أنور الجندي.. حياة مثمرة ورحيل هادئ

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أنور الجندي.. حياة مثمرة ورحيل هادئ


ربما يفوت الحياة أن تفيد من كنز حي حتى يموت، فإذا كان ندم الناس ساعة لا يجدي الندم، ذلك صحيح إلى حدٍّ بعيد، وإن كان يقلل من الأسى بقاءُ نتاج هذا الذي رحل، وصدق الشاعر القديم عندما قال: المرء ما دام حيًّا يُستهان به ويعظم الرُّزءُ فيه حين يُفتقد وقد افتُقد أنور الجندي، وربَّما صحَّ من غير مبالغة بعض معنى ذلك الافتتاح.

رحل أنور الجندي في هدوءٍ ربما فاق هدوء حياته في ليلة الإثنين الرابع عشر من ذي القعدة سنة 1422هـ الموافق الثامن والعشرين من يناير سنة 2002م.

وقد كان الراحل الكريم وُلد في سنة 1335هـ = 1917م في أسيوط، ولا شك أن لهذا المولد أثرًا في تكوينه الخلقي والنفسي والعلمي، ذلك أن أسيوط باعتبارها عاصمة الصعيد- كما تردد الأدبيات الإعلامية- كانت مسقط رأس أو مقر عمل لأسماء معروفة في مجال العمل الإسلامي فكرًا وحركةً من أمثال: الباقوري وسيد قطب، وحامد أبي النصر وغيرهم.

بالإضافة إلى أن الموقع جغرافيًا وسياسيًا كان له خصائصه المميزة بما فيه من مخزون قيمي تقليدي وسمات اجتماعية يمكن أن توصف بالقسوة.

وأما من ناحية التوقيت فيكفي أن سنة الميلاد كانت بداية الانتهاك غير المسبوق للحقوق الإسلامية في الأرض المقدسة بفلسطين: إذ كما هو معلوم، عام مولده هو عام مولد وعد بلفور، وقد كان والده تاجرًا ملمًّا بمجريات الأحداث، متفقًا بقدرٍ صالح للوعي بما يدور.

وقد بدت علامات الاهتمام بالفكر العربي الإسلامي منذ سنٍ مبكرة، عندما نشر بحثًا عن حافظ إبراهيم ابن بلدته (ديروط) في مجلة أبولو سنة 1933م وهو دون العشرين بثلاث سنين، ثم انتقل إلى القاهرة، ثم واصل دراسته للغة الإنجليزية وآدابها بالجامعة الأمريكية، وهو الأمر الذي مكَّنه من تتبع شبهات المستشرقين وذيولهم، والرد عليها في واحد من أشهر الإسهامات التي قدمها للفكر الإسلامي المعاصر.

سمات أساسية إن قراءة سيرة حياة الراحل الكريم يلحظ منها محطات أساسية أو قل سمات رئيسية أعانته ومكَّنته من إتمام مشروعه الفكري وإنتاج ذلك التراث الضخم الذي خلَّفه، وهو ربما اقترب من مائة عنوان متفاوتة الحجم، متوزعة على جوانب الفكر الإسلامي وأعلامه المختلفة.

على أن أحدًا من المُطَّلعين على نتاج الرجل لا يخطئ بصره حقيقةً ساطعة مؤداها أن الرجل كان راهبًا في محراب الفكر الإسلامي، مجاهدًا يحمل سلاحه (رأسه وقلبه وقلمه ووقته وعزلته)، منافحًا عن الله ورسوله ودينه، مُدركًا لجلالة المهمة التي يضطلع بها.

يقول في ردٍّ على سؤالٍ له: من أنت؟ فأجاب فيما نقله عنه الأستاذ محمود خليل المذيع بإذاعة القرآن الكريم بمصر (انظر مقالته: أنو الجندي رائد الأصالة والتنوير ص 106 بمجلة المنار الجديد عدد 18 ربيع 2002م): "يقول العلامة الراحل حين سُئل من أنت؟ (قال): أنا محامٍ في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلتُ موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة، منذ رفع هذه القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عامًا للناس، حيث أُعدُّ لها الدفاع وأُقدمُ المذكرات بتكليفٍ وعقدٍ وبيعةٍ إلى الحق تبارك وتعالى، وعهدٍ على بيع النفس لله والجنة".

عطاء وافر يمكننا أن نقرر أن عطاء أنور الجندي رحمه الله تركز في المحاور التالية: غلاف أحد الكتب الدعوية للفقيد الأول: التعريف بالإسلام نقيًّا غير مكدَّر، والتعريف بمطالب الحركة الإسلامية الوليدة حيث يرى ذلك تكليفًا، وقراءة الكتب التالية أكبر دليل على ما نقرره، وبعض هذه الكتب هي: البيت الإسلامي، والشخصية الإسلامية، والإسلام يزحف، والقرآن دستور الإنسانية.. إلى غيرها.

الثاني: مواجهة أفكار الغرب والاستشراق وتابعيه في الداخل وتصحيح الأخطاء التي طالما أثارها خصوم الله وأعداء الإسلام والجاهلون بحضارته، وقد كانت مواجهة أنور الجندي لهذه الأفكار شاملةً مستوعبة استغرقت كل العلوم العربية والإسلام فقهًا وتفسيرًا وشريعةً وشعرًا وأدبًا وتاريخًا إلى غير ذلك.

وقد كان ذلك بعض آثار التربية الإسلامية التي تربَّى عليها في حضن جماعة الإخوان المسلمين التي تقرر ركنَ الشمول في حركتها بالإسلام. الثالث: التصدي لرموز التغريب في الداخل، الذين انطلى على كثيرٍ من أبناء المجتمعات الإسلامية كتاباتهم بفعل الآلة الإعلامية، ولقد كان رجلاً شجاعًا صريحًا قويًا يواجه الجميع من دون النظر إلى حجم ذلك الذي يواجهه، هادمًا ما يروِّج له، ومراجعة الأسماء التالية مبنية بذلك مؤكدة له: طه حسين الذي كان يرى فيه "قمة أطروحة التغريب وأقوى معاقلها"، ومن ثمَّ أفرد له أكثر من كتابٍ، لعل أهمها وأخطرها "طه حسين في ميزان الإسلام"، ولطفي السيد وقاسم أمين وجرجي زيدان وغيرهم.

وهذه الأسماء وغيرها ليست لنكرات أو أغمار، لا، وإنما هي أوثان فكرية، التوجه لهدمها يحتاج إلى تأهيلٍ وتسلحٍ واستعدادٍ من جانب، ويحتاج إلى قلبٍ جسورٍ وعقلٍ واعٍ ونفسٍ على يقين مما تؤمن به وتدعو إليه من جانب آخر.

صفات فريدة وقد ساعد أنور الجندي على إتمام رسالته طبيعةٌ نفسيةٌ زاهدةٌ لا تركن إلى ترف الحياة أو حتى قدرٍ من متطلباتها التي يرى الكثيرون أنها من باب الضرورات، كما كان خفيف المسئولية؛ لم يرزقه الله سوى بنت واحدة هي الفاضلة الكريمة الأستاذة فايزة التي تزوجت منذ زمان مبكر، كما أنه عرف طبيعة الطريق، وأثَّر فيه تضييق النظام الناصري عليه، وعرف لذة الابتلاء في سبيل دينه عندما اعتُقل عامًا كاملاً.

كما أعانته سجيَّةٌ صبورة متحملة، يقول عن طبيعة جلوسه للعلم: "قرأتُ بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيتُ في كراريس بعض أسمائها، وراجعت فهارس المجلات الكبرى، كالهلال والمقتطف والمشرق وغيرها.

وانظر إليه وهو يقول في أثناء إعداده لبعض كتبه: "لقد اضطررتُ وأنا أعدُّ الموسوعة الإسلامية العربية إلى أن تكون لي قائمة تضم أسماء الكتب التي تلزمني وأرقامها حتى لا يضيع وقتٌ في البحث عن هذه الأرقام كل يوم (إذ كان يعتمد على مكتبة دار الكتب المصرية)، ومن ثم عكفتُ على دراسة ما يزيد على نصف مليون بطاقة أخذتْ من الوقت أكثر من خمسة أشهر راجعت فيها بطاقات يحتويها أكثر من 180 صندوقًا، وأعددتُ من ذلك مجلدًا يحتوي على أكثر من خمسة آلاف كتاب، بالإضافة إلى الفهارس الضخمة للصحف والمجلات التي صدرت منذ عام 1871م حتى اليوم".

هذا الذي يرويه الأستاذ أنور الجندي- رحمه الله- واحد من أهم مبادئ البحث العلمي المتمثلة في جمع المادة العلمية وفحصها ونقدها وتقويمها، وهو مبدأ ربما أغفله بعض من ينتمون إلى دائرة البحث العلمي، ممن يتباهون بأنهم ينتهون من بحثٍ من بحوثهم في شهر لا غير!

وبعض هؤلاء منتمٍ إلى الجامعات عقل البحث العلمي! هذه الأخلاق لا يمكن تصورها إلا من رجلٍ صاحب رسالة وصاحب مشروع فكري علمي، وهل أعظم من مشروع ينضح وجهه الإسلامي ويغسله وينافح عنه، ويبيض ساحته من كل رميات الحاقدين المعاندين.

مدافع عن الإسلام والحق قاضٍ بأن نقرر أن أعظم عطاء للرجل تمثَّل في مواجهة تحديات الاستعمار بشبهات التغريب، ومراجعة فهرس كتاب واحد من مكتبته التي خلَّفها مؤيدٌ لما نقرره ونقوله، ولنقف قليلاً أمام كتابه (الإسلام والثقافة الغربية في مواجهة تحديات الاستعمار وشبهات التغريب) (مطبعة الرسالة) يقول في افتتاحه: "منذ سنة 1960م وسَّعت أبعاد دراستي فلم تعد قاصرة على الأدب العربي المعاصر والصحافة العربية: تاريخها وتطورها وأعلامها، وأوغلت في مجالٍ أوسع أُفقًا وأرحب، ذلك هو مجال الفكر العربي المعاصر في لقائه مع الفكر الغربي بشقَّيْه، ومن هنا أصبحت دراستي تضم الاجتماع والدين والفلسفة والحضارة والتراث".

بهذه الرؤية الشاملة- التي لا يصح تقييم عطاء أنور الجندي إلا في ضوئها- افتتح الرجل واحدًا من كتبه التي تدل على منحى فكره، وتعامله مع قضايا الفكر الإسلامي.

لقد التفت الجندي إلى قدرة الفكر الإسلامي على إعادة هذه الأمة إلى مكانه الحق، والتفت إلى حقائق اتَّسم بها ذلك الفكر في مسيرة تاريخه الطويل مما كان وظهر في تطبيقات الفكر الغربي الحديث من الاعتماد على البراهين والتجربة والمشاهدات.

وفي هذا الكتاب المرجع تناول أنور الجندي ما يلي:

1- تحديات الاستعمار وضرورة مقاومته، ووجوب التحديث وفتح باب الاجتهاد لنتمكن من المقاومة الرشيدة.
2- من الاستعمار إلى التغريب، فعالج حركة التبشير والاستشراق وحملة الغرب على الإسلام والعرب.
3- حركة التغريب تخطيطًا ودعاة، وفي هذا الفصل تناول كتابات أساطين الأدب والفكر الغربي من أمثال فولتير، وكرومر، وليوتي، ودانلوب، وريتان، وداركور، وهاناتو، وزويمر، ومارجليوث، ولورانس، وهنري لامنس، ولويس شيخو، ولويس برتران، ودويلكوكس، وفنسنك، وجلوب، وجولدتسيهر، وهذه الأسماء تغطي مساحات متنوعة من حملة الغرب على النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وعلى القرآن الكريم، وعلى علوم الشريعة وعلى تاريخ الأمة وعلى لغتها وحضارتها.
4- شبهات التغريب، فردَّ ما يثار حول النبي الكريم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- من شبهات، وما يُثار حول الإسلام من شبهات حول مدنيته وثقافته والتقدم وحرية الفكر والعالم والعلم، وحول عقيدته، وحول مسألة اضطهاد والفكر، والتصدير والرسم، والنفسية العربية، واستمداد الفكر الإسلامي من غيره.

كما دافع عن الشبهات المثارة حول السُّنَّة وشبهة علاقة الفكر الروماني في مفهوم الشريعة الإسلامية، إلى غير ذلك من الشبهات. لقد استطاع أنور الجندي أن يُظهر أن الفكر العربي والإسلامي الحديث في مجال الدفاع عن مقوماته أن يؤكد هذه الحقائق القاضية بنقاء صفحة الإسلام، ونقاء تشريعاته ورجاله.

والرجل ينطلق من هذه الدفوع لأنه مؤمن أنه في ظل الوضع الحضاري الراهن، وفي ظل الإيمان بقيمة المفاهيم (تقدم مبدأ الفهم أولاً قبل العمل) تبدو أهمية مواجهة تحديات الاستعمار، ومواجهة شبهات التغريب في مجال الإسلام والثقافة العربية باعتبار تلك المواجهة سبيلاً إلى تحرير الفكر العربي والإسلامي، وصولاً إلى تحرير المؤمنين بهما العاملين من أجل نصرتهما.

إن حمل أمانة هذا الدين وأمانة هذه الأمة في سعيها لليقظة وحركتها للنهضة لا يمكن أن يكون وفي نفس العاملين ما يفتُّ من قوتها ويُضعف من عزمها، وينال من تقدمها؛ إذ النفس الواهنة المنهزمة المتحركة بإحساسٍ من العار والضَّعة والذِّلة لا يمكنها أن تقدم نهضة أو تشعل يقظة.

لهذا عاش أنور الجندي ولهذا صبر وضحى، وبمثل هذه الروح المؤمنة الآملة في قيمة الإسلام وفكره وقدرته على أن ينهض بالحياة، رابَطَ ما يزيد على ستين عامًا لم يتحول، مجاهدًا عن دينه وأمته حتى جفَّ مِدَادُ قلمه وما جفَّ!

المصدر