هذا.

وقد سبق لي أن شرحت بعض هذه الظواهر الفكرية في محاضرة نشرت بعنوان: "إصلاح الفكر الإسلامي: بين القدرات والعقبات" وكلاهما قد طبع عدة طبعات في المعهد العالمي للفكر الإسلامي وغيره.

إذن فالقضية معقدة ومركبة، تتناول مناهج المعرفة كما تتناول الأنساق الحضارية، وتتجاوز المحلية إلى العالمية، ولهذا فإننا نحتاج إلى مراكز بحث ومعاهد وجامعات تتناول بالبحث العلمي والنسقي الحضاري وفي إطار العالمية المتداخلة والمتفاعلة هذه القضايا، لا لتقوم هذه المؤسسات بالتبشير بالمبادئ الأساسية للإسلام في العالم - على أهمية ذلك

ولكن للكشف عن المنهجية الإسلامية القادرة على مساعدة العقل المسلم على تجاوز أزماته، وإعادة بنائه وإعادة تشكيله، وفق رؤية محددة للنظام المعرفي الإسلامي، والمنهجية القائمة على الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون ومناهج تعامل منهجية ومعرفية مع كل من الكتاب الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامي والتراث الإنساني.

رابعا: الحاجة إلى المنهجية

ليس ما ندعو إليه ونعمل لتحقيقه مجرد التأكيد على وجوب تمسك الإنسان بالمبادئ الأساسية الإسلامية وإن كان ذلك مهما ولا شك، بلا لابد من الأخذ بمنهجية قادرة على مستوى عالمي، على التحرك في الواقع والتأثير في مناهج العلوم والأنساق الثقافية والحضارية فهذا هو "الغائب الأول" فعلا.

أما العقيدة فهي بحمد الله راسخة في القلوب، ثابتة في النفوس، فالكل معلن بشهادة التوحيد، متقبل لما هو معلوم من الدين بالضرورة. كما أن مبادئ الإسلام على مستوى العبادات والمعاملات والسياسات الشرعية مقررة وواضحة في العديد من المراجع والمصادر.

وكذلك أركان العقيدة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره موضع اتفاق لدى الجميع. فلو أردنا الاقتصار على المحافظة على ظاهر ما لدينا لما كان ثمة مبرر لعقد لقاءات وندوات،ولا كان ثمة مبرر لقيام كثير من المؤسسات، ولكنه البعد المنهجي الذي لابد أن تتجه الجهود إليه وبه يبغي أن تقاس الحاجة والإنجاز كذلك لتكتشف الأبعاد الغائبة، وليتم تفعيل العقيدة والشريعة والقيم والمقاصد.

خامسا: هل يمثل وصول الإسلاميين إلى السلطة حلا أو منهجا

لا يمكن أن يكون الوثوب إلى السلطة – وحده - حلا لمشكلات هذه الأمة، ولا يمكن أن يكون هو المنهج المطلوب لإصلاحها، إذ يكون المطلوب وقتها هو الوصول إلى السلطة فقط لتطبيق ما لدينا من تراث فقهي على الناس - كان مطبقا قبل سقوط الخلافة العثمانية ولم يحمها مما صارت إليه، ولم تحل سائر المشكلات، ولا علت كلمة الله بذلك وحده في أي دور من أدوار التاريخ

وادعاء ذلك تبسيط مخل للأمور من جميع نواحيها، فإن مجلة الأحكام العدلية كانت هي مجمع قوانين وأنظمة الدولة العثمانية، ومع ذلك فإنها لم توقف النتيجة التي آلت إليها، وهي التفكك والتلاشي في دول قطرية هزيلة ضعيفة.

وقد يكون هذا التصور – على بساطته - صحيحا لو أن أزماتنا قد بدأت عند سقوط الخلافة العثمانية، واجتياح الاستعمار الأوربي المتعدد الجنسيات لديار المسلمين فقط، غير أن أزماتنا قد بدأت قبل ذلك بكثير، وفي ظل أشكال مختلفة من الأنظمة الإسلامية، وما كان ذلك الغزو الفرنجي والتتاري المتزامن م الغرب والشرق، قبل سبعة قرون تقريبا

وإخراجنا اللاحق من الأندلس قبل ما يزيد عن خمسة قرون، وما انتهت إليه مختلف قضايانا، ومنها قضية فلسطين وأفغانستان إلا نتيجة لأزمات خانقة انهارت بنا من داخلنا، وفي ظل إسلامية - خلافة كانت أو سلطنة- فلا يمكن أن يكون العودة إلى السلطة - وحدها - مقدمة للإصلاح، ولكن ذلك الإصلاح المنشود يجب أن يبدأ بمعالجة أسباب الخلل المختلفة التي أدت إلى الغثائية والوهن، لتكون تلك المعالجة مقدمة ضرورية للإصلاح.

وأسباب الخلل ترجع أولا إلى الفكر والممارسة، وفقد التدين أكثر من فقه الدين ونقصد بذلك ما لا يتعلق بأصل الوحي من الكتاب والسنة الصحيحة، فالخلل ليس في الدين - أو أصوله الموحاة - كما يرى اللادينيون - بل هي في فقه التدين به وممارسته وتطبيقه وتنزيله على الواقع من قبل البشر.

لقد كتب الناس كثيرا حول الموجبات الدافعة لصعود المسلمين، ولكنهم قل أن كتبوا بعمق في أسباب التدهور والانهيار إذا يكتفى معظمهم بالنتيجة المتسقة القائلة: إن المسلمين قد تدهوروا ، لأنهم فارقوا شرع الله، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

والقول صحيح وصحيح جدا، ولكن كيف نفهم صلح به أولها ثم نطبقه على آخرها؟ كيف نحوله إلى منهج قابل للتطبيق على الواقع المتغير الراهن؟ هذه هي التساؤلات التي يدخل جوابها في دوائر "السهل الممتنع" فإن أولها قد صلح بخاتم النبيين، والكتاب الحاكم، وشريعة التخفيف والرحمة.

سادسا: توضيح ما صلح به أول الأمة

إن أول هذه الأمة قد صلح بأمور ومحدودات منهجية استمدت من خصائص كتاب الله تعالى وتطبيقه لهدايته وتنزيل لأحكامه على واقع قاده هدي نبوي دقيق محيط بخصائص الرسالة وجوانب الواقع، ومحددات المنهج ومنها: عالمية الخطاب، وحاكمية الكتاب المهيمن، والنبوة الخاتمة، وشريعة التخفيف والرحمة، والقلوب المؤلفة بإذنه تعالى

وقد كان ذلك كله قد ارتبط بأمر إلهي، وتقدير غيبي رباني في مكانه وزمانه، فألف الله - سبحانه - بين قلوب لم تكن لتأتلف: " وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" (الأنفال:63).

وجعل النبوة خاتمة فلا نبوة بعدها ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما" (الأحزاب: 40). وجعل الكتاب مهيمنا فلا رسالة بعده ولا شيء قبله أو بعده يهيمن عليه "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه" (المائدة:48).

وجعل الشريعة شريعة تخفيف ورحمة: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (الحج:87)، "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف:157).

فما صلح به أول هذه الأمور كان أمرا إلهيا بتقدير محكم من العزيز الحكيم في زمانه ومكانه وآياته، فليس من بعد ذلك رسالة أخرى ولا نبوة جديدة، ولا تأليف بقدرة الله الغيبية المباشرة للقلوب، بلا لابد من إيجاد وسائل ودوافع للتأليف، فقد كانت تلك دفعة إليهة معصومة موجهة بالوحي، لها خصائصها

واستمرت لتملأ زمانا امتد لعدة قرون، ولتملأ مكانا امتد ما بين المحيطين الأطلسي غربا والهادي شرقا: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا به وهو العزيز الحكيم" (الجمعة:2-3).

سابعا: الحذر من القياسات الخاطئة

فقياس بعض الحركات والأحزاب أنفسها على تلك المرحلة دون ملاحظة لتلك الخصائص والفوارق ومحاولة استنزال ذات النتائج التي تحققت للجماعة المؤمنة الأولى يحتاج إلى كثير من المراجعة والتصحيح لتستقيم رؤيتها، ويتحقق التواصل مع تلك المرحلة بدلا من محاولة إعادة إنتاج ما حدث فيها من وقائع فذلك محال، لأن التاريخ لا يعيد نفسه، كما قد يتوهم البعض، بل هو صيرورة سائرة باتجاه غايتها التي رسمها العزيز العليم.

إذن فكيف توقف العطاء لدى هذه الأمة، ولماذا كان الانقطاع عن التواصل مع تلك الدفعة الإلهية بفعل بشري حضاري وتوقع توفيق إلهي؟ الأمر ا لذي انتهى إلى الانهيار رغم وجود الخلافة الإسلامية، وبالرغم من عدم وجود مراكز عالمية أخرى منافسة في تلك الفترات التاريخية السابقة كالمراكز والقوى القائمة؟ ذلك - كله - في حاجة إلى التأمل والدراسات المعمقة.

ثامنا: الدنيويون والإصلاح

وهناك فريق أخرى غاب عنه بعض ما كنا نعتبره بديهيا ولا يسع متأملا إنكاره. وهذا الغائب نلحظه فيما بدا للبعض من (الدنيويين) أن الغيب يجب أن يستبعد من شئون الحياة، وكأن القرآن - عند هؤلاء - قد استنفذ أغراضه فلم يعد فيه جديد، وأن السنة قد استهلكت فليس فيه من مزيد على الفهم الفقهي، وأن طاقة الحامل الإنساني لهما قد تبددت فليس من تمديد أو تجديد لها فتولدت عن هذا التصور ثلاثية نقيضة لثلاثية الدفع الإلهي أدت إلى مزيد من التدهور والانهيار.

فعلى النقيض من "القلوب المؤلفة" سادت ظواهر التجزئة والانقسام على أسس مختلفة عشائرية وإقليمية وقطرية وعرقية، مذهبية وطائفية، فتعددت الفرق والأحزاب والحركات، وأصبحنا أمما يدافع بعضها بعضا، ويكفر بعضها بعضا

كل يدعي أنه أربى من الآخر بما يملكه من حق أو قوة أو قدرة على الاستيلاء: " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكن يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون" (النحل:93).فنحن لم نتراجع عن عالمية الإسلام ووحدة الأمة فحسب، بل تفككنا إلى مستوى الجزئيات المتصارعة المتناقضة.

وعلى النقيض من حاكمية الكتاب وحجية السنة الصحيحة في إطار كلي وشامل للوحي، قرآنا وتطبيقا، تناولنا الآيات عضين، وتعاملنا مع ظرفية الأحاديث والسنن بطريقة انتقائية، نبدي ما نريد، ونتجاوز ما لا نريد: خدمة لأهداف ظرفية وضيقة نضفي عليها الشرعية كما نريد، فأصبح مثلنا مع القرآن كمثل اليهود مع التوراة: " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا" (الأنعام: 91).

فضللنا الطريق المستقيم إلى كلية الكتاب وتهنا عن منهجيته ففقدنا القدرة على الإحاطة بشموليته وكليته فلم نهيمن به على متغيرات الزمان والمكان، وصيرورة الواقع ولكنا جعلنا الواقع مهيمنا على القرآن والسنة بحيث يستمد من كل منهما، بانتقائية عشوائية، مبررات للانحرافات

فعوضا عن الارتفاع بالواقع إلى غايات النص وضبطه به، أفرغنا النص في الواقع، وبررنا الواقع به، فالنص حين ينزل على الواقع فليس من أجل تبريره وتسويغ ما فيه، ولكن لتحويله وترقيته وإصلاحه، فلا ينبغي أن يستلب الواقع النص كما هو ا لحاصل اليوم ويخضعه لمتطلباته.

وبترابط وتداخل المقدمتين المشار إليهما وصلنا إلى النتيجتين السلبيتين ، حيث فككنا نسق وحدتنا الإيمانية والحضارية، وجزأنا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بطريقة انتقائية أفقدتنا التواصل مع غاية الشهود التي أودع الله أمانتها في أعناقنا ففقدنا بالتالي التواصل معه سبحانه وتعالى فكيف يمكن أن يؤلف بين قلوبنا كما ألف بين قلوب أسلافنا من قبل وقد قطعنا الصلة به- على اختلاف توجهاتنا- كما قطعنا الصلة بمتطلبات الشهود الديني الحضاري؟

إذن من حيث أفلت من أيدينا زمام مهمتنا الأساسية في الشهود الديني والحضاري يجب أن نعود للإمساك به، منطلقين من هيمنة النص القرآني وبيانه النبوي في كليته على الواقع في شموليته، ولكن ما هي شمولية الواقع، وما كلية النص ؟ وكيف يمكن تحقيقها؟ نعني "بشمولية الواقع" أن الواقع أمر مركب لا كما يتوهم البعض أنه بسيط فيميلون عليه على الدوام محتجين به أو له أو عليه.

فالواقع في شموليته عبارة عن زمان ومكان وإنسان وأحداث ونظم وتشريعات وأطر للعلاقات في مختلف المستويات يتفاعل هذا المركب المعقد مع وجود ذهني وتصورات نظرية ومنطلقات إيديولوجية أو عقدية أو سواها. ولذلك فإن التعامل مع الواقع تعامل مع هذا المزيج كله مضافا إليه بحث معرفي في التاريخ وما أثر فيه واستشراف للمستقبل وما يتوقع أن يخالطه.

قد كان الكثير من علمائنا لهم جولات وصولات في تحديد ما يريدونه ب، "الواقع" و"نفس الأمر" وما قد يكون مجرد وجود ذهني يحاول أن يشق طريقه غلى واقع معاش، ومن المؤسف أن الدراسات الإسلامية المعاصرة لفكرة الواقع وما يعنيه

وما يندرج تحت مفهومه، وما يتعلق به بالتالي ما يمكن أن يحدث تأثيرا فيه، دراسات تتسم بالفقر إن وجدت أو التقليد للغرب وتبني مفهومه للواقع ونفس الأمر بشكل قدري. وأما "كلية النص" فإننا في وحدة النص القرآني الكريم البنائية نجد كثيرا من الآيات التي تتعلق بالجزئي والتفصيلي، كما نجد آيات تتعلق بالكلي والغائي والمقاصد.

والمنهج يقتضي على الدوام فهم الجزئي في دائرة الكلي وفي إطاره، وإلا فقد يعود الفهم الجزئي على الكلي بالإبطال أو التناقض، وقد يؤدي إلى القول بالنسخ أو ما شاكل ذلك. وأفضل وأدق ما يعين على القيام بهذه الخطوة المنهجية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي مثلت وتمثل منهجية كاملة للربط بين قيم القرآن الكريم وكلياته وغاياته ومقاصده وواقع معيش عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجتمع متكامل متنوع.

فذلك هو الذي سوف يساعد العقل المسلم على تحقيق هيمنة النص القرآني على اي واقع في سائر تضاريسه وجوانبه وقضاياه وليتحقق ذلك فإن المطلوب الآن "فعل إنساني" يتسم بالوعي والإدارة ينسجم مع التوفيق والفعل الإلهي الذي حقق تلك الدفعة الأولى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بالكتاب المنزل والنبوة الخاتمة، وتأليف القلوب

فهل يكفينا ضمن الواقع الراهن أن نسترجع ثمرات ما كان من اجتهاد بشري لأسلافنا في القرون الأولى لعصر الرسالة؟ فنعيد تطبيقه كما هو؟ أم أن ثمة واقعا متغيرا يتطلب اجتهادا جديدا لابد منه، منطلقا من كتاب الله وبيانه النبوي ومعطيات واقعنا نحن؟ وكيف نوجد المناخ المناسب والشروط اللازمة لهذا الاجتهاد؟

وإلى أي مدى يثير هذا الواقع المتغير إشكاليات جديدة حقا؟ أي إشكالات تأبى القياس على ما مضى، وتتطلب رجوعا جديدا إلى الوحي الإلهي في الكتاب والسنة؟ ثم إلى مدى يمكن أن نستجيب بالوحي ونربط به ونعالج إشكالات جديدة لم تطرح سابقا؟ وهذا أمر يتطلب الكشف عن النسبي المتغير بالمطلق القرآني باعتباره الكتاب الصالح المطلق لكل زمان ومكان، والمهيمن على الصيرورة التاريخية والاجتماعية.

قد لا يكون لكل هذه التساؤلات والفرضيات أدنى قيمة تذكر لو كانت متغيرات الواقع كمية وليست كيفية، أو هي في الدرجة وليست في النوع بحيث يستتبعها تغير نوعي في مناهج البحث وضوابط الاستقراء والاستدلال، وفهم الظواهر إنسانية كانت أو طبيعية.

إن الذين يقولون بأن متغيرات واقعنا هي كمية في الدرجة، وليست كيفية أو نوعية يخلدون بطبعهم إلى نظرة "سكونية" لا ترى تأثيرا للزمان والمكان، فلا يتجاوز نشاطهم الفكري جهد القياس برد إشكاليات الحاضر إلى معالجات الماضي، وباتباع نفس القواعد السابقة في الاستقراء والاستدلال، فنطاق البحث- عندهم- لا يمتد إلى خارج الظاهرة المتعينة التي تجتزأ من شمولية العناصر المكونة للواقع، ويكون الجواب أيضا مجتزءا من شمولية الكتاب والسنة.

إن هذا الأسلوب يتعارض مع أسلوب النظر إلى الواقع في شموليته الموضوعية والكتاب الكريم في كليته الكاملة وكذلك السنة في ضوابطها المنهجية، فالنظرة الكلية إلى الواقع لا تكافئها إلا النظرة الكلية للكتاب والسنة، ولا تواجه في إطار الفقه الانتقائي التجزيئي.

تاسعا: نحو نظرة كلية شاملة للوحي والواقع

ولكن على ماذا ينبغي أن تستند هذه النظرة الكلية الشاملة للوحي والواقع والتي تقول أيضا بالتغير النوعي والكيفي؟ قد سبق أن كشف لنا القاضي الفقيه وعالم الاجتماع والتاريخ العلامة "عبد الرحمن بن خلدون" عن أسس العمران البشري وفق المؤثرات البيئية وفي إطار المجتمع الرعوي والزراعي والصناعي اليدوي، أو بالأحرى مجتمع الاقتصاد الطبيعي، وكل ذلك عبر الاستقراء العقلي للعوامل المؤثرة في التقدم والانهيار في مراحل (النشأة والنضج والشيخوخة).

ثم كشفت لنا الدراسات الغربية المعاصرة عن أسس العمران الصناعي حيث تجاوز الإنسان مرحلة العمران الطبيعي بعد أن مارس سيطرته على ظواهر الطبيعة باكتشافه لقوانين تفاعلاتها وخصائصها، وصولا إلى استبدال قوة العمل اليدوي بقوة البخار ثم الطاقة بأشكالها النفطية والشمسية والنووية وبتحكم تقني شمل استخدام الذبذبات الصوتية والصور، فتغير موقع الإنسان في العملية الإنتاجية من المهارة الحرفية اليدوية إلى التأهيل العقلي العملي.

هذا المتغير النوعي والكيفي في طبيعة العمران البشري أدى إلى مواضعات أخرى في الفكر الإنساني والعلاقات الاجتماعية تواضع عليها المعاصرون بطريقة تختلف عن منطق العمران الطبيعي، إذ اختلفت نظرة الإنسان بناء على ذلك إلى نفسه وإلى علاقته بالكون الطبيعي وعلاقته بمجتمعه، وكذلك تغيرت نظرة الإنسان- الغربي خاصة إلى منظومة القيم والأخلاق التي تكونت في مرحلة العمران البشري الطبيعي. وشاع القول بنسبية الأخلاق وخضوعها للعوامل والمتغيرات الاقتصادية وخروجها من دائرة الثوابت.

المبحث الثالث المنطق الجديد

ثمة منطق نوعي جديد قد بدأ يسود العالم، لا لأن العالم كله قد تحول إلى المستوى التقني للمركز العربي، ولكن لأن هيمنة المراكز الحضارية الكبيرة قد هيأت لها قدرة التداخل مع أنساق العالم الحضارية والعلمية كافة، والتأثير فيها، بل وقيادتها متسلحة بمناهج بحوثها العلمية والتطبيقية لتسيطر على مختلف العمليات العقلية والإدراكية.

فأهم متغير نوعي حدث أن العلميات الإدراكية لم تعد قاصرة كما كانت في الماضي على المقولات العقلية والمشاهدات الحسية والخبرات الحدسية والتجارب الظاهرية للناس. فقد خضعت هذه الأمور كلها لما عرف بالشك المنهجي، ثم المحاكمة العلمية التي بدأت بالعلوم الطبيعية ثم سلكت طريقها التدريجي إلى صياغات العلوم الاجتماعية والإنسانية

وحتى الفكر الوضعي تجاوزه العلم الحديث وحوله غلى "وضعية منطقية" أولا لتكون بديلا عن "الوضعية العقلية" وقد تشابه على كثيرين الفرق بين تطور المجتمعات الإنسانية بالمعنى المادي ومتغيراتها النوعية بالمعنى التاريخي، ونحن نشير في معرض التغير التاريخي النوعي إلى المعنى الثاني وليس إلى المعنى المادي "التطوري"

وهو معنى تضمنته كتابات كل من ابن بطوطة (1302 - 1377) حين بدأ بالربط بين الظواهر الطبيعية والظواهر الاجتماعية ثم أعقبه ابن خلدون (1332 - 1406م) ليدمج الظاهرتين في سياق المراحل الثلاث: النشأة والنضج والهرم أو الشيخوخة في محاولاته الأولى لوضع فلسفة التاريخ.

إن فحوى هذه الدراسات جميعا قد أكدت على ضرورة فهم المجتمعات الإنسانية فهما ديناميكا في إطار حركتها وليس سكونيا، فالسكونية تتعلق بما هو ثابت غير متغير وغير متحول، والدينامكية هي "علم التحولات" وقد جمع ابن خلدون بين العلمين مقاما أي الثابت والمتحول في قراءته للمراحل التاريخية الثلاث المشار إليها وضمن نسق العمران البشري الطبيعي.

ولا يمكن فهم المتحول، إنسانيا كان أم طبيعيا، دون فهم القوانين الخاصة بصيرورته، وهي قوانين أعادت صياغة العلوم الطبيعية والإنسانية، ثم ركبت بينها كالكيمياء العضوية مثلا وصولا إلى رابط كلي منهجي يشد العلوم - كلها - إلى بعضها.

ومن هنا بالتحديد تحدث "المقابلة المنهجية" بين كلي العلم وكلي التركيب الكوني. ويقابل الكليين كلي الوحي، أو الكتاب المطلق الذي يهيمن بوحيه الإلهي على الوجود الكوني وحركته، على ماضيه ومستقبله كما يهيمن على حاضره، أي على الصيرورة الكونية كلها ولتوضيح ذلك نحتاج إلى تبين ما يلي:

أولا: الفهم المنهجي والجمع بين القراءتين

إن عروجنا مجددا إلى الكتاب الكريم للهيمنة به على الواقع تتطلب فهما شموليا للكتاب والواقع معا، وهذا الفهم الشمولي لا يكون ممكنا إلا "بالفهم المنهجي" باعتبار الفهم المنهجي الكلي هو "الغائب الأكبر" عن الفكر والممارسات الإسلامية المعاصرة - التي أخلدت في جملتها إلى "السكونية" بمعزل عن إدراك المتغيرات، كما أخلدت إلى "تجزئة النصوص" بدلا من قراءتها في كليتها.

أما كيفية قراءة القرآن في كليته فتماثل قراءة الكون الطبيعي في كليته، فهناك آيات طبيعية مبثوثة يكشف العقل نظامها الكلي وقوانين ارتباطها وصولا إلى مهجها، وكذلك الأمر مع آيات القرآن حيث يكتشف العقل نظامها الكلي ووحدتها العضوية المنهجية

ولعل هذا يفسر إعادة ترتيب رسول الله صلى ا لله عليه وسلم لآيات الكتاب توفيقا ليتخذ الكتاب صفته المنهجية، بأمر الهي "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم و يعلمون، قل أنزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل: 101-102).

وإن التثبيت لا يكون إلا للتغلب على زلزلة المواقف، ولهذا كان اقتران النزول بالأسباب دون أن تكون موجبة له في الأصل، والبشرى في الأسلوب القرآني لا تكون إلا مستقبلية، ولهذه كانت إعادة الترتيب ليأخذ الكتاب المجيد وحدته المنهجية الكلية، ليتوافق الكتاب الكريم مع مقتضيات الرجوع إليه، والاستنباط منه مع نمو العقل البشري حتى تتحقق الوحدة المنهجية التي تعني النظر في الآيات من خلال ناظمها الكلي وضوابط حركتها

سواء في آيات الكتاب أو آيات الطبيعة: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد العرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" (يس: 37-40).

فالناظم الكلي ضابط للظواهر الكونية، كبيرها كما هو ضبط لصغيرها، فحتى الذرة لها فلكها وذلك يتمثل بدوران جزيآتها حول نواتها. من هنا نبدأ – كما قلت - لنستعيد ارتباطنا المنهجي بالكتاب الكريم المطلق ذي الآيات المحدودة عددا والكون اللامتناهي في جزئياته.

ومعرفة كيفية تناول المطلق للنسبي، لأنه الوحي المهيمن على كل العصور: " والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير، ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" (فاطر: 31، 32).

وما منا إلا ظالم لنفسه أو مقتصد، نتضرع إلى الله أن يرفعنا إلى درجة السابقين بالخيرات بإذنه، فليس من عصمة لأحد بعد خاتم الرسل والنبيين، وليس من كتاب آخر بعد القرآن وقد أحاطت الرسالة بكل شيء تبيانا وتفسيرا لكي تصل بالبشرية إلى هذه النتيجة التي تبدأ بالتعامل مع القرآن والسنة من المنطلق الذي أطلقنا عليه "أسلمة المعرفة" أو إسلاميتها، فقد قدرنا سلفا ضرورة أسلمة مناهج العلوم الطبيعية والإنسانية

ومن خلال القرآن نفسه، لنجعل منها مداخلنا إلى فهم القرآن وهي عملية مزدوجة ومتبادلة التأثير، قالقرآن يقوم مناهج المعرفة من ناحية، ومناهج المعرفة المقومة تساعد على الدخول بشكل أعمق في عالم القرآن الرحيب

ومن ناحية أخرى تعين على حسن فهمه، وذلك هو منطق الجمع بين القراءتين، الربانية والقلمية، أو الغيبية والموضوعية، أو قراءة الوحي وقراءة الكون، كما أمرنا الله في أوائل الآيات نزولا: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم" (العلق- 1-5).

فمن خلال القراءة الجامعة بين آيات الوحي وآيات الطبيعة تتكشف أبعاد (التفاعل والصيرورة) الناسخة لكل سكونية في الفكر البشري لا تأخذ بسنن الكون ومنطق المتغيرات: "تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" (آل عمرا:27)

إذن بالجمع بين القراءتين، الربانية والقلمية البشرية وبالتأكيد على الصيرورة والتفاعل، والمنطق التاريخي للمتغيرات ندخل إلى عالم الكتاب الكريم بمنهجية واضحة نتجاوز بها ما كان من إشكاليات دفعت – مثلا - بابن رشد لكتابة "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" ، أو دفعت الغزالي للهجوم على الفلسفة في " تهافت الفلاسفة"

ورد على ابن رشد بـ " تهافت التهافت" ، أو بتحريم ابن الصلاح للمنطق، أو محاولة استبدال الحد الأوسط في المنطق بحد من القرآن لدرء ا لتناقض بين النقل والعقل في محاولات ابن تيمية، بل لابد أن تتم المجاهدة بكلية القرآن وليس بفقه أو علم أو قضايا جزئية تؤخذ مما ينتقي من الآيات.

إننا مطالبون أن نقوم بالمجاهدة "بمنهجية القرآن المعرفية" لمعالجة أزمات مناهج العلوم المعاصرة كافة سواء منها ما كان في شكل "الجدلية العلمية" و "الوضعية المنطقية" القائمة على "النسبية والاحتمالية"

أو في شكل أزمات الأنساق الحضارية العالمية وما فيها من صراعات إذ أنها – جميعا - تنتهي إلى أزمة واحدة، وهي "الحالة التفكيكية " لمناهج العلوم وأنساق الحضارات وعجزت الحضارة الغربية المعاصرة عن "التركيب" الذي يستهدي بالضوابط الكونية التي فصلها القرآن المحيط بكل شيء.

فكان من نتائج هذا التفكيك مع العجز عن التركيب - علما وحضاريا - أن تعززت الفردية الليبرالية العلمانية والرأسمالية التي ارتدت بالإنسان إلى ما كان عليه قبل الرسل. يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فيهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.

ثانيا: إعادة صياغة العلوم

إن الأولوية الأولى - الآن - هي إعادة بناء الشخصية الإسلامية عقلية ونفسية. فالعقلية تبني في إعادة بناء المعرفة الإنسانية، والنفسية تعتمد على إعادة صياغة الفنون والآداب، هذا على المستوى الإسلامي. وأما على المستوى العالمي، فإن الحاجة تبدو أشد غلى تحرير العلم ومناهجه مما أحاطته به الوضعية والعلمانية.

والأمر لا يقتضي تأسيس علوم جديدة أو معارف مبتكرة تلغي معطيات العصر المعرفية ولا بناء أنساق حضارية جديدة، ولكن لابد من إعادة صياغة العلوم والمعارف وتوجيه أنساق الحضارات العالمية بأسلوب غاية في التحديد: يتلخص في تحويل العلوم الطبيعية من علوم جزئية وتفكيكية – كما هو عليه حالها اليوم- إلى علوم كونية وتركيبية تعني بالظاهرة الطبيعية والإنسانية في مجالها الكوني كله، والكشف عن ارتباطها بالله تعالى.

ولا تتوقف على الاقتصار على ما تكشف عنه مناهج وأدوات ووسائل البحث الموضعي أو الموضوعي المحدود، فللنفس قواها الخارقة في عمليات الإدراك وفي تأثيرها السيكولوجي وحتى الفسيولوجي على الغير، وكذلك للطبيعة تفاعلاتها وصيرورتها ما بين حدين لا متناهين في الكبر أو في الصغر: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (غافر:56- 57).

فالتصحيح المعرفي سواء وفق ما سميناه "إسلامية المعرفة" أو أية صيغة أو تسمية أخرى ينبغي أن تأخذ بأيدي الباحثين مباشرة من الاختبارات الجزئية للظاهرة الطبيعية أو الإنسانية إلى الاختبارات الكونية التي تشكلت داخلها

فقوانين التشيؤ (الشيئية) العلمية المعاصرة لا زالت قاصرة دون بحث أي ظاهرة في كونيتها، فغابت عنها الجدلية اللامتناهية في الخلق، وتفاعلاته وصيرورته، مثل إخراج حي من ميت، وإخراج ميت من حي، وتنوع ناتج من مركبين هما الماء والتراب، ووحدة ناتجة من مختلفين هما ماء عذب وماء فرات ومن كل تأكلون لحما طريا.

إن "إسلامية المعرفة" هي محاولة للخروج بالعلم والمعرفة من عنق الزجاجة والنهايات التي دخلت فيها نتيجة تجاهل الغيب، وتناسي الإيمان بالله. ولذلك فهي تمثل في نظرنا عند ضبط منهجيتها وفهمها فهما علميا منهجيا، حلا لـ "إشكاليات العلم المعاصر" نفسه على مستوى عالمي، وترقية وتطويرا لبحوثه المنهجية، وجعلها قادرة على أن تنتج فهما كونيا جديدا لفلسفة العلوم الطبيعية،فهما يرتبط من خلال العلم بعقيدة التوحيد حيث يتأصل معنى الآية: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" (فاطر: 28).

ويتضح ولا تقتصر "إسلامية المعرفة" بهذا المعنى على الظواهر الطبيعية فقط وهي الظواهر التي تستمد مؤشراتها الكونية من القرآن، وإنما تمضي لتمد نطاق البحث إلى الظواهر الإنسانية التي تتفاعل مع الظواهر الطبيعية.

فإذا كان العلم المعاصر يتفادى البحث في هذا الإطار الكوني أو يتفادى البحث في الظواهر المعقدة فإن من مهمة "إسلامية المعرفة" - من خلال جهود العلماء والباحثين المسلمين - كسر هذا الحاجز. بهذا لا يكون موقفنا من الآخر كلاميا لإبطال المنطق أو توفيقيا لفصل المقال أو درء التناقض بين العقل والنقل، أو توفيقيا أو تلفيقيا ولكننا نخترق الآخر - على فرض اعتباره آخر- في مجاله العلمي وفي نسقه الحضاري.

فهذا الدين قائم على كتاب منهجي مطلق، ودعوة عالمية شاملة، وحيث قصرنا نحن في الذهاب إلى الآخر بمنجيتنا وعلومنا فقد غزانا الآخر بمنهجيته وعلومه مستصحبا نسقه ليواجه به نسقنا لتتم الهيمنة على المستوى الحضاري

فجاء الدفع من الخارج ليستثير فينا الارتباط مجددا بما لدينا من عالمية ومنهجية، غذ لم يعد بمقدورنا أن ننغلق على أنفسنا في زمان كهذا كل شيء فيه عابر للقارات ونافذ إلى العقول والقلوب. أما كيف تنعكس منهجية "إسلامية المعرفة" على العلوم والمعارف الأخرى؟ فذلك ما نرجو أن نتناوله لاحقا- إن شاء الله تعالى.

ثالثا: الاجتهاد الجماعي والعمل الجماعي

فهناك من المصلحين من تناول جانب التفسير وراح يستصفيه من الإسرائيليات والأساطير والخرافات وهو جهد ضروري، وهناك من تناول طبائع الاستبداد السياسي، وعالج البعض أصول الحكم وهو جهد مهم كذلك، وعرفنا من بين هؤلاء عدة مصلحين يمكن متابعتهم ومتابعة جهودهم الهامة في مصادر شتى عبر العصور.

غير أن مجموعة كبيرة من العلماء والباحثين ممن تقود بحوثهم وجهودهم الفكرية إلى إصلاح البنية الفكرية نفسها لم يعالجوا بعد إطار إصلاح مناهج الفكر ، وأعني بهم أولئك الذين يبحثون في علوم اللغة ومناهج الاجتماع "التاريخ" وإشكاليات عصر التدوين المختلفة، وحتى أولئك الذين يبحثون في إشكاليات مناهج العلوم المعاصرة بطريقة معرفية.

ومن هنا تبدو وجاهة قولنا بضرورة (الاجتهاد الجماعي) لا باعتباره مفهوما يفترض إلغاء المميزات الإدراكية والاستنباطية الفردية بين البحثين فكل ميسر لما خلق له، ولكن باعتباره مفهوما قائما على تكامل فروع البحث المعرفي ضمن الإطار الكلي لمعالجة الظواهر الإنسانية والطبيعية

فالباحث اللغوي الذي ينفذ إلى دلالات النص ويراجع استخداماته في مراحل تاريخية مختلفة يغني جماعية الاجتهاد ويضيف إليها، كما يغنيها الباحث الآخر في ثقافات المجتمعات الرعوية والزراعية جنبا إلى جنب مع المحقق التاريخي وحتى عالم الآثار حين يختص الأمر بمراجعة تجارب الأقوام البائدة، وقد رأينا أهمية تلك المساهمات التي قدمها كل من ابن بطوطة وابن خلدون.

"فالمنهجية" تفترض بمنطقها الكلي تعدد البحوث وتكاملها لتشخيص الواقع الموضوعي، والتعمق في فهم دلالات النص، واسترجاع الموروث بطريقة تحليلية نقدية تستنطقه من داخله، وعلى هذا النحو نأمل أن نوجد قنوات قادرة على ربط الجهود العلمية المتنوعة والمتعددة، والتنسيق بينها لتؤدي ثمرة جماعية تستجيب لمشكلات الواقع كافة، على أن تثمر هذه الجهود أولا في تحقيق توجه "إسلامية المعرفة" داخل الفروع العلمية المختلفة وانطلاقا من الوحي، كأسلمة علوم النفس والاقتصاد والاجتماع والعلوم الطبيعية.

فهناك تأثير متبادل، كما ذكرنا بين أسلمة هذه العلوم بالقرآن والسنة، والدخول بها إلى القرآن فتستفيد العلوم من الوحي حلولا لمشكلاتها، ويحسن المتعاملون مع النص فهمه وإدراكه من خلال تلك الأبعاد المعرفية وملاحظاتها. فإصلاح مناهج الفكر مقدمة ضرورية لتعديل الممارسات لا يقتصر بالضرورة على إعادة البحث في ذات المنطلقات التي تناول بها الأوائل القرآن والسنة وضوابط الاجتهاد.

فالضوابط نفسها تختلف الآن اختلافا كبيرا بحكم تطور مناهج المعرفة وأدوات البحث بما فيها البحوث المتعلقة بالطريقة الإدراكية للإنسان، فثمة من يدرك الأمور في تعددها ومنهم من يدركها في ثنائيتها المتقابلة، وهناك من يدركها في وحدتها الجامعة، وثمة من يعالجها بالتفسير الوصفي، وهناك من يعالجها بالتحليل المعرفي.

إن هذا (الاجتهاد الجماعي) المتسع لكل مركبات الواقع، ومناهج المعرفة يقلص لدينا حالات الشعور بإمكانية الإصلاح عبر الجهود الاقتصادية وحدها- في واقع مركب وشديد التعقيد، وإننا لنقولها بصراحة أن تجاربنا المحدودة على مستوى العمل الجماعي وفي الإطار الفكري قد كشفت لنا بوضوح عمق الأزمة واتساعها وجعلتنا أكثر يقينا بضرورة الجماعية الواسعة في الجهد والاجتهاد

فإذا كان هذا ملخص تجربتنا على صعيد الفكر فكيف بالتنظيم الذي يتأسس لتغيير الواقع كله، سياسيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا وفي واقع محلي وإقليمي ودولي معقد، وفي إطار حضاري عالمي متغير؟

إن مفهوم التنظيم "الأحادي" كثيرا ما يسلم أهله إلى الشعور بأنهم تجسيد للأمة وتعبير عن إرادتها ووعيها في إطار الحركة، ولا شك أنه مفهوم يسيء تقدير الأمور، أو لا يدرك تشعب المسئولية وعمقها، ولن تؤدي به الأوضاع لأن يكون بديلا عن الأمة في حركتها الجماعية، بل سيتحول بالضرورة إلى فرقة أو طائفة ليست متميزة نوعيا ولكنها تضاف إلى عداد الفرق الموجودة المتصارعة القائمة منها أو البائدة.

وقد حذر الله سبحانه وتعالى من سلبيات هذا التصور الممزق للأمة والمتعالي على وحدتها بالأحادية الضيقة فوجه أمره بتكوين الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر بين أمرين يتصل كل منهما بوحدة الأمة وجماعية النظر والعمل، فلم يطلق أمره بلا ضوابط فإذا كان سبحانه وتعالى يأمرنا في الآية (104) من سورة آل عمران بقوله: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"

فإنه قد سبقت هذه الآية بقوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون" ثم أعقبا بآية أخرى : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم" (آل عمران: 103- 105).

فالأحادية وادعاء تمثيل الأمة المسلمة في الوقت ذاته أمران لا يقرهما الوحي القرآني ولا السنة النبوية ويحذران منهما ، لأنهما مدعاة للفرقة والانقسام، فإذا سوغ بعضها ذلك بأنه يدعو إلى الخير فلتكن دعوته فى إطار "التداخل النسبي" مع الأمة، لا الانفصام عنها، ومن خلالها وبالتكامل مع الجهود الجماعية، واحترام الغير والتفاعل معه.

كما أن القيام بالدعوة لا يسوع أن تكون الدعوة مخلة بالمبادئ الواردة في الآيات وهي الاعتصام الجمعي بالجماعة ووحدتها، وعدم التفرق وألفة القلوب والأخوة وعدم الاختلاف إلى درجة التناقض والتمزق، فالفئة ليست فرقة وإنما أطلق الله عليه صفة –أمة- " ولتكن منكم أمة" لتكون أمة وطليعة في داخل الأمة التي هي الأم لا تنفصل عنها ولا تتمايز، ومن خلال الأمة مجتمعة تتم جهود الإصلاح وتثمر الجهود الجماعية.

وهناك في القرآن الكثير من الآيات التي تحذر من التفرق الذي ينتهي إلى تكوين الفرق والفئات والطوائف، ومن تقطع الأمر زبرا ينتهي بدوره إلى التحزب والتعصب الذي يقود بدوره إلى التشرذم والتشيع ليصبح " كل حزب بما لديهم فرحون" ونتيجة لهذه المحاذير لا يقبل الله سبحانه وتعالى بتأويل أمره إلى غير مدلوله في وحدة الأمة، فإذا فعل البعض ذلك بنية حسنة

وبقصد الإصلاح يقينا فإنه من جهة أخرى قد يفتح الباب ويعطي مشروعية للتحزب فيستغلها آخرون دون ضوابط الجماعية والتداخل النسبي مع الأمة وهذا ما حذر الله سبحانه وتعالى منه أيضا : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام ، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبأس المهاد، ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد، يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" (البقرة: 204- 208).

إن اكتشاف صيغة "العمل الجماعي" في إطار "وحدة الأمة" صار ضالة المسلم، لأنه بها يتوصل إلى تحقيق حالة الدخول في "السلم كافة" على المستوى الداخلي للأمة على الأقل وبه تتحقق حالة الانتماء إلى الأمة كلها، ويحال بينها وبين عوامل الفرقة أن تمزق وحدتها.

ثم إن ما نعيشه من أزمات وإشكاليات معقدة ومركبة، كظلمات مركبة، تحتاج إلى نور مركب، تفرض علينا جماعية الجهد، فما من تنظيم أو فئة أو طائفة تستطيع الادعاء ان بوسعها الإحاطة بهذه الظلمات المركبة، وتملك لوحدها النور المركب

خصوصا وقد تخصصت العلوم وتمايزت لتخترق بمناهجها ووسائل بحثها مختلف الظواهر الاجتماعية والإنسانية مما كان في الماضي قاصرا على عالم موسوعي واحد يجمع بين معارف الطب والفلك والرياضيات والفلسفة والعلوم النقلية في زمانه، أو كما يقال بين علم الإلهيات وعلم الطبيعيات.

رابعا: ضرورة البديل العالمي

وقتها كان يكفي ذلك العالم الموسوعي أن يتفرد بمعارفه، أما الآن فقد تشعبت مصادر ا لمعرفة وتكاملت بذات الوقت وتفجرت، فاقتضت بالضرورة الجهد الجماعي، كما اتصلت الأنساق الحضارية بالمناهج العلمية وأصبح "البديل عالميا" خارج طاقة أي تنظيم أحادي مهما كانت قدراته، ولهذا نؤكد على جماعية الجهد دون أن نلغي التميز في إطار التداخل النسبي للجماعة. أما الأخذ بمبدأ "الأحادية الفردية أو التنظيمية" فإنه سيؤدي بالتداعي إلى جملة من المخاطر تتوالد عن ذلك فننتهي إلى نقيض ما قصدنا وإن حسنت النوايا.

ولتوضيح ذلك يمكن ملاحظة ما يلي:

(أ‌) تبدأ كل أحادية تنظيمية أو فكرية بالشعور بأنها مدعوة دون غيرها لإصلاح الأمور، وهذا الادعاء يحمل في ذاته شعورا بامتلاك الحقيقة كاملة، إما من خلال عدم الوعي على تعقيدات الواقع، أو من خلال الجهل بالحقيقة نفسها حين تبسط الحقائق على ذلك النحو وينتج عن ذلك حصر جهود الإصلاح في برامج تحتوي على مبادئ تبسيطية مخلة ليسهل تناولها على الأفراد المدعوين للانتساب، ولو على أمل تطوير مداركهم لاحقا داخل التنظيم.
وينتج عن ذلك أن يسبق التنظيم الفكر نفسه، فيتحول الجهد من التنشئة الفكرية والتربوية إلى "التلقين" التبسيطي الذي يختزل المشاكل في البرامج، ويركز البرامج في الشعارات، ويؤدي هذا بالضرورة للبحث عن مصادر فكرية فيما هو قائم وسائد في محيط التنظيم وحده، وذلك ما ينمي روح الاتباع العضوي والتقليد خلافا لما وجهنا الله سبحانه وتعالى إليه: " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" (الإسراء:36).
فتغيب حاسة النقد المنهجي وقدرات الاستنباط ، وتتكرس حالة التقليد، فتتحول عناصر الحركة إلى "كل كمي" وليس إلى "كل نوعي" فيستعاض عن الفكر والتدبر بادعاء عصمة القيادة التي تحتل موقع "الراس" من التنظيم الهرمي، بذلك لا يفتح الطريق أمام التعصب فقط وإنما يضيع الإنسان نفسه قائدا أو تابعا، وليس هناك ثالث.
(ب‌) وهذا الشكل التنظيمي الذي ينتهي بدوره إلى أن يدعي بالضرورة تجسيد الحقيقة وتمثيل الأمة من شأنه "نفي الآخر" داخل المجتمع المسلم، بل وتكفيره وتجهيله فإنه يبدأ في فرضية إظهار الإسلام من جديد، متناسيا أن هذا الإسلام قد بدأ به خاتم الرسل والنبيين صلى الله عليه وسلم وأنه قد استوعب مليارات من المسلمين وعلى امتداد أربعة عشر قرنا
فلا يمكن أن تستوعبه - كله - جماعة أو هيئة أو حزب أو فرقة أو طائفة أو تنظيم أو حكومة مهما كانت الصفات التي تصف بها نفسها، فالمسلمون مهما كانت جوانب انحرافاتهم وأسباب ضعفهم يعيشون - في أسوأ الأحوال- الحدود الدنيا من الإيمان وأركان الإسلام،إن لم يكن في مجموعهم ففي غالبيتهم.
ولم يجعل الله لأحد أو لفئة عليهم سلطانا، فمن ظهر ليدعي تمثيل الأمة واحتكار الحقيقة فهذا ادعاء للسلطان على الأمة بغير وجه حق يبرر به استخدام العنف في المعارضة أو في الحكم، واستخدام العنف هو أكبر تجسيد لنفي الآخر، إذ يبدأ نفيه فكريا ثم جسديا.
فإذا كانت الحركات الدينية الأكثر حكمة ومسئولية ترفض العنف وتنبذه إلا أن ادعاء بعضها امتلاك الحقيقة والصواب من شأنه إعطاء مشروعية لمن يلونهم ولمن هم أدنى حظا في الفكر والممارسة منهم أن يتناولوا العلاقة مع الغير بالمخالب والأظافر، بل إن الغير حتى في داخل التنظيم ينبذ بنفس الأسلوب متى أبدى رأيا مخالفا، إذ لا شرعية لتعدد أو تنوع في مثل هذا امناخ الفكري المنغلق.

ونؤكد ما سبق ذكره فنقول:

إن ديننا يقوم على قيم حاكمة وحاكمية كتاب، وعالمية خطاب، وشريعة تخفيف ورحمة، ومقاصد شريعة، ونبوة خاتمة، وأمة شاهدة، وإدراك هذه الأبعاد يتطلب وعيا وإرادة على مستوى جماعي، فنحن في ظلمات مركبة، ولدينا نور مركب يتطلب جهدا بشريا مركبا، فلا مجال لحزبية ضيقة، ولا لحلول أحادية أو جزئية في هذه الأمة، ولا موقع للمفتاتين عليها بينها.

الخلاصة

إذا أردنا أن نلخص ونحرر ما ذكرناه مجملا من الأبعاد الغائبة عن فكر وممارسات بعض الحركات الإسلامية فيمكن ن نقول:

إن لأمتنا مقومات أساسية لابد من أخذها بعين الاعتبار عندما نحاول تبين الأبعد الغائبة عن حركات البعث والإحياء الإسلامي من منطلق إسلامي بصورة خاصة ، ويمكن تلخيص هذه المقومات في أمور هي: حكمية وهيمنة الكتاب الكريم المكنون المجيد، وعالمية الخطاب، وشرعة التخفيف والرحمة، وختم النبوة، والجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون.
وهذه الأمور تحتم على الأمة الحاملة لهذه الرسالة أن تكون ذات وعي وإدارة جماعية أو أمية لمتطلبات كل بعد، وكيفية عكسه على الحركة والجهد البشري والواقع والصيرورة التاريخية. وإذا أردنا أن نتبين أهم معالم أزمة "الحركات الدينية المعاصرة"

وأبرز الأبعاد الغائبة عنها في نقاط فيمكن أن نلخصها بما يلي:

(أ‌) تحول هذه الحركات - منذ اجتياح الفكر الحزبي لها - إلى تنظيمات مفارقة للأمة، وذلك للعجز عن اكتشاف صيغة للعمل الجماعي في إطار وحدة الأمة. ولذلك سهل على الآخرين محاصرتها وعزلها عن جسم الأمة، وضربها في كثير من المواقع.
(ب‌) لبس على بعضها فقد التدين فأصيبت بالخلط بين النص الديني الموحى وبين الفهم البشري له أو فقهه في كثير من القضايا.
(ج) وقد أدى ذلك الخلط بين الإلهي والبشري إلى ادعاء البعض امتلاك الحقيقة ، حيث استعار البعض حرمة وقداسة النص الديني وأسقطها بشكل أو بآخر على فكرة واجتهاده البشري، كما استعار إنجازات الواقع التاريخي، وحولها إلى رصيد له من خلال دعوى أنه وحده - امتداد لذلك الواقع التاريخي أو تمثيل له.
(د) توهم البعض استغناءه عن الجهد والاجتهاد البشري والفكري ما دامت نصوص اقرآن العظيم والسنة النبوية في متناول يديه، ولم يفرق بين اوحي والفهم البشري له، وفقد القدرة على إنتاج فقه التدين أو الربط بين النص والواقع. وبعض هذه التنظيمات قد أعلن تنظيمه قبل أن يحد عالم أفكاره، فصار إلى تناول الأفكار من الواقع أو من التراث بشكل عشوائي وانتقائي ليلبي متطلبات التنظيم والحركة اليومية بدلا من أن يضبط بالفكر السليم حركة التنظيم.
(هـ) أدت بعض الأمور والأخطاء الفكرية إلى أن تختزل بعض الأشكال التنظيمية الأمة في التنظيم وعناصره، كما اختزلت الإسلام كله في برنامج التنظيم ومشروعه السياسي، وعزز بذلك الفهم الخاطئ حقه في الأحادية الفكرية والتنظيمية، وامتلاك الحقيقة، والتمايز عن جسم الأمة بل وادعاء تمثيلها ، والافتئات عليها.
(و) إن كثيرا من هذه الحركات - رغم تأكيدها الدائم على التمسك بالنص القرآني والسنة - لم تستطع أن تحدد لنفسها مناهج مناسبة تمثل الوعي على خصائص الإسلام المنهجية في العقيدة والشريعة. والمنهج حجر الزاوية في بناء خطابها الإسلامي المنهجي الشامل القادر على البلوغ بالرسالة إلى غايتها، والوصول بها إلى مداها.

والحقيقة أنا ومنذ بداية احتكاكنا بالغرب والخطاب الإسلامي المطروح يراوح بين المد والجزر، والإقدام والإحجام. فهو في الفترات التي تتطلب تعبئة شاملة للأمة لمواجهة عدو خارجي يقوى ويزدهر في تعبئة قوى الأمة وحشدها، فإذا جاءت فترات البناء والإنماء والشهود الحضاري بدا خطابا جزئيا ضعيف القدرة على إيجاد الفاعلية الحضارية لدى الأمة أو تحقيق الدافعية لها نحو البناء بمثل ما حققه في عمليات المقاومة، وهدم كيان المستعمر واحتلاله.

وقد شكل ذلك ما يشبه الظاهرة العامة في معظم بلاد المسلمين ولذلك فإن التذكير بخصائص الخطاب الإسلامي كلها، وجعلها في متناول عقول وأذهان العلماء والباحثين قد يساعد على تصحيح صيغة الخطاب الإسلامي ومضمونه ليستطيع الاستجابة لسائر الظروف، ومواجهة مختلف التحديات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
طه جابر العلواني