الإخوان المسلمون رؤية اشتراكية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون .. رؤية اشتراكية
مركز الدراسات الاشتراكية
مارس 2006

تعليق موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين

انطلاقاُ من سعينا لاحتواء ويكيبيديا الإخوان المسلمين كل ما قيل أو نشر عن جماعة الإخوان بغض النظر عن الرؤى والأفكار المعروضة والتي قد تتضمن في غالبها بعض الأفكار المعبرة عن قناعات ورؤى كاتبها والتي قد تتعارض مع وقائع تاريخية خاصة بالجماعة،لذا تقدم ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكى) كتاب (الإخوان المسلمون .. رؤية اشتراكية) والصادر عن مركز الدراسات الاشتراكية للباحث سامح نجيب ،تقدم هذه الدراسة رؤية جديدة عن جماعة الإخوان المسلمين، وهى رؤية لأحد أبناء الحركة الاشتراكية في مصر، وبالرغم مما حوتها الدراسة لبعض الرؤى والأفكار المغلوطة بعض الشئ، والتي تم نفيها بالوثائق الدامغة إلا أنها دراسة تحمل شيئا ما من الحقيقة حول تاريخ وتطور وجهود الإخوان المسلمين وتعاملهم مع القضايا السياسية والاجتماعية بمصر.

وتثبت دور الإخوان وجهودهم في جميع المجالات بما فيها حرب فلسطين والمحن التي واجهتها الجماعة على يد عبد الناصر.

ومن ثم نقدمها للقراء كما هي ودون تدخل فيها ..مع العلم أن هذه الدراسة قدمت عام 2006م في ظل الحكم الديكتاتوري لحسني مبارك والاضطهاد التي واجهته جماعة الإخوان المسلمين، مما ظهر في بعض تعاملها مع بعض القضايا العامة، والتي من الممكن أن تكون قد تغيرت بعد الثورة وإزالة حكم مبارك.

وختاما يجب الإشارة إلى أنه سيكون لنا حق الرد على بعض تلك الأفكار والآراء المغلوطة في الدراسة في وقت لاحق إن شاء الله.


مقدمة

النتائج التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات الأخيرة فجرت من جديد قضية موقف اليسار منها.

كيف نفهم الإخوان المسلمين وكيف نفسر نجاحاتهم المتتالية؟ ما هي طبيعتهم الطبقية؟ هل هم عدو لليسار أم منافس له؟ كيف نتفاعل مع هذه الجماعة؟ نحاول في هذا الكراس الصغير الإجابة على هذه الأسئلة كمساهمة أولية في السجال الحالي في أوساط اليسار حول هذه القضية الملحة.

وبالطبع ففي كراس بهذا الحجم لن نتمكن من تناول تحليلاً تفصيلياً لجماعة بحجم وتاريخ الإخوان المسلمين. سنحاول فقط إلقاء الضوء على بعض المنعطفات الهامة في ذلك التاريخ الطويل.

يطرح المفكر والاقتصادي الماركسي الكبير سمير أمين في مقال له حول الإسلام السياسي تلخيصاً لما يمكن اعتباره الموقف المهيمن في أوساط اليسار المصري حول طبيعة الإخوان.

فهو يقدم عدة أطروحات أساسية تمثل رؤية متكاملة تجاه الإسلام السياسي المعاصر على الوجه التالي:

  • أولاً: أن جماعات الإسلام السياسي بمختلف أنواعها هي مجرد تنظيمات سياسية تستهدف الوصول إلى السلطة وتستخدم الدين بشكل انتهازي لتحقيق أغراضها.
  • ثانياً: أن الإسلام السياسي هو مجرد أداة من أدوات الطبقة الرأسمالية التابعة وهي لا تخدم سوى مصالح هذه الطبقة.
  • ثالثاً: أن الانقسام بين الجماعات الإصلاحية مثل الإخوان المسلمين والجماعات المسلحة مثل الجهاد ليس إلا تقسيم عمل بين استخدام العنف من جانب والتسلل داخل مؤسسات الدولة من الجانب الآخر والهدف في الحالتين هو الاستيلاء على السلطة.
  • رابعاً: أن المواجهة بين هذه الجماعات والأنظمة ليست إلا تنافساً بين قطاعات مختلفة من الطبقة الحاكمة، وهو تنافس وصراع حول السلطة سواء حدث ذلك بشكل مسلح كما في الجزائر أو بشكل سياسي كما في حال الإخوان المسلمين في مصر.
  • خامساً: لا يوجد أي تناقض بين الإسلام السياسي والعولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة بل أن هناك تكاملاً بينهم.
  • سادساً: أن الإسلام السياسي ليس معادياً للإمبريالية بأي شكل من الأشكال بل أنه أفضل من يخدم الإمبريالية وأن الاستثناءات مثل حماس وحزب الله ليست سوى نتيجة طبيعية للجغرافيا السياسية التي تضع مثل هذه الحركات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي في خانة العداء للدور الأمريكي في المنطقة.

يتفق حول هذه الأطروحات قطاع واسع من اليسار المصري والعربي، مع تنويعات في هذه النقطة أو تلك بالطبع. وبالتأكيد فإن مثل هذا التحليل يؤدي إلى استنتاجات سياسية وعملية خطيرة.

فهو يعني أن جماعة مثل الإخوان المسلمين عدو سياسي لليسار يجب محاربته على كافة الأصعدة ولا مجال لأي نوع من التنسيق معها أو أي شكل من أشكال العمل المشترك.

وهو يؤدي أيضاً إلى رؤية تضع الجماهير المصرية في موقع تخلف وتخبط شديد في الوعي الاجتماعي والسياسي، فكيف نفسر هذا التناقض بين طبيعة الحركة الإسلامية كما يصفها سمير أمين كحركة معبرة عن البرجوازية التابعة، خادمة للإمبريالية ومعادية للديمقراطية ومعتنقة لليبرالية الجديدة، وبين التأييد الشعبي واسع النطاق الذي تتمتع به جماعة مثل الإخوان المسلمين؟

ولعل رأس حربة المدافعين عن هذه الرؤية للحركة الإسلامية هو رفعت السعيد، الذي كرس جهده خلال العقدين الأخيرين للتشهير بما يسميه "المتأسلمين". ولأن تحليلات السعيد كان لها نفوذاً في أوساط اليسار وخاصة التجمع والحزب الشيوعي المصري فسيكون من المفيد تناول أطروحاته ببعض التفصيل.

وإذا كانت تعليقات سمير أمين تتناول الإسلام السياسي المعاصر فرفعت السعيد في كتاباته يتناول الحركة الإسلامية منذ بداياتها في نهاية العشرينات.

وهو يضع في سلة واحدة، ليس فقط الجماعات الإصلاحية مثل الإخوان مع الجماعات المسلحة مثل الجهاد بل يضع في نفس السلة مختلف الجماعات في المراحل التاريخية المختلفة.

فحسن البنا والهضيبي وسيد قطب والتلمساني وأيمن الظواهري ومهدي عاكف كل هؤلاء بالنسبة للسعيد أجزاء من حركة رجعية إرهابية واحدة معادية للتقدم والحداثة والتنوير.

ويستخدم السعيد لتبرير موقفه من مَن يسميهم المتأسلمين منهجاً مادياً ميكانيكياً مستمد من التراث الستاليني الذي ينتمي إليه فيطرح مثلاً: "الماركسية إذ تؤكد إمكانية أن يلعب الدين دوراً في حركة التغيير الاجتماعي، أي دوراً سياسياً، فإنها ترى أن ذلك رهن بمستوى محدد من التطور الاجتماعي ومن نمو الوعي الاجتماعي وتحديداً فإن الدور يتناقض بل ويتلاشى مع نمو الوعي الطبقي الذي يحول الصراع بين جماعات تخضع للاستغلال والاضطهاد فتتشبث بدين جديد يخالف ديانة الحكام وتتخذه محوراً لنضالها وخلاصها، وبين جماعات متميزة طبقياً تنتمي جميعاً إلى ذات الدين."

أي أنه وطبقاً لهذه الرؤية الميكانيكية، كلما تبلورت الطبقات وتطور المجتمع ونما الوعي الطبقي كلما تلاشى التعبير الديني عن الاحتجاج الاجتماعي.

ولكن عن أي طبقات يتحدث السعيد وفي أي سياق يحدث ذلك التطور؟

وهل ما ينطبق على المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر مثلاً ينطبق أيضاً وبنفس الوتيرة ونفس الآليات على المجتمع المصري في القرن العشرين؟

ويعتبر رفعت السعيد الدين دخيلاً على الوعي والصراع الاجتماعي:

"أما استخدام الدين كأداة في الصراع الاجتماعي فإن الماركسية ترى أنه كان وارداً وممكناً بل وثورياً في المراحل الأولى للتطور الاجتماعي، وأنه مع نشوء الطبقات الاجتماعية وتبلورها ووقوفها وجهاً لوجه في معترك الصراع الطبقي فإن ادخال الدين في هذا المعترك يمكنه أن يحرف الأفكار عن المعطيات الواقعية والأرضية لهذا الصراع، بل ويمكنه أن يجعل من المقولات الدينية شعاراً أو أداة يستخدمها الحكام وبعض رجال الدين في تغييب الوعي الاجتماعي والطبقي للجماهير ومن ثم في فرض المزيد من الاستغلال والقهر عليهم".

طبقاً لهذه الرؤية، التي ينعتها السعيد بـ "الماركسية" وهي مجرد تشويه للماركسية، يصبح الدين مجرد دخيل على الصراع الاجتماعي وليس شكلاً من أشكال التعبير عن الاحتجاج الاجتماعي. وهو يقبل بوجود البعد الديني للوعي في ما يسميه المراحل الأولى للتطور الاجتماعي.

وكأن التطور الاجتماعي مسار أحادي يمر به البشر في كل مكان دون تناقضات وتعقيدات وخصوصيات. وإذا كان من الصحيح أن الطبقات الحاكمة استخدمت الدين لتبرير وتوطيد حكمها، فمن الصحيح أيضاً أن الطبقات المقهورة استخدمت الدين في كثير من الأحيان للتعبير عن احتجاجها وعن طموحاتها للتغيير.

فالدين قابل لتفسيرات مختلفة بل ومتناقضة، والتعبير الديني للاحتجاج ليس مقصوراً على تلك "المراحل الأولى" فالقرن العشرين مليء بالحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة التي لجأت للدين كوسيلة للتعبير.

في أمريكا اللاتينية ظهر لاهوت التحرير الذي مزج بين الاشتراكية وتفسير حديث للمسيحية، وفي آسيا امتزجت حركات التحرر الوطني بتفسيرات للبوذية والهندوسية.

وفي تحليله للحركات الإسلامية يصل السعيد إلى استنتاج شديد الغرابة فيقول:

"إن معطيات التوجه الاجتماعي والاقتصادي لجماعات الإسلام السياسي على اختلاف أنواعها (وإن ارتدى بعضها ثياباً أكثر اعتدالاً أو أكثر تطرفاً) فإنها في مجموعها جماعات سياسية تلغي المنظور الطبقي للصراع .. وتقسم البشر ليس على أساس موقفهم من العملية الإنتاجية (رأسماليون وعمال، ملاك أراضي وأجراء) وإنما من منظور فكري ينحصر في مدى ولاء الشخص لفكر الجماعة أو ما تبشر به."

ولكن ألا تلغي كافة الحركات السياسية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة ذلك المنظور الطبقي للصراع؟ ألم تقم مثلاً الحركات الثورية البرجوازية في أوروبا منذ الثورة الفرنسية بإخفاء طابعها الطبقي وراء شعارات الديمقراطية والمساواة أمام القانون وحقوق الإنسان والمواطنة؟ وألم "تلغي" حركات التحرر الوطني في العالم الثالث المنظور الطبقي وركزت شعاراتها ومضمون رؤيتها حول التحرر والاستقلال الوطني وأخفت بالتالي مضمونها الطبقي البرجوازي أو البرجوازي الصغير؟

أليست الطبقة العاملة هي وحدها التي من مصلحتها أن تكشف وتفضح التناقضات الطبقية وتؤسس حركتها على وعي كامل وغير مشوه لتلك التناقضات؟ أليس ذلك ما تطرحه الماركسية التي يحب السعيد التحدث باسمها؟

إذا كان السعيد يقصد أن الحركات الإسلامية ليست حركات عمالية ثورية وبالتالي تعبر عن طبقات أخرى ليس من مصلحتها فضح التناقضات الطبقية في المجتمع، إذا كان هذا ما يقصده فلن نختلف معه. ولكنه يطرح المسألة وكأن الحركات الإسلامية وحدها هي التي تخفي مضمونها الطبقي.

أما الطابع الإحيائي للحركات الإسلامية فيفسره السعيد بشكل تبسيطي وكأن استلهام النماذج من التاريخ لا يمكن أن يشير إلا للطبيعة الرجعية الصرفة لتلك الحركات:

"إذ توجد قوى اجتماعية ترفض الواقع الاجتماعي القائم وتعجز في نفس الوقت عن التلاؤم معه، ولا تمتلك معطيات طبقية لتغييره من منظور طبقي فإنها تعود إلى الوراء لتستلهم ذكريات ونماذج وطموحات وقعت في الماضي وتستدعيها للحاضر أو بالدقة تستجمع الحاضر في محاولة كي تعود به إلى الماضي .. هذه الجماعات لا تمتلك تصوراً محدداً للمستقبل، فهي إذ تستعيد الأسماء والشعارات والزي والرؤية والممارسات فهي تعتقد أن ما سيطبق من نظام اقتصادي واجتماعي (في حالة استلامهم السلطة) هو ذات ما كان مطبقاً أيام الرسول والخلفاء الراشدين، وهم لا يرهقون أنفسهم في استجلاء تفاصيله لأن التفاصيل قد تبدو غير ملائمة للتطبيق اليوم (وهذا طبيعي تماماً) كما أنهم في أغلب الأحيان لا يمتلكون رؤية واضحة لما كان يجري في هذا الزمان."

ولكن الرغبة في العودة إلى ماضي مثالي لا تعني بأي حال من الأحوال رغبة في إعادة إنتاج مجتمع العصور الإسلامية الأولى ولكنها تعني الرغبة في إعادة تشكيل الواقع المعاش بكل ما يتضمنه من مهانة وطنية وتخلف اقتصادي وما يرونه انهياراً أخلاقياً وحضارياً.

إعادة التشكيل هذه لا ترفض الحداثة بشكل مطلق فهي تقبل التكنولوجيا والتقدم العلمي والمستلزمات المادية للحياة العصرية ولكنها تريد استخدامها في إطار منظومة ثقافية مستوحاة بشكل مثالي وانتقائي من التاريخ الإسلامي.

سنحاول في هذه الكراسة أن نطرح تحليلاً مغايراً لجماعة الإخوان المسلمين.

هذا التحليل يقوم على فهم ظهور وتطور هذه الجماعة في سياق التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت بتلك الجماعة في مراحل تطورها المختلفة. فلا يمكن مثلاً وضع إخوان الأربعينات وإخوان السبعينات وإخوان التسعينات في نفس السلة لمجرد استمرارية الشعارات الأيديولوجية والخطوط العامة لسياسة الجماعة.

ففي مراحل تاريخية مختلفة وفي أوساط طبقية مختلفة تتبلور تفسيرات مختلفة للنصوص الدينية. فالوضع المادي والاجتماعي لأي جماعة أو طبقة أو فئة وعلاقتها بالقوى الاجتماعية الأخرى والصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ينغمسون فيها كلها تلعب أدوارها في تشكيل تفسيراتهم للنصوص الدينية وللمبادئ والأفكار التي يختارون التركيز عليها حتى وإن تشابهت الشعارات والمبادئ العامة.

ولعل تاريخ الحركات الشيوعية يعطينا نموذج للتحولات الممكنة تحت نفس الشعارات.

فهل مثلاً الحزب الشيوعي الروسي الذي قاد الثورة البلشفية في عام 1917 هو نفسه حزب ستالين الذي حكم الاتحاد السوفيتي بالحديد والنار خلال الثلاثينات والأربعينات؟ وهل الحزب الشيوعي الصيني في عصر ماو تسي تونج هو نفسه الحزب الشيوعي الصيني الذي يشكل اليوم رأس حربة الرأسمالية وسياسات السوق؟

إن التحليل المادي التاريخي يتطلب منا تجاوز الشعارات والرايات المرفوعة والتدقيق في الجذور الاقتصادية والاجتماعية لمختلف الحركات السياسية. وإذا استعرنا مع بعض التحوير مقولة لكارل ماركس فعلينا "البحث عن الرجل في المسلم وليس المسلم في الرجل".

الفصل الأول: النشأة والصعود

1) تناقضات التطور الرأسمالي في مصر

كانت مصر خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين تتعرض لتطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية مليئة بالتناقضات. وبدون فهم طبيعة تلك التطورات المتناقضة لن نتمكن من فهم كيف ولماذا ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في نهاية العشرينات وكيف أصبحت خلال عقدين أكبر التنظيمات السياسية في البلاد.

كانت هناك قيوداً هائلة تعرقل التطور الرأسمالي في مصر. فخلال تلك الفترة كانت مصر بلداً زراعياً يعتمد اقتصادها أساساً على إنتاج وتصدير القطن ويعيش الغالبية من سكانها في الريف.

وتعرض الاقتصاد المصري لظروف كارثية في نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات. فقد انخفضت أسعار القطن المصري في الأسواق العالمية بنسبة 70% بين عامي 1927 و1933.

حدث ذلك نتيجة للأزمة الحادة التي واجهتها صناعة النسيج البريطانية والتي كانت في ذلك الوقت المستورد الرئيسي للقطن المصري.(1)

ويجب الانتباه هنا إلى أن القطن كان يشكل العمود الفقري للاقتصاد المصري في ذلك الوقت. كان القطن يمثل حتى بداية الأربعينات ما بين 40 و50% من إجمالي الإنتاج الزراعي وما بين 80 و90% من إجمالي الصادرات.(2)

وقد أدى انهيار أسعار القطن إلى موجة واسعة من الطرد للفلاحين من الأرض من قبل كبار الملاك المصريين والأجانب. وأدى أيضاً إلى تضخم عبء الضرائب والإيجارات والديون للمرابين والتجار.

كانت إحدى النتائج المباشرة لأزمة أسعار القطن أن عشرات الآلاف من الفلاحين لم يعد بمقدورهم تسديد الديون. واستغلت البنوك والشركات الأجنبية الوضع، وقامت بطرد الفلاحين من أراضيهم بسبب الديون التي لم يسددوها. وقد بلغت مساحات الأرض التي تم إخلاؤها بقوة القانون من الفلاحين: 22.600 فدان عام 1929 و21.900 فدان عام 1930 و36.000 فدان عام 1931 و30.000 فدان عام 1932. (3)

وقد وصل تركيز ملكية الأرض في أيدي عدد قليل من الملاك إلى أقصاه خلال فترة الثلاثينات حيث أصبح 96.5% من مالكي الأرض يملكون 46% فقط من الأراضي الزراعية، في حين يملك 3.5% من أصحاب الأرض 54% من الأراضي.(4)

ويجب الانتباه هنا إلى الدور المحوري الذي كان يلعبه رأس المال الأجنبي في الريف المصري، ففي منتصف الثلاثينات كان حوالي ألف مالك أجنبي يملكون نفس مساحة الأرض التي يملكها حوالي مليون ونصف المليون فلاح، الذين كان يملك كل منهم أقل من فدان.

أي أن رأس المال الأجنبي لم يكن محصوراً في البنوك والصناعة بل كان أيضاً أحد محاور ملكية الأرض الزراعية.

ولذا فبالنسبة لغالبية الفلاحين ارتبطت كراهية كبار ملاك الأرض والمرابين والتجار بكراهية الاحتلال الأجنبي وبكل ما أتى به.

لم يكن الفلاحين الفقراء وحدهم ضحايا تلك التطورات فقد كان لها تأثيراً مدمراً على الطبقة الوسطى الريفية. ففي الأعوام الثلاثون الأولى من القرن العشرين انخفض عدد الملكيات الزراعية المتوسطة (بين 10 و30 فدان) من 891.425 إلى 817.324، في حين زاد عدد الملكيات الزراعية الصغيرة جداً (أقل من فدان) من 780.789 في 1910 إلى 1.428.271 في 1928. (5)

إلى جانب انهيار أسعار القطن والعبء المتنامي للإيجارات، كان عذاب الفلاحين الرئيسي له مصدرين: الضرائب والديون.

فالفلاحون كانوا يدفعون ما بين 25 و30% من دخلهم كضرائب، مما شكل عبئاً رهيباً على الغالبية العظمى منهم.

أما الديون فصارت لعنة لا تحتمل بسبب فوائدها المرتفعة وعواقب عدم الدفع قاسية. وقد وصل متوسط دين العائلة الفلاحية في منتصف الثلاثينات إلي 40.5% في حين لم يتعدى متوسط دخلها سبعة جنيهات في الموسم. (6)

وقد انعكست تلك الأوضاع بالطبع على الصراع الطبقي في الريف في شكل انفجارات عفوية وهجمات فردية.

وقد وصل عدد مخازن الغلال التي تعرضت للحرق على يد الفلاحين إلى 5.760 مخزن عام 1928/1929 و7.820 مخزن عام 1931. ووصل عدد العمد الذين تم قتلهم في الفترة من 1931 إلى 1933 لـ 2200 عمدة.

كانت السيطرة الأجنبية على كافة القطاعات الاقتصادية الحديثة إحدى الخصوصيات الأساسية للاقتصاد المصري حتى الأربعينات.

فطبقاً لإحدى التقديرات مثلاً كان إجمالي قيمة رأس المال (باستثناء الأرض الزراعية) في عام 1937 ما يوازي 963 مليون جنيه إسترليني منهم 450 مليون جنيه رأس مال أجنبي. أي أن رأس المال الأجنبي كان يملك 47% من إجمالي رأس المال في مصر.(7)

رأس المال الأجنبي كان يتحكم بشكل مباشر في كافة مجالات النقل والكهرباء والبنوك والصناعة والرهونات الزراعية.

كما أنه كان يتسم بدرجة عالية من التركيز والارتباط المباشر بالمراكز الرأسمالية المتقدمة.

أما رأس المال المصري فكان من جانب مجرد شريك صغير أو وكيل لرأس المال الأجنبي المهيمن ومن الجانب الآخر أصبح مرتبط عضوياً بكبار ملاك الأرض.

على جانب آخر كانت الطبقة العاملة تشكل نسبة صغيرة من السكان، رغم نموها السريع منذ بداية القرن. ففي عام 1937 كان في مصر حوالي نصف مليون عامل صناعي مما شكل أقل من 8% من إجمالي القوة العاملة في البلاد.

ورغم ذلك الحجم الصغير، ورغم أيضاً حداثة نشأتها إلا أنها لعبت دوراً محورياً في الحياة السياسية في البلاد منذ ثورة 1919.

وقد أدت تلك الطبيعة لتطور الرأسمالية في مصر إلى بطء شديد في عملية التراكم الرأسمالي، وعرقلة للتطور الصناعي.

وكان السبيلين الوحيدين لتوسيع وتعميق الصناعة الحديثة في مصر إما توسيع السوق المحلي لاستهلاك المنتجات الصناعية أو توسيع أسواق التصدير لتلك المنتجات. وقد رأينا كيف كان الحل الأول مستحيل بسبب تحكم كبار الملاك المصريين والأجانب في الأرض الزراعية وبالتالي الإفقار الشديد للفلاحين وهم غالبية السكان.

أما الحل الثاني فكان الاستعمار، وتحكم رأس المال الأجنبي، وهيمنة الرأسماليات المتقدمة على أسواق الصادرات الصناعية، وفرض تصدير سلعة زراعية وحيدة هي القطن على الاقتصاد المصري، كلها تقف عقبات أمامه.

إذن فقد كان خروج المجتمع المصري من أزمته الطاحنة يستلزم تحقيق عدد من الخطوات الضرورية: أولاً التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني، وثانياً القضاء على سيطرة الملكيات الكبيرة في الريف بتنفيذ إصلاح زراعي يحرر الفلاحين من قيودهم الخانقة، وثالثاً إنهاء السيطرة الاحتكارية لرأس المال الأجنبي على مراكز الاقتصاد المصري.

2) الصراع السياسي

إلا أن تحقيق هذه الأهداف يحتاج بالطبع إلى تعبئة سياسية واسعة النطاق للفلاحين والعمال والطبقة المتوسطة. فبدون حركة جماهيرية واسعة النطاق كيف يمكن التخلص من تلك القبضة الخانقة للاستعمار ورأس المال الأجنبي وكبار ملاك الأرض؟

كان من المستحيل على البرجوازية المصرية أن تقوم بذلك الدور. فهي غير قادرة على تحرير البلاد من الاستعمار بسبب ارتباطها الوثيق والعضوي برأس المال الأجنبي، وهي أيضاً غير قادرة على حل المسألة الزراعية بسبب ارتباط مصالحها مع مصالح كبار ملاك الأرض. وفي الحالتين لا تستطيع حشد جماهير العمال والفلاحين الفقراء، وهو شرط أساسي لنجاح عملية التحرر، بسبب خوفها العميق من جماهير الفقراء، التي تدرك جيداً أنهم لن يكتفوا بالقضاء على الاستعمار والملكية وكبار الملاك، في حال تحركهم، بل سيهددون الملكية الخاصة والنظام الطبقي وبالتالي الوجود الاجتماعي للبرجوازية.

البرجوازية المشلولة إذن لا يمكنها أن تلعب أي دور ثوري حتى لتحقيق المطالب الوطنية والديمقراطية التي تحتاجها كطبقة. فهي تفضل التحالف مع الاستعمار والتمترس في معسكر الرجعية الملكية عن قيادة الجماهير بشكل ثوري.

وقد ظهر ذلك بوضوح في أعقاب ثورة 1919. فقد خلقت الثورة آمالاً ضخمة لدى الجماهير في جلاء المحتل وحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي أوردناها في الفقرات السابقة.

وكما يذكر طارق البشري في مقدمة كتابه "الحركة السياسية": "تعلقت هذه الآمال بالوفد خلال العشرينات ليقود الجماهير نحو تحقيق هذه الأهداف.

ولكن الوفد خيب الآمال وثار الشك حول قدرته على إحداث التغييرات المطلوبة، وتحول تفاؤل العشرينات إلى تشاؤم وحيرة وخوف وبحث عن البدائل." (8)

حزب الوفد كان ممثلاً للبرجوازية المصرية، ورغم قيادته للحركة الوطنية لم يتمكن أبداً من تصعيد المواجهة مع الاستعمار وتعميق مضمونها الاجتماعي، فخوفه من تعبئة الجماهير أولاً وارتباطه بالرأسمالية الأجنبية وكبار ملاك الأرض ثانياً جعلا منه خصماً سهلاً أمام الرجعية والاستعمار البريطاني. ولابد أن نتذكر في هذا السياق أن عشرة من أعضاء الهيئة العليا الأولى للوفد التي تكونت من 14 عضو كانوا من كبار ملاك الأرض.(9)

أما الفلاحين، ورغم هباتهم الاحتجاجية الكثيرة، كانوا غير مؤهلين لبلورة حركة موحدة قادرة على تحدي الاستعمار وكبار الملاك بسبب انعزالهم عن بعضهم البعض في قرى متباعدة، والتناقضات الواسعة بين فئاتهم المختلفة ما بين معدمين وصغار ملاك وأغنياء، وهي تناقضات كما أوضحنا سابقاً كانت تزداد عمقاً.

أوضاع الفلاحين هذه أدت، كما يحدث دائماً، إلى احتياجهم لقيادة من إحدى الطبقات المدينية لتعبئتهم وتنظيم حركتهم.

على جانب آخر ظهرت في المدن المصرية في ذلك الوقت طبقة عاملة جديدة، كأحد نتائج التطور الرأسمالي. تركزت في شركات ومؤسسات كبرى، ولعبت دوراً محورياً في ثورة 1919 وخلال النصف الأول من العشرينات عبر موجة من الاضرابات الكبرى قادها عمال الترام والسكك الحديدية وعمال شركة قناة السويس.

ونتج عن هذه الموجة نشوء حركة عمالية حديثة وواعدة. لكن الطبقة العاملة حديثة الولادة لم يكن باستطاعتها أن تلعب دوراً قيادياً ومستقلاً في تلك الفترة الثورية.

فإلى جانب القمع الذي تعرضت له كانت تعاني من عدة نقاط ضعف جوهرية: أولاً، كانت معظم المؤسسات والشركات التي تعمل بها مملوكة ومدارة من قبل أوروبيين، بل أن نسبة كبيرة من العمال المهرة والتقنيين كانت من الأجانب مما أضعف من قدرة العمال المصريين على بلورة وعي طبقي مستقل، واختلط وعيهم بالمشاعر الدينية والوطنية.

وثانياً، ظلت الحركة الشيوعية النشطة، التي ظهرت في مطلع العشرينات، أسيرة للعمل النقابي الضيق، وغير قادرة على الربط ما بين استقلالية الطبقة العاملة وبين ضرورة أن تلعب الحركة العمالية دوراً محورياً في قيادة الفلاحين الفقراء، والنضال من أجل الاستقلال الوطني.

في ذات الوقت كانت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تعصف ـ بالإضافة إلى العمال وفقراء الفلاحين ـ بشرائح مدينية أخرى صارت تعاني بشدة.

فالتطور الرأسمالي المأزوم والمتناقض في مصر أحاط ما يمكن تسميتهم بالطبقة المتوسطة التقليدية، من الحرفيين وأصحاب الدكاكين وصغار التجار، بأزمات خانقة، وصار يقذف بالكثيرين منهم إلى صفوف العمال.

وكما يؤكد طارق البشري "فعندما يحس هؤلاء بأن المستقبل في غير مصلحتهم يتجهون إلى الماضي يلتمسون منه العون، وبقدر ما ينغلق أفق المستقبل أمامهم بقدر ما ينمو الخيال مستمد من الماضي مدينته الفاضلة.

وكانت الدعوة السلفية ما يجذب هؤلاء بفكر غامض كالأحلام ظنوه مخرجاً".(10)

أما الطبقة المتوسطة الحديثة التي شملت الموظفين في المؤسسات الحديثة الحكومية والخاصة، من مدرسين ومحامين ومحاسبين وغيرهم من المهنيين، فقد كانت تعاني من أزمة متعددة الجوانب. فمن المفترض أن هؤلاء، بسبب تميزهم التعليمي، مؤهلين لمستوى معيشة ومكانة اجتماعية متميزة.

لكن التناقض بين التوسع التعليمي السريع داخل تلك الفئة وبطء تطور المؤسسات الرأسمالية الحديثة القادرة على استيعابهم، بالإضافة إلى سيطرة الأجانب على الوظائف العليا في المؤسسات الحديثة حول أحلام غالبية تلك الطبقة إلى كوابيس.

وبدلاً من المكانة ومستوى المعيشة المتميز واجه الكثيرون منهم ضغوط دفعتهم إلى العيش بطريق لا تختلف عن الطبقة العاملة التي حلموا بالتميز عنها.

وزاد من هذه الضغوط الأزمة العنيفة التي باتت تعاني منها الشرائح المتوسطة التقليدية في الريف والمدينة التي ظلوا مرتبطين بها أسرياً وثقافياً.

وعلى المستوى الثقافي والأيديولوجي واجهت الطبقة المتوسطة الحديثة أزمة حادة، فمنظومة القيم الريفية والتقليدية للبرجوازية الصغيرة التي تربوا عليها تنهار سريعاً بسبب التطور الرأسمالي، لكن لأن هذا التطور يحدث بشكل مليء بالتناقضات فقد صاروا يشعرون بحالة ضياع ثقافي. العالم القديم بتقاليده واستقراره ومثله ومبادئه ينهار، والعالم الجديد مشوه ومتناقض ومخيف.

دائماً ما لعبت هذه الفئة ـ الطبقة الوسطى الحديثة ـ دوراً سياسياً استثنائياً في بلدان العالم الثالث بسبب كونهم المصدر الأساسي للكوادر السياسية.

هم يظهرون دائماً وكأنهم خارج إطار الصراعات الطبقية لأنهم لا ينتمون للبرجوازية ولا ينتمون أيضاً للطبقة العاملة أو الفلاحين وبالتالي يمكنهم الظهور كممثلين أنقياء للوطن ككل. ولأنهم بحكم تعليمهم وتخصصاتهم، كأطباء ومهندسين ومدرسين وموظفين في مؤسسات مدينية حديثة، يتفاعلون مع التقدم التقني والعلمي للغرب، حتى وإن كان بشكل جزئي، فهم أكثر القطاعات الاجتماعية تأثراً وغضباً للتأخر الذي تعاني منه بلادهم في هذه المجالات.

أدت جميع هذه العوامل في الحالة المصرية إلى بحث كثير من هؤلاء عن بديل سياسي وأيديولوجي يعبر عنهم وعن رغبتهم في تغيير الوضع القائم.

بديل يحقق الاستقلال الوطني ويضع نهاية للسيطرة الأجنبية وهو ما فشل في تحقيقه حزب الوفد والتشكيلات السياسية التابعة للبرجوازية وكبار الملاك.

بديل يوقف انهيار الطبقة المتوسطة في الريف والمدينة وأخلاقياتها التقليدية القائمة على الأسرة والملكية الصغيرة.

بديل يحقق درجة من العدالة الاجتماعية دون المساس بالملكية الخاصة التي شكلت العمود الفقري لجذورهم الطبقية. بديل يمكن البلاد من التقدم التقني والاقتصادي والعلمي دون المساس بالمنظومة الأخلاقية والثقافية التقليدية التي باتت تنهار أمام أعينهم.

3) نشأة وتطور جماعة الإخوان

في سياق ومن خلال كل ما سبق تشكلت الرؤية السياسية لحسن البنا.

ذلك المدرس البسيط ذو الأصول البرجوازية الصغيرة الذي سرعان ما أصبح زعيم أكبر التنظيمات السياسية في البلاد.

وقد بدأت رؤيته في التبلور برفض ما رآه كانحلال أخلاقي وضعف معنوي تعاني منه المدن المصرية نتيجة للهجمة الاستعمارية الغربية: "أنه الوقت الذي تأرجحت فيه الأمة المصرية في حياتها الاجتماعية بين إسلامها الغالي العزيز الذي ورثته وحمته وألفته .. وبين هذا الغزو الغربي العنيف المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه والمظهر والمتعة ووسائل الدعاية". (11)

وقد ربط البنا بين الانحلال الأخلاقي وبين الأفكار والمفاهيم التحررية الغربية:

"وعقب الحرب الماضية (1914م - 1918م) وفي هذه الفترة التي قضيتها بالقاهرة، اشتد تيار موجة التحلل في النفوس، وفي الآراء والأفكار باسم التحرر العقلي، ثم في السلوك والأخلاق والأعمال باسم التحرر الشخصي، فكانت موجة إلحاد، وإباحية قوية جارفة طاغية، لا يثبت أمامها شيء تساعد عليها الظروف والحوادث... ( الإمام الشهيد حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص 57)". (12)

أمام هذه الهجمة وذلك الانحلال بدأ البنا في بلورة بديل قائم على الإحياء الديني والمحافظة الأخلاقية والعمل الخيري. وهو لم يكن ـ في الحقيقة ـ يقدم جديداً، فقد امتلأت مصر في ذلك الوقت بالعديد من الجمعيات الدينية المحافظة والخيرية المرتبطة بالمساجد في القرى والأحياء الفقيرة.

أما القضية العامة الأولى التي تبنتها جماعة الإخوان المسلمين فكانت التصدي للتبشير المسيحي.

فكما هو الحال في الكثير من المستعمرات وقتها ارتبط نشاط التبشير المسيحي الأوروبي في ذهن الجماهير الفقيرة عموماً، وفي ذهن المتعلمين خصوصاً بالاستعمار.

وقد تركز النقاش في مؤتمر الجماعة الأول المنعقد في مايو 1933 على المشكلة الخاصة بنشاط البعثات التبشيرية المسيحية وأساليب مواجهتها. وأرسلت الجماعة خطاباً إلى الملك فؤاد أعربت فيه عن اعتقادها بضرورة اخضاع البعثات التبشيرية الأجنبية للرقابة الحكومية الصارمة.(13)

4) بناء التنظيم

إلا أن جماعة الإخوان المسلمين تجاوزت سريعاً حدود الدعوة الدينية المحافظة، وبدأ حسن البنا في تحويل الجماعة من جمعية دينية إلى تنظيم سياسي جماهيري حديث.

وعلينا لفهم الطبيعة الطبقية للإخوان المسلمين ألا نعتمد فقط على تحليل دعايتهم أو تكتيكاتهم، وإنما يجب علينا أيضاً التدقيق في الأساليب والمناهج والاستراتيجيات التي تبنتها الجماعة من أجل النمو والانتشار وخلق الجذور الجماهيرية.

التجنيد المكثف كان أول مرحلة في عملية البناء التنظيمي من خلال الدعاية والاتصال والإعلام.

وقد تركز المؤتمر الثاني (نهاية عام 1933) حول مسائل الإعلام والدعاية للجماعة.

وأقر تأسيس شركة لإنشاء مطبعة خاصة للإخوان المسلمين.

وأصدرت الجماعة بعد المؤتمر عدة صحف: في البداية صدرت "جريدة الإخوان المسلمون" الأسبوعية وبذل الإخوان جهداً ضخماً لزيادة توزيعها (وقد استمرت الجريدة في الصدور حتى عام 1938 حين توقفت بسبب النزاع بين البنا ورئيس تحريرها محمد الشافعي).

ثم أصدرت الجماعة مجلة النذير الناطقة باسم الجماعة، كما قام البنا بإعادة إصدار المنار التي كان يصدرها رشيد رضا فيما سبق. هذا إضافة إلى طباعة "الرسائل"، التي أصبحت المصدر الرئيسي للتثقيف داخل الجماعة.

وتتكون الرسائل، التي كتبها حسن البنا، من رسائل الجماعة الموجهة للحكومة المصرية ومسئوليها حول وضع المجتمع المصري والطريق إلى الإصلاح، وأيضاً رسائل كتبت للأعضاء حول الأفكار والمهام والمسئوليات الملقاة على عاتقهم. (14)

وقد نجحت الجماعة من خلال النشاط الدعائي المكثف في وضع أسس نموها السريع خاصة داخل أوساط الطبقة الوسطى الحديثة، التي شكلت جمهور القراء لأدبيات الإخوان المتعددة والمتنوعة.

وإذا كانت هناك الكثير من التفسيرات المتباينة لسرعة نمو وانتشار جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه مما لا شك فيه أن القدرات التنظيمية الفذة لحسن البنا، وفهمه لأهمية أساليب الدعاية الحديثة وعملية التجنيد، لعبت دوراً محورياً في تحويل مجموعة صغيرة من الدعاة في نهاية العشرينات إلى أكبر تنظيم سياسي في البلاد مع مطلع الأربعينات.

في عام 1933، عندما عقدوا مؤتمرهم الأول في الإسماعيلية، كانت الجماعة تضم 15 فرعاً (فرع في القاهرة، وخمسة أفرع في مدن القناة، والباقي في منطقة الدلتا).

وبمجرد النظر إلى الأرقام الخاصة بنمو العضوية والتشكيلات التنظيمية للجماعة سيظهر لنا على الفور أننا أمام ظاهرة استثنائية. ففي منتصف عام 1936 بلغ عدد أفرع الجماعة إلى ما بين 100 و150 فرع. وقد بلغ عدد الأفرع 216 فرع في منتصف عام 1937، ثم 500 في بدايات عام 1941 وأكثر من 1000 عام 1943.

وكانت هذه الأفرع مقسمة إلى ثلاثة مستويات طبقاً لدرجة التطور والتماسك (العاملة والمجاهدة والمختارة). (15)

وأيضاً نما حجم العضوية بمعدل سريع منذ بداية الثلاثينات، فقد بلغ عدد أعضاء الجماعة في عام 1935 ألف عضو، وفي عام 1936 وصل إلى ما بين 3 و5 آلاف عضو، ثم إلى 20 ألف عضو في عام 1937.

وقد مكن النمو السريع للجماعة في أوساط المتعلمين والمهنيين من إحداث طفرة في حجم وطبيعة العمل الخيري داخل المناطق الفقيرة. ففي عام 1934 صارت هناك مؤسسات ومشاريع خيرية في الغالبية العظمى من أفرع الجماعة.

وفي عام 1935 بدأت بعض الأفرع في تقديم خدمات صحية مجانية، وفي نفس العام أنشأ الإخوان أولى عياداتهم الصحية في منوف، ثم أنشؤا أول مستشفياتهم في المنصورة التي أصبحت تعالج ما بين 50 و100 مريض بحلول عام 1938. (16)

وفي نهاية الثلاثينات بادر الإخوان بتأسيس مشروع لمحاربة الأمية، وقاموا بإرسال مجموعات من شبابهم المتعلمين لتعليم القراءة والكتابة في المقاهي الشعبية والنوادي والقرى.

وقد امتلك الإخوان القدرة على القيام بكافة تلك المشاريع بسبب نجاحهم في التجنيد الواسع داخل أوساط المتعلمين من طلاب وأطباء ومدرسين.

وقد تمكنت الجماعة من خلال تلك النشاطات في تكوين شبكة واسعة من العلاقات والمتعاطفين وسط الأحياء الشعبية والقرى.

وإذا كان الانتشار الواسع للجماعة اعتمد في الفترة الأولى وحتى منتصف الثلاثينات على الدعاية والعمل الخيري فقد أصبح من الضروري تطوير الشكل التنظيمي لها بحيث يتلائم مع الحجم والإمكانيات الجديدة. وقد ناقش المؤتمر الثالث (مارس 1935) شروط العضوية ومسئولياتها والبنية التنظيمية، واتخذ قراراً بتنظيم تشكيلات الجوالة.

وقد تقرر فصل التنظيم الإداري للجماعة، ووضعت مستويات للعضوية تبدأ بالأخ المساعد ثم الأخ المنتسب ثم الأخ العامل ثم المجاهد، وتحديد هيئات الجماعة بأنها المرشد العام ومجلس الشورى الذي يتكون من نواب المناطق ونواب الأقسام ونواب الفروع ومجالس الشورى المركزية ومؤتمر المناطق ومندوبي المكاتب وفرق الرحلات وفرق الأخوات. (17)

صار هناك هدفان أساسيان في تلك المرحلة: أولاً خلق آلية مرنة وفعالة للاستمرار في التوسع والتجنيد. وثانياً تكوين آليات تنظيمية لدمج العناصر الجديدة في الجماعة وتوسيع شبكة الكوادر المحترفة وشبه المحترفة. وللمساهمة في تحقيق ذلك تشكلت في صيف 1936 الفرق الصيفية التي كان دورها الرئيسي هو التجنيد وخلق جذور للجماعة في مختلف أنحاء البلاد.

وقد تشكلت هذه الفرق بالكامل من الطلاب أعضاء الجماعة. وكان يحدد لكل فرقة منطقة جغرافية (عدد من المراكز) وتتفرغ كل فرقة خلال شهور الصيف للدعوة والتجنيد داخل المنطقة المحددة.

وقد تم جمع التبرعات بشكل واسع لتمويل رحلات وتنقلات الفرق الصيفية، كما تم دفع كافة الأفرع لمساعدة وتسهيل مهام الفرق.(18)

وقد تزامن تطور العمل الطلابي للجماعة وتشكيل الفرق الصيفية مع اندلاع الثورة الفلسطينية الأولى عام 1936.

دفع ذلك الجماعة إلى القيام بحملة واسعة لجمع التبرعات لدعم الشعب الفلسطيني في مواصلة الإضراب الذي امتد من عام 1936 وحتى عام 1939.

وقامت في ذلك الوقت بتنظيم المظاهرات وتوزيع البيانات والكتيبات وإلقاء الخطب دفاعاً عن القضية الفلسطينية. (19)

لقد طور البنا شكلاً تنظيمياً يتميز بدرجة عالية من المركزية. فالمستويات التنظيمية للجماعة تبدأ بالهيئة التأسيسية وهي السلطة الأولى، وتتكون من 150 عضواً، وهي بمثابة مجلس الشورى العام.

بعدها تأتي الجمعية العمومية لمكتب الإرشاد وتضم من سبقوا في العمل للدعوة، ومهمتها الإشراف العام على سير الدعوة واختيار أعضاء مكتب الإرشاد ومراجعة الحسابات، وهي من يمنح حق العضوية لنفسها بمعنى أنها شكلت أولاً بالاختيار ثم تتولى هي ضم الأعضاء الجدد لها على طريقة المجامع ولا تأتي عضويتها بالانتخاب من أسفل. والمرشد العام ذو الوضع المتميز عن مكتب الإرشاد: وهما يكونان معاً المركز العام.

ويتفرع عن المركز العام المكاتب الإدارية، والمكتب تخضع له المنطقة والمنطقة تخضع لها الشعبة. واللجان التي تدير أياً من مستويات الفروع يتم تعيين المستوى الأعلى فيها ذو المسئوليات الرئيسية وينتخب الآخرون.

كان التنظيم إذن تنظيماً هرمياً يعطي صلاحيات واسعة للمرشد ولمكتب الإرشاد.

هذه المركزية الشديدة لا تعود إلى الطابع الديني للحركة كما يصور البعض (على غرار رفعت السعيد) إنما تعود إلى نوع المهام السياسية التي طرحتها الحركة على نفسها في ظل ظروف تاريخية بعينها.

والمؤكد أن تلك المركزية الشديدة كانت سمة سادت في ذلك الوقت داخل الكثير من التنظيمات السياسية العلمانية وعلى رأسها المنظمات الشيوعية الستالينية التي، رغم تبنيها لمبادئ المركزية الديمقراطية (أي التوازن بين الديمقراطية في اتخاذ القرار والمركزية في تنفيذه) كانت في الواقع تلغي الديمقراطية من المعادلة، حيث امتلك السكرتير العام في الأحزاب الشيوعية وقتها سلطات لا تختلف عملياً عن سلطات المرشد العام في حالة الإخوان.

5) أزمة ما بعد الحرب

كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول هامة في التطور الاقتصادي والسياسي في مصر.

فعلى المستوى الاقتصادي شكل الوجود الضخم للقوات البريطانية المتمركزة في مصر سوقاً واسعاً لمنتجات الصناعة المصرية، ومن جانب آخر أدى انقطاع كثير من خطوط التجارة العالمية خلال الحرب إلي طفرة في الصناعة لاستبدال الواردات، فشهدت صناعات عديدة كانت نمواً استثنائياً.

كما أدت الحرب العالمية إلى نشوء عدد من الصناعات الحديثة مثل صناعة الكيماويات وصناعة الدواء (25 شركة) وصناعة الورق والزجاج والمواسير وقطع غيار الميكنة. وقد توسعت أيضاً صناعة النسيج فزاد إنتاج الغزل بنسبة 65% والأقمشة بنسبة 100% خلال الحرب. (20)

لكن مع انتهاء الحرب وخروج غالبية القوات البريطانية المتمركزة في مصر وعودة التجارة الخارجية إلى وضعها السابق دخل الاقتصاد المصري في أزمة عنيفة، وأغلقت مئات المصانع وشرد الآلاف من العمال. واندلعت حركة عمالية نشطة لعبت في صفوفها الحركة الشيوعية دوراً مؤثراً.

وعلى المستوى السياسي صار الوفد يعاني من فقد ما تبقى له من شرعية بين الجماهير، بعد قبوله لتولي السلطة بإرادة الاستعمار وعبر حصار الدبابات البريطانية للقصر الملكي في أزمة فبراير عام 1942 الشهيرة. هذا إلى جانب فضائح الفساد المتكررة داخله واندفاع قياداته يميناً.(21)

مع نهاية الحرب بدأ الوفد محاولات لاستعادة شرعيته المفقودة بالتعبئة من جديد ضد الاستعمار والملك. وتحرك الإخوان بسرعة لمنافسة الوفد والشيوعيين في الحركة الوطنية المتصاعدة وخاصة في الجامعات. ودعت جماعة الإخوان لمؤتمر شعبي يعقد في القاهرة وفي سبعة مراكز رئيسية في الأقاليم، وذلك في بداية أكتوبر عام 1945 بهدف مناقشة القضية الوطنية وتحديد وصياغة المطالب بصددها. وعلى الفور بدت ملامح صراع وتنافس حول قيادة الحركة الوطنية بين الإخوان والوفد خاصة في الجامعة، العصب الرئيسي للنشاط الوطني.(22)

كان هناك تذبذب دائم في العلاقة بين الوفد والإخوان. فالجناح اليميني للوفد بقيادة فؤاد سراج الدين كان يرى ضرورة الاستفادة من الإخوان ضد خطر الانفجارات الاجتماعية والحركة الشيوعية التي تنامت خلال الحرب.

لكن النحاس كان شديد الخوف من أن تؤدي تلك المغامرة إلى مزيد من الخسائر للوفد أمام اكتساح الإخوان.

ومن الواضح أنه خلال فترة العامين 1946 و1947 كان يُنظر لجماعة الإخوان من قبل القصر وحكوماته كأداة لمناهضة الوفد والشيوعيين.

حصل البنا من حكومة صدقي على عدد من التسهيلات في هذا السياق منها ترخيص بإصدار جريدة الإخوان المسلمون، وتسهيلات في شراء ورق الطباعة بتوفير من 20 إلى 30% عن سعر السوق، إلخ. (23)

لكن حتى في فترة التقارب تلك كان موقف الجماعة مليء بالتناقضات، وموقف القصر مليء بالمخاوف. فصحافة الجماعة مثلاً أبدت في معظم الحالات عداءاً سافراً لحكومات الأقلية المتعاقبة الموالية للقصر ولسياساتها، واستمرت الصدامات المباشرة بين الأمن والجماعة في المظاهرات والمؤتمرات الشعبية.

ولم يكن من الغريب أن تنهار حالة التوافق بين الفريقين بالشكل الدرامي الذي حدث عام 1948. (24)

في هذا الوقت ظهر استقطاب واضح في صفوف الطلبة ـ وقود الحركة الوطنية ـ داخل الجامعة ما بين الوفد والشيوعيين من جانب وبين الإخوان والحزب الوطني ومصر الفتاة من جانب آخر.

وقد لعب الإخوان أدواراً سلبية وانقسامية خلال أحداث عام 1946 سواء داخل الحركة الطلابية أو الحركة العمالية، حيث وصلت رغبتهم في منافسة الوفد والشيوعيين إلى حد تخريب الاضرابات وتقسيم المظاهرات، مما دعم الميول داخل القصر والجناح اليميني في الوفد للاهتمام بهم ودعمهم وتأييدهم.

وقبل سفر صدقي إلى لندن للتفاوض في أكتوبر 1946 أرسل البنا خطاباً إلى الملك وإلى صدقي منادياً "دعوة الأمة إلى الجهاد"، بمقاطعة إنجلترا اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.

وفي رسالة إلى "شعب وادي النيل" أعلن محذراً: "إن حكومة صدقي باشا، في إصرارها على إجراء المفاوضات، لا تمثل إرادة الأمة، وأي معاهدة أو تحالف تتوصل إليه مع بريطانيا قبل أن يتم جلاء قواتها، هو إجراء باطل ولن يلزم الأمة".

وفي اليوم السابق على رحيل صدقي إلى إنجلترا دعت الجماعة إلى مظاهرات ضخمة في جميع أنحاء البلاد. (25)

6) حرب فلسطين

بعد تبني الأمم المتحدة قرار التقسيم في نوفمبر عام 1947، أصبحت القضية الفلسطينية من جديد أكثر القضايا السياسية إلحاحاً في الساحة السياسية المصرية.

هذا الإلحاح لم ينتج فقط عن الشعور بتهديد الهوية الإسلامية والعربية لفلسطين عموماً والقدس خصوصاً بسبب إنشاء دولة يهودية استيطانية على أرضها، وإنما نتج عن طبيعية دور هذه الدولة الاستيطانية في السياسات الاستعمارية البريطانية ومن بعدها الأمريكية.

ولذا لم يكن منطقياً فصل المعركة ضد الاستعمار البريطاني في مصر عن المعركة ضد الصهيونية في شكلها المسلح في فلسطين.

وكما ذكرنا من قبل كانت القضية الفلسطينية إحدى المحاور الأساسية لعمل جماعة الإخوان منذ اندلاع ثورة عام 1936.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة بدأت الجماعة في إرسال مبعوثين إلى فلسطين، ليس فقط لنشر الدعوة وإنما أيضاً للتدريب وللمساعدة في التحريض والتنظيم والقتال ضد الصهاينة. (26)

وظلت القضية الفلسطينية في قلب العمل الدعائي والسياسي للجماعة في مصر من خلال الإشارة الدائمة لها في الصحف والكتيبات والخطب والأحاديث العامة.(27)

وقد اشترك البنا في تشكيل "لجنة وادي النيل" في نوفمبر عام 1947 لجمع المال والسلاح للمتطوعين الذين يتم تجنيدهم "لإنقاذ فلسطين" وكان مصطفى مؤمن هو ممثل الجماعة في تلك اللجنة.(28)

وفي أكتوبر عام 1947 طالب البنا كافة شُعب الجماعة بالبدء في الاستعداد للجهاد. وفي 20 أكتوبر توجهت الكتيبة الأولى إلى فلسطين.

وفي أبريل عام 1948 أُرسلت الكتيبة الأولى الرسمية من المتطوعين إلى العريش على الجبهة. وقبل أن يصل المتطوعون الرسميون القادمون تحت إشراف الجامعة العربية كانت كتائب الإخوان قد اشتبكت بالفعل مع الصهاينة في صحراء النقب.(29)

وقد لعب الإخوان دوراً هاماً في مساعدة القوات المصرية المحاصرة في الفالوجا وهو الحصار الذي نشأ بعد خرق الصهاينة للهدنة الثانية في أكتوبر عام 1948.

فقد عمل الإخوان أثناء وجودهم في الميدان على نقل المؤن إلى القوات المحاصرة، وفي القاهرة شاركت الجماعة في الضغط على الحكومة المصرية من أجل المزيد من المتطوعين لفك الحصار عن القوة المحاصرة، لكن النقراشي رفض ولم يتم فك الحصار إلا في فبراير التالي. (30)

لقد فسر الكثيرون كفاح الجماعة المسلح ضد الصهيونية بطريقة تآمرية، واعتبروه موقف انتهازي من جانبها يهدف إلى الاستعداد للاستيلاء بالسلاح على السلطة في مصر.

هكذا يرى رفعت السعيد مثلاً: "إن القضية الفلسطينية قد أتاحت امكانيات عدة أمام الإخوان .. فمن خلال تأييدها اتضح البعد الإسلامي والعربي للجماعة، ومن خلالها أيضاً أمكن للجماعة أن تمد نشاطها إلى المنطقة العربية كلها .. لكن أكثر ما يعنينا في هذا الفصل هو أن مساندة الثورة الفلسطينية عام 1936 ثم الاستعداد للمشاركة في حرب فلسطين 1948 كانا الفرصة الذهبية أمام الشيخ البنا ليحشد ترسانة ضخمة ويدرب رجاله علناً تحت ستار الإعداد لحرب فلسطين". (31)

وهكذا أيضاً يشير أحمد حسين إلى أن حرب فلسطين قد أمدت الإخوان :

"بفرصة ذهبية لحشد السلاح والتمرن على استعماله بدعوى أنه من أجل فلسطين، وأن الإخوان كان لديهم كميات من الأسلحة والذخائر جمعوها تحت ستار تجهيز المتطوعين إلى فلسطين وهم يعدونها لإحداث انقلاب في مصر بالقوة". (32)

والغريب أن هذا التفسير التآمري يتغافل دائماً عن حقيقة لا لبس فيها هي ارتباط المعركة ضد الصهيونية بالنضال ضد الاستعمار في وعي الجماهير المصرية، وهكذا كلما ظهر للجماهير في مصر العلاقة بين قضية تحررهم والقضية الفلسطينية كلما نجح الإخوان بسبب دورهم الكفاحي في كسب المزيد من الشباب الغاضب إلى صفوفهم. والمؤكد ـ وهي حقيقة لا يمكن التشكيك فيها ـ أن الجماعة لعبت منذ عام 1936 دوراً محورياً في مساندة الشعب الفلسطيني وفي الكفاح ضد الصهيونية.

هذا لا يعني أن موقف الإخوان من القضية الفلسطينية كان بلا نواقص أو عيوب، لكن عيوب موقفهم لا تكمن في مدى صدق نواياهم أو انتهازيتهم، وإنما تكمن في إضفائهم طابع ديني على القضية يجعلها محض صراع بين اليهود والمسلمين ممتد عبر التاريخ، وبكل ما يتضمنه ذلك من عنصرية تجاه اليهود ككل، وتغييب للجوهر الإمبريالي للمشروع الصهيوني وعلاقته بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية للقوى العظمى.

وإذا كان كفاح الإخوان ضد الصهيونية أدى إلى نجاحهم في ضم جماهير واسعة من الشباب الغاضب إلى صفوفهم، ففي المقابل أدى الموقف المتخاذل لليسار المصري من قرار التقسيم وإنشاء دولة إسرائيل إلى فقدانه لتلك الجماهير وانعزاله عنها.

لقد كان الاتحاد السوفيتي أول من اعترف بقرار التقسيم، ونتج عن ذلك الاعتراف حالة من التخبط الشديد في أوساط اليسار المصري والعربي عموماً. فالمنظمات الشيوعية المصرية وقتها كانت تعتبر الاتحاد السوفيتي قلعة الاشتراكية العالمية، وصارت بالتالي تابعة أيديولوجياً وسياسياً للحزب الشيوعي السوفييتي. وبدلاً من نقد الموقف السوفييتي وفضحه بصفته مناورة تهدف إلى خدمة المصالح الخارجية الاستراتيجية لروسيا في ذلك الحين، تبنت غالبية المنظمات الشيوعية في مصر موقفاً من قرار التقسيم كان مجرد تبرير وترديد للموقف السوفييتي. فنقرأ مثلاً في مقالة بجريدة "الجماهير" هذا التبرير الهزلي:

"إن زعماء العرب وزعماء اليهود قد رفضوا التعاون، ورفضوا اقتراح جروميكو الذي تقدم به منذ 14 مايو الماضي والذي يرمي إلى إنشاء دولة موحدة ثنائية مستقلة .. هناك لم يكن بد أمام الديمقراطيين ومحبي الشعوب، وأعداء الاستعمار إلا أن يقبلوا حل التقسيم كأساس لإعلان استقلال فلسطين". (33)

وفي رد على انتقاد أحمد حسين لقرار التقسيم بصفته طريقة لمنح الصهاينة فلسطين يقول نفس المقال:

"كلا يا فاشي إننا لا نريد انتزاع فلسطين من يد العرب والمسلمين لنعطيها لليهود، إننا نريد انتزاعها من يد الاستعمار لنعطيها للعرب واليهود دولة مستقلة ديمقراطية ويجب أن يعلم أحمد حسين وأمثاله أننا لا نوافق على مشروع التقسيم إلا مضطرين وكأساس لاستقلال فلسطين". (الجماهير 19/5/1947) (34)

كان قبول أغلبية الشيوعيين المصريين في ذلك الحين لقرار التقسيم، وبالتالي قبول وجود دولة إسرائيل جريمة لم تغفرها الجماهير المصرية.

وقد ساعد موقف الشيوعيين هذا الإخوان كثيراً، فبينما يستشهد مناضلي الإخوان في الصفوف الأمامية خلال حرب 1948 يقوم اليسار بصدمة الجماهير الغاضبة ويعترف بإسرائيل، بل ويعلن أن الحرب ليست إلا مناورة من الاستعمار والرجعية لتحويل أنظار الجماهير المصرية عن معركتهم الوطنية.

موقف الشيوعيين المصريين هذا من القضية الفلسطينية لم ينتج عن ـ كما يدعي طارق البشري وغيره من الكتاب الإسلاميين ـ تواجد بعض اليهود في قيادات الأحزاب الشيوعية المصرية.

فكثير من هؤلاء ناضلوا ببسالة ضد الصهيونية وأنشئوا الرابطة اليهودية لمحاربة الصهيونية.

هذا الموقف نتج عن الولاء الأعمى للاتحاد السوفييتي، الذي حول الكثير من الأحزاب الشيوعية في مختلف أرجاء العالم إلى مكاتب تخدم السياسة الخارجية الروسية بدلاً من كونها أحزاب ثورية مستقلة.

والغريب أن بعضاً من شيوعيو ذلك الزمن ظلوا يبررون هذا الموقف حتى اليوم. هكذا نقرأ تعقيب لخالد محي الدين نُشر في كتاب رفعت السعيد "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية":

"يجب أن نضع في الاعتبار أن اليسار المصري كان يقبل التقسيم كسبيل لاستقلال فلسطين .. وأيضاً فإن اليسار المصري وهو يقبل مشروع التقسيم، ويؤكد في نفس الوقت أنه حل سيء لكنه المتاح الوحيد .. لابد لي من أن أقرر أن هذا الموقف من جانب اليسار المصري كان في أغلب جوانبه صحيحاً، وكان أيضاً موقفاً شجاعاً، بل ونادر الشجاعة، ذلك أن الشيوعيين المصريين قد تمسكوا به في وجه تيار قوي جارف مشحون بالعواطف القومية والدينية التي رفضت قرار التقسيم .. ويمكنني أيضاً أن أقول بإطمئنان أن الأيام قد أثبتت أن موقف اليسار هذا كان أكثر المواقف تعقلاً وموضوعية والتقاء مع حقائق الوضع وتوازنات القوى". (35)

7) البرنامج الاقتصادي والاجتماعي

أحد الاتهامات الأساسية التي توجه عادة إلى جماعة الإخوان هو الغموض في تناول القضايا الاجتماعية والسياسية وغياب البرامج الملموسة. وسنجد مثلاً رفعت السعيد في تأريخه للإخوان يطرح: "في رسالته "إلى أي شيء ندعوا الناس" أشار المرشد إلى قضايا العصر قائلاً أن العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة والصلة بين المالك والمستهلك كلها خاض فيها الإسلام. ثم عاد البنا فقال:

"أن المقام لا يسمح بالتفصيل وبأن الأمر يحتاج لجولات"

ووعد أن يفصل فيها القول. ولم يف البنا بوعده أبداً ذلك أنه كان دائماً غامضاً في حديثه عن المقترحات التفصيلية والمتعلقة بالحكومة الإسلامية، وأنه لم يحدث مطلقاً أن شرح نواياه بوضوح". (36)

ويكرر السعيد تأكيده لغياب برنامج محدد في خطاب الإخوان:

"لا يقدم البنا أي برنامج سياسي، بل لعله قد تهرب كثيراً من تحديد أي موقف سياسي واضح من أية قضية قومية أو وطنية أو اجتماعية". (37)

إلا أن البنا شرح باستفاضة في ورقة هامة بعنوان "مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي: النظام الاقتصادي" برنامج الإخوان الاقتصادي والاجتماعي، وسنلاحظ بوضوح أن مشكلة ما يطرحه البنا ليست في غموضه أو عدم تحديده أو غياب البرنامج عنه، وإنما في الطبيعة الوسطية والمتناقضة لمشروعه التي تنبع في الأصل من الطبيعة الطبقية للإخوان.

فعلى صعيد الموقف من السيطرة الأجنبية على الاقتصاد المصري لا يختلف موقف البنا عن مجمل مواقف القوى الوطنية الأخرى:

"إن الأجانب الذين احتلوا هذا الوطن .. قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه، شركات أو أفراداً، فالصناعة والتجارة والمنافع العامة والمرافق الرئيسية كلها بيد هؤلاء الأجانب". (38)

والحل الذي يطرحه هو ضرورة تمصير الشركات:

"الأصول التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الإسلامي توجب الاهتمام الكامل بتمصير الشركات، وإحلال رؤوس الأموال الوطنية محل رؤوس الأموال الأجنبية كلما أمكن ذلك، وتخليص المرافق العامة من يد غير أبنائها". (39)

لكنه، بالطبع، لا يطالب بتأميم تلك الشركات وإنما فقط بتحويل ملكيتها من رأس المال الأجنبي إلى رأس المال المصري.

ورؤية البنا حول التفاوتات الطبقية في المجتمع المصري تعبر بصدق ووضوح عن المضمون الطبقي لمشروعه:

"إن التفاوت عظيم والبون شاسع، والفرق كبير، بين الطبقات المختلفة في هذا الشعب، فثراء فاحش وفقر مدقع. والطبقة المتوسطة تكاد تكون معدومة، والذي نسميه نحن الطبقة المتوسطة ليس إلا من الفقراء المعوزين وإن كنا نسميهم متوسطين". (40)

وهو يقدم في مواجهة ذلك حلاً وسطياً إصلاحياً يهدف إلى تغيير الأمور لكن دون صراع طبقي:

"ضرورة تقريب الشقة بين مختلف الطبقات، تقريباً يقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع".(41)

الجانب العملي لهذا الهدف الوسطي الإصلاحي من وجهة نظر البنا يتضمن جانبين، الأول هو الإصلاح الزراعي:

"توجب علينا روح الإسلام الحنيف، وقواعده الأساسية في الاقتصاد القومي، أن نعيد النظر في نظام الملكيات في مصر، فنختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع، ونشجع الملكيات الصغيرة .. وأن نوزع أملاك الحكومة حالاً على هؤلاء الصغار كذلك حتى يكبروا". (42)

الاقتراح العملي الثاني الذي يطرحه البنا "لتقريب الشقة بين الطبقات" هو الضرائب التصاعدية:

"لابد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدي بحسب المال لا بحسب الربح يعفى منها الفقراء طبعاً، وتجبى من الأغنياء الموسرين وتنفق في رفع مستوى المعيشة بكل الوسائل المستطاعة". (43)

ويعود البنا ليؤكد أن هذه المقترحات يجب ألا تمس قدسية الملكية الخاصة:

"تقرير حرمة المال واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة.

فقد امتدح الإسلام المال الصالح وأوجب الحرص عليه وحسن تدبيره وتثميره، وأشاد بمنزلة الغنى الشاكر الذي يستخدم ماله في نفع الناس ومرضاة الله". (44)

هذه النقاط البرنامجية، ورغم عموميتها وعدم تعرضها للتفاصيل، تؤكد بوضوح على الطبيعة الطبقية لرؤية البنا.

هو لا يمثل بأي حال مصالح كبار الملاك والرأسماليين، هذا واضح في دعوته للإصلاح الزراعي وفرض ضرائب تصاعدية، وهي أمور كانت الطبقات المالكة تعارضها بشدة.

وهو بالتأكيد لا يعبر عن مصالح الاستعمار البريطاني ورأس المال الأجنبي، فهو يدعو وبلا أية مواربة إلى التخلص منهما.

لكنه في ذات الوقت لا يعبر عن مصالح الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين، فهو يعادي بقوة أي مساس بالملكية الخاصة سواء بالتأميم في حالة الصناعة أو بإصلاح زراعي جذري في حالة الزراعة.

يدافع الإخوان عادة عن هذه الرؤية باعتبارها لا تعبر عن مصالح أية طبقة اجتماعية، وإنما تعبر عن مصلحة الأمة أو الوطن أو صحيح الدين. إلا أنها في واقع الأمر كانت ولازالت تعبر عن مصالح الطبقة الوسطى الحديثة وامتداداتها في أوساط البرجوازية الصغيرة التقليدية في الريف والمدينة.

فهؤلاء كانوا يعانون بشدة من سيطرة الملكيات الكبيرة في الريف، لكنهم في ذات الوقت يريدون حماية الملكيات الصغيرة والمتوسطة من مخاطر ثورة فلاحية تطيح بنظام الملكية لصالح الفلاحين الفقراء والمعدمين.

وهؤلاء كانوا يعانون أيضاً من سيطرة كبار الرأسماليين ورأس المال الأجنبي على الصناعة والبنوك والمؤسسات الحديثة، لكنهم بالتأكيد لم يكن بينهم من يريد تأميم تلك القطاعات لصالح العمال، مما كان سيهدد المنظومة الطبقية التي ظلوا دائماً يبحثون عن مكانة متميزة لهم فيها.

وتؤكد كتابات محمد الغزالي، الذي كان في النصف الثاني من الأربعينات أحد أهم مفكري الإخوان، على ذلك المضمون الطبقي لخطابهم. ففي كتابه "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" ينتقد الغزالي الشيوعية والرأسمالية لموقفهما من الدين:

"فقد أنكرت الشيوعية الدين لأنها حسبته مخدراً للشعوب ومسكناً لآلام الطبقات المظلومة وصارفاً لهمم أبنائها من المطالبة بحقوقهم المضيعة.

واحتقرت الرأسمالية الدين إذ توسلت به لإشباع المطامع الجشعة وإقرار الفوارق الجائرة.

والدين مظلوم بين من كفروا به ومن جحدوه.

بين الشيوعية المتطرفة والرأسمالية المتعجرفة".(45)

وسرعان ما يتضح الجوهر الطبقي لذلك النقد:

"إن المساواة المطلقة خرافة والتفاوت المفتعل بغير سبب معقول مرفوض من أساسه فالناس سواء في الحقوق العامة". (46)

ويظل ذلك التضارب بين رفض الظلم والفوارق الطبقية ورفض المساواة وإلغاء الفوارق ملازماً لفكر الغزالي فيقول:

"إن الطبقات المترفة، مصدر فساد عريض، ومثار فتن متجددة. إن أساس التأخر وسبب الدمار الذي يصيب الأوطان والشعوب هو من هذه الطبقات". (47)

ثم يعود ويدافع باستماتة عن قدسية الملكية الخاصة:

"حرية التملك جزء من الحرية الشخصية التي نحترمها ونود لو أحيطت بألف سياج. من حق أي إنسان أن يعمل وأن ينال ثمرة عمله كاملة، وأن يستمتع بنتائج جهده وأن يورث أبناءه ما اكتسب". (48)

بعد ذلك يعود ليؤكد أن:

"الملك الحلال لابد أن تخرج منه حقوق شتى .. وما بقي بعد ذلك لا يجوز أن يكو سناداً لتطاول أسر متكبرة تحاول بقوة المال أن تحكم وتتصدر وتسوق الجماهير بثرائها وبعصاها.

والواقع أن الغنى النظيف الناتج عن الكسب الشريف المبذول في خدمة المثل العليا والنواحي الفاضلة هو لا ريب منتهى ما ينشده الدين لأتباعه في هذه الحياة.

لا يكون الغنى طيباً إلا إذا عرفت مصادره فكانت متفقة مع شرعية الله وإلا إذا حسن العمل فيه فجرت نفقته على ما يرضي الله". (49)

هكذا نجد من جديد وبوضوح الجوهر الطبقي للخطاب الإخواني، والتعبير الصافي عن الطبقة الوسطى بقطاعاتها الحديثة والتقليدية في هذا التوازن الوسطي الإصلاحي بين قبول الملكية الخاصة بل والدفاع عنها، وبين وضع القيود عليها عندما تخرج عن نطاق الملكيات الصغيرة والمتوسطة.

ونلاحظ النقد اللاذع للملكيات الكبيرة بكل ما تعني من احتكار وظلم وفساد، وفي ذات الوقت الدفاع المستميت عن الملكية الأخلاقية النظيفة المثالية ـ أي الصغيرة.

والغزالي يصل إلى استنتاجات عملية أكثر راديكالية مما طرحه البنا. هو مثلاً مع تدخل واسع النطاق للدولة في إدارة الاقتصاد:

"أجل فلتفرض الدولة على الأملاك ما تشاء من قيود، وعلى الأموال ما تشاء من ضرائب، وعلى الأوضاع الاقتصادية ما تشاء من النظم، فإن الدين ظهيرها في هذه الوسائل ما دامت تريد من ورائها حماية جمهور الشعب من أن يسقط فريسة سهلة للاستعمار الداخلي أو الخارجي على السواء". (50)

وبشكل أكثر وضوحاً يطرح الغزالي أنه:

"إذا اتسعت حاجات الناس باتساع الحضارة وتغير الزمن فعلى الحكومة أن تضع يدها ـ باسم الشعب ـ على مصادر الثروة العامة، وأن تقصي المحتكرين أفراداً كانوا أو شركات من محاولة استغلالها لأنفسهم وتسخيرها وتسخير الشعب معها لمطامعهم". (51)

هذا بالتأكيد لم يكن خطاباً يعبر عن مصالح الرأسمالية الكبيرة أو الملك أو الاستعمار، لكنه أيضاً لم يكن خطاباً ثورياً يريد القضاء على النظام الطبقي القائم.

ولم تكن التناقضات في خطاب الإخوان تقتصر على القضايا الاقتصادية والاجتماعية بل شملت أيضاً موقفهم من الشرعية والدستور، فقد كتبت مجلة النذير في عددها رقم 33:

"ما كان للإخوان المسلمين أن تنكر الاحترام الواجب للدستور بوصفه نظام الحكم المقرر في مصر ولا أن تحاول الطعن فيه أو إثارة الناس ضده وحضهم على كراهيته، ما كان لها أن تفعل ذلك وهي جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة وأن الثورة فتنة وأن الفتنة في النار".

إلا أن المرشد العام كان قد طرح عام 1938:

"لابد من جديد في هذه الأمة. هذا الجديد هو تغيير النظم المرقعة المهلهلة التي لم تجني منها الأمة غير الانشقاق والفرقة .. هو تعديل الدستور المصري تعديلاً جوهرياً توحد فيه السلطات".

وخاطب الناس بأن يستعدوا فإن استجاب الحكام للأمر كان بها، "وإذا أبوا فجاهدوهم به جهاداً كبيراً". (52)

وكما يلاحظ طارق البشري عن موقف حسن البنا :

"لم يحسم أبداً في دعوته ما إذا كان يقصد الإصلاح أم الثورة، وإذا كانت الثورة فتنة فكيف يمكن إجراء التغيرات الجذرية في الحكم؟". (53)

وقد كانت هذه التذبذبات والتناقضات في المواقف وفي الخطاب إحدى أسباب فشل الجماعة في مواجهة القمع الذي انهال عليها بعد حرب فلسطين.

8) المحنة والتفكك

أدى الدور الذي لعبه الإخوان في حرب فلسطين وتصعيد كفاحهم ضد الاحتلال البريطاني، وما واكب ذلك من توسع نفوذهم الجماهيري إلى توفير الأسباب الكافية لانقلاب القصر عليهم. وكما يلاحظ طارق البشري: "الثابت أن الإخوان في مرحلة ما وقفوا مع الملك وأيدوه.

والثابت باليقين نفسه أنهم في فترات أخرى تصارعوا معه، فكان الملك على رأس القوى التي حلت الجماعة في عام 1948، واغتالت المرشد العام بعد ذلك بشهرين تقريباً. والراجح أن أحزاب الأقليات الحاكمة أيدت الإخوان حيناً، وأنها صارعتهم من بعد، وألحقت بهم من إجراءات القمع والعذاب ما لم تعرفه قوة سياسية قبلهم في التاريخ الحديث. (54)

وكان القمع بالفعل استثنائياً فتم اعتقال الآلاف من الإخوان وفصل 150 موظفاً وشرد من القاهرة وحدها الى الوجه القبلي 500 موظف وأبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو ألف طالب. (55)

واتسعت دائرة الاعتقالات في صفوف الإخوان لتشمل 4000 معتقل، وتعرض المعتقلون لأقصى درجات التعذيب الوحشي الذي لم تعرف مصر مثله من قبل. (56)

وقد أدت في نهاية الأمر تلك الوسطية والخطاب المتناقض وانعكاسهما في تكتيكات البنا إلى المحنة والأزمة التي انتهت باغتياله. فرغم تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية في مصر في نهاية الأربعينات، ورغم قوة الإخوان المسلمين كأكبر وأنشط التنظيمات الجماهيرية لم يكن في استطاعة البنا تقبل فكرة الثورة بما تعنيه من تعبئة للعمال وفقراء الفلاحين ومن تهديد لأسس الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي، ولم يتقبل أيضاً أن يتحول إلى مجرد أداة في يد القصر لمواجهة الحركة الجماهيرية.

أغتيل البنا وهو في عامه الـ42 ولم يتمكن أبداً من تحقيق وعده للإخوان المسلمين الذي ظل يلهم حركتهم: "في الوقت الذي يكون فيه منكم ـ معشر الإخوان المسلمين ـ ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة.

في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله". (57)

الفصل الثاني: من ناصر إلى مبارك

1) بداية الحكم الناصري والموقف من الانقلاب

لم يكن الوضع القائم في مصر بعد حرب فلسطين 1948 قابلاً للاستمرار.

فالنظام الملكي كان يتهاوى وحزب الوفد صار مفتقداً لكل مصداقية وشرعية بعد أن فشل في تخليص البلاد من الاستعمار البريطاني ومن سيطرة رأس المال الأجنبي، بالإضافة إلى عجزه عن حل المسألة الزراعية.

ولم يعد كبار الملاك والرأسماليين بأحزابهم قادرين على مواجهة الغليان الجماهيري المتصاعد.

وفي ظل هذه الأجواء المحملة برياح التغيير والثورة لم تتمكن لا الحركة الشيوعية ولا جماعة الإخوان من البروز كبديل قادر على حسم الأمور.

فقد ظل الشيوعيون أسرى لاستراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية التي أملاها الاتحاد السوفيتي على الأحزاب التابعة له والمتأثرة به.

وبدلاً من النضال من أجل دور قيادي ومستقل للحركة العمالية المتصاعدة يجذب خلفه الفلاحين الفقراء والفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة ظل القطاع الأكبر من الشيوعيين في موقع التذيل للبرجوازية المصرية وحزب الوفد، وقد أكدت منظمة حدتو وهي أكبر التنظيمات الشيوعية موقفها بوضوح في جريدة الجماهير:

"إذا كانت أسلحة الاستعمار موجهة ضد الوفد والحركة العمالية فإن ذلك يربط بين الحركتين في حلف جماهيري يستند إلى برنامج وطني مشترك". (1)

وقد شل الإخوان ـ كما أوضحنا سابقاً ـ تذبذبهم الدائم بين مهادنة النظام ومواجهته، وبين العمل المسلح والعمل الإصلاحي، وبين العداء للملكية والوفد وبين التودد والتقرب إليهما، وبين قدرتهم على تعبئة الجماهير وخوفهم من تجاوز الجماهير الحدود الوسطية والإصلاحية لبرنامجهم، وهو ما ظهر بوضوح في مواقفهم المعادية للإضرابات العمالية المستقلة وللهجمات الفلاحية ضد كبار ملاك الأرض، هذا رغم كونهم أكبر التنظيمات السياسية وقتها من حيث العضوية والنفوذ الجماهيري.

وقد زاد من تخبط الإخوان موجة القمع التي تعرضوا لها بعد عام 1948 وغياب البنا، مما أضعف قيادة الجماعة وفتح المجال داخلها للانقسامات والتفكك.

كان الظرف إذن مهيئاً لاستيلاء ضباط الجيش على السلطة في يوليو عام 1952.

وما يهمنا في هذا المجال هو فهم المنعطفات الرئيسية في علاقة النظام الجديد بجماعة الإخوان المسلمين.

لقد بدأ الإخوان في تجنيد ضباط في الجيش منذ مطلع الأربعينات، وخلال الأربعينات كان الإخوان الأنجح بين القوى السياسية في خلق وجود تنظيمي داخل صفوف الجيش.

وقد أسسوا مجموعة "جنود الجيش الأحرار" التي أصدرت عدداً من البيانات التحريضية في عامي 1941 و1942. (2)

وفي 1944 شكل مكتب الإرشاد تنظيمان داخل الجيش والشرطة خارج نطاق التنظيم الخاص.

وقد عين حسن البنا الضابط صلاح شادي للإشراف على خلايا الإخوان في الشرطة، ومحمود لبيب في الجيش. (3)

لكن موجة القمع في عام 1948 ومقتل البنا أدى إلى تقلص النفوذ الإخواني داخل الجيش، لكنه ظل النفوذ السياسي الأكبر حتى انقلاب عام 1952.

وقد شهدت العلاقة بين الإخوان والضباط الأحرار ثلاثة مراحل متميزة. في الشهور الأولى بعد الانقلاب مباشرة حاول الضباط أن يحافظوا على علاقات ودية مع الإخوان، لكن دون التحالف المباشر معهم، فقد كان موقف النظام الجديد من الإخوان خليط من الخوف والاحتياج. الخوف بسبب قوة الإخوان الجماهيرية والاحتياج بسبب عزلة النظام عن أي قواعد جماهيرية مؤثرة.

ومع تحرك النظام للقضاء على الأحزاب السياسية القديمة توطدت العلاقة بينه وبين الإخوان في محاولة منه لكسب تأييداً جماهيرياً لإجرائاته السياسية.

لكن حتى ذلك التقارب كان مليئاً بالحذر والشكوك من الجانبين. فقد حاول عبد الناصر استغلال حالة الارتباك والانقسام داخل الجماعة بالتقرب من القيادات الشابة المناهضة للهضيبي في محاولة لإضعاف سيطرته وتعميق الانقسامات.

إلا أن الهضيبي كان لديه تقديراً صحيحاً لنية النظام في استغلال نفوذ الإخوان الجماهيري للسيطرة على السلطة، ثم التخلي عنهم والانقضاض عليهم.

وهكذا لم يقبل النظام أن يكون للإخوان أي دور قيادي مشارك للضباط في رسم السياسات، واكتفى بعرض مناصب ثانوية على بعض رموز الإخوان كمنح منصب وزير الأوقاف للباقوري الذي سرعان ما انقلب على الإخوان لصالح النظام. (4)

وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الإخوان في تأييد ودعم النظام الجديد خلال العام الأول من الانقلاب إلا أن شهر العسل لم يدم طويلاً، ففي أكتوبر 1954 وبعد سيطرة النظام على الوضع السياسي في أعقاب أزمة مارس جاءت محاولة اغتيال عبد الناصر على يد شاب من الإخوان المسلمين، التي عرفت بحادثة المنشية الشهيرة. وقد وفرت هذه المحاولة المناخ الذي احتاجه عبد الناصر للانقضاض على الإخوان، وتصفية تشكيلاتهم التنظيمية وعلى رأسها الجهاز السري بطريقة قمعية.

وسواء قبلنا تفسير الإخوان للحادث بأنه مدبر من قبل النظام، أو قبلنا التفسير الناصري بأنه كان جزء من مؤامرة لقلب النظام، أو اعتمدنا على التفسير الأكثر منطقية وهو أن الحادث جاء كمبادرة فردية من مجموعة إخوانية صغيرة دون علم المرشد، فالنتيجة النهائية كانت تمكن النظام من تدمير البنية التنظيمية للجماعة ليس فقط بالاعتقالات والمحاكمات والاعدامات لكن أيضاً بتأميم المؤسسات الخيرية والأهلية التي كان الإخوان قد بنوها عبر عقدين من النشاط المكثف.

إلا أن القمع وحده لا يكفي في الحقيقة لتفسير الانهيار الذي حدث في قوة ونفوذ ووجود الإخوان خلال الحقبة الناصرية. ولا يمكن فهم ما حدث دون فهم طبيعة النظام الناصري والسياسات التي تبناها، التي لعبت دوراً كبيراً في استيعاب القاعدة الاجتماعية للإخوان، أي الطبقة الوسطى الحديثة، وكسب تأييدها للنظام.

2) طبيعة السياسات الناصرية

كان الإصلاح الزراعي هو محور سياسات النظام الناصري في مراحله الأولى. فالقضاء على طبقة كبار ملاك الأرض وإعادة توزيع الأرض الزراعية كانت شروطاً أساسية لحل الأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد.

لكن الإصلاح الزراعي الذي تم لم يؤدي إلى اشباع عطش فقراء الفلاحين ومعدمي الريف إلى ملكية الأرض، ذلك أن مصر لم تشهد إصلاحاً زراعياً راديكالياً كالذي حدث في بلدان أخرى عديدة وقتها.

فمثلاً لو أن ما جرى أدى إلى انتزاع ملكية جميع الأراضي الزراعية وإعادة توزيعها على الـ2.1 مليون عائلة فلاحية الموجودة عام 1952، لحصلت كل عائلة على فدانين.

لكن ما تم وقتها كان مختلفاً، ولم يتعدى كونه سلسلة من الإصلاحات المحدودة أثرت فقط على 16% من الأراضي الزراعية وتم توزيع 13% من هذه الأراضي على حوالي 10% من العائلات الفلاحية. (5)

ما يهمنا هنا هو أن المستفيد الأساسي من الإصلاح الزراعي لم يكن الفلاحين الفقراء بل كان الفئات الوسطى من ملاك الأرض الذين شكلوا الجذور الريفية للطبقة الوسطى الحديثة.

فقد زادت المساحة الزراعية التي في حوزة هؤلاء من حوالي 1.8 مليون فدان عام 1952 إلى حوالي 2 مليون فدان عام 1965.

ولم يحتفظ الملاك المتوسطين فقط بنصيبهم من الأرض بل اكتسبوا نفوذاً اجتماعياً وسياسياً في المجالات التي كانت خاضعة لسيطرة كبار الملاك من قبل. (6)

ولعل أكثر المجالات الإصلاحية التي سمحت للنظام الناصري بالاستيعاب السياسي والاجتماعي للطبقة الوسطى الحديثة كان مجال التعليم. فكما في حالة الزراعة لم يكن المستفيد الأساسي من التوسع التعليمي هو الفقراء الأميين من عمال وفلاحين، وإنما كان المستفيد هم أبناء الطبقة الوسطى ذوي التعليم المتوسط والعالي.

ففي عام 1954 تم تخفيض المصاريف الجامعية وتحويل جزء من ميزانية التعليم الأساسي إلى التعليم الجامعي.

وخلال الفترة ما بين عامي 1954 و1962 تضاعفت ميزانية الجامعات عدة مرات (ثمانية أضعاف) في حين زادت ميزانية التعليم ككل بنسبة 200%.

وزادت نسبة التعليم العالي من الميزانية الكلية للتعليم في نفس الفترة من 14% إلى 22%. (7)

وخلال الحقبة الناصرية زاد عدد الطلاب في المرحلة الابتدائية بنسبة 234% في حين زاد عدد الطلاب الجامعيين بنسبة 325%. وكان عدد الذين التحقوا بالجامعة في العام الدراسي 1952-1953 51.681 طالب وصلوا في العام الدراسي 1969-1970 إلى 161.517 طالب. (8)

ولم تكن هذه الزيادة الضخمة مرتبطة باحتياجات سوق العمل بقدر ما كانت مرتبطة برغبة النظام الناصري في الاستيعاب السياسي والاجتماعي للطبقة الوسطى الحديثة.

وقد ظلت هذه الفئة من الجامعيين وخريجي المعاهد محدودة بالنسبة إلى مجمل المواطنين (8% من نفس الفئة العمرية) إلا أن حجم تأثيرها السياسي فاق ذلك بكثير.

وإلى جانب التوسع في التعليم العالي والمتوسط كان على النظام الناصري استيعاب هؤلاء الخريجين في سوق العمل. ومع الخطة الخمسية الأولى والتوسع الكبير في القطاع العام مع مطلع الستينات أصدر النظام القانون رقم 185 المعروف بسياسة التعيين، الذي يلزم الحكومة بتعيين كافة خريجين الجامعات والمعاهد في وظائف حكومية أو في القطاع العام. وقد وصل عدد المعينين في وظائف داخل القطاع العام والحكومة من ذوي المؤهلات العليا والمتوسطة 450 ألف موظف خلال عام 1969 منهم 153 ألف خريج جامعي، أو ما يوازي 60% من إجمالي عدد الخريجين. وقد شمل ذلك أكثر من 90% من المهندسين والعلماء و87% من الأطباء وأكثر من 60% من المحاميين. (9)


3) أزمة الناصرية

إلا أن خطة الاستيعاب هذه كانت تعتمد بالكامل على نجاح النمو الاقتصادي والخطة الخمسية. لكن رأسمالية الدولة الناصرية لم تتمكن أبداً من تحقيق النجاح الذي يسمح لها بالاستمرار.

لقد وُضعت الخطة الخمسية الأولى في عام 1960-1961 كخطة تستهدف الدولة من خلالها تركيز كل الاستثمارات على عملية التصنيع، وعلى بناء السد العالي لزيادة الإنتاج الزراعي وتوفير الطاقة للصناعة.

فلسفة الخطة قامت على التصنيع السريع وإحلال الواردات للبدء في خلق أرضية متكاملة تسمح بالتنمية المستقلة وتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية.

وهي خطة اعتمدت على تجارب الاتحاد السوفيتي والصين والهند في خلق اقتصاد مستقل وسوق محلية تستوعب الإنتاج الصناعي.

لكن الواقع كان بعيداً كل البعد عن الأهداف المرجوة، وبدلاً من أن تصبح الخطة الأولى بداية الطريق في سلسلة من الخطط الخمسية تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي يُخرج البلاد من أزمتها، سرعان ما انهارت التجربة وتأزمت وتحولت إلى أحد أشد التجارب فشلاً في بناء رأسمالية الدولة.

الخطة مثلاً كانت تهدف إلى تخفيض قيمة الواردات خلال سنواتها الخمسة من 229 مليون جنيه إلى 215 مليون جنيه (بأسعار عام 1964) لكن ما حدث في الواقع هو أن قيمة الواردات زادت لتصل إلى 413 مليون جنيه عام 1965، ووصل العجز في الميزان التجاري إلى 166 مليون جنيه وزادت نسبة الواردات من إجمالي الناتج المحلي من 15% في بداية الخطة إلى 20% في نهايتها.(10)

ليس هنا مجال تحليل أسباب وتفاصيل فشل رأسمالية الدولة الناصرية. أما ما يهمنا الآن هو معرفة تأثير ذلك الفشل على الطبقة الوسطى الحديثة التي تمكن النظام من استيعابها سابقاً بسياساته التعليمية والتوظيفية.

فقد أدى انكماش الاقتصاد المصري بعد فشل الخطة الخمسية الأولى إلى انهيار سريع في المستوى المعيشي وفرص التشغيل لخريجي الجامعات وبدأت الشروخ تظهر في قدرة النظام على استمرار استيعابه لتلك الطبقة.

ومن مفارقات تلك الفترة أنه في اللحظة التي بدأ فيها انهيار المشروع الناصري قرر الحزب الشيوعي، الذي كان غالبية كوادره في المعتقلات، أن يحل نفسه ويندمج في التنظيمات السياسية التابعة للنظام الناصري.

حدث ذلك ـ كما هي العادة ـ بتعليمات من الاتحاد السوفيتي الذي أصبحت له علاقات وطيدة بالنظام الناصري في ذلك الوقت، وبينما ـ على جانب آخر ـ كان سيد قطب يحاكم ويعدم شنقاً لمحاولته إحياء تنظيم الإخوان ومعارضته العنيفة للنظام.

هذه المفارقة: "التقدميون" يتواطئون مع النظام ويندمجون فيه، و"الرجعيون" يناهضونه ويموتون على مشانقه (!) لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الوعي السياسي المعارض خلال العقدين التاليين.

أتت بعد ذلك هزيمة 1967 بالدفعة الأخيرة في أزمة النظام الناصري، وأدت إلى اندفاع شباب الطبقة الوسطى الحديثة للبحث عن بدائل سياسية وأيديولوجية.

وقد تزامن ذلك مع محاولات إعادة إحياء الحركة الإسلامية، وظهور مجموعات يسارية مستقلة عن الحزب الشيوعي في أوساط الطلاب الجامعيين.

انفجرت الحركة الطلابية ضد النظام الناصري عام 1968 بقيادة عناصر يسارية حيث انعدم تقريباً الوجود الإسلامي داخل الجامعات وقتها.

فما تعرض له الإخوان من قمع وحشي خلال عامي 1965 و1966 أضعف قدرتهم على الحركة وعطل محاولاتهم لإعادة البناء داخل الجامعات.

حدثت بعض الاستثناءات بالطبع حيث نجحت عناصر إخوانية في المنصورة من التسرب داخل التنظيمات الشبابية للاتحاد الاشتراكي، وقادوا مظاهرات المنصورة في نوفمبر عام 1968 ضد محاولات الإدارة في تخفيض أعداد الطلاب، وانتهت المظاهرات التي خرجت من المعهد الأزهري في المنصورة بمقتل أربعة من الطلاب الإسلاميين. (11)

إلا أن الهيمنة في تلك الحقبة ظلت في يد الطلاب اليساريين.


4) السادات والتلمساني والدعوة

أدى القمع الذي عانى منه الإخوان خلال الحقبة لناصرية إلى تغييرات هامة في تكوين وخطاب الجماعة عند خروج قياداتها من المعتقلات خلال فترة السبعينات.

لقد باتوا يفتقدون إلى الصلة مع الواقع السياسي وقواعدهم الاجتماعية التقليدية بعد عقدين كاملين داخل المعتقل.

القيادات والكوادر التي نجت من الاعتقال أمضت الفترة الناصرية في دول الخليج، وكونت ثروات من عملها هناك ومن علاقاتها مع النظام السعودي الرجعي الشديد العداء للناصرية.

ومع اطلاق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبناها السادات عاد الكثير من هؤلاء إلى مصر، ووجدوا أمامهم فرص ضخمة لاستثمار مدخراتهم.

وتحول العمود الفقري للجماعة من الطبقة الوسطى الحديثة قبل الحقبة الناصرية إلى رجال أعمال ذوي صلات وطيدة بالنظام السعودي.

انعكس ذلك بالطبع على مواقف الإخوان وخطابهم السياسي وهم يعيدون تشكيل صفوفهم تحت قيادة عمر التلمساني.

أصبح عمر التلمساني أهم شخصية إخوانية بعد وفاة حسن الهضيبي عام 1973. وقد التقى به صالح عشماوي عام 1976 ووضع مجلة الدعوة تحت تصرفه، وتصرف الإخوان. وظهرت الدعوة في شكلها الجديد بتمويل الشركة الإسلامية للنشر والتوزيع التي رأس التلمساني مجلس إدارتها. (12)

وقد سمح نظام السادات بصدور المجلة بلا أي تدخل. ومن المهم ملاحظة أن النصيب الأكبر من هذه المجلة من حيث المضمون والتوجه كان للإخوان الأوائل الذين أبعدهم الهضيبي عام 1953 بسبب تقاربهم مع النظام مثل: صالح عشماوي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي الذين ارتبطوا جميعاً بعلاقات وثيقة مع النظام السعودي.(13)

يشير جيل كيبل في دراسته "النبي والفرعون" إلى دور الإعلانات في تلك المجلة:

"من حوالي مئة وثمانين صفحة من الإعلانات الملونة في مجلة الدعوة، اشترى 49 صفحة مقاولون وشركات عقارية و52 صفحة اشترتها شركات لإنتاج الكيماويات والبلاستيك و20 صفحة لمستوردي السيارات و12 صفحة لبنوك إسلامية وشركات استثمار". (14)

ثم يشير إلى أن حوالي نصف الإعلانات كانت لثلاثة شركات هي الشريف للبلاستيك وشركة مسرة للمقاولات ومودرن موترز وإلى أن "هذه الشركات الثلاثة كان يمتلكها إخوان مسلمون كونوا ثرواتهم في المملكة العربية السعودية خلال الأعوام الثلاثين السابقة واستثمروها بشكل مكثف في مصر منذ عام 1975، خاصة في قطاعات الاستيراد والبضائع الاستهلاكية".(15)

وقد تميزت مقالات وموضوعات مجلة الدعوة بمواقف شديدة الرجعية وبالابتعاد التام عن نقد النظام الاجتماعي والاقتصادي في مصر.

وكان هناك هوساً في المجلة بأربع مصادر للخطر على الأمة الإسلامية: اليهودية والشيوعية والصليبية والعلمانية. وقد اتسم التحليل المطروح لهذه المخاطر على إثارة الذعر والاعتماد على نظرية المؤامرة.

ولم تكن هذه العناوين مجرد ترجمة دينية للمخاطر الحقيقية الآتية مثلاً من الاتحاد السوفيتي (الشيوعية) والكيان الصهيوني (اليهودية) والإمبريالية الأمريكية (الصليبية) بل كانت في الحقيقة تعكس مضامين شديد الرجعية.

ففي حالة الشيوعية كان الموقف يتضمن نقداً عنيفاً للمضمون الاجتماعي للحقبة الناصرية، وعداء شديد لكافة أشكال التأميم والإصلاح الزراعي ودور الدولة في الاقتصاد.

وقد تأكد هذا المضمون اليميني حين اندلعت انتفاضة يناير 1977 وبعثت المجلة برسائل تضامن مع السادات واعتبرت الانتفاضة دليلاً على مؤامرة شيوعية!

أما الموقف من الصليبية فقد تجاوز التقابل التقليدي بين الغرب المستعمر والصليبية ليتضمن هجوماً على الأقباط وتحريضاً صريحاً ضدهم. وفي عدة مقالات تناولت أحداث الفتنة الطائفية في الزاوية الحمراء عام 1981 انصبت الاتهامات على الأقباط وعلى الكنيسة القبطية:

"أقباط مصر هم أسعد الأقليات على ظهر الأرض وكل حقوقهم المادية والأدبية ميسرة بل مضاعفة .. وسارت الأمور على أفضل ما يكون إلى أن تعين السيد شنودة بطريركاً لأقباط مصر".(16)

وحتى مسألة اليهودية، وهي الأكثر اختلاطاً في الخطاب الإسلامي عموماً مع الصهيونية، تركز الهجوم فيها على "طبيعة" اليهودي، والمؤامرة اليهودية الكبرى، والأصل اليهودي لكافة مآسي الأمة بل والعالم، فاليهود منبع الشيوعية (كارل ماركس كان يهودي) والعلمانية في منطقتنا (نظرية تأثير جماعة يهودية على أتاتورك) والصليبية (تأثير اللوبي اليهودي ورأس المال اليهودي في واشنطن).

وبالطبع ابتعدت هذه التحليلات والدعاية الغارقة في الرجعية بالقارئ تماماً عن أي أسباب حقيقية للمعاناة، فالرأسمالية وحرية السوق والتفاوت الطبقي المتزايد لم تكن تحصل إلا على إشارات عابرة.

كانت مجلة كهذه بالطبع كنزاً لنظام السادات، فهي تهاجم أعدائه من اليسار والناصريين، وتشغل الرأي العام بمؤامرات وهمية، وتشعل حينما يريد نار الفتنة الطائفية، وتؤيد سياساته الاقتصادية.

وظل التلمساني يؤكد دوماً مواقفه المعادية لكافة أشكال الصراع الطبقي وللمواجهة الجماهيرية مع النظام، وكل ما كان يريده من النظام هو تطبيق الشريعة الإسلامية. وقد لخص رؤيته لدور الإخوان كما يلي:

1. إننا نربي الشعب، وخاصة الشباب، على الأسس التي عز بها المسلمون وسادوا.

2. إننا نقول الحق وندعو الناس جميعاً إلى الوقوف بجانبه، ومساندته في أحلك المواقف.

3. نحن نجمع الناس في المناسبات العامة لنقول لهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتجنبوه.

4. نحن نحذر الناس من العلمانية التي تلبس ثوب الإسلام لتباعد بين الإسلام وشباب الإسلام في ظل كلمات معسولة ومسمومة، مطعمة بألفاظ العقل والمنطق والعلم والتقدمية وحرية الفكر. (17)

5) الجماعات الإسلامية والاندماج مع الإخوان المسلمين

إلا أن مجموعة التلمساني لم تكن وحدها في ساحة العمل السياسي الإسلامي خلال السبعينات التي شهدت أيضاً النمو السريع للجماعات الإسلامية في الجامعات المصرية.

في نهاية الستينات لم يكن الطلاب الإسلاميين إلا أقلية صغيرة في فعاليات الحركة الطلابية المتصاعدة.

وحظيت دائماً اقتراحاتهم بإضفاء تعديلات ذات طابع أخلاقي وديني على برنامج "اللجنة الوطنية الطلابية" برفض غالبية الطلاب. حتى ذلك الوقت لم يكونوا قد نظموا أنفسهم في الجماعات الإسلامية، وظلوا يتجمعون داخل الأسر الطلابية التي سرعان ما أصبحت مراكز هامة لتجنيد الكوادر الإسلامية.

مع اندلاع الموجة الثانية من الحركة الطلابية في ديسمبر عام 1971 تحولت الأسر الإسلامية من الدور الهامشي ولكن المؤيد للحركة الطلابية إلى العداء المباشر للقيادات اليسارية للحركة.

وسرعان ما أصبح واضحاً أن هناك توافق ما بين الحركة الإسلامية في الجامعة وبين نظام السادات.

من جانب الجماعات أصبح الطريق لتوسيع نفوذهم هو التعاون التكتيكي مع النظام لكسر نفوذ اليسار داخل الجامعات. وكان من الطبيعي أن يرى النظام في هذه الجماعات الإسلامية فرصة لتفتيت الحركة الطلابية المتصاعدة وضرب اليسار. (18)

ولعل أبرز حلقات ذلك التعاون التكتيكي كان في محافظة أسيوط التي تعاون فيها المحافظ محمد عثمان إسماعيل وبشكل علني مع الجماعات الإسلامية في جامعة أسيوط .

وقد سمح نظام السادات للجماعات بتنظيم المعسكرات الصيفية الضخمة التي لعبت دوراً هاماً في تطوير وتثقيف الكوادر الإسلامية الشابة، وكان أيضاً دعم النظام لمثل هذه المعسكرات واضحاً.

فقد حضر الأمين العام للاتحاد الاشتراكي حفل ختام المعسكر الإسلامي الذي أقامه الطلاب الإسلاميون من جامعة القاهرة في صيف عام 1973 ولم يكن ذلك التكريم الرسمي استثناءاً. (19)

كان تنظيم مثل هذه المعسكرات جزءاً من تراث الإخوان المسلمين في الثلاثينات والأربعينات، ولم تقتصر بالطبع الأنشطة داخلها على الأنشطة الدينية بل شملت التدريبات الرياضية والاستماع إلى محاضرات الدعاة حول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية.

وقد انعكس ذلك النجاح في التنظيم والتجنيد داخل الانتخابات الطلابية حيث هيمنت الجماعات الإسلامية على لجنة الإعلام والنشر للاتحاد العام عام 1975 وفازت برئاسة اتحاد الطلاب في جامعة القاهرة والمنيا عام 1976 وبغالبية المقاعد في مجلس الاتحاد العام على المستوى القومي عامي 1978 و1979 .

وكانت انتصارات الإسلاميين كاسحة على مستوى الكليات والجامعات وعلى المستوى القومي. (20)

مع نهاية السبعينات حدثت تطورات تنظيمية شديدة الأهمية داخل الحركة الإسلامية.

فخرج الجناح التكفيري المسلح من صفوف الجماعات الإسلامية الطلابية، وكونوا تنظيماتهم المسلحة المستقلة وبدئوا حربهم البائسة ضد النظام الحاكم.

وعلى جانب آخر ازداد التقارب بين الجماعات الإسلامية في الجامعات ومجموعة التلمساني ومجلة الدعوة، وانتهى الأمر بدخول الجماعات جماعة الإخوان المسلمين.

وقد كان ذلك تحولاً شديد الأهمية.

فبالنسبة للتلمساني والقيادات القديمة للإخوان كان ذلك يمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء قواعد الإخوان ومد الجماعة بكوادر شابة قادرة على إحياء التنظيم.

وبالنسبة لقيادات الجماعات الإسلامية كانت الوحدة تمثل فرصة للارتباط بالتراث التاريخي للإخوان وخاصة تراث حسن البنا الذي انقطع طوال الخمسينات والستينات.

غيرت الوحدة التكوين الطبقي للإخوان من جديد، فلم تعد مجرد مجموعة من قدامى الإخوان والأثرياء المرتبطين بالسعودية ونظام السادات، بل عادت جماهير الطبقة الوسطى الحديثة من طلاب ومهنيين للتدفق في صفوف الجماعة. وبدأت الجماعة منذ نهاية السبعينات في إعادة بناء تشكيلاتها التنظيمية طبقاً لأساليب ومناهج حسن البنا. لكن فهم النجاح الذي حققته منذ السبعينات يحتاج إلى فهم طبيعة وعناصر المد الإسلامي.

هناك ثلاث مجالات رئيسية شكلت العامود الفقري للمد الإسلامي منذ السبعينات: المساجد الأهلية، والمؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية (الخدمية والثقافية والصحية والتعليمية) والمؤسسات الرأسمالية الإسلامية (البنوك والشركات والمطابع، الخ). (21)

وقد زاد عدد المساجد الأهلية في مصر من 20 ألف عام 1970 إلى 46 ألف عام 1981. ومن هذه المساجد لم تكن وزارة الأوقاف تشرف إلا على ستة آلاف مسجد.

ووصل عدد المساجد الأهلية مع بداية التسعينات إلى أكثر من 60 ألف مسجد وزاوية، وقد قدر العدد في منتصف التسعينات بـ170 ألف مسجد منها 30 ألف تحت الإشراف المباشر لوزارة الأوقاف.

وقد أتاح هذا النمو السريع والواسع للمساجد المستقلة أرضية خصبة للإخوان لإعادة نشاطهم الخيري والتنظيمي وتفعيل كوادرهم خارج إطار الجامعات وتوسيع قاعدتهم الاجتماعية. (22)

ومع بداية التسعينات وصل عدد الجمعيات غير الحكومية في مصر إلى 15 ألف جمعية. حوالي ثلث هذه الجمعيات ذات طابع إسلامي. (23)

بعض الجمعيات الإسلامية كانت ذات نشاطات دينية تقليدية مثل حفظ القرآن وتنظيم الحج وتوزيع الزكاة وصيانة المساجد، لكن غالبيتها تركز نشاطها على العمل الخدمي مثل المستوصفات والحضانات والمدارس ومراكز التأهيل.

وكثير منها كان لها طابع محلي مقتصر على الحي أو القرية، في حين توسعت بعضها لتصبح مؤسسات على المستوى القومي بأفرع متعددة في مختلف المدن والمناطق والمحافظات.

وقد لعبت ثلاثة عوامل رئيسية دوراً في نجاح هذه الجمعيات على المستوى التمويلي. أولاً استخدام أموال الزكاة في حالة الجمعيات المرتبطة بالجوامع والمساجد.

ثانياً التبرعات الوفيرة التي كانت تأتي من البنوك والشركات الإسلامية سواء لأسباب ضريبية أو دعائية. وثالثاً إعادة استثمار الأرباح من خلال تقديم الخدمات ذات الأسعار المنخفضة مثل الخدمات العلاجية والتعليمية.

وكان تفعيل مثل هذه الآليات الخيرية الأسلوب الذي اتبعه الإخوان في التواصل وخلق العلاقات في الأحياء الشعبية والقرى وقد ساعد الجماعة في توسيع نفوذها في أوساط قطاعات عريضة من الجماهير.

وقد ساهمت الشركات الإسلامية بدرجة مهمة في إعادة إحياء الخطاب والنشاط الإخواني، ليس فقط شركات توظيف الأموال التي وصل رأسمالها في منتصف الثمانينات إلى 16 مليار جنيه ـ التي انهارت سريعاً دون أي تأثير يُذكر على نفوذ الإخوان ـ إنما الأهم منها كان استثمار الإخوان في مجالات النشر.

فلقد تأسست عدداً من دور النشر والتوزيع الإسلامية حققت نجاحاً ضخماً مثل الدار الإسلامية ودار الوفاء والالتزام، بالإضافة إلى الصعود السريع للمجلات الإسلامية الشهرية مثل لواء الإسلام والمختار الإسلامي والاعتصام.(24)

لقد أدى النمو والانتشار السريع للمساجد الأهلية والجمعيات الخيرية الإسلامية مع التوسع الهائل في الدعاية الإسلامية المطبوعة إلى إعادة بناء تنظيم الإخوان المسلمين، أولاً من خلال خلق مجال حيوي ليس فقط للارتباط اليومي بالجماهير وإنما الأهم لتفعيل شبكة الكوادر وخلق مجال أيديولوجي مساعد للتجنيد السريع. هذا المجال الإسلامي بمساجده وجمعياته تميز بدرجة عالية من المرونة واللامركزية مما جعل قمعها أو السيطرة عليها من قبل النظام عملية شبه مستحيلة.

6) تفاقم أزمة الطبقة الوسطى الحديثة

كيف نفسر عودة قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الحديثة إلى صفوف الإخوان؟ لقد ظهر مما سبق كيف تمكن النظام الناصري من استيعاب تلك القطاعات في الخمسينات والستينات، وأيضاً كيف بدأت منظومة الاستيعاب في الانهيار مع الأزمة الاقتصادية وحرب 1967.

إلا أن أزمة تلك الطبقة تفاقمت بشكل سريع منذ السبعينات. فسياسة التعليم والتوظيف ظلت كما هي خلال السبعينات والثمانينات وظل التناقض بينها وبين الواقع الاقتصادي المأزوم في ازدياد.

وقد زاد عدد المشتغلين في القطاع الحكومي بين عامي 1977 و1981 بمعدل 6.3% في حين كان النمو في إجمالي قوة العمل 2.8%.

وبين عامي 1977 و1984 خلقت الدولة 55.3% من الوظائف الجديدة (70.7% إذا استثنينا العمالة خارج البلاد).

وفي نفس الفترة تم إنشاء سبعة جامعات جديدة وزادت نسبة المقبولين في الجامعات من 40% من الحاصلين على الشهادة الثانوية إلى 60%.

وقد زاد عدد خريجي الجامعات من 41.916 خريج عام 1975 إلى 115.744 خريج عام 1985. (25)

وخلال الفترة بين عامي 1977 و1981 كانت نسبة المعينين في وظائف حكومية من الخريجين تتجاوز 50% في حين لم تكن نسبتهم في سوق العمل تتجاوز 14%. (26) ويظهر من الجدول التالي (27) العلاقة ما بين عدد الخريجين ومعدل النمو خلال الفترة ما بين عامي 1964 و1984 باحتساب عام 1964-1965 هو سنة الأساس.

السنة عدد الخريجين النمو
1964/1965 16.268 100 (الأساس)
1969/1970 23.016 141.5
1974/1975 41.916 257.6
1979 /1980 76.125 467.9
1984/1985 115.744 711.5

كان متوسط النمو السنوي للسكان بين عامي 1976 و1986: 2.55% (أكبر من 6سنوات) في حين وصل متوسط النمو السنوي لخريجين الجامعات في نفس الفترة إلى 10.69%. (28)

ومع زيادة أعداد الخريجين، الذين ظل غالبيتهم يعملون في الحكومة والقطاع الخاص، ازدادت أوضاعهم الاقتصادية سوءاً.

ففي خلال عقد السبعينات ورغم الانتعاش الاقتصادي النسبي الذي خلقه ارتفاع أسعار البترول، انخفضت الأجور الحقيقية للعاملين بالقطاع العام بنسبة 8% وللعاملين بالحكومة بنسبة 23%. (29)

ومع انخفاض أسعار البترول وأزمة الاقتصاد المصري في الثمانينات انخفض الانفاق العام من 63.5% من إجمالي الناتج المحلي إلى 41.4% بين عامي 1982 و1989. (30)

وبالطبع كانت النتيجة المنطقية لهذه التطورات ولسياسات التحرير الاقتصادي التي تبناها نظام مبارك منذ منتصف الثمانينات حدوث زيادة هائلة في بطالة الخريجين. ففي حين زاد حجم قوة العمل بنسبة 2.2% بين عامي 1976 و1986 زاد عدد خريجين الجامعات والمعاهد بنسبة 7.4% خلال نفس الفترة.

لكن هؤلاء لم يعد من الممكن توظيفهم وقد وصلت انتظار الوظائف الحكومية بالنسبة للخريجين إلى ثلاث سنوات عام 1979 ، ثم إلى 10سنوات عام 1985. (31)

وقد زادت نسبة البطالة من 2.2% عام 1969 إلى 7.7% عام 1976 ثم إلى 12% عام 1985. وفي عام 1985 كان الخريجين يمثلون أقل من ثلث إجمالي قوة العمل وأكثر من 70% من العاطلين. وكانت نسبة العاطلين من بين خريجي المعاهد قد وصلت إلى 28.8% ومن بين خريجي الجامعات إلى 25.5% في نفس العام. (32)

هذا الجيش الهائل من المتعلمين العاطلين أو العاملين بأجور لم تعد تكفي احتياجاتهم الضرورية سرعان ما أصبح جمهوراً جاهزاً لدعوة الإخوان. فالفجوة بين تطلعاتهم وتطلعات أسرهم لحياة كريمة ومستوى معيشة متوسط ومكانة اجتماعية متميزة وبين واقع حياتهم من فقر ومديونية وبطالة جعلهم خير متلقيين لرسالة الإخوان.

ولعله يكون مفيداً في هذا المجال أن نلقي نظرة سريعة على أساليب تجنيد وتفعيل فقراء المتعلمين في صفوف الإخوان خلال الثمانينات والتسعينات. ففي المناطق العشوائية مثلاً حيث يمتزج الخريجين الفقراء بالنازحين الجدد من الريف بقطاعات البرجوازية الصغيرة التقليدية وحيث يكون نقصاً حاداً في الخدمات الصحية والتعليمية وغيره من الخدمات الجماهيرية العامة، وجد الإخوان مناخاً مناسباً للربط بين نشر الدعوة (أي الدعاية والتجنيد) والعمل الخيري (طرح الجماعة كبديل لدولة توقفت عمداً عن تقديم الخدمات).

في هذه الظروف يكون الدور المركزي للدعاة هو خلق شبكات متسعة من الأعضاء والمتعاطفين.

اتخذت الدعوة ثلاثة أشكال مختلفة ومتداخلة. الشكل الأول هو الدعوة الفردية. فتواجد الكوادر في المساجد أثناء وبعد الصلاة وفي العمل الخيري وتقديم الخدمات يسمح بعملية تعارف طبيعية مع المتعاطفين والمرشحين للتجنيد.

ويتم كسب العناصر الجديدة بشكل تدريجي أولاً باقناعها بدرجات متصاعدة من الالتزام الديني والأخلاقي، وثانياً بالمشاركة في نشر هذا الالتزام وسط العائلة ثم في الحي ثم في مكان العمل، وثالثاً بكسب العنصر الجديد إلى مفاهيم الإخوان حول علاقة الدين بالسياسة وحول الضرورة الدينية للعمل السياسي ـ أي ضمه إلى الإخوان.

الشكل الثاني لنشر الدعوة هو الدعوة العامة، ويشمل استخدام خطب الجمعة والدعوة للصلاة الجماعية وللارتباط اليومي بالمسجد والدروس الدينية الأسبوعية.

أما الشكل الثالث فهو الدعوة المطبوعة ويستخدم هذا الشكل من خلال تأسيس مكتبات إسلامية في المساجد المستقلة تُعير الكتب والشرائط وتقوم بتوزيع واسع النطاق للكتيبات الصغيرة الشارحة للدعوة.

هذه الكتيبات لا تتجاوز في أغلبها 60 صفحة وتتميز ببساطة اللغة وعرض نماذج من التاريخ الإسلامي ومن التجارب الحياتية الشخصية للكاتب.

وفي مجال الكتيبات مازال هناك استخدام واسع النطاق لكتيبات حسن البنا ومنها "إلى الطلبة" و"إلى الشباب وخاصة الطلبة" وبعض خطب البنا المطبوعة.(33)

7) النقابات المهنية

كانت النقابات المهنية في مصر منذ الخمسينات تحت سيطرة شبه كاملة من قبل النظام وقد تحولت هذه النقابات على يد النظام الناصري إلى مجرد جزء من جهاز الدولة وأصبح دورها فقط تنظيم شئون المهنة.

وبسبب التوسع الهائل في التعليم العالي منذ الستينات تحولت النقابات المهنية من تشكيلات نخبوية إلى مؤسسات ذات طابع جماهيري حيث وصل عدد الأعضاء ببعض النقابات إلى مئات الآلاف.

وقد وصل عدد الأعضاء المقيدين بالنقابات المهنية إلى أكثر من مليوني عضو مع بداية التسعينات.

وبما أن عضوية النقابات شبه إجبارية للخريجين فقد شملت ليس فقط المهنيين العاملين بل أيضاً الأعداد المتزايدة من المهنيين العاطلين.

وتحولت التركيبة الطبقية للعضوية النقابية لتشمل كبار أصحاب الأعمال من مالكي الشركات الهندسية والمستشفيات الخاصة والمكاتب الاستشارية والقانونية وسلاسل الصيدليات إلى جانب القطاع الأوسع من المهنيين العاملين بالحكومة والقطاع العام والدرجات الأدنى في القطاع الخاص، بالإضافة إلى الخريجين العاطلين أو المضطرين لمزاولة عمل مأجور خارج إطار المهنة.

وقد زادت عضوية النقابات المهنية بشكل سريع منذ السبعينات بمعدل 10% سنوياً وهو انعكاس مباشر للتوسع التعليمي.

وبالطبع ليس كل من هو مقيد في النقابات المهنية عضو نشط بمعنى قيامه بدفع الاشتراكات ليصبح له بالتالي الحق في التصويت.

وقد تراوحت نسبة العضوية النشطة في أوائل التسعينات بين نصف وثلثي العضوية المقيدة. ومن الملاحظ أن أكثر من نصف الأعضاء النشطين في هذه النقابات من الشباب حديثي التخرج.

وقد مثلت النقابات المهنية موقعاً مثالياً للإخوان المسلمين منذ الثمانينات. فمن جانب كان العمل بالنقابات التطور الطبيعي للنجاح الذي حققوه سابقاً في الجامعات.

فالخريجين الذين تم كسبهم في الجامعة سرعان ما وجدوا في النقابات المهنية مجالاً خصباً لاستثمار خبرتهم السياسية والتعبوية.

والطبيعة الطبقية المتناقضة لعضوية تلك النقابات كانت تتماشى مع وسطية الإخوان ومفاهيمهم الطبقية التوافقية.

ومن جانب النظام فكان السماح للإخوان بالنشاط داخل النقابات المهنية يشكل مخرجاً من عدة مشكلات. أولاً كانت صعوبة المواجهات مع الحركات الإسلامية المسلحة تستدعي درجة من المرونة مع الإخوان الرافضين للعمل المسلح والمهادنين بشكل عام.

وثانياً كان تصور النظام أن دخول الإخوان العمل النقابي المهني سيساعد على استيعابهم والسيطرة عليهم.

شارك الإخوان في انتخابات نقابة الأطباء عام 1984 وخلال عامين أصبح لهم قوائم في انتخابات نقابات المهندسين وأطباء الأسنان والزراعيين والصيادلة والصحفيين والتجاريين والمحاميين. (34)

وقد حصل الإخوان في نقابة الأطباء على سبعة مقاعد من ضمن 25 مقعد يشكلون مجلس النقابة عام 1984. بعدها توسع نفوذهم في نقابة الأطباء خلال السنوات الست التالية بصورة مذهلة حيث وصل عدد الإخوان في مجلس النقابة عام 1990 إلى 20 مقعد.

ويوضح الجدول التالي تطور وضع الإخوان في نقابة الأطباء بين عامي 1984 و1990. (35)

العام العضوية المسجلة إجمالي الأصوات التيار الإسلامي
1984 60.000 12.600 5000 (40%)
1986 70.000 11.800 6000 (51%)
1988 80.000 19.100 12000 (63%)
1991 90.000 21.000 15000 (71%)

وقد شارك الإخوان في نقابة المهندسين منذ عام 1985. وفي 1987 فاز الإخوان بـ45 مقعد من ضمن 61 مقعد في مجلس النقابة.

وقد سيطر الإخوان على واحدة تلو الأخرى من النقابات المهنية حتى توجت تلك الإنتصارات في انتخابات نقابة المحاميين، معقل النشاط السياسي الوطني عام 1992 حيث حققوا فوزاً ساحقاً. (36)

8) الإخوان ونظام مبارك

كان موقف نظام مبارك من الإخوان خلال الثمانينات معتمداً على التوازن بين عدة أهداف. الهدف الأول هو محاولة استخدام الإخوان كبديل مسالم وإصلاحي للجماعات الراديكالية التي كانت تشن ضد النظام حرباً شرسة.

والهدف الثاني كان محاولة خلق صمام أمان للنظام من خلال إعطاء بعض حرية الحركة للإخوان في النقابات المهنية والجامعات والعمل الخيري دون أن يصل ذلك إلى تهديد النظام.

لكن النجاحات المتتالية للإخوان في الانتخابات الطلابية والنقابية والبرلمانية والمواجهة الدموية مع الحركات الجهادية في بداية التسعينات والنهاية الدموية الخطيرة للانتخابات الجزائر ية، كل تلك العوامل دفعت النظام في منتصف التسعينات إلى شن حملة قمعية جديدة ضد الإخوان.

لكن ما مهد أيضاً لتغيير موقف النظام من الجماعة هو التغييرات التي طرأت على مواقف وتكتيكات الجماعة. ففي عام 1990 قاطع الإخوان الانتخابات التشريعية مع باقي قوى المعارضة (طبعاً باستثناء حزب التجمع الذي شارك بحماس).

وقد اتخذت الجماعة موقفاً مناهضاً للحرب على العراق ولمشاركة الجيش المصري فيها، وهو ما كلفها علاقاتها السابقة مع النظام السعودي وانشقاق إخوان الكويت. ومع التوقيع على اتفاقات مدريد شنت الجماعة حملة منظمة ضد الاتفاقيات وضد الأنظمة المشاركة فيها بما فيها نظام مبارك .

وقد كان مثل ذلك التصعيد إشارة لاتجاه قد بدأ في التبلور داخل أوساط قادة الجماعة. كان النظام يريد من الجماعة، كما كان الحال في السبعينات وبداية الثمانينات، أن تبقى في إطار الدعوة المحدودة والتركيز على القضايا الأخلاقية وعلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما كان يريده أيضاً البعض من القيادات القديمة والمحافظة في الجماعة.

إلا أن الجماعة كانت قد شهدت كما رأينا تغييرات هامة في بنيتها التنظيمية وقواعدها الجماهيرية ولم يصبح ممكناً الحفاظ على تلك القواعد دون التطرق للقضايا السياسية الكبرى ودون أخذ مواقف نقدية من النظام.

لكن التحول حدث وما زال يحدث بشكل تدريجي، فهناك مقاومة من الأجنحة المحافظة داخل الجماعة وهناك من الجانب الآخر تعجلاً من الشباب الغاضب حديث الصلة بها.

وبين هذا وذاك تدير القيادة الحالية للجماعة تلك السفينة الضخمة المليئة بالتناقضات.

فنجدها أحياناً تتجه للتصعيد ولتقديم أنفسهم كبديل سياسي مباشر للنظام وأحياناً أخرى نجدهم يهادنون النظام ويتراجعون عن مواقفهم السابقة.

9) تناقضات برنامج الإخوان

يركز غالبية منتقدي الإخوان من اليساريين والليبراليين في تناولهم لبرامج الجماعة على مسألتين أساسيتين: مسألة الدولة الدينية وما تعنيه بالنسبة للديمقراطية البرلمانية، ومسألة الموقف من الأقباط والمرأة. هذه بالطبع مسائل بالغة الأهمية لكن لا يمكن فهم المضمون الطبقي لبرامج الإخوان دون التطرق لموقف الجماعة من قضيتين أساسيتين هما الموقف من الإمبريالية والصهيونية والموقف من الاقتصاد الرأسمالي وسياسات الليبرالية الجديدة.

فالساحة السياسية مليئة باتجاهات تنادي بالدولة المدنية والديمقراطية البرلمانية والمساواة الكاملة للمرأة والأقباط ولكنها تنادي أيضاً بقبول التطبيع مع الكيان الصهيوني والاندماج في المعسكر الأمريكي وتبني سياسات الليبرالية الجديدة.

ومن أخطاء اليسار التاريخية التحالف مع هؤلاء بحجة الدفاع عن العلمانية والدولة المدنية وهو موقف يدفعهم في نهاية الأمر وحتى إن كان ذلك ضمنياً وليس علنياً للاصطفاف في معسكر النظام المصري والإمبريالية الأمريكية.

يجب مثلاً أن ينتقد اليسار بحدة ووضوح مواقف الإخوان من قضية الأقباط وأن يناضل بشجاعة ضد كافة أشكال التمييز ضدهم سواء تلك التي يعاني منها الأقباط في ظل النظام الحالي أو تلك التي ينادي بها الإخوان في برامجهم.

لكن عندما ينفصل ذلك النضال عن مضمونه الطبقي وعن النضال ضد الإمبريالية يتحول الأمر إلى شعارات مجردة لا تتميز عن تلك التي تنادي بها الإدارة الأمريكية واليمين الليبرالي ويكون المستفيد الأول من ذلك الإخوان المسلمين الذين يربطون أمام جماهيرهم بين شعارات المساواة وبين المخططات الاستعمارية الأمريكية في المنطقة.

إذن فالقراءة النقدية لبرامج الإخوان يجب أن تبدأ ليس من الهجوم على موقفهم الرجعي من المرأة والأقباط أو موقفهم من الدولة المدنية ولكن من أطروحاتهم حول الموقف من الإمبريالية والرأسمالية الليبرالية الجديدة. هل يطرح الإخوان رؤية عملية لمواجهة الهجمة الإمبريالية والصهيونية في منطقتنا؟ وهل يطرحون مخرجاً من السياسات الاقتصادية التي تجوع وتشرد الملايين من الفقراء في مصر؟

في المبادرة التي طرحها المرشد عام 2004 سنجد عرضاً برنامجياً لمواقف وسياسات الجماعة في الفترة الحالية تجاه مختلف القضايا الخارجية والداخلية. تطرح المبادرة مثلاً أن الهجمة الأمريكية الحالية "تهدف في المقام الأول والأخير لاستمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وسيطرتها على ثروات ومقدرات المنطقة، وتفوق الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين". (37)

وهذا الموقف لن يختلف اليسار حوله ولكن عندما نقرأ السياسات التي تقترحها المبادرة لمواجهة هذه الهجمة نكتشف على الفور موقفاً مهادناً لا يطرح أي تغيير حقيقي فالمقترحات العملية للمبادرة تشمل: "دعم الجامعة العربية وتفعيلها، وتفعيل آليات العمل العربي، مثل: الدفاع العربي المشترك والسوق العربية المشتركة والوحدة الاقتصادية".

لكن الجامعة العربية والأنظمة التي تمثلها غارقة في التبعية والعمالة للإمبريالية الأمريكية والوحدة الاقتصادية التي تنادي بها المبادرة ليست في الواقع سوى الوحدة بين الطبقات الحاكمة وتحت الوصاية الأمريكية. وإذا كان الإخوان يقصدون وحدة من نوع آخر فلماذا لا يطرحون ذلك؟

تطرح المبادرة تأكيداً على الالتزام بما يسمى الشرعية الدولية ومنظماتها:

"ترتبط مصر بدول العالم بروابط عديدة، كما أنها عضو في الأسرة الدولية والمنظمات الدولية، وهي من ثم تسعى لتأكيد الشرعية الدولية". (38)

ولكن أليست هذه الشرعية والمنظمات التي تحمي الكيان الصهيوني ولا تخدم سوى مصالح الدول الإمبريالية الكبرى؟ تكتفي المبادرة بإضافة مطلبها بـ "خروج المنظمات الدولية من وصاية القوى الكبرى" ولكنها لا تطرح كيف يمكن تحقيق ذلك بل أن مطلب كهذا تردده كثير من الأنظمة العربية رغم عمالتها التامة لنفس هذه القوى الكبرى.

وعلى المستوى الداخلي تحدد المبادرة أسباب الأزمة التي تعاني منها مصر بأنها: "الثالوث المدمِر لهذه الأمة من جمود سياسي، وفساد، وظلم اجتماعي، وتخلف علمي وتقني، يهدد مصر الآن في أمنها الوطني، ومكانتها القومية، وريادتها الإسلامية، ودورها العالمي". (39)

لكن ما تطرحه المبادرة من حلول على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لن يؤدي إلا لمزيد من الجمود والفساد والظلم والتخلف. وهنا يظهر بوضوح التناقضات الطبقية في خطاب الإخوان فتقول المبادرة:

"فنحن نعمل على تشجيع القطاع الخاص، وذلك من خلال برنامج مدروس للخصخصة، يتسم بتقييم عادل للمشروعات العامة موضع الخصخصة، وشفافية كاملة عنه، مع الحفاظ على الحقوق الكاملة للعمال". (40)

لكن كيف يمكن الدفاع عن الخصخصة التي تعني قبل كل شيء تكثيف استغلال العمال وتشريد قطاعات واسعة منهم، وهو ما يطرحه المستثمرون كشروط لشراء الشركات العامة وفي ذات الوقت الحديث عن حقوق العمال؟ وتؤكد المبادرة على ذلك الخطاب التقليدي المتناقض للإخوان من مسألة الملكية الخاصة:

"نحن نؤمن بالنظام الاقتصادي، الذي ينبثق من إسلامنا كدين ونظامِ حياةٍ شامل وكامل، يؤكد على حرية النشاط الاقتصادي، وعلى دور الفرد في هذا النشاط، محترمًا للملكية المتعددة، والتي تشمل كأساس الملكية الخاصة، شريطة قيامها بوظيفتها الاجتماعية، وملكية الدولة بالنسبة للمرافق العامة، والمنشآت الحيوية". (41)

ولا توضح المبادرة طبيعة تلك الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة ولا تحدد ما هي المنشئات الحيوية التي يجب أن تمتلكها الدولة. هل تشمل مثلاً صناعات الحديد والصلب والألومونيوم والغزل والنسيج والبنوك الكبرى؟ وهل يجب إعادة تأميم ما تم خصخصته من المرافق العامة والمنشئآت الحيوية؟

وفي مجال تحرير التجارة نجد نفس تلك التناقضات:

"نعتمد تحرير التجارة والانفتاح أسلوباً رئيسياً لعلاقاتنا مع الدول الأخرى، في ظل الاعتماد المتبادل، وثورة المعلومات والاتصالات؛ ولكننا ضد الهيمنة والتبعية التي تهدف إليها حركة العولمة المعاصرة، ومن ثم سوف نعمل على تعظيم إيجابيات اتفاقية (الجات)، و(منظمة التجارة العالمية)، والحد من سلبيات هذه الاتفاقيات". (42)

كيف يمكن الفصل بين حرية التجارة العالمية التي يدافع عنها الإخوان والهيمنة والتبعية التي يعارضونها؟ وما هي القوة التي سيعتمدون عليها لتحقيق حتى ذلك المطلب الشديد التواضع وهو مجرد الحد من سلبيات الاتفاقات التجارية؟ أليست هذه الاتفاقات انعكاساً لتوازن القوى الاقتصادية وهيمنة الدول الرأسمالية الكبرى على الاقتصاد العالمي؟

المبادرة مليئة بمقترحات لحل مشاكل التعليم والفقر والصحة وهي كلها مقترحات لن يختلف حولها أحداً، كتوفير السكن والغذاء والخدمات والرعاية الصحية والخدمات التعليمية الجادة والمجانية.

لكن كيف ستمول كل هذه الإصلاحات العظيمة؟ هل بزيادة الضرائب على الأغنياء مثلاً؟

ليس في مبادرة الإخوان شيئاً عن هذا بل أن المبادرة تؤيد تخفيض الضرائب على المستثمرين لتشجيع الاستثمار.

ونجد كافة مقترحات المبادرة مثل رفع نسبة الأموال المخصصة للتعليم وللبحث العلمي وتوفير الإمكانات العلمية اللازمة مثلاً.

تطرح هكذا دون تحديد لكيفية التمويل.

ولذا تظل المقترحات لها تلك الصفة المتناقضة والمثالية.

فهي مقترحات تبدو جذابة لقطاعات واسعة من الجماهير ومن الطبقة الوسطى دون أن تكون مزعجة للبرجوازية والمستثمرين. محاولة إرضاء جميع الأطراف في المعادلة الاجتماعية هي سمة دائمة في خطاب الإخوان وتعبر بحق عن طبقة التناقضات ـ الطبقة الوسطى الحديثة.

وحتى عندما نقرأ التحليلات الأكثر عمقاً لمفكري الإخوان المعاصرين حول القضايا الاقتصادية نجد نفس تلك التناقضات والرؤى الوسطية الإصلاحية التي يغلب عليها التصورات الأخلاقية.

ففي مقال لعبد الحميد الغزالي حول المنهج الإسلامي في التنمية يطرح أن "جاء الإسلام ونظامه الاقتصادي ومنهجه في التنمية حربًا حقيقية ومستمرة وناجحة على كل صور الظلم الاقتصادي ـ أي الاستغلال ـ من خلال: تحريم صريح وقاطع للربا والغرر، والاحتكار والاكتناز، والإسراف والتقتير، والتطفيف والبخس، والغش والتدليس، والرشوة والمحسوبية .. إلى آخر كل صور أكل أموال الناس بالباطل، وكل صور الممارسات الخاطئة في النشاط الاقتصادي إنتاجاً وتوزيعًا واستهلاكًا". (43)

إذن يجب محاربة الظلم الاجتماعي، لكن حين يتناول الكاتب سؤال كيف؟ نجده يكتفي بمبادئ أخلاقية عامة بلا الاقتراب من جوهر الاستغلال الرأسمالي.

ويعيد الكاتب تكرار الطرح الإخواني التقليدي بأن الإسلام يقدم بديلاً للرأسمالية وما سمي بالاشتراكية كنماذج للتنمية الاقتصادية: "ولقد عرفت البشرية وضعياً ـ بعد تجارب طويلة عبر تاريخها ـ نظامين اقتصاديين رأسماليين ماديين: الأول، يتسم بمادية رأسمالية من نوع خاص؛ وهي رأسمالية “الطبقة"، ومن ثم انقسم المجتمع إلى طبقتين: الرأسماليين أو أصحاب الأعمال والعمال.

والثاني: يتصف بمادية رأسمالية أيضاً من نوع خاص؛ وهي رأسمالية "الدولة" ومن ثم انقسم المجتمع إلى فريقين: الدولة الآمرة وحزبها المسيطر، والعمال؛ وهم جموع الشعب". (44)

وبالنسبة للكاتب فالحل يكمن في الإسلام الذي يتجاوز النظم الطبقية المادية ويعود للإنسان. هذه الإنسانية الإسلامية يفترض أنها لا تعبر عن طبقة اجتماعية محددة. وأمام الفشل الذي منيت به نماذج الغرب والشرق يأتي الإسلام بإنسانه الأخلاقي المثالي المجرد من تعريف طبقي. ولكن تجاوز التعريف الطبقي على مستوى الأفكار لا يتجاوز القهر الطبقي في الواقع المعاش.

سنجد أيضاً قضية اقتصادية محورية في الخطاب الإخواني هي قضية الربا. وعادة ما يتم نقد موقف الإخوان من الربا وشكلها المعاصر في الفوائد المصرفية على أنه مجرد موقف رجعي من العصور الوسطى لا يتماشى مع النظم الاقتصادية المعاصرة.

ولكن هذا النقد يتجاهل مثلاً التأثير المدمر للقروض البنكية ذات الفوائد العالية على قطاعات واسعة من الفلاحين وبالتالي يتجاهل تأثير الخطاب الإسلامي حول الربا على مثل هذه القطاعات.

في دراسة نشرت في موقع الإخوان الإلكتروني تحت عنوان "الربا .. رؤية اقتصادية لآثاره السلبية" يطرح الباحث ثلاثة أمثلة للتأثير المدمر للفوائد البنكية. المثل الأول يعبر بصدق عن دفاع الإخوان عن الطبقة الوسطى وظلم الشركات الكبرى والاحتكارية فيطرح الباحث:

"فالمشروعات الكبيرة تحصل على قروض أكبر وبسعر فائدة أقل، على عكس المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي قد تكون ذات إنتاجية عالية، وهنا تنشأ مفارقة غريبة، فالمنشأة والمشروع الكبير القادر على تحمل عبء الربا يحمل عبئاً أقل من المشروع الصغير والمتوسط، ولعل هذا هو أحد أسباب نمو المنشآت الكبيرة واختناق المشروعات الصغيرة، وتعزيز الاحتكارية". (45)

ويمكن أن نفهم تأثير تلك الدعاية السياسية في مصر المعاصرة التي يقترض كبار الرأسماليين فيها مئات الملايين من البنوك بشروط ميسرة، بينما ينهار المقترض الصغير صاحب الدكان أو السيارة الأجرة تحت وطأة الديون وفوائدها.

المثال الثاني الذي يقدمه الباحث هو مأساة الائتمان الزراعي:

"وتعطي تجربة بنك الائتمان الزراعي في مصر ـ ومأساة الفيضانات في بنجلاديش ـ نموذجاً سيئاً في استنزاف البسطاء، ففي بنك الائتمان الزراعي قام البنك بتوسيع حجم القروض الربوية التي يمنحها للفلاحين البسطاء دون أن يحصلوا على أية إرشادات أو توجيهات حقيقية في كيفية الاستفادة من هذا القرض، وكانت نسبة الربا على هذا القرض 13% أضيفت إليه مصاريف إدارية ورسوم وتأمينات حتى انتهى الربا إلى 17% على القرض، وعجز الفلاحون عن السداد؛ لأنهم استخدموا القروض في الجانب الاستهلاكي والبناء على الأرض الزراعية، وأمام إصرار البنك على تحصيل أمواله التي زادت على 1.3 مليار دولار بدأت عمليات جدولة للديون على عشر سنوات، إلا أنها كانت في حقيقتها تعظيم لهذا الدين، فالفلاح المدين بمائة ألف جنيه سوف يردها بعد هذه السنوات 175 ألف جنيه بعد الجدولة.

ثم ابتكر البنك أسلوباً جديداً فريداً آخر لتسديد هذه الديون بمنح الفلاحين قروضاً جديدة لتسديد القروض القديمة، وبفوائد ربوية أعلى ومصاريف أخرى وتأمينات، فأثقل كاهل الفلاح الذي وجد أبواب السجون أمامه، والحجز على أرضه ومواشيه خلفه، فبيعت أراضي وحيوانات بثمن بخس". (46)

هكذا يتحول الرفض الأخلاقي والديني للربا إلى فهم عميق ومعاصر للتأثيرات الكارثية للفوائد البنكية على الفلاحين الصغار والمتوسطين وتصبح جاذبية الخطاب الإخواني لهؤلاء ليست مجرد جاذبية الأفكار الأخلاقية المحافظة بل جاذبية من يفهم معاناتهم الواقعية حتى إن لم يكن يقدم أي بدائل عملية تحررهم من قيود النظام المالي الرأسمالي الحديث.

والمثال الثالث والأخير الذي يقدمه الباحث هو ما يحدث عند اقتراض دول العالم الثالث الفقيرة من الدول الصناعية الكبرى ومؤسساتها المالية:

"وكانت بعض المؤسسات المالية والدول الدائنة تؤجل سداد الدين الأصلي في حين تحصل الفائدة على هذا الدين، وعندما تصل بعض الدول إلى حافة الإفلاس فإن هذه المؤسسات تقرضها لتمكينها من سداد متأخراتها من فوائد الدين القديمة؛ حتى تتجنب الإعسار المؤقت، ومن ثم فإن القروض الجديدة تستخدم لسداد خدمات ديون قديمة، وليس لسداد الدين الأصلي، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى سرعة استيلاء الدائنين الدوليين على الدين الجديد، ويبقي الدول المدينة في حال من الاستغلال الدائم يعرض قرارها السياسي للتأثيرات والضغوط الخارجية، ويمنع هذه الدول من إتباع سياسة قومية مستقلة".(47)

إذن نحن أمام خطاب لا يكتفي بالعودة إلى القرآن والسنة لإثبات أن الربا بكافة أشكالها حرام بل يوضح كيف يؤدي النظام الائتماني الرأسمالي الحديث إلى إفقار دول العالم الثالث وإفقادهم للاستقلال، وتشريد الفلاحين المتوسطين والصغار تحت وطأة الديون وفوائدها الباهظة، وإفلاس المشاريع الصغيرة وهيمنة الشركات الاحتكارية الكبرى.

لكن في المقابل لا يطرح هذا الخطاب ضرورة إلغاء ديون العالم الثالث أو رفض تسديدها، ولا إلغاء ديون الفلاحين وإقراضهم دون فوائد، ولا يطرح تصوراً بديلاً لنظام مالي يمنع الاحتكار والظلم والاستغلال.

وعندما هلل الإخوان لشركات توظيف الأموال كبديل لنظام الفوائد البنكية سرعان ما اتضح كيف اعتمدت تلك الشركات على المضاربة في البورصات العالمية وأسواق الذهب وسرعان ما انهارت وأخذت معها مدخرات الملايين.

لليسار الثوري تراثاً عريقاً في النضال ضد الرأسمالية المالية وضد قروضها التي تفرضها على صغار الفلاحين بفوائد مدمرة، ولكن أين نضال اليسار المصري اليوم لإسقاط ديون الفلاحين؟ أليس هذا الطريق الأجدى لكسب الجماهير بعيداً عن الخطاب الإخواني؟

لعل أهم تناقض في برامج الإخوان يكمن بين طرحهم الوطني المعادي للهيمنة الأمريكية والصهيونية وطرحهم الاقتصادي الذي يتوافق مع برامج الإدارة الأمريكية والمؤسسات الاقتصادية التابعة لها.

فالخصخصة وتحرير التجارة ومجمل السياسات الليبرالية الجديدة التي يتبناها الإخوان هي جزء أصيل من الهجمة الأمريكية على المنطقة التي يعاديها الخطاب الإخواني. كيف يمكن الحديث عن ضرورة الاستقلال الوطني والوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية والقبول في ذات الوقت بالسياسات الاقتصادية التي تفرضها تلك الهيمنة بل وتعمقها؟

كيف يمكن للإخوان أن يجذبوا الآلاف من الشباب من الطلاب والخريجين الفقراء ثم يتبنوا سياسات لا يمكن إلا أن تعمق من الأزمة التي يعانني منها هؤلاء الشباب؟

هذا التناقض لا يمكن التعامل معه وكأنه مجرد نتيجة لانتهازية قيادات الإخوان أو خداعهم لقواعدهم وجماهيرهم.

فالتناقض في الخطاب يعكس تناقضات البنية الطبقية لحركة الإخوان ونجاحهم في جذب الملايين من الشباب رغم تلك التناقضات.

هو أيضاً في واقع الأمر نتيجة لغياب اليسار المناضل القادر على طرح برنامج طبقي يربط بين القضايا الوطنية والقضايا الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يطرح بديلاً ملموساً أمام تلك القطاعات من الفقراء التي يجذبها اليوم الخطاب الإخواني رغم تناقضاته.

استنتاجات

لقد ارتكب اليسار المصري أخطاء فادحة في تحليله وتعامله مع جماعة الإخوان المسلمين. فقد اتخذ موقفاً يعتبرها حركة رجعية ظلامية تعادي الحداثة والديمقراطية. ووفق هذا التحليل فهي حركة معادية للجماهير وتخدم بشكل مباشر وكامل مصالح أكثر قطاعات البرجوازية رجعية ويمينية. وكان الاستنتاج العملي لهذا التحليل هو ضرورة محاربة هذه الحركة ومنع وصولها للسلطة حتى وإن كان ذلك بالتحالف مع السلطة البرجوازية في مواجهتها. وقد حاولنا في هذا الكراس الصغير أن نقدم قراءة بديلة تظهر الطبيعة المعقدة والمتناقضة والمتغيرة للإخوان في سياق تطورها التاريخي وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية.

فظهور الإخوان في النصف الأول من القرن العشرين كان نتاجاً لتناقضات التطور الرأسمالي التي خلقت طبقة وسطى حديثة مأزومة مرتبطة أخلاقياً بجذورها الريفية وعملياً بعالم المدينة الرأسمالية بصراعاته وتناقضاته. وقد استطاع حسن البنا أن ينظم صفوف تلك الطبقة وأن يجعل جماعته منبراً للتعبير عن تطلعاتها الطوباوية.

ولأن الخطاب الذي بلوره البنا كان خطاباً دينياً مثالياً فقد كان يجذب للجماعة ليس فقط الطبقة الوسطى الحديثة والتي شكلت العمود الفقري للجماعة بل أيضاً قطاعات من الأغنياء الذين جذبتهم الشعارات الدينية المحافظة وقطاعات من الفقراء الذين رأوا في شعارات الجماعة المبهمة حول العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم والفساد خلاصاً من معاناتهم.

ولم يكن باستطاعة الإخوان أن يصبح لهم ذلك النفوذ الجماهيري الهائل دون أخطاء اليسار التاريخية في الأربعينات حيث أدت تبعيته للاتحاد السوفيتي إلى تبني استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية، التي أدت في نهاية المطاف إلى تذيل حزب الوفد والتخلي عن استقلالية وقيادية الطبقة العاملة.

وخلال الفترة الناصرية استطاع النظام بمزيج من القمع والاستيعاب من سحب البساط من تحت أقدام الإخوان، فقد مكنته سياساته الاقتصادية من دمج الطبقة الوسطى الحديثة في مشروع رأسمالية الدولة. لكن فشل تلك التجربة وكارثة حرب 1967 وغياب اليسار الذي باع نفسه للنظام بحله الحزب الشيوعي جعل الأرض ممهدة لعودة الإخوان.

وقد كانت السبعينات فترة انتقالية بالنسبة لتطور الإخوان فقد خرجت القيادات القديمة من المعتقلات وهي فاقدة لأية علاقة بقواعدها الاجتماعية ولم يبقى لها سوى الارتباط بكوادر أمضت الفترة الناصرية في الخليج وكونت ثروات ضخمة مما دفع بخطاب ومواقف الإخوان إلى أقصى اليمين. لكن مع النمو السريع للجماعات الإسلامية في الجامعات ودخول تلك الجماعات في صفوف الإخوان تغيرت التركيبة الطبقية للجماعة وعادت بالتدريج لمنهج حسن البنا في البناء التنظيمي.

وقد اعتمد النمو الواسع النطاق للجماعة خلال الثمانينات والتسعينات على عدة عوامل أهمها تفاقم أزمة خريجي الجامعات والمعاهد وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها في المناطق الشعبية. ومن خلال العمل الدءوب في الجامعات والنقابات المهنية والعمل الخيري وتقديم الخدمات في المناطق الشعبية استطاع الإخوان من إعادة بناء شبكة كوادرهم وجذورهم الاجتماعية. وكلما تحول النظام إلى الليبرالية الجديدة وتخلت الدولة عن دورها في تقديم الخدمات كلما استطاع الإخوان ملء الفراغ وتوسيع نفوذهم.

وما من شك أن غياب اليسار خلال التسعينات قد ترك المجال مفتوحاً أمام نمو الإخوان سواء كان ذلك الغياب بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يعتبره غالبية فصائل اليسار نموذجاً وقدوة بل ومصدراً للتعليمات والتمويل في بعض الحالات، أو بسبب تذيل النظام بحجة خطورة المد الإسلامي.

كان الموقف الذي اتخذته غالبية فصائل اليسار من الحركة الإسلامية بمثابة انتحار سياسي فالتحالف مع الدولة قد أفقد هؤلاء لأية مصداقية لدى الجماهير ولعل النتائج التي حققها حزب التجمع في الانتخابات الأخيرة هي أكبر دليل على ذلك. لكن رفض التحالف مع النظام ورفض اعتبار الإخوان كتلة رجعية مصمتة لا يعني على الإطلاق الارتماء في أحضانهم فقد رأينا ما حدث حين تحالف الحزب الشيوعي الإيراني مع الخوميني بحجة أنه يقود النضال في مواجهة الإمبريالية وكانت النتيجة مذبحة للشيوعيين ومذبحة للطبقة العاملة الإيران ية.

فيجب أن يكون هدف اليسار المناضل في مصر اليوم هو بناء بديل اشتراكي مستقل لا يرمي نفسه في خندق النظام ولا يرمي نفسه أيضاً في خندق الإسلاميين. لكن الاستقلال لا يأتي من خلال المواقف السلبية تجاه المعارك الدائرة. فعندما تكون المعركة بين الإخوان والنظام حول المطالب الديمقراطية مثلاً كإلغاء قانون الطوارئ أو استقلال القضاء أو حول مطالب ضد الفساد كالمطالبة بالتحقيق في حادث العبارة، في حالات كهذه سيكون من الغباء الشديد لليسار أن يتخذ موقفاً محايداً بحجة الاستقلال أو أن يؤسس حملاته المستقلة النقية والصغيرة والهامشية بطبيعة الحال بحجة عدم الدخول في عمل مشترك مع الإخوان.

في مثل تلك الحالات على اليسار المناضل أن يدخل في عمل مشترك مع الإخوان. ولكن هذا العمل المشترك لا يجعلنا نتوقف للحظة عن نقد مواقف الإخوان عندما يهادنون من جديد أو عندما يحرفون مسار المعركة نحو قضايا أخلاقية ورجعية. والعمل المشترك لا يجعلنا نتنازل ولو للحظة واحدة عن رايتنا المستقلة.

إن منافسة الإخوان واستعادة الوجود لليسار المناضل في صفوف الجماهير لن يحدث إلا من خلال النضال الطبقي في أوساط العمال والفلاحين الفقراء. والبديل اليساري المستقل عليه إقناع الجماهير، عبر الممارسة الملموسة حول مصالحها الطبقية وليس الدعاية المجردة حول العلمانية والدولة المدنية، أن مصالحها ليست مع الإخوان المسلمين بل مع الاشتراكية. وأن نثبت عملياً أننا الأكثر جذرية في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية والأكثر صلابة واتساقاً في مواجهة الاستبداد.

لقد أفقدتنا أخطاء اليسار الاستراتيجية الفادحة الكثير من الوقت والكثير من الجذور الجماهيرية. وقد ساعدت هذه الأخطاء على خلق الفراغ السياسي الذي مكن الإخوان من توسيع نفوذهم وفرض أنفسهم بصفتهم قوة المعارضة الأساسية في مصر. لكن هذا الوضع قابل للتغيير سريعاً إذا ما تمكن اليسار المناضل من بلورة الاستراتيجيات والتكتيكات الصحيحة. فالتصاعد القادم في الصراع الطبقي سيخلق مساحات جديدة لزرع جذور قوية لليسار تمكنه من النمو وتوسيع نفوذه. إلا أن اليسار لن يتمكن من تحقيق شيء طالما ظل حبيساً لمواقف خاطئة لم يجني منها سوى العزلة والتهميش.


الهوامش

هوامش الفصل الأول:

1) شارل عسوي (1954مصر في منتصف القرن: مسح اقتصادي.

2) المصدر السابق.

3) المصدر السابق.

4) جون واتربري (1983مصر ناصر والسادات: الإقتصاد السياسي لنظامين.

5) شارل عسوي، المصدر السابق.

6) روبرت تيجنور (1984الدولة والاستثمار الخاص والتغيير الاقتصادي في مصر.

7) توني كليف (1946مصر في مفترق الطرق.

8) طارق البشري (2002الحركة السياسية في مصر.

9) المصدر السابق.

10) جول بينين وزكاري لوكمان (1987عمال على ضفاف النيل.

11) رفعت السعيد (1999حسن البنا متى وكيف ولماذا.

12) المصدر السابق.

13) ريتشارد ميتشل (1969جماعة الإخوان المسلمين.

14) المصدر السابق.

15) برنيار ليا (1998جماعة الإخوان المسلمين في مصر.

16) المصدر السابق.

17) المصدر السابق

18) المصدر السابق.

19) المصدر السابق.

20) ريتشارد ميتشل، المصدر السابق.

21) برنيار ليا، المصدر السابق.

22) المصدر السابق.

23) ريتشارد ميتشل، المصدر السابق.

24) طارق البشري، المصدر السابق.

25) ريتشارد ميتشل، المصدر السابق.

26) المصدر السابق.

27) المصدر السابق.

28) المصدر السابق.

29) برنيار ليا، المصدر السابق.

30) ريتشارد ميتشل، المصدر السابق.

31) رفعت السعيد، المصدر السابق.

32) المصدر السابق.

33) أبو سيف يوسف، من تاريخ اليسار المصري.

34) رفعت السعيد، تاريخ الحركة الشيوعية المصرية.

35) المصدر السابق.

36) رفعت السعيد، حسن البنا متى وكيف ولماذا.

37) المصدر السابق.

38) حسن البنا (1998)، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا.

39) المصدر السابق.

40) المصدر السابق.

41) المصدر السابق.

42) المصدر السابق.

43) المصدر السابق.

44) المصدر السابق.

45) محمد الغزالي (1996الإسلام والأوضاع الاقتصادية

46) المصدر السابق.

47) المصدر السابق.

48) المصدر السابق.

49) المصدر السابق.

50) محمد الغزالي (1997الإسلام والمناهج الاشتراكية.

51) المصدر السابق.

52) رفعت السعيد، حسن البنا متى وكيف ولماذا.

53) طارق البشري، المصدر السابق.

54) المصدر السابق.

55) ريتشارد ميتشل، المصدر السابق.

56) المصدر السابق.

57) حسن البنا، المصدر السابق.

هوامش الفصل الثاني:

58) جول جوردن (1992حركة ناصر المباركة.

59) المصدر السابق.

60) المصدر السابق.

61) المصدر السابق.

62) روبرت مابرو (1976الاقتصاد المصري.

63) المصدر السابق.

64) المصدر السابق.

65) جون واتربري (1983مصر ناصر والسادات: الإقتصاد السياسي لنظامين.

66) المصدر السابق.

67) المصدر السابق.

68) جيل كيبل (1988)، النبي والفرعون]].

69) المصدر السابق.

70) المصدر السابق.

71) المصدر السابق.

72) المصدر السابق.

73) المصدر السابق.

74) المصدر السابق.

75) المصدر السابق.

76) المصدر السابق.

77) المصدر السابق.

78) كاري روزفسكي ويكهام (2003تعبئة الإسلام.

79) المصدر السابق.

80) المصدر السابق.

81) المصدر السابق.

82) إليا حارك (1992)، سياسة الإصلاح الاقتصادي في مصر.

83) المصدر السابق.

84) كاري روزفسكي ويكهام، المصدر السابق.

85) إليا حارك، المصدر السابق.

86) هبة حندوسة (1999العمالة والإصلاح الهيكلي في التسعينات.

87) المصدر السابق.

88) المصدر السابق.

89) المصدر السابق.

90) كاري روزفسكي ويكهام، المصدر السابق.

91) جويل كامبانيلا (2001)، من الاستيعاب إلى المواجهة.

92) كاري روزفسكي ويكهام، المصدر السابق.

93) المصدر السابق.

94) إخوان أون لاين

95) المصدر السابق.

96) المصدر السابق.

97) المصدر السابق.

98) المصدر السابق.

99) المصدر السابق.

100)عبد الحميد الغزالي (2004المنهج الإسلامي في التنمية.

101) المصدر السابق.

102) إخوان أون لاين.

103) المصدر السابق.

104) المصدر السابق.