إلى الإسلام من جديد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إلى الإسلام من جديد


بقلم : أبو الحسن الندوي


مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذه المحاضرات التي يجدها القارئ في هذه المجموعة كتبت وألقيت في مناسبات مختلفة، تختلف في الزمان والمكان، والعنوان والألوان، وتجتمع في غاية واحدة وهي: إيقاظ الشعور الديني في المسلمين، وإعادة الثقة الى نفوسهم بمركزهم ومبدئهم وغايتهم في الحياة ورسالتهم للعالم البشري، وتهيئة النفوس لحمل هذه الرسالة وتبوء مركز القيادة والامامة للعالم الحائر الثائر، وتجديف سفينة الحياة الضائعة بين الملاحين العابثين والركاب النائمين. وقد خوطبت في هذه المحاضرات والمقالات الأمة الاسلامية بصفة عامة، إذا هي الأمة الأخيرة التي أخرجت للناس، وصاحبة الرسالة الأخيرة التي وجهت الى الناس، وعنيت بها الأمة العربية بصفة خاصة، فمن أفقها طلعت شمس الإسلام في العصر الأول وأسفر الصبح الصادق، وقد أسكنها الله في خير مركز في العالم لتوجيه الدعوة الاسلامية، وازجاء الرسالة الاسلامية الى الأمم المتحضرة والعالم المتمدن، وتبوء مكان القيادة العالمية. ولما كانت هذه المحاضرات كتبت في ظروف مختلفة كنت أشك في وجود وحدة تربط بينها، لذلك لما اقترح على نشر هذه الرسائل في مجموعة ترددت بعض الزمن في اجابة هذا الطلب، ونظرت فيها من جديد فإذا بوحدة تجمع بينها وغاية تشترك فيها وهي: الدعوة الى الاسلام من جديد، فقبلت هذا الاقتراح وجمعتها في مجموعة أسميتها "إلى السلام من جديد" وادعو الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها القراء، وأن يحرك بها سواكن القلوب، ويحيي بها موات النفوس، إنه على كل شيء قدير.

أبو الحسن على الحسني الندوي

نزيل القاهرة

1370 هـ 1951 م

مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد ظهرت الطبعة الأولى لكتاب "إلى الإسلام من جديد" في القاهرة سنة 1370 هـ، وكانت طبعة مشوهة ممسوخة، كثر فيها التصحيف والتحريف، حتى كان المؤلف نفسه يحار في فهم كثير من الكلمات وردها الى أصلها، ويظهر أن الناشر لم يعتن بتصحيح الكتاب، واتقان الطباعة وحسن المظهر اعتناءا ما، وبالرغم من ذلك كان للكتاب انتشار وذيوع في الأوساط الإسلامية، ونفد الطبع في وقت قريب. واتفق بعد ذلك أن جمعت مقالاتي في مجاميع مختلفة أخذت بعضها من "الى الاسلام من جديد" ومن هذه المجاميع "العرب والإسلام" و "الطريق الى المدينة" وكتبت بعض مقالات أخرى، وألقيت بعض محاضرات تدخل في موضوع "الى الاسلام من جديد" وتستحق أن تضم اليها، يفقدها القارئ في الطبعة الأولى ويجدها في هذه الطبعة، وبذلك تكونت مجموعة أكثرها قديم، وقليل منها جديد، يجمعها اسم واحد، وغرض واحد هو "الى الاسلام من جديد" ورغب بعض الاصدقاء في طبعها ونشرها، فأذنت لهم بذلك شاكراً فضلهم وعنايتهم بنشر الفكر الاسلامي، والدعوة الاسلامية، منتهزا هذه الفرصة لصدور هذا الكتاب من جديد وعلى الله قصد السبيل[1].

دائرة الشيخ علم الله الحسني رحمه الله

أبو الحسن على الحسني الندوي

01/01/1387 هـ

10/04/1967 م

[1] استأذنا سماحة استاذنا الكريم أبي الحسن في أن نحذف من هذه الطبعة الكلمتين التاليتين:

1- العوامل الأساسية لكارثة فلسطين.

2- ارتباط قضية فلسطين بالوعي الإسلامي.

وذلك لورودهما في كتابه اللاحق "المسلمون وقضية فلسطين" ولكونهما أليق به، فأذن لنا بذلك مشكوراً.

(الناشر)

إلى ممثلي البلاد الإسلامية

عرجت الى المؤتمر الثقافي[1] العام، الذي قد اشترك فيه ممثلو البلاد وبعثات الامم ووفود النوادي، فرأيت معرضا للجنسيات والوطنيات والحضارات، ورأيتكم أيها السادة المسلمون شامة بين الناس، لا لأنكم تمتازون عن زملاءكم في الشارة واللباس، بل لأنكم تمثلون تلك الأمة العظيمة التي كانت ولا تزال شامة بين الأمم. كان العالم قبل ثلاثة عشر قرنا سائرا سيره الطبيعي لا ينكر من أمره شيء، فكانت القرى والمدن عامرة بالسكان، وكانت العواصم الكبرى زاخرة العمران، شامخة البنيان، وكانت الحرف البشرية ووجوه المعاش في ازدهار وانتشار. كانت الزراعة وكانت التجارة وكانت الصناعة، فبينما كانت سكة الفلاح في شغل ونشاط كانت القوافل التجارية غادية رائحة بين الشرق والغرب، وكانت الأسواق مشحونة بالمتاجر والبضائع، وكان الصناعون مكبيِّن على أعمالهم. وكانت الحكومات والامارات والدول غنية بأموالها ورجالها، لكل وظيفة رجل كفؤ بل رجال أكفاء، وكان على وجه الأرض كل نوع من البشر، وكل لون من الحياة، وكل مظهر من مظاهر المدنية، لا يرى في الحياة الانسانية المادية عوز أو فراغ. ولم تكن في المدينة وظيفة شاغرة يترشح لها مترشح جديد، وكانت كأس الحياة مترعة لا تطلب المزيد.

في هذه الحال ظهرت أمة في جزيرة العرب ووجد نوع جديد من البشر، وكأني بالامم المعاصرة وهي تتسائل: أي داع الى ظهور أمة جديدة والامم على وجه الأرض كثيرة منتشرة، وما شغل هذه الأمة الحديثة، وما مهمتها في العالم؟ وكأني بها تقول: إذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للزراعة وعمارة الأرض فقد كان في فلاحي الطائف، وأكَّاري مدينة يثرب، وزراع وادي الفرات والنيل وربوع الكنج وجمنا، غنى عن أمة زراعية جديدة، فقد أصبحت أراضي هؤلاء الفلاحين وبلادهم جنة تدر لبنا وعسلا، وإذا كان المسلمون إنما بعثوا ليشتغلوا بالزراعة فقط، فلماذا لم يبعثوا في العراق، وفي مصر، والهند، وهي بلاد مخصبة زراعية، ولماذا كان مبعثهم في واد غير ذي زرع؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للتجارة، فقد كان في يهود يثرب وفي أنباط الشام وفي أقباط مصر وتجار السند كفاية، فقد أحكموا فن التجارة وانتشروا في العالم، وإذا كانوا قد بعثوا ليشتغلوا بالتجارة حقا فلماذا لم يبعثوا على طريق القوافل التجارية، وبقرب من أسواق التجارة الكبرى؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للصناعة وأعمال اليد، فقد كان في قيُون البلاد المتمدنة، وأصحاب الصنائع والحرف – وإنهم لكثير – غنى وكفاية!.

وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت لتنضم الى الحكومات الرومية والإيرانية، وتشغل أفرادها وظائف هذه الحكومات ومناصبها، فقد كان في أهل الشام وفارس غنى وكفاية في الادارة، وإنهم يزاحمون الأجانب بالمناكب ويدفعونهم بالراح. وإذا كانت هذه الأمة بعثت لعيش هنيء، ومطعم شهي، ومشرب مريء، وملبس وضيء، ومسكن بهي، لا لشيء آخر وإنما مناها وهمها أن تلقى لبوسا ومطعما، لم تكن بدعا من الأمم، وكانت منافسة لنا في ميدان الحياة، فحق لنا أن نقاتلها ونذودها عن مناهلنا، وقد ضاقت بنا، فكيف تسع أمة جديدة؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما تحاول ملكا، أو تريد أن تؤسس دولة، فيجب أن تصرح بذلك، وتتخذ له طريق الملوك والفاتحين، ولا تتظاهر بالدين. وإن الطريق الى كل ذلك – من زراعة، وتجارة، وصناعة، ووظيفة، وحياة بذخ وترف، وملك وشرف – غير الطريق التي سلكتها هذه الأمة الجديدة، فقد سفَّهت أحلامنا، وعابت آلهتنا، ونعت على عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا، ودعت الى دين جديد، وسارت في سبيل ذلك في شوك وقتاد، وجاهدت في غير جهاد. لقد كان الطريق الى الرفاهية أو الحكومة مسلوكة معبدة، قد سلكتها الأمم من قبل، ومشى عليها الملوك، وأصحاب الطموح في عصرهم، فمن حال بينها وبين هذه الطريق؟ وما الذي عدل بها عن جادة الحياة، وهي معلومة واضحة؟! هذا ما أظنه تناجى به ضمير الإنسان العاقل في فجر الاسلام ولا ألومه ولا أستغرب هذا السؤال، فإن هذا السؤال طبعي ينبغي أن يهجس في قلب الإنسان، وينطق به اللسان، عند كل ناشئة فلماذا لا ينشأ هذا السؤال عند ظهور أمة بأسرها؟ ما هو الجواب؟ إذا كان الجواب في الاثبات، وإذا كان مبعث هذه الأمة في الحقيقة بشيء مما ذكرناه ولم تكن لهذه الأمة مهمة جديدة في العالم ورسالة خاصة الى الأمم، كانت هذه الأمة حقا من فضول الأمم، ومن المتطفلين على مائدة العالم. ولكن الله لم يبعثها لهذا أو لذاك، والأمة والأشخاص لا يبعثون لشيء من هذا، وإنما هي من طبائع البشر، لا تحتاج الى نبوة نبي، ولا بعثة أمة، وجهاد طويل وزلزال عالمي لم يُسبق في التاريخ، زلزال في المعتقد والاخلاق والميول والنزعات، وفي نظام الفكر ومنهاج الحياة.

لقد كان مبعثها لغرض سام جداً، لمهمة غريبة طال عهد الانسانية بها، وتشاغلت أمم الأنبياء عنها حتى نسيتها، وذلك ما خاطب به الله سبحانه وتعالى هذه الأمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]! فنبه على أن هذه الأمة ليست نابتة نبتت في الأرض كأشجار برية أو حشائش شيطانية، بل إنها أمة أخرجت ولامر ما أخرجت! وإنها لم تظهر لمصلحتها فحسب كسائر الأمم، بل إنها أخرجت للناس، وذلك ما تمتاز به الأمة في التاريخ، فما من أمة إلا وهي وليد أغراضها، ورهين بطنها وشهواتها، تعيش لأجلها وتموت في سبيلها.

أما الامة الإسلامية فهي أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتجاهد في سبيل الله. ظهرت نواة هذه الأمة في مكة – قلب جزيرة العرب – فقام العقلاء من قريش – وهم الآخذون بزمام الحياة في البلاد – ونثروا كنانة فكرهم، وقاسوا الناشئة الجديدة بمقاييسهم التي عرفوها وألفوها، ووزنوها في ميزان الانسانية الذي طالما وزنوا فيه أصحاب الطموح، فوجدوهم خفاف الوزن، طائشي الكفة، وذهبوا الى امام الدعوة الاسلامية، وأول المسلمين في العالم – صلى الله عليه وسلم – فقال قائلهم: "إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل مناه بعضها". فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع". قال: "يا بن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد شرفا، سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت إنما تريد ملكا ملكناك علينا[2]. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك في هدوء وتأن، ثم رفضه في غير شك وتأخير، ولم يكن هذا العرض من قريش على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كان على هذه الأمة التي يمثلها ويقودها.

ولم يكن رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضت قريش، رفضا عن نفسه الكريمة فقط، بل كان رفضا عن أمته الىآخر الأبد. اقتنعت قريش بهذه المحاورة، ويئست من مساومة هذه الأمة، ولم تعد تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وعلى هذه الأمة بواسطة ما عرضته من قبل، وقطعت منها أملها. وكان بعد ذلك صراع مستمر، ونزاع طويل، ولم يكن نزاعا في أغراض المادة وشهوات البطن، والاستئثار بموارد الرزق، والتغلب على الأسواق، بل كان نزاعا بين الإسلام والجاهلية بمعنى الكلمتين، نزاعا بين حياة العبودية والانقياد لله تعالى ورسوله، وبين الحياة الحرة المطلقة التي لا تعرف قيدا أو لا تخشى معادا ولا حسابا. وكان من نتيجة ذلك معركة بدر الحاسمة، وقد قاد النبي صلى الله عليه وسلم الى ساحة القتال جيشا لا يزيد عدد المقاتلين فيه على ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، والجيش المنافس فيه ألف محارب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم يقينا أن لو وكل المسلمون إلى أنفسهم وقوتهم المادية، فالنتيجة معلومة واضحة، نتيجة كل قليل ضعيف أمام قوي كثير العدد. فزع الرسول الى الله تعالى في إنابة نبي، والحاح عبد، ودعاء مضطر، وشفع لهذه العصابة في كلمات صريحة واضحة، نيرة خالدة، هي خير تعريف لهذه الأمة، وبيان لمهمتها وغرضها الذي خلقت له.

لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو هلكت هذه العصابة، وكانت فريسة للعدو، أقفرت المدينة، وأوحشت أسواقها، وكسدت التجارة، وبطلت الزراعة، أو تعطل شغل من أشغال الحياة، أو وقفت ادارة الحكومات. لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك، لأن شيئا منها لم يتوقف على المسلمين ولم يقم بهم، بل كان قبل وجود المسلمين ولا يزال في غنى عنهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر شيئا بعث المسلمون لأجله، وقام بالمسلمين وحدهم، فقال: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تُعبد". أجاب الله دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقضى بانتصار المسلمين على عدوهم، وبقائهم، فكأنما كان بقاء المسلمين مشروطا بقيام حياة العبودية بهم، وقيامهم بها، فلو انقطعت الصلة بينهم وبين العبادة ورواجها وازدهارها في العالم، انقطعت الصلة بينهم وبين الحياة ولم يبق على الله لهم حق وذمة، وأصبحوا كسائر الأمم خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون، بل كانوا أشد جريمة، وأقل قيمة من الأمم الأخرى، إذ لم يشترط لبقائها وحياتها مثل ما اشترط لهم، وكان كما أخبر الله تعالى: {قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعائكم، فقد كذبتم فسوف يكون لزاما} [الفرقان: 77]. وقد حافظ المسلمون على هذا الشرط، وبروا بهذا العهد، وتذكروا أنهم إنما نُصروا على عدوهم – وقد كان يأتي عليهم ويستأصلهم في ساحة بدر – وتركوا على ظهر الأرض لأن عبادة الله منوطة بهم على أرض الله.

بهذه الرسالة انبثوا في العالم، وحملوها الى الملوك والسوقة والأمم، وفي سبيل ذلك هاجروا وجاهدوا، ولأجل ذلك حاربوا وعاهدوا، ولم يزالوا يعتقدون أنهم مبعثون من الله إلى الأمم، وحاملو راية الاسلام في العالم. أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر الى رستم – قائد الجيوش الفارسية وأميرهم – فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي، وأظهروا اليواقيت واللآلي الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وسيف وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: "ضع سلاحك" فقال: "إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا، وإلا رجعت"، فقال رستم: "ائذنوا له" فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرّق عامتها، فقالوا له: "ما جاء بكم؟" فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه الى خلقه لندعوهم، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي الى موعود الله" قالوا: "وما موعود الله"؟ قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي[3]". أباح الله للمسلمين الطيبات، وفسح لهم في طرق الكسب ووجوه المعاش، ولم يضيق عليهم في ذلك، فقال: "قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل: {هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32]. وقال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10]. ولكن الله لم يبعثهم لذلك أمة، ولم يرضه لهم غاية ومهمة، بل خلقهم للسعي للآخرة، وخلق أسباب الحياة لهم، "إن الدنيا خلقت لكم، وإنكم خلقتم للآخرة" وجعل الحياة وأسبابها خاضعة لمهمتهم التي بعثوا لأجلها، فإذا زاحمتهم في سبيل مهمتهم أو غلبتهم عليها، رفضوها وإذا تلكأ المسلمون في ذلك عاتبهم الله عتابا شديدا وقال: {قل إن كان آباؤكم، وأبناؤكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 24]. أراد الأنصار رضي الله عنهم أن يتفرغوا لإصلاح أموالهم، لأيام، اكتفاء بأنصار الإسلام، فعاتبهم الله على ذلك وأنزل: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195].

قال سيدنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "إنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا في ما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل هذه الآية[4]". ولكن مع الأسف الشديد، قد تشاغل المسلمون اليوم بالدنيا كالأمم الجاهلية وسَعَوا وراءها، وعقدوا حياتهم بها، فإذا أشرفتم على مدنهم وبلادهم من مرقب عال لم تميزوا بينهم وبين أفراد أمة جاهلية، سعي وراء المادة في غير اقتصاد، واكتساب من غير احتساب، سهر في غير طاعة، وعمل في غير نية، وتجارة في لهو عن ذكر الله، وحرقة في جهل عن دين الله، ووظيفة في الاخلاص لغير الله، وحكومة في مشاقة الله، شغل في ضلالة، وقعود في بطالة، وحياة في غفلة وجهالة. هل اذا اطلعتم – يا سادتي – على بلاد اسلامية، ورأيتم هذه الأمة في غداوتها وروحاتها الى الأسواق والإدارات، ومصالح الحكومة، عرفتم أنها أمة خلقت لشيء آخر، وبعثت لغرض آخر، أسمى من هذه الأغراض التي يسعى لها الكافر والمؤمن. إن هذا الأسلوب من الحياة لحجة ظاهرة لأهل الجاهلية على المسلمين، فلو نطقوا لقالوا: "ما ذنبنا، أيها المسلمون! إذ عرضنا على نبيكم المال، والسيادة، والملك، فأبى ورفض كل ذلك؟! ألا نراكم تسعون اليوم وراء الذي رفضه نبيكم بالأمس، كأنما خلقتم لأجله؟ فأي الفريقين أشد ذنبا، أمن عرض على محمد صلى الله عليه وسلم المال والسيادة والملك، تفاديا من الخلاف والنزاع، فأبى ورفض، أو من تهافت على ما رفضه سيده تهافت الظمآن على الماء، والفراش على النور؟. وإذا كنتم اليوم لا يهمكم إلا المال، أو الحياة، أو الشرف، أو حكم على قطعة أرض، فلماذا تظاهرتم بالأمس بالدين، وأقمتم الدنيا وأقعدتموها لأجله، وكدرتم علينا صفو العيش، لقد كنتم وكنا في غنى عن هذه الحروب الطاحنة التي أيتمت البنين، وأيئمت النساء، وأجلت الناس عن الأوطان!.

أعيدوا إلينا إذا تلك الدماء التي أريقت في ساحة بدر وأحد، وخيبر وحنين، واليرموك والقادسية، وأعيدوا إلينا تلك النفوس التي قتلت باسم الدين، وأعيدوا إلينا تلك الأيام التي كنا نعيش فيها في وئام وهدوء، لا نعرف فيها إلا الأكل والشرب وقضاء مآرب النفس!. وماذا يكون جوابنا لو تعرض أحد من أخلافهم الأحياء وقال: "ما غَناؤكم أيها المسلمون؟! لقد ساهمتمونا في أسباب الحياة، وخلقتم لنا فوق ذلك مشكلات كثيرة في الحياة السياسية والاجتماعية، ولا نراكم تسدون عوزا، أو تصلحون خللا، وتلمون شعثا، أو تقيمون زيفا في الحياة". عفوا أيها القراء، وسماحا أيها الكرام، فقد طال العتاب، وقديما قال الشاعر العربي:

وفي العتاب حياة بين أقوام

من المعلوم أن حياة الأمم بالرسالة والدعوة، وإن الأمة التي لا تحمل رسالة ولا تستصحب دعوة، حياتها مصطنعة غير طبعية، وإنها كورقة انفصلت من شجرتها، فلا يمكن أن تحيا بسقي أو ري: {فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17]. إننا – أيها الفقراء – أمة الحاضر وأمة المستقبل، قد كتب لنا الخلود والنصر، لأننا أصحاب دعوة ورسالة نبوية، وهي الرسالة الأبدية التي قضى الله بخلودها وظهورها. فلسنا تحت سيطرة المادة وحكم الزمان، بشرط أن نقوم بدعوتنا، ولنستقبل برسالتنا، ونعود أمة دعوة نبوية كما بدأنا، دعوة في ما بيننا معشر المسلمين، ودعوة في غيرنا من الأجانب في الدين.

لقد تخلفنا عن الأمم المعاصرة في العلوم الطبيعية، والأسباب الحربية، وفي الأخذ بأسباب الرقي المادي بعدة قرون، وقد كانت المسابقة بيننا وبينهم كمسابقة الأرنب والسلحفاة، إلا أن الأرنب كان ساهرا مع خفته وسرعته، والسلحفاة نائمة رغم بطئها وثقلها، فلو حاربنا هذه الأمم اليوم لاستغرق ذلك قرونا، ثم كانت المقارنة بحساب دقيق، فإذا أفاق العدو وسبقنا بشعرة في القوة المادية والعدد الحربية رجحت كفته، لأن المادة عمياء وهي من القساوة والحياد التام بمكان لا تفرق فيه بين المحق والمبطل والشريف والوضيع. ولكن الدعوة والرسالة – وهي الروح التي تقهر المادة وتسخِّر الأسباب وتستنزل النصر – تأتي بخوارق ومعجزات، وطالما قهرت القاهر وفتحت الغالب، وطالما خضعت الحكومات القاهرة، ودانت الملوك الجبابرة بقوة الدعوة والرسالة للمماليك والصعاليك، وقد جربت ذلك هذه الأمة مرتين بوضوح في التاريخ:

مرة: لما خرج العرب من جزيرتهم الى البلاد الرومية والفارسية في ثياب صفيقة مرقعة، وفي نعال وضيعة مخصوفة، يحملون سيوفا بالية الأجفان، رثة المحامل، على خيل قصيرة، متقطعة الغرز، وسرعان ما قهرت دعوتهم ورسالتهم وحياتهم الأمم الرومية والفارسية، التي كانت كدمى كُسيت حللا فاخرة، وأعوادا أسندت الى الجدار، لحرمانها من رسالة، وقعودها عن دعوة، وكان الانتصار في الآخر للرسالة على النظام، وللروح على المادة، وللمعنى على الظاهر.

ومرة ثانية: لما قهر التتر – ذلك الجراد المنتشر – العالم الاسلامي من أقصاه الى أقصاه، وخضدوا شوكة المسلمين، فلم تقم لهم قائمة، ولم يقف في وجههم واقف، وكاد المسلمون يصبحون أثرا بعد عين، واستولى اليأس على قلوبهم حتى كان من الأمثال السائرة: "إذا قيل لك أن التتر انهزموا، فلا تصدق" هنالك فعلت الدعوة الإسلامية فعلها، ونفذت فيهم. فإذا القاهر يصبح مقهورا، وإذا الفاتح مفتوح لدين المفتوحين، وإذا التتر يتلفظون بكلمة الإسلام، ويدينون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصبحون أمة إسلامية.

وإن الرسالة الإسلامية لتأتي بالمعجزات اليوم، وتقهر الأمم طوعا – لا كرها – بسلطانها الروحي ونفوذها العجيب. إن آباءكم – أيها السادة المسلمون – قد انتشروا في عواصم الجاهلية الأولى، ومراكزها الكبرى، يقولون: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام" وخلصوا الأمة الرومية من عبادة المسيح والصليب والأحبار والرهبان والملوك، وخلصوا الأمة الفارسية من عبادة النار وعبودية البيت الكياني، والأمة الطورانية من عبادة الذئب الأبيض، والأمة الهندية من عبادة البقر، وأخرجوها الى عبادة الله وحده، وأخرجوها فعلا من ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام، والعالم ينتظر منذ زمان، رسل المسلمين ينتشرون في عواصم الجاهلية الثانية، يهتفون: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة المادة والبطن، الى عبادة الله وحده، ومن ضيق عالم التنافس والأثرة والجشع المادي الى سعة عالم القناعة والإيثار والزهد، ونعيم الروح وطمأنينة القلب، ومن جور النظم السياسية والاجتماعية، الى عدل الإسلام".

هذه هي الدعوة التي تهيب بكم يا رجال العالم الإسلام، وهذه الإنسانية البائسة تستصرخكم وتستغيثكم على أعداءها. وليس العالم اليوم بأقل ظمأ وأقل فاقة الى الدعوة الإسلامية الصحيحة منه بالأمس، وإنه لا يختلف عما كان عليه في القرن السادس المسيحي، فهو غني اليوم في كل ناحية من نواحي الحياة، وفي جميع الحرف والصناعات، وقد ضاق بالأمم والحكومات، وطفح بالاعلام والرايات، وفاض بالحركات والدعوات، وضجر بطغيان الأهواء والنزعات، وثورة الأغراض والشهوات، فهو في ذلك لا يقبل علاوة، ولا يسمح بزيادة، فإذا لم يكن المسلمون إلا أمة من الأمم ليست لهم دعوة الى الله، ولا رسالة للإنسانية المحتضرة، ولم يكن لهم هم إلا أنفسهم وبطونهم، لم يكن هنالك ما يبرر تاريخهم الماضي الذي افتتح بالدعوة الدينية والجهاد في سبيلها، ولا يبرر وجودهم في هذا العصر، فإنما نُصِرُوا واستبقوا بشريطة القيام بالعبادة والدعوة إليها. والدعوة الى الله هي الناحية الوحيدة التي لا تزال فارغة في خارطة العالم، لا تشغلها أمة ولا دعوة، فإذا عمرها المسلمون أحسنوا الى الإنسانية وإلى أنفسهم، وأمسكوا هذا العالم المتمدن الذي قد كاد يهوي في الهاوية.

[1] المؤتمر الثقافي الآسيوي الذي عقد في دهلي في أبريل 1947 م، واشترك فيه ممثلو: مصر، ولبنان، وأفغانستان، وإيران، وتركيا وأندونيسيا من الأقطار الإسلامية.

[2] البداية والنهاية لابن كثير.

[3] البداية والنهاية لابن كثير.

[4] رواه أبو داود في سننه.

مَعْقِل الإنسانية

كان وجود الأمة الإسلامية في كل ناحية من نواحي العالم رمزا لحقيقة غير الحقائق المادية واللذات الجسدية، وكان كل فرد من أفراد هذه الأمة يعلن للعالم – وليدا أو ميتا – أن وراء القوى المادية قوة سماوية ووراء الحياة الفانية حياة خالدة، فإذا ولد وليد صرخ في أذنه بهذه الحقيقة، وإذا مات فارق الدنيا بهذه الشهادة.

إذا ساد على هذا العالم جمود أشبه بالموت، وغاص الناس في بحر الحياة إلى أذقانهم، واختفت كل حقيقة وراء الحقائق المادية، إذا بصوت يدوي "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" فينكسر طلسم العالم المادي، وتتجلى الحقيقة الروحية، ويجري الناس وراء هذا الصوت، وقد نفضوا أيديهم من أشغالهم وخروا أمام ربهم. وإذا ضرب الليل رواقه، ومد النوم أطنابه على هذا العالم الحي الصاخب، فإذا هو مقبرة واسعة ليس بها داع ولا مجيب، إذا بمعين الحياة ينصب في وادي الموت، فينبلج الصبح الصادق في الليل الغاسق، وتتلقى الانسانية الناعسة من مؤذن الفجر درسا في الحياة والنشاط والكدح والكفاح، والشكر والعبادة، وإذا اعتز أحد بقوته وسلطانه، وزها بكثرة ملئِه واعوانه، وقال بلسان المقال أو بلسان الحال: "أنا ربكم الأعلى" أو "ما لكم من إله غيري" قام رجل متواضع على منصة عالية في كل بقعة من بقاع مملكته، أو نفوذه، ونادى "الله أكبر الله أكبر" فينادي بحكم الله في مملكته ويرغم أنف الاله الكاذب في سلطانه. إذا هاجرت جالية مسلمة من رقعة من رقاع هذه الأرض، أو أجليت منها، لم يصب نظام المعيشة بشلل أو خلل، وظل الناس يتكسبون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وظلت رحى الحياة تدور دورها الطبيعي، ولكن روح ذلك المجتمع الانساني تفارق جسده فيصير جثة هامدة لا حياة فيها ولا روح، كذلك كان في أسبانيا، وكذلك كان في كل بقعة انسحب منها المسلمون أو أجلاهم عنها أهلها، وهل اسبانيا الحاضرة إلا مدنية بلا روح، وحياة بلا مبدأ، وأمة بغير رسالة للعالم!.

إن المؤمن وحده هو صاحب عاطفة في هيكل العقل والمادة الذي لا يعبد فيه الا النفس والبطن، وهل الحياة الا بالعاطفة؟ وهل الدنيا إذا ماتت العاطفة، وغلب العقل، وحكمت المادة، الا سوق تجارة أو ميدان حرب؟ فإذا ثار المؤمن للحق كسر طلاسم العقل، وفك سلاسل الكون، وحطم أصنام المادة، وأملى على العالم ارادة الله، فإذا هو مطيع خاضع وإذا هو متواضع خاشع، قلب تيار الحياة وغير وجه التاريخ، وأرغم الكون على أن يسير سيرته. حالت دجلة في سبيل المسلمين دون المدائن، وكانت السنة كثيرة المدود، ودجلة تقذف بالزبد، فجمع سعد الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر اليهم" فقالوا جميعا: "عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل" فندب الناس الى العبور، واذن لهم في الاقتحام، وقال: "قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وتلاحق الناس في دجلة، وهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء[1].

نزل طارق بالأندلس، والبحر وراءه والعدو أمامه، والمستقبل رهيب، والطريق مظلم، والأرض كفة حابل، والعدد زهيد والمدد بعيد، فهزئ بأشباح المادة المخيفة، وعاند العقل، وأمر باحراق السفن التي ترجع به الى بلاده[2]، وعزم على الفتح وأيقن بالنصر، فهزم العدو، وملك الجزيرة الخضراء للمسلمين. أراد عقبة بن نافع أن يتخذ مدينة في افريقية، يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد، فقصد موضع القيروان، وكانت وحلة مشتبكة، بها من أنواع الحيوان من السباع والحيات وغير ذلك، فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى: أيتها الحيات والسباع، إنّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنا، فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه، فنظر الناس ذلك اليوم الى الدواب تحمل أولادها، وتنتقل فرآه قبيل كثير من البربر فأسلموا[3]. خرج محمد بن القاسم – وهو ابن سبع عشرة سنة – لغزو الهند، ومعه حفنة من الناس، والبحار حائلة، وبلاد العدو واسعة الأطراف وعرة المسالك لم يجربها العرب، فهزئ بالمعوقين والمرهبين، وغلب الإيمان القوة وغلب الروح المادة، وإذا بالهند – من السند الى الملتان – خاضعة للمسلمين.

إن العالم كله مدينة الأوهام، والمؤمن وحده هو صاحب يقين لا يزول، وعقيدة لا تتحول، وهو في يقينه في عالم الأوهام، كمصباح الراهب في الغابة المظلمة، ومنارة النور في بحر الظلمات، والجزيرة التي يأوي إليها اليائسون، والطود الذي لا تزحزحه السيول، ولا تزلزله العواصف وقد يتمسك بيقينه، ولا يوافقه على ذلك أحد، ولا يصدقه أحد، فلا تخور عزيمته، ولا تلين عريكته، ولا يرتاب ولا يتلدد، والناس بين معارض ومنتقد، ومطيع كاره، أو مخالف معتزل، وهو لا يحفل بذلك، ويمضي كالسيف، حتى يهزم يقينه ألف جند من الشك، وينقشع سحاب الأوهام، ويظهر يقينه مثل فلق الصبح.

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش وأمره بالتوجه إلى الشام، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسر الجيش، وارتدت العرب اما عامة أو خاصة من كل قبيلة، وظهر النفاق واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة، لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم، فقال الناس لأبي بكر: ان هؤلاء – يعنون جيش أسامة – جند المسلمين، والعرب على ما ترى فقد انتقضت بك، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك، فقال أبو بكر: "والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تختطفني، لانفذت جيش أسامة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم" فخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو، وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف، فخرجوا كما أمرهم، وحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل، فلما خرج الجيش الى معسكرهم بالجرف وتكاملوا، أرسل أسامة عمر بن الخطاب وكان معه في جيشه الى أبي بكر، يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إن معي وجوه الناس وجلدتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون، وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله، ألا فامض فأبلغه عنا، واطلب اليه أن يولي أمرنا أقدم سنا من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة الى أبي بكر، فأخبره بما قال أسامة، فقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لانفذته كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لانفذته، قال عمر: فان الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة، فوثب أبو بكر – وكان جالسا – وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟! وسار أسامة، وأوقع بناس من قبائل قضاعة التي ارتدت، وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوماً، وقيل سبعين، وكان انفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فان العرب قالوا: لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه[4].

إن العالم سوق لا رحمة فيها ولا شفقة، ولا مسامحة فيها ولا كرم، والمؤمن وحده هو الذي يؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصة، ويسامح مدينه وعدوه، ويتنازل عن ملك واسع وعرض قريب، طمعا في الأجر، ومحافظة على الكرم. تغلب ملك كافر على دولة إسلامية في بلاد مالوه بالهند سنة ثلاث وعشرين وتسع مئة، وخرج محمود شاه الخلجي صاحب مالوه من بلاده هاربا عنه الى كجرات، فنهض السلطان مظفر الحليم – وكان الخلجي لا يزال على القلعة – وشرع في المحاصرة وجد في أسباب الفتح، ودخل القلعة عنوة، ووضع السيف فيهم، وكان آخر أمرهم أنهم دخلوا مساكنهم، وغلقوا الأبواب، وأشعلوها نارا واحترقوا وأهليهم، وبلغ عدد القتلى من الكفرة تسعة عشر الفا، سوى من أغلق بابه واحترق، وسوى أتباعهم، فلما وصل السلطان الى دار سلطنة الخلجي التفت اليه، وهنأه بالفتح، ودعا بالبركة في ملكه، وقال له: بسم الله ادخلوها بسلام آمنين، وعطف عنانه خارجا من القلعة الى القباب، وهيأ الخلجي الضيافة، ونزل الى مظفر شاه السلطان وسأله التشريف بالطلوع، فأجابه، فلما فرغ من الضيافة دخل به في الابنية التي هي من آثار أبيه وجده، فأعجب بها وترحم عليهم، ثم جلسا في جانب منه، وشكره الخلجي، وقال: الحمد لله الذي أراني بهمتك ما كنت أتمناه بأعدائي، ولم يبق لي الآن أرب في شيء من الدنيا، والسلطان أولى بالملك مني، وما كان له فهو لي، فأسألك قبول ذلك، وللسلطان أن يقيم به من شاء، فالتفت السلطان اليه، وقال له: ان أول خطوة خطوتها الى الجهة كانت لله تعالى، والثانية كانت لنصرتك، وقد نلتها فالله يبارك لك فيه، ويعينك عليه، وسأله أركان دولته، أن يستأثر بدولة الخلجي، فالتفت الى محمود، وقال له: احفظ باب القلعة برجال لا يَدَعو أحدا يدخلها بعد نزولي، حتى من ينتسب إلي، وانصرف الى بلاده[5].

العالم بلاد لا يعيش فيها الا من يحمل في جنبه قلبا كأنما قُد من حجر، لا يعرف الحنان والرحمة، ولا يعرف معنى الحب والايثار، والمؤمن وحده هو الذي يحمل في جنبه قلبا يفيض حنانا ورحمة للبشر، ويجمع بين الرحمة والشدة، والصلابة والرقة، وشكيمة الاسد وحنان الام، تخلق بأخلاق الله فجمع بين الرأفة والعزة، والجمال والجلال، وتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يغضب لنفسه، حتى اذا تُعدي الحق لم يقم لغضبه شيء، فبينما تراه في ساحة الجهاد كأنه نار في حطب، أو منجل في حقل، ليس له عاطفة ولا قلب، اذا به تراه في الصلاة تهمل عيناه، ويغلي صدره كالمرجل، وتراه يرق للضعيف، ويحنو على الأرملة واليتيم، قد جمع بين حلاوة العسل ومرارة الحنظل، الا أن الأولى له سجية وطبيعة، والثانية له وسيلة وذريعة، فهو ينشد بلسان الحال: واني لحلو تعتريني مرارة[6]، لا يدع السماحة والكرم حتى مع العدو، ولا يترك التمسك بالأخلاق العالية حتى في ساحة القتال. هذا صلاح الدين الذي سار مثلا في شدته وجلادته، تستغيث به امرأة اختطف ولدها، فهي تبكي بكاء الثكلى، فيرق لها بطل حطين، ويطوف بها على القبائل والمنازل، حتى تعرف ابنها، وتضمه الى صدرها[7]، ويهدي الى قِرنِه، وأعدى عدوه في العالم "رتشارد" الثلج، والفواكه في مرضه[8].

الناس من خوف الموت في الموت، وأشد من الموت، يعدون هذه الحياة رأس مالهم ومنتهى آمالهم، فليس من الغريب أن يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، حتى إذا جاءه الموت، خرج من الدنيا حزينا متلهفا على ما يفارقه، كارها مستبشعا لما يستقبله. أما المؤمن فهو دائم الحنين الى ربه، شديد الشوق الى جنته، لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع، يستقبل الموت باسم الثغر جذل القلب، فرحا مستبشرا كأنما هو خارج من السجن، أو عائد الى الوطن. لما طعن جبار بن سلمى عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فأنفذه، قال عامر: "فزت ورب الكعبة"[9] ولما ضرب ابن ملجم علي بن أبي طالب، قال: "فزت ورب الكعبة"[10]. قام أبو عبيدة في الناس في طاعون عمواس، فقال: أيها الناس، ان هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وان أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه، فطعت فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، ان هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وان معاذا يسأل الله أن يقيم لآل معاذ حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته، فلقد كان يقبلها، ثم يقول، ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا[11].

وحضر بلالا الوفاة، فقالت امرأته: واحزناه، قال: "بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه"[12]، وكذلك روي عن عمار، أنه كان قال ذلك عند وفاته[13]. المؤمن هو الذي يستطيع أن يفضل الفقر على الغنى، والآخرة على الدنيا، والنسيئة على النقد الحاضر، والغيب على الشهود، والدين على الحياة في كل دور من أدوار التاريخ، مهما بلغت المادة أوجها. ليس لقطر من الأقطار أن يمن على الإسلام بأنه فسح له في أرضه، وإنما الفضل والمنة للإسلام على كل قطر، فقد ألقى عليه درسا في التوحيد الذي لا يشوبه شرك، وحب الانسانية العامة واحترامها، ووسع أفق خياله فصار يرى للحياة معنى غير معنى، وللانسانية مستوى أرفع من مستواها القديم، وعالما أفسح من وكره الذي يعيش فيه، إنه وضع عن كل أمة اصرها، والاغلال التي كانت عليها، وأنقذها من العنصرية والجنسية والوطنية، وعبادة المال والبيوتات، والأشجار والأحجار، والحيوانات والأنهار، والأرواح والأجرام السماوية، ومن الرهبنة الفاتكة بالمدينة، والعزبة القاطعة للنسل، وهو الذي طلسم الأوهام التي مضى عليها قرون، ودرج عليها أجيال، أطلق العقل من أساره، ورفع الحجر عن العلم، ونسخ احتكار البيوتات للدين، ورسم في الذهن منزلة العمل الفردي، والسعي الشخصي، واستقلال كل انسان بعمله ومسئوليته، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الفضل في تقدم العالم، وقطع مراحل المدنية والعلم، إنما يعود الى الإسلام.

ومن الذي يجهل اليوم أن الفضل في تقدم أوربا وتخلصها من رق الأحبار والرهبان، وسلاسل الكنيسة والحكم المطلق، وفي العكوف على العلوم الطبيعية والتجريبية، والخروج من الهمجية الى الحضارة، إنما يعود الى الأندلس الاسلامية التي ظلت قرونا طوالا مشعل الثقافة، ومنبع العلم، ومدرسة الفن والتهذيب في العصور المظلمة! إن كلمات العدل والمساواة، والانسانية منتشرة ذائعة اليوم في كل ناحية من نواحي الهند، وبارزة على كل صفحة من صفحات أدبائها وكتابها، وخفيفة على لسان كل خطيب ومتكلم، ومن ذا يكابر في أن الاسلام هو الذي عرّف هذه الكلمات الى أهل هذه البلاد، وسعى في رواجها وذيوعها في بلاد لم تكن تعرف هذه الكلمات ومعانيها.

ان المسلمين ليسوا نسلا أو شعبا فحسب، وليس الاسلام عادات وتقاليد وتراثا يتوارثه ولد عن أبيه، انه دعوة ورسالة، وحياة وعقيدة، تقتضي بالطبع، أن يكون نظر المسلم أوسع من الماديات المحسوسات، ومن عالم النفوس والبطون، ووطنه أوسع من المنطقة الصغيرة التي ولد فيها، وأن يكون قلبه عامرا بحب كل انسان كائنا من كان، وأن لا تكون الاوطان والانساب عائقا، في سبيل حبه وعطفه، وأن لا يكون سعيه منحصرا في نطاق الحياة الضيق، ويلزم لكل من يدين بهذا الدين أن يحمل للبشرية رسالة للروح والقلب، والعاطفة والسياسة والاجتماع، ويملك قوة أخلاقية تراقبها في النور والظلام، والوحدة والاجتماع، والعجز والمقدرة، عنده أساس متين من العلم، وبينات ومحكمات في المدنية، وحياة نبي كان ولا يزال المثل الكامل للبشرية في مختلف ظروفه وأحواله، ومختلف عصوره وأجياله، وكل عصر وقطر، ومفزع الانسانية في كل ساعة عصيبة، وكلما حلت بها أزمة عجزت عن حلها العقول البشرية، والنظم الاجتماعية والسياسية.

إذا حجب الليل النهار، وهجمت جنود الهوى من كل جانب، وهزمت الفضيلة والاخلاق، وإذا أصبح الانسان ينحر أخاه لاجل فلس أو لأجل قرص، وإذا أصبحت الشعوب الكبيرة تزدرد الشعوب الصغيرة في سبيل الجشع أو الخيلاء، وإذا صار وثن المال يعبد على قارعة الطريق، وإذا ضحي بألوف من الناس على أنصاب الجنسية والوطنية، وإذا حال الانسان بين الانسان ورزقه، اذا التهبت نار الشهوات، وانطفأ نور القلب، اذا نسي الانسان الموت، وعكف على الحياة يعبدها، اذا غلا الجماد والمعادن، ورخص الانسان في سوق العالم، فصارت المدن العامرة تسوى بها الارض، وألوف من البشر يقتلون في دقائق وثوان بالقنبلة الذرية. اذا تغلبت الامم الاوربية على العالم، وجعلته بيت المقامرين، أو سوق الجزارين، وعبثت بالانسانية عبث الوليد بجانب القرطاس، وتلاعبت بالامم كالكرة، اذا ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، هنالك يستصرخ هذا الكون المؤمن، ويستغيث به، وهنالك تناديه الانسانية باسم الاسلام الذي طلع كالصبح الصادق في ظلام الليل الحالك، وباسم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أغاث الله به الانسانية في احتضارها وانتحارها، وحفظ به مهجة الانسانية، وأدال به من الجاهلية الجهلاء. فهل يسمع المؤمن في جزيرة العرب التي أشرقت منها شمس الاسلام، وفي حواضر البلاد العربية في آسيا وافريقيا، وفي الأقطار الاسلامية عامة، صراخ الانسانية وعويلها، فيهب من نومه العميق الطويل الذي مله العالم، ويثب كالاسد، وينقض كالصقر على اعداء الانسانية، إنه بذلك لجدير وبحول الله على ذلك قدير، فهو معقل الانسانية، ومنتهى الرجاء، وأمين الله في الأرض وخليفة الأنبياء.

يدعون سيارا اذا احمر القنا

ولكل يوم كريهة سيار

[1] الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 198).

[2] نفح الطيب (ج 1 ص 131).

[3] الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 334).

[4] الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 137-138).

[5] نزهة الخواطر للعلامة عبد الحي الحسني ج 4.

[6] شطر بيت لسيدنا حسان بن ثابت.

[7] الفتح القسي في الفتح القدسي: لعماد الدين الكاتب.

[8] الفتح القسي في الفتح القدسي: لعماد الدين الكاتب.

[9] طبقات ابن سعد.

[10] كتاب المتفجعين لمحمود بن محمد بن الفضل.

[11] الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 316).

[12] الغزالي في الاحياء عن ابن أبي الدنيا.

[13] الطبراني.

المد والجزر في تاريخ الاسلام

حال العرب قبل الاسلام

كان العرب قبل الاسلام أمة كادت تكون منعزلة عن العالم، قد فصلتها عن العالم المتمدن المعمور البحار من ثلاث جوانب، وصحراء من جانب، وكانت من الانحطاط والانقسام والضعة والخمول بمكان لا تطمع فيه حينا من الدهر الى غزو البلاد، ولا تحلم بالانتصار على الدول المجاورة لها في المنام، ولا تحدّث به يوما من الأيام. هذا، ودولتا فارس والروم يومئذ سيدتا العالم، وزعيمتا الشرق والغرب، وقد أحاطت ممتلكاتهما بشبه جزيرة العرب، احاطة السوار بالمعصم، وإنما زهد الفرس والرومان في فتح هذه الجزيرة لوعورتها، وقلة خيراتها ومواردها، وما يكلفهم ذلك من رجال وأموال، هم في غنى عن انفاقها في هذه الصحراء المجدبة، وفي هذه الامة الفقيرة، وانما اكتفوا برقابتهم السياسية عليها، وباماراتهم التي أنشأوها على ثغور هذه الجزيرة الواسعة ولهواتها[1]. هكذا كانت هذه الامة التي ما كانت لتمثل دورا مدهشا في تاريخ العالم عن قريب، كانت أمة بدوية موهوبة – ولكن واهب ضائعة – لا يرفع الناس بأفرادها في العراق والشام ومصر رأسا، اذا مروا بهم تجارا أو ممتارين[2]، ولا يحسبون لهم حسابا، ولا يهمهم شأنهم الا ما يهم أهل المدن شأن الأعراب المستغربين في اللباس، والصورة واللسان، ولا يذكرونهم – اذا ذكروهم – الا بذلاقة لسانهم، وفصاحة منطقهم، وشجاعتهم، وجودة خيلهم، ووفائهم، الى غير ذلك مما قد تعرفه الامم المتمدنة عن الامم البدوية.

آراء رجال ذلك العصر في العرب

واذا أردت أن تعرف منزلة العرب عند أهل العالم، قبل الاسلام، والنظرة التي كان ينظر اليهم بها جيرانهم في الشرق والشمال[3]، فاستعرض الآراء التي أبداها رجال ذلك العصر، من أهل البصر والمعرفة، ووافق عليها العرب أنفسهم وزادوا عليها. فمما حفظه لنا التاريخ من هذه الآراء، ما قاله امبراطور الدولة الفارسية لسفراء المسلمين. جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي بعدما ساق حديث رسل المسلمين في مجلس يزدجرد: قال: "فتكلم يزدجرد فقال: اني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فان كان عددكم كثر، فلا يغرنكم منا، وان كان الجهد[4] دعاكم، فرضنا لكم قوتا الى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم". فقال المغيرة بن شعبة: "أيها الملك، أنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان، والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس الا ما غزلنا من أوبار الابل وأشعار الغنم. ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية، كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله الينا رجلا... الخ[5]". وجاء في هذا الكتاب أيضاً: ".... وقد بعث أمير الفرس، يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه، فذهب اليه المغيرة بن شعبة، فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه، ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب، واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعا، وأبعد الناس دارا، وأقذر الناس قذرا وقال: ما يمنع هؤلاء الاساورة[6] حولي أن ينتظموكم[7] بالنشاب، ألا تنجسا من جيفكم، فان تذهبوا نخلّ عنكم، وان تأبوا نُزركم مصارعكم. قال فتشهدت وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت حتى بعث الله رسوله... الخ[8]". وفي هذا الكتاب أيضا: "وذكر الوليد بن مسلم: أن ماهان طلب خالدا ليبرز اليه فيما بين الصفين، فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال ماهان: انا قد علمنا ان ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا الى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير، وكسوة وطعاما، وترجعون الى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها[9]". وهذا كله يدل على ما كان يساوي العرب عند الروم، وعلى ما كان لهم من قيمة ومنزلة عندهم.

تغير حال العرب بالاسلام

ولكن سرعان ما تغيرت الاحوال، وانقلبت الحقائق، وبطلت التجارب السابقة، وتاه العقل، اذ خرج هؤلاء الاعراب من صحرائهم، يفتحون، ويقهرون، ويغلبون، ويخضعون. تدفق هذا السيل من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عاصمة العرب الاسلامية، لاحدى عشرة سنة للهجرة النبوية، واثنين وثلاثين وست مائة لميلاد المسيح، فغلب كل شيء اعترضه في الطريق، وطما[10] على السهل والجبل، ولم تكن جيوش فارس والروم ومصر وغيرها المعدودة بمئات الألوف، الشاكة السلاح[11]، الشديدة البطش، التي كانت الأرض تزلزل بها زلزالا، لم تكن هذه الجنود المجندة الا حشائش في هذا التيار الجارف، فلم تعق سيره، ولم تغير مجراه، حتى فاض في مروج الشام، وفلسطين، وسهول العراق وفارس، وربوع مصر والمغرب الأقصى، وأودية هملايا، سال هذا السيل القوي بالمدنيات العتيقة، والحكومات المنظمة القوية، والأمم العريقة في المجد والسلطان فأصبحت خبرا بعد عين {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} [سبأ: 19]. خرج العرب من جزيرتهم فاحتكوا بالفرس والروم، وكان العرب يكرهون وجوههم[12] ويرهبون سطوتهم في ديارهم، ولكن هانوا عليهم في هذه المرة، فغزوهم في عقر دارهم، ونزلوا لساحتهم، فما لبثوا أن مزقوا جموعهم شر ممزق، وثلوا عروشهم[13] ووطأوا تيجان ملوكهم، وفتحوا كنوزهم، واقتسموا أموالهم وتراث ملوكهم، وسبوا ذراريهم، ومزقوا رداء فخرهم وعظمتهم، فلم يرقع أبدا، وكسروا شوكتهم، فلم تعد أبدا، وهلك كسرى فلا كسرى بعده، وهلك قيصر فلا قيصر بعده. {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} [الأعراف: 137]. خرج هؤلاء العرب من جزيرتهم في ثياب صفيقة[14] مرقعة، ونعال وضيعة مخصوفة[15]، يتقلدون سيوفا بالية الأجفان[16]، رثة المحامل، على خيل بعضها عارية الظهور، متقطعة الغرز[17]، قد بلغ بهم البعد عن المدنية الى حد أنهم كانوا يحسبون الكافور ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين[18]. فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وامتلكوا ناصية أمم بعيدة الشأو في المدنية، انقلب رعاء الشاة والابل، رعاة لارقى طوائف البشر في العلم والمدنية والنظام، وصار هؤلاء أساتذتهم في العلوم والآداب، والأخلاق والتهذيب، وحقت كلمه الله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 05].

اللغز الذي أدهش المؤرخين

هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا النشاط الغريب بعد ذلك الخمود العجيب، وهذا الانتباه السريع بعد ذلك السبات العميق، لغز من ألغاز التاريخ، وقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن هذا الحادث أغرب ما وقع في التاريخ الانساني، واليك بعض ما قال المؤرخون الاوربيون:

قول الؤرخ جبون:

يقول المؤرخ "جبون":

"بقوة واحدة ونجاح واحد، زحف العرب على خلفاء أغسطس (في الروم) واصطخر (في فارس)، وأصبحت الدولتان المتنافستان، في ساعة واحدة فريسة لعدو، لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منهما، في عشر سنوات من أيام حكم عمر أخضع العرب لسطانه ستة وثلاثين ألفا من المدن والقلاع، خربوا أربعة آلاف كنيسة ومعبد للكفار، وأنشأوا أربعة عشر ألفا من المساجد لعبادة المسلمين، على رأس قرن من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة، امتد سلطان خلفائه من الهند الى المحيط الاطلانطيكي، ورفرف علم الاسلام على أقطار مختلفة نائية كفارس وسورية ومصر وافريقيا وأسبانيا[19]".

قول المؤرخ ستودارد

ويقول "ستودارد الأميركي" في كتابه حاضر العالم الاسلامي:

"كاد يكون نبأ نشوء الاسلام النبأ الأعجب الذي دون في تاريخ الانسان، ظهر الاسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود، حتى انتشر في نصف الأرض ممزقا ممالك عالية الذرى، مترامية الأطراف، وهادما أديانا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيرا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيا عالما حديثا متراص الأركان، هو عالم الاسلام. كلما زدنا استقصاء، باحثين في سر تقدم الاسلام وتعاليه زادنا ذلك العجب العجاب بهرا، فارتددنا عنه بأطراف حاسرة، عرفنا أن سائر الأديان العظمى إنما نشأت، ثم أنشأت تسير في سبيلها سيرا بطيئا ملاقية كل صعب، حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر، وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين، ثم أخذ في تأييده والذب عنه، حتى رسخت أركانه ومنعت جوانبه، بطل النصرانية "قسطنطين" والبوذية "أسوكا" والمزدكية "قباء كسرو"، كل منهم ملك جبار، أيد دينه الذي انتحله بما استطاع من القوة والايد، إنما ليس الأمر كذلك في الاسلام، الاسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية، تجوب فيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن من قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في الأرض مجتازا أفدح الخطوب وأصعب العقبات، دون أن يكون من الأمم الأخرى عون يذكر، ولا أزر مشدود، وعلى شدة هذه المكاره فقد نصر الاسلام نصرا مبينا عجيبا، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين، حتى باتت راية الاسلام خفاقة من "البرانس" حتى "هملايا"، ومن صحاري أواسط آسيا حتى صحاري أواسط افريقية[20]".

قول المؤرخ فيشر

ويقول مؤرخ عصري "هـ. 1. ل. فيشر" في كتابه تاريخ أوربا:

"لم يكن هنالك – في جزيرة العرب قبل الاسلام – أثر لحكومة عربية، أو جيش منتظم، أو لطموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين، محاربين، وتجارا، لم يكونوا سياسيين، انهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبتهم أو توحدهم، انهم كانوا على نظام منحط من الشرك، بعد مائة سنة حمل هؤلاء المتوحشون الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، انهم فتحوا سورية ومصر، ودوخوا وقلبوا فارس، ملكوا تركستان الغربية، وجزءا من بنجاب، انهم انتزعوا افريقية من البيزنطيين والبربر، وأسبانيا من القوط، هددوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق، مخرت أساطيلهم المصنوعة في الاسكندرية وموانئ سوريا، مياه البحر المتوسط، واكتسحت الجزائر اليونانية، وتحدت القوة البحرية للامبراطورية البيزنطية، لم يقاومهم الا الفرس وبربر جبال الاطلس، انهم شقوا طريقهم بسهولة حتى صعب في بداية القرن الثامن المسيحي ان يقف في وجههم واقف، ويعرقل سيرهم في الفتح والاستيلاء، لم يعد البحر المتوسط بحر الروم، بل أصبح حوضا عثمانيا لا سيطرة فيه لغير الترك، ووجدت الدول النصرانية من أقصى أوربا الى أقصاها منذرة مهددة بحضارة شرقية مبنية على دين شرقي[21]".

ويقول مؤلف شيوعي:

"ان الانسان ليدهش اذا تأمل السرعة الغربية التي تغلب بها طوائف صغيرة من الرحالين، الذين خرجوا من صحراء العرب مشتعلين بحماسة دينية على أقوى دولتين في الزمن القديم، لم يمض خمسون سنة على بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم – حتى غرز اتباعه علم الفتح على حدود الهند في جانب، وعلى ساحل البحر الاطلانطيكي في جانب آخر، ان خلفاء دمشق الاولين حكموا على امبراطورية، لم تكن لتقطع في أقل من خمسة أشهر على أسرع جمل، وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوى ملوك العالم. كل نبي جاء بمعجزات آية لما يقول، وبرهانا على صدقه، ولكن محمدا - صلى الله عليه وسلم – هو أعظم الأنبياء وأجلهم، اذ كان انتشار الاسلام أكبر آيات الأنبياء وأروعها اعجابا وخرقا للعادة، ان امبراطورية أغسطس الرومية بعدما وسعها بطلها "تراجان" نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون، ولكنها لا تساوي المملكة العربية التي أسست في أقل من قرن، ان امبراطورية الاسكندر لم تكن في اتساعها الا كسرا من كسور مملكة الخلفاء الواسعة، ان الامبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة، ولكنها غلبت وسقطت أمام "سيف الله" في أقل من عشر سنوات[22]".

نظرة تحليلية في هذا اللغز

والآن ننظر في هذا الحادث الغريب نظرا علميا تحليليا، ونبحث عن أسبابه الحقيقية، الجنود والدول في هذا العالم المادي تغلب الجنود والدول في الغالب لوفرة عددها أو بزيادة عدتها وعتادها، ولأنها أحسن في الشكة والسلاح، وفي التنظيمات العسكرية، وفائقة في النظام الحربي، فنتناول جميع هذه العلل المادية التي يرجع اليها الفضل في انتصار الجيوش، والدول عامة، ونبحث فيها علة علة:

مسألة العدد

أما العدد فمعلوم أنه كانت النسبة بعيدة بين المقاتلين في جميع المواقف الحاسمة والمعارك الفاصلة في كفاح الاسلام والنصرانية والمجوسية، وكان الروم والفرس أضعاف عدد المسلمين في أكثر الوقائع. هذه اليرموك كان الروم الذين نفروا لقتال المسلمين يبلغ عددهم مائة ألف وثمانين ألفا، وفي رواية مائتي ألف، وفي رواية أربعين ومائتي ألف. وأقل ما روي عن عددهم عشرون ومائة ألف، وأكثر ما ذكر عن المسلمين أنهم كانوا أربعة وعشرين ألفا. كذلك كانت النسبة بعيدة في وقعة القادسية، وهي أختها في العراق والنتيجة معلومة، "وما يوم حليمة بسر"[23]. وقد اعترف بقلة المسلمين ووفرة جنود الروم والفرس المؤرخون جميعا، ولم يعللوا الفتح الاسلامي الغريب في التاريخ بكثرة عدد مقاتلة المسلمين، جاء في الفصل الرابع للأستاذين "غودفروا دمونبين" و "بلانونوف":

"ان العرب الذين أفاضوا من الجزيرة لفتح الامصار لم يكونوا عصائب لا تحصى ولا تعد، تدفقت على الشرق المتمدن، فقد أحصى مؤرخوا العرب الجيش الأول للمسلمين في اليرموك بثلاثة آلاف، ثم أرسل اليهم الخليفة بنجدة أبلغتهم 7500 مقاتل، وأخيرا تتام عددهم 34 ألفا، وأما عدد الروم فقال العرب: انه كان مائة ألف، وقيل 130 ألفا وقيل 200 ألف مقاتل، ولم يزده مؤرخو بيزنطية على 40 ألفا وعلى كل حال كان العدد الأكبر لأعداء العرب، وهكذا في حروب فارس[24]". ومعلوم أن جزيرة العرب قليلة العمران بالنسبة الى مساحتها واتساع رقعتها، معظمها صحراء، ورمال وعثاء، وأرض قاحلة جرداء، أما البلاد التي زحف عليها المسلمون ورموا فيها بأنفسهم، فهي من أخصب بلاد الله مستبحرة العمران، مكتظة بالسكان، وكانت خليتها تعسل حينا بعد حين، وتقطع بعوثا اثر بعوث، وتتدفق سيول من الجيوش والمقاتلة، وتأتيهم الميرة من كل مكان لا تكاد تنتهي، وكان العرب الغرباء كنقطة مغمورة في بحار من الاعداء، نازحين عن بلادهم، منقطعين عن مركزهم، ولا يصلهم المدد الا بشق الأنفس وبعد شهور، ولا يجدون من الميرة الا ما يتغلبون عليه وينتزعون من أيدي أعدائهم انتزاعا فلو تطوعت جزيرة العرب كلها لقتال الروم والفرس، ونفر جميع أهاليها للجهاد في سبيل الله على أن ذلك من المستحيل – لما وقعوا من العالم النصراني والمجوسي – وهما أكثر من نصف الأرض المعمورة – بمكان، فكيف والذين تطوعوا للجهاد ما كانوا نصف عشر عمران الجزيرة؟!.

مسألة العتاد والسلاح

أما العُدد والعتاد، فكان العرب أفقر فيها، وأقل منهم في العدد، فلم تكن هناك جنود مرتزقة، ولا جيوش منظمة تعبئها الحكومة وتسلحها من عندها، ثم تبعثها كاملة السلاح تامة الجهاز، إنما كان متطوعون، يجهزون أنفسهم وينفرون شوقا الى الجهاد في سبيل الله ورجاء ثوابه، ومنهم من لا يجد راحلة ويلتمس عند غيره فلا يجد، فيقعد متلهفا على ما يفوته من سعادة الجهاد في سبيل الله، وقد أنزل الله فيهم: {ولا على الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92]. وكان المسلمون تزدريهم أعين الروم والفرس لما خرجوا لقتالهم. وكانوا يسخرون من سلاحهم ونبالهم وثيابهم ويضحكون. قال أبو وائل – أحد الذين شهدوا القادسية - : كان الفرس يقولون للمسلمين: "لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا. قال: قلنا: ما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا، ويقولون: دوك دوك، ويشبهونها بالمغازل[25]".

قال ابن كثير: "وكان سعد قد بعث طائفة من أصحابه الى كسرى يدعونه الى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون الى أشكالهم، وأرديتهم على عواتقهم، وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعُددها [26]".

ويقول "ماكس مايرهوف" في تأليفه "العالم الاسلامي": "يكاد يكون مستحيلا أن نفهم كيف أن أعرابا منتمين الى عشائر، ليست عندهم العدد والاعتدة اللازمة، يهزمون في مثل هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس، الذين كانوا يفوقونهم مرارا في الأعداد والعتاد، وكانوا يقاتلونهم وهم كتائب منظمة[27]".

مسألة تفوق العرب في النظام الحربي

ومما قيل في تعليل غلبة المسلمين، أن العرب كانوا فائقين في نظامهم الحربي على الروم والفرس في ذلك العصر، وكانت كتائبهم أحسن تنظيما وتدريبا، وأفضل نظاما عسكريا، وأكثر انقيادا لأمرائها وقوادها من العساكر الرومية والفارسية، وأن الفضل في انتصار العرب مع قلتهم وانكسار الروم والفرس رغم كثرتهم، يرجع الى مراس العرب للقتال وضراوتهم بالحروب، وولوعهم بالغزو والنهب، نشأتهم الجاهلية الأولى النشأة الحربية المحضة. هذا الكلام يشبه أن يكون وجيها وأكثر صوابا من التعليلات السابقة. ولكنك إذا انتقدته كباحث ومؤرخ وجدته مغالطة كبيرة يغالط بها الكتاب الأوربيون ويتعللون بها، وقد يفهمون وقد لا يفهمون. وقد ثبت في تواريخ القرون الوسطى أن الروم – وكذا الفرس – كانوا راقين في نظامهم الحربي في ذلك العصر، وقد بلغت الدولة البزنطية في بداية القرن السابع المسيحي زهوها، وأوج فتوحاتها الحربية، ففي ذلك العهد دحر الروم الفرس، وردّوهم على أعقابهم، وجاسوا خلال الديار، وعبر هرقل جبال الكرد ونهر دجلة غازيا منتصرا، وبعد حرب دامية في ساباط ومعركة فاصلة في نينوى، دخل دستجرد وتقدم الى المدائن، وغرز علم الفتح الرومي في قلب فارس، وذلك كله في سنة 625 م يعني قبل زحف المسلمين على الشام باثني عشرة سنة فقط. وقد أفادت هذه الحروب الطاحنة التي بدأت من سنة 603 الفريقين – الروم وفارس – من جهة الحرب والتدريب كثيرا، وقد استفاد الفريقان أساليب جديدة للقتال وحنكة وحسن بلاء في الحرب، وتعلم كل فريق من الآخر كما كان الشأن في الحروب الصليبية في القرون الوسطى. وقد اعترف "جبون" مؤرخ رومة الكبير بفضل الروم على العرب في الحروب ونظامها، فقد قال في كتابه (المجلد الخامس ص 478):

أنا ألاحظ هنا وسأكرره مرارا، أن هجوم العرب وقتالهم لم يكن مثل الرومان واليونان، الذين كانت لهم رجالة قوية مستحكمة، كانت القوة العسكرية للعرب مركبة من فرسان ورماة، وكانت الحرب التي قد تقاطعها مبارزات شخصية ومناوشات من القتال، قد تستمر وتطول بغير حادثة فاصلة الى عدة أيام. أما ما قيل من مراس العرب للقتال وتدربهم عليها: بفضل حروبهم القبلية التي كادت تكون مستمرة، وتمكنهم من الانتصار على الروم والفرس، فلم تكن هذه المناوشات والغزوات الطائفية بحيث يتمكن بها العرب من قهر الامبراطوريتين الكبيرتين الرومية والفارسية، وقد خضع العرب مع هذا كله للحبشة ولفارس في جنوب العرب، وانسحبوا أمام جيوش أبرهة في زحفه على مكة، وأن الله هو الذي تولى بيته وكفى قريشا القتال وجعل أصحاب الفيل كعصف مأكول، ولماذا لم يجسر العرب على الخروج من جزيرتهم وغزو البلاد وفتحها في هذه القرون الطويلة التي قضوها في شبه جزيرتهم في خمود وخمول تام؟ لماذا لم يهاجموا الروم والفرس كما فعلوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بغير تراخ؟ ولماذا لبثوا الأحقاب والأجيال الطوال "معكومين على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم" كما يقول قتادة أحد التابعين الكبار[28]". أما ما قيل عن النظام فلا ننكر حسن نظام العرب في حروبهم وغزواتهم، وروح التعاون والتفادي، الساري في جنودهم والطاعة والانقياد لأمراء الجيوش وقوادها، والتفاني والاستماتة في سبيل الله، ولكن يعلم الخبير أن النظام ليس شيئا صناعيا ميكانيكيا، يحصل بمجرد تنظيمات عسكرية، وفنون حربية وقواعد رياضية، ولو صففت الحجارة تصفيفا بديعا، أو أقيمت العمد والسواري على نظام فني رياضي كامل لم تنفع شيئا، وقد قرأت في التاريخ أن الروم والفرس قد كانوا في بعض المواقف الجليلة يسلسلون أنفسهم، ويحفرون لهم في الأرض لئلا يندحروا أو ينسحبوا من ميدان القتال، ثم لا يغني عنهم هذا شيئا، فليس الشأن كله في النظام في الحرب، إنما الشأن الكبير والتأثير البليغ للروح والمبدأ والغاية التي يقاتل لأجلها الجنود، وتمكنها من النفوس، وهي منبع القوة الخارقة للعادة، ومبعث الشجاعة التي تبهر العقول وسبب الفتوح العظيمة التي يندهش لها المؤرخون والفلاسفة.

منبع القوة الحقيقي عند العرب المسلمين

وعن هذا المنبع نبحث في نفوس العرب الأولين الذين خرجوا لفتح العالم، وفتحوا نصف الأرض في نصف قرن، منبع هذه القوة وسبب هذا الانقلاب العظيم الذي لا يوجد له مثيل في التاريخ، أن العرب أصبحوا بفضل تعليم محمد صلى الله عليه وسلم أصحاب دين ورسالة، فبُعثوا بعثا جديدا، وخُلقوا من جديد وانقلبوا في داخل أنفسهم فانقلبت لهم الدنيا غير ما كانت، وانقلبوا غير ما كانوا، نظروا الى العالم حولهم – وطالما رأوه في جاهليتهم بدهشة واستغراب – فاذا الفساد ضارب أطنابه، وإذا الظلم مادّ رُواقه، وإذا الظلام مخيم على العالم كله، وكل شيء في غير محله، فمقتوه وأبغضوه، ونظروا الى الأمم وطوائف البشر حول جزيرتهم – وطالما رأوها بتعظيم واجلال، وغبطة واكبار – فاذا أنعام ودواب في صورة البشر {يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: 12]، وإذا صور ودمى قد كسيت ملابس الانسان، فاستهانوا بهم، وبما هم فيه من ترف ونعيم، وزخارف وزينة، وقرأوا قول الله تعالى: {زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه} [طه: 131] – {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 55].

وعلموا أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور، ومن عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سَعتها ومن جور الأديان الى عدل الإسلام، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأرضا لم يطأوها، واستخلفهم في الأرض ومكنهم فيها، وقرأوا قول الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا} [النور: 55]، وتعلقوا بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى[29] لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وان أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض[30]". وقوله: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله[31]". وعرفوا أن الله قد ضمن لهم النصر، ووعدهم بالفتح، فوثقوا بنصر الله ووعد رسوله، واستهانوا بالقلة والكثرة، واستخفوا بالمخاوف والأخطار، وذكروا قول الله تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 160]، وقوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].

[1] لهواتها: أطرافها البعيدة.

[2] الممتار: من يجلب الميرة وهي الطعام.

[3] كان جيران العرب في الشرق الفرس وجيرانهم في الشمال الرومان.

[4] المشقة والبلاء.

[5] البداية والنهاية (ج 7 ص 41-42).

[6] الاسوار عند الفرس: القائد، جمعه أساور وأساورة.

[7] ينتظموكم: يشكوكم.

[8] البداية والنهاية (ج 7 ص 109).

[9] البداية والنهاية (ج 7 ص 10).

[10] علا وغطى.

[11] الشاكة السلاح: التامة السلاح أو الحادة السلاح.

[12] قال الطبري: عندما أراد عمر فتح فارس تخوفوا من الفرس وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم؟ وكان وجه فارس من أكره الوجوه اليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم، وعزهم وقهرهم الأمم. (تاريخ الطبري ج 4 ص 61).

[13] ثلوا عروشهم: هدموها.

[14] صفيقة: كثيقة النسيج.

[15] خصف النعل: خرزها وضم بعضها الى بعض.

[16] الجفن: غمد السيف أي بيته.

[17] الغرز: ركاب من جلد يضع الرجل رجله فيه ثم يمتطي دابته.

[18] قال ابن كثير: كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور، فيجدون البيت ملآنا الى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئا كثيرا، فيحسبونه ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين، فوجدوه مرا حتى تبينوا أمره (البداية والنهاية ج 7 ص 67).

[19] انحطاط رومة وسقوطها المجلد الخامس ص 474 – 475 طبع اكسفورد.

[20] حاضر العالم الاسلامي ج. 1. تعريب الاستاذ عجاج نويهض مقدمة في نشوء الاسلام.

[21] H. L. FISHER: “A. History of Europe” P. P. 137-138.

[22] M. N. ROY: “Historical Role of Islam” P. P. 4,5,9,7

[23] يوم حليمة: هو يوم من أشهر أيام العرب في الجاهلية، وهذا المثل يضرب في كل أمر متعالم مشهور.

[24] حاضر العالم الاسلامي حواشي الأمير شكيب أرسلان (ج 1 ص 39).

[25] البداية والنهاية (ج 7 ص 40).

[26] أيضا (ج 7 ص 41).

[27] حاضر العالم الاسلامي حواشي الأمير شكيب أرسلان (ج 1 ص 39).

[28] تفسير ابن جرير (ج 4 ص 33)، ومعكوفين: مشدودين.

[29] زوى لي الأرض: جمعها وقبضها.

[30] رواه الترمذي.

[31] رواه الترمذي.

تفطن عقلاء الناس لسر قوة العرب

قول هرقل في هذا الأمر

وقد فطن بهذه الحقيقة بعض معاصري المسلمين وأعدائهم، وأهل النظر والتمييز في ذلك العصر من الروم والفرس، فمن ذلك ما روي ابن كثير أن هرقل لما انتهى اليه خبر زحف المسلمين قال لأهل الشام: "ويحكم أن هؤلاء أهل دين جديد وأنهم لا قبل لأحد بهم، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصف خراج الشام، وبيقى لكم جبال الروم وان أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام وضيقوا عليكم جبال الروم[1]". أما عقيدة المسلمين أنهم مبعوثون الى الأمم موكلون باخراج الناس الى عبادة الله وحده، وأن الله متولي نصرهم ضامن بظفرهم، فستلمحه وتلمسه في كل مكان يصدر من المسلمين من كلام وفعال، ومن ثقتهم وسكينة قلوبهم.

قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

ومن ذلك ما روي أن الأمراء في اليرموك لما كتبوا الى أبي بكر وعمر، يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم، وما يقابلونه من خطر داهم وعدد لا قبل لهم به، كتب اليهم: أن اجتمعوا، وكونوا جندا واحدا، وألقوا جنود المشركين، فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، ولكن من تلقاء الذنوب، فاحترسوا منها[2].

قول علي رضي الله عنه

ولما استشار عمر أصحابه في مسيره الى العراق بوقعة نهاوند، قال له علي بن أبي طالب: "يا أمير المؤمنين ان هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده وناصر جنده[3].

قول سعد وسلمان رضي الله عنهما

ولذلك كانوا يخاطرون بأنفسهم ويأتون بأعاجيب وأعمال خارقة للعادة، ثقة بنصر الله واعتمادا على موعوده، حتى انهم خاضوا بخيولهم في دجلة، وكانوا يتحدثون مطمئنين كأنهم سائرون على البر، وكان منظرا غريبا، وجعل الفرس يقولون: "ديوان آمدند، يعنون الجن والعفاريت – ويقولون: "ديوانه" "ديوانه" يعنون المجانين، وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي، فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، ان لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات فقال له سلمان: "ان الاسلام جديد، ذللت لهم – والله – البحور كما ذلل لهم البر. أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا، فخرجوا منه كما قال سلمان: لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئا[4].

قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

بعثت هذه العقيدة والنفسية طمأنينة في أنفسهم، وسكينة في قلوبهم، وشجاعة خارقة للعادة، واستهانة بالعدد والعُدد، وعدم عبادة للمادة، وعدم اتخاذ الاسباب أربابا، وعرفوا أنهم يقاتلون بقوة الدين، ويظفرون ويغلبون ببركة الاسلام، فكانوا شديدي الاحتفاظ، كثيري الاعتداد بها، يتمثل ذلك فيما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، روى يونس بن اسحاق: أن المسلمين بلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة[5] - والمسلمون لا يزيدون على ثلاثة آلاف – فلما بلغ ذلك المسلمين، أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا نكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فاما أن يمدنا بالرجال، واما أن يأمرنا فنمضي له، قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: "يا قوم والله ان التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فانما هي احدى الحسنيين، اما ظهور واما شهادة، قال: فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة فمضى الناس[6].

قول أبي عبيدة رضي الله عنه

كانوا واثقين بما وعدهم به رسولهم – صلى الله عليه وسلم – عن الفتوح العظيمة، فإذا رأوا من ذلك شيئا قالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم الا ايمانا وتسليما} [الأحزاب: 22]. جاء رجل الى أبي عبيدة يوم اليرموك، فقال: "اني قد تهيأت لأمري، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم تقرئه عني السلام، وتقول: يا رسول الله. انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا[7]".

قول خالد رضي الله عنه

وقد بلغوا في قلة الاهتمام بالعدد والاستخفاف بشأن العدو وكثرته، حتى كأنهم من حديد والعدو من طين وخزف، أو كأنهم مناجل والعلوج[8] حقول ومزارع، قد اينعت وحان حصادها. قال المؤرخون: لما أقبل خالد من العراق، قال رجل من نصاري العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد:

ويلك أتخوفني بالروم؟ انما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر[9] براء من توجِّيه[10] وانهم اضعفوا في العدد، وكان فرسه قد حفي واشتكى في مجيئه من العراق[11].

ربعي بن عامر في مجلس يزدجرد

وقد ارتفع هؤلاء وعلت هممهم، وكبرت نفوسهم، وعظم الدين والحقيقة والاخلاق في نظرهم حتى صغرت الدنيا وزخارفها في عيونهم، وهان أهلها عليهم، فكانوا يرون الى أبهة الملوك وفخفخة السلاطين، وما فيه أغنياء هاتين المدنيتين ومترفوها من الاثاث والرياش، وزخارف الدنيا، كأنهم يرون الى لعب الصبيان، وكأنهم يرون الدمى والبنات المصنوعة من ورق أو قماش، ومواكبها وزينتها لا يهولهم شيء ولا يعظم في عينهم شيء. أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولا الى رستم – قائد الجيوش الفارسية وأميرهم – فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق[12] المذهبة والزرابي[13] وأظهر اليواقيت واللآلي الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الامتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: اني لم آتكم وانما جئتكم حين دعوتموني، فان تركتموني هكذا والا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال:

الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الاديان الى عدل الاسلام، فأرسلنا بدينه الى خلقه لندعوهم اليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي الى موعود الله. قالوا وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.

فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم كم أحب اليكم يوما أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الاعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم، فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال:

هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل الى شيء من هذا، وتدع دينك الى هذا الكلب، اما ترى الى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا الى الثياب وانظروا الى الرأي والكلام والسيرة، ان العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب[14].

المغيرة بن شعبة يجلس على سرير رستم

دخل المغيرة بن شعبة على رستم وقعد معه على السرير فنخروا وصاحوا، فقال: ان هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم، فقال رستم: صدق[15].

أخلاق الصحابة وسيرتهم التي انتصروا بها

وكان من أكبر أنصار المسلمين أخلاقهم العالية وسيرتهم الملكية، فكانوا يمتازون بها ويعرفون بها أينما رحلوا ونزلوا، وكانت هذه الاخلاق طليعة جيوشهم، تسخر لهم القلوب والنفوس، وتشرح لهم الصدور قبل أن تعمل سيوفهم ورماحهم ونبالهم، والذين كانوا يشهدونها ويجربونها كانوا يشهدون أن هؤلاء سيغلبون ويملكون الدنيا، وأن الفرق بينهم وبين أقرانهم كالفرق بين البهائم والملائكة. روى أحمد بن مروان المالكي في المجالسة بسنده عن أبي اسحاق، قال:

كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لا يثبت لهم العدو فواق ناقة[16] عند اللقاء، فقال هرقل – وهو على أنطاكية لما قدمت منهزمة الروم - : ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب، ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهي عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، فقال: أنت صدقتني[17].

وسأل هرقل هذا رجلا كان قد أسر مع المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال أخبرك كأنك تنظر إليهم:

هم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم الا بثمن، ولا يدخلون الا بسلام، يقفون على من حاربوا حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين.

ووصف رجل من الروم المسلمين لرجل من أمراء الروم فقال:

جئتك من عند رجال دقاق، يركبون خيولا عتاقا، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها[18]، ويثقفون القنا[19]، لو حدثت جليسك حديثا، ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، قال فالتفت الى أصحابه وقال: أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به[20].

حببتهم هذه الاخلاق الى أعدائهم الذين كانوا يقاتلونهم حتى ان كان هؤلاء ليؤثرونهم على بني جلدتهم وأبناء ملتهم، ويتمنون لهم الظفر، ويدفعون عنهم العدو، ويتطوعون لمصالحهم. قال البلاذري في فتوح البلدان: حدثني أبو حفص الدمشقي، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين اقبالهم اليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص:

لولايتكم وعدلكم أحب الينا مما كنا فيه من الظلم والغشم: ولندفعن جنود هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود، فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص، الا أن ننغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: ان ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا الى ما كنا عليه، والا فانا على أمرنا منا بقي للمسلمين عدد، فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين، فتحوا مُدنهم واخرجوا المقلسين[21]، فلعبوا وأدوا الخراج.

ما جرى للمسلمين حين نسوا دينهم

هذا ولما طال على المسلمين الأمد، وقست قلوبهم، ونسوا وتناسوا ما لأجله بعثهم الله على كثرة من الناس، وتوافر من أمم الأرض، وهو قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]. ونسوا ما لأجله خرجوا من جزيرتهم، يُخرجون الناس من عبادة العباد الى عبادة الله وحده، وصاروا يحكمون الناس حكم الناس على الناس، وصاروا يعيشون حياة لاهية حرة، حياة من لا يعرف نبيا ولا يؤمن برسالة ووحي، ولا يرجو حسابا، ولا يخشى معادا، وأشبهوا الأمم الجاهلية التي خرجوا يقاتلونها بالأمس، عادوا فقلدوها في مدنيتها واجتماعها، وسياستها وأخلاقها، ومناهج حياتها، وفي كثير مما مقتها الله لأجله وخذلها. وأصبحوا لا هم لهم ولا شغل، الا الأكل والشرب والتناسل، وأصبحوا كرعايا الناس ليس لهم فرقان ولا نور يمشون به بين الناس، وأشبهت ملوكهم وأمراؤهم، جبابرتها وفراعنتها وأغنياؤهم مترفيها وأكابر مجرميها، وكاد يسبق فجارهم فجارها، تحاسد وبغضاء ومنافسة في السلطان، وتكالب على حطام الدنيا، واخلاد الى الترف والنعيم، واعراض عن الآخرة، وسفك للدماء، وهتك للأعراض، وهضم للحقوق وغدر بالعهود والذمم، وتعد على حدود الله واعانة للظالم، وجنف[22] في الحكومات والمظالم، وتبذير لأموال الله، وعموم الفواحش والمنكرات، وابتداع للجرائم، وابداع في الخيانة، مما يحتاج بسطه الى مجلدات، فهانوا اذا على الله مع أسمائهم الاسلامية، ورغم وجود الصالحين فيهم، وظهور بعض الشعائر الدينية، والواجبات الشرعية في بلادهم، وهانوا على الناس رغم مملكتهم الواسعة وجيوشهم الكثيفة، وخزائنهم العامرة، ورغم تقدمهم في الحضارة ومظاهرها الكثيرة، فقل إكرام الناس لهم وهيبتهم اياهم، وتجاسروا عليهم، قال: "رتبيل" ملك رُخج وسجستان، لرسل يزيد بن عبد الملك وقد جاؤوا اليه يطالبونه بالخراج: "ما فعل قوم كانوا يأتونا: خِماص البطون، سود الوجوه من الصلاة، نعالهم خوص؟" قالوا: انقرضوا، قال: "أولئك أوفى منكم عهدا وأشد بأسا، وان كنتم أحسن منهم وجوها"، ثم لم يعط أحدا من عمال بني أمية، ولا عمال أبي مسلم على سجستان من تلك الاتاوة شيئا[23].

فاذا كان هذا في القرن الثاني فما ظنك بقرون بعده حتى اذا بلغ السيل الزبى، وتضاعف كل ما ذكرنا، وأفسد المسلمون في الأرض بعد اصلاحها، وآسفوا الله بعث عليهم عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، سلط عليهم المغول والتتار – أشقى الأمم وأخملها وأجهلها وأوحشها – فوضعوا فيهم السيف، وأجروا من دمائهم سيولا وأنهارا، وأقاموا من رؤوسهم صروحا وتلالا، وفعلوا بهم الافاعيل، وأحلوهم الخوف، فتمكن من قلوبهم الوهن والجبن، حتى أصبحوا لا يصدقون بهزيمة التتر، قال ابن الأثير: سمع عن بعض أكابرهم أنه قال: "من حدثك أن التتر انهزموا فلا تصدقه" قال: ووقع رعبهم في قلوب الناس، حتى كان أحدهم اذا لقي جماعة يقتلهم واحدا واحدا، وهم دهشون، ودخلت امرأة من التتر دارا وقتلت جماعة من أهلها، وهم يظنونها رجلا، ودخل واحد منهم دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده اليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن نفوسهم قليلا ولا كثيرا، نعوذ بالله من الخذلان، وحكي أن أحدهم أخذ رجلا لم يجد ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على هذا الحجر ولا تبرح! فوضع رأسه، وبقي الى أن أتى التتري بسيف وقتله، قال ابن الاثير وأمثال ذلك كثيرة. واليك ما قال ابن الأثير قبل أن يسرد وقائع هذه النازلة:

"لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة، استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم اليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الاسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا... هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى، التي عقمت الايام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: ان أهل العالم منذ خلق الله تعالى آدم الى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فان التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.. ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة الى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا الخ...".

ولكن مثل هذه الحادثة لم تستطع أن تنبه المسلمين، ولم يفيقوا من سكرتهم، ولم يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، وحق عليهم قول ربهم: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72] وقوله: {فلولا اذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} [الأنعام: 43] وقوله: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [المؤمنون: 76]. وما زالوا منهمكين فيما هم فيه من غفلة ولهو وظلم، حتى يقول ابن الأثير: "فالله تعالى ينصر الاسلام والمسلمين نصرا من عنده، فما نرى في ملوك الاسلام من له رغبة في الجهاد ولا في نصرة الدين، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه، وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25].

ومما يجب أن يلاحظ القارئ ويعتبر به المعتبر، أن المسلمين في هذه الظلماء التي غشيتهم، والفتنة التي عمتهم، كلما أفاقوا من سكرتهم، وأصلحوا شأنهم، وأزاحوا العلل، وصمدوا في وجه العدو، واستنزلوا النصر، هزموا التتر الذين لم يكونوا يعرفون الهزيمة، ولا يصدق الناس بانهزامهم، فقد هزمهم جلال الدين خوارزم شاه ثلاث مرات، وهزمهم الظاهر بيبرس غير ما مرة، وهزمهم الملك الناصر صاحب مصر بمرج الصُّفَّر. وقال السيوطي عن وقعة عين جالوت: "فهُزم التتار شر هزيمة، وانتصر المسلمون، ولله الحمد، وقتل من التتار مقتلة عظيمة، وولوا الادبار، وطمع الناس فيهم يخطفونهم وينهبونهم[24]".

حال المسلمين في القرون الأخيرة:

ولم يزدد المسلمون الا ضعفا، ولم تزدد أخلاقهم على مر الأيام الا انحطاطا وتدهورا، ولا أحوالهم وشئونهم الا فسادا، حتى أصبحوا في فجر القرن الرابع عشر الهجري أمة جوفاء، لا روح فيها ولا دم، وصاروا كصرح عظيم من خشب منخور قائم لا يزال يؤوي الناس ويهول من بعيد، أو كدوحة قد تآكلت جذورها، ونخر جذعها العظيم ولم تنقلع بعد، وأصبحت بلادهم مالا سائبا لا مانع له، وأصبحت دولهم فريسة لكل مفترس، وطعمة لكل أكل، وحق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك الامم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة الى قصعتها، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم عثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت[25]".

واستمر المسلمون بهذا الحال وزيادة، حتى أغار عليهم في القرن الثامن عشر المسيحي الأمم الأوربية النصرانية الجاهلية، المتحضرة الوحشية، الكاسية العارية[26]، فسلموها مفاتيح ملكهم، واعتزلوا في مصلحتها عن قيادة العالم. وقد بلغ المسلمون من الانحطاط الخلقي، منزلة ان وجد فيهم أفراد خانوا أمتهم، وشروا[27] بلادهم بثمن بخس دراهم معدودة، وتطوعوا في جنود العدو يفتحون بلادهم للأجنبي على حسابهم. ولكن هذا الهجوم الغربي كان أشد تأثيرا، وأعمق أثرا، وأبعد مدى، من الهجوم الشرقي – المغولي والتتري – فكاد يخمد كل جمرة في قلوبهم، لم تخمدها العواصف طيلة هذه القرون، وبقيت كامنة في الرماد تخبو مرة وتلتهب أخرى.

إبتلاء المسلمين بالشك والذل النفسي

فتش عقلاؤهم[28] عن منابع القوة الكامنة في نفوس المسلمين، وقلوبهم، فوجدوا أن أكبر منبع للقوة والحياة هو "الايمان" وشهدوا ما فعل الايمان قديما، وما أظهر من معجزات وخوراق وما هو خليق بأن يفعل، فعادوه وسلطوا على المسلمين عدوين هما أفتك بهم وأضر لهم من المغول والتتار، ومن الوباء الفاتك، الأول: هو الشك... وضعف اليقين الذي لا شيء أدعى للضعف والجبن منه.. والثاني: ما نعبر عنه بالذل النفسي[29] وهو أن صار المسلمون يشعرون بالذلة والهوان في داخل أنفسهم، وفي أعماق قلوبهم، ويزدرون بكل ما يتصل بهم من دين وتهذيب وأخلاق، ويستحيون من أنفسهم، ويؤمنون بفضل الأوربيين في كل شيء، ويعتقدون فيهم كل خير، ولا يكادون يعترفون بنقص وعيب في ناحية من نواحي الحياة، ولا يصدقون بانهزامهم وفشلهم في ساعة من ساعات الدهر، واذا تمكن هذا الذل من نفوس أمة، فقد ماتت وان كنت تراها تغدو وتروح، وتأكل وتعيش.

ابتلاء المسلمين بعبادة المادة وحب الدنيا

وابتلي المسلمون في هذه المرة بتأثير الحضارة الغربية... والفلسفة الغربية، بعبادة المادة وحب الدنيا، والجري وراء النفع العاجل، وتقديم المصالح الشخصية والمنافع المادية على المبادئ والأخلاق، شأن الأمم الأوربية الجاهلية، فكانت هذه الأخلاق وهذه النفسية والتربية مانعا من الجهاد في سبيل الله واعلاء كلمته، ومن تحمل المشاق، وتجرع المرائر، ومكابدة الأهوال والخسائر في سبيل المبدأ الصحيح والعقيدة السامية.

أسوأ جيل عرفه تاريخ الإسلام

كان نتيجة هذا كله أن ظهر جيل في المسلمين: متنور الذهن، ولكن مظلم الروح. أجوف القلب، ضعيف اليقين، قليل الدين، قليل الصبر والجلد، ضعيف الارادة والخلق، يبيع دينه بدنياه، وأجله بعاجله، ويبيع أمته وبلاده بمنافعه الشخصية، وبجاه وعزة وهمية، ضعيف الثقة بنفسه وأمته، عظيم الاتكال، كثير الاستناد الى غيره: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 04]. هؤلاء هم الذين نشروا في المسلمين الجبن والوهن، وصرفوا المسلمين عن الاتكال على الله، ثم الاعتماد على أنفسهم الى الاعتماد على غيرهم والتكفف لديهم والالتجاء في مواقع الخطر اليهم، وأطفئوا في قلوبهم شعلة الجهاد في سبيل الله، والحمية للدين، وأبدلوها بالوطنية العليلة، والقومية الناعسة، وأبدلوا جنونها الذي بعث الحكمة من مرقدها وأطلق العقل من أساره، والذي تمكن مما لم يتمكن منه العقل والعلم ف آلاف من السنين، أبدلوها هذا "الجنون" الحكيم بعقل ناقص عليل، لا يعرف الا الموانع والعراقيل.

وقد ظهر هذا التحول العظيم في العقيدة والنفسية، والافلاس في الروح والايمان، في شر مظاهره في حرب فلسطين، فكان فضيحة للعالم العربي في القرن الرابع عشر الهجري، كما كان انكسار المسلمين وفشلهم الذريع أمام الزحف التتاري فضيحة للعالم الاسلامي في القرن الثامن، فقد اجتمعت سبع دول عربية لتحارب الصهيونية وتدافع عن وطن عربي اسلامي مقدس، عن القبلة الأولى، وعن المسجد الثالث الذي تشد اليه الرحال، وعن جزيرة العرب والأقطار العربية التي أصبحت مهددة بالخطر اليهودي، فكانت حرب فلسطين دفاعاً عن حياة وشرف وعن دين وعقيدة، وكان العالم العربي بأسره ازاء دويلة صغيرة لم تستقر بعد، واتجهت الانظار الى مسرح فلسطين، وانتظر الناس معركة مثل معركة اليرموك، أو وقعة مثل وقعة حطين، ولماذا لا ينتظرونها والامة هي الامة، والعقيدة هي العقيدة، مع زيادة فائقة في العدد والعُدد. فلماذا لا ينتصر العرب وهم عالم؟ ولماذا لا يقضون على عدوهم وهو حفنة من المشردين؟ ولكنهم نسوا ما فعلت الايام وما فعلت التربية، وما فعلت الدول والزعامة السياسية، وما فعلت المادية بالأمة العربية في هذا العصر. لقد تقدم العرب الى معركة اليرموك حقا، ولكن بغير الايمان الذي تقدم به أسلافهم الى هذه المعركة في العصر الأول. لقد تقدموا الى وقعة كانت وقعة حاسمة كحطين – لو ظفر العرب – ولكنهم تقدموا بغير الروح التي تقدم بها صلاح الدين وجنده المؤمن المجاهد. تقدموا بقلوب خاوية تكره الموت وتحب الحياة، وأهواء مشتة، وكلمة متفرقة. يريدون أن يربحوا النصر ولا يخسروا شيئا، وأن يحافظوا على شرفهم ولا يخاطروا بشيء، كل يعتقد أن غيره هو المسئول عن الحرب، وعن الغلبة والهزيمة، ثم هم يقاتلون وحبلهم في يد غيرهم. اذا أرخى قليلا تقدموا، واذا جره تأخروا، واذا قال حارِبوا حاربوا، واذا قيل اصطِلحوا اصطلحوا، وما هكذا يكتسب الظفر ويقهر العدو.

أوردها سعد، وسعد مشتمل

ما هكذا يا سعد تورد الابل

وبقي العالم متطلعا الى ما قرأه في تاريخ الجهاد الاسلامي من روائع الايمان، وخوارق الشجاعة والصبر، والاستهانة بالحياة والبسالة والبطولة، والاستقبال للموت، والتمني للشهادة، وحسن النظام، وروح الاطاعة والايثار، فلم ير من ذلك شيئا، الا لمعات واشراقات للايمان كانت تظهر من بعض المتطوعين في حرب فلسطين، والاخوان المجاهدين، تجندوا وتطوعوا للحرب بدافع الايمان، والدفاع عن الاسلام، وحملتهم الحمية الدينية على المغامرة، ودفعتهم الى ميدان الحرب، فشرفوا الدين وأرعبوا القلوب، وأعادوا التاريخ القديم، وبرهنوا على أن الايمان لا يزال المنبع الفياض للقوة والنظام، وأن عنده من القوة والنفوذ، والتنظيم وروح المقاومة والجهاد، ما ليس عند الدول الكبيرة المنظمة.

[1] البداية والنهاية (ج 7 ص 5).

[2] البداية والنهاية (ج 7 ص 5).

[3] البداية والنهاية (ج 7 ص 107).

[4] البداية والنهاية (ج 7 ص 65).

[5] المستعربة: العرب التي اعتنقت النصرانية.

[6] البداية والنهاية (ج 4 ص 243).

[7] البداية والنهاية (ج 7 ص 12).

[8] العلج: الرجل الضخم القوي من كفار العجم وقد يطلق على الكافر عموما.

[9] الأشقر: فرس خالد وكان قد رقت قدمه في مسيره من العراق الى الشام.

[10] توجّيه: وجى الفرس وتوجا: أصيب بالوجا وهو أن يشتكي الفرس باطن حافره.

[11] البداية والنهاية (ج 7 ص 9).

[12] النمارق: جمع نمرقة بضم النون والقاف وبكسرهما وهي الوسادة.

[13] الزرابي: جمع زريبة بضم الزاي وكسرها وفتحها وهي الطنفسة أي السجادة.

[14] البداية والنهاية (ج 7 ص 39-40).

[15] البداية والنهاية (ج 7 ص 40).

[16] فواق ناقة: مدة حلبها.

[17] البداية والنهاية (ج 7 ص 15).

[18] يعملون لها ريشا.

[19] يقوّمونها.

[20] البداية والنهاية (ج 7 ص 16).

[21] قلس القوم: استقبلوا الولاة عند قدومهم بضرب الدف والغناء وأصناف اللهو.

[22] الجنف: الميل.

[23] فتوح البلدان ص 401 طبع بريل.

[24] تاريخ الخلفاء.

[25] رواه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه.

[26] المطلع على تاريخ هذه الأمم وطبيعتها يصدق هذه الصفات المتناقضة.

[27] شروا: باعوا.

[28] أي عقلاء الأعداء.

[29] وهو ما اعتاد الكتاب العصريون بتسميته "بمركب النقص".

بين الصُورة والحقيقة

لقد ثبت مما ذكرناه في هذا المقال، وما سردناه من الأمثلة والاخبار، وشهادات التاريخ ومشاهدات هذا العصر – وما حرب فلسطين منا ببعيد – أن المد والجزر في تاريخ الاسلام وأحوال المسلمين تابعان للمد والجزر في الايمان، وقوة معنوياتهم التي تنبثق من الدين، وان منبع قوة هذه الأمة في باطنها، وهو القلب والروح، فاذا عمر القلب بالايمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وتزكت الروح بتعاليم الدين والاخلاق الاسلامية، وجاش الصدر بالحمية الدينية جيشان المرجل، وأخذ المسلمون عدتهم من القوة المادية، وأعدوا للعدو ما استطاعوا وأدركوا ما عليه العالم من جور وظلم، ومن جهالة وسفاهة، وضلال في الدين والدنيا، وعلموا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم جاء الاسلام، والعالم قد عاد جاهليا كما بدأ :{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [الروم: 41]. فانعطفوا عليه ورأوا كأن العالم في حريق ولا ماء الا عندهم، فسعوا به يطفئون النار التي عمت الدنيا، ونسوا في سبيل ذلك لذاتهم، وتكدر عيشهم، وطار نومهم، وجن جنونهم، فعند ذلك يتحولون قوة خارقة للعادة، لا يغلبها العالم، ولو سعى بأسره وجيمع شعوبه وجنوده، ودوله، ويصيرون قضاء الله الغالب وقدره المحتوم وكلمته العليا. {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 171-173]. {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].

بين الصُورة والحقيقة

ان كل شيء له صورة وحقيقة، وبينهما فرق كبير رغم الشبه العظيم، تميزون بينهما بسهولة في حياتكم، وتعاملون الحقيقة بما لا تعاملون به الصورة، وأضرب لذلك مثلين: هذه مُثُل للثمار المصنوعة من الخزف، تتراءى للناظر كأنها تفاح، ورمان، وبرتقال، وعنب، وموز، في لونها وشكلها، ولكن أين الصورة من الحقيقة وأين طعم هذه الثمار ورائحتها؟ إنها ليست الا للزينة أو المثال. إنكم ترون في المتحف كل نوع من السباع والانعام، والطيور الجميلة، والعصافير الصغيرة، ففيها الاسد، والذئاب، والافيال والدباب، وفيها كل طائر جارح، وكل سبع مخيف، ولكنها جثث هامدة لا حراك بها، وأجساد ميتة محشوة بالليف والقطن، ليس فيها رمق من حياة، وقوة تهجم بها وتصول، حتى لا تحس منها من أحد ولا تسمع لها ركزا. ان الصورة لا تستطيع أن تسد مكان الحقيقة وتنوب عنها، ولا يمكنها أن تمثل دور الحقيقة في الحياة وتأتي بما تأتي به من عمل ونشاط، ولا يمكن أن تقاوم الحقيقة وتكافحها، فإذا وقع صراع بينهما انهارت الصورة، ولا يمكنها أن تحتمل عبء الحقيقة، فإذا وكل أحد الى الصورة وظيفة الحقيقة أو عوّل عليها في مهمة خانته الصورة وخذلته أحوج ما يكون اليها. والصورة ولو كانت مهيبة هائلة تغلب عليها الحقيقة ولو كانت ضعيفة متواضعة، لان الحقيقة الحقيرة أقدر وأقوى من الصورة العظيمة المهيبة، وان الولد يقدر أن يسقط الاسد الميت المحشو بالليف والقطن بيده الضعيفة الناحلة، لأن الولد يحمل حقيقة ولو حقيقة صغيرة، والاسد ليس الا صورة ولو كانت صورة مهيبة. ان هذا العالم الذي نعيش فيه عالم الحقيقة والامر الواقع، وقد خلق الله كل شيء على حقيقته: فللمال حقيقة، وحبه فطري طبعي، ولاجل ذلك وردت عنه الاحكام ووضع الله فيه التأثير والجذب، وللاولاد حقيقة، والحنان اليهم وحبهم فطري، ولاجل ذلك وردت الاحكام في الشرع عن تربيتهم وتعليمهم. وكذلك للحاجات الطبيعية والميول الفطرية حقيقة لا تجحد، ولا تغلب تلك الحقائق الا حقيقة أقوى ورغبة أعظم وأشد.

إننا نحتاج الى حقيقة الاسلام والايمان للظفر على الحقائق المبثوثة في العالم، أما صورة الاسلام فهي عاجزة عن أن تقهر هذه الحقائق وتنتصر عليها، وان كانت حقائق ممزوجة بالباطل، لان الصورة المجردة لا تنتصر على أي حقيقة. ولذلك نرى اليوم بأعيننا أن صورة الاسلام أصبحت لا تغلب على الحقائق المادية الحقيرة، لأن الصورة ولو كان ظاهرها مقدسا رائعا ليس لها سلطان وتأثير، وأن صورة اسلامنا وصورة كلمتنا وصلاتنا اليوم لا تقدر أن تتغلب على عاداتنا الحقيرة، وتقهر شهواتنا الخسيسة، أو تثبتنا على جادة الحق عند البلاء والامتحان. ان الكلمة التي كانت من قبل ذات سلطان عجيب على القلوب والارواح، وكانت تهون على الناس ترك المألوفات وقهر الشهوات، والشهادة في سبيل الله وبذل الارواح والأنفس لله، واحتمال المكاره وتجرع المرائر في سبيل الله، هي عاجزة عن أن تحمل الناس على ترك فرشهم بعد أن استغرقوا في النوم طول الليل، ويقوموا لصلاة الفجر! نعم، الكلمة التي كانت تغلب على شهوة الخمر، فتحول بين الانسان وبين الكأس وهي على راحته، فيمتنع عن شربها لان الدين يمنع من ذلك، ولأن الكلمة تأبى عليه أن يشرب الحرام، ها هي الآن قد أصبحت لا تملك أمرا ولا نهيا.

سرِّح طرفك في تاريخ الاسلام وتجول في فصوله وأوراقه، يظهر لك أن كلمة الاسلام التي كان الصحابة وكان المسلمون في القرون الاولى يتلفظون بها، كانت ذات حقيقة ثابتة، وكانت كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وكلمتنا نحن ألفاظ مجردة، ونطق فارغ، ولأجل ذلك ترى عدم تأثيرها في حياة الأمة. ثم إننا مع ذلك نحاول أن نطبق حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على حياتنا، ونرجو أن تؤتي هذه الكلمة أكلها كل حين، وتحدث ما أحدثت في الماضي، حتى إذا لم يكن ذلك بطبيعة الحال تسائلنا وقلنا: "ألسنا مسلمين؟ ألسنا نصلي ونصوم؟ ألا نتلفظ بكلمة الاسلام ونرددها صباح مساء؟ فلماذا هذا الفرق الهائل بين عهدنا وعهد الخلفاء الراشدين؟! ولماذا هذا البون الشاسع بين حظنا وحظهم؟! وأين ثمرات شجرة الايمان؟! وأين نتائج الصلاة والصيام؟! وأين ما وعد الله من النصر المبين، والاستخلاف والتمكين؟! لا تخدعنا أنفسنا!! ولنعلم أنهم كانوا أصحاب جد وحقيقة في الدين. لقد كانت كلمتهم حقيقة، وكانت صلاتهم حقيقة، ونحن متجردون عن هذه الحقائق، فرجاء أن تثمر الصورة ما أثمرت الحقيقة وتغني غناءها، انما هو وهم وخيال، وضرب من المحال.

أما قرأتم في التاريخ أن خبيبا رضي الله عنه رفعوه على الخشبة، وتناولوه بالرماح والاسنة، حتى تمزق جسمه وهو قائم لا يشكو ولا يئن، فقالوا له: "أتحب أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم مكانك؟" فيضطرب ويقول: "والله لا أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه!" يا أبناء الإسلام! إن الذي ثبته في هذا المكان، وألهمه أن ينطق بمثل هذه الكلمة العريقة في حب الرسول هل هي صورة الاسلام؟ لا، بل هي الحقيقة التي مثلت بين عينيه الجنة، والرماح تنوشه وتعبث بجسمه، وناجته، وقالت: صبرا يا خبيب، فما هي الا لمحات وثوان، وها هي الجنة تنتظرك، ورحمة الله ترتقبك، فاذا احتملت آلام هذا الجسد الفاني والحياة الزائلة العابرة نلت السعادة الدائمة، والحياة الباقية. هذه هي اللذة الروحية وحقيقة الحب والايمان التي أبت على خبيب أن يطلَق ويؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة في قدمه، فهل تستطيع الصورة أن تحمل صاحبها على هذا الاخلاص والتفاني، والثبات على العقيدة والصبر على الموت؟! كلا ان الصورة لا تستطيع أن تقاوم الشدائد والآلام، بل حتى الخيالات والاوهام، وقد بدا لنا ذلك في الاضطرابات الطائفية الماضية في الهند، فان أناسا من المسلمين قد غيروا صورة الاسلام خوفا مما مر بخاطرهم من الفزع، وخشية الموت، وما دار في رؤوسهم من معارك خيالية حامية، واختاروا شعار الكفر، وذلك لأن هؤلاء الناس قد كانوا متحلين بالصورة، فارغين عن الحقيقة... هاجر سيدنا صهيب رضي الله عنه، فلما كان في الطريق اعترضته جماعة من مشركي مكة وقالوا له: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، وهناك قامت المعركة بين حقيقة الاسلام وحقيقة المال، ودارت بينهما رحى الحرب، فانتصرت حقيقة الاسلام على ضدها، وقال لهم صهيب: "أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم قال: فإنني قد جعلت لكم مالي[1]" وهكذا انطلق صهيب بدينه، متجردا من ماله، فرحا مسرورا كأنه لم يفقد شيئا، ولم يخسر شيئا. وخرج سيدنا أبو سلمة بزوجه وابنه يريد المدينة: فلما رآه رجال من بني المغيرة قاموا اليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟! ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوها منه، وأخذ بنو عبد الاسد سلمة ولده الصغير، هناك اصطدمت حقيقة الاسلام بحب الزوج والولد، فما لبثت أن انتصرت عليه، وغادر أبو سلمة زوجه وولده تحت رعاية الله، وهاجر وحيدا، هل الصورة تستطيع ذلك؟ وهل يقدر أصحابها على ترك الزوجات والاولاد في سبيل العقيدة والدين؟ كلا! بل سمعنا أن أناسا قد ارتدوا عن دينهم للمال، والأزواج، والأولاد، وغير ذلك من متع الدنيا وزخارفها. كان أبو طلحة مقبلا على صلاته، فاذا طائر يدخل في بستانه ثم لا يجد الطريق للخروج، ويميل اليه قلب أبي طلحة، فلما انصرف من صلاته تصدق بهذا البستان، لأنه لا يحب أن يشغله شيء عن حقيقة صلاته، وينازع قلبه! ان للبستان حقيقة، وأكله حقيقة، ولا تغلب هذه الحقائق الا حقيقة الاسلام، وان صلاتنا اليوم مجردة عن الحقيقة، ولذلك لا تقدر أن تقاوم أدنة الحقائق المادية.

لقد كان في حرب اليرموك بضعة آلاف من المسلمين، وأما الروم فقد كان عددهم يبلغ مائتي ألف أو يزيدون، فاذا نصراني كان يقاتل تحت لواء المسلمين يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين. فيقول خالد رضي الله عنه: والله لوددت أن الأشقر براء من توجيِّه، وأنهم أضعفوا في العدد[2]. بم كان خالد رضي الله عنه مطمئنا، ولم لم يشغل خاطره هذا العدد الهائل ولم لم تكبر في عينه جنود الروم الكثيفة ذلك؟ لأنه كان مؤمنا بالله واثقا بنصره. ولأنه كان يعلم أنه على الحقيقة، وإن مقابله صورة فحسب، وان الروم صورة فارغة عن الحقيقة، وكان يعتقد أن الصورة مهما كثرت، لا تقدر أن تقاوم حقيقة الاسلام. لا شك أننا نتلفظ بكلمة الشهادة والتوحيد، ومنا من يعرف ما يقول، ولكن الصورة شيء والحقيقة شيء آخر، أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الصادقين كانوا على حقيقة هذه الشهادة، فإذا قالوا لا إله الا الله اعتقدوا أنه لا إله غيره، ولا رب غيره، ولا رازق غيره، ولا نافع ولا ضار الا هو، له الملك والحكم، والخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه، وأخلصوا له الحب، والخوف، والسؤال والرجاء، والعبادة، والدعاء، وأصبحوا عبادا حنفاء، شجعانا أقوياء، لا يهابون العدو، ولا يخافون الموت، ولا يبالون بلومة لائم. نرجع الى أنفسنا، ونفكر هل هذه هي الحقيقة متغلغلة في أحشائنا، ومتسربة في عروقنا وشراييننا، وهل غرس حياتنا يسقى بهذا الماء؟ معذرة وعفوا أيها السادة، إنا نخاف أن لا يكون الأمر كذلك، وأن نصيب الصورة في حياتنا أكثر من نصيب الحقيقة، وذلك موضع الضعف في حياتنا، وسر شقائنا ومصائبنا، اننا جميعا نؤمن أن الآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، والبعث بعد الموت حق، ولكن هل اننا حاملون لحقيقة الايمان كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان؟ وقد سمعنا أن أحدهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قوموا الى جنة عرضها السموات والأرض فرمى بما معه من التمر وقال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، وقاتلهم حتى قتل، لأن الجنة كانت عنده حقيقة لا يشك فيها، فمن أيقن يقول كأنس ابن النضر: إني لأجد ريح الجنة من دون أحد. أتى رجل من المسلمين يوم اليرموك وقال للأمير: إني قد تهيأت لأمري، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم! تقرئه عني السلام وتقول: يا رسول الله! إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا. أفيقول هذا الا من يوقن أنه مقتول في سبيل الله، وملاق رسول الله ومجتمع به في نعمة الله، وأنه مكلمه ومحدثه، فإذا حصل لرجل مثل هذا اليقين، فما الذي يمنعه من استقبال الموت، وما الذي يحول بينه وبين الشهادة؟!

إن أكبر انقلاب وقع في تاريخ هذه الأمة، هو أن الصورة احتلت مكان الحقيقة، واستولت على حياة الأمة، وذلك من عهد بعيد في التاريخ، والذين كانوا يرون الصورة من بعيد يعتقدون أنها الحقيقة، ولذلك يذعرون ويشفقون من قربها، فكانت هذه الصورة الاسلامية كمجدار ينصبه الفلاح في حقله كيلا يحل فيه الطير والوحش، ولا تزال الطيور والوحش تظن أنه انسان، أو حارس، فلا تقربه حتى يتشجع غراب ذكي، أو حيوان جريء فيجد أنه ليس بشيء، هنالك تدخل الطيور والوحش في هذا الحقل وتعيث فيه، وتتلف زرعه، وقد وقع للمسلمين نفس الحادث، لقد حرستهم صورة الاسلام مدة طويلة جدا، فلم تجترئ عليهم أمم العالم، ولم يدر بخلد أحد أن يمتحن هذا الشبح المخيف ويتحققه. ولكن حتى متى؟ لما أغار التتار على بغداد، افتضح المسلمون وظهر افلاسهم في الروح والقوة المعنوية، من ذلك الحين أصبحت الصورة عاجزة عن أن تحافظ عليهم، وتذود عنهم المكروه وتدفع عنهم غارات الامم، فان الصورة لا تقوم الا على الجهل والغرور، فاذا انكشف الغطاء وزاح الستار، تبين الصبح لذي عينين.

وان ما نرى ونقرأ في تاريخ الاسلام من أخبار انكسار المسلمين وهزيمتهم في ميادين القتال، ان كل ذلك أخبار انخذال الصورة وفضيحتها لا غير، وقد فضحتنا الصورة في كل معركة وحرب ومقاومة واصطدام، ولكن الذنب علينا، حملنا الحقيقة على ظهر الصورة، فلم تستطع حمله ولم تمسكه، وعقدنا الآمال الكبار بالصورة الضعيفة فخيبت رجاءنا، وكذبت أمانينا، وخذلتنا في الميدان. تكرر الصراع بين صورة الاسلام وشعوب العالم وجنودها، وفي كل مرة تنخذل وتنهزم الصورة، ويعتقد الناس أنه هزيمة الاسلام وخذلانه، وبذلك هان الاسلام في عيون الناس وزالت مهابته عن القلوب، ولا يدري الناس أن حقيقة الاسلام لم تتقدم الى ساحة الحرب منذ زمن طويل، ولم تنازل أمم العالم، وان الذي يبرز في الميدان هو صورة الاسلام لا حقيقته، وخليق بالصورة أن تنهزم، وتضمحل أمام الواقع والأمر الجد. هاجمت بعض الدول الاوربية في الحرب الأولى تركيا الاسلامية، تركيا التي أرعبت أوربا كلها، وهزمت دولها مرة بعد مرة، وكانت تركيا في هذه المرة حاملة لصورة شاحبة للاسلام، وقد فقدت شيئا من حقيقة الايمان، ففشلت في المقاومة وفقدت كثيرا من ممتلكاتها.

واجتمع سبع دول عربية لمحاربة الصهيونية في فلسطين، وكانت هذه الدول العربية عليلة الروح، وقد أطفأت المادية الأوربية جمرة القلوب وشعلة الجهاد في سبيل الله، وحببت اليها الحياة واللذات، ثم إنها تتخلف تخلفا كبيرا في المعدات الحربية والتنظيمات العصرية، فكانت الحرب بين العرب المسلمين واليهود الصهيونيين صراعا بين صورة الاسلام وحقيقة القوة والتنظيم والحماسة، فكانت نتيجة هذه الحرب نتيجة كل صراع بين الصورة والقوة. ان الصورة لها منزلة ومكانة عند الله تعالى، لأنه قد عاشت فيها الحقيقة قرونا طويلة، ويحبها الله لأنها صورة أوليائه ومحبيه، وكذلك نعرف لها الفضل، لأن الانتقال من صورة الاسلام الى حقيقة الايمان أسهل بكثير من الانتقال من حقيقة الكفر أو صورته الى حقيقة الايمان والاسلام، فلنحافظ على هذه الصورة ولنتمسك بها، ولكن لا ينبغي أن نقنع بها ونستهين بالحقيقة والروح.

يا أبناء الإسلام، إن وعد الله من النصرة والفتح في الدنيا، والنجاة والغفران في الآخرة، كل ذلك محصورا في حقيقة الاسلام، وذلك قوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] لا شك فإن الخطاب في هذه الآية للمسلمين، ومع ذلك اشترط الايمان للعزة في الأرض والعلو والشوكة، وقال في موضع آخر: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51] وقال أيضاً: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [النور: 55] ورغم أن جميع تلك الوعود كانت على أساس الإيمان والأعمال الصالحة اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الايمان والتوحيد. إن أكبر مهمة دينية في هذا العصر، وأعظم خدمة، وأجلها للأمة الإسلامية، هي دعوة السواد الأعظم للأمة وأغلبيتها الساحقة الى الانتقال من صورة الاسلام الى حقيقة الاسلام، فلمثل هذا فليعمل العاملون ويبذلوا جهودهم ومساعيهم في بث روح الاسلام في جسم العالم الاسلامي، ولا يدخروا في ذلك وسعا، فبذلك يتحول شأن هذه الأمة، وفي نتيجته شأن العالم بأسره، فإن شأن العالم تبع لشأن هذه الأمة، وشأن الأمة تبع لحقيقة الاسلام، فإذا زالت حقيقة الاسلام من الأمة المسلمة، فمن يدعو العالم الى حقيقة الاسلام، ومن ينفخ فيه الروح؟ قال سيدنا عيسى عليه السلام لاصحابه: "أنتم ملح الأرض، فإذا زالت ملوحة الملح فماذا يملح الطعام؟".

قد أصبحت حياتنا اليوم جسدا بلا روح، لأن السواد الأعظم للأمة مجرد عن الروح، فارغ عن الحقيقة، فكيف تعود الروح والحقيقة في الحياة الانسانية مرة أخرى؟! ان في هذا العالم أمما لا تزال فارغة عن الحقيقة والروح منذ أقدم العصور الى يومنا هذا، ولم يبق فيها الا عدة معتقدات مرسومة، وبضع صور حقيرة مجردة عن الروح، وانتهت حياتنا الدينية والروحية الحقيقية، حتى ان انشاء أمة بأسرها أيسر من اصلاح هذه الأمم وتجديد حياتها الدينية والخلقية، والذين نهضوا لاصلاحها، وبذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل قد أخفقوا ولم يفلحوا في مهمتهم، رغم الوسائل العظيمة الكثيرة التي حدثت في هذا العهد من الطبع والنشر، والتأليف والاذاعة، والتعليم والتربية، وطرق الدعاية والتأثير، وذلك لأن عروة دينها قد انفصمت انفصاما تاما، وانقطعت علاقتها عن منبع الحياة الدينية، والخلقية والروحية.

أما الأمة الإسلامية فلا تزال – على علاتها وضعفها – مستمسكة استمساكا ما بعروة الدين، وهي الايمان بالله والرسول، واليقين بالدار الآخرة والحساب، لم تتركها البتة، ولم تنقطع عنها انقطاع الأمم الأخرى، بل ان ايمان كثير من عامة المسلمين ودهمائهم يُزري بايمان كثير من خواض الأمم الأخرى، وعليتهم، ويفوقه متانة ورسوخاً وحماسة، ثم ان كتابها لا يزال في يدها لم يتناوله التحريف، ولم يعبث به العابثون كما فعلوا بالصحف الأولى، ولا تزال سيرة الرسول وأسوته الحسنة بمتناول يدها، فالدعوة الى الدين ميسورة، والتجديد ممكن، والقلوب متهيئة، وجمرة الايمان سريعة الاتقاد، والشقة بين الصورة والحقيقة قصيرة، والقنطرة بينهما الدعوة الى تجديد الايمان، والرجوع الى الدين، والتشبع بروحه والتحلي بحقيقته. لست قانطا من ظهور حقيقة الاسلام في هذا العصر، ولا نصدق أبداً بأن الزمان قد تغير والمسلمين قد ابتعدوا جدا عن روح الاسلام، فلا أمل في حقيقة الاسلام وغلبتها من جديد، انظروا الى ورائكم ترون جزر حقيقة الاسلام قائمة منتشرة في فجر التاريخ، وان الحقيقة لم تزل تطفو كلما رسبت وتظهر كلما اختفت، وكلما ظهرت حقيقة الاسلام وتجلت في ناحية من نواحي العالم الاسلامي أو عصر من عصور التاريخ الاسلامي، غلبت وانتصرت، وكذبت تجارب الناس وقياسهم وتقديرهم، وكادت الأحوال والأمور أن تعود الى ما كانت عليه في الماضي السعيد، وهبت على قلوب الناس نفحات القرن الأول، وان حقيقة الاسلام في هذا العصر اذا ظهرت وتمثلت في جماعة، تستطيع أن تذلل كل عقبة، وتهزم كل قوة، وتأتي بعجائب وآيات من الايمان والشجاعة والايثار، يعجز الناس عن تعليلها كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث الفتح الاسلامي، وأخبار القرن الأول.

[1] سيرة ابن هشام (ج 2 ص 121).

[2] الاشقر فرس خالد وكان قد حفا واشتكى في مجيئه من العراق. (البداية والنهاية ج 8 ص 9).

ثورة في التفكير

إننا – معشر المسلمين – في حاجة الى ثورة، ثورة في التفكير. منذ قرون طويلة بدأنا ننظر الى أنفسنا كمجموعة بشرية موزعة في العالم، منتشرة في البلاد، ذات قوميات مختلفة، ولغات متنوعة، وثقافات محلية، محاطة بظروف، وأجواء خاصة، "وامكانات" محدودة، تجمع بين فروعها المختلفة، وأسرها المتشتتة "وحدتان" اثنتان لا ثالثة لهما، "العقيدة" "والخضوع للغرب، والانحصار عليه في المعيشة والسياسة". ومنذ مدة طويلة بدأنا نزن أنفسنا، وقيمتنا ومكانتنا في خارطة العالم بهذه الطاقات "والامكانات" وبما نملكه من الوسائل، والمواد الخام، وحواصل البلاد ومنتجاتها، وعدد النفوس والقوة الحربية، فنرى كفتنا راجحة في اقليم، طائشة في آخر، راجحة في حين، طائشة في حين آخر. ومنذ مدة طويلة آمنا بسيادة الغرب وقيادته، وأنه أمر مقرر وواقع ليس منه مفر، وآمنا بأنه وضع لا يقبل التحول ولا التطور، وتجدد المثل القديم، وأصبح عقيدة شائعة: "إذا قيل لك أن التتر انهزموا فلا تصدق[2]". وأصبحنا لا نفكر في معارضة الغرب، ومناقشة سيادته وجدارته للسيادة، وإذا فكرنا في ذلك – على حين غفلة من العلم، والدراسة والكياسة – استعرضنا طاقاتنا، ووسائلنا والقوة الحربية في بلادنا، وسهمنا من المخترعات الحربية، والطاقات الذرية، فاستولى علينا اليأس والتشاؤم، وآمنا بأننا لم نخلق الا للخضوع والخنوع، ولنعيش على هامش الحياة، وعيالا على الغرب، مرتبطين ومعقودي النواصي بأحد المعسكرين المتنافسين. هكذا يفكر العرب، وهكذا يفكر المسلمون في باكستان، وفي اندونيسيا وفي تركيا.

وهكذا يفكر الناس في اليابان، وفي الصين، وفي الهند، وفي سيام، وفي بورما. هذا هو التفكير "السليم" وهذا هو المنطق "السديد" – كما يسميه الناس – وهذا هو الاستنتاج العلمي المبني على الدراسة، والايمان بقوة الاسباب، وطبيعة الأشياء. ولكن هناك جماعة لا تقبل هذا التفكير، ولا تؤمن بهذا المنطق، بل تثور على هذا المنهج الفكري ثورة قوية عارمة، ان لها منهجا – في العمل – مختصا بها، والى هذا المنهج يرجع الفضل في أفضل الثورات، وأصلحها وأقواها في التاريخ، وفي تغير الأوضاع في العالم تغيرا مدهشا، وفي سعادة البشرية بعد الشقاء الطويل، وصلاح المجتمع البشري بعد الفساد الشامل. ولا أمل للأمم الضعيفة الا في هذا المنهج، ولا مستقبل للأمم – التي تؤمن بالمبادئ، وتحتضن الدعوات – الا في هذا المنهج. ولنفهم هذا المنهج، وقوته، وفضله، ونتائجه الباهرة للعقول، نرجع قليلا الى الماضي، ونستوحي "الصحف الصادقة"، يولد موسى في مصر في بيئة قاتمة خانقة، قد انطبقت على بني اسرائيل كل الانطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب، حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد، وفقر وسائل، وذلة نفوس، عدو قاهر، وسخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي، أمة مصيرها معلوم محتوم، قد خلقت للشقاء والفناء. ويولد موسى، وولادته وحياته كلها تحد لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء، أراد فرعون أن لا يولد فولد، وأراد أن لا يعيش فعاش، يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ في حضانة العدو ورعاية القاتل، ويجد به الطلب القوي الساهر، فيفلت وينجو، ويأوي الى ظل شجرة كئيبا غريبا فيجد الضيافة الكريمة، والزواج الحبيب، ويرجع بأهله فيلفه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها نارا تصطلي بها، فيجد نورا يسعد به بنو اسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للانسانية كلها، ويُكرم بالنبوة والرسالة. ويدخل على فرعون في أبهته وسلطانه، وفي ملأه وأعوانه، وهوالمطلوب بالأمس قد تحققت عليه الجناية، وتوجهت اليه الدعوى، وفي لسانه حبسة، وفي موقفه ضعف، فيقهر فرعون وملأه بدعوته وايمانه، وحجته وبيانه، ويلجأ فرعون الى سحرة مصبر ليقهر بفنهم معجزة موسى التي ظنها فنا وسحرا، فاذا بالسحرة خاضعون خاشعون، يقولون: {آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}.

ويؤمر بالخروج ببني اسرائيل والاسراء في الليل من أرض الظلم الى أرض النجاة، ويتبعه فرعون بجنوده، ويصبح موسى والبحر أمامه والعدو من ورائه، ويخوض البحر فينفلق ويكون كل فرق كالطود العظيم، ويعبر موسى وقومه، ويتبعهم فرعون بجنوده فيلتهمهم البحر الهائج. وهكذا يهلك فرعون وقومه الأقوياء الأغنياء، ويملك بنو اسرائيل الضعفاء الفقراء: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} [الأعراف: 137]. ما هي القوة التي قهر بها موسى أعظم قوة في عصره ومصره، وما سر انتصار بني اسرائيل على أعدائهم، وما سلاحهم الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر، وأخضعوا به المحيط الخانق الثائر؟. اقرأ قصة موسى – في القرآن – من جديد، تر أن السلاح الذي واجه به موسى فرعون وقومه، وانتصر به بنو اسرائيل وتبوأوا الإمامة والزعامة في مصر وحولها، هو "الايمان" "والطاعة" "والدعوة الى الله" ويتجلى هذا الايمان وهذه الطاعة والدعوة في ثنايا القصة ومطاويها، وقد تجلى هذا الايمان النبوي في دعوة فرعون وقومه، وبه تغلب موسى على حجاج فرعون ودهائه، هو يريد أن يشغله عن موضوعه ويثير عليه الملأ وهو ثابت على دعوته، ثابت في ايمانه لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يتحول ولا يتغير، قال فرعون: {وما رب العالمين؟ قال: رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله: ألا تستمعون؟ قال: ربكم ورب آبائكم الأولين، قال: إن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون. قال: رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} [الشعراء: 23..28].

ويسأله فرعون عن الأجيال التي مضت، وهو موضوع شائك وسؤال محرج، ولكن موسى يتغلب على دقة الموقف بايمانه الراسخ وحكمته النبوية، فيقول: {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52]. ويفيض في الحديث عن الاله الواحد – الذي يفر منه فرعون – فيقول: {الذي جعل لكم الأرض مهدا، وسلك لكم فيها سبلا، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزوجا من من نبات شتى} [طه: 53]. ويتجلى هذا الايمان في أبرز مظاهره، لما رأى موسى أمامه البحر المائج، ومن ورائه العدو الهائج، فلا متقدم ولا متأخر، وهو وقومه بين طبقتي الرحى، ويناديه بنو اسرائيل في جزع وفي فزع: {قال أصحاب موسى: إنا لمدركون} [الشعراء: 61] ولكنه ثابت الجأش، قوي الإيمان، يعرف أن الله ناصر عبده، منجز وعده، يقول في صراحة وثقة: {كلا، إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 63]. ويعيش بنو اسرائيل في مصر حياة ذل وشقاء، وبؤس وفقر، يعانون أفظع أنواع الظلم والاضطهاد، وأقسى أساليب الحكم والاستبداد، فيؤمرون بالانابة الى الله وتقوية الايمان وتحسين الصلة بالله، ليستحقوا نصره ويوجد في أنفسهم صلاحية الوراثة والخلافة في الأرض: {وأوحينا الى موسى وأخيه أن تبوأا لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} [يونس: 78]. ولا طاعة أعظم من طاعة موسى، وانقياده واستسلامه للأمر الالهي، يؤمر بالتوجه الى أعظم ملوك عصره – وهو الثائر الموتور، شديد البطش، عظيم السلطان – فيقال: {اذهب الى فرعون إنه طغى} [النازعات: 17] ويتوجه الى بلاط جبار يدعي الربوبية، فيدعوه الى الله الواحد القهار، ويستمر في دعوته وجهاده، وفي وعظه وارشاده، حتى يفتح الله بينه وبين قومه بالحق وهو خير الفاتحين.

لقد كان الايمان والطاعة والدعوة الى الله القوة التي واجه بها موسى "مشكلات عصره" وقهر بها أعظم امبراطورية على وجه الأرض، أرقاها مدنية، وأوسعها رقعة، وأغناها أسبابا، وأعظمها جبروتا. لو كان موسى – كزعيم لبني اسرائيل – يفكر تفكير الزعماء السياسيين، ويستعرض "الامكانيات" والوسائل التي يملكها قومه، ويزن كل شيء في ميزان الواقع، والحكمة العملية، ولو نظر – وهو الذي نشأ في البلاط الملكي – الى العدد والعدة، والعزة والمنعة، والجنود والبنود، والثروة والذخائر التي كان يملكها فرعون، وقارن في ذلك بين قومه وقوم فرعون، لما جاز له – في شريعة العقل – أن يواجه فرعون بما يسوءه، ولتحتم عليه أن يقنع بحظه وحظ قومه، ويرضى بالوضع السائد، فلا إيمان ولا صلاح، ولا عدل ولا أخلاق، ولا تقوى، ولا إنسانية. ولكنه نبي يرشده الوحي، ولكنه مؤمن بقوة الله ويؤمن بنصر الله، ولكنه داعية يفكر تفكير الدعاة، وان هذا المنهج من التفكير والعمل هو الذي غير مجرى التاريخ، وأتى بالمعجزات، وأدهش العقول، وحير الألباب.

ولو كان الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يفكر تفكير الزعماء، ويستعرض الامكانيات والوسائل، التي كانت تملكها قريش، ولو أنه نظر الى الامبراطوريتين العظيمتين اللتين توزعتا العالم المتمدن المعمور: الامبراطورية الرومية، والامبراطورية الفارسية، وما تتمتعان به من حول وطول، وقد عرف قوتهما وسعة مملكتهما – وهو الفقيه الواعي – لما جاز له – في شريعة العقل – أن يتوجه بدعوته الى الانسانية جميعا، ويكتب الى سيِّدَي العالم المعاصر ورئيسي الامبراطوريتين الغربية والشرقية، يدعوهما الى الاسلام، ولبقي الوضع الذي كان يسود من قرون، فمتى تملك هذه الحفنة البشرية التي آمنت به، القوة التي تضارع قوة الامبراطوريتين بل تفوقها حتى تهزمها وتدحرها؟ والى متى كان يجب عليه أن ينتظر؟ وماذا كان مصير العالم ومصير الانسانية لو اتجه هذا الاتجاه وفكر هذا التفكير؟ لقد شقيت الانسانية اذن شقاء طويلا، وتأخر أو توقف طلوع الصبح الصادق، ولكان للانسانية تاريخ غير هذا التاريخ.

ولكنه صلى الله عليه وسلم نبي يؤمر فيعمل، ويتلقى التوجيه والارشاد من السماء فينفذ، ولكنه مؤمن يؤمن بقوة الله ويؤمن بنصره، ويؤمن بأن الضعيف مع نصره قوي، والقوي يخذل لأنه ضعيف، ويؤمن بقول الله تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 160] ويؤمن بقوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين} [البقرة: 149] ويؤمن بأن الله قد تكفل بنصر من ينصر دينه، وينهض لاعلاء كلمته، فقال: {يا أيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 07] وقال: {لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين: إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون} [الصف: 173]، ويؤمن بأن الله قد وعد بالانتصار والغلبة، والعلو والسيادة، لعباده الذين قد تحققت فيهم صفة الايمان، وتجلت فيهم حقيقته، فقال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] ولم يعد بشيء من ذلك – من النصر والفتح، والظفر والغلبة، والعلو والسيادة – على الاهواء والنزعات، والطموح والكبرياء وحب المجد – الفردي أو القومي – وشرف الدماء والانساب والبلاد، والعصبيات والقوميات، فلم يتقدم بشيء من ذلك الى العالم ولم يطلب به النصر، مع أنه صلى الله عليه وسلم من أشرف الأمم، وأفضل البيوتات، وأقدس البلاد، إنما تقدم بدعوة دينية، ومنهج خاص للحياة لا غنى للأمم وطوائف البشر عنه على اختلاف أوطانها وألوانها ولغاتها، فخضعت له هذه الأمم وهذه الطوائف من البشر ولم تعقها عن ذلك عصبية أو قومية، لأنه لم يكن من دعاة عصبية أو جاهلية وإنما كان دين عام للإنسانية، وداعي عقيدة ومبدأ ومنهج فاضل للحياة، ونصره الله على قلة وضعف وفقر، ونصر كل من قام بهذه الدعوة الدينية وبهذا المنهج الخاص للحياة، وتكفل بنصرهم الى آخر الدهر، فقال: {أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 33].

إنني لست ممن يدعو الى رفض الاسباب والتوكل السلبي، ولست ممن يعيش في عالم الخيال والاحلام، ولست ممن ينكر الحاجة الى الاستعداد، وممن لم يقرأ قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] وقد لمت العالم الاسلامي ومن تزعمه من الشعوب والدول لوما شديدا في كتابي "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" على التقصير في الاستعداد الحربي والصناعي، والتخلف عن أوربا في ذلك، واعتبرت ذلك سببا من أسباب شقاء الانسانية واتجاه العالم من الرشاد الى الضلال، ومن البناء والازدهار الى الهدم والدمار. ولكني أعارض هذا التفكير الذي تسلط على عقلية العالم الاسلامي في العهد الأخير، وهو النظر الى الأمم الإسلامية – في مختلف أنحاء العالم – ككتل بشرية شأنها شأن القطعان البشرية الأخرى التي لا رسالة لها في العالم، ولا دعوة لها للأمم، توزن في ميزان الامكانيات والوسائل والاستعداد المادي، وتقوم بما تملكه، من ثروة وذخائر، والتناسي أو الاعراض عن قوتها الكبرى "الايمان، والطاعة، والدعوة الى الله".

إننا يا قوم فقراء ضعفاء متخلفون في العلم والصناعة، وفي الاقتصاد والسياسة، المسافة بيننا وبين الأمم الأوربية مسافة قرون وعهود، فليكن ذلك موضع اهتمام الزعماء والقادة، ولينل ذلك كل عناية ورعاية. ولكننا في وقت واحد القوة الكبرى في العالم، فعندنا دين هو حاجة البشرية كلها، وعندنا دعوة تنقذ العالم من نهايته الأليمة التي تنتظره وتدنو اليه، وعندنا الايمان الذي يخلق الامانة والشعور بالمسئولية في النفوس ويخلق الدوافع القوية الى عمل الخير وخدمة الانسانية، وقد حرمتها الامم الزعيمة للعالم بعد ما ملكت كل الاسباب والوسائل لعمل الخير، وخدمة الانسانية، فأصبحت هذه الوسائل ضائعة بل متجهة الى القضاء على المدنية والانسانية، وحاجة أوربا في اقتباس هذا الايمان منا أشد وأعظم من حاجتنا الى الاقتباس من صنائعها وعلومها، لأن هذا الايمان هو الاساس، وهو الموجه وهو الضابط؟ وعندنا شريعة تحل جميع المشكلات والازمات التي يواجهها المجتمع البشري في القرن العشرين، وعندنا – أولا وآخرا – نبي أرسل رحمة للعالمين {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور ويهديهم الى صراط مستقيم} [المائدة: 16].

ألا فلنتجه بهذه الدعوة الى أوربا الحائرة التائهة باخلاص ونزاهة، وتوجع وشفقة، وبقوة وثقة وايمان، ولننظر الى أنفسنا كدعاة ومنقذين، مبشرين ومنذرين، ونستخدم هذه القوة الجبارة في تغيير مصيرنا ومصير العالم، ولنحتل بفضلها مكانة الزعامة والقيادة في ركب الانسانية ومصاف الأمم، بعدما عشنا زمنا طويلا في مؤخر الركب وفي صف التلاميذ والحاشية، ولنتجه بهذه الدعوة المقدسة المنصورة التي اما تقبل فترفع وتؤمن، واما ترفض فتهلك وتقهر، بهذه الدعوة التي أوجب الله على نفسه نصرها ونصر رجالها. ولنتجه بهذه الدعوة الى مجالات مهجورة، وكنوز مطمورة في آسيا وفي افريقية، الى الشعوب التي ملكت الوسائل والعلم والصناعة، والبلاد الواسعة، والعقول الخصبة، والسواعد القوية، وجهلت الدين والغايات الصالحة، والمبادئ الفاضلة، وهي مستعدة لقبول هذه الدعوة، واذا قبلت هذه الدعوة وفقهتها وأخلصت لها تغير مجرى التاريخ من جديد، كما تغير في العهد الأول باسلام الفرس والترك والديلم، وفي العهد الأوسط باسلام التتار والمغول. إلا انا في حاجة الى ثورة، الى ثورة في التفكير والمنهج.

[1] مقال كتبه المؤلف افتتاحية لمجلة "المسلمون" الصادرة في جنيف.

[2] كذلك الجملة المأثورة الشائعة في المجتمع الاسلامي في القرن السابع عند غزو التتار للعالم الاسلامي، واخضاعه من أقصاه الى أقصاه.

بين الجباية والهداية

الدول والحكومات قسمان: دولة شعارها الجباية، ودولة شعارها الهداية، وكل لها طابع خاص ونفسية خاصة، ورجال ممتازون، ولكل نتائج متميزة. فميزان الأشياء ومناط الاحكام في دولة الجباية هو تضخم الميزانية وكثرة الدخل والايراد، ورفاهية رجال الحكومة واحتفال الحضارة وزهو المدنية، وان كان ذلك بامتصاص دماء الفقراء، وشقاء الفلاحين والعملة، والضرائب المجحفة والمكوس المرهقة، فلا يعني هذا الضرب من الحكومة الا بما يزيد في مواردها وماليتها، وبما يهيئ لها أسباب الفخار والزينة والابهة، بما يهيئ للأمراء والوزراء، وأبنائهم وأبناء أبنائهم، والمتصلين بهم ورجال الحكومة وأسرهم وخدمهم أسباب الترف والتنعم والبذخ، وبما يبنون به قصورا فاخرة، ويشترون به أملاكا واسعة، في داخل البلاد وخارجها. تغفل هذه الحكومة تربية الجمهور الدينية والخلقية، وتعطل الحسبة والرقابة على الاخلاق والنزعات، وتتغافل عن كل ما ليس بسبيلها، وما لا يجر عليها فائدة مالية أو قوة سياسية، وقد تبيح منكرا أو محرما إذا كانت تجني منه نفعا، وتحرم مباحا إذا كانت تخاف منه خطرا سياسيا أو خسارة مالية، ولا يزال الجشع والنهامة للمال تدفعها وتزين لها خطتها، حتى تفرض ضرائب على العبادات، وعلى الموت والحياة، وهكذا تتحول من حكومة ساهرة على مصالح الجمهور وراحتهم ومن مربية وحارسة للأمة، الى شركة تجارية كبيرة لا يهمها الا جمع الأموال وزيادة الأرباح.

أما الدولة التي شعارها الهداية، فمهمتها الدعوة الى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعيارها تحسن أخلاق الجمهور، وسمو روحهم وتحليلهم بالفضائل واقبالهم على الآخرة، وزهدهم في الدنيا والقناعة في المعيشة، واجتنابهم المحرمات والمعاصي، وتنافسهم في الخيرات، ولو كان ذلك على حساب ميزانيتها وخسارة ماليتها، فتنصب الوعاظ، وترسل الدعاة، وتشجع الحسبة، وتمنع الخمور، وتنكر على الفجور، وتحرم الملاهي والمعازف، وتطارد المستهترين والخلعاء، وتمنع كل ما يفسد على الناس عقيدتهم وأخلاقهم، ويفسد الحياة المنزلية، وتغص في حكمها المساجد، وتقفر الحانات، ويزدهر الدين والتقوى، وتضمحل المعاصي والجنايات، ويقوم أهل الدين والصلاح وينشطون ويتحمسون، ويتوارى الفجار والملحدون وينكمشون، ويكون ما وصفه الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض: أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41]. فنرى في الأول التطوع والاحتساب، وروح الخدمة والإيثار، والأمانة والتضحية والوفاء، بينما نرى في رجال حكومة الجباية معاكسة القانون ورجاله والاجتهاد في معاجزته والتفلت منه، والكبر والتجبر، والاثرة والخيانة، والنفاق والزور، وفشو الرشوة الى حد يدعو الانسان بين الركن والمقام أن لا يبتلى منهم، فلا ينال الانسان حقه من العدل والراحة، ولا يمتمع بحقوقه المدنية الا اذا رضخ من ماله لهذا وقدم طعمة لذاك. ويستفحل الأمر ويجل الخطب، حتى لا يرى أحد في هذه الحكومة أنه خادم أمة وأمين حكومة، لا يعد نفسه الا جابيا – ولكن لنفسه وعياله – قد منحته الحكومة فرصة جمع الأموال، فلا يريد أن تفلته هذه الفرصة ويتخلف عن قافلة الجباة الشخصيين، وقد اشتد بها الجد، وجد بها السير. لقد سبق في التاريخ أمثلة لكل من حكومات الجباية والهداية. أما حكومات الجباية فلا تحتاج الى تمثيل ولا الى شرح وبيان، فانها هي السائدة الفاشية في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، وقد جربها الانسان وعرفها في كل عصر، أما حكومات الهداية فهي نادرة جدا، فلنضرب لها مثلا:

بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس الى الاسلام فالتف حوله: {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم اذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّن، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [الكهف: 14]. وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم، واضطهاد وبلاء وعذاب، وقد قيل لهم من قبل: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت: 03] فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتواة كالجبال، وقالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأحزاب: 22]. حتى أذن الله في الهجرة، ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها في الأرض، ويقيموا القسط، ويخرجوا الناس من الظلمات الى النور، ومن عبادة العباد الى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، فقد عرف أنهم اذا تولوا وسادوا "أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر". وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتي الأمطار بالخصب والزرع، وكما تأتي الأشجار بالفاكهة والثمر، فلم تكن هذه الحكومة الا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الاسلامية. ولم تكن هذه العزة والقوة الا نتيجة ذلك العذاب الذي تحملوه من قريش وغيرهم، وذلك الهوان الذي لقوه في مكة وغيرها. جاءت الحكومة بما يتبعها من عزة وشوكةن ورجال وأموال، وكنوز وخزائن، وجباية وخراج، ورفاهة ونعيم، وكان المجال واسعا جدا لجمع الأموال وحكم الرجال، ورفاهية الحال اذا اختاروا طريق الملوك والسلاطين في فرض الضرائب الكثيرة، والاتاوات المتنوعة والمكوس الجائرة.

التفت القوم فاذا دولتهم الوليدة على مفترق الطرق – طريق الجباية وطريق الهداية – هنالك سمعوا هاتفا يقول: ويحكم ان محمدا صلى الله عليه وسلم لم يبعث جابيا وإنما بعث هاديا وأنتم خلفاؤه" فلم يترددوا في ايثار جانب الهداية على جانب الجباية، واتخاذ الدعوة والهداية شعارا ومبدأ لحكومتهم فكان ذلك. لقد علموا أنهم لو آثروا جانب الجباية وأطلقوا أيديهم في أموال الناس، واسترسلوا الى النعيم، ورتعوا في اللذات، لم يحل بينهم وبين ذلك أحد، ولم يقف في سبيلهم واقف. ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك فقد غشّوا اخوانهم الذين سبقوهم بالايمان، وقضوا نحبهم بدون أن يأكلوا ثمار غرسهم، لقد خانوا أولئك الذين لم يعرفوا الا الجهاد والتعب والجوع والسغب، ولقد وصلوا الى الحكومة على جسر من متاعبهم وإيثارهم. أفيجوز لهم أن يستغلوها لمصلحتهم وشهواتهم، وأبنائهم، ويتمرغوا في النعيم، ويسرفوا في الأكل والشرب؟ لقد ظلموا اذن عثمان بن مظعون، وحمزة بن عبد الملطب، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، وسعد بن معاذ، وكثيرا من رفقتهم الذين لم يروا شيئا من الفتوح والغنائم، ولم يشبعوا أياما متوالية، وقف القوم ولم يطب لهم الأكل والشرب، وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم ولم يأخذوا من الدنيا الا البلاغ.

تأسست دولة الإسلام وفتحت فارس وبلاد الروم، والشام ونقلت الى عاصمة الاسلام – المدينة المنورة – كنوز كسرى وقيصر، وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين، وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطُرَفها وزخارفها، ما لم يدر قط بخلدهم، وقد انقضى على اسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش، وفي جشوبة المطعم وخشونة الملبس، لا يجدون من الطعام الا ما يقيم صلبهم، ولا من اللباس الا ما يقيهم من البرد والحر، فاذا بهم اليوم يتحكمون في أموال الاباطرة والاكاسرة، فإذا أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل، لقد كانت – والله – هذه محنة عظيمة، تزول فيها الجبال الراسيات، وتطير لها القلوب من جوانحها، وتعمش لها العيون، ولكنهم سرعان ما فطنوا أنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب، بل أنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وامامتهم ومبادئهم، وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبدا، وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء الأنبياء والمرسلين، وحملة الدعوة المؤمنين المخلصين. كان لهم أن يؤسسوا ملكا عربيا عظيما على أنقاض الدولة الرومية والفارسية، وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل، فقد ورثوا امبراطوريتين: الفارسية والرومية، وجمعوا بين موارد دولتين، فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط، وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط، فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترفه بموارد الامبراطوريتين ويبذخ بذخا لم يبذخه أحدهما. كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة، ولكنهم سمعوا القرآن يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها لذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص: 83].

وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته: "فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"[2]. فهتفوا عن آخرهم قائلين: اللهم لا عيش الا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، وهكذاحافظوا على روح الدعوة الاسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين، وعاشوا في الحكومة كرجال الدعوة، وفي الدنيا كرجال الآخرة، وملكوا أنفسهم في هذا التيار الجارف، الذي سال قبلهم بالمدنيات والحكومات، والشعوب والأمم، وسال بالمبادئ والأخلاق، والعلوم والحكم. ما زال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم تحت قيادة سعد بن أبي وقاص ووصولهم الى الشط الثاني من غير أن يصابوا في نفس أو مال أو متاع حادثا غريبا من أغرب ما وقع في التاريخ، ان الحادث لغريب، ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين في عهد الخلافة الراشدة وعصر الفتوح الاسلامية الأولى خاضوا بحر مدنية الروم وفارس وهو مائج هائج، وعبروه ولم يفقدوا شيئا من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم، ووصلوا الى الشط الثاني، ولم تبل ثيابهم، ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الاسلامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم، ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم، في المعيشة وتخشنهم في أوج الفتوح الاسلامية.

حكى الطبري دخول الهرمزان المدينة، ومواجهته لعمر رضي الله عنه قال: هيأوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين مكللا بالياقوت، وعليه حليته كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله، فلم يجدوه فسألوا عنه، فقيل: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، وانطلقوا يطلبونه في المسجد فلم يروه، فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدد كم تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد متوسدا برنسه، وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه نزع برنسه ثم توسد فنام، فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرة في يده معلقه، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هُوَ ذا، وجعل الوفد يشيرون الى الناس أن اسكتواعنه، وأصغى الهرمزان الى الوفد، فقال: أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان! قال: فينبغي له أن يكون نبيا. فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا ثم نظر الى الهرمزان فقال: "الهرمزان"؟ قالوا: نعم! فتأمله وتأمل ما عليه وقال أعوذ بالله من النار وأستعين الله، وقال: الحمد لله الذي أذل هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بهدي نبيكم ولا تبطرنكم الدنيا فانها غرارة، فقال الوفد: هذا ملك الاهواز، فكلمه. فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء، فرمي عنه بكل شيء عليه الا شيئا ليستره، وألبسوه ثوبا صفيقا فكلمه[3]".

ويصف ضرار بن ضمرة علي بن أبي طالب في خلافته بعد وفاة علي لمعاوية، ويقول: "إنه ليستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان – والله – غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جَشُب[4]، كان والله كأحدنا يجيبنا اذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا اذا دعوناه، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: "يا دنيا أبي تعرضت، أم لي تشوفت؟ هيهات هيهات!! غري غيري، قد بتتّك ثلاثا لا رجعة لي فيك. فعمرك قصير، وعيشك حقير وخطرك كبير. آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق[5]". كان شعار الدولة الاسلامية الأولى الهداية والدعوة الى الله وخدمة الناس، فكانت الدولة تخسر أموالا عظيمة في سبيل الأخلاق والدين، وكانت اذا خيرت بين أرواح الرجال ومبالغ من المال اختارت الأرواح وخسرت الأرباح، وتطيب بذلك نفسا وتقر به عينا، وإذا كان عكس ذلك فكسبت الأموال وخسرت الرجال، حزنت لذلك وحزن المسلمون كحزنهم على ملك زائل وسلطان راحل، وقد فضل الخلفاء الراشدون وخامسهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن يدخل المجوس والنصارى في الإسلام ويعفوا من الجزية، فيخسر بيت مال المسلمين مقدارا عظيما من المال، ويكسب الدين الإسلامي والأمة الإسلامية رجالا يتخلصون من النار، وإذا كسب وربح بيت المال على حساب الإسلام حزنوا حزنا شديدا. حدّث الطبري عن زياد بن الزبيدي، قال: "جمعنا في مصر ما في أيدينا من السبايا واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الاسلام وبين النصرانية، فاذا اختار الاسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين نفتح القرية، قال: ثم نحوزه الينا، واذا اختار النصرانية نحرت النصارى ثم حازوه اليهم ووضعنا عليه الجزية وجزعنا من ذلك جزعا شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا اليهم[6]".

وهكذا انتشر الاسلام، وانتشرت الاخلاق الفاضلة في عقود من السنين من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، وتغلغلت الدعوة الاسلامية في أحشاء المجتمع البشري، لم يتمتع العالم الاسلامي بخلافة عمر بن عبد العزيز الا سنتين وبضعة شهور، ولكنه بحرصه على الدعوة ومحافظته على شعار الهداية، وسيرة خلفاء الأنبياء عليهم السلام تمكن من التأثير في القلوب والعقول، وقلب تيار المدنية، واظهار الدين واخماد الكفر والفسق، والقضاء على رسوم الجاهلية، ما لم تتمكن منه دول اسلامية طويلة الاعمار لتراوحها بين الهداية والجباية، وتفضيلها الجباية في أكثر الاحيان على الهداية. وكانت المدن الاسلامية الكبرى وعواصم الاسلام مركز دعوة وهداية بحيث اذا دخلها الانسان عرف أنه يمشي في مركز الاسلام ويتنفس في جوه، فيرى الحدود قائمة وأحكام الشرع نافذة، ولا يجد أحدا يتهاون في أمر من أمور الدين، ويستخف به أو يجاهر باثم ومعصية ولا يرى بدعة ولا فجورا، ولا دعارة ولا خدعة، ولا يسمع برشوة ولا خيانة ولا ما ينافي روح الاسلام، ويسمع الدعوة الى الله والى الدار الآخرة والى الفضيلة والتقوى واتباع الكتاب والسنة، والاجتناب من الشرك والبدعة، والتمسك بفضائل الدين في كل مكان، ويرى العمل بذلك في الطرقات والمجامع، وبيوت الناس ودواوين الحكومة، فيتشبع بروح الدين ويتضلع ايمانا وحماسة، وفقها في الدين ومعرفة بأحكامه وشرائعه وحبا لأهله، فلا يخرج الا وقد استفاد الايمان والعلم والتصلب في الدين والثقة برجاله وممثليه. واذا دخلها أجنبي أو حديث عهد بالاسلام، عرف مزايا الحياة الاسلامية وفضل حكومة الاسلام، وآثر الاقامة فيها، وكره أن يفارقها، ويعود الى دار الكفر كما يكره أن يقذف في النار.

أما الحَرَمانِ فقد كانا في حكومة الاسلام – المؤسسة على مبدأ الهداية – مدرسة الدين ومهد الحضارة الاسلامية، تتمثل فيهماه الحياة الاسلامية بكمالها وجمالها، ويأتي اليهما المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الاسلامي، ومن كل فج عميق، فيشهدون منافع لهم ويتفقهون في الدين، وينذرون قومهم اذا رجعوا اليهم، ويحتجون في بلادهم بما رأوه في الحرمين، فيكون ذلك حجة لمحافظة الحجاز على الدين والسنة وحرص حكومتها على تمثيل الحياة الاسلامية في مركز الاسلام ومنبعه. ثم أتى على المسلمين حين من الدهر نسوا أن الحكومة في الاسلام لم تكن الا جائزة الدعوة والجهاد في سبيلها، ولولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته الى الله، وما لقي في مكة والطائف من قريش والقبائل، ولولا الهجرة والاختفاء في غار ثور، والرباعية المكسورة يوم أحد، ولولا ما صنع بحمزة يومئذ ولولا قتلى بئر معونة ومصلوب الانصار[7]، لما دانت الدنيا للعرب، ولا كانت دمشق ولا بغداد، ولا كان لبني مروان أن يجبوا خراج الروم وفارس، ولا كان للرشيد أن يقول لسحابة مرت به: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك". أسس ملوك المسلمين بعد الخلافة الراشدة دولهم على مبدأ الجباية السياسية، وأهملوا الدعوة الى الله والى دار السلام، وعطلوا الحدود وأبطلوا الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، ولم تعد مراكز الاسلام مدرسة الدين ومرآة لمدنيته واجتماعه، بل أصبحت تغرس الشك والنفاق في قلوب الوافدين وتزعزع عقيدتهم وثقتهم بالدين وأهله، وأصبح القاصدون من مختلف أنحاء العالم الاسلامي يكتسبون منها استخفافا بشعائر الاسلام، ورقة في الدين، ووهنا في العمل، وسوء ظن بممثلي الاسلام، ورجعوا يحتجون بالاوضاع الفاسدة في مراكز الاسلام، وبالفوضى الدينية، فكانت داهية عظيمة على رجال الاصلاح والدعوة في الاقطار الاسلامية، وفتنة كبيرة.

ليس العالم الاسلامي اليوم بأشد افتقارا الى شيء، منه الى حكومة تمثله تمثيلا صحيحا، وتقوم على أساس الدعوة والهداية، والنصيحة والخدمة، فإن الإسلام لا يؤثر في عقول الناس، ولا يشفي المتفحصين حتى تكون له رقعة في الأرض، تتمثل فيها حياته وتتجلى فيها مدنيته واجتماعه، وتظهر فيها نتائج دعوته وتعاليمه، فإذا كان ذلك ولو في رقعة صغيرة كان على الاسلام اقبال عظيم لم يعهد من قرون. وليس العالم الانساني بأقل افتقارا من العالم الاسلامي لمثل هذه الحكومة التي شعارها الهداية والاصلاح، لا الجباية والكفاح، فان الانسانية العليلة جريحة لا يسعفها اليوم الا قيام هذه الحكومات التي تؤسس على أساس الفضيلة والدين، واحترام الانسانية، وايثار الأرواح على الأرباح، والأخلاق على الاعلاق، وكسب الرجال على كسب الاموال، فإذا تأسست هذه الحكومة – مهما كانت صغيرة ومهما كانت مواردها ضعيفة – كان ذلك حادثا غريبا يستحق كل تنويه واشادة، وقام كبار السياسيين وأصحاب اليراع، وقادة الفكر يشيرون اليها بالبنان ويضربون بها الامثال، ويؤلفون عنها مؤلفات، وأصبح الناس يأوون اليها كما يأوي الغرقى الى جزيرة في البحر، لينعموا في ظل حكومتها، وينفضوا عنهم غبار الظلم والفتن، ويتنفسوا من متاعب المدنية المعقدة المزورة، والحكومات الجابية الجائرة، ولكانت هذه الحكومة غُرة في جبين الدهر، وشامة بين الحكومات والدول. ان الانسانية قد جربت حكومات الجباية على اختلاف أنواعها وأسمائها – من شخصية وديمقراطية، ورأسمالية واشتراكية وشيوعية – فوجدتها بنات علات، لا تختلف في أصلها ومبدئها، وروحها ونزعتها، وقلبتها على كل جانب فلم تر منها الا شرا ومرا، ولم تر اختلاف الاسماء يغني عن شيء، واذا تأسست جديدة باسم جديد، نادى لسان الحقيقة في لفظ أبي العلاء المعري:

ألا إنما الأيام أبناء واحد

وهذي الليالي كلها أخوات

فلا تطلبن من عند يوم وليلة

خلاف الذي مرت به السنوات

واذا ضمت الى هذه الحكومات المعدودة بالمئات حكومة جديدة لا تختلف عن اخواتها الا أنها يرأسها مسلم أو يديرها عدد من المسلمين، لم تكن بدعا ولم تكن شيئا طريفا ينوه به أو يشار اليه بالبنان، أو تعقد به الآمال، فان هنالك حكومات تفوق هذه الحكومة عشرات من المرات في طول مساحتها وضخامة ميزانيتها، وكثرة انتاجها واصدارها، وفي جيشها وأساطيلها وبوارجها الحربية وعدد الطائرات، وكثرة المصانع ورقي الصناعة والتجارة، واحتفال المدنية والحضارة، وحسن الادارة وانتشار العلم في طبقات الشعب وقلة الامية، الى غير ذلك مما تمتاز به الحكومات الاوربية.

ان قيام دولة للمسلمين في بقعة من بقاع الارض فرصة سعيدة نادرة لا تسنح في كل حين، ومثل هذه الفرص – كما يعرف المطلع على السنن الالهية وعلى تاريخ الاديان والدعوات الاصلاحية – قد تسنح بعد قرون، وتكون من فلتات الدهر، وفي قصرها كوميض البرق في ليلة مظلمة، وتكون امتحانا عظيما لرجالها، كيف يستخدمون هذه الفرصة لدعوتهم ومبادئهم الدينية على حساب مصالحهم الذاتية، وراحتهم ولذائذهم، فاذا انتهزوا هذه الفرصة وعرفوا قيمة الوقت، وأحسنوا تمثيل هذه العقيدة والدين الذي ينتسبون اليه وحسن ظن الناس بهم، وصدقوهم في ما يقولون فقد خدموا دينهم وأنفسهم خدمة باهرة، وان كان غير ذلك فأساءوا استعمالها واستغلوها لمصالحهم الشخصية على حساب الدعوة الدينية، ورجالها المخلصين وجهودهم في سبيل نشر هذه الدعوة، وقيام هذه الحكومة، كما فعلت الدولة الاموية والعباسية ودول كثيرة، فقد ضيعوا الفرصة وخسروا دورهم، وخسرت معهم الدعوة التي وصلت أسبابها بأسبابهم دورها، وما يعلم أحد متى يعود هذا الدور، وهل يعود أم لا؟ فقد شهد التاريخ أمما وجماعات كثيرة ضيعت فرصة حكمها وسلطانها، ولم تنتفع بها، وانتهى دورها القصير أو الطويل فوقفت مع المتفرجين المنعزلين وبقيت تنتظر دورها في حلبة الأمم، وتعض على تفريطها ببنان الحسرة والندم. هذا والى الحكومات الاسلامية ومن كان على رأسها أن ينتهزوا الفرصة ويحرزوا قصب السبق، ويبلغوا بهمتهم وعنايتهم الى حيث لا يبلغ اليه كبار الصالحين والاتقياء بعبادتهم وزهدهم، وذلك بما آثرهم الله من حول وطول، ونفوذ وسلطان، وفرص لا تتأتى لغيرهم، ولهم أن يصلوا في خدمة هذا الدين واعادة شبابه، واصلاح المجتمع وتغيير اتجاهه، من الجاهلية الى الاسلام في يوم واحد – اذا أرادوا بذلك وصحت عزيمتهم وصدقت نيتهم – مالا يصل اليه المصلحون، والمؤلفون والعاملون في أعوام وقرون، وينالوا من رضى الله وثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ما يغبطهم عليه كثير من العباد والمتقين، وعباد الله الصالحين.

وما أطلق الناس على عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكبير والخليفة الراشد الا بتغييره مجرى الحكومة من الجباية الى الهداية، والاصلاحات التي قام بها، وبرجولته وعصاميته في سبيل مبدأه، ولو وزن ما تنازل عنه من نعيم زائل ومتاع فان، وأنواع من لباس وطعام، ودواب وأنعام – كان لا بد أن يتركها يوما من الأيام – لو وزن ذلك كله بما اكتسب من نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وما يرجو من مرافقة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والالتحاق بحزبه. وما جعل الله له من لسان صدق في الآخرين، لرجح ما اكتسب رجحانا واضحا، وعد من كبار الأذكياء وعقلاء العالم.

[1] أصل هذا المقال رسالة شخصية وجهت الى ملك من ملوك العرب، ثم طبعت كرسالة عامة موجهة الى جميع المسلمين، وقادة الرأي والفكر في العالم الاسلامي.

[2] رواه البخاري ومسلم.

[3] تاريخ الطبري (ج 4 ص 37).

[4] ما جشب: ما غلظ وخشن.

[5] صفة الصفوة لابن الجوزي ج 1.

[6] تاريخ الطبري (ج 4 ص 237).

[7] هو خبيب بن عدي بن مالك الذي قتله بنو الحارث بن عامر، وبضعوا لحمه، وحملوه على جذعة، وهو القائل:

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي.

دعوتان مُتنافستان

لم تزل في الدنيا منذ وجدت دعوتان متنافستان متصارعان، دعوة تدعو الى اتباع النفس وتحكيمها، والى حرية الانسان المطلقة، التي لا تقف عند حد – الا اذا اضطرت الى ذلك – وان كان في غضون هذه الحرية وأثنائها مئات وآلاف من أنواع الرق والعبودية، ودعوة تقول: ان الانسان عبد لله، مكلف ومسئول أمامه، وتدعو الى اتباع الوحي من الله وشرائع الأنبياء. الدعوة الأولى هي "الجاهلية" في مصطلح الاسلام الواسع، والدعوة الثانية هي دعوة الاسلام نفسه، واقتسمت هاتان الدعوتان أمم العالم وأجياله. ولم تزل تتداول قيادتهما وتمثيلهما من حين الى حين، وليس تاريخ الاديان والعقل والاخلاق، الا حكاية هذا الصراع المستمر، والنزاع الدائم، وذلك أكبر صراع وأوسعه، شهده العالم في عمره الطويل. ومنذ ثلاثة عشر قرنا ونصف، اختار الله لقيادة الدعوة الثانية – الاسلام – أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب لهم الامامة في ذلك الى يوم القيامة.

كذلك لم تزل تمثل الدعوة الجاهلية وترأسها أمم وحضارات جاهلية في عصورها ودوائرها، حتى قضى ربك أن تتولى زعامتها وتحمل رايتها أمم أوربا النصرانية قبل نحو قرنين، وانما رشحها لهذا المنصب وجعلها حاملة لرسالة الجاهلية في العالم مجاهدة في سبيلها، سوء تمثيل النصرانية المحرّفة للدين المطلق، ورهبانيتها وعجزها عن حل القضايا الانسانية والمعضلات البشرية، ثم سوء تمثيل علمائها وكهنتها، وقسُسُها للنصرانية نفسها، وبما حالوا بين أمتهم وبين الرقي والتقدم، وبما أذاقوا العلماء الأحرار والمكتشفين من أنواع العذاب التي تقشعر لها الجلود، وتتفطر منها مرارة الانسان مما حفظه لنا تاريخ الصراع بين الدين والمدنية، والدين والعقل، والدين والعلم في أوربا، زد الى ذلك كله تهور الثائرين على النظام القديم وطيشهم، فكان عاقبة ذلك أن أصبحت أمم أوربا وهي المتحفزة للنهوض، الطامحة الى الرقي تبغض الدين مطلقا، وتتحرر من نظام قديم، وتعادي كل دعوة دينية خلقية، وترى فيها حجر عثرة في سبيلها، وفي أصحابها عدوا لدودا للرقي الانساني.

وعلى كل تحولت أمم أمم أوربا جاهلية مادية محضة، وكان هذا التحول من أتعس الحوادث التي وقعت في التاريخ والذي قد جر على الانسانية شقاء طويلا وويلا عظيما، ولكنه كان واقعا لا محالة لاسباب طبعية عقلية. وتقدمت أمم أوربا الفتية المتحمسة لغزو العالم وفتحه، وقد أخذت له أهبته وأعدت له عدته فكان بحكم الطبيعة أن تصادم ممثلي الدعوة الثانية المضادة لها، وهم المستولون على أجمل رقع العالم المتمدن المعمور، وعلى أهم بقاع الأرض سياسيا وجغرافيا، وأخصبها وأثراها اقتصاديا، وكان بديهيا أن يقع أول صراع وأكبره بين هاتين الفئتين، فكان ذلك! كان ذلك والمسلمون منذ أمد بعيد، قد فقدوا روح الرسالة التي كانوا يحملونها، والتي قد أصبحوا بقوتها سيلا جارفا جبارا لا تقاومه الحشائش، ولا تقف في وجهه الصخور، وقوة المسلمين وروحهم دائما من الرسالة والدعوة، فأضحوا لا يحملون رسالة الاسلام الى العالم، ولا يدعون دعوة دينية تنفخ فيهم الحماسة والفتوة، ويأتون لها بخوارق ومعجزات، وتفتح لهم هذه الرسالة قلوبا وعقولا، وتسخر لهم ممالك ودولا، وأصبحوا جيلا من الناس كسائر الأجيال، يرى ما يحدث في العالم من خير وشر وما يسود فيه من حق وباطل، هادئا مطمئنا، كمتفرج أو كعاجز ليس له من الأمر شيء.

وفقدوا الايمان والحماسة الدينية، ففقدوا القلوب التي كانوا يلقون بها عدوهم، وسلاحهم الذي كانوا يقارعون به فيهزمون أضعافهم في العدد والعُدد، وأصبحوا كسائر الناس لا يمتازون بمزيد قوة ولا بزائد يقين، يألمون كما يألمون ولا يرجون من الله ما كانوا يرجون. وفقدوا الأخلاق والفضائل التي كانت لهم قوة روحية وسلاحا ماضيا في معترك الحياة، دانت بها لهم الجبابرة، ولانت بها صخور القلوب، واستبدلوا بها عيوبا وأدواء خلقية واجتماعية، أخذوها من الأمم الجاهلية المنحطة التي عاشروها وسرت فيهم أيام ترفهم وانحطاطهم الخلقي والاجتماعي، فكانت كدابة الأرض تأكل منسأتهم. وتنخر الدعائم التي قام عليها بناؤهم. ونضب معين علومهم، وجمدت قرائحهم وعقولهم، وحرموا الاجتهاد، والتفكير، وقوة الاكتشاف والابداع، ومني علماؤهم بجمود عقلي وركود علمي، لا يزيدون في ثروة العلم، ولا يفتحون للعقل أبوابا ومنافذ جديدة، ولا ينظرون في علوم الطبيعة والكون، بينما كانت أوربا تسخِّر لمصالحها قوى الطبيعة، ويكشف علماؤها عن أسرار الكون، ويتخذ عاملوها نفقا في الأرض وسلما في السماء.

أما الأمراء والملوك المسلمون فقد تركوا الجهاد في سبيل الله منذ قرون، واشتغلوا عنه بحروب بغضاء ومنافسة، وشهوات ومطامع، حتى دهم الاسلام الزحف الصليبي فلم يقم له الا صلاح الدين الايوبي وبعض الافراد المتصلين به. ومرت كارثة الأندلس وكأن لم يكن شيء، وزحف التتار والمغول – ذلك الجراد المنتشر – فنهكوا قوى المسلمين، وزادوهم وهناً على وهن.

هذه هي العوامل التي ساعدت الأوربيين في فتحهم وانتصرت بهم الجاهلية على الاسلام، فكان أكبر انتصار نالته الجاهلية على الاسلام منذ زمن طويل، ولو تكلمت لقالت: الويم انتصفت من عدوي، وأخذت ثار الأمم التي فتحها والدول التي محاها، والحضارات التي طمسها ومن اليوم أزدهر في بلاده وأخصب في نجاده ووهاده، وأجري مجراي لا يسد تياري شيء. لو قالت لصدقت، لأن المسلمين – على علاتهم – كانوا أمناء لرسالة الأنبياء، حملة لمصابيح شرائعهم، وحرزا للدين في الدنيا ودرءا للأخلاق والفضيلة على كل حال، وكانوا أعظم سد في وجه الجاهلية، ويتحولون أكبر خطر عليها في كل وقت. كانت رزيئة المسلمين في هذه الهزيمة عظيمة وخطبهم فادحا جدا، فقد خسروا بلادهم التي كانت تفيض لبنا وعسلا، وخسروا جميع دولهم تقريبا، ومنوا بنوعين من العبودية السياسية والعقلية، وحيث أفلتوا من العبودية المادية لمي فلتوا من العبودية العلمية والخلقية. ورزئوا في أخلاقهم التي أورثتهم اياها تعاليم الأنبياء، والمحاسن التي حافظوا عليها طوال هذه القرون: من صدق وأمانة، وشجاعة ووفاء، وعفة وطهارة، وكرم وتواضع، وتقوى الله في السر والعلانية، ومراقبة حدوده الى غير ذلك، مما يمتاز به اتباع الشرائع السماوية عن أهل الجاهلية، وتسلطت عليهم بتأثير الأمم الغربية العيوب الخلقية، والمخازي البشرية التي ورثتها أوربا من روما ويونان الوثنيتين، ومن قرونها المظلمة، ومن جاهليتها: كالنفاق والرياء، والغدر بالعهود، اذا دعت الى ذلك مصلحة، والشجع المادي والايمان بالقوة وحدها، والاحترام للمال والثروة وحدها، وتقديم المصالح والمنافع على الأخلاق والفضائل.

وما كانت رزيئة الانسانية في هذا الانتقال بهينة، فتزلزلت مباني الأخلاق والفضيلة في كل صقع وقطر، وحدثت ثورة على كل نظام قديم، وإن كان عدلا وحسنا، وعمت الفوضى في البيوتات والأسر، وتغير الولد للوالد وعقه، وتركت المرأة بعلها وثارت عليه، وانحلت عقد الأرحام، ولم يعد الصغير يوقر الكبير، ولم يعد الكبير يرحم الصغير، وتعوضت القلوب من الألفة والمحبة الجفاء والبغضاء، وكثر التنافس في الحياة الدنيا وفي الرقي المادي، وفي أسباب الجاه والثروة، وتولدت من ذلك ثروة وآفات كدرت صفو الحياة وأماتت القلب والروح، الى غير ذلك من الظواهر التي تشكو منها كل ديانة وكل حضارة شرقية بثها وحزنها، ومما يشترك فيه المسلمون وغيرهم من الشرقيين. ثم إن هذه الأمم قد أصبحت تتحكم في أموال الناس ونفوسهم وأرزاقهم، وأصبحت تملك السلم والحرب، وأصبح العالم في حضانتها كولد يتيم أو شاب سفيه لا يملك من أمره شيئا، فتارة تسوقه الى ساحة القتال، وطورا تملي عليه الصلح، وليس له في صلح أو حرب يد مرفوعة أو كلمة مسموعة.

ماذا عسى أن يكون أثر هذه الهزيمة والرزية العامة في نفوس المسلمين وفي نفوس بني آدم عامة؟ أما الناس عامة فلكل انسان أن يجيب عنه، وسيجيبون عنه، أما المسلمون وهم أولى بأن يوجه هذا السؤال اليهم لأن منهم انتقل هذا الملك الواسع والأمر والنهي الى الأوربيين، ولأن دينهم يقتضي أن يكون ظاهرا على كل دين، وأن يكونوا هم الأسوة وحدهم للعالم، فسيقول كل مسلم لم يمت قلبه: ان من الطبيعي أن تنطوي صدور المسلمين على احن وأحقاد للجاهلية، وأن ينظروا الى كل من يمثلها في كل مكان كعدو غاصب، وغريم منافس، وأن طبيعة رسالتهم ودعوتهم في العالم تقتضي بداهة أن تعزل الأمم الجاهلية من قيادة العالم، والتأثير في عقول الناس وتوجيه أفكارهم، وأن تمنع من تمثيل الجاهلية في العالم، وأن ينزع منها سلطانها حتى لا تكون في دعوتها فتنة لمفتون، وحتى لا تنافس الدعوة الى الله دعوة، ولا ينازع في الدنيا عاملان يتجاذبان النفوس والعقول الى جهتين مختلفتين، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} . ويعلم كل ذي بصيرة بل كل ذي بصر أن مجرد سيادة هذه الأمم، واستعلائها السياسي والمادي دعاية عظيمة لدينها، وحضارتها ومبادئها، ومناهج فكرها وأخلاقها، لا يقاومها منطق ولا استدلال، ولا حجة ولا برهان، ولا فلسفة ولا أخلاق، ولا تنجح ضدها دعوة الأديان، وإنها قد أصبحت بزخارفها مغناطيسا للقلوب، تنجذب اليها كما ينجذب الحديد.

هذه هي الحقيقة التي ذكرها موسى عليه الصلاة والسلام فيما حكى القرآن عنه في دعائه الذي دعا به في مصر على عهد فرعون، وهي حقيقة في كل عصر ومصر: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]. فماذا كان المنتظر من المسلمين – وهم حاملوا رسالة الإسلام - ؟ كان المنتظر منهم أن يروا في أوربا وأمريكا زعيما للجاهلية، الذي تولى كبرها وحمل رايتها في الآفاق. وكان الواجب أن تكون هذه المسألة هي أمّ المسائل وكبراها في نظرهم، وأن تشغل ذهنهم وتستغرق سعيهم، وكان الواجب أن يعدوا أنفسهم في كل ناحية من نواحي العالم ممثلين لدعوة الإسلام ضد هذه الدعوة الجاهلية، وأن لا يتخذوا موقفا مهما كان اقتضاء المصالح الوطنية والسياسية والمالية، لا يتفق وممثلي الإسلام وحاملي رسالته، وأن لا يأتوا بشيء تتغذى به الحركة الجاهلية في العالم، وأن لا يظهر منهم شيء ينم عن ركونهم الى هذا النظام الجاهلي الذي بسطته هذه الأمم في العالم، وتريد أن تبسطه ويظهر به تعاونهم على الإثم والعدوان، الذي لا عدوان أكبر منه. ولكن مما يبعث الأسف العميق والعجب الشديد في النفوس "عجبا يميت القلب ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان" كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له، إن المسلمين عامتهم لم يدركوا هذه الحقيقة مع وضوحها وانجلائها، وذهلوا عن موقفهم الصحيح في العالم، ونسوا وجهلوا أنهم والأمم الأوربية الجاهلية دعاة لنظامين للحياة متضادين، لحضارتين متناقضتين، وأنهم وإياها ككفتي ميزان، كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى.

وأصبح المسلمون أخيرا لجهلهم للدين وما يقتضي من حب وبغض، وبتأثير الدعاية، يرون الى الجاهلية الأوربية كالحليف الوحيد للإسلام، وأنهم يقرعون بين أممها ودولها أيها أقرب اليهم، وأنفع لمصالحهم، وأغراضهم السياسية والمالية، ويجهلون أنها مهما اختلفت في نظمها السياسية، وفي ادارتها الداخلية، أو سياستها الخارجية، ومهما تعادت وتباغضت فيما بينها، فإنها أخوات شقيقات من أب واحد وأم واحدة، وأنها لا تختلف في المبادئ الأولية وفي فلسفتها التي يسميها الإسلام "الجاهلية" وغاب عن عقلاء المسلمين والمتعلمين منهم بل وقادتهم وزعمائهم، - فضلا عن العامة – أنه ما دامت هذه الأمم تتمتع بالغلبة السياسية، وما دامت لها سيطرة على العالم فهي المثل الكامل والقدوة المثلى في الأخلاق والسيرة، والعلم والمدنية، والفضائل الرذائل، وما دامت كلمتها عليا فلا تزدهر للدين دعوة، ولا تعلو له كلمة، ولا تسود في العالم الأخلاق الفاضلة ولا تكون لها قيمة، ففي مصلحة الإسلام وفي مصلحة الإنسانية أن تعزل بأسرها عن قيادة العالم، ولما كان المسلمون هم المسؤولين وحدهم عن صلاح العالم وفساده، ووظيفتهم الحِسبة على الناس، وهم القوامون بالقسط، شهداء لله، وهم المراقبون لسير العالم، فلهم أن يجتهدوا في ذلك أكثر من كل شعب وأمة، بل يجب عليهم أن يكونوا طليعة، وأن يكونوا اماما في الحركة ضد الجاهلية وأممها، بل يجب أن تبدأ منهم الدعوة واليهم تعود.

ولكن أجل نظرك في العالم الإسلامي كله وانظر في شعوبه وأممه ودوله – ان كانت فيه دول تملك أمرها – وفي جميع طبقات المسلمين، هل ترى شيئا تستدل به على أن هذه الأمة المنبثة في أرجاء الأرض صاحبة رسالة في العالم وصاحبة دين وعقيدة، وأنها تنكر مما وقع وواقع شيئا؟ وتحمل في صدرها حفيظة ضد الجاهلية وأهلها، وتريد أن ترفع للاسلام راية وتجتهد لاعلاء كلمة الله؟ كل! بل ترى أمة هادئة مطمئنة راضية بكل ما يقع في العالم اليوم، سليمة الصدر، قريرة العين، ناعمة البال، تتعاون مع الجاهلية وأممها وتتحالف، وتقدم لها كل معونة تقدر عليها.

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

ان كان في القلب اسلام وايمان!

أجل ان كان في القلب اسلام وايمان لما ارتضى مسلم بهذا الخزي، ولكن كل ذلك يرجع الى كون الرجل مسلما، يحب لله وبيغض لله، ويوالي في الله ويعادي في الله، ولذلك ذكره القرآن شرطا في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون اليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء و يبسطوا اليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء، وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 1- 2] ثم ضرب لذلك مثلا بابراهيم وأصحابه: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم: إنا برآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 03].

يلاحظ القارئ العربي النكتة في قول ابراهيم وأصحابه "كفرنا بكم" وبلاغة الكلمة وسعتها، فلم يقولوا كفرنا بدينكم كأنهم قد أصبحوا صورة وتمثالا للكفر والجاهلية، جامعين لمعانيها وأشكالها ومظاهرها، ولأن حياتهم كلها وما يتصل بها من علوم وفلسفة، وحضارة وثقافة قد سرى فيها روح الكفر والجهل، وذلك ينطبق على كل أمة جاهلية حرمت هَدي الأنبياء وعلومهم، وبنت حياتها وعلومها ومدنيتها على دلالة الحواس أو على القياس أو التجارب، فعم الانكار لجميع هذا وكأنهم أعلنوا بهذا اللفظ أنهم ثائرون على هذا النظام الجاهلي برمته وحذافيره، جاحدون به كافرون بأصحابه، لا يؤمنون لهم بفضل ولا يخضعون لهم بشيء! ثم لينظر القارئ ويعتبر كيف أن المسلمين وهم أتباع دين وأصحاب يقين، قد آمنوا بزعماء الجاهلية وأئمة الكفر ولو لم يؤمنوا بدينهم، ولكنهم آمنوا بهم بأوسع معاني الكلمة وقد اشترط الله للايمان به الكفر بالطاغوت وقدم عليه وقال: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}. أما إذا أصبح المسلمون لا يعنيهم أمر الدين والأخلاق، ولا يهمهم مصير الانسانية ومستقبل العالم، ولا تهمهم الا المصالح السياسية والفوائد المادية الحاضرة التي تعود على بلادهم أو شعبهم، وبالأصح على أشخاصهم، فحبلهم على غاربهم، وأمرهم بيدهم، ولكن ليعلموا أخيرا أن سفينة الجاهلية التي اختاروها لسفرهم قد أحيط بها، وأن ألواحها قد تآكلت ونخرت منذ زمن، وأن ربابينها قد اختلفوا فيما بينهم في تسييرها وقيادتها، ويعلموا أن هذه السفينة اذا غرقت فانها تغرق ركابها، وكل من وصلوا أسبابهم بأسبابها، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. وقد قال: {ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} [هود: 112].

مصرع الجاهلية

من الأساطير التي سمعنا في الصغر، وبقيت في غضون الذاكرة وبعض ثناياها، أن رجلا اعتدى عليه عفريت من الجن بمثل ما كان يعتدي به الجن على البشر، فبرز الرجل بكل ما أوتي من حول وطول، وبكل ما قدر عليه من سلاح وشكّة ليقتله. هجم الرجل على العفريت بكل سلاح ماض، وسيف باتر، وسهم مصيب، ونثر كنانته، ولم يدع في القوس منزعا، ولكنه لم ينكأ عدوه ولم يصب منه مقتلا، وما زال الرجل يعيد الكرة بعد الكرة، ويجرب سلاحا بعد سلاح، والعفريت ساخر منه غير محتفل به كأنه من نفسه على أمان، ومن سهام الرجل وهجماته في حصن حصين. حار الرجل في أمره وأعياه أمر العفريت، وكاد يقطع من قتله الرجاء اذ أخبره العقلاء أن روح هذا العفريت في حوصلة ببغاء، وهذه الببغاء في قفص من حديد، وهذا القفص معلق في غصن شجرة، وهذه الشجرة في غابة كثيفة يسكنها سباع ضارية، وحيات فتاكة، وعقارب سامة، ودونها خرط القتاد وحولها شُمّ الجبال.

وما زال الرجل يطلع جبلا بعد جبل، ويقطع واديا بعد واد، ويقتل وحشيا بعد وحشي، حتى خلص الى هذا القفص، وخنق هذه الببغاء ولم يكد يقتلها حتى حدثت رجة عظيمة دارت بها الأرض الفضاء، وأظلمت بها آفاق السماء، وصاح العفريت صيحته الأخيرة، وكان جثة هامدة لا حراك بها، وهكذا قتل الرجل عدوه بعدما لقي منه عرق القربة. لعلك سمعت هذه الأسطورة من عجوز في بيت تحكيها لاحفادها أو أسباطها فمررت بها مستهزئا وقلت: حديث خرافة يا أم عمرو. نعم إنها لحديث خرافة، وأسطورة من أساطير الأولين، ولكنها تفيدنا بأن كل حي له مقتل ووريد، ولا يؤثر فيه عدو، حتى يصيبه في مقتله ويقطع منه الوريد، وأن دون ذلك المقتل وحول هذا الوريد حواجز وحصونا. قد تسلط على الأمة الإسلامية عفريت من الحياة الجاهلية، واعتدى عليها بصنوف من الخبال، وضروب من الأذى والوبال، ظهرت في كثير من أخلاقها وأفعالها، كاستخفاف بأحكام الشرع، وتجرؤ على المعاصي، ووقوع في محارم الله، واستعباد لعباد الله، وامعان في الشهوات، واسراف في سبيل المتع واللذات، وتهافت على الخسائس والرذائل، وفرار عن مكارم الأخلاق والفضائل، {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} [الأعراف: 146]. والناس طبقات: عامة، وأوساط، وعظماء. فأما العامة فمساكين تدور حولهم رحى الحياة بسرعة، لا يرفعون فيها الى الدين والسعادة الأخروية والاستعداد للموت رأسا، وإنما همهم أن يؤدوا ضرائبهم، ويجمعوا لأيام فراغهم ويكسبوا قوت يومهم، ويكسوا عيالهم، فهم يكدحون في الحياة كدح الحمير والثيران، لا يتعبون الا للراحة الموهومة، ولا يستريحون الا للتعب الواقع، فهم من البيت الى الدكان، ومن الفراش الى المصنع أو السوق أو الإدارة، ومن نصب الى نصب، ومن هم الى هم، لا تنتهي همومهم ولا تنقضي متاعبهم، حتى اذا جاءتهم الساعة بغتة، قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.

وأما الأوساط فهم أسوأ منهم حالا وأكدر منهم بالا، عذبهم الله بالحرص والجشع، ينظرون دائما الى من فوقهم ولا ينظرون أبدا الى من دونهم، فهم في هم متواصل، وأحزان متسلسلة، وشقاء مستمر، وتذمر جار، وشكوى قائمة، وأنين باق، يجرون في رهان لا تنتهي، ويسابقون جيادا لا تكل ولا تسبق، ولا يزال قصب السبق بعيدا، كلما انتهوا الى غاية راوا غاية أخرى، فجروا وراءها وهي تبتعد عنهم، كما يبتعد الأفق من الطفل الذي يحاول مسكه، وشعاع الشمس الذي يجتهد لقبضه، وهكذا يتفلت منهم "المثل الأعلى" في الغناء والثروة، والرخاء والجاه، فيموت الواحد منهم كثيبا منكسرا، ولم يتسعد ليوم الجد ولم يأخذ لنفسه عدتها ويأتيه الموت فيقول: {رب لولا أخرتني الى أجل قريب، فأصدّق وأكن من الصالحين} [المنافقون: 10]. وأما العظماء – من الملوك وأبناء الملوك والأمراء – فإنهم يريدون أن يتلهموا الدنيا طولا وعرضا، وينتهبوا المسرات جريا وركضا، لا يشفى عليلهم ولا يروى غليلهم، وهم من دقائق الراحة الى دقائق، من بدائع الى بدائع، ومن ابتكار الى ابتكار، ومن لذيذ في الطعام والشراب الى ألذ، ومن حديث من مستحدثات المراكب والقصور والأزياء الى أحدث، لا تكفيهم في ذلك موارد قطر بأسره ومنابع ثروة أمة بطولها، حتى يلجأوا الى استقراض وتجارات وضرائب جديدة وأتاوات، ولا يبالون في سبيل ذلك أن يرهنوا بأيدي عدوهم رداء الزهراء، أو كساء أبي ذر، أوشملة أُوَيس، أو مصحف عثمان، أو صمصامة عمرو بن معدي كرب، أو رمح الزبير، أو بردة كعب بن زهير، ويهيئوا صبوحا أو غبوقا. وقد هجم على عفريت الجاهلية جيش من المصلحين فصاحوا به من كل جانب، ورموه عن قوس واحدة، ولكن لم ينكأوا عدوهم ولم يصيبوا منه مقتلا.

ألقى الوعاظ والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دروسا في الأخلاق، وأحاديث في الترغيب والترهيب، طمعوا الناس في الجنة، وحذروهم من النار، بشروهم بالوعد، وخوفوهم من الوعيد، فسمع الناس كل ذلك في هدوء ولم يحرك منهم ساكنا ولم يغير منهم خلقا.

ألف المؤلفون كتبا جاءوا فيها بكل رقيق مرقِّق، أوردوا فيها حكايات زهد العُمَرين، وتقشف علي بن أبي طالب، ومواعظ الحسن البصري، وكلمات ذي النون المصري، ورقائق الفضيل بن عياض، وزهديات أبي العتاهية، وفصاحة الواعظ ابن الجوزي، وتحليل الامام الغزالي. قوارع تبري العظم من كلم مض. فقام الأغنياء والأمراء وأبناء الملوك فاقتنوا هذه الكتب، وزينوا بها مكاتبهم، وتحدثوا عنها الى ندمائهم وزائريهم في لباقة ورشاقة، ولكن لم تنفذ سهامها من العيون الى القلوب، ولم تجاوز أحاديثها تراقيهم.

قام الخطباء البارعون فألقوا خطبا أسمعت الصم واستنزلت العصم، فسمعها هؤلاء وأثنوا على براعتهم وفصاحتهم، ومضوا لسبيلهم لم يبكوا على زلة ولم يقلعوا عن سيئة، ولم يحدثوا لله عهدا. لقد كان – والله – أقل من هذا يهز القلوب في الجوانح. ويستفرغ الدموع من العيون، ويرجف القصور، ويقلب عروش الملوك، ويجعل من أبناء السلاطين والأمراء مثبل ابن أدهم وشقيق البلخي، يسمع أحدهم وهو خارج من قصر أو رائح الى لهو قارئا يقرأ : {ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: 16]، فيقول: والله لقد آن، والله لقد آن، ويرمي آلات اللهو، ويخرج من أبهة الملوك وحشمة السلاطين الى تبذل الفقراء وتقشف الزهاد. فهل فقدت الألفاظ على تعاقب الأيام معانيها، أم اعتلت الأذواق، أم استعجمت اللغات، أم ماذا؟ إن شيئا من ذلك لم يقع، ولكن نفسية الانسان تغيرت تغيرا عظيما. كان أمر الدين في الزمان الماضي – برغم جميع أدوائه وعيوبه الخلقية والاجتماعية – جدا غير هزل، وكان أمر الدين يعني كل واحد ويهمه كما تهم الحقائق والأمور الواقعة، وكان في بعض الأحيان حجب من الترف والطبع والرسم وسوء المعرفة وقلة العلم، فاذا ارتفعت هذه الحجب وتطرقت دعوة الدين الى القلوب لم يحل دون التوبة واصلاح الحال شيء.

أما الآن فقد أصبح الدين موضوعا تاريخيا أو حديثا علميا بحتا، وأصبح الحديث عنه في المجتمع العصري كالحديث عن كوكب المريخ وعجائبه وعن القطب الشمالي وأخباره، لا يعود على المتحدث والمستمعين بضرر أو نفع، ولا يطالبهم بعمل أو ترك، ولا يمسهم في صميم مسائلهم، ولا يعني الانسان لا يهمه في حياته الا بمقدار ما يتظرف بمعرفته ودراسته في بعض المجالس، أو ما يحادث به أهله عند الحاجة، أو ما يجلب به نفعا ويدفع به ضرا في مجتمع لا يزال يدين بالدين أو يحترمه، فليس له الا قيمته المادية المؤقتة. وأصبحت الحياة وتكاليفها جد الجد ولب اللباب، وأصبحت مسائلهم همّ الشيخ ودرس الصبي وشغل الشاب، وأصبح الجهاد في سبيلها والنجاح في ميدانها مقياس الفطنة والذكاء ومعيار الظرافة، واللباقة، ورمز المروءة والشهامة.

وهنا يقف الداعي الديني حائرا في أمره كيف يواجه هذه العقلية الهامدة والنفسية الباردة في سبيل الدين، أنه واجه العقول الثائرة على الدين فأخضعها ببراهينه، ووجد شكوكا وريبا تمكنت من النفوس، فسلَّها بحكمته وملأ القلب ايمانا وطمأنينة، ولكن ههنا يجد نفسه في موقف غريب لم يعهده، فلا انكار ولا جحود، ولا اباء ولا استكبار، ولا عناد ولا اعتراض، ولا دليل ولا فلسفة، ولكن حياد تام في مسألة الدين، واستغناء عن كل ما يتصل بالآخرة، واخلاد الى الأرض ورضى بالحياة الدنيا واطمئنان بها. هنا يقف الداعي حائرا في أمره كيف يواجه هذه النفسية ومن أي باب يدخلها، انه يجد حولها غشاء من حب الدنيا والمال فلا سبيل اليها ولا نفوذ فيها الا بطريق الدنيا والمال، وأن سبيل الدين غير سبيل المال، وأن طريق الغيب غير طريق الحس والشهود، فماذا يصنع ومن أين يبدأ؟ ان ألقى القوم نصائحه ووجه اليهم خطابه وحكمته، ونثر كنانته في الدين وأجلب عليهم بخيل العلم والبراهين، ذهب كل ذلك فيهم سدى، وأجابه لسان الحال قائلا: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون} [فصلت: 05].

قرأنا في حكايات "ألف ليلة وليلة" أن سندباد البحري وجد بيضة عنقاء، فظنها لكبرها وضخامتها وملاستها قصرا من الرخام، فدار حولها لعله يجد بابا يدخل منه في داخل القصر، ودار مرارا عديدة ولكنه لم يجد بابا، وعرف بعد ذلك أنها بيضة عنقاء، لا قصرا من القصور. كذلك يدور الداعي حول هذه النفسية المستديرة التي استهوتها الدنيا وغشى عليها حب المال أو الجاه، فلا يجد فيها منفذا ينفذ منه الى النفسية وينزل في أعماقها، فيقطع منها الرجاء، وينقلب منها خاسئا وهو حسير. اذن روح هذا العفريت الجاهلي، هو الاخلاد الى الأرض، الرضى بالحياة الدنيا والاطمئنان بها، وعبادة المال والمادة. هذا مقتل هذا العفريت وهذا أبهره ووريده.

وإنما ضاعت فصاحة الفصحاء، وخطابة الخطباء، وبلاغة المؤلفين وأصحاب اليراع، واخلاص المخلصين وحكمة الحكماء، لأنهم لم يضربوا على الوتر الحساس ولم يصيبوا العدو في مقتله. بلغت المادية أوجها في عهد الاستيلاء الأوربي، وأصبحت فلسفة وفنا وحياة ودنيا، وليس من مظهر من مظاهر حياتها ولا مركز من مراز نشاطها اليوم الا والفضل فيه يرجع الى أوربا وسيطرتها السياسية والاقتصادية مباشرة أو بواسطة، والى غزوها التجاري العالمي. نافس تجار الغرب بدافع من حب الغنى والثروة، واحتكار الأموال في الصناعة والانتاج، وغزوا ببضائعهم الشرق وامتصوا بها دماءه، ولم يقض ذلك لبانتهم لأن نطاق الضرورة ضيق، والجشع ما له نطاق، فنافسوا في انتاج دقائق المدنية وفضول الصنائع وكماليات الحياة وصبوها على الشرق صبا، واستهلكوا في ترويجها كل ذكاء وأدب وفلسفة وسياسة، واستغلوا سذاجة الشرق وحبه للدعاية والفخر، فما لبثت هذه الدقائق والكماليات أن دخلت في أصول المعاش ولوازم الحياة في الشرق، وأصبح الذي لا يتحلى بها لا يعد من الاحياء ولا يعامل في المجتمع معاملة سواء، وأخذت بتلابيب الشرقي وأذهلته عن الدين والآخرة وعن كل شيء غيرها في الدنيا، وأهاجت عليه هموما لا أرجاء لها، وبعثت فيه شرها للمال لا نهاية له، وأصبحت عليه الحياة جحيما لا يسمع فيها الا: هل من مزيد. وما يكاد الشرقي يصل الى هذه المنتجات وشروط الحياة الا على جسر من المتاعب والمصائب، وعلى طريق من شوك وقتاد، ولا يكاد يتحلى بها الا وتصبح هذه المستحدثات آثارا عتيقة وأطمارا بالية، ويهجم عليه الغرب بطراز حديث من المنتجات والمصنوعات، فينكص على عقبيه ويتزود لاقتنائها بالمال اللازم – بوجه مشروع أو غير مشروع – ولا يكاد يطلع بها على مجتمعه الا ويرحل المنسوخ ويحل الناسخ، وهكذا لا يزال من حياته في جهاد مضن شاق ومع المصانع الغربية والتصدير الغربي في رهان دائم، يسبقه فيلحقه ويلحقه فيسبقه، ولا يزال من عيشه في مضض وغصص يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. أفسدت المدنية الغربية والتجارة الغربية طبائع أهل الشرق وأذواقهم، على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ألانت منهم القناة وأطفأت فيهم جمرة الحياة، أذهبت منهم التمعدد العربي والتجلد العجمي، وأحدثت فيهم التخنث والتأنث الأوربي، وأصبحت الفروسية العربية، والنخوة التركية، والفتوة الفارسية، والبطولة الهندية، والغيرة الافغانية حديثا من أحاديث التاريخ، وأصبحت الحياة في حواضر الشرق، بل وفي بواديه نسخة قاصرة ممسوخة من الحياة الغربية المصطنعة، لها ضراؤها، وليست لها سراؤها، ولها الغرم دون الغنم. أصبح الناس في كل البلاد في تيار الحضارة الغربية يسيل بهم سيلها الجارف ولا يملكون من أمرهم شيئا وأصبح الوالد لا يملك ولده، والعاهل لا يملك أهل بيته، بل وأصبح الانسان لا يملك نفسه أمام الهوى، وانتقاد المجتمع اللاذع، ووخز الضمير، وغاص الناس في بحر المدنية الى آذانهم، فترى الصعاليك من العجم يغدون في حلة، ويروحون في أخرى، وترى الحفاة العراة العالة من العرب رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ويتفاخرون باقتناء السيارات الأميركية من أحدث الطراز، وأفخر الأنواع، حتى يُخاف أن تنقرض الخيل العتاق من أرض الجزيرة التي ملأت التاريخ والأدب بحديثها وأخبارها.

شحنت البضائع الغربية أسواق الشرق الاسلامي، وأنبتت شرايين التجارة الغربية وعروقها – وهي طلائع السيادة الغربية، وسيطرتها السياسية وسهامها التي لا تطيش – في جوف أقدس البلاد الاسلامية وأحشائها، وجاست خلال الديار، وأصبح أهلها عالة على البضائع الأجنبية، حتىعادوا لا يتصورون الحياة والمعيشة بغيرها، ولا يقضون حقوق الأعياد والأفراح الا بها، وامتصت هذه البضائع أموالهم بل دماءهم كالاسفنج، يتشربها في بلادهم ويصبها في بلاده، وهكذا أصبح ما يكسبه المسلم بعرق جبينه وكدّ يمينه، وبرزيئة في أخلاقه، وعلى حساب دينه ينتقل الى البلاد الأجنبية.

التجأت الحكومات الاسلامية لتحقيق مشاريعها العمرانية كما تقول، أو لقضاء مآرب رجالها كما يقول الناس، الى الاستدانة من الدول الأجنبية، فخفت لذلك ورحبت به ورصدت لها بعض المال بشروط تجارية وامتيازات سياسية، وأقبلت البلاد الاسلامية تحلب ضروعها وتستخرج الذهب الوهاج، وماء حياة الصناعة والتجارة (البترول) من بطونها، ويتهافت الفقراء الذين أجهدتهم الضرائب وتكاليف الحياة على أجورها وخدمتها تهافت الفراش على الضوء، والجياع على المائدة، وهكذا تصبح بلاد الاسلام بين أخطار من الالحاد والاحتلال الأجنبي.

ثم هنالك "الطابور الخامس" وهو ذلك الأدب المسلول المسموم الذي ولدته الثورة الفرنسية، وأرضعته الفوضى الخلقية والاباحة في أوربا، وغذته الشيوعية، ذلك الأدب الخليع المستهتر، الذي ينبت في القلوب النفاق ويسقي غرس الشهوات، ويقوّض دعائم العمران، ويفسد نظام الأسرة، ويسخر من كل فضيلة، ويستهين بكل أدب ونظام، ويزّين للقارئ مذهب اللذة والانتفاع، وانتهاز الفرص، يلخص التاريخ ويوجز الفلسفة والعلم في حب المال والميل الجنسي، ويصور العالم كله، كأنه ليس الا ظهور هاتين العاطفتين، وليس وراء ذلك حقيقة علمية، ومبدأ سام أو غرض شريف. وقد انتشر هذا الطابور في أنحاء العالم عن طريق الأدب والروايات والمجلات "والراديو" و "السينما" وتأثر به الحاضر والباد، وتحدثت به العوائق في خدورها، وصار ينخر الحضارة الدينية والأدب الاسلامي حتى تسرب العطب اليوم الى لبابه.

وهكذا أصبح العالم كله شعوبا وحكومات وأفرادا تحت سلطان المادية والقوة والجاه والشهوات، قد شغلت منه كل موضع ومنفذ، وملكت عليه جميع مشاعره، واستهلكت في سبيلها جميع مواهبه وقواه وتفكيره وذكاءه، وخلقت في الانسان نفسية لا تؤمن الا بالمحسوس، ولا تفكر الا في اللذة والهناءة والسعادة الدنيوية، ولا تهتم الا بهذه الحياة ومطالبها الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي إنما فرضتها على الانسان الحياة المزورة، والمجتمع الفاسد، والتجارة الجشعة. كيف يحل في هذه النفس المادية الدين الذي أساسه الايمان بالغيب، وإيثار الآخرة على العاجلة، الذي يقول: {وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]، والذي يقول: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41]. والذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش الا عيش الآخرة" ويقول: "حُفّت الجنة بالمكاره". اذن فالمادية في هذا العصر هي علة العلل وعدو الدين الألد، ومنافسة الأكبر، وان الغرب هو زعيمها الذي تولى كبرها، ووكرها الذي تطير منه وتأوي اليه، وفيه تبيض وتفرخ. فأين ذلك البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني على مسرح التاريخ والواقع؟ وأين تلك الأمة التي تعارض هذا التيار الجارف وتأبى أن تفقد شخصيتها، ومقومات حياتها، وتغلب على أمرها، فتحول هذا التيار وتقلبه رأسا على عقب، أو تقف فيه كجبل رأس، أو صخرة صماء، فيحول التيار مجراه، ويتخذ طريقا آخر. ان البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني ويفتك به، هو رجل الساعة، وبطل الأبطال وفتى الفتيان. وان الأمة التي تعارض هذا التيار وتغير مجراه هي إمام الأمم المبعوثة الى العالم، فأين ذلك البطل؟ وأين تلك الأمة؟؟ هل تجيب الأمة الاسلامية وهل يجيب العالم العربي على هذا السؤال؟!.

أزمة إيمان وأخلاق

عن أي شيء أتحدث؟ ان الأحاديث كثيرة، والشجون كثيرة، واذا كثرت الاحاديث والمعاني تحير الانسان. ولكن سأحدثكم عن شيء أومن به وأعتقده، ولن أحاول أن أشبع رغبتكم أو أن أرضى أسماعكم، بل حسبي أن أرضي نفسي وضميري وإيماني، فإذا أرضيت ضميري أكون قد أرضيتكم. لن أحدثكم حديثا علميا ولا تاريخيا، فقد أتخمنا بهذه الأحاديث، وفيكم من يملؤكم علوما ومعاني وخطابات.

تسمعون الناس يتحدثون عن الأزمات والمشكلات، - وهذا العصر هو عصر الأزمات والمشكلات – يتحدثون عن أزمات اقتصادية، وأزمات سياسية، ويتحدثون عن أزمات الحكم وأزمات الاجتماع، ولكني أعتقد أن هناك أزمة واحدة لا ثانية لها هي أزمة الإيمان، أزمة الأخلاق، سيحوا في الأرض وشاهدوا الأمم والشعوب، فإنكم سترون أن هذه الإنسانية – بمختلف الشعوب والأقطار في أنحاء العالم كله – تعاني أزمة واحدة هي: "أزمة الإيمان والأخلاق" هي كارثة الكوارث، وهي مصيبة المصائب، وكل مشكلة تحدث الناس عنها، واشتكوا منها ترجع الى هذه الأزمة، والشيء الوحيد الذي فقد، وبفقده وقعنا في هذه المصيبة العالمية هو الايمان، والشيء الوحيد الذي اعتل، وباعتلاله أصبحنا نواجه هذه المشكلات كلها في نطاق الأفراد والمجتمعات والحكومات والأوضاع العالمية هو الأخلاق، ان الناس أشباه ولم يزالوا، وإننا بشر والذين يحكموننا بشر، ولكن الذي يسيطر على العالم، هو هذه الأزمة الإيمانية الأخلاقية، إن كثيرا من الناس يعتقدون أن الشأن في الحكومات والأحزاب، فإذا ذهبت وزارة وجاءت أخرى، وإذا ذهب حزب وجاء آخر، فقد انحلت الأزمة وانقشعت المشكلة، ان هذا حكم خاطئ ومستعجل، ومبني على قصر النظر، ليست المسألة مسألة أحزاب أو حكومات، أو شيء من التعديلات، ان المسألة مسألة العقلية والاعتقاد، والنفوس والقلوب، فلا فائدة في هذه التغيرات، وان تبدل حزب بآخر أو حكومة بأخرى، لا يقدم ولا يؤخر، ان الافراد كلهم يلتقون على الخضوع للمادة والاستئثار وخدمة النفس، وهذه النفس قد تقصر فتصبح نفسا فردية، وقد تتسع فتصبح نفسا حزبية أو جماعية، ان هذه العقلية هي التي تسيطر على العالم كله، وكل ما تعاني من فساد الأوضاع، مرده الى فساد هذه النفوس، وهيمنة هذه العقلية الخاضعة للمادة، الخادمة للمصلحة، المستأثرة الانانية. هذا هو الداء أيها الاخوان، فلا تخدعوا أنفسكم، وكلما جردتم النظر، نزلتم الى أعماق الحقائق، فإنكم ستجدون أن أصل البلاء هو شيء واحد (هو عبادة النفس) فإذا لم تتغير هذه النفوس التي تعبد المادة، فلن تتغير هذه الأوضاع أبداً. ان هذا التنافس الذي تتحدث به الصحف، والذي قد يؤدي الى حروب طاحنة – تستمر سنين طوالا تطحن الأمم – هو تنافس في الأغراض فقط، لا تنافس بين الخير والشر، وان هذا الاصطراع القائم بين الأمم الأوربية، ليس معناه أن أمة منها تريد أن تسيطر على العالم لتقضي على هذه الأوضاع الفاسدة، ولتخدم الانسانية، وتنفذ قوانين الله، وتحارب الفساد، وتساوي بين الناس، وتقيم القسط والعدل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة كما قال الله تعالى: {الذي إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر} [الحج: 41]. لا أيها الاخوان، إنما هو تنافس على القيادة، كل أمة تريد أن تمتلك الحكم لتنفذ شهواتها، إنما النزاع فيمن يكون صاحب الأمر والنهي، وتكون له قوة ارضاء الشهوات، وخدمة المصالح الذاتية الحزبية. فبريطانيا وحليفاتها – مثلا – لم تكن تنازع المعسكر الشيوعي لتقيم القسط والحق، وكذلك لم يكن المعسكر الشيوعي في وقت من الأوقات لينازع الحلفاء الأوربيين في سبيل إقامة العدل، لأنه لم يكن حريصا على اقامة الدين والفضيلة، إنما يصارع ويحارب ليكون هو المعسكر الوحيد في العالم الذي يهيمن على وسائل وامكانات البشرية، وليحتكر التجارة العالمية، ليس لمصلحة البشرية، بل ليكون الذي يؤمنون بمبادئه وينضمون اليه يسعدون على حساب الأمم والشعوب التي يسيطر عليها. ان مرد هذه المصارعات كلها هو شهوة النفس وعبادتها، وما لم تتغير هذه النفسية الشريرة الفاسدة المتعفنة فلا مطمع في صلاح العالم أو سعادته ورفاهه. المهم أو الأهم – أيها الاخوة – أن يتغير الانسان، ان كل شيء في هذا العالم خاضع للانسان، والانسان خاضع لنفسه وضميره وعقيدته، فاذا كانت هذه صالحة كان الانسان صالحا، واذا صلح الانسان صلح العالم (ألا في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب[2]). لقد أصبح الناس مؤمنين – بحكم ما يكتبه ويقوله أناس لم يتعمقوا في العلم – بأن صلاح العالم هو في وجود حكومة على أساس كذا وكذا، أو في تولي الرجل الفلاني، أو الحزب الفلاني الحكم، وما دروا أن المجتمع فاسد لفساد الضمائر والقلوب، وما لم تصلح فلا يؤمل الصلاح، هذا أيها الاخوان قول مجرب خبير لا قول انسان منطو على نفسه، قول رجل تهيأ له – بحمد الله – من الدراسة العميقة الشيء الكثير.

قد يدخل الرجل الى غرفة مظلمة، فلا يستطيع أن يجد طلبه اذا لم يفتح الزر الكهربائي، ولكن الرجل الخبير بمجرد دخوله الغرفة يعرف موضع الزر فيفتحه، فيسري النور في التيار، ويضيء جنبات الغرفة، ويقضي الرجل حاجته، وهذا هو شأن الأنبياء عليهم السلام ومن سار على أثرهم، هذا هو الزر، هو "الايمان"، اذا فتح انطلقت منه موجة النور لتضيء العالم كله. إني أرى رجالا في البلاد العربية والاسلامية وغيرها يبدون كبارا في العقل والتفكير والتجربة، ولكني أستغرب أن "تفكيرهم قاصر غير ناضج". يتكلمون عن المشكلات حديث رجل لم يتعمق ولم يرسخ، يتحدثون عن مشكلات السياسة والاجتماع، ويعتقدون أنه إذا جاء الحزب الفلاني ذهبت المشكلة، فإذا جاء الحزب واجهنا نفس المشكلة، بل ما هو أكبر منها وكثيرا ما نواجه مشكلات جديدة أخرى، ثم نجرب حزبا آخر، فإذا هو شر من الأول، وصدق الشاعر إذ قال:

إلا إنما الأيام أبناء واحد

وهذي الليالي كلها أخوات

فلا تطلبن من عند يوم وليلة

خلاف الذي مرت به السنوات

الى متى تجري هذه التجارب على الانسان المسكين؟ والى متى نفحص ونشرّح ثم نرجع من غير طائل؟ ان الأنبياء يمنحونا العلم اليقيني، ويعطونا العلاج الشافي. ان المسألة مسألة النفوس، وما دمنا معرضين عن هذه الحقيقة، فسوف نبقى نعاني مشكلة بعد مشكلة. ان من مصائب هذه المدنية الاعراض عن الأفراد، فقد أثرت العلوم العمرانية في النفوس، حتى أصبحت تعتمد على المجموعات، والمؤسسات، والهيئات الاجتماعية، والحكومات، دون الاهتمام بالأفراد، مع أن الأفراد هم أساس المجتمعات والحكومات والأحزاب والمؤسسات، نقول لهم: أيها السادة، دونكم الأفراد فأصلحوهم وهيؤهم لهذا الهيكل الاجتماعي، فسيقولون: مالنا وللأفراد، نحن في عصر اجتماعي طابعه الاجتماع، فنقول لهم: آمنا بالاجتماع، ولكن اذا لم يكن الأفراد أين يكون المجتمع؟ ولكنهم يقولون: ان الافراد يصلحون بصلاح المجتمع؟ ان مثل هؤلاء الذين يهتمون بالمجموعات دون الأفراد مثل من يجمع أخشابا نخرة، متآكلة مخرومة، يريد أن يعمل منها سفينة تحمل جماعة كبيرة وبضائع ثمينة، فإذا قال له رجل صاحب نظر: ان هذه الأخشاب لا تصلح لبناء سفينة تحمل جماعة كبيرة وبضائع ثمينة ثقيلة: قال: ان هذه الأخشاب لا قيمة لها، إنما المهم السفينة، فإذا تكونت السفينة فقدت الألواح شخصيتها، فلا يهمك ان كانت الأخشاب فاسدة منخورة. ان الفاسد فاسد ولكن اذا اجتمع الفاسد مع الفاسد ينتج الصالح! ان اللص لص، ولكن اذا اجتمعت اللصوص أصبحت حارسة للمدينة!! هذه هي عقلية أوربا – ان اللصوص لصوص في أفرادهم، ولكنهم أمناء في مجموعهم، ما هذا المنطق؟ الذئب ذئب، ولكن اذا اجتمعت الذئاب أصبحت راعية! ان الجمرة تحرق البيت، ولكنها اذا اجتمعت الجمرات أصبحت بردا وسلاما!! هذا شيء مضحك، ولكن أليس هذا هو الأساس الذي يعمل في المدرسة والحكومة والمحكمة؟؟ من أين جاءت الحكومة والقضاة والجنود؟ أليس أكثر هؤلاء فاسدين ودون المستوى الواجب؟ فكيف تتحول هذه العصابات المجرمة الى مجموعة صالحة، رفيعة المستوى، عالية في الأخلاق؟ العالم كله – مع الأسف – خاضع لهذا المنطق، حتى في المستويات العلمية. ان مدراء البلديات والجامعات، والمؤسسات العلمية، والحكام لو كانوا في الزمن الأول لما استحقوا أقل من الطرد، بل لكانوا في السجون، ولو أرادوا أن يشغلوا وظيفة حقيرة ما استحقوا. لقد طغت هذه العقلية على الأفكار حتى أصبح الذي يثير مسألة الأفراد يتهم بالرجعية.

يا أصحاب القلوب المؤمنة، أنتم المجتمع، في قسمات وجوهكم وضمائركم وعقولكم يرقد المستقبل الزاهر الذي نؤمله، فهيئوا نفوسكم تهيئة روحية خلقية، علمية ايمانية، هذا هو نداء الوقت، وواجب الساعة، وجهاد اليوم. لقد وجدت الحديث عن العالم الاسلامي حديث كل بلد حللته وزرت فيه اخواننا، وهو حديث كل مجلس حضرته، ان العالم الاسلامي حقيقة قائمة تسعى على قدميها، لا ينكر فضله الا جاهل أو أحمق. أنا أؤمن به، وشاهدته في الهند، وباكستان، وتركيا، وسوريا، ومصر، وأنتم أيها الاخوان جزء من العالم الاسلامي، اذا كنتم تعتقدون أنه يعيش بغيركم، وليس عليكم مسؤوليته فأنتم مخطئون، ولكن أخشى أن كثيرا من الناس يهتمون بكل شيء غير نفوسهم، وهذا هو الواقع فعلا. أنا أفكر في العالم، ولكن أنا كذلك جزء منه، فلأصلح هذا الجزء، ولكني أرى كثيرا من اخواني لا يفكرون في نفوسهم، ويعتقدون أن العالم الاسلامي هو كل ما يغاير نفوسهم، علينا أن نصلح نفوسنا، وليعتقد كل منا أنه مسؤول، فاذا أصلحت هذه الأجزاء صلح العالم الاسلامي، ان مثلنا أيها الاخوان، كمثل ملك أعلن أنه يريد حوضا مملوءا باللبن "الحليب"، وأنه سيدفع الثمن لكل من يجلب الحليب، فقال أحد اللبانين: لو أفرغ لبان واحد سطلا من ماء، فان هذا الماء لا يؤثر في الحليب الكثير، فأفرغ سطل ماء بدلا من حليب، وفكر آخر نفس التفكير، وهكذا سرت الفكرة بين الجميع، وجاء الملك في الصباح فوجد حوضا من ماء. هذه قصتنا.

ان كل فرد منا يقول، اذا فَسَدتُ، فماذا يضر العالم الاسلامي؟ وبهذا أصبح كل العالم الاسلامي فاسدا، لو فكرتم لرأيتم أن كل حديثكم عن غيركم. أنصفوا نفوسكم أيها الاخوان، وما لكم وهذه القضايا التي لا تستطيعون خدمتها، ان الاشتغال بالغير سهل، ولكن الاشتغال بالنفس صعب، والانسان يحب السهولة، ولذلك اندفع العالم الاسلامي كله الى الاهتمام بغيره، هذا تفكير يجب أن يعالج. أنتم العراق، واذا كنتم العراق، فأنتم جزء من العالم الاسلامي، فيجب على كل منا أن يهيئ نفسه ليكون لبنة صالحة في البناء. لنكن فتية مجاهدة، مؤمنة صادقة، طاهرة النفس، واضحة التفكير، عميقة الجذور، قوية العاطفة، فائضة القلب. فاذا كنا كذلك، فصدقوني اننا نستطيع أن نغير تيار الفساد. الأزمة أزمة رجال، فأين الرجال؟ وان كثيرا من الناس يحرصون على الحكومات ويعتقدون أنها هي المفتاح، ولكن الحكومة يسيرها الرجال. فمن هم هؤلاء الرجال، وكيف هم؟ هذا هو داء العالم الاسلامي فأنتم هيئوا نفوسكم "لمعركة المستقبل" "معركة الاخلاق" و "الاخلاص والتضحية"، اذا وجد رجل واحد يستطيع أن يسنى نفسه ومصلحته، ومصلحة أسرته، وأصدقائه، وحزبه، ويستهدف مصلحة بلده، وأمته، لاستطاع أن يُحدث انقلابا. كان الجو قاتما، والعالم الاسلامي يعاني مشكلة عظيمة، وكان الولاة جائرين، والجهاز فاسدا والمظالم سائدة، والحقوق تمتهن، والناس غير آمنين، وكان العالم الاسلامي من شرقه لغربه، ومن شماله لجنوبه، يعاني مرضا مرهقا. جاء رجل واحد هو "عمر بن عبد العزيز" عرف ربه، ونسي نفسه، وذكر اليوم الآخر، فاستطاع أن يغير هذا التيار، ويرغم العالم الاسلامي على أن يتجه الى الصلاح، أين الأفراد؟ وأين من ينتجهم؟ هل تنتجهم الكليات والمعاهد؟ لا، إنما يربيهم الايمان، وتنتجهم العقيدة والأخلاق. فلكمتي لكم، أن تهيئوا نفوسكم، ربوا فيها الايمان والعقيدة، كونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ومصلحة الاسلام، كونوا رجالا، اذا دانت لهم البلاد، وأصبحوا يملكون أزّمة الأمور لم يغيرهم الوضع الفاسد عما كانوا عليه، هذا كان شأن الصحابة، كانوا ضعفاء فقراء لا يملكون ما يكسون به أجسامهم، ويشبعون به بطونهم، فدانت لهم الدنيا وتفتحت لهم الخزائن فما تغيروا. بقي أبو عبيدة وسعد كما كانا، وجاء سلمان الى العراق واليا، فخرج الناس لاستقباله، فرأوه يحمل على رأسه حملا لرجل على أجره.

ان العالم لم يفسد الا عندما فسد الأفراد، وفقد هذا الطراز الذي تخرج في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن في حاجة الى هذا الطراز، وهولا يرتجى الا منكم، من مثل هذا الشباب المسلم، المؤمن الصادق الذي يوطن نفسه على الشظف والحياة البسيطة، ان من أمراض الأمة العربية، هذا التنعم والتبذير، والعادات القاهرة، لا يستطيع أحدهم أن يعيش من غير سيارة، وبيت فخم وراتب ضخم، ان هذه الأمراض قعدت بأمتنا، وهذا كان داء الرومان والفرس، فقد أسرفوا في المدنية والتنعم، يدل على ذلك أنه لما زحف المسلمون على المدائن وفتحوها، خرج "يزدجرد" يحمل معه ألف طاه وألف مرب للبزاة والصقور، ويقول: اني في حالة يرثى لها، أخذت هؤلاء فقط. الى هذا الحد وصلت مدنيتهم، ولذلك انهارت هذا الانهيار الفظيع، كان الذي يلبس قلنسوة قيمتها دون 50 ألف يعيَّر، وكانوا يلبسون مناطق بقيمة 30 الى 50 ألف، مرصعة بالجواهر والياقوت، فهذه المدنية الزائفة هي التي جنت عليهم، فخسروا الدولة والشرف، والمجد والحياة. فيهئوا نفوسكم للجهاد والدعوة، واذا قلدتم أمانة، فأحسنوا القيام عليها، هذه وصيتي لكم، وربما لا تقيمون وزنا لها، ولكنكم ستذكرون ذلك في المستقبل، فستذكرون ما أقول لكم "وأفوض أمري الى الله".

ان الأزمة أزمة رجال، وأزمة إيمان وأخلاق، وإني أعيذ نفسي أن أؤمن بالفكرة القاصرة، القائلة بتغير الوضع، اذا تغيرت الحكومات والأحزاب، لقول الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله..... } الى أن قال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر} [الحج: 41]. انظروا كيف قدم ذكر هذه المحنة، التي خرجوا منها كما يخرج الابريز من النار، وخرجوا من ديارهم بغير حق، حتى أصبحوا رجالا ان مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. فإذا لم نقطع هذه المرحلة لا نستطيع أن نصل الى الدرجة التي وصفها الله بقوله: {الذين إن مكناهم في الأرض} وقال تعالى: {ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} لم يحدثهم عن الحكومة، والنتائج الأخيرة، ولكن رباهم تربية اسلامية عميقة شاملة للأخلاق والتفكير، حتى اذا نشأت النفوس، انطلقت الموجة، وكان ما كان. أقول وأنا مخلص ناصح، اهتموا بأنفسكم اهتماما دينيا، خلقيا، تربويا، فكريا، وآمنوا بأنكم أنتم العالم الاسلامي كما قال الشاعر:

وفيك انطوى العالم الأكبرُ

وإذا صلحنا صلح العالم الاسلامي واذا صلحت الاجزاء صلحت المجموعة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

[1] محاضرة ألقيت في مركز جمعية انقاذ فلسطين ببغداد في يوليه سنة 1956.

[2] حديث صحيح.

ردة ولا أبا بكر لها[1]

شهد التاريخ الاسلامي حوادث الاسلامي حوادث ردة عديدة، أبرزها وأعنفها ردة القبائل العربية على اثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، الثورة الكبيرة التي وأدها أبو بكر الصديق في مهدها بايمانه وعزمه الذي ليس له مثيل في التاريخ، ومنها حركة التنصر التي انتشرت في اسبانيا على اثر جلاء المسلمين، والتي ظهرت في بعض الاقطار التي استولت عليها الدول الغربية المسيحية ونشط فيها القسس و "الارساليات" ومنها قضايا شاذة من ارتداد بعض ضعاف العقول وصغار النفوس من المسلمين عن دين الاسلام واعتناقهم للبرهمية أو الآرية في الهند، ولكنها حوادث نادرة جداً، وفي الحقيقة أن تاريخ المسلمين لا يعرف الردة العامة – اذا استثنينا اسبانيا البائسة اذا صح أن نسميها ردة – كما اعترف به مؤرخو الديانات. وتتسم هذه الحوادث كلها بسمتين: أولاهما المقت الشديد من المسلمين، والثانية الانفصال عن المجتمع الاسلامي، فكان كل من يرتد عن دينه يستهدف لسخط المسلمين الشديد، وينفصل عن المجتمع الاسلامي الذي يعيش فيه بطبيعة الحال، وتنقطع بمجرد ارتداده بينه وبين ذوي قرابته الاواصر والارحام، وكانت الردة انتقالا من مجتمع الى مجتمع، ومن حياة الى حياة، وكانت الاسرة تقاطعه وتهجره وتقصيه، فلا مصاهرة، ولا زواج، ولا اخاء، ولا توارث، وكانت حركات الردة تثير روح المقاومة في المسلمين والمقارنة بين الديانات، والدفاع عن الاسلام، وكل قطر من أقطار المسلمين ظهرت فيه حوادث الردة تحمس علماء المسلمين ودعاة الاسلام وحملة الاقلام فيه للرد عليها وتتبع أسبابها، وعرض محاسن الاسلام ومزاياه، واجتاحت المجتمع الاسلامي موجة عنيفة من السخط والاستنكار والقلق، وكانت هذه الحوادث المقيمة المقعدة للمسلمين وكانت الحديث العام والشغل الشاغل للعامة فضلا عن الخاصة وأهل الغيرة الدينية، هذا ما اتسمت به حوادث الردة، على ندرتها وشذوذها وعلى عدم تأثيرها في الحياة.

ولكن جرب العالم الاسلامي في العهد الأخير ردة اكتسحت عالم الاسلام من أقصاه الى أقصاه، وبزت جميع حركات الردة التي سبقتها في العنف وفي العموم، وفي العمق وفي القوة، ولم يخل منها قطر، وقلما خلت منها أسرة من أسر المسلمين، هي ردة تلت غزو أوربا للشرق الاسلامي، الغزو السياسي والثقافي، وهي أعظم ردة ظهرت في عالم الاسلام وفي تاريخ الاسلام، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الى يوم الناس هذا. ماذا تعني الردة في عرف الاسلام وفي مصطلح الشريعة الاسلامية؟ هي ابدال دين بدين، وعقيدة بعقيدة، وانكار ما جاء به الرسول وتواتر عنه وثبت بالضرورة من دين الاسلام. وماذا كان يعفل المرتد؟ ينكر الرسالة المحمدية – على صاحبها الصلاة والسلام – وينتقل الى المسيحية أو اليهودية أو البرهمية، أو يلحد في الدين وينكر الرسالات والوحي والمعاد، هذا ما كان يعرفه العالم القديم أو المجتمع القديم من معاني الردة، وكان كل من يرتد عن دينه يدخل الكنيسة اذا تنصر أو يدخل الهيكل أو معبد الاصنام اذا اعتنق البرهمية مثلا، فيعرف ذلك الجميع، ويصبح شامة بين الناس يشار اليه بالبنان، ويقطع منه المسلمون الأمل، ولا يكون ارتداده – في غالب الأحوال – سرا من الأسرار.

حملت أوروبا الى الشرق الفلسفات التي قامت على انكار أسس الدين وانكار القوة المصرفة لهذا العالم، القوة الواعية التي أخرجت هذا لعالم من العدم الى الوجود وبيدها زمام الكون {ألا له الخلق والأمر} وعلى انكار عالم الغيب والوحي والنبوءات، وانكار الشرائع السماوية، انكار القيم الروحية والخلقية، منها ما تبحث في علم الحياة والنشوء والارتقاء، ومنها ما تتصل بالأخلاق، ومنها ما تدور حول علم النفس، ومنها ما موضوعها الاقتصاد والسياسة، ومهما اختلفت هذه الفلسفات في ألوانها وأهدافها وأسسها، فإنها جميعا تلتقي على النظرية المادية المحضة الى الانسان والى الكون والتعليل المادي لظواهرهما وأفعالهما. غزت هذه الفلسفات المجتمع الشرقي الاسلامي وتغلغلت في أحشائه وكانت أعظم ديانة ظهرت بعد الاسلام في التاريخ، أعظمها انتشارا وأعمقها جذورا وأقواها سيطرة على العقول والقلوب، وأقبل عليها زهرة البلاد الاسلامية وزبدتها عقلا وثقافة، وأساغتها وهضمتها ودانت بها كما يدين المسلم بالاسلام والمسيحي بالمسيحية بكل معنى الكلمة، فهي تستميت في سبيلها وتقدس شعارها وتجل قادتها ودعاتها، وتدعو اليها في أدبها ومؤلفاتها، وتحتقر كل ما يعارضها من الاديان والنظم والعقليات وتؤاخي كل من يدين بها، فأفرادها أمة واحدة وأسرة واحدة ومعسكر واحد.

وما هي هذه الديانة – وان أبى أصحابها أن يسموها ديانة -؟ أانكار لفاطر الكون العليم الخبير الذي قدر فهدى، وانكار للمعاد وحشر الاجساد ووجود الجنة والنار والثواب والعقاب، وانكار النبوءات والرسالات وانكار الشرائع السماوية والحدود الشرعية، وانكار أن الرسول الأعظم هو الذي فرض الله طاعته على جميع الخلق وحصر الهداية والسعادة في اتباعه، وان الاسلام هو الرسالة الأخيرة الخالدة المتكفلة لجميع السعادات الدنيوية والاخروية ونظام الحياة الأمثل الأفضل، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره ولا يسعد العالم سواه، وانكار أن الدنيا خلقت للانسان وأن الانسان خُلق لله. هذه ديانة الطبقة المثقفة التي تملك زمام الحياة في أكثر البلدان الاسلامية، وان لم تكن كلها طبقة واحدة في الايمان بها والتحمس لها، وفيها ولا شك مؤمنون بالله متدينون بالاسلام، ولكن سمة هذه الطبقة التي تغلب عليها مع الاسف وديانة أكثر أفرادها ورؤسائها هي الديانة المادية وفلسفة الحياة الغربية التي قامت على الالحاد. انها ردة، أعود فأقول: اكتسحت العالم من أقصاه الى أقصاه وغزت الاسر والبيوتات، والجامعات والكليات والثانويات والمؤسسات، فما من أسرة مثقفة – الا من عصم ربك – الا وفيها من يدين بها أو يحبها أو يجلها، واذا استنطقته أو خلوت به أو أثرته عرفت أنه لا يؤمن بالله، أو لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يؤمن بالقرآن الكتاب المعجز الخالد ودستور الحياة، وأفضلهم من يقول أنه لا يفكر في مثل هذه المسائل ولا يهتم بها كبير اهتمام.

انها ردة ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغل خاطرهم، لان صاحبها لا يدخل كنيسة أو هيكلا ولا يعلن ردته وانتقاله من دين الى دين، ولا تنتبه لها الاسرة فلا تقاطعه ولا تقصيه بل يظل يعيش فيها ويتمتع بحقوقها وقد يسيطر عليها، ولا ينتبه لها المجتمع فلا يحاسبه ولا يعاتبه ولا يفصله، بل يظل يعيش فيه ويتمتع بحقوقه وقد يسيطر عليه. إنها قضية العالم الاسلامي الكبرى، إنها مشكلة الأمة الإسلامية الكبرى، ردة تنتشر وتغزو المجتمع الاسلامي ثم لا ينتبه لها أحد، ولا يفزع لها العلماء ورجال الدين، لقد قالوا قديما: "قضية ولا أبا حسن لها" وأقول: قضية ولا أبا بكر لها. إنها قضية لا تطلب حربا ولا تطلب تهييج الرأي العام، ولا تطلب ثورة، ولا تطلب عنفا، بل ان العنف يضرها ويهيجها، والاسلام لا يعرف محاكم التفتيش ولا يعرف الاضطهاد، انها تطلب عزما وتطلب حكمة، وتطلب صبرا واحتمالا وتطلب دراسة.

لماذا انتشرت هذه الديانة في الشرق الاسلامي؟ لماذا استطاعت أن تغزو المسلمين في عقر دارهم؟ ولماذا استطاعت أن تسيطر على العقول والنفوس هذه السيطرة القوية؟ ان كل ذلك يطلب التفكير العميق الدقيق والدراسة الواسعة. ضَعُف العالم الاسلامي في القرن التاسع عشر المسيحي في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم وبدا عليه الاعياء والشيخوخة. والاسلام لا يعرف الشيخوخة والهرم، انه جديد كالشمس وقديم كالشمس وشاب كالشمس، ولكن المسلمين هم الذين شاخوا وضعفوا، فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير والانتاج، ولا عبقرية في العقل، ولا حماسة في الدعوة، ولا عرضا جميلا ومؤثرا للاسلام ومزاياه ورسالته الا النادر القليل. ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير في عقليتهم وهم أمة الغد والجيل المرتجى، ولا محاولة لاقناعهم بأن الاسلام هو دين الانسانية والرسالة الخالدة، وأن القرآن هو الكتاب المعجز الخالد الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنفد ذخائره ولا تبلى جدته، وأن الرسول هو العجزة الكبرى ورسول الاجيال كلها وامام العهود كلها.

وان الشريعة الاسلامية هي الآية في التشريع وهي الصالحة لمسايرة الحياة وقضاء مآربها الصالحة والاشراف عليها، وان الايمان والعقيدة والاخلاق والقيم الروحية هي أساس المدنية الفاضلة والمجتمع الكريم، وأن الحضارة الجديدة لا تملك الا الوسائل والآلات، وأن تعاليم الأنبياء هي مصدر العقيدة والخلق والغايات، ولا مطمع في المدنية الصالحة المتزنة الا بالجمع بين الوسائل والغايات. وفي هذه الساعة هجمت أوروبا بفلسفاتها التي تعب في تدوينها وتهذيبها كبار الفلاسفة ونوابغ العصر، وصبغوها بصبغة علمية فلسفية يخيل الى الناظر أنها غاية ما يصل اليها التفكير الانساني، ومنتهى الدراسات والاختبارات ونتاج العقول البشرية وعصارة التأملات، وكان فيها ما يقوم على الاختبار والمشاهدة وتصدقه التجربة، وما يقوم على الافتراض والتحكم والتخييل والتوهم، وفيها الحق والباطل والعلم والجهل والحقائق الراهنة والتخيلات الشعرية، وليس الشعر محصورا في النظم والقوافي، هو في الفلسفة والعلم أيضا. ووردت هذه الفلسفات مع الفاتحين الأوروبيين فخضعت لها العقول والنفوس البشرية، وأذعنت لها وقبلتها الطبقة المثقفة في الشرق وفيها من يفهمها وهم القلة القليلة. وفيها من لا يفهمها وهم الكثرة الكاثرة، ولكن كل مؤمن بها مسحور بسحرها يرى الظرافة والكياسة في اعتقادها ويرى ذلك شعار المثقفين الاحرار.

وهكذا انتشر الالحاد والارتداد في الأوساط الاسلامية من غير أن ينتبه له الآباء والأساتذة المربون وأهل الغيرة لأن أهلها لم يقوموا في كنيسة، ولم يدخلوا في معبد ولم يسجدوا لصنم ويذبحوا لطاغوت، وكان ذلك دليل الارتداد والكفر والزندقة في العهد القديم. وكان المارقون القدماء يخرجون من المجتمع الاسلامي وينضمون الى مجتمع الديانة التي يدينون بها جديدا، ويعلنون عقيدتهم وتحولهم بصراحة وشجاعة، ويحتملون كل ما يخسرونه في سبيل عقيدتهم الجديدة، ولا يلحون على البقاء في المجتمع القديم ليحافظوا على ما كانوا يتمتعون به من حقوق وحظوظ. أما الذي يقطع صلته عن دين الاسلام اليوم فلا يريد أن يقطع صلته عن المجتمع الاسلامي، مع أن المجتمع الاسلامي هو المجتمع البشري الوحيد الذي يقوم على العقيدة ولا يتحقق هذا المجتمع من غير عقيدة، ويلحون على أن يعيشوا في مراكزهم متمتعين بثقة هذا المجتمع، متمتعين بالحقوق التي يخولها الاسلام، ان هذا وضع شاذ لم يعرفه التاريخ الاسلامي. وهنالك نزعات جاهلية ومبادئ جاهلية حاربها الاسلام بكل وضوح، وحاربها الرسول بكل قوة، كالعصبية الجاهلية التي تقوم على وحدة الدم أوالوطن، أو الجنس، وتُمجَّد هذه العصبية ويبالغ في تقديسها والدفاع عنها والقتال تحت رايتها وتوزيع المجتمع الانساني على أساسها حتى تصبح ديانة وعقيدة، وتسيطر على العقول والنفوس والارواح والآداب، ولا شك أنها في عمقها ورسوخها وقوتها وشمولها تنافس الأديان وتستعبد الانسان، وتحبط مساعي الأنبياء وتحدد الدين – الذي جاء ليحكم على الحياة – في العبادات والطقوس، وتقسم العالم الانساني الى معسكرات متحاربة والأمة التي قال الله عنها: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} في أمم كثيرة. لقد حارب الرسول هذه العصبية الجاهلية بكل قوة ومن غير هوادة وأنذر منها وسد منافذها، فلا بقاء للدين العالمي ولا بقاء للامة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الاسلامية زاخرة بانكارها وتشنيعها، والنصوص في ذلك أكثر من أن تستقصى، وهذا الذ ي يعرف بداهة من الاسلام، والذي عرف طبيعة الاسلام بل عرف طبيعة الأديان عرف أنها لا تسيغ هذه العصبيات، ومن درس التاريخ متجردا عن الميول والمذاهب السياسية عرف أنها لم تزل ولا تزال من أقوى عوامل الهدم والتخريب والافساد والتفريق بين الانسان والانسان، والمعقول المنتظر من الانسان الذي جاء ليوحد العالم ويجمع النوع الانساني تحت راية واحدة وعلى عقيدة واحدة، ويكوّن مجتمعا جديدا قائما على الدين وعلى الايمان برب العالمين، ويبسط الأمن والسلام وينشر الحب والوئام بين أعضاء الأسرة الانسانية، ويجعلها جسدا واحدا اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، من المعقول جدا من هذا الانسان أن يحارب هذه العصبيات بكل وضوح وصراحة ويجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون. ولكن العالم الاسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسيا وثقافيا يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية والوطنية، ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقة مقررة وواقع لا مفر منه، وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعا غريبا الى احياء هذه العصبيات التي أماتها الاسلام والتغني بها واحياء شعائرها والافتخار بعهدها الذي تقدم على الاسلام، وهو الذي يلح الاسلام في تسميته بالجاهلية وليس في معجمه تعبير أهول وأفظع منها، ويمن القرآن على المسلمين بالخروج عنها وبحَثِّهم على شكر هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها: {واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور وان الله بكم لرؤوف رحيم}.

والطبيعي من المؤمن أن لا يذكر الجاهلية مهما تقادم عهدها أو قارب الا بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار، وهل يذكر السجين المعذب الذي أطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه الا وعرته قشعريرة وثارت الذكريات الأليمة القاتمة! وهل يذكر البارئ من علة شديدة طويلة أشرف منها على الموت أيام سقمه الا وانكسف باله وامتقع لونه، وهل يذكر الانسان رؤيا فظيعة مفزعة رآها الا وشكر على أنها حلم زائل وهم راحل، والجاهلية التي تجمع معاني الجهل والضلالة والبعد عن الحقائق وأنواع الخطر والمضار في الدنيا والآخرة أعظم من كل ذلك، وجديرة بأن يثير ذكراها المقت الشديد وتحث على الشكر على التخلص منها وانقضاء أيامها، ولذلك جاء في الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يعود الى الكفر كما يكره أن يقذف في النار".

وقد ذم الله شعائر الجاهلية وأبطالها وعظماءها في غير رفق وتحفظ فقال: {وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} يقول: {وما أمر فرعون برشيد، يقدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود}. ولكن كثيرا من الأقطار الاسلامية والشعوب الاسلامية – بتأثير الفلسفات الغربية والتفكير الغربي وحده – أصبحت تمجد عهدها العتيق الذي سبق الاسلام وحضارته وتقاليده، وتحن اليه، وتحرص على احياء شعائره وتخليد عظمائه وأبطاله وملوكه وأمجاده، كأنه عهدها الذهبي وكأنه نعمة حرمها الاسلام اياها، وفي ذلك من الجحود والنكران للجميل وقلة تقدير نعمة الاسلام وفضل محمد عليه الصلاة والسلام، وتهوين خطب الكفر والوثنية وما اشتملت عليه الجاهلية من خرافات وضلالات وسفاهات ومضحكات ومبكيات ما لا يعقل عن مسلم واع. وما يخاف معه الحرمان من نعمة الاسلام وسلب الايمان والتعرض لسخط الله الشديد وقد قال: {ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.

زد الى ذلك ما يوجد في العالم الاسلامي اليوم من التهور في الحصول على المادة وايثارها على كل مبدأ وعقيدة، وايثار الدنيا على الآخرة، والاخلاد الى الأرض وابتاع الهوى، وما تبع ذلك من التفسخ والاستهانة بمحارم الله وشيوع الخمر والفسوق في الطبقات الراقية، حتى تكاد تكون هذه الطبقة نسخة واحدة وصورة واحدة في كل بلد اسلامي الا من عصم ربك وقليل ما هم، والتحرر من قيود الاسلام وفرائضه تحررا تاما حتى كأنها لا صلة لها بالاسلام وشريعته، وكأنها شريعة منسوخة وأسطورة خيالية.

هذا تصوير العالم الاسلامي الديني والاعتقادي بالاجمال، وهي موجة جاهلية تكتسح العالم الاسلامي من أقصاه الى أقصاه، وهي أعظم موجة واجهها العالم الاسلامي في تاريخه الطويل، وهي تفوق كل موجة معارضة عرفها التاريخ الاسلامي سواءا في قوتها وفي شمولها وفي تأثيرها في المجتمع الاسلامي، وتمتاز عنها بأن المنتبهين لهذه الأخيرة قلائل، والذين ينقطعون الى محاربتها ويجندون لها قواهم ومواهبهم أقل، فقد حدث الالحاد وظهرت الزندقة بتأثير الفلسفة اليونانية في العهد القديم فوجد من يحاربها بعقله الكبير وذكائه النادر وعلمه الغزير ودراسته الواسعة وشخصيته القوية، وظهرت الباطنية والملاحدة فوجد من يحاربها بالعلم والحكمة والبرهان وبقي الاسلام محتفظا بنفوذه العقلي ومكانته العلمية ترتد عنه كل موجة عاتية، وينحسر عن طوده كل فيضان وكل سيل جارف. ليست المسألة مسألة انحطاط في الأخلاق، وضعف في العبادات، وترك للشعائر، وتقليد للأجانب، وان كانت مسائل تستحق العناية والجهاد، ولكن مسألة العالم الإسلامي اليوم أعظم وأضخم من كل ذلك، انها مسألة كفر وإيمان، إنها مسألة بقاء على الاسلام وخلع له، ان المعركة قائمة بين الفلسفة الغربية اللادينية وبين الاسلام آخر الرسالات، وبين المادية والشرائع السماوية، ولعلها آخر معركة تقوم بين الدين واللادينية وانها تحدد مصير العالم. ان جهاد اليوم وان خلافة النبوة وان أعظم القربات وأفضل العبادات أن تقاوم هذه الموجة اللادينية التي تجتاح العالم الاسلامي وتغزو عقوله ومراكزه، وأن تعاد الثقة المفقودة الى نفوس الشباب والطبقات المثقفة بمبادئ الاسلام وعقائده وحقائقه ونظمه، وبالرسالة المحمدية، وأن يُزال القلق الفكري والاضطراب النفسي اللذان يساوران الشباب المثقف، وأن يُقنعوا بالاسلام عقليا وثقافيا، وأن تحارب المبادئ الجاهلية التي رسخت في النفوس وسيطرت على العقول علميا وعقليا، وأن يحل محلها المبادئ الاسلامية باقتناع وايمان وحماسة. لقد مضى علينا قرن كامل وأوروبا تغتصب شبابنا وعقولنا، وتنبت في عقولنا الشك والالحاد والنفاق وعدم الثقة بالحقائق الايمانية والغيبية، والايمان بالفلسفات الجديدة الاقتصادية والسياسية، ونحن معرضون عن مقاومتها ومعتمدون على ما عندنا من تراث، مضربون عن الانتاج الجديد، معرضون عن فلسفاتها ونظمها ومحاسبتها محاسبة علمية، ونقدها وتشريحها كتشريح الاطباء الجراحين، متعللون بالبحوث السطحية المستعجلة وبالزيادة في ثروتنا العلمية القديمة، حتى فوجئنا في العصر الأخير بانهيار العالم الاسلامي في الايمان والعقيدة، وملك زمام الأمور في البلاد الاسلامية، جيل لا يؤمن بمبادئ الاسلام وعقيدته، ولا يتحمس لها ولا تربطه بالشعب المسلم المؤمن البريء الا "القومية الاسلامية" أوالمصالح السياسية. وبدأت هذه العقلية أو النفسية اللادينية تتسرب عن طريق الأدب والثقافة والصحافة والسياسة الى الجماهير، حتى أصبحت الشعوب الاسلامية – وفيها كل خير وكل صلاح وكل استعداد وهي من أصلح الكتل البشرية في العالم – خاضعة لهذه الطبقة بحكم ثقافتها وذكائها ونفوذها، وإذا بقي هذا الوضع تسرب الالحاد والفساد الى هذه الشعوب والى الطبقات التي تعيش في البادية والقرى وتعمل في المصانع والمزارع وصارت في طريق اللادينية والزندقة، هذا ما وقع في أوروبا وهو واقع في الشرق اذا جرت الأمور مجراها الطبيعي ولم تحل ارادة الله القاهرة.

ان العالم الاسلامي في حاجة شديدة الى دعوة اسلامية جديدة وان هتاف الدعاة والعاملين فيه وهدفهم اليوم "الى الاسلام من جديد"، ولا يكفي الهتاف، انه لا بد من تصميم حكيم قبل العمل، لا بد من تفكير هادئ عميق كيف نرد الطبقة المثقفة اليت تحتكر الحياة وتملك الزمام الى الاسلام من جديد، وكيف نبعث فيها الايمان والثقة بالاسلام، وكيف نحررها من رق الفلسفات الغربية والحضارة العصرية ونظرياتها اللادينية. إنه في حاجة الى رجال ينقطعون الى هذه الدعوة ويكرسون عليها علمهم ومواهبهم وكفايتهم، ولا يطمعون في منصب أو جاه أو وظيفة أو حكومة ولا يحملون لاحد حقدا، ينفعون ولا ينتفعون، ويعطون ولا يأخذون، ولا يزاحمون طبقة في شيء تحرص عليه وتتهالك، حتى لا تكون لها حجة عليهم ولا للشيطان سبيل اليهم، شعارهم الاخلاص والتجرد عن الشهوات والانانيات والعصبيات. ان العالم الاسلامي في حاجة الى منظمات علمية تهدف الى انتاج الأدب الاسلامي القوي الجديد الذي يعيد الشباب المثقف الى الاسلام بمعناه الواسع من جديد، ويحررهم من رق الفلسفات الغربية التي آمن بها كثير منهم بوعي ودراسة وأكثرهم بتقليد وتسليم، ويقيم في عقولهم أسس الإسلام من جديد، ويغذي عقولهم وقلوبهم، إنه في حاجة الى رجال في كل ناحية من نواحي عالم الاسلام عاكفين على هذا الجهاد.

إنني لم أكن في فترة من فترات حياتي ممن يقول بفصل الدين عن السياسة وممن يفسر الدين لا يتصادم مع وضع – مهما انحرف وشذ عن الاسلام – وينسجم مع كل مجتمع ولا ممن يعتبر السياسة "الشجرة الملعونة في القرآن" بل أنا في مقدمة من يدعو الى ايجاد الوعي السياسي الصحيح في الشعوب الاسلامية وايجاد القيادة الصالحة، ومممن يعتقد أن المجتمع الديني لا يقوم الا بالملك الديني الصحيح والحكم الصالح المؤسس على أسس الاسلام، ولا أزال أدعو الى ذلك حتى ألقى الله، إنما المسألة مسألة ترتيب وتقديم وتأخير، وما تقتضيه حكمة الدين وفقهه، وما تفرضه الأوضاع. إننا بذلنا جهودنا ومواهبنا وما أوتينا من فرص ووسائل في حركات سياسية وتنظيمية، وكان كل ذلك على أساس أن الشعب مؤمن وأن من يقوده ويملك زمامه – وهي الطبقة المثقفة لا محالة – مؤمن مقتنع بالاسلام وعقيدته ومبادئه، متحمس للاسلام وعلوه ونفاذ حدوده، واذا الأمر بالضد، واذا الشعب قد ضعف في ايمانه وانحط في أخلاقه من حيث لم نشعر، ولم يشعر، واذا الطبقة المثقفة ذابت في أكثر أفرادها العقيدة الاسلامية وتبخرت بتأثير فلسفات الغرب وسياسته ونفوذه، وكثير من أفرادها ثائر على العقيدة الاسلامية مؤمن بالفلسفات الغربية وما جاءت به من عقائد وأفكار تصادم الدين وينتصر لها ويتحمس لها، ويحرص على نشرها وتنفيذها، ويريد أن ينظم الحياة على أساسها وفي ضوئها، ويصل بالشعب اليها، فمنهم مسرع متهور، ومنهم حكيم متدرج، ومنهم منفذ بالقوة يفرضها على الشعب فرضا، ومنهم هادئ يزينها للشعب، والهدف واحد والغاية واحدة.

ورجال الدين – ان صح هذا التعبير اذ ليس في الاسلام الكهنوت والطبقة الدينية الممتازة – في ذلك فريقان: فريق يحارب هذه الطبقة حربا شعواء ويكفرها ويبتعد عنها، ويعرض عن تتبع أسباب هذا الاتجاه اللاديني وعن ثقافتها، ولا يعنى باصلاح الاحوال وتغيير هذا الاتجاه المعارض والمحارب للاسلام، بالاختلاط بها وازالة الوحشة والنفور عن الدين وعن رجال الدين، وتشجيع ما عندها من خير وذرة ايمان وتغذيتها بالادب الاسلامي الصالح المؤثر، وبالزهد فيما عندها من حاية أو مال وقوة وسلطان، وتقديم النصح الخالص والتوجيه الحكيم.

وفريق يتعاون معها ويساهمها في المنافع والخيرات وينتفع بها في دنياه من غير أن ينفعها في دينها، فلا دعوة ولا عقيدة ولا غيرة على الدين، ولا حرص على الاصلاح ولا رسالة لها في هذا القرب والتعاون.

والفريق الثالث – الذي يتألم بهذا الوضع ويتوجع له، ويعترف بأن هذه الطبقة مريضة صالحة للتداوي مستعدة للشفاء، ويتقدم اليها بالدعوة الرفيقة والرسالة الحكيمة والنصيحة الخالصة – يكاد يكون مفقودا، فلا صلة لهذه الطبقة بالدين وبالجو الديني، تعيش في عزلة عنه وفي وحشة منه، ولا تزداد الا بعدا عن الدين وازدراءا بكل ما يتصل به، ويزيدها الفريق الذي يحاربها حربا شعواء لا هوادة فيها، والفريق الذي يتزعم الدين ويريد أن ينزع منها الحكم وينافسها في الجاه والمنصب، لا يزيدها الفريقان الا بغضا للدين واشفاقا منه، والانسان مفطور على بغض من ينافسه في دنياه، اذا كان لا يؤمن الا بالدنيا، وينتزع منه الحكم والسلطان اذا كان لا يعيش الا على الحكم والسلطان، ويساهمه في مادته وشهواته اذا كان لا يعرف الا المادة والشهوات. والأقطار الاسلامية اليوم بحاجة الى فريق يتجرد عن المطامع ويخلص للدعوة، ويبتعد عن كل ما يوهم بأن همه الدنيا والمادة والتغلب على الحكومة لنفسه أو عشيرته أو حزبه، يحل العقد النفسية والعقلية التي أحدثتها الثقافة الغربية أو أخطاء "رجال الدين" أو سوء التفاهم أو قلة الدراسة والابتعاد عن الاسلام وجوّه، وذلك بالمقابلات والصداقات والمحادثات والمراسلات والرحلات، وبالأدب الاسلامي الصالح المؤثر وبالروابط الشخصية، وبالنزاهة وعلو الاخلاق وقوة الشخصية والزهد في حطام الدنيا والعزوف عن الشهوات وتمثيل أخلاق الأنبياء وخلفائهم.

هذا هو الفريق الذي خدم الاسلام في كل عصر، واليه يرجع الفضل في تغيير اتجاه دولة بني أمية وظهور خامس الخلفاء الراشدين "عمر بن عبد العزيز" ونجاحه، وقد أعيد هذا التاريخ في عصر الملك المغولي الأكبر جلال الدين أكبر الذي ثار على الاسلام وصمم على تحويل هذه القارة الاسلامية الواسعة (الهند) التي عاشت في الحكم الاسلامي أ ربعة قرون، جاهلية برهمية، ولكن بفضل هذه الدعوة الحكيمة وبظهور داعية اسلامي مجدد وشخصية اسلامية حكيمة[2] أخلصت للإسلام وأحسنت فقهه وفقه الدعوة، وبتأثير تلاميذه عادت الهند الى الاسلام أقوى وأفضل، وتوالى على عرش "أكبر" ملوك يتدرجون في الصلاح وحب الاسلام حتى جاء على العرش ملك يتجمل تاريخ الاسلام وتاريخ الاصلاح بذكره وحديثه[3]. إنها فريضة لا تحتمل التأخير ولا تأخير يوم واحد، فالعالم الاسلامي يواجه اليوم موجة ردة عنيفة منتشرة في أعز أبنائه وأقوى أجزائه، إنها ثورة على أعز ما يملك من عقيدة وخلق وقيم، ولا بقاء للعالم الاسلامي بعد ضياع هذه الثروة التي خلفها الرسول وتوارثتها الأجيال وجاهد في سبيلها أبطال الاسلام. فليكن الموضوع موضع دراسة واهتمام لجميع من يهمهم أمر الإسلام.

[1] مقال كتب افتتاحية لمجلة "المسلمون" وطبع رسالة مفردة، ونقل الى عدة لغات.

[2] هو العالم الرباني المجدد الكبير الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي المتوفى عام 1034 هـ.

[3] هو الملك الفاضل الصالح القوي الأمين "محيي الدين أورنك زيب" المشهور "بعالمكير" الذي تنسب اليه "الفتاوى الهندية" المتوفى عام 1118 هـ.