الجزء الثاني الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ .
مقدمة الجزء الثاني
لما ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب تلقيت آراء بعض الذين طالعوه فقال بعضهم أنه تاريخ ممتع وقال بعض آخر أنه أسلوب في التأليف يغري بالقراء لما فيه من تنقل بالقارئ من ميدان إلى ميدان ومن موضوع إلى موضوع , وقال آخرون أنه ليس تاريخا فحسب بل هو برنامج ومنهج بين المعالم محدد الخطوات ...
وهكذا تنوعت الآراء ... وأرجو أن يكون الكتاب جديرا بها جميعا , فإنها جميعا كانت أهدافا متوخاة – ولكن الهدف الأول الذي كنت حريصا على إبرازه في هذا الكتاب بأجزائه هو أن أوضح للقارئ حقيقة غائبة عن أكثر الناس هي أن دعوة الإخوان المسلمين هي التي صنعت تاريخ مصر خاصة والأمة الإسلامية عامة في هذا العصر الذي نعيشه صنعا جديدا,وحولت مسار هذا التاريخ إلى مسار آخر ...ولولا ظهور هذه الدعوة في هذه الحقبة من الزمان لتوقف التاريخ بنا حتى اليوم عند الحال التي كنا عليها في أواخر العشرينات من هذا القرن .
فلقد عالجنا في الجزء الأول من الكتاب توضيح الحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة خلال العشرينات والثلاثينيات للشعب المصري خاصة وللشعوب العربية والإسلامية عامة ... وكيف واجهت دعوة الإخوان المسلمين الناشئة هذه الحالة التي كانت تبدو للمصلحين يائسة ميئسة...فالشعوب في هذه البلاد تغط في نوم عميق فاقدة الوعي مقطعة الأوصال مستسلمة للغاصبين, مسترخية لا تدري ما يفعل بها ولا ما تفعل - سواء في ذلك عامة هذه الشعوب وزعماؤها , ورحم الله الشاعر العظيم أحمد محرم إذ يصف حال هذه الأمم الإسلامية في ذلك الوقت في أبياته المشهورة فيقول:
في دولة للمسلمين تشوقهم
- أيامها وتهزهم ذكراها
يا ويح للأمم الضعاف اتنفضي
- دنيا الشعوب وما انقضت بلواها ؟
أمم هوالك , ما لمست جراحها
- إلا بكت وبكيت من جراها
لم أدر إذ ذهب الزمان بريحها
- ماذا من القدر المتاح دهاها ؟
إن الذي خلق السهام لمثلها
- جمع المصائب كلها فرماها
وبينا للقارئ كيف استطاعت هذه الدعوة – بقيادة ملهمة حكيمة بارعة وجهود مضينة خالصة مخلصة وبتكتيك وئيد منسق منظم راسخ الخطوات بعيد الأهداف لا يستحثه المستبطئون ولا يستخفه المعجبون , ولا ينهنه من غرمة المعوقون – استطاعت أن تبث روح الحياة في هذه الشعوب من جديد فأيقظتها من رقادها وبعثتها من سباتها .. فقامت تنفض عن نفسها غيار نوم طال أمده , وأخذت تتعرف على نفسها وتستعيد هويتها ونحن إلى أصلها وتأسف على ما فرط منها في حق هذا الأصل الكريم عاقدة العزم على استرداد ما سلبته من حقوق وما ضيعته من أمجاد .
وبهذه الأمة الجديدة الفتية المستيقظة المتوبثة, واجهت الدعوة بعقيدتها المستقرة في أعماق النفوس الممتزجة بشغاف القلوب مآسي الأمة الإسلامية التي تقطعت معها إربا, وتوزعت تحت وطأتها شيعا وأثخن بدنها على مر الأيام طعنات وجراحا وديست أرضها بنعال المحتلين من المستغلين وشذاذ الآفاق . واجهت ذلك كله بأسلوب جديد لا عهد للمتصدين للقيادة في أنحاء العالم الإسلام يكله به ... أسلوب الواثق بنفسه المطالب بحقه المقتنع بعدالة قضيته , المنبعث من سويداء قلبه المستند إلى أعدل رسالة الداعي إلى أقوم سبيل , المندفع بآمال أوسع من رحاب الدنيا المؤثر الموت الكريم على العيش الذليل .
وكما أيقظت الوعي في النفوس والعقول في مصر أيقظته أيضا فيما سوى مصر من البلاد العربية والإسلامية فامتد أثرها حتى وصل إلى اندونيسيا وباكستان – وتعهدت القضية الفلسطينية فوصلت بها من حالة كانت فيها مجهولة تماما من البلاد العربية والإسلامية نفسها – سواء في ذلك شعوبها وحكامها – إلى حالة صارت فيها القضية الأولي لهذه البلاد شعوبا وحكاما .
وتجاوب مع الدعاة في القاهرة كل الطبقات المثقفة المستنيرة في أنحاء العالم الإسلامي متخذين القاهرة منارتهم الهادية وسط الظلام الدامس الذي كان مخيما على هذا العالم الإسلامي .. فواجه الاستعمار العالمي لأول مرة منذ قرون انتقاضات واعية , وحركات مواجهة جادة عارمة , تؤججها روح إسلامية شابة ملتهبة سواء في مصر وفي الشرق العربي والمغرب العربي وفي الهند وفي جنوب شرقي آسيا ... حركات وانتقاضات, ليست من الطراز المعهود للاستعمار من قبل تلك التي كان يمتص حدتها بوعود تبذل أول بمناصب تسند ...وانتهت هذه الانتقاضات بتحرير هذه الشعوب من ربقة الاستعمار .. وبحث الاستعمار العالمي هذه الظاهرة الخطيرة التي هددت وجوده في كل مكان .. فلم يجد أن جديدا قد طرأ على هذه البلاد – منذ وطئت أقدامه أرضها وتم له احتواء كل ما نشا فيها من هيئات وأحزاب – لم يجد جديدا قد جد سوى " دعوة الإخوان المسلمين "...
فجمع الاستعمار شمله, وأعد عدته ووضع خططا خطيرة ماكرة لمواجهة السيل الجارف الممثل في هذه الدعوة , وقرر معالجتها بضربة قاضية قبل أن تسبق هي بضربة هذه الضربة .
كل هذه المعاني التي أدرنا الحديث حولها في الجز ء الأول كانت واضحة تمام الوضوح في خاطري وفي مخيلتي حين سطرتها لأنني لابستها وعايشتها وأعتقد أنه قد كان لها نفس الوضوح في مخيلة القراء من جيلنا حين طالعوها لأنهم عايشوها كذلك .. ولكن السؤال الحائر الذي يبحث عن جواب هو : هل كان لهذه المعاني بالذات الوضوح الكافي في نفوس الذين قرأوها من الأجيال الجديدة التي لمتعايش هذه الأحداث والذين نشأوا ولقنوا تاريخا مزورا ممسوخا وهم لا يشعرون .
إن على هذه الأجيال أن تعلم أن كل ما سردناه في لجزء الأول إنما هو مجموعة من الحقائق التاريخية الثابتة التي لا تجحد , ولكن الذي حجبها وموه عليها تواطؤ متعمد بين لا قدرة لهما على تغييرها أو محوها إلى الأبد فإن الأحداث التاريخية جزء من الزمن .
وإذا كانت أحداث الجزء الأول قد وقع أكثرها والعالم الإسلامي لا يزال في غفوة وكان طبيعتها أن لم يكن لها الصخب الكافي الذي يلفت إليها الأنظار فسهل بذلك على المغرضين حجبها فإن أحداث الجزء الثاني هذا جاءت صاخبة متأججة مدوية ...ولكنها مع ذلك لم تكن إلا نتيجة الأحداث التي سردناها من قبل والتي لا يعيبها أنها كانت هادئة رزينة والمثل العربي يقول :" أول الحرب الكلام ".
فماذا يقول الجاحدون حين ننقل للقراء أحداث الجزء الثاني المثيرة المشتعلة من مظانها وقد سجلتها أضابير الحكم وسالت بذكرها والتعليق عليها أنها الصحف في الداخل والخارج ورددت صداها إذاعات العالم , وشهدت لها سجون البلاد ومعتقلاتها ؟
... وهل كانت هذه الأحداث الصاخبة التي يطالعها القراء إن شاء الله في هذا لجزء إلا صدى للعمل الهادئ الوئيد المخطط الذي استمر عشرين عاما دون ملل ولا صخب ولا هوادة..وبفضل الحكمة ومهارة القائد أمكن أن تحجب الدعوة الوليدة عن أعين المتربصين من الخونة والمستعمرين فلم يتنبهوا لها إلا وقد صارت ماردا جبارا يحتاج الظلم والظالمين .
ونحب هنا أن نقف وقفة قصيرة أمام قضية قد يثيرها بعض الناس ... ذلك أن الجزء الأول من هذا الكتاب – بطبيعة مسايرته لأطوار الدعوة منذ كانت فكرة يجب الإقناع بها – قد استعرض كثيرا من أى الكتاب العزيز وبعضا من أحاديث رسول صلي الله عليه وسلم ...وقد لا يجد القارئ في هذا الجزء مثل ذلك فيقول بعضهم : أين موضع هذا الجزء من الدين , ولم نقرأ فيه تفسيرا لآيات ولا شرحا لأحاديث ولا تعرضا لأحكام فقهية تتصل بالعبادة ؟
ولهؤلاء الأخوة الكرام نقول: أن المسلمين قد درجوا في عهودهم التي طمست فيها معالم دينهم على أن يروا أن الكتب التي تتعلق بالدين هي الكتب التي تنحو بالقارئ ناحية علمية نظرية تزيد من معلوماته الدينية وتثريها أما ما سوى ذلك من الكتب فإنها في نظرهم كتب ليست من الدين في شئ ... مع أن الدين ممارسة عملية قبل أن يكون دراسة علمية ..
ذلك أن الإسلام شقان : أحدهما المعلومات والآخر التنفيذ والتطبيق .... ولم يشغل الشق الأول بكل ما فيه - من حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم وحياة الرعيل الأول معه – إلا جزءا من ألف جزء شغلها الشق الآخر .. حيث كانت حياتهم كلها مرصودة للنهوض بأعباء نشر الفكرة الإسلامية وتثبيتها في النفوس , وللعمل المتواصل لإقامة الدولة الإسلامية على المنهج الذي جاء به القرآن وللجهاد الذي لا يفتر لتحرير الشعوب من ربقة الظلم والاستبداد وإنقاذ الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله – ولقد دخل رجل عاهد النبي صلي الله عليه وسلم على أن يضرب بسهم من هنا فيخرج من هنا , والمعركة قائمة فصدق الله . فصدقه الله , ودخل الجنة قبل أن يركع لله ركعة .
وليس معني هذا أننا نغض من قيمة الشق العلمي في الإسلام ,وإنما قصدنا أن نلفت النظر إلى أن هذا الشق – مع عظيم قيمته – لا ينبغي أن يستوعب من حياة المسلم إلا القليل على أن يخصص الجزء الأكبر من حياته لتنفيذ ما حاره من معلومات وأكثر من تسعين في المائة من المعلومات في الإسلام تتصل بالمجتمع وتطالب المسلم أن يساهم بكل ما أوتي من قدرات ومواهب في إصلاح هذا المجتمع حتى يستقيم على أمر الله مهما كلفه من تضحيات " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر وأصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ".
وما كان الصحابة رضوان الله عليهم – على علو قدرهم – يعرفون من الأحكام الفرعية في الدين عشر ما يعرفه الآن طلاب المراحل الأولي من الدراسة الأزهرية ولكن حياتهم مع ذلك كانت ممارسة عملية لما تعلموه من المعلومات الأساسية القليلة من أحكام الدين , فكانوا يتحركون للدين , ويسكنون للدين , ويفرحون للدين ويغضبون للدين .. ويعيشون للدين , ويموتون للدين , وكانوا هم الذين حققوا قول الله تعالي : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين , لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ( الأنعام : 162 -163)
ولقد مد الله تعالي في عمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حتى رأى أجيالا – لا شك أنها كانت أحسن منا حالا وأقرب إلى الدين منا – ومع ذلك قال عنهم :" أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا – إن أحدكم ليقرأ من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به "
فالإسلام ممارسة وعمل وصبر وجهاد قبل أن يكون معلومات يتعمق في دراستها ويتبحر في الخوض فيها .. وذا أنت طالعت كتابا في سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم لم تقرأ إلا عن سلسلة متصلة الحلقات من الصبر والمصابرة والتجلد والثبات أمام شآبيب من نار التنكيل والتعذيب والسجن والقتل والاضطهاد والتشريد والإعنات ..وهذا هو الرسول الذي خاطبنا الله في شأنه فقال " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ".
والتاريخ يعيد نفسه ..ولا يزال المقتدون برسول الله صلي الله عليه وسلم يشقون نفس الطريق الذي شق ويعانون الآلام التي عاني ويواجهون الاضطهاد الذي واجه .. حتى تقوم الساعة ( آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( 1-3).
والذي يطالعه القراء في هذا الجزء من هذا الكتاب هو حلقة من حلقات هذه السلسلة التي كان الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته الحلقة الأولي فيها – فالأهداف هي الأهداف , والوسائل هي الوسائل , والعقبات هي العقبات ..وإن اختلفت شكلا فقد اتفقت موضوعا ,
هذه وقفة ..وهناك وقفة أخرى من حق الإخوة الذين طالعوا الجزء الأول أن نعرض لها حتى تطمئن نفوسهم تلك هي أن هذا الكتاب هو مذكرات تسجل أحداثا تاريخية ,والأحداث التاريخية لا تخرج عن كونها مواقف لأشخاص .. ولا يمكن فصل المواقف عن الأشخاص الذين اتخذوها – فإذا كان الحدث التاريخي موقفا كريما فأمانة التاريخ تقتضي تسجيله لصاحبه دون أدني محاولة للغض منه أو غمز لصاحبه أو إفراغ ما قد يكون في نفس الكاتب من شعور نحوه ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) ( المائدة : 8).
وهكذا جاءت مواقف سجلناها لأصحابها مرهونة بأوقاتها التي اتخذت فيها مشدودة إلى الظروف التي أحاطت بها . مستحقة من الثناء أو الذم ما أوحت به هذه الأوقات وما حكمت به هذه الظروف .
وإذا كان الله تعالي ذكره قد قطع على نفسه عهدا في حسابه لعباده ألا يغفل لعبد منهم عملا صدر عنه مهما صغر هذا العمل فقال : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل آتينا بها وكفى بنا حاسبين ) الأنبياء : 47) ثم زاد هذه القاعدة وضوحا فقال ( فمن مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ( الزلزلة : 7,8) ثم تعالي فضله وكرمه فوق أعلي مستويات العدل فقال : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تلك حسن يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) النساء : 40)
ونحن – معشر المؤمنين – مطالبون بأن نتخلق بأخلاق الله .. فكيف نضيق ذرعا بذكر موقف كريم – على سبيل التسجيل التاريخي – لإنسان رأينا له فيما بعد مواقف قد لا تتواءم مع هذا الموقف ؟
أحب أن يكون مستقرا في خلد الإخوة القراء أن أمانة التاريخ ونقل صور الأحداث وتسجيل المواقف .. وأمر يجب أن يؤدي دون أن يتأثر بعاطفة الكاتب من حب للشخصيات التي يكتب عنها أو كراهية .
وإذا كان شريط التسجيل عند الله يسجل الأحداث والمواقف ظاهرها وباطنها , فإن شريط التسجيل البشري يسجل الأحداث والمواقف بظاهرها دون بواطنها ذلك أن الله تعالي وحده هو المحيط بكل شئ علما وهو العالم بالسر وأخفي .. أما نحن فلا ندرك إلا ما يقع في مجال حواسنا .
وليس معنى أن إنسانا كان في وقت من الأوقات على حال ما أن يظل على هذه الحال في كل وقت .
علي أنني ما رأيت صديقا فتنه منصب أو أبطره جاء إلا وكان شعوري نحوه شعور الإشفاق ...لا الإشفاق عليه وحده , بل الإشفاق على نفس أيضا أن لو وضعت في موضعه فقد يغلبني ما غلبه وقد يستهويني ما استهواه ... وقلب لعبد المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن (من يشأ الله يضلله ومن يجعله على صراط مستقيم ) ( الأنعام : 39) ونسأل مقلب القلوب ونضرع إليه أن يثبت قلوبنا على دينه .
وبعد هاتين الوقفتين القصيرتين نرجع إلى ما كنا بصدده فتقول : إن الأحداث التاريخية الكبرى تجرى في أحداثها سنة الكون فتبدأ حياتها جنينا صغيرا يخلق خلقا من بعد خلق في بطون الأمم في ظلمات ثلاث .. حتى إذا تكاملت أسباب الحياة فيه أخذ الحمل تشتد أوجاعه وتتفاقم آلامه , وتتصعد آهاته , بالضجر من ثقله .. حتى إذا تمت للحمل ساعاته وأيامه وشهوره بدأ المخاض .. وما أشق المخاض , وما أصعب لحظاته .. حتى تكون الولادة .
وإذا كان الحدث البشري تجرى عليه هذه الأطوار في بطن أمه حتى يولد في أشهر معدودة فإن الحدث التاريخي يستغرق لاستكمال أطواره هذه في بطن الأمة سنين عددا .
وهكذا ساير القراء في الجزء الأول من هذا الكتاب الحدث التاريخي الذي بدأ والأمة الإسلامية ساهية لاهية تائهة, ثم التقت بالدعوة الناشئة فاحتضنتها فبدأ الحدث التاريخي الكبير أول أطواره وأخذ ينمو في بطن الأمة ويتطور عشرين عاما ... وعلى حين غرة فوجئ الغاصبون الذين كانوا قد أوهموا هذه الأمة بأنها عقيم ووضعوا أيديهم على كل مقدراتها من ثروة ومتاع – فوجئوا بأن الأمة على وشك ولادة حدث خطير يزلزل أقدامهم ويسلبهم كل ما يستمتعون به من ثورة أمة ومتاعها .. فأتوا مذعورين وأجمعوا كيدهم على إجهاضها متغابين في ذلك عن كل مبادئ الأخلاق والإنسانية والرحمة والقانون .
وانتهي القارئ في الجزء الأول مع استعراض ثماني محاولات من هؤلاء الغاصبين لهذا الإجهاض .. فلما فشلت هذه المحاولات لجأوا إلى محاولتين وحشيتين قصدوا بهما قتل الجنين والأم معا .
والأحداث التي تصنع التاريخ لابد لها من أن تمر بهذا الطور البالغ العنف والشدة والقسوة والوحشية .. وقد رأينا أن نفرد لهذا الطور بابين في هذا الجزء الثاني من الكتاب حيث عملت أيد خفية على حجبه , لإيهام الأجيال الجديدة التي لم تعش أيامه أن التاريخ الذي يعيشونه هو من صنع صور تحركها أمامهم هذه الأيدي ..وهذه الصور المحركة من وراءهم الذين قال الله تعالي في شأنهم : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) ( آل عمران : 188) .
يطالع القارئ في هذا الجزء مجابهة صريحة بين الدعوة الفتية وبين القوة الغاشمة وكيف فعلت القوة الغاشمة بشباب هذه الدعوة ورجالها ونسائها من فظائع ترتجف لهولها النفوس وتقشعر الأبدان ..,كيف تلقي هذا الشباب الطاهر المؤمن هذه الوحشية بالصبر والإيمان والثبات كما أذهل هذا الشباب العالم أجمع بشجاعة وفدائية منقطعة النظير في ميدان القتال أذهله كذلك بصبره وجلده وثباته في ميدان المحنة والابتلاء . كانت هذه الفترة هي أشد ما مر بالدعوة من محن وما اعترض طريقها من شدائد .. إنها كانت جائحة لا يقف أمامها شئ إلا اقتلعته من جذوره ... فالدولة كلها بكل ما تملك من قدرات قد سخرت نفسها وقدراتها لاجتثاث هذه الدعوة من أعمق أعماقها ..وقد تخلت هذه الدولة فعلا قرابة عام كامل عن كل مهمات الدول وتفرغت لهذه المهمة مستبيحة جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة .
ولقد كنا نحن – الإخوان المسلمين – في ذلك الوقت لشدة ما نرى من تضافر جميع القوى ضدنا نلتفت يمينا وشمالا فلا نرى إلا أعداء أو شامتين .. حتى الشعب المسكين بدأ يتأثر بما لم يعد يسمع غيره مما تكيله لنا وسائل الإعلام من تهم وافتراءات . فالتنكيل والتعذيب يتم في خفاء ومن وراء ستار والتهم والافتراءات تكال ملء الصفحات وفي الإذاعة الساعات تلو الساعات , وبألسنة حداد وبلاذع العبارات .. فكأنما كنا المخاطبين بقوله تعالي : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) ( الأحزاب :10, 11)
ولم نكن ندرى بعد أن هذا الذي نعانيه هو طور لابد منه لإفراز حدث تاريخي جديد.. لم نكن ندرى أن هذا هو طور المخاض لحمل تكون في بطن الأمة خلال عشرين عاما وقد آن للمولود أن يولد – وإذا كانت فترة المخاض لإفراز المولود البشري لا تعدو أن تكون ساعة أو نحوها , فإنها تمتد لإفراز الحدث التاريخي شهورا وسنين .
ولعمرى إنها لحقائق تاريخية لسنا في إيرادها متخيلين ولا متوهمين ولا مدعين ..وإذا كان هناك من يدعون أن لهم فضلا في صنع هذا التاريخ فليأتونا بما سجله التاريخ لهم من فكرة محددة المعالم بثوها لمدة عشرين عاما في أذهان الشعب المصري والشعوب العربية والإسلامية فأحيت هذه الشعوب من موات وأيقظتها من سبات , وجمعتها بعد شتات , وواجهت بها – بعد تربية على أعلي المستويات – الفساد في الداخل والاغتصاب والاستعمار في الخارج . ولو كان الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي قد وجدا أمامهما من يعترض طريقهما أو من يخشيان على وجودهما منه لكان لهما معه موقف شبيه بموقفهما من الإخوان المسلمين :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
- إذا جمعتنا يا جرير المجامع
لقد نكلت الحكومة الحاقدة المؤيدة بكل قوي البغي الداخلية والخارجية برجال هذه الدعوة وشبابها ونسائها ومزقتهم كل ممزق .. ثم لم تكتف بذلك بل أرادت أن تمحو هذه الدعوة من التاريخ , فتقدمت بالحطام الذي أبقي عليه التنكيل والتعذيب من هؤلاء الشباب الأبطال إلى القضاء, بقضايا مجهزة بأخطر التهم وباعترافات خطية مفصلة .. فكانت هذه الخطوة هي أشد علينا من كل ما لقينا من عنت وظلم وافتراء وتعذيب .. ذلك أن كلمة القضاء هي الكلمة الفاصلة التي يتلقاها التاريخ بتجلة وثقة واحترام ..وإذا ضلل القضاء فقال كلمته – بناء على ما قدم إليه من أدلة مزورة والقضاة بشر لا يعلمون الغيب – فإن كلمته هذه تدمغ المقضي في شأنه دمغا يمحو تاريخه ويقضي على مستقبله .. إن كلمة القضاء قبر يوارى فيه من دمغته كلمته إلى الأبد .
ولكن الله جلت قدرته صدق وعده إذ قال ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمنا ) ( النور : 55 ) فقد تكفل هذا العليم الخبير القدير بأن يجعل هذا القبر الذي أعدوه لهذه الدعوة قبرا لهم .. أو ليس هو سبحانه الذي وصف قدرته فقال : ( ويخلق مالا تعلمون ) ( النحل :8) وسجل وعده فقال ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ( الصافات : 171 -173) وقال ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ) الأنبياء : 70) ؟
ولا يحسبن القارئ الكريم أن الغلبة والنصر الذين وعد الله بهما لا يتحققان إلا بتولي الموعودين مناصب الحكم .. فمناصب الحكم عارضة وزائلة , وستنسي على الأيام وينسي من شغلوها ولا يبقي في أذهان الناس إلا رذائلهم وسخافاتهم وطيشهم ..وإنما النصر هو التمكين في الأرض .. وهو تغلغل الفكرة التي تدعو إليها في عقول الناس وقلوبهم وامتزاجها بدماء مهجهم , وصياغتها الأجيال تلو الأجيال على النمط الذي توحى به والطراز الذي تنشده , مهما تعاقبت الأيام وتغيرت الظروف .. لا تعترف العقبات , ولا تكترث بالمعوقات .. فهي ماضية في طريقها كوكبا هاديا في ظلمات ليل بهيم حتى ينبلج الفجر فتكون هي شمسه المشرقة التي ينعم الجميع بنورها ويستمتعون بدفئها وحيوتها .
كان لابد للشعب أن يشهد ويقرأ ويسمع – بعد أن طال أمد تضليله – عن طريق ساحات القضاء ما حجب عنه من بطولات أبنائه وشجاعتهم وفدائيتهم وأن يشهد ويفؤأ ويسمع ما أخفي عنه – من مخازي تلك العهود وخياناتها وتواطئها مع المستعمر – ما يحرك شعور هذا الشعب ويثير حفيظته وما يعده إعدادا عقليا ونفسيا وعاطفيا لثورة عاصفة لا تبقي من هذه العهود على أثر.
والمستعمرون وآلاتهم من حكام الشعوب المستعضفة لا يملون ولا ييأسون مهما فشلت خططهم ومهما حبطت مؤامراتهم فلقد لجأوا أخيرا والدعوة لا تزال في طور ما بين الحياة والموت إلى تطويقها عن طريق التشريعات والقوانين .. وهذا باب من أخطر الأبواب الخبيثة الماكرة , فهو أسلوب هادئ للإعدام بالسم الزعاف الذي لا يسمع له صوت ولا يحس له ضجيج .. هذا هو أسلوب الاحتواء الذي يقضي على شخصية الهيئات والأفكار والدعوات دون أن تحس هي أو يحس غيرها – ولا يلجأ إليه عادة إلا الحكام الماكرون المفتونون بغرور السلطة الذين يعميهم الغرور فينسون أنهم زائلون .. وقد عانت الدعوة أيضا هذا النوع من طرق الإبادة , وأفردنا له فصلا كاملا لما له من خطورة بالغة على حياة الدعوات وعلى حياة الأمم نفسها .
وقد لا يعيب الإخوان المسلمين أن يعترفوا بأن اغتيال المرشد العام بالطريقة التي رتبت لاغتياله كان أشد أثرا في تعريض الدعوة للتبدد والفناء من كل ما وجهت به من أساليب القهر والكبت والعسف والتعذيب – ذلك أن دعوة بلا قيادة هي جسم بلا رأس .. ولا يعيبهم إذا قالوا أنهم عانوا من هذا الموقف طويلا أشد المعاناة .
فلقد كان حال الإخوان في ذلك الوقت حال سفينة غاصة بركابها عصفت بها الرياح الهوج وهي وسط بحر صاخب مائج موجة كالجبال فاختطفت الرياح الهوج أول ما اختطفت ربانها الذي كان ساهرا على قيادتها وتوجيهها ... ثم أخذت الرياح تلعب بدفتها فترنحت السفينة يمينا وشمالا حتى ألقي بها على صخرة عاتية متشعبة فتحطمت , وصار ركابها حيارى لا يرون لأنفسهم من الهلاك ملجئ ولا مهربا ... كل ذلك والحشد الحاشد الواقفون على الشاطئ يرقبون السفينة منذ عصفت بها الرياح ومزقتها الأمواج , ويرون الركاب يغالبون الموت وهو محيط بهم من كل جانب ..ولم يعد من بريق أمل في نجاتهم .. وثبت المراقبون أنظارهم على السفينة المحطمة ليروها حين تهوى ويبتلعها أليم وتغوص بمن فيها إلى العمق السحيق .
وبينما هم يترقبون هذه اللحظة الأخيرة إذا بهم يرون واحدا من هؤلاء المغالبين قد غالب الموج حتى غلبه وشق طريقه إلى الدفة المترنحة فأمسك بها بيدين قويتين فأوقف تذبذبها ووجه ما بقي من حطام السفينة بمن فيه إلى بر الأمان .
فما كان من الحشد على الشاطئ إلا أن تلقوهم بالعناق والأحضان وقد أقنعهم ما رأوا بأعينهم أن هذا الربان الذي أنقذ السفينة بمن فيها من الهلاك المحقق جدير أن يتخذوه في البر قائدا ومرشدا وأميرا .
وهكذا استطاع الإخوان أن يخرجوا من محنتهم ومن حيرتهم ومن ضياع كان محيطا بهم ومن تشتت كاد يأتي عليهم – بالتفافهم حول مرشد جديد رشحته لهم العناية الإلهية في أقسي الظروف وأحرج الأحوال .
وهكذا خرج الإخوان من محنتهم لا ليستردوا حريتهم فحسب بل ليتسلموا لواء القيادة في السلوك ببلادهم إلى طريق جديد .. فلقد كان في خروجهم من آتون المحنة سالمين في أتم عافية , ما أذهل الذين أوقدوا لهم هذا الآتون .. فأسقط في أيديهم ولم يملكوا إلا أن يقفوا أمام هذه الآية خاشعين .
ومع ذلك فإن القيادة الجديدة لم تسلم من عقبات المعوقين من داخل البناء الإخواني كما لم تسلم من مكر الكائدين من خارجه .. ولكن هذه القيادة – بحكمة خطواتها وبصلابة عودها , وبإخلاص نياتها والتفاف الإخوان من حولها – استطاعت بفضل الله أن تتفادي هذه العقبات وأن تشق طريقها بهذه الأمة إلى الغاية التي كان الشعب يتمناها وهي تحريره من تاريخ طويل مظلم مستبد إلى تاريخ مشرق جديد .. وقد نجحت هذه القيادة في تحقيق هذا الأمل العظيم وزحفت بالشعب حتى بلعته نهاية الشوط ووضعته على أول الطريق الجديد .
الباب الأول
- آخر ما كان في جعبة التآمر العالمي
- وهما : خطتا الإبادة
- • الخطة الأولي : الحل .
- • الخطة الأخيرة : جريمة القرن العشرين .
مقدمة
وقفنا في الفصل الأخير من الجزء الأول من هذه المذكرات في استعراضنا لخطط التآمر العالمي على دعوة الإخوان المسلمين عند الخطة الثامنة , وأرجانا تناول الخطتين الأخيرتين من هذه الخطط إلى هذا الجزء من المذكرات ...
وما كان المتآمرون يعتقدون أنهم سيحتاجون إلى اللجوء إلى هاتين الخطتين في يوم من الأيام فالخطط الثماني السابقة كانت كافية – في نظرهم وحسب تجاربهم – لسحق أعظم هيئة تقف في طريقهم ... ولكنهم فوجئوا بما لم يكونوا يحتسبون , من فشل الخطط الثماني في النيل – ولو خدشا – من البناء الإخواني المتين .
وجدوا أنفسهم – حينئذ – مضطرين إلى اللجوء إلى الخطتين المدخرتين , وهم يعلمون أنهما خطتا إبادة ومحو من الوجود , لأنهما من الفظاعة والجرأة والعنف والتوحش بحيث يرتاع العالم لفظاعتهما وتوحشهما وبحيث يغطي دويهما على أصداء الأحداث الجسام التي كانت تجرى على أرض مصر والبلاد العربية في ذلك الوقت .
ولم يقدم المتآمرون على النزول بهاتين الخطتين إلى ميدان المعركة إلا بعد أن وثقوا من توفر جميع أسباب نجاحهما .. مما يوؤسف له , ومما يدمي القلب أن أهم هذه الأسباب أن يكون تنفيذهما بأيد مصرية .. وقد اطمأنوا تمام الاطمئنان إلى وجود هذه الأيدي مستعدة متلهفة .
وقد يختلف المحللون للأحداث في تعليل التوقيت الذي اختاره المتآمرون للإقدام على ارتكابهما فيعلل بعضهم الإقدام عليهم في ذلك الوقت بأنه كان تغطية لفشل الحكومة المصرية في تحقيق الأهداف الوطنية , ولعجزها عن إحراز أى نجاح في الوصول بالقضية المصرية إلى أدني ما يؤمله المصريون .
ويعلل آخرون هذا التوقيت بأنه كان لإسدال ستار على مهازل هذه الحكومة في قضية فلسطين ولصرف أنظار المصريين عن النهاية الأليمة للجيش المصري فيها نتيجة السياسة الخرقاء التي عالجت بها هذه الحكومة شئون هذه الحرب وتخبطها وتناقضها واستبدادها برأيها ورفضها الاستماع إلى نصائح الناصحين وتحير الخبراء المخلصين .
وإطلاقا لضباب كثيف يحجب الرؤية عما تخلل هذه الحرب من خيانات ظهر أثرها في الأسلحة الفاسدة التي أمد بها الجيش , فكانت الذخيرة الموجهة إلى العدو – بدلا من أن تنفجر فيه في جنودنا وضباطنا فتفتك بهم وتقضي عليهم .
ويرى بعض المحللين أن ثورة اليمن التي نشبت ضد الإمام يحيي حميد الدين كانت الدافع لحقيقي إلى هذا التوقيت فقد نشبت هذه الثورة في أوائل عام 1948 وقرار الحل صدر في أواخر العام نفسه.
وهناك من يري أن ظهور القوة المذهلة للروح الفدائية لمتطوعي الإخوان المسلمين في فلسطين هي التي حددت هذا التوقيت وحملت مدبرى المؤامرة العالمية على التعجيل بما كانوا يدخرون من خطط الإبادة .
على أننا نرى أن هذه التعليلات كلها مجتمعة هي التي تضافرت معا على تحديد هذا التوقيت .
- الخطة الأولي للإبادة
- الحل
- صدور أمر عسكري بالحل
- • صدور أمر عسكري بالحل .
- • من هو الآمر الحقيقي بالحل ؟
- • تفنيد أسباب الحل .
الفصل الأول صدور أمر عسكري بالحل
صدور أمر عسكري بالحل كان هو الخطة التاسعة في سلسلة خطط التآمر العالمي على الدعوة إلا أنه كان خطة بعيدة المدى فادحة الآثار بالغة العنف لما اقترن بها من أساليب فاقت في التوائها وغرابتها وتجافيها عن الذوق والعقل والقانون والمنطق والإنسانية أساليب اللصوص والمجرمين وقطاع الطريق .
ويبدو أن المتآمرين قد اختاروا لتنفيذ هذه الحلقة من السلسلة النقراشي رئيس الوزراء في ذلك الوقت لما يعلمون عنه من ضيق الأفق وقصر النظر وبلادة التفكير وهي مؤهلات تضمن لهم أن يكون التنفيذ بطريق الطاعة العمياء .. ولا يصلح لهذه المهمة إلا رجل اجتمعت فيه كل هذه الخصال .. وقد وثقوا من ذلك بعد أن أثبتته موافقة السياسية الداخلية والخارجية خلال سنوات ثلاث تولي خلالها رياسة الوزارة مرتين .. فكان هو طلبتهم والشخصية والتي يندر وجودها بل وقد يستحيل وجودها .. فكل البلاد المتحضرة لا يصل إلى رياسة الوزارة فيها إلا الرجل الكفء القدير البعيد النظر الواسع الأفق الذي يجمع بين الذكاء والمرونة التي هي محصلة كل صفات الكفاءة.
أما في مصر وفي تلك الحقبة من الزمان , فإن استهتار الملك بالشعب وانغماسه في شهواته قد اقتضي أن يستدعي إلى سدة الحكم , ويحكم في رقاب الشعب حزبا من الأحزاب المصطنعة ما كان له أن يصل إلى الحكم فإذا استدعاه الملك , ضمن هذا الملك أن يجد تحت قدميه حكاما يصدعون بأمره , ويذعنون لصلفه , ويلهجون بذكره ويسبحون بحمده ويتنافسون على إشباع نزواته .
وقتل رئيس هذا الحزب – المسمي حزب السعديين – فخلفه على كرسي الوزارة نائبه في الحزب ... وكثيرا ما يكون نائب الرئيس في التجمعات السياسية صالحا لممارسة كل الأعمال إلا الرياسة ..,كان النقراشي باشا من هذا الطراز .. فتولي الوزارة مرتين جر خلالهما على البلاد نكبات لم تمن بمثلها من قبل , ففي عهده هوجم الطلبة بالمدافع الرشاشة فحصدوا حصدا – إذ هو صاحب موقعة كوبري عباس الثانية التي نوهنا عن فظاعتها في الجزء الأول من هذا الكتاب .... وفي عهده ثبت الاحتلال البريطاني أقدامه في أرض مصر .. وفي عهده فقدنا السودان وانقطعت آخر الروابط بيننا وبينه ... وفي عهده ضاعت فلسطين وسلمت إلى اليهود وتأسست دولتهم على أرضها وجلل الجيش المصري الباسل بالخزي والعار لهزائم لا دخل له فيها , ولا ذنب عليه فيما حاق به منها ولكنها هزائم ورط فيها هذا الجيش نتيجة سوء تصرف هذا الحاكم وقصر نظره وفساد تقدير وتحجر عقله وارتضائه أن يكون ألعوبة في يد المستعمر .
وظهرت براعة المتآمرين في اختيارهم منفذ المؤامرة واقتصرت مهمتهم بعد ذلك على وضع هذا المنفذ على قمة المنحدر وارتضي هو لنفسه هذا الوضع واهما – لقصر نظره – أنه يقعد على أرض منبسطة ..وأخذ في الانطلاق فإذا به يتدهور , وكل تدهور يسلمه لما هو أنكي منه وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا , ولا يجد حاجزا يحجزه فيقف بتدهور عند حد ... حتى تحطم وتحطمت معه البلاد , والمتآمرون يتفرجون فرحين جذلين .
وكان الوهم الذي سلط على العقلية القاصرة للنقراشي باشا أنه – وقد أيد بسلطة الملك لا سيما ومستشار الملك ورئيس ديوانه هو إبراهيم عبد الهادي صنو النقراشي ونائبه في الحزب .. ومن ورائه مجلس نواب صنعه بيده وأعضاؤه من صنائعه .. ثم أنه مسلح يمضي سلاح يشهره في وجه من يشاء وكيفما شاء هو سلاح الأحكام العرفية – فقد ظن إذن أنه في مأمن من عوادى الدهر وكوارث الأيام وفي حصن منيع تتقطع دونه الرقاب ويرجع عنه كل هجوم عليه وهو كسير حسير..
وهكذا يعمي هيلمان السلطة من يقع في شركها من قصار النظر من الحكام عن رؤية الحقائق في الوقت المناسب , فيعيشون في دائرة الوهم , ويدورون معه حيث يدور ويندفعون في تياره حيث يدفعهم حتى يرتطموا أخيرا بصخرة الواقع فيتحطمون وحينئذ يفيقون بعد فوات الأوان .. وخطورة هذا التحطم أنه يجر معه الخراب والدمار على البلاد التي ابتليت بهذا النوع من الحكام .
ومما يضاعف من أضرار هذا النوع من الحكام أنهم لا يحيطون أنفسهم في الحكم إلا بأمثالهم من قصيري النظر من هواة السلطة وعشاق المناصب – وقد قيل من قبل : شبيه الشئ منجذب إليه - فيكملون بذلك حلقة الظلام المطبقة حولهم – فترى الذين يصلون إلى المناصب الحساسة المحيطة بهم أحد رجلين إما متسلق ميت الضمير وإما من هو على شاكلتهم من ضيقي الأفق وقاصري الإدارة وممن لا يتعدى مدى بصرهم أطراف أنوفهم – مع أن هذا النوع من الحكام هو أحوج أن يكون بجانبهم مساعدون على أعلي مستوى من الذكاء والمرونة وبعد النظر حتى يكملوا ما بهؤلاء الحكام من نقص وحتى يبصروهم بما لا يرون من عواقب الأمور , فتصدر القرارات بذلك مجانبة للخطأ قريبة من الصواب .
ولكن هكذا كان ... أن نولي النقراشي – قيادة البلاد في أحرج ظروفها – وهو ما هو مما وصفنا – واستعان مع ذلك بمن هم شر منه من أمثال عبد الرحمن عمار الذي اختاره وكيلا لوزارة الداخلية للأمن العام – وسوف يرى القارئ في صفحات قادمة إن شاء الله مدى إدراك هذا الرجل أيضا ونصيبه من الفهم والبصيرة والذكاء .
- • صورة تخطيطية لهيئة الإخوان في ذلك الوقت :
وقبل أن ننقل للقارئ نص قرار الحل ومذكرته التفسيرية نضع بين يديه صورة تخطيطية مجملة لهيئة الإخوان المسلمين في ذلك لوقت حتى يتصور القارئ عظم الجريمة التي أقدم عليها اللاعبون بالنار ممن أصدروا هذا القرار وهم عامدون
- كانت صورة هذه الهيئة تضم فيما تضم ما يأتي
- المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة.
- أكثر من 2000 ( ألفي ) شعبة في أنحاء القاهرة والأقاليم .
- ما يقارب هذا العدد من جمعيات البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين في أنحاء القطر وبالكثير منها مستوصفات ومدارس ونواد رياضية.
- جيش من الفدائيين يحارب في فلسطين وكان في تلك الفترة يحمى مؤخرة الجيش المصري وكان القائد العام للجيش المصري بفلسطين يطالب الحكومة المصرية في نفس تلك الفترة بالإنعام بأوسمة البطولة ونياشنها على ضباط هذا الجيش الفدائي وجنوده لما أظهروا من بطولات فاقت كل تقدير ولما قدموا من خدمات للجيش المصري لا يستطيعها غيرهم .
- شركة دار الإخوان للصحافة , شركة مساهمة مصرية مركزها القاهرة وتصدر جريدة يومية ومجلة أسبوعية عدا مجلتين شهريتين.
- شركة دار الإخوان للطباعة – شركة مساهمة مصرية مركزها القاهرة .
- دار الطباعة والنشر الإسلامية بالقاهرة , وهي تصدر سيلا من الكتب الإسلامية القيمة والرسائل النافعة .
- شركة المناجم والمحاجر العربية – شركة تضامن , ومنضم إليها شركة المعاملات الإسلامية بالقاهرة .
- شركة الإخوان للنسيج بشبرا .
- شركة الإعلانات العربية بالقاهرة .
- شركة الإخوان للتجارة بميت غمر .
- شركة لإصلاح الأراضي بنجع حمادى ,..... وغير ذلك من المؤسسات .
ثم ننقل فيما يلي نص الأمر العسكري الهمجي الذي أصدره النقراشي باشا للقضاء على أعظم هيئة نافعة في تاريخ مصر , فكان كالطفل الذي أوقد النار في بيتهم وهو يلعب فأتت عليه وعلى أبيه وأمه وأسرته .
نص الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948
بحل الإخوان المسلمين
الأربعاء 7 صفر 1368- 8 ديسمبر 1948
- أمر عسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وجميع شعبها
بعد الاطلاع على المرسوم الصادر في 31 مايو 1948 بإعلان الأحكام العرفية .
وعلى المادة الثالثة ( بند 8 ) من القانون رقم 15 لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية والقوانين المعدلة له .
وبمقتضي السلطات المخولة آنفا بناء على لمرسوم المتقدم ذكره تقرر ما هو آت:
مادة 1: تحل فورا الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين,
بشعبها في جميع أنحاء المملكة المصرية وتغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها . وتضبط الأوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال , وعلى العموم كافة الأشياء المملوكة للجمعية .
ويحظر على أعضاء مجلس إدارة الجمعية المذكورة وشعبها ومديرها وأعضائها والمنتمين إليها بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية , وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لأحدي شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات أو الاشتراكات أو الشروع في شئ من ذلك . وبعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة.كما يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي السماح باستعمال أى مكان تابع له لعقد مثل هذه الاجتماعات أو تقديم آية مساعدة مادية أو أدبية أخرى .
مادة 2 – يحظر إنشاء جمعية أو هيئة من أى نوع كانت أو تحويل طبيعة جمعية أو هيئة قائمة إذا كان الغرض من الإنشاء أو التحويل القيام بطريق مباشر أو غير مباشر بالنشاط الذي كانت تتولاه الجمعية المنحلة أو إحياء هذه الجمعية على أية صورة من الصور كما يحظر الاشتراك في كل ذلك أو الشروع فيه .
مادة 3- على كل شخص كان عضوا في الجمعية المنحلة أو منتميا إليها وكان مؤتمنا على أوراق أو مستندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء من أى نوع كانت متعلقة بالجمعية أو بإحدى شعبها أن يقدم تلك الأوراق والأشياء إلى مركز البوليس المقيم في دائرته في خلال خمسة أيام من تاريخ نشر هذا الأمر .
مادة 4- يعين بقرار من وزير الداخلية مندوب خاص تكون مهمته استلام جميع أموال الجمعية المنحلة وتصفية ما يرى تصفيته منها ويخصص الناتج من التصفية للأعمال الخيرية أو الاجتماعية التي يحددها وزير الشئون الاجتماعية بقرار منه .
مادة 5 – على كل شخص كان عضوا في الجمعية المنحلة أو منتميا إليها وكان مؤتمنا على أموال – أيا كان نوعها – تخص الجمعية أو إحدى شعبها أن يقدم عنها إقرارا للمندوب الخاص المشار إليه في المادة السابقة في خلال أسبوع من تاريخ نشر هذا الأمر , وعليه أن يسلمها إلى ذلك المندوب في الميعاد الذي يحدده لهذا الغرض أو في تاريخ استحقاقها على حسب الأحوال .
مادة 6 – يجب على كل شخص طبيعي أو معنوي كانت له معاملات مالية من أى نوع كانت أن يقدم عنها إقرارا مبينا به طبيعة هذه المعاملات والمستندات المؤبدة لها وما إذا كان مدينا أو دائنا بأى مبلغ وموعد الاستحقاق إلى غير ذلك من البيانات التي تسمح بتعرف مع الجمعية أو إحدى تلك المعاملات , ويقدم هذا الإقرار إلى المندوب الخاص المعين طبقا للمادة الرابعة بكتاب موصي عليه في خلال أسبوع من تاريخ نشر هذا الأمر . ويجوز دائما للمندوب الخاص إلغاء جميع العقود التي كانت الجمعية المنحلة أو إحدى شعبها مرتبطة بها ولم يبدأ أو لم يتم تنفيذها دون أن يترتب على هذا الإلغاء أى حق في التعويض للمتعاقدين معها .
مادة 7- كل مخالفة لأحكام المواد 1, 2, 3 يعاقب مرتكبها بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين , وذلك مع عدم الإخلال بتطبيق أى عقوبة أشد ينصر عليها قانون العقوبات أو أى قانون أو أمر آخر فضلا عن مصادر الأموال موضع الجريمة ويجوز لرجال البوليس أن يغلقوا بالطريق الإداري الأمكنة التي وقعت فيها الجريمة .
مادة 8 – كل مخالفة لأحكام المادة الخامسة يعاقب مرتكبها بالحبس وبغرامة قدرها خمسون جنيها فإذا كانت قيمة المبلغ الذي لم يقدم عنه الإقرار المشار إليه في المادة الخامسة تزيد على خمسين جنيها كانت العقوبة الحبس وغرامة تعادل قيمة المبلغ المذكور بحيث لا تزيد على 4000 ( أربعة آلاف ) جنيه .
مادة 9- إذا كان الشخص المحكوم عليه في إحدى الجرائم السابقة موظفا أو مستخدما عموميا أو بمجالس المديريات أو المجالس البلدية أو القروية أو أية هيئة عامة أخرى أو كان عمدة أو شيخا تحكم المحكمة أيضا بفضله من وظيفته, وإذا كان طالبا في إحدى معاهد التعليم الحكومية أو الواقعة تحت إشراف الحكومة تحكم أيضا بفصله منها وحرمانه من الالتحاق بها لمدة لا تقل عن سنة .
مادة 10- يكون للمندوب الخاص المعين طبقا للمادة الرابعة صفة رجال الضبطية القضائية في تنفيذ أحكام المادتين 3,5 وله في هذا السبيل حق دخول المنازل وتفتيشها كما أن له تفويض من يندبه لهذا الغرض في إجراء عمل معين من تلك الأعمال .
ويعفي المندوب المذكور والمفوضون عنه وكذلك رجال الضبطية القضائية في مباشرة تلك الإجراءات من التقيد بالأحكام الموضوعية لهذا لغرض في قانوني تحقيق الجنايات .
- المذكرة التفسيرية
وفيما يلي نص المذكرة المرفوعة إلى دولة رئيس الوزراء بطلب حل جمعية الإخوان المسلمين .
تألفت منذ سنوات جمعية اتخذت لنفسها اسم " الإخوان المسلمون " وأعلنت على الملأ أن لها أهدافا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفا سياسيا معينا ترمي إليه وعلى هذا الأساس نشطت الجمعية وبثت دعايتها ولكن ما كادت تجد لها أنصارا وتشعر بأنها اكتسبت شيئا من رضا بعض الناس عنها حتى أسفر القائمون على أمرها عن أغراضهم الحقيقية وهي أغراض سياسية ترمي إلى وصولهم إلى الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد .
وقد اتخذت هذه الجماعة – في سبيل الوصول إلى أغراضها – طرقا شتى يسودها طابع لعنف فدربت أفرادا من الشباب أطلقت عليهم اسم " الجوالة " وأنشأت مراكز رياضية تقوم بتدريبات عسكرية مستتره وراء الرياضة كما أخذت تجمع الأسلحة والقنابل والمفرقعات وتخزنها لتستعملها في الوقت الذي تتخيره, وساعدها على ذلك ما كانت تقوم به بعض الهيئات من جمع الأسلحة والعتاد بمناسبة قضية فلسطين.وأنشأت مجلات أسبوعية وجريدة سياسية يومية تنطق باسمها سرعان ما انغمست في تيار النضال السياسي متغافلة عن الأغراض الدينية والاجتماعية التي أعلنت لجماعة أنها قامت لتحقيقها .
ولا أدل على هذا مما أثبته ممثل النيابة العسكرية العليا في مذكرة له في شأن ما أسفر عنه تحقيق قضية الجناية العسكرية رقم 882 لسنة 1942 قسم الجمرك إذ قال عن جمعية الإخوان المسلمين " وبفحص لمكاتب الأخرى اتضح من الاطلاع على التقرير المرسل من بعض أعضاء الجماعة في طنطا أنهم يعيبون على الجمعية سياستها الحالية التي تصطبغ بصبغة دينية بحتة ويطلبون أن تكشف الجمعية للجمهور عن حقيقة مراميها وعن الغرض الأساسي من تكوينها الذي ينصب بالذات على أن الجمعية ليست جمعية دينية بالمعني الذي يفهمه الجمهور ,وإنما هي جمعية سياسية دينية اجتماعية تنادي بتغيير القوانين وأساليب الحكم الحالية , وأن الخطب الدينية لا تفيد في توجيه الجمهور إلى تفهم غرضها الحقيقي وأن الوسيلة لبلوغ هذا هو إثارة الجمهور بطريقة طرق مشاعره وحساسيته لا عقله وتقديره إذ أن هذه الناحية الأخيرة هي ناحية ضامرة فيه .. الخ" وقد كتب الشيخ حسن البنا رئيس الجماعة بخط يده على هذا التقرير إنه مؤمن بما ورد فيه موافق على ما تضمنه من مقترحات .
ومما يؤيد هذا الاتجاه ما حدث في 8 فبراير 1946 بإحدى قوى مركز أجا إذ قام طالب يخطب الناس حاثا إياهم على الانضمام لشعبة الإخوان المسلمين فيتلك القرية , ومحرضا على مقاومة كل من يتعرض لهذه الجماعة من رجال الإدارة وغيرهم ولو أدي ذلك إلى استعمال السلاح . وقد استمر قادة الجماعة ورؤساؤها يعالجون الأمور السياسية في خطبهم وأحاديثهم ونشراتهم جهرة متابعين الأحداث السياسية منتهزين كل فرصة تسنح لهم للوصول إلى أغراضهم .
وكان بعض الموظفين قد استهوتهم الأهداف الاجتماعية والدينية التي اتخذتها الجماعة ستارا لأغراضها الحقيقية فأصبح موقفهم بالغ لحرج لأن القانون لا يسمح بانتساب الموظفين لأحزاب سياسية .
كما امتدت دعوة الجماعة إلى أوساط الطلبة واجتذبت فريقا منهم فأفسدت عليهم أمر تعليمهم وجعلت من بينهم من يجاهر بانتسابه إليها ويأتمر بأمرها فيحدث الشغب ويثير الاضطراب في معاهد التعليم مما أخل بالنظام فيها إخلالا واضح الأثر .
ولقد تجاوزت الجماعة الأغراض السياسية المشروعة إلى أغراض يجرمها الدستور وقوانين البلاد فهدفت إلى تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ولقد أمعنت في نشاطها فاتخذت الإجرام وسيلة لتنفيذ مراميها – وفيما يلي بعض أمثلة قليلة لهذا النشاط الإجرامي كما سجلته التحقيقات الرسمية في السنوات الأخيرة :-
أولا : أوضحت تحقيقات الجناية العسكرية العليا سنة 1942 قسم الجمرك حقيقة أغراض هذه الجماعة , وأنها تهدف إلى قلب النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية متخذة طرقا إرهابية بواسطة فريق من أعضائها دربوا تدريبا عسكريا وأطلق عليهم اسم " فريق الجوالة ".
ثانيا – وبتاريخ 6 يونيو 1946 وقع اصطدام في مدينة بورسعيد بين أعضاء هذه الجماعة وخصوم لهم استعملت فيه القنابل والأسلحة وأسفر عن قتل أحد خصومهم وإصابة آخرين . وضبطت لذلك واقعة الجناية رقم 679 لسنة 1946 قسم ثان بور سعيد.
ثالثا : وبتاريخ 10 ديسمبر 1946 ضبط بعض أفراد هذه الجماعة بمدينة الإسماعيلية يقومون بتجارب لصنع القنابل والمفرقعات .
رابعا : كما وقعت بتاريخ 24 ديسمبر 1946 حوادث إلقاء قنابل انفجرت في عدة أماكن بمدينة القاهرة وضبط من مرتكبيها اثنان من هذه الجماعة قدما لمحكمة الجنايات فقضت بإدانة أحداهما ( قضية الجناية رقم 767 لسنة 1946 قسم عابدين – 17 سنة 1946 كلي )
خامسا – وقد تعددت حوادث اشتباك أفراد هذه الجماعة مع رجال البوليس ومقاومتهم لهم بل والاعتداء عليهم وهم يؤدون واجبهم في سبيل حفظ الأمن وصيانة النظام , مثال ذلك ما حدث في يوم 29 يوليه 1947 بدائرة قسم الخليفة من اعتداء فريق جوالة الإخوان المسلمين على مأمور هذا القسم ورجاله .
سادسا – وقد ثبت من تحقيق الجناية رقم 4726 لسنة 1947 الإسماعيلية أن أحد أفراد هذه الجماعة ألقي قنبلة بفندق الملك جورج بتلك المدينة فانفجرت وأصيب من شظاياها عدة أشخاص كما أصيب ملقيها نفسه بإصابات بالغة .
سابعا – وحدث في 19 يناير 1948أن ضبط خمسة عشر شخصا من جماعة الإخوان المسلمين بمنطقة جبل المقطم يتدربون على استعمال الأسلحة النارية والمفرقعات والقنابل وكانوا يحرزون كميات كبيرة من هذه الأنواع وغيرها من أدوات التدمير والقتل .
ثامنا – وفي 17 فبراير 1948 اعتدى فريق من هذه الجماعة على خصوم لهم في الرأي بأن أطلقوا عليهم أعيرة نارية قتلت أحدهم وكان ذلك بناحية النور مركز ميت غمر وضبطت لذلك واقعة الجناية قم 1407 لسنة 1948.
تاسعا – كما عثر بتاريخ 22 أكتوبر 1948 بعزبة فرغلي رئيس شعبة الإخوان المسلمين بالإسماعيلية على صندوق يحتوى على قنابل مما استدعي تفتيش منزله فإذا بأرض إحدى الغرف سردابان بهما كميات ضخمة من القنابل المختلفة والمفرقعات والمقذوفات النارية والبنادق والمسدسات وأحد عشر مدفعا . كما عثر في فجوة بأرض الغرفة على وثائق تقطع بأن هذه الجماعة تعد العدة للقيام بأعمال إرهابية واسعة النطاق .
عاشرا : وحرقت في 18 يناير 1947 أحطاب لأحد الملاك بناحية كفر بدواى واتهم بوضع النار فيه فريق من شعبة الإخوان المسلمين بتلك القرية . ولما قام البوليس بالفحص عن أحوال تلك الشعبة تبين أن أحد أعضائها مقدم لمحكمة الجنايات في جريمة قتل شيخ خفراء البلدة .
حادي عشر : وبتاريخ 3 فبراير 1948 قام بعض أفراد شعبة الإخوان المسلمين بناحية البرامون بإيهام الأهالي بأنهم سيعملون على زيادة أجورهم وإرغام تفتيش أفيروف الذي يقع بزمام القرية على تأجير أراضيه مقسمة على الأهالي بإيجار معتدل وقاموا بمظاهرات طافت بالقرية تردد هتافات مثيرة ولما أقبل رجال البوليس لقمع الفتنة اعتدوا عليهم بإطلاق النار وقذف الأحجار . وقد وقع شجار بعد ذلك بنفس القرية في يوم 13 مارس 1948 بين جماعة الإخوان المسلمين ومن إليهم وبين خصوم لهم فأسفر عن قتل أحد الأشخاص وإصابة آخرين .
ثاني عشر – وفي يوم 26 يونيه 1948 حرض الإخوان المسلمون عمال تفتيش زراعة محلة موسي التابع لوزارة الزراعة على التوقف عن العمل مطالبين بتملك أراضي هذا التفتيش الأمر الذي سجلته القضية رقم 921 لسنة 1948 جنح كفر الشيخ.
ثالث عشر – من الأساليب التي لجأت إليها الجماعة إرسال خطابات تهديد لبعض الشركات والمحال التجارية لابتزاز أموال منها على زعم أنها مقابل الاشتراك في جريدتهم واقتنصوا بالفعل أموالا بهذه الوسيلة وقد تقدمت بعض هذه الشركات بالشكوى من هذا التهديد طالبة حمايتها من أذي هذه الجماعة .
ولم تقف شرور هذه الجماعة عند هذا الحد بل عمدت إلى إفساد النشئ فبذرت بذور الإجرام وسط الطلبة والتلاميذ ,فإذا بمعاهد التعليم وقد انقلبت مسرحا للشغب والاخلال بالأمن وميدانا للمعارك والجرائم ومن أمثلة ذلك الحوادث التالية:
- أ- حدث ببندر دمنهور في يوم 25 مايو 1947 بمدرسة الصنايع أن اعتدى تلاميذ الإخوان لمسلمين على أحد المخالفين لهم في الرأي وشرعوا في قتله بطعنة سكين وضبطت لذلك واقعة الجناية رقم 1248 لسنة 1947 ببندر دمنهور .
- ب- وفي يوم 3 فبراير 1948 حرض بعض التلاميذ من أعضاء هذه الجماعة زملاءهم تلاميذ مدرسة الزقازيق الثانوية على الإضراب وألقي أحدهم قنبلة يدوية انفجرت وأصابت بعض رجال البوليس . كما ضبط مع آخر منهم قنبلة يدوية قبل أن يتمكن من استخدامها في الاعتداء .
- ت- ويوم 24 يناير 1948 تحرش بعض تلاميذ مدرسة شبين الكوم الثانوية من المنتمين إلى الإخوان المسلمين بزملاء لهم الأمر الذي أدى إلى حادث قتل .
- ث- ويوم 24 يناير 1948 تحرش بعض تلاميذ مدرسة شبين الكوم الثانوية من المنتمين إلى الإخوان المسلمين بزملاء لهم الأمر الذي أدي إلى حادث قتل .
ولم تتورع هذه الجماعة عن أن يمتد إجرامها إلى القضاء الذي ظل رجاله في محراب العدل ذخرا للمصرين وملاذا لهم , ينعمون بثقة المتقاضين وطمأنيتهم – إذ قصدوا إلى إرهاب القضاة عن طريق قتل علم منهم هو المغفور له أحمد الخازندار بك وكيل محكمة استئناف مصر , الذي حكم بإدانة بعض أعضاء الجماعة لجرائم قارفوها باستخدام القنابل – وقد ثبت أن أحد المجرمين القاتلين كان سكرتيرا خاصا للشيخ حسن البنا . ولقد أدركت الحكومات المتعاقبة خطورة الأهداف والمقاصد التي تسعي هذه الجماعة لتحقيقها فحاولت – في حدود القوانين القائمة – أن تحد من شرورها وساعدت الأحكام العرفية التي أعلنت خلال الحرب العالمية الأخيرة على اعتقال بعض قادة هذه الجماعة وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت الجماعة سادرة في جرائمها الأمر الذي استوجب إصدار الأمر العسكري بحل شعبتي الإخوان المسلمين بالإسماعيلية وبور سعيد .
ولقد وقعت في يوم 4 ديسمبر 1948 حوادث مؤلمة بجامعة فؤاد الأول بالجيزة ألقي فيها الطلاب قنابل على رجال البوليس وأطلقوا عليهم الرصاص وقذفوهم بالأحجار فأصيب عدد منهم كما حدث فينفس اليوم أن اعتصم بعض طلبة كلية الطب بأسطح مبني الكلية وأشعلوا النار في أماكن متفرقة وقذفوا رجال البوليس الذين كانوا يحافظون على النظام ببعض القنابل وكميات هائلة من الأحجار وقطع الأخشاب وزجاجات مملوءة بالأحماض ثم ألقوا على حكمدار بوليس العاصمة قنبلة أودت بحياته .
وحدث في يوم 6 ديسمبر 1948 أن تجمع طلبة المدرسة الخديوية واندس بينهم بعض الغرباء وألقوا قنبلتين على رجال البوليس الذين كانوا خارج أسوار المدرسة فأصيب ضابط وسبعة من العساكر – وكان مقترفوا هذه الحوادث المروعة من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين .
ولا تزال النيابة العامة ماضية في تحقيق حادث ضبط سيارة بها واد متفجرة وذخائر ومستندات خطيرة , بدائرة قسم الوايلي يوم 15 نوفمبر 1948. وقد أدي التقصي عن ظروف هذا الحادث إلى ضبط كميات هائلة من القنابل والمفرقعات جاءت أضعافا مضاعفة لما ضبط في تلك السيارة وقد كشفت ملابسات هذا الحادث حتى الآن عن أن جماعة من الإخوان المسلمين يكونون عصابات إجرامية هي المسئولة عن حوادث الانفجارات الخطيرة التي حدثت في مدينة القاهرة خلال الشهور الستة الأخيرة وكان آخرها حادث نسف شركة الإعلانات الشرقية يوم 12 نوفمبر 1948 وما نجم عنه من هدم وتخريب في المباني وقتل بعض الأهالي ورجال البوليس وجرح عدد غير قليل من الأشخاص .
وبما أنه يتبين بجلاء من استعراض هذه الحوادث – وهي قليل من كثير – أن هذه الجماعة قد أمعنت في شرورها بحيث أصبح وجودها يهدد الأمن العام والنظام تهديدا بالغ الخطر لذلك أرى أنه بات من الضروري اتخاذ التدابير الحاسمة لوقف نشاط هذه الجماعة التي تروع أمن البلاد في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى هدوء كامل وأمن شامل ضمانا لسلامة أهلها في الداخل وجيوشها في الخارج .
- إجراءات أشد شذوذا
بعد أن أوردنا نص قرار الحل ومذكرته التفسيرية نقول : أن قرار الحل في ذاته – متسترا برداء الأحكام العرفية – أمر شاذ, ومع ذلك فإن مصدرى هذا الأمر لم يكتفوا به بل اتبعوه بإجراءات أشد شذوذا .
فالأمر العسكري ببنوده العشرة ما فيها من اعتداء صارخ على الحريات وحرمان من الحقوق قد تم تنفيذه دون أن يتعرض أحد من أعضاء الجماعة للمنفذين .. فلم إذن تعدى مصدرو الأمر حدود بنوده ؟ هل هو تفان منهم في محاولة إرضاء سادة لهم دفعوهم وهم من ورائهم يرقبون ؟ هل هو إثبات لهؤلاء السادة أن المنفذين يستحقون أن تضاعف لهم المكافأة بعد أن برهنوا على أنهم ملكيون أكثر من الملك وإنجليز يون أكثر من الإنجليز ؟
لقد اتبعوا تنفيذ بنود الأمر العسكري بأساليب مبتكرة لم يكن لهذا الشعب بها عهد من قبل من اعتقالات هوجاء , ومصادرات عمياء وبطش عنيف دون مبرر ..
على أن كل هذه الإجراءات الجائرة – مع كل ما فيها من شذوذ فإن هناك من يستطيع أن ينتحل لها مبررا مما سبق أن سقناه على سبيل الاستفهام – أما الإجراء الذي لا يمكن تبريره ومن أجل ذلك يمكن اعتباره أخطر إجراء اتخذوه فهو أنهم حالوا بين المرشد العام وبين الإخوان فلا هو مسموح له أن يتصل ولو بفرد واحد منهم ولا يستطيع أحد منهم أن يتصل به حتى بالتليفون الذي قطعوه عن منزله بل إن أى إنسان يقترب من منزله كان يقبض عليه ولو كان من غير الإخوان .
- • خطورة هذا الإجراء :
وإني لا تعجب لأولئك الذين قرروا هذا الإجراء الذي إن دل على شئ فإنما يدل على التناقض والتخبط وسوء لتصرف وقصر الإدراك فنصوص الأمر العسكري الذي أصدوره ونصوص مذكرته التفسيرية التي نبوه عليها , توحى إلى القارئ بأن مصدري هذا الأمر ينظرون إلى الإخوان المسلمين على أنهم مجموعة ضخمة من الشباب المتهور الذي لا يبالي بشئ.... وهم يعلمون أنهم – مهما بالغوا في البطش والاعتقال – فإن الإخوان المسلمين من الكثرة بحيث يكون الباقون منهم خارج أسوار المعتقلات والسجون أضعافا مضاعفة لمن هم في داخلها والكثرة الغالبة منهم من الشباب المتحمس الثائر .. كما أنهم يفهمون أن الأمر العسكري الذي أصدروه هو تحد مباشر لمشاعر هذا الشباب واستفزاز له وأنه بمثابة إعلان للحرب عليهم وحكم صدر بإعدامهم بل بإعدام ما هو أعز عليهم من أنفسهم .
وفي الوقت نفسه يفهم هؤلاء المسئولون ويعلمون تمام العلم أن الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يوجه هذا الشباب والذي بيده زمام هذا الشباب هو المرشد العام .
فما معني الحيلولة بين المرشد العام وبين هذا الشباب إذن ؟... لقد شاع في ذلك الوقت وعقب إذاعة الأمر العسكري بحل الإخوان مباشرة وحين أحس الناس بما تضمنه هذا الأمر من عنف وضراوة لم يعهد مثلهما- من قبل – شاع على ألسنة الخاصة والعامة أن هذا التحدي البالغ العنف لابد أن تكون حياة النقراشي ثمن له .
ولقد خبرت الحكومة المصرية على اختلاف ألوانها وأحزابها مقدرة المرشدة العام لخارقة في التأثير في هذا الشباب , واستطاعته أن يقنعهم برأيه مهما كان رأيه معارضا لاتجاههم ومصادما لعواطفهم .. خبروا ذلك في موقفين خطيرين : أحدهما حين قررت إحدى الحكومات الحزبية نقله إلى قنا , والآخر حين طلبت منه إحدي الحكومات الوفدية التنازل عن ترشيح نفسه لمجلس النواب – وقد تحدثنا عن هذين الموقفين بتفصيل في الجزء الأول من هذا الكتاب ... المرشد لعام وحده إذن هو القادر على كبح جماح هؤلاء الشباب إذا لم يحل بينه وبينهم . فما معني هذا الإجراء الغريب لموغل في الغرابة ؟ والذي قد لا نجد له تعليلا ولا تحليلا ولا تبريرا إلا أن يكون حقدا أسودا قد غشي على بصائر هؤلاء الناس وأبصارهم فهم في ضلالهم يعمهون .
وهناك رؤية قد يراها الحاذقون من المراقبين للأحداث الذين لا يكتفون من الأحداث بظواهرها دون بواطنها يلخصها هؤلاء الحذاق في أن مخططي المؤامرة من غير المصريين وهم على أعلي مستوى في الخبرة النفسية – خططوها بحيث يكون دورهم فيها مقتصرا على إشعال فتيلها ثم تركها بعد ذلك متأججة يأكل بعضها بعضا حتى تتحقق كل أهدافهم دون حاجة إلى ظهورهم على المسرح في أى دور من أدوراها . وقد رأوا في اختيار النقراشي بالذات – كما شرحنا ذلك من قبل – الضمان الكامل للوصول إلى النهاية التي يأملون .
ومع ذلك فإن المرشد العام لم يأل جهدا في الاتصال بهم وأخذ يبصرهم بخطأ تصرفهم في الحيلولة بينه وبين الاتصال بالإخوان وحذرهم مغبة هذا الإجراء الذي تدعو مصلحة البلاد إلى العدول عنه , ولكنه لم يتلق على إلحاحه المستمر جوابا إلا وعودا في الهواء .
فكان من نتيجة تمسك الحكومة بهذا الإجراء الأخرق أن وجد هذا الشباب الثائر المجروح المضطهد المطارد نفسه بغير قيادة فتصرف من تلقاء وبدافع من عاطفته .. فكانت أحداث جسام بدأت بما كان يتوقعه الجميع من اغتيال النقراشي في حصنه الحصين بوزارة الداخلية ثم تفاقمت بعد ذلك الأحداث تفاقما لم يخطر ببال أحد إذ أفلت الزمام .
- • اغتيال النقراشي باشا :
يعد عشرين يوما من صدور الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين , وفي 28 ديسمبر 1948 اغتيل النقراشي باشا في وزارة الداخلية وهو محاط بحراسة مكثفة لا ينفذ من خلالها الهواء ... فكان هذا مصداق قوله تعالي ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) ( النساء: 78) ودليلا على أن الحاكم لا يحميه إلا عدله وتجاوبه مع شعبه .
جاء في مرافعة الأستاذ أحمد حسين أمام المحكمة العسكرية العليا في قضية اغتيال النقراشي في 20/9/1949 قوله :" نشرت جريدة أخبار اليوم أن مصطفي أمين قابل النقراشي باشا وحذره من الإقدام على حل الإخوان لأنه سيقتل فلما أصر خرج باكيا عليه .. فلما قتل بعد ذلك بأسبوع لم يبك عليه فقد بكاه من قبل – وكل من كان حول النقراشي باشا كانوا يشعرون هذا الشعور – إذن كان هناك شبه إجماع وصل إلى حد النشر على صفحات الجرائد أن حل الإخوان كان معناه قتل النقراشي . فما معني هذا التلازم ومن أين جاء هذا الشعور ؟
هل جاء فقط من ناحية خطورة الإخوان المسلمين ؟ ولكن مهما بلغ خطر الإخوان فهل يمكن أن يقاس بقوة الدولة ؟ لقد كان النقراشي باشا حاكما عسكريا ولديه من السلطات مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر... ففيم كانت هذه العقيدة التي تكونت بأن القتل سيكون مصيره ؟!
إنني أخشي أن يكون ذلك هو مظهر الشعور بالإقدام على أمر غير طبيعي وأمر شاذ وأمر متناه في القوة والعجلة فضلا عن أنه ضد القانون وضد الدستور وضد سلامة الشعب "
هذا ما قاله الأستاذ أحمد حسين ونحن نقول : أن هذا الرجل قد ذهب ضحية صلفه وحقده وضيق أفقه واستبداده برأيه واستسلامه للغاصب المستعمر وتأليهه لملكه الغارق في شهواته مما سوف نضعه إن شاء الله موضع المناقشة بعد قليل .
- إبراهيم عبد الهادي باشا يخلف النقراشي باشا :
وفي اليوم التالي أسند الملك رياسة الوزراء إلى إبراهيم عبد الهادي باشا وهو من النقراشي بمثابة النقراشي من أحمد ماهر , يبوء بإثم ميراث وبئ من التفريط في حقوق البلاد, والتواطؤ مع المستعمر والتهالك على منصب الحكم والتسابق إلى أن يكون في خدمة نزوات الملك وفي عبادته من دون الله .
جاء هذا الرجل إلى الحكم كالذئب المتعطش للدماء, وجاء ومعه تفويض إلهي من إلهه فاروق بأن يفعل ما يشاء ولن يسأل عما يفعل ( يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ) ( القصص : 4) بحيث يبيد هذه العصبة الوحيدة المتمردة على عبادة فاروق والسير في ركابه .... ولابد أن إبراهيم عبد الهادي هذا كان يعتقد في ذلك الوقت أن فاروقا قادر على كل شئ... وغاب عنه أن هناك إلها آخر غير فاروق هو الإله الحق الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء .. ذلك أن ما فعله هذا الرجل , وما ارتكبه من آثام لا يمكن أن يقدم عليه إنسان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
ففي عهد هذا الرجل بلغت الأحداث الجسام ذروتها وارتكبت أفظع جريمة في هذا القرن بتدبير حكومته وهي اغتيال المرشد العام.
وقبل أن نشرع في استعراض أيام هذا الرجل السوداء وما سجلته من مآثم يندى لها جبين الإنسانية خجلا . نتناول بالتمحيص موضوعا خطيرا ذا دلالات جوهرية في تاريخ هذه البلاد لا ينبغي أن يسبقه في صدد ما نحن فيه موضوع آخر وهو ما نفرد له الفصل الآتي إن شاء الله .
الفصل الثاني من هو الآمر الحقيقي بالحل ؟

خرج الأمر العسكري بحل " جمعية الإخوان المسلمين " فعلا – من دار رياسة مجلس الوزراء ممهورا بتوقيع النقراشي باشا رئيس مجلس الوزراء ... وعند انصراف دولته من دار الرياسة في مساء يوم 8 ديسمبر 1948 صرح للصحفيين قائلا : إنني أصدرت أمرا عسكريا بحل جماعة الإخوان المسلمين :
ويدعي النقراشي باشا ويصر على أنه هو الذي أصدر هذا الأمر من تلقاء نفسه وأن أحدا غيره لم يتدخل فيه ولم يوعز به .
ولكن هناك ما يلقي ظلالا كثيفة من الشك على هذا الادعاء بل هناك ما يعارضه وينقضه ويظهر زيفه... ونورد هنا ما جاء في هذا الصدد في مرافعة الأستاذ شمس الدين الشناوي في قضية السيارة الجيب أمام محكمة الجنايات بالقاهرة في 21 / 1/ 1951 كما نشرته جريدة " المصري " في ذلك اليوم حيث قال :
- " إنهم أدخلوا الجيش المصري فلسطين حتى يتذرعوا بذلك لإعلان الأحكام العرفية حتى يتمكنوا في ظلها من ارتكاب جريمة حل الإخوان المسلمين .
وثيقة
وهنا رفع يده ملوحا وبها ورقة في حجم الكارت البوستال وقال :" هذه هي الفضيحة الكبرى وهذا هو الدليل المادي الذي ينطق بالحق . هذه هي وثيقة مكتوبة باللغة الإنجليزية ... وسلمها للمحكمة .
وأخذ يتلو نص الوثيقة باللغة العربية وهي عبارة عن رد من القيادة العليا للقوات البريطانية في الشرق الأوسط على إشارة وردت إليها من السفارة البريطانية, وتقول القيادة في الوثيقة :
- "لقد أخطرت هذه القيادة رسميا بأن خطوات دبلوماسية ستتخذ لإقناع السلطات المصرية بحل الإخوان المسلمين في أقرب وقت ممكن "
وقد ذيلت الوثيقة بإمضاء رئيس إدارة قوات القيادة العليا الحربية البريطانية في الشرق الأوسط .
وبعد أن تلا هذه الوثيقة أخذت المحكمة في مناقشتها .وهنا وقف الأستاذ محمد عبد السلام بك ممثل النيابة وتساءل عن المصدر الذي أتت عنه هذه الوثيقة – فرد الأستاذ الشناوي مداعبا وقال: أن جاسوسية الإخوان هي التي أتت بهذه الوثيقة – فقال ممثل النيابة : لا يمكن التمسك بمثل هذه الوثيقة إلا إذا صح ما جاء فيها .
وهنا قال سعادة رئيس المحكمة : إلى أن تقرر السفارة البريطانية أن هذه الوثيقة مزورة وغير صحيحة,فإنها يجب أن تعد صحيحة . ( وقبل أن ينتهي الرئيس من كلامه سمع تصفيق هائل وتعالت الهتافات : يحيا القضاء العادل . يحيا القضاء النزيه )
وفي جلسة المحكمة في 10/2/1951 قدم ممثل النيابة كتابا من السفارة البريطانية يكذب الوثيقة ونصه : غيري وحيد رأفت بك ( مستشار الرأي لوزارتي الخارجية والعدل ) طلب إلى سفير حضرة صاحب الجلالة بأن أقرر أن نظره قد استرعي أخيرا إلى خبر نشر بالصحف بشأن محاكمة قائمة أمام المحاكم جاء فيها أن محاميا يدعي الأستاذ شمس الدين الشناوي حاضرا عن المتهم أحمد عادل كمال صرح بأن الحكومة البريطانية أو عزت إلى الحكومة المصرية في 1948 بإلغاء وحل الإخوان المسلمين . وأن الأستاذ الشناوي دلل على ذلك بصورة كتاب مؤرخ في 20 نوفمبر 1948 زعم أنه موقع عليه بمعرفة الكولونيل أ. م ماك درموث نيابة عن السلطات العسكرية البريطانية .
وأرى من واجبي إخباركم بأن هذه الوثيقة إن وجدت تكون مصطنعة فضلا عن أن أمر حل الإخوان المسلمين أو ما شابه ذلك كما زعم الأستاذ الشناوي لم يثر ولم يكن محل حديث بين هذه السفارة والحكومة المصرية . ولعلكم ترون أن من الضروري لمصلحة العدالة إحاطة المحكمة علما بما تقدم .
التوقيع
موري جراهام
المستشار القانوني للسفارة البريطانية
وهنا قام الأستاذ الشناوي وقال: إن تكذيب السفارة لهذه الوثيقة لا يفيد من قريب أو من بعيد لأن السفارة لم ترسل بهذه الوثيقة وإنما هي صدرت من القيادة العليا للقوات البريطانية في الشرق الأوسط وهي مذيلة بإمضاء السير ماك درموث قائد القوات البريطانية وأضاف قائلا : بأن المهم هو معرفة حقيقة هذا الإمضاء – وأمام هذا الأمر لا يصدر التكذيب إلا من صاحب التوقيع الفعلي , وهو بنفسه الذي يحق له إنكار الوثيقة .
- وثائق أخرى
واستطرد قائلا : نحن واثقون من صحة الوثيقة التي تقدمنا بها ولدينا من الأدلة ما يؤيدها ويعززها ولسوف نقدمه لكم في القريب .
يستنصر الإنجليز
وأضاف أن السبب في تكذيب السفارة لهذه الوثيقة هو أن دولة إبراهيم عبد الهادي باشا وجد السفارة لا تحرك ساكنا , وقد مضت قرابة العشرة الأيام فطلب منهم أن ينصروه كما نصرهم أخ له من قبل .. وقد طالعتنا جريدة أخبار اليوم بأن هناك اتصالات حدثت وأن إبراهيم عبد الهادي ألح في مقابلة المستر أندورو تمت مقابلته في منزل عبد الهادي باشا بالمعادي ..
وقال : إنه ظاهر أن المستر أندروز طلب من عبد لهادي باشا أن يكذب الوثيقة بنفسه ولكن عبد الهادي قال أن الوثيقة صدرت من الإنجليز فيجب أن يكون تكذيبها من جانبهم ,.... وأشار إلى أن عدد " المصور " أول أمس نشر أن عبد الهادي سئل عن سبب المقابلة الطويلة فقرر أنها ل تتناول مسائل سياسية ولكنها كانت خاصة بتكذيب الوثيقة .
ممثل النيابة : إن الوضع الطبيعي هو أن يكون عبء إثبات صحة الوثيقة وصحة التوقيع عليها على عاتق الدفاع . ومن القواعد المقررة أنه إذا أنكر المستند فإن على الذي يتمسك به أن يثبت أن الكتابة والتوقيع صادران من خصمه .
المحكمة : الدفاع يقول أن الجهة التي أصدرت التكذيب ليست هي الجهة التي صدرت عنها الوثيقة .
النيابة : السفارة مختصة والتوقيع ولو أنه صادر عن غيرها إلا أني أري أن المستر ماك درموث وهو الموقع علي الوثيقة يتكلم فيها بإسم السفارة البريطانية.
الدفاع : إن هذا الطعن غير منتج . وهذا التكذيب إن هو إلا مؤامرة سياسية لا تجدي ولا تفيد .
المحكمة : يرجأ البحث في الوثيقة حتى يطلع الدفاع على رد السفارة ويقدم المستندات التي يراها .
وفي جلسة 15/2/1951 وقف الأستاذ شمس الدين الشناوي وتكلم بشأن الخطاب الوارد من السفارة الإنجليزية وقرر أن هذه الوثيقة رسمية صادرة من موظف رسمي مختص بتحريرها وهو المستر ماك درموث, وقال : أن الورقة الرسمية لا يطعن فيها إلا بالتزوير, وكذلك الصورة الفوتوغرافية المأخوذة لهذه الوثيقة بخلاف الورقة العرفية فإن صورتها الفوتوغرافية تكون مجرد قرينة , وذلك تطبيقا للمادة 390 من القانون المدني ولذلك يكون الطريق الذي سلكته السفارة غير سليم , ولا يمكن أن يؤثر في صحة الورقة أو ينال منها . دليل على تدخل الإنجليز
وأشار بعد ذلك إلى تدخل الإنجليز في شئون البلاد الداخلية وقال : أن بيده الآن أحد أعداد جريدة الأساس ( جريدة الحزب السعدى) وأخذ يتلو منه مقالا تحت عنوان :" لماذا يتلكأون ؟" جاء فيه:
- "أن الحكومة السعدية تعجب لعدم تسليم الثلاثة من الإخوان الذين هربوا إلى فرقة , في حين أن السفارة الإنجليزية هي التي كانت تطلب إلى السلطات المصرية وضع حد لنشاطهم بمصر . فلما اشتدت وطأة البوليس المصري على الإرهابيين حمتهم السلطات البريطانية في برقة والسلطات المصرية في انتظار تغير موقف السلطات البريطانية في برقة حتى ينسجم مع موقف السفارة البريطانية في القاهرة .
تدخل سافر
ثم قدم الأستاذ الشناوي هذا العدد إلى المحكمة قائلا : إن هذا هو اعتراف صريح من السعديين بالتدخل البريطاني السافر لا في شئوننا الخارجية فحسب وإنما في شئوننا الداخلية أيضا .
- • قرائن تؤيد صحة الوثيقة:
- • هذا ما كان من أمر الوثيقة . وليس يعنينا بعد إيرادها وإيراد ما دار حولها من نقاش أن نقيم هذا النقاش , وأن نتعقب ما كان من شأن الوثيقة بعد ذلك , وهل تقدم موقعها السير ماك درموث بتكذيبها والطعن في توقيعه بالتزوير أم وقف الأمر عند هذا الحد وهو تكذيب السفارة – وإصدار السفارات تكذيبا هو عرف متبع في جميع السفارات حين يفتضح تدبير دبره بلد ضد آخر , تقوم سفارة البلد المتهم بإصدار تكذيب ...,مبلغ علمنا أن صاحب التوقيع لم يكذب الوثيقة ولم يطن بالتزوير في توقيعه ولو كان قد فعل لوصل نبأه إلى هيئة المحكمة , على أن شيئا من ذلك لم يصل إليها حتى انتهت من نظر القضية – كما أننا لم ير ولم نسمع أن الموقع تقدم إلى أية جهة قضائية بمثل هذا الطعن.
- • وإنما الذي يعنينا هو أن ندرس الظروف والقرائن التي تحيط بهذا الاتهام وتتصل به من قريب أو من بعيد , حتى يستطيع القارئ أن يركن في هذه القضية الخطيرة إلى قرار تطمئن إليه نفسه وها أنا ذا أضع بين يدى القارئ بعض هذه الظروف والقرائن :
- • القرينة الأولى . ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب وفي الفصل الأخير منه, كيف أن اليهود كانوا يستعدون علنا حلفاءهم الأوربيين والأمريكيين على الإخوان المسلمين مما كانت تسيل به أنهار الصحف في أوربا وأمريكا في ذلك الوقت .. وأوردنا جزءا من مقال كتبته فتاة صهيونية تدعي " روث كاريف " ونشرته جريدة الصنداي ميرور في مطلع عام 1948. وقد يحسن بنا أن نعيد نقل بعض سطور منه الآن حيث قالت بعد هجوم عنيف على مفتي فلسطين وعلى المرشد العام للإخوان المسلمين :" وإذا كان المدافعون عن فلسطين – أى اليهود – يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة , فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها .
- • ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجها لوجه ,وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة .. وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي إذ واجهتها حركة فاشية نارية فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمال أفريقيا إلى الباكستان ومن تركيا إلى المحيط الهندي " وإذا عرف أن اليهود هو طليعة جيوش الحلفاء وعيونهم في الشرق الأوسط فإن ما يكتبونه في هذا الشأن لا يكون من قبيل الاستجداء وطلب المعونة وإنما بمثابة إعطاء مقدمة الجيش إشارة البدء للجيش كله ليقوم بالهجوم .
وإلا فكيف نعلل أن يكون استعداء اليهود الغرب ضد الإخوان بهذا الأسلوب الذي يتم عن الفزع والهلع منذ مطلع عام 1948 حيث لم يكن مجهود الإخوان يتعدى مجرد تدريب بعض المنظمات العسكرية للمجاهدين الفلسطينيين.. فلما انتصف ذلك العام كانت قوات الإخوان قد دخلت فلسطين وأذهلت العالم كله بشجاعة منقطعة النظير ودخلت الجيوش العربية فكانت تلجأ إلى قوات الإخوان في أحرج المواقف .. ثم لا ينتهي العام نفسه إلا بصدور أمر حل الإخوان المسلمين وتطويق قواتهم في فلسطين ونقلها إلى المعتقلات في مصر وهل كان من الممكن أن تفرض الأحكام العرفية لو أن الجيوش العربية لم تدخل فلسطين ؟ ... وإذا علم أن هذه الجيوش قد دخلت فلسطين فجأة ودون أدني استعداد – وقد أثبتت التحقيقات ذلك فيما بعد – فما تعليل دخولها وهي في هذه الحالة إلا أن يكون هناك إيحاء خارجي بذلك ليكون دخولها مجرد تبرير لإجراءات معدة تبدأ بإعلان الأحكام العرفية وتنتهي بحل الإخوان وإبادتهم .
والدليل على ذلك أن أصحاب الأمر – دول الغرب – حين رأوا جيش مصر – الذي كان مفروضا أن يهزم من أول معركة – بتعاونه مع قوات الإخوان قد حقق انتصارات على اليهود عملوا على إتاحة فرصة لتزويد اليهود بعتاد كثيف ,فأوعزوا بطلب الهدنة .. وسرعان ما وافق عليها النقراشي رغم تحذيرات الخبراء وابتهال الإخوان له ألا يوافق عليها ..
ثم وجد أصحاب الأمر أن هذه الهدنة لم تكن كافية لقلب ميزان المعركة فأوعزوا بهدنة ثانية لم يتوان النقراشي عن قبولها ضاربا بالتحذيرات والابتهال عرض الحائط, مما يدل على أنه كان ينفذ خطة عليها لامع المصريين – فقد كانوا جميعا ضد فكرة الهدنتين – بل مع آخرين !!
القرينة الثانية – على أن ائتمار حكام مصر بأمر الإنجليز لم يكن شيئا غريبا فلقد أشرنا إلى طرف من ذلك عن الكلام على ترشيح المرشد العام لمجلس النواب في عهدى النحاس وأحمد ماهر . فقد صرح النحاس للمرشد العام بما ذكرنا نصه من قبل كما أن أحمد ماهر اطلع " على البرير" على تبليغ السفارة البريطانية للحكومة المصرية بوجوب منع المرشد العام وعلى البرير من الترشيح .
كما أن المتهم باغتيال أحمد ماهر أثبت أمام المحكمة أن إعلان أحمد ماهر الحرب ضد المحور كان بناء على تدخل الإنجليز وأن أحمد ماهر والنقراشي كانا عند السفير البريطاني في يوم الحادث وهو اليوم الذي كان مزمعا إعلان الحرب فيه وقد طلب المتهم الاستشهاد بالنقراشي على ذلك..
القرينة الثالثة – في أثناء نظر قضية قنابل 6 مايو – وهي قضية سياسية ليست من قضايا الإخوان – أمام محكمة الجنايات بالقاهرة دائرة حسن فهمي بسيوني بك وفي جلسة 9/11/1948 نودي على صالح حرب باشا ( رئيس جمعية الشبان المسلمين في ذلك الوقت ) باعتباره شاهدا.. وردا على سؤال من المحامي اسطفان باسيلي بك عما دار بينه وبين المتهم الأستاذ عبد السلام وفا باعتباره صحفيا فقال :إنني أعرف الأستاذ وفا لأنه انضم إلى جمعية الشبان المسلمين في سنة 1941 ثم انقطع عنها بعد إبعادي إلى أسوان ثم قال : إذا كان المقصود ما دار بيني وبين دولة النقراشي باشا بشأن رياسة جمعية الشبان المسلمين فإنني أردت أن أقول له : أن الإنجليز لم يحملوا النقراشي باشا وحده على طلب تنحيتي عن رياسة جمعية الشبان المسلمين بل إن هذا الطلب طلب أيضا من أحمد ماهر باشا ومن حكومة الوفد . وهذه المسألة تتصل بحادث 4 فبراير 1942.
ولما رأت المحكمة عدم الخوض في المسائل السياسية طلب المحامي أن يوضح صالح باشا الحديث الذي دار بينه وبين الأستاذ وفا – وقد نشر في جريدة البلاغ – عن تصرفات النقراشي باشا حول رياسة صالح باشا لجمعية الشبان المسلمين فقال :
- " إنني أذكر هذا الحديث , وقد اطلعت عليه ولاحظت أنه يشمل أشياء لم أقلها .وإن الذي حدث فعلا هو أنني كنت في أسوان واتصل بي دولة النقراشي باشا بالتليفون وطلب عند حضوري إلى القاهرة أن أقابله فلما حضرت اتصلت به تليفونيا واتفقنا على موعد للمقابلة – وكان دولة النقراشي باشا في ذلك الوقت رئيس الوزارة ووزير الداخلية – فلما ذهبت للقائه في الموعد أخرج لى خطابا بالإنجليزية من اللورد كليرن السفير البريطاني يقول فيه السفير أنه طلب من الحكومات المتعاقبة أن تحمل صالح حرب باشا على الاستقالة من رياسة جمعية الشبان المسلمين ولم يتم شئ من ذلك وظل حسن رفعت باشا وكيل الداخلية يكتب له ( أى للسفير ) أن صالح حرب باشا قد انقطعت صلته بالجمعية ولا شأن له بإدارتها ويقول السفير : أن الذي ترامي إلينا أنه لا يزال وثيق الصلة بالجمعية ولا يزال يديرها سواء كان قريبا منها أو بعيدا عنها .
وأضاف السفير في خطابه أنه هو أى السفير والقائد العام للجيوش البريطانية في مصر والقائد العام للطيران في الشرق الأوسط يطلبون من النقراشي باشا أن يساعد على حملة على الاستقالة من الجمعية .
وقال الشاهد : بعد أن اطلعت على الخطاب سألني دولة النقراشي باشا عن رأيي فقلت له : " إنني أعجب من أن تتدخل السفارة البريطانية في شئوننا الداخلية حتى في رياسة جمعية كجمعية الشبان المسلمين ؟ فقال لى دولة النقراشي باشا : أن الحالة لا تزال حالة حرب وإن كانت الحرب قد انتهت فقلت له : إنني لن أستقيل .. فقال دولة النقراشي باشا : إنك ستسبب لنا مشاكل . فقلت له : أرجو من دولة الباشا أن يكون على الحياد وأن يترك الأمر بيني وبين الإنجليز لأن بيننا خصومة ترجع إلى عام 1915.
يضع إصبعه
فقال دولة النقراشي باشا : أرجو ألا يكون هذا آخر ما عندك . وأن تعيد النظر في الأمر والوقت فسيح أمامك فقلت له أن هذا هو آخر ما عندي لأن هذا الطلب طلب مني قبل اليوم , وأنا لن أستقبل ولا توجد قوة في الأرض تحملني على الاستقالة ..
وهنا وضع النقراشي باشا إصبعه على كلمة " قائد قوة الطيران في الشرق الأوسط " التي وردت في الخطاب وردد لقبه . فقلت له : أن قوة بريطانيا كلها لا تستطيع حملي على الاستقالة وأن الذي يحملني على الاستقالة هو شئ واحد , هو أن ترغب جمعية الشبان المسلمين نفسها في ذلك.
ثم سأل المحامي الشاهد: هل كذب دولة النقراشي باشا الحديث الذي نشر في جريدة البلاغ حول هذه الواقعة ؟ فرد الشاهد : لا أذكر , وقد أوردنا هذه الشهادة ليعلم القارئ أن حكام مصر عامة وأن السعديين منهم بوجه خاص وأن النقراشي باشا بوجه أخص , كانوا يستوحون تصرفاتهم من وحي المستعمر ويتلمسون رضاه في كل عمل يعملونه ,ويلتزمون أمره في كل ما يأمرهم به حتى في أتفه الأمور .
فرياسة جمعية الشبان المسلمين وهي جمعية بعيدة كل البعد عن السياسة ويكاد يقتصر على النواحي الرياضية والثقافية تصر السفارة البريطانية والقائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط والقائد العام لقوة الطيران البريطاني بالشرق الأوسط على تنحية فرد عن رياستها وتلح في إصرارها بعد أن حاول وكيل وزارة الداخلية إيهامها بأن هذا الفرد قد قطع صلته بها .. دليلا على أن للسفارة عيونا ترصد ما يجرى في مصر وتتبعه .. فما بالك بهيئة الإخوان المسلمين التي أقضت مضاجع بريطانيا , وهددت وجودها في مصر , وألبت الشعب ضدها وكشفت له عن سوآتها وجرائمها , وكادت تفسد المخطط البريطاني الأمريكي في فلسطين لولا تواطؤ الحكومات العربية , وأيقظت الوعي الوطني الإسلامي في أنحاء البلاد العربية حتى أصبح عملاء الاستعمار فيكل مكان فيحرج من أمرهم ؟ّ... هل تصبر حكومة بريطانيا هذه على هذا الخطر الداهم لمصالحها دون أن تستغل ولاء حاكم مصر لها في القضاء على ألد أعدائها وأقوي خصومها ؟ وهي لم تطق الصبر على وجود فرد ما في رياسة جمعية الشبان المسلمين.
- • القرينة الرابعة . وفي ختام ما نسوق من ظروف وقرائن ننقل كلمة قصيرة وردت في سياق مرافعة الأستاذ فتحي رضوان أمام محكمة الجنايات في إحدي جلسات قضية السيارة الجيب , وكان ذلك في 20/2/1951 ولهذه الكلمة أو الواقعة من الدلالات ما نترك للقارئ تصوره لحقيقة حكام مصر في ذلك العهد ولحقيقة النقراشي باشا بالذات :
أشار الأستاذ فتحي رضوان إلى أسباب دخول الجيش المصري في فلسطين في 15 مايو بالذات فقال : إنه أشيع في ذلك الوقت أن " شرق الأردن" ( المملكة الردنية الآن) عازمة على دخول الحرب ولو منفردة إذا كانت مصر والبلاد العربية غير مستعدة ... ومن الغريب أن حافظ رمضان باشا سأل النقراشي باشا تليفونيا عما إذا كانت مصر مستعدة لدخول الحرب فطلب إليه أن يتصل به عن طريق تليفون آخر لأن تليفونه مراقب من الإنجليز.
وقال الأستاذ فتحي رضوان : أن النقراشي باشا لم يكن راغبا في دخول الحرب وإنما ضغط عليه الإنجليز الذين أرادوا أن يؤدبونا لأننا رفضنا شروط المعاهدة التي أرادوا إملاءها علينا مما أشعرهم أن هناك وعيا قوميا في البلاد العربية لابد أن يموت ويقضي عليه وأن يموت حسن البنا زعيم هيئة إسلامية- وأن يموت النقراشي – وينكل بالأحرار وتدبر القضايا لينشغل الرأي العام عن مطالبه القومية .
الفصل الثالث تفنيد أسباب الحل

لم يكن ممكنا في ظل الحرب المعلنة من الحكومة المصرية على الإخوان المسلمين , أن يجد الإخوان فرصة للرد على اتهامات الحكومة, التي سخرت لإذاعتها – باسم الأحكام العرفية – جميع وسائل النشر والإعلام وحرمت على الإخوان أن يسمع لهم صوت أو تنشر لهم كلمة ..وكيف لا وقد أصدر الحاكم المفتون بغرور السلطة حكما بإعدامهم .. وإذن فهم غير موجودين بحكم أمر الحل...
ولكن المرشد العام لم يكن الرجل الذي يستسلم مهما أحاط به عدوه من كل جانب ومهما جردوه من كل سلاح يمكن الدفاع به, إنهم جردوه فعلا من كل سلاح لكن سلاحا واحدا لم يستطيعوا أن يجردوه منه ذلك هو إيمانه العميق بدعوته وثقته الكاملة في طهرها ونقائها ..
ومع أنه كان يعلم أن دفاعه عن دعوته بالحجة والبرهان سيحول هؤلاء الحكام بينه وبين أن يصل إلى الشعب .. الشعب المضلل الذي هو في أمس الحاجة إلى من ينير له الطريق في هذه القضية المصيرية , وينتشله من وهدة الذهول والحيرة التي تردى فيها أمام ما فوجئ به من سيل جارف من اتهامات خطيرة قذفت بها هذه الحكومة فجأة في وجه دعوة كانت حتى آخر لحظة مناط أمله ومعقد رجائه .
ثم إنه – أى الشعب – لم تعد تقع عينه بعد ذلك , ولا يقرع سمعه ليلا أو نهارا إلا مقالات ضافية وأحاديث مستفيضة كلها تسبح بحمد الحكومة وتصب اللعنات على أم رأس الإخوان .... كان المرشد العام يعلم ذلك . ولكن ذلك لم يقع بهمة لحظة عن انتهاج كل سبيل يتاح له أن يكتب بقلمه أو ينطق بلسانه ما يستطيعه من دفاع عن دعوته بالحجة والبرهان تاركا ذلك للزمن الذي يعتبره جزءا من العلاج ... فإذا كان هذا الشعب قد ابتلي بهؤلاء لحكام فكانوا مرضه الذي غيبه عن رشده , فإن الزمن كفيل أن يكشف عنه هذا البلاء فيصحو ويستعيد قدرته على النظر والإدراك ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( آل عمران : 140)
ولقد فعل الزمان فعله لم يمض وقت طويل حتى أتيح لهذا الشعب وللعالم كله أن يقرأ دفاع هذا الرجل امؤمن العظيم عن دعوته وذوده بأقوى سلاح من الحجة والبرهان عن حياضها ..واستبان للجميع – في ضوء ما سلط في ثنايا هذا الدفاع من أشعة كاشفة . حقيقة الدوافع التي دفعت هؤلاء الحكام إلى ارتكاب جريمة إصدار هذا الأمر .
- وإليك الخطوات التي اتخذها الأستاذ المرشد العام في هذا السبيل :
- أولا - محاجة باللسان:
لما بلغه أن الحكومة مصممة على إصدار الأمر العسكرى تحل الإخوان تناسي ما يعلمه من أن هذه الحكومة صنيعة المستعمر وأنها حكومة فاشلة حاقدة , وطلب مقابلة النقراشي باشا , فلما حيل بينه وبين ذلك ذهب إليهم في عقر دارهم بوزارة الداخلية في الليلة التي يضعون فيها اللمسات الأخيرة لنصوص الأمر العسكري وجلس مع كبيرهم عبد الرحمن عمار . وقارعه الحجة بالحجة , فأثبت له زيف ما بنوا عليه هذا الأمر وشرح له ولمن معه ما سوف يحيق بالأمة من أضرار بالغة من جراء هذا الأمر إذا هم أقدموا عليه وناشدهم أن يجنبوا الأمة هذه الأخطار بالعدول عن إصداره .. وقد أدبى لهم استعداده أن يتعاون معهم بالوسائل المشروعة على ما يعود على هذه الأمر بالخير ... أسلوب رجل أكبر من الأحداث وأقوي من أن تجرفه العواطف ... فهو يكره القوم ولكن كرهه إياهم لا يمنعه من أن يبذل جهده في إقالتهم من عثرة ستردى بالبلاد وتحطم مستقبلها .
إنه يعلم أنهم يعدون قرارا بتجريمه , ولكنه – لثقته في نفسه وليقينه من براءة ساحته - يذهب إليهم ويمحضهم النصح , ويعاملهم معاملة الوالد الذي استبد بأبنائه العقوق فجلسوا يدبرون أمرا يعلم هو أن فيه هلاكهم وهلاك أهليهم , فأخذ يبصرهم بالعواقب ويمد لهم يده للتعاون معهم على إنقاذهم وإنقاذ أهليهم ..ولكن العقوق كان قد بلغ بهم مبلغا لا يدع للنصح إلى نفوسهم سبيلا وأصروا على مؤامرتهم وأخرجوها إلى حيز التنفيذ.
- ثانيا – تفنيد مسجل بالكتابة :
لما لم تجد المحاجة باللسان وأصدروا الأمر العسكري والمذكرة التفسيرية التي بنى عليها هذا الأمر , لجأ الأستاذ المرشد إلى إعداد مذكرة فند فيها كل ما نسبته المذكرة التفسيرية إلى الإخوان من اتهامات , وأثبت زيفها , ووضح فيها دعوة الإخوان المسلمين ومواقفها من الأحداث, وجهادها الكريم في مختلف الميادين وأشار بأصابع الاتهام إلى جهات أجنبية معنية صدر من هذا الأمر لحسابها ...وتعد هذه المذكرة مرجعا شاملا ورائعا وتاريخيا يحرص كل منصف على الاطلاع عليه – وإليك نص هذه المذكرة التي لم تنشر إلا بعد عام من كتابتها فقد نشرت في 12 / 12/ 1949 تحت عنوان : "عمار بك يقر بأن قرار الحل جاء نتيجة للضغط الأجنبي على النقراشي باشا "
بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدى السبيل . وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد:
فقد تقدم سعادة وكيل الداخلية عبد الرحمن عمار بك بمذكرة ضافية بتاريخ 28/12/ 1948 عن تاريخ الإخوان المسلمين وغايتهم ووسيلتهم وطلب في نهايتها اتخاذ التدابير الحاسمة لوقف نشاط هذه الجماعة التي تروع أمن البلاد في وقت هي أحوج ما تكون فيها إلى هدوء كامل وأمن شامل ضمانا لسلامة أهلها في الداخل وجيوشها في الخارج.
- الأمر العسكري
وقد اتخذ دولة الحاكم العسكري من هذه المذكرة سببا لإصدار الأمر العسكري بحل ( جمعية الإخوان المسلمين ) ومصادرة أنديتهم وأموالهم وأملاكهم ونشاطهم في جميع أنحاء البلاد واعتقال رؤسائهم وكثير من أعضاء هيئتهم بالجملة في كل مكان وإعلان حرب عنيفة لم توجه إلى الصهيونيين الذين شرعت الأحكام العسكرية من أجلهم وأذن بها من أجل اتقاء شرهم .. وإقرارا للحق في نصابه أردت أن أناقش ما جاء في هذه المذكرة ليرى الرأي العام المصري والعربي والإسلامي تفاهة هذه الأسباب ومدى العدوان الذي وقع على أكبر مؤسسة إسلامية شعبية نافعة في مصر أدت للوطن وللدين أجل الخدمات طوال عشرين عاما كاملة .
- بطلان دعوى الإجرام والإرهاب
يقول وكيل الداخلية في مذكرته " ولقد تجاوزت الجماعة الأغراض السياسية المشروعة إلى أغراض يحرمها الدستور وقوانين البلاد فهدفت إلى تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ولقد أمعنت في نشاطها فاتخذت الإجرام وسيلة لتنفيذ مراميها " وأخذ سعادته بعد ذلك يستشهد ببعض الحوادث ويورد " بعض أمثلة قليلة لهذا النشاط الإجرامي كما سجلته التحقيقات الرسمية " وذكر ثلاثة عشرة حادثة كلها مردودة ولا توصل إلى ما يريد سعادته من إدانة هيئة الإخوان المسلمين ووصف نشاطهم القانوني المثمر بأنه نشاط إجرامي .
وهذا القول منقوض من أساسه , فلم يكن الإجرام يوما من الأيام من وسائل هيئة الإخوان المسلمين فإن وسائلهم ظاهرة معروفة فهذه المحاضرات والدروس والرسائل والصحف , والأندية والدور , والمساجد والمنشآت ناطقة بأن وسائل هيئة الإخوان المسلمين لم تتعارض مع القانون في يوم من الأيام .
- حقيقة الحوادث
ويكفي للرد على سعادة الوكيل أن القانون حمى هذا النشاط عشرين سنة ولم يستطع أحد الاعتداء عليه إلا في غيبة القانون وفي ظل الحكم العرفي الاستثنائي الفردي البحث والذي ينص الدستور في المادة ( 155) بأنه إذا عطل الحريات فإن ذلك لا يكون إلا تعطيلا مؤقتا هذا التعطيل بانتهاء الأحكام العرفية .. أما ما عدد سعادته من الحوادث فها هي ذى حقيقتها في وضعها الصحيح ..
- الجناية رقم 883:
أولا : الجناية العسكرية العليا رقم 883 لسنة 1942 قسم الجمرك – وقد كان موضوع الاتهام فيها الدعاية للمحور . وشاء ذوو الأغراض أن يقحموا فيها الإخوان المسلمين وادعي أحد المتهمين أنه عرض على الأستاذ البنا شخصيا أنواعا من السلاح والعتاد الألماني , وأن الأستاذ البنا سر بذلك ورحب بالحصول على هذه الأسلحة,وأن الوسيط في ذلك أخوان من إخوان طنطا وقد قبض عليهما في السجن ثمانية أشهر .. وماذا كانت النتيجة بعد ذلك ؟.
كانت النتيجة أن كذب هذا المدعي نفسه حين ضيق عليه المحقق الخناق وهدده بالمواجهة وحكم ببراءة الأخوين براءة نقية واضحة كاملة – فهل تصلح مثل هذه النتيجة تكأة للإتهام أمام سعادة وكيل الداخلية وهو من رجال القانون ؟
ويتصل بهذه القضية ما ذكره سعادة الوكيل من موافقة الأستاذ حسن البنا على تقدير لأحد إخوان طنطا وكتابته بخطه أنه مؤمن بما ورد فيه .. وعرض الموضوع على هذه الصورة فيه إنتقاص للحقيقة . فلقد كان التقرير مطولا , وكانت إشارتي عليه بالموافقة على بعضه وتعديل بعضه . ولو كان في هذا التقرير ما يؤاخذ عليه لحوكم صاحبه ولما صدر قرار المحكمة ببراءته فقد كان أحد المتهمين المقبوض عليهما في الجناية السابقة .
- الجناية رقم 679:
ثانيا- الجناية رقم 679 لسنة 1946قسم ثان بور سعيد – ويعلم الخاص والعام أن الإخوان المسلمين كانوا معتدى عليهم فيها ولم يكونوا معتدين فقد أخذوا على غرة وحوصرت دارهم وحرق ناديهم الرياضي ولم تثبت إدانة أحد منهم في شئ .ولم يكن القتيل الذي قتل خصما من خصوم الإخوان ولكن كان صبيا في الطريق – جعله الله لأهله ذخرا – ولكن سعادة الوكيل يأبي إلا أن يجعله خصما من خصوم من خصوم الإخوان ليوهم الناس أنهم يعتدون على خصومهم بالسلاح ..
- في 10 ديسمبر:
ثالثا : بتاريخ 10 ديسمبر 1946 ضبط بعض أفراد هذه الهيئة بمدينة الإسماعيلية يقومون بتجارب لصنع القنابل والمفرقعات .. ,هي واقعة لا أصل لها بتاتا فيما أذكر وإني لأسأل سعادة الوكيل من هم هؤلاء الأشخاص ؟وهل حوكموا ؟ وبماذا حكم عليهم ؟ لأن الإخوان بالإسماعيلية معروفون كفلق الصبح ولا أذكر أن أحدا منهم وجه إليه مثل هذا الاتهام في يوم من الأيام .
- الجناية رقم 767:
رابعا – والشخص الذي أدين في قضية الجناية رقم 767 لسنة 1946 قسم عابدين بمناسبة حوادث ديسمبر 1946 لم يثبت أنه أمر بهذا من قبل الإخوان أو اشترك معه فيه أحد منهم .وقد كانت هذه الحوادث شائعة في ذلك الوقت بين الشباب بمناسبة الفورة الوطنية التي لازمت المفاوضات السابقة ,ولقد حدث بالإسكندرية أكثر مما حدث بالقاهرة وضبط من الشبان عدد أكبر وصدرت ضدهم أحكام مناسبة ولم يقل أحد أنهم من الإخوان المسلمين فتحمل الهيئة تبعة هذا التصرف الذي لا حق فيه ولا مبرر له .
- الجوالة ومأمور الخليفة :
خامسا – حادث اشتباك الجوالة بمأمور قسم الخليفة يوم 29 يونيه 1947 حادث عادي ولم يكن فيه اعتداء بالمعني الذي صوره سعادة الوكيل , فقد اعترض المأمور ورجاله سير طابور نظامي من جوالة الإخوان المسلمين وأراد منعهم بالقوة واشتبك مع قائدهم وأشيع بينهم أن المأمور مزق المصحف الذي كان يحمله أحدهم . فثارت نفوسهم , ثم انتهي الأمر بالتفاهم كما تنتهي عادة مثل هذه الاحتكاكات بين البوليس والجمهور في أى اجتماع من الاجتماعات يترف فيه رجل البوليس بغير الكياسة واللباقة المناسبة للموقف .
- _ الجناية رقم 4726:
سادسا- الجناية رقم 4726 لسنة 1947 . ثبت أن الذي اتهم فيها غير مسئول عن عمله وسقط الاتهام ضده , وما زال في المستشفي إلى الآن فما وجه الاستشهاد بها في مذكرة رسمية ؟ وهل تكون هيئة الإخوان المسلمين مسئولة عن عمل شخص يتبين أنه هو نفسه غير مسئول عن عمله ؟!
- في 19 يناير :
سابعا – هؤلاء الخمسة عشر الذين ضبطوا في 9 يناير 1948 بعضهم من الإخوان ومعظمهم لا صلة له بالإخوان أصلا .ولقد برروا عملهم بأنهم يستعدون للتطوع لإنقاذ فلسطين حينما أبطأت الحكومة في إعداد المتطوعين وحشد المجاهدين الشعبيين .وقد قبلت الحكومة منهم هذا التبرير وأفرجت عنهم النيابة في الحال . فما وجه إدانة الإخوان في عمل هؤلاء الأفراد خصوصا وقد لوحظ أنه نص في قرار النيابة بأن الحفظ لنبل المقصد وشرف الغاية .
- • الجناية رقم 1407:
ثامنا – الجناية رقم 1407 لسنة 1948 كوم النور كان الاشتباك في حادثتها لأسباب عائلية بحتى لا صلة لها بالرأي , وإن كان كل فريق ينتمي إلى هيئة من الهيئات . وكثيرا ما يقع مثل هذا الاشتباك في القرى بين من لا صلة لهم بحزب أو هيئة .
- • الشيخ محمد فرغلي :
تاسعا – وما نسب إلى الأستاذ الشيخ محمد فرغلي في المذكرة ما زال رهن التحقيق ومن الإنصاف انتظار ما يسفر عنه . ولكن المعروف رسميا وعند الجميع أن الشيخ محمد فرغلي هو رئيس معسكر النصيرات – لا معسكر البريج بجوار غزة وأنه تطوع للجهاد من فبراير 1948 إلى الآن ولازم متطوعي الإخوان في هذا المنطقة طوال هذه الفترة وأسندت إليه قيادتهم وأقرته قيادة الجيش المصري على ذلك . كما أنه معروف أن فضيلة الشيخ محمد فرغلي كان من أ،صار المجاهد الكريم الشهيد عبد القادر بك الحسيني وكان ممن يسهلون له مهمة الحصول على ما يريد فالاتهام قبل التحقيق ظلم صارخ وقد سألت النيابة الشيخ محمد فرغلي ثم أفرجت عنه وإن كان الأمر العسكري قد صدر بعد ذلك باعتقاله .
- • حوادث كفر بدواي :
عاشرا وحادي عشر أما ما يتصل بحوادث كفر بداوي ومنية البراموني فالثابت والمعروف أن أساس النزاع وأصل الاتهام فيها أن عمدة كل منهما يريد ألا تقوم في القرية أية جماعة يكون لها مظهر وكيان , وكلا العمدتين صهر للآخر وخطتهما في ذلك واحدة وقد كان الإخوان هدفا لاضطهادهما اضطهادا قاسيا لولا ما في أنفسهم من إيمان لما ثبتوا له ساعة نهار .
- • تفتيش ميت موسي:
ثالث عشر – وخطابات التهديد التي ذكرها سعادة الوكيل تحدث فيها سعادته مع الأستاذ صالح عشماوي فرد عليه مدير الجريدة رسميا بخطاب مسجل نفي فيه بشدة هذا الاتهام ورجاه أن يقف حازما من هذه الشركات التي تتهم المصريين بالباطل. وإنا لنرجو أن يتفضل سعادته ببيان مقدرا هذه الأموال التي امتصها الإخوان بالفعل وسعادته يعلم تمام العلم أن الإخوان ليسوا هم الذين يحسنون امتصاص أموال الشركات أو غير الشركات .
- إثارة الشغب
وقد انتقل سعادته بعد ذلك إلى اتهام الهيئة بإثارة الشغب في معاهد التعليم وهي تهمة باطلة , يشهد ببطلانها الأساتذة أولا ورجال الأمن بعد ذلك لو خلوا إلى أنفسهم واستنطقوا ضمائرهم غير متأثرين باتجاه خاص . ولقد كان كثير من الناس يعيبون على طلبة الإخوان الإغراق في الهدوء والمبالغة في الانصراف إلى الدروس فيجيبون بأن واجبهم الأول أن يكونوا طلابا , ولقد تخرج في ظل الدعوة مئات الطلاب من مختلف المعاهد فكانوا من أوائل الناجحين في شهاداتهم وكانوا من أفاضل الموظفين في أعمالهم .
- الحوادث لا تنتج ما أريد بها
والحوادث التي ذكرها سعادة الوكيل لا تنتج أبدا ما يريد ولا تسأل عنها هيئة الإخوان المسلمين فقد كان ولا يزال معلوما أن عنصرا جديدا طرأ على المدارس والمعاهد بعد الحرب الماضية كان له أثر عميق في توسيع هوة الخلاف وتعميقها بين الطلاب واستغلال التعصب للحزبية السياسية أسوأ استغلال ودفع المواقف إلى العنف والاحتكاك والله يشهد والمنصفون أن طلاب هيئة الإخوان المسلمين كانوا أكبر ملطف لحدة هذه الظاهرة وأول المناهضين والواقفين في وجهها وفي كل هذه الحوادث كان أعضاء هيئة الإخوان المسلمين في موقف المدافع دائما وما زالت جميعا تحت التحقيق ..ومن الثابت أن الطالب الذي استشهد في مدرسة شبين الكوم هو أحد طلاب الإخوان المسلمين وقد أغلقت المذكرة عمدا هذه النقطة لتظهر الإخوان بمظهر المعتدي مع أنهم هم المعتدي عليهم .
وعرضت بعد ذلك إلى حوادث الخازندار بك. وكل ذنب الإخوان فيه أن أحد المتهمين شاع أنه سكرتير للمرشد العام مع أن هذه الصلة لم تثبت في التحقيق وإن أصرت المذكرة على وصفها بالثبوت مع أنه على فرض ثبوتها لا يمكن أن تتخذ سببا لإدانة هيئة الإخوان المسلمين .
تبعة حوادث 4- 6 ديسمبر
وقد حمل سعادة الوكيل في مذكرته الإخوان المسلمين تبعة حوادث 4 ديسمبر 1948 في الجامعة وكلية الطب وحوادث 6 ديسمبر 1948 بالمدرسة الخديوية . مع أن المعروف أن هذه الحوادث بدأت بمظاهر سلمية بمناسبة مواقف حاكم السودان العام من مصر والمصريين وبعثة المحاميين ثم تطورت بعد الاحتكاك برجال البوليس إلى تلك النتائج المؤسفة حقا .. ولم يكن دور الإخوان فيها أظهر من دور غيرهم من الطلاب والمقبوض عليهم الآن معظمهم من غير الإخوان ولم يعلن بعد قرار الاتهام ولم يثبت أن لهيئة الإخوان يدا في التحريض على هذا الذي حدث – فتحميل الإخوان هذه التبعة سبق لكلمة القضاء .
- حادث سيارة الجيب
أما حادث سيارة الجيب فقد ضبط فيه عدد كبير من مختلف الهيئات وما زال التحقيق يدور في تكتك شديد ويقول وكيل الداخلية " إن ملابسات هذا الحادث كشفت عن أن جماعة من الإخوان المسلمين يكونون عصابة إجرامية .. الخ" ومقتضي هذا القول لو أن الأمور تسير في حدودها الطبيعية أن تنتظر الحكومة نتيجة التحقيق فإذا ثبت على هؤلاء المقبوض عليهم أخذوا بجرمهم ومن غير المعقول أن تؤخذ الهيئة بتصرفات بعض أعضائها .. وتقول المذكرة نفسها أنهم كونوا من أنفسهم عصابة أخرى تتنافي أغراضها ووسائلها مع أغراض الجماعة ووسائلها القانونية السليمة .
ومن هذه المناقشة الهادئة يتضح لكل منصف أن جميع هذه الحوادث العادية الفردية لا يمكن أنتلو دعوة الإخوان المسلمين بهذا اللون وقد مكثت عشرين عاما صافية نقية . أو تنهض دليلا على أنهم عدلوا عن وسائلهم القانونية إلى وسيلة إجرامية وبالتالي لا يمكن أن تكون بمفرداتها أو بمجموعها – وقد حشدتها المذكرة هذا الحشد المقصود – سببا في هدم بناء إصلاحي ضخم جنت منه مصر والبلاد العربية والإسلامية أبرك الثمرات بل إن الدليل القاطع الدامغ ينادي ببراءة الإخوان من هذا الاتهام فهذه دورهم وشعبهم وأوراقهم وسجلاتهم ومنشآتهم قد وضعت كلها تحت يد البوليس في جميع أنحاء المملكة المصرية فلم يعثر في شئ منها على ورقة واحدة تصلح أن تكون دليلا أو شبه دليل على الانحراف المزعوم – بل لم تجد الحكومة أمامها إلا المدارس تقدمها للمعارف والمشافي والمستوصفات تقدما لوزارة الصحة والمصانع والمعامل تقدمها لوزارة التجارة والصناعة .. وكيفي بهذا شرفا وإشادة بجهود الإخوان الإصلاحية النافعة لهذا الوطن العزيز .
وبعد ... فمن تمام الفائدة بعد هذه المناقشة الهادئة أن نتناول بعض هذه النقاط التكميلية بشئ من البيان والتوضيح .
- بين الدين والسياسة
أشارت مذكرة وكيل الداخلية إلى أن الإخوان اتخذوا من الدين وسيلة لخوض غمار السياسة وأنهم أرادوا بذلك الوصول إلى الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد – وكل من اتصل بالإخوان ودرس نظمهم يعلم تمام العلم بطلان هذا الاتهام , وكل ما هناك أن الإخوان كهيئة إسلامية جامعة مزجت الوطنية بروح الدين , واستمدت من روح الدين أسمي معاني الوطنية . ولم تبتدع ذلك ابتداعا ولم تخترعه اختراعا وإنما هي طبيعة الإسلام الحنيف الذي جاء للناس دينا ودولة وكل مواقف الإخوان في ميدان السياسة مواقف وطنية خالصة بريئة كل البراءة عن حب الدنيا أو الرغبة في الوصول إلى الحكم أو الغنيمة – تهدف إلى إصلاح النظم المقررة في البلاد حتى تتفق مع دينها وعقيدتها ونص دستورها الذي ينادي بأن دينها الرسمي هو الإسلام .
- الأوراق ليست حجة .
وليست الأوراق التي توجد بأيدى الأفراد وفي حيازتهم حجة على هيئة عاشت تعمل وتجاهد في حدود ظاهرة عشرين عاما كاملة .ولكن الحجة هي قوانين هذه الهيئة ولوائحها ونشراتها التي اعتمدتها جهات الاختصاص .. ومنذ صدور القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم جماعات البر والأعمال الخيرية حدد الإخوان نواحي نشاطهم تحديدا واضحا دقيقا وفصلوا بين العمل للبر والخدمة الاجتماعية وبين العمل للوطنية ونشر الدعوة الإسلامية , ووضعوا لكلتا الناحيتين نظاما دقيقا ولوائح مفصلة اعتمدتها وزارة الشئون الاجتماعية وفيها بيان غايتهم ووسيلتهم كاملة – وساروا في حدود هذه الأوضاع يلتزمونها بكل دقة إلى الآن وليس من هذه الوسائل الجريمة ولا الإرهاب كما تريد المذكرة أن تقول . الإخوان وفلسطين
ولعل الذي يسر للحكومة سبيل هذا الاتهام وسهلة عليها وأوجد بين يديها بعض الشبهات – لا الأدلة – عليه هو عمل الإخوان وجهادهم في سبيل فلسطين ,وإن كان هذا العمل من أنصع الصفحات وأمجدها في تاريخ دعوتهم- فقد احتاجت فلسطين الشقيقة إلى السلاح قبل التقسيم بأشهر ونشطت في جمعة الهيئات وأذنت الجهات المختصة من طرف خفي بهذا الجمع وشجعت الإخوان على التعاون مع تلك الهيئات باعتبارهم أقدر الناس على بذل هذه المعونة لانتشار شعبهم وامتداد دعوتهم إلى كل مكان فأبلي الإخوان في ذلك أحسن البلاء وكانوا عند حسن الظن.
- جهاد الإخوان
وأعلن التقسيم ونشبت الثورة في فلسطين والتحم العرب واليهود في معارك شعبية وللإخوان في فلسطين أكثر من عشرين شعبة في الشمال والوسط والجنوب . وتدفق سيل الأهلين من الفلسطينيين يريدون شراء الأسلحة من مصر , وفتحت الحكومة المصرية لهم الباب,وعقدت الجامعة العربية عدة اجتماعات والفت لجنة لمساعدة هؤلاء الأهلين حتى يحصلوا على ما يريدون وقبل الإخوان رسميا في هذه اللجنة وتطوع بعض شبابهم لهذه الغاية وتركوا مصالحهم وراءهم ظهريا وبذلوا في ذلك غاية الكجهود وقدموا كل ما يستطيعون واحتملوا كثيرا من التضحيات المالية في هذا السبيل , وبخاصة بعد أن عدلت لحكومة عن خطتها وصادرت كثيرا من المشتريات التي اشتريت لأهل فلسطين بمعرفتهم أو عن طريق الإخوان ...,كان جزاء هؤلاء الإخوان أخيرا السجن وسوء الحساب ..
وأقرت الجامعة العربية فكرة التطوع فتقدم إليها الآلاف من شباب الإخوان يريدون الموت في سبيل الله وظلت الجامعة والحكومة مترددين بين الإقدام والإحجام ولحماسة تشتد والنفوس تغلي . مما دعا المركز العام إلى أن يبعث بمائة إلى معسكر قطنة بسورية وهم كل ما استطاع أن يقنع المسئولين هناك بقبوله . ولكن ذلك لم يشف غلة الإخوان فاستأذنوا في إقامة معسكر خاص لهم بالقرب من العريش يمارسون فيه التدريب استعدادا لدخول فلسطين وإذن لهم بذلك . وأقاموا معسكرا كبيرا لعدد منهم يزيد على المائتين. يمدهم فيه المركز العام بكل ما يحتاجون من أدوات وتموين وسلاح وعتاد بإذن الحكومة وعلمها حتى تم تدريبهم ودخلوا فلسطين فيمارس 1948 أى قبل دخول القوات النظامية بأكثر من شهرين واحتلوا هناك معسكرا النصيرات جنوبي غزة .. وكان لوجودهم هناك أحسن الأثر في رد عدوان اليهود وطمأنينة السكان.
وتحركت الحكومة وهيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين وأعدت معسكر هاكستيب لتدريب المتطوعين . تقدم إليه أكثر من ألف أخ .. انتخب منهم أكثر من ستمائة على دفعات جهزتهم الحكومة ودخلوا مع القوات النظامية . ووزعوا على مختلف الجهات وظفروا بحمد الله بتقدير كل من عرفهم أو اتصل بهم أو رأي حسن بلائهم وإخلاص جهادهم . فقد رابط الإخوان في ط صور باهر " وفي " بيت لحم" وعلى مشارف القدس واقتحموا " راما تراحيل " في جبهة الوسط واحتلوا معسكر النصيرات ومعسكر البريج ونسفوا مستعمرة " ديرون" واشتركوا في معارك عسلوج , وحاصروا " المسنة " و" بيروت اسحق " وترددت نقطهم الثابتة والمتحركة في كل مكان في جبهة الجنوب واستشهد منهم قرابة المائة وجرح نحو ذلك , وأسر بعضهم ..وكانوا مثال البسالة والبطولة والعفة والشرف والنزاهة وحب الاستشهاد ... فكان طبيعيا أن تحصل الحكومة على بعض عتاد لم ينقل وأن تجد في بعض الأماكن بقايا من هذه المخلفات ...ولكن ليس معني ذلك أبدا أن الإخوان المسلمين المؤمنين المجاهدين المحسنين قد أصبحوا خطرا يهدد سلامة الأهلين في الداخل وهم دعامتهم , وسلامة الجيوش في الخارج وهم زملاؤهم ..
- الدوافع الحقيقية في موقف الحكومة
مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لهذه الخطوة الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه في مقاصد الإخوان أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام :-
وهو ما لم يقم عليه دليل ولا برهان – ولكن الدافع الحقيقي فيما نظن هو انتهاز الأجانب فرصة وقوع بعض الحوادث مع اضطرابات السياسة الدولية , وقلق الموقف في فلسطين وتردد سياسة مصر بين الإقدام والإحجام فشددوا الضغط على الحكومة وقد صرح بذلك عمار بك نفسه وأقر بأن سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا قد اجتمعوا في فايد وكتبوا لدولة النقراشي باشا في صراحة بأنه لابد من حل الإخوان المسلمين ..وكان في وسع دولته أن يزجرهم عن مثل هذا التدخل في شأن داخلي بحت ,وأن ينظرهم حتى تظهر نتيجة التحقيقات وأن يتعاون مع المسئولين في الإخوان على إزالة هذا الوهم من أنفسهم ... ولكنه بدلا من ذلك استجاب لهذه الرغبة الأجنبية وأصدر قرار الحل فأشمت الأعداء وأحزن المؤمنين الأتقياء ..
وهكذا يقيم الشواهد كل يوم على أن مصر للأجانب قبل أن يكون لأهلها منها نصيب وأن خلاصة شعبها لا مانع من أن تقدم حرياتها قربانا لإرضاء السفراء ورعايا الدول التي طالما ناصبتنا العداء وأنزلت بنا البلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ويكون لما يشاع عن قرب الاتفاق بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية أصل في هذه الخطوة أيضا كما قد يكون للموقف الحزبي والتأهب للانتخابات القادمة دخل كذلك ولا يعلم بالحقيقة غير الله ولله عاقبة الأمور .
- التعسف في التنفيذ
ولقد كان الأمر العسكري غريبا في نفسه وفي طريقة تنفيذه .. فلا يمكن أن يقول إنسان أن حل هيئة من الهيئات يستلزم اتهام كل ما يتصل بها أو حمل اسمها بالجرم والعدوان ومصادرته في حريته وماله وعمله مهاجمته في كل مكان .. ولئن جار في عرف الأحكام العسكرية أن تحل الهيئات فما بال الشركات التي لا صلة بينها وبينها إلا مجرد الاسم مع تمام الفصل في كل الأعمال ونواحي النشاط .
- شركات لا صلة لها بالهيئة
إن شركة المناجم والمحاجر العربية , وشركة الإعلانات العربية , وشركة الإخوان للنسيج, وشركة دار الإخوان للصحافة , وشركة دار الإخوان للطباعة , وشركة مدارس الإخوان بالإسكندرية .. كلها شركات لا صلة لها بالهيئة .. جمعت رءوس أموالها من أفراد بصفتهم الشخصية.. وكيف يصح في ذهن أحد أن تصادر أموالها لا لشئ إلا أنها تحمل اسم الإخوان .
وهذه العشرات من الإخوان من كرام الشباب .. لماذا يعتقلون بغير جريرة ولا سبب , وتمنع عنهم أدواتهم الضرورية ,ويلقي بكثير منهم في سجون الأقسام مع المجرمين أمثال " صبيحة وعنتر والششتاوى " وغيرهم من أرباب السوابق ومعتادي الإجرام ويتركون فريسة للبرد والجوع ولا يسمح بأن يقدم لهم الغذاء والغطاء.
- والصحف أيضا
وهذه الصحف الشخصية التي ليس لها صلة بالهيئة , ولا تدعو لفكرتها من قريب أو بعيد لماذا تصادر ويصادر أصحابها وعمالها في عمالهم وموارد رزقهم . ولقد ضربت الرقابة الشديدة حول مسكن المرشد العام وأحيط بسياج من البوليس الملكي مزودين بموتوسيكل حتى إذا دخل داخل أو خرج خارج أدركوه فقبضوا عليه كائنا من كان , وذهبوا به إلى أحد الأقسام , حيث يقضي ليلة أو ليلتين أو ما شاء له حضرات الضباط , ثم يعمل له بعد ذلك فيش وتشبيه وتحر ويطلق سراحه أو يظل معتقلا إلى ما شاء الله .
- أسلوب الحرب
هذا الأسلوب من الحرب والتعسف لم تسلكه الحكومة مع الصهيونيين ولا مع أشد الأعداء عداوة للوطن والحرب على أشدها , ولم يعمد إليه الإنجليز إبان الحرب الماضية ولكن لجأت إليه الحكومة مع الإخوان المسلمين في هذا الوقت .
- حكم هذا الحل في فعله وآثاره
إن هذا القرار فيما نعلم باطل شكلا لأنه ليست هناك جماعة الإخوان المسلمين وإنما هناك جماعات اسمها أقسام البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين وهناك هيئة الإخوان المسلمين العامة .
وباطل موضوعا لأنه تجاوز لحقوق الحاكم العسكري الممنوحة له في مرسوم الأحكام العرفية , ومناف لروح الغاية التي فرضت من أجلها هذه الأحكام ومحال أن تطبق الأحكام التي فرضت للصهيونيين على خصوم الصهيونية الألداء .
- الحل أوقف نهضة كبرى
لقد أوقف هذا الحل نهضة اجتماعية كبرى تهيأ لها شعب هذا الجيل من أبناء الوطن وأفضل العقائد وترك في النفوس أعمق الآثار .
وسيقول التاريخ كلمته , ويظهر المستقبل القريب آيته , ولن تستطيع القوة أن تمحو عقيدة أو تبدل فكرة ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( الرعد : 17) ( والعاقبة للمتقين ) ( الأعراف : 128) . ( انتهت بذلك مذكرة المرشد العام ) .
- ثالثا- تفنيد في صدد الاغتيالات:
لم ييأس الأستاذ المرشد – مع تفاقم الأحداث – فلم يقطع صلته برجال الحكومة آملا أن يفيئوا إلى رشدهم, ويرجعوا إلى جادة الصواب , ويتركوا له فرصة الاتصال برجال الإخوان ليعمل على تهدئة خواطر هذا الشباب الذي آثاروه بإجراءاتهم الشاذة فوجد الشباب نفسه بغير قيادة فانطلق لا يلوي على شئ ..
وهنا وجد الأستاذ من وزراء الحكومة من يحضر إلى دار الشبان المسلمين لمقابلته والتفاهم معه أو قل من يتظاهر بأنه جاء من قبل رئيس الوزراء للتفاهم معه ..وتمخضت الاجتماعات بينه وبينهم عن أن يجاب لطلبه في الإفراج عن أعضاء مكتب الإرشاد ليستطيع معهم تهدئة الأمور إذا هو أصدر بيانا يستنكر فيه اغتيال النقراشي باشا .
وأصدر الأستاذ المرشد البيان ونشر في الصحف تحت عنوان " بيان للناس " وإن كان ممثلوا الحكومة قد ألزموه بإثبات عبارات معينة في البيان لم يكن هو راضيا عنها ,ولكنه أملا في تدارك الموقف المتفاقم- أجازها كارها .. وإليك هذا البيان الذي نشر في 11/1/1949:
"كان هدف دعوتنا حين نشأت ( العمل لخير الوطن وإعزاز الدين ومقاومة دعوات الإلحاد والإباحية والخروج على أحكام الإسلام وفضائله ) تلك الدعوات التي دوى بوقها,وراجت سوقها في تلك الأيام ,وإذ كان ذلك كذلك,فما كانت الجريمة ولا الإرهاب ولا العنف من وسائلها , لأنها تأخذ عن الإسلام , وتنهج منهجه وتلتزم حدوده , ووسيلة الإسلام في الدعوة مسجلة في كتاب الله ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ( النحل: 125) والقرآن الكريم هو الكتاب الذي رفع من قدر الفكر,وأعلي من قيمة العقل , وجعله مناط التكليف , وفرض احترام الدليل والبرهان وحرم الاعتداء حتى في القتال فقال : ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) البقرة : 190) .
والإسلام الحنيف هو دين السلام الشامل , والطمأنينة الصافية والمثل الإنسانية الرفيعة ومن واجب كل مسلم ينتسب إليه أن يكون مظهرا لهذه الحقيقة التي صورها النبي الكريم صلي الله عليه وسلم بقوله :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
ولقد حدث أن وقعت أحداث نسبت إلى بعض من دخلوا هذه الجماعة دون أن يتشربوا روحها أو يلتزموا نهجها , مما ألقي عليها ظلا من الشبهة فصدر أمر عسكرى بحلها , وتلا ذلك هذا الحادث المروع حادث اغتيال دولة رئيس الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي باشا الذي أسفت البلاد لوفاته وخسرت بفقده علما من أعلا نهضتها وقائدا من قادة حركتها ومثلا طيبا للنزاهة والوطنية والعفة من أفضل أبنائها . ولسنا أقل من غيرنا أسفا من أجله , وتقديرا لجهاده وخلقه .
ولما كانت طبيعة دعوة الإسلام تتنافي مع العنف بل تنكره ,وتمقت الجريمة مهما يكن نوعها, وتسخط على من يرتكبها , فنحن نبرأ إلى الله من الجرائم ومرتكبيها ....ولما كانت بلادنا تجتاز الآن مرحلة من أدق مراحل حياتها , مما يوجب أن يتوفر لها كامل الهدوء والطمأنينة والاستقرار – وكان جلالة الملكة المعظم حفظه الله قد تفضل فوجه الحكومة القائمة –وفيها هذه الخلاصة من رجالات مصر – هذه الوجهة الصالحة , وجهة العمل على جمع كلمة الأمة وضم صفوفها , وتوجيه جهودها وكفاياتها مجتمعة لا موزعة إلى ما فيه خيرها وصلاح أمرها في الداخل والخارج , وقد أخذت الحكومة من أول لحظة تعمل على تحقيق هذا التوجيه الكريم في إخلاص ودأب وصدق. وكل ذلك يفرض علينا أن نبذل كل جهد , ونستفيد كل وسع في أن نعين الحكومة في مهمتها و ونوفر لها كل وقت ومجهود للقيام بواجبها والنهوض بعبئها الثقيل , ولا يتسني لها ذلك بحق إلا إذا وثقت تماما من استتباب الأمن واستقرار النظام – والعمل على استتباب الأمن واستقرار النظام واجب كل مواطن في الظروف العادية فكيف بهذه الظروف الدقيقة الحاسمة التي لا يستفيد فيها من بلبلة الخواطر وتصادم القوى وتشعب الجهود إلا خصوم الوطن وأعداء نهضته.
... لهذا أناشد إخواني لله والمصلحة العامة أن يكون كل منهم عونا على تحقيق هذا المعني وأن ينصرفوا إلى أعمالهم, ويبتعدوا عن كل عمل يتعارض مع استقرار الأمن وشمول الطمأنينة حتى بذلك حق الله والوطن عنهم والله أسأل أن يحفظ جلالة الملك المعظم ويكلأه بعين رعايته ويسدد خطى البلاد حكومة وشعبا في عهده الموفق إلى ما فيه الخير والفلاح آمين ".
هذا هو البيان ...والهيئة التي ينشر قائدها هذا البيان ويوضح فيه أهداف دعوته وكلها أهداف إصلاحية نبيلة ويصرح فيه بموقفها من الجريمة بوجه عام ومن اغتيال النقراشي لا شك في أنها ليست الهيئة التي تلصق الحكومة بها الاتهامات التي كالتها بدون حساب .. فكان هذا البيان في حد ذاته تفنيدا آخر لما ادعته الحكومة على الإخوان وأصدرت أمر الحل بناء عليه ...
على أن الظروف التي أحاطت بصدور هذا البيان كانت ظروفا بالغة الحرج والخطورة وسنرجئ تناولها إلى باب قادم إن شاء الله .
الخطة الأخيرة للإبادة جريمة القرن العشرين اغتيال المرشد العام
- - التمهيد للجريمة.
- - التدبير الأثيم .
- - شخصيات ومواقف كشفت عنها المحنة القاسية.
- - لوذات سوار لطمتني ؟ من هم السعديون ؟
- - هذه القضية- تطورها الإجرائي أمام القضاء .
مقدمة
كانت إقامتي في عام 1948 في مدينة دمنهور و حيث نقلت إليها في منتصف عام 1947.وكان مقر عملي في أكبر محلج للقطن فيها .. وكانت علاقات الإخوان مع حكومة السعديين برياسة النقراشي باشا في خلال تلك الفترة لا تزداد كل يوم إلا سوءا, مع أننا كنا نحاول استرضاء هذه الحكومة – رغم أخطائها الجسيمة في حق البلاد – من أجل قضية فلسطين التي طغت على جميع القضايا في البلاد العربية والتي كانت تجتاز في تلك الأيام أحرج مواقفها .
وقد أتاح لى وجودي في هذا المحلج فرصة التعرف على شخصية لم أكد أتعرف عليها حتى شعرت أنها تبادلني حبا بحب وتقديرا تلك هي شخصية الأستاذ ( ع. عنان ) مهندس ماكينات المحلج.
ومع ما بيني وبين الأستاذ ( ع ) من توافق روحي من أول يوم , فقد كنا على خلاف كبير في وجهات النظر إلى كثير من المسائل الجوهرية في الحياة السياسية لبلادنا .وكان الخلاف يشتد بيننا في بعض الأحيان في أوائل تعارفنا إلى الحد الذي يخيل لمن يحضر نقاشنا أنه لابد أن يؤدى إلى قطيعة , غير أنه لم يوهن في يوم من الأيام من وشائج الود بيننا ..
كان الأستاذ (ع) من الرجال الأتقياء الذين يعتزون بكرامتهم ولا يخافون في الحق لومة لائم ,وكان على ذكاء وفطنة وعلى درجة واسعة من الثقافة العامة, كما كان من أصل كريم من أسرة عنان هي أسرة عريقة في الدقهلية .. وكان إبراهيم عبد الهادي باشا يمت إلى أسرتهم بصلات نسب .ولذا فإنه كان بحكم هذه الصلات سعديا.وكان مقتضي ذلك أن يكره ما سوى السعديين, فيكره الوفد ويمقت الإخوان المسلمين.. ومع أن الرجل قد عرف أنني من الإخوان المسلمين فإنه كان يصارحني برأيه هذا ,ويتعجب من أن يكون شاب مثلي من الإخوان المسلمين .
وفي أثناء مناقشاتي معه تبين لى أن الرجل معذور في كراهيته للإخوان المسلمين , أولا لأن الصورة التي وضع السعديون الإخوان في إطارها صورة منفرة مخالفة للحقيقة والواقع, ثم إن الظروف لم تسعف الرجل من قبل بالتعرف على أشخاص من الإخوان يمثلون الدعوة الإسلامية في أخلاقهم وتصرفاتهم وتعاملهم من الناس ... وكان الرجل مقتنعا بي كل الاقتناع – وأول شرط لنجاح الداعية إلى أية فكرة أن يقتنع به من يخاطبه – ولذا فقد سهل على بعد عدة جلسات معه أن أصحح له صورة الإخوان بوضعها في إطارها الصحيح .... وكان قد أظلتنا الأيام التي بلغ فيها التوتر وبين السعديين أشده .... وكان الرجل على اتصال بأهله وذويه ومنهم إبراهيم عبد الهادي وأسرته ..
وأسر إلى الرجل بأنه قد اقتنع بالإخوان المسلمين إلا أنه يرى ألا يجهر بذلك, وأن يظل على ولائه للسعديين, لأنه علم أن إحداثا جساما على وشك الوقوع في البلاد.. وأنه يريد أن يقف بجانبي في خلالها ليدفع عني ما يستطيع دفعه من شرورها .. وكنت أعترض أن أكون بمنجى مما يتعرض له إخواني , فكان يقول لي :" إنني أعلم أنك لا تبالي في سبيل دعوتك عذابا ولا تنكيلا, لكنك بوصفك صديقا حللت في قلبي محل الأبناء أو الأخ الصغير ,وأعلم في نفس الوقت أنك على الحق وأن أعداءكم على الباطل فإنني أرى نفسي ملزما – رضيت أم كرهت – أن أؤدي واجبي نحوك , وأن أخفف من المصائب القادمة ما أستطيع .. ثم قال : ليتني أستطيع دفع الويلات عن الإخوان جميعا ,إذن والله لفعلت ولكنه جهد المقل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها " .
وتحقق الذي أسره إلى فصدر أمر الحل, وتبعه ما أشرت إليه من اعتقال الإخوان وعجبت أن أترك دون اعتقال ...ولاحظت منذ اليوم الذي صدر فيه أمر الحل أن الأستاذ (ع) يلازمني طل اليوم ولا يكاد يفارقني, ولا يدعني أبارح المحلج إلى بيتي دون أن يرافقني حتى أدخل باب البيت ... وكنت أثور عليه في بعض الأحيان فكان يقول لي : يا فلان أليس إيمانك بدعوتك كما هو لم يمس ؟ وما فائدة أن تعتقل إذا كان يمكنك ألا تعتقل دون أن يمس إيمانك ودون أن يتعرض لك السفهاء بما تكره ؟ أليس النبي صلي الله عليه وسلم يقول:" سلوا الله العافية "؟
الفصل الأول التمهيد للجريمة
ظهر للمحللين فيما بعد أن الأصابع الخفية التي نسجت خيوط المؤامرة العالمية للقضاء على الدعوة الإسلامية في هذا القرن ,, كانت قد نسجت هذه الخيوط على أن يكون الخيط الحابك لها جميعا هو اغتيال المرشد العام مؤسس الدعوة وقائدها وروحها والرجل الذي أعياهم الاقتحام إليه بكل ما يملكون من وسائل الترغيب والترهيب والجدار الشاهق الصلب المتين الذي تستند إليه هذه الدعوة ... فإذا أمكن نسفه انهارت بانهياره الدعوة بين عشية وضحاها. ولقد عبر عن هذا المعني الذي سيطر على أفكارهم الضابط محمد الجزار حين قال لأحد الإخوان المتهمين في إحدي القضايا التي لفقوها : لقد كنتم تستندون على وجود الجماعة وعلى وجود المرشد فالجماعة حللناها والمرشد قتلناه فأى سند لكم بعد ذلك ؟
وسأحاول إن شاء الله في هذا الفصل إبراز صورة واضحة المعالم للتخطيط الذي وضعه المتآمرون لإتمام هذه الجريمة التاريخية النكراء في الخطوط العريضة التالية :
- الخط الأول للتمهيد – حل الإخوان المسلمين :
وينردج تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية :
- عدم الوقوف في وجه العمل الفدائي للإخوان في فلسطين , باعتقاد أن ذلك يستنزف قوتهم ويعين على سهولة القبض عليهم بعد ذلك دفعة واحدة .
- عن طريق جمع السلاح للفدائيين وللمجاهدين الفلسطيني يمكن ضبط مخازن هذا السلاح في مصر ليكون هذا الضبط مبررا للقبض على البقية الباقية من الفدائيين من الإخوان الذين لم يتمكنوا من السفر إلى فلسطين وتلفيق قضايا لهم بمحاولة قلب نظام الحكم.
- إدخال الجيوش العربية إلى فلسطين لتتحطم روحها المعنوية من جهة- نظرا لضعف تسليحها وعدم تدريبها –ومن جهة أخرى ليكون دخول هذه الجيوش مبررا لإعلان الأحكام العرفية .
- اختيار النقراشي باشا لإصدار أمر الحل لما يعلمون من شدة حقده على الإخوان ولصفاته التي أشرنا إليها من قبل , حتى ينطبع في بنود هذا الأمر آثار هذا الحقد من الشراسة والتحدي والاستفزاز, مما يدفع شباب الإخوان إلى القيام بأعمال انتقامية .
- توريط النقراشي في إصدار أمر الحل سيدعوه إلى حماية نفسه بإصدار أوامر أخرى باعتقالات يتسع نطاقها يوما يعد يوم حتى يكون الإخوان جميعا تحت يد الحكومة في يوم قريب .
- الخط الثاني – عدم اعتقال المرشد العام :
ويندرح تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية :
- إظهار الحكومة أمام الرأي العام بمظهر الاعتدال إذ هي في استطاعتها اعتقاله ومع ذلك فإنها الحكومة لشخصيته لا تعتقله – في حين أن عدم اعتقاله لا يجعل الحكومة مسئولة عما قد يتعرض له من اعتداء أو اغتيال .
- وجود المرشد العام حرا – فيما يبدو للناس – يجعله مصيدة لاصطياد من يتصل به من الإخوان الذين قد لا تكون أسماءهم مدونة في السجلات التي صادروها .
- وجوده حرا دون اعتقال يجعله دائب البحث عن وسيلة للتفاهم مع الحكومة لإيجاد مخرج من الأزمة التي أوجدها أمر الحل , مما يدعوه إلى الاتصال برجال الحكومة , وعن هذا الطريق يمكن ضبط تحركاته إذ تكونت تحت عيونهم .
- الخط الثالث – قطع الصلة بينه وبين الإخوان :
ويندرج تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية :
- أن يفقد الإخوان لا سيما الشباب منهم قيادتهم , فيندفعوا بحكم حماسهم وبتأثير أعمال الاستفزاز التي تقوم بها الحكومة ضدهم إلى ارتكاب أخطاء وأعمال انتقامية تدينهم أمام الرأي العام وتزيد من تمكن الحكومة منهم وتشديد قبضتها عليهم .
- كان في ذهنهم احتمال كبير لقيام هذا الشباب باغتيال النقراشي باشا , ومما يزيد نار العداء تأججا بين السعديين ومن ورائهم املك وبين الإخوان مما يدفع السعديين إلى الانتقام .
- الخط الرابع – تجريده من الحماية الشخصية :
ويدخل تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية:
- اعتقال أشقائه جميعا لا سيما عبد الباسط ضابط البوليس.
- تجريده من مسدسه الخاص وسحب رخصته.
- الاستيلاء على سيارته الخاصة حتى يحد ذلك من حركته , فيضطر إلى استخدام وسائل المواصلات العامة مما يسهل لهم أن يكون تحركه تحت أعينهم .
- عدم السماح له مغادرة القاهرة إلى أى مكان آخر في داخل البلاد أو خارجها.
- الخط الخامس – إغلاق جميع الطرق أمامه .
ويدخل تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية :
- حاولوا أولا سد جميع الطرق أمامه, ولكنه سارع من أول لحظة وقدم طلبا للعضوية بجمعية الشبان المسلمين فلم لم يفلحوا في إغلاق هذا الطريق جعلوه هو الطريق الوحيد أمامه , ورسموا خطة على هذا الأساس .
- استغلوا هذا الطريق الوحيد في إيهامه باستعدادهم للتفاهم معه .
- اختارت الحكومة لتمثيل دور الوسطاء بينها وبينه شخصيات حكومية معروفة بالخداع والمداهنة والالتواء .
- استطاعت هذه الشخصيات أن تحصل منه على البيان الذي أذيع بعد مقتل النقراشي باشا تحت عنوان " بيان الناس " الذي أشرنا إليه من قبل,وقد تأتي الإشارة فيما بعد إلى الطريقة التي أخذوه بها .
- استطاعوا بأسلوب الخداع والغدر والالتواء أن يحددوا له موعدا للقاء بدار الشبان المسلمين في ساعة محددة من مساء يوم معين لإتمام التفاهم على حل نهائي للأزمة , مما جعله يسارع متهلفا إلى الحضور في الميعاد حرصا على مصلحة دعوته ... وعلى أساس من هذا التحديد للمكان والزمان وضعوا خطة الاغتيال .
- مزيد من الأضواء على هذه التمهيدات
أولا : المرشد يطلب من الحكومة أن تعتقله:
إن الأستاذ المرشد حين وجد أن الإخوان معتقلون دونه شعر بأن هذا الوضع مقدمة لمؤامرة تستهدفه شخصيا فطلب من الحكومة وألح في طلبه إما أن تعتقله مع إخوانه وإما أن تفرج عنهم ..ولكن الحكومة أصرت على هذا الوضع الغريب , فطلب منها أن تفرج عن أعضاء مكتب الإرشاد وهم اثنا عشر شخصا لتتاح له الفرصة معهم في العمل على تهدئة الخواطر حتى لا تتفاقم الأمور ..ولكن الحكومة أصرت على الوضع نفسه.
ثانيا : الشعب كله داخله شعور بالارتياب :
ازداد ارتياب المرشد العام في نية الحكومة من تركه دون اعتقال حيث سحبت منه سلاحه المرخص وسحبت رخصته , واعتقلت شقيقه عبد الباسط في الوقت الذي طوقت بيته بنطاق من البوليس الملكي .. وقد شكا ذلك صراحة في مذكرته التي رد بها على مذكرة عمار بك وكيل الداخلية .. ويبدو أن شعور الارتياب هذا لم يداخل المرشد العام وحده بل داخل الشعب كله لأن الإجراءات غريبة كل الغرابة ولا تحتمل إلا الارتياب .. وقد يبدو هذا الارتياب في أوضح صوره في نقاش دار بين الدكتور عزيز فهمي المحامي وبين المرشد العام وقد أوردت هذه الواقعة جريدة المصري في 4/5/1952 تحت عنوان " بين الشهيدين " حسن البنا وعزيز فهمي " قالت الجريدة :
" روي أمس بعض الذين قدموا للعزاء بدار عبد السلام فهمي باشا ( والد الدكتور عزيز) القصة التالية وقد وقعت بين المرحومين حسن البنا والدكتور عزيز فهمي , وتتلخص في أن المغفور له الشيخ حسن البنا كان قد وكل المغفور له الدكتور عزيز فهمي في قضايا الإخوان بعد حلها . وكان الشيخ حسن البنا في مكتب الدكتور عزيز قبل اغتياله بيومين لمراجعات خاصة بالقضايا . وسأل الدكتور عزيز الشيخ حسن البنا : هل معك سلاح ؟
فرد رحمه الله بقوله : السلاح أخذوه ,والأخ سجنوه
فسأل الدكتور عزيز : وبماذا تدافع عن نفسك؟
فقال رحمه الله :
أى يومي من الموت أفر
- يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه
- ومن المقدور لا ينجو الحذر
ثم قال رحمه الله للدكتور عزيز : إني أخشي عليك أن تموت صغيرا فعقلك أكبر من سنك بمراحل . ثم كان أن اغتيل الشيخ حسن البنا بعد يومين من هذه المقابلة وتوفي الدكتور عزيز بعد ثلاثة أعوام رحمهما الله ".
- ثالثا – اللواء صالح حرب باشا يكشف عن خبث نيات الحكومة
كاد ارتياب المرشد العام في نية الحكومة نحوه أن يكون يقينا فطلب من الحكومة السماح له بمغادرة القاهرة إلى أى مكان آخر , فلم تحر الحكومة على هذا الطلب جوابا وأترك إلقاء الضوء على هذا الخط أو على هذه الخطة الأثيمة من المؤامرة الدنيئة للرجل الذي كان ملابسا لظروفها , ومحيطا بأبعادها, والذي سجل له التاريخ موقف رجولة نادرة’ وبطولة انعدم مثلها في تلك الأيام المدلهمة, ذلك هو اللواء صالح حرب باشا رئيس جمعية الشباب المسلمين في ذلك الوقت , ونقتطف باقة من خطاب ألقاه في عيد الجهاد الموافق 15/11/1949حيث قال :
" فيمثل هذا اليوم من العام الماضي , وقف موقفي هذا أنعي فيه على الحكومة القائمة يومذاك موقفها السلبي من قضية البلاد وأهدافها الوطنية متسترة خلف ما أسمته تجاهل وجود الغاصبين – وما كان أسعد الغاصبين بهذا التجاهل ...وهل إذا سئلوا أن يتمنوا فهل كانوا يتمنون أكثر من ذلك التجاهل الذي ترجمته الواقعية هي التسليم لهم بلا قيد ولا شرط في حقوق البلاد وكانت نتيجته ما وصلت إليه الحالة اليوم في السودان وبقاء جيش الاحتلال في أرض الوطن , ثم قتل الروح الوطنية , وتعويد الشعب على أن ينسي قضاياه القومية , وصرفه عنها بشتي الوسائل, وكان أفتكها سلاحا سيف الأحكام العرفية المصلت على الرقاب , والإرهاب الحكومي صير كل مصري مشغولا بنفسه , لا يدرى ما مصيره ولا ما يأتي به الغد. فعشش الخوف في النفوس وأفرخ .. وفي غمرة هذه الأحداث وصل الغاصبون إلى غاياتهم وهم في أمن وسلام .
أما الأمن والسلام فلا رعي الله أمنا يمشي فيه المصري ولا يدري أن كان سيصبح في بيته أو في معتقل ويصبح فلا يدرى أن كان سيمسي بين أهله أو بين المجرمين في سجن .. أما نزاهة الحكم فيا لسخرية القدر .. أين هي ؟ دلونا عليها يا زعماء البلاد وساسة الحكم فإن لم تستطيعوا فاسألوا عنها سمعة مصر في بلاد العالمين ,وسلوا عنها كساد الحال وركود الأعمال وارتفاع الأسعار, وإثراء ذوي النعمة وقد كانوا من المفلسين.
- • لقاؤه بالأستاذ البنا بعد قرار الحل :
ثم قال :وأري من واجبي في هذه المناسبة أن أميط اللثام عن موقف المغفور له الشهيد الشيخ حسن البنا بعد صدور الأمر بحل الإخوان . وقد زرته في منزله وكان المنزل مراقبا عقب حل الجماعة فقال لى: لقد سعيت عقب الحل مباشرة للاتصال بالنقراشي باشا فتعذر ذلك بل استحال, وكتبت له عندما أمعنوا في القبض على كبار الرجال في الجماعة إنني مستعد أن أتعاون مع الحكومة تعاونا صادقا لتهدئة الحال وإقرار الأمن والسلام ..فلم يعبأ بما كتبت له . ولجأت إلى بعض الوزراء أستعين بهم لديه ولم يتم شئ . وسعيت هنا وهنا حتى كدت أنتعل الدم فلم يبال أحد بسعي ورجائي ..ولست أدرى لماذا يتركونني اليوم طليقا وقد اعتقلوا جميع أصحابي ما داموا لا يرغبون في إشراكي معهم لتهدية الخواطر بل ولا يرغبون في الاتصال بي .. لماذا إذن لا يعتقلونني كما اعتقلوا غيري .. والاعتقال خير لى من الحال التي أصبحت فيها بين توجع النساء , ولوعة الشيوخ , وبكاء الأطفال , واحتياجهم جميعا لمن يعولهم ومن يعينهم ومن أين لى وقد جمدوا ووضعوا يدهم على كل ما يملك الإخوان ؟
ثم قال اللواء صالح حرب : وقد قلت له : ثق يا فضيلة المرشد أن دار الشبان المسلمين دارك, وهي مفتوحة لك دائما ... تردد الشيخ على الدار, فامتعضت الجهات الرسمية وخاطبوا الجمعية في ذلك فكان الجواب أن هذه الدار دار المسلمين جميعا , لن يوصد بابها في وجه مسلم , ومن باب أولي لا يوصد في وجه الأستاذ الشيخ حسن البنا , وستظل هذه الدار داره راغبا في زيارتها .
- • أساليب ملتوية كشفت نية الحكومة
وأخيرا بدت من الحكومة رغبة في الاتصال به وطلبوا إليه أن يذيع بيانا يدعوا فيه إلى الهدوء والسكينة حتى تعود الطمأنينة إلى النفوس . فكتب بيانه وعرضه على المسئولين .
فطلبوا إليه أن يستنكر بصراحة الاعتداء على النقراشي باشا ففعل.. وظل البيان بين المحو والإثبات حتى أقروه ونشر تحت عنوان " بيان للناس " والشيخ في كل هذه الأيام لا يشغله شاغل غير الرغبة الصادقة في التعاون مع الحكومة على إقرار السلام , ولا يشترط غير إطلاق سراح كبار الإخوان ليعاونوه .
وكم كانت دهشتي عندما قرأت في أثناء محاكمة قاتل النقراشي باشا أن هذا البيان كان وسيلة من الوسائل التي استعملت في زلزلة معنويات القاتل وإضعاف عقيدته .. فقلت عفاء على أخلاق عظماء الرجال في مصر .
واطمأن الشيخ على أنه بعد هذا البيان سوف يتغير الموقف , ويسود التفاهم, وتتوالي الخطوات في سبيل تهدئة الخواطر وإقرار السلام . ولكن لسوء الطالع لم يمض يومان على صدور البيان حتى وقع حادث الشروع في نسف محكمة الاستئناف فجاءني الشيخ في حالة من الجزع والفزع لم يسبق أن رأيته عليها وقد عقد لسانه , وجف ريقه ,وملكه ألم كان يفقد صوابه ...وأنا أقسم بعد أن شاهدت الشيخ المرشد على تلك الحال إنه مستحيل على مثله أن يدعو إلى الإجرام أو يأمر به أو يشارك فيه ... وظللت وقتا طويلا أهدئ من روعه حتى سكن قليلا واستطاع الكلام فقال :أرأيت هذا المفتون ماذا كان ينوى أن يفعل ؟ والله ما هذا الشقي مسلما ولا من الإخوان..ولما خوطب الشيخ من الجهات الرسمية في هذا الحادث تبرأ من هذا الشاب واستنكر بكل شدة فعلته وأظهر استعداده لأن ينشر بيانا آخر يذيع فيه أن هذا المفتون وأمثاله ليسوا مسلمين .
بعد هذا الحادث ظهر أن نيات الجهات من ابتدائها لم تكن مخلصة في مفاوضاتها مع الشيخ وبدأ القلق يساوره فقلت له : من الخير أن تطلب من الحكومة الرحيل من القاهرة إلى جهة نائية تقيم فيها حتى تنقشع غياهب الأحداث .
فقال : إني خيرت المسئولين في واحدة من أربع : أما أن يطلقوا سراح كبار الإخوان لنعمل معا جادين مخلصين حسب توجيه الحكومة حتى تطمئن ويزول ما في النفوس لنعمل معا جادين مخلصين حسب توجيه الحكومة حتى تطمئن ويزول ما في النفوس وتهدأ الخواطر وإما أن يختاروا قرية ألجأ إليها ولو كانت في مكان قفز – وإما أن يسمحوا لى بمغادرة القطر إلى أى بلد عربي أو إسلامي – وأما أن يعتقلوني كما اعتقلوا أصحابي ولكنهم إلى الآن لم يستجيبوا إلى واحد من هذه الأربع .
فتبينت العبث ظاهرا في هذه المعاملة, وطلبت من الشيخ بإلحاح أن يغادر القاهرة من تلقاء نفسه إلى أى قرية بعيدة يختارها , ويخطر الحكومة بانتقاله إليها – وقمت إلى أسوان متألما من الموقف بعد أن وثقت من أن الشيخ سيغادر القاهرة غداة سفرى إلى قرية بها شيخ كبير السن من الإخوان يعيش بجواره ..ولست أدرى ما الذي أخر سفره ؟ ومرت الأيام وأنا بأسوان حتى سمعت بمقتله .. وأين ؟ على باب الشبان المسلمين التي قدم طلبا بالانضمام إلى عضويتها ... فيا للخيانة ويا للغدر .. مات الشيخ حسن البنا فمات بموته خلق كثير ".
- • شهادة محافظ القاهرة تلقي أضواء أكثر :
ويحسن في هذا المقام زيادة في الإيضاح بعد هذا البيان الجامع للواء صالح حرب أن نورد ما يتصل بهذا الموضوع من شهادة الأستاذ فؤاد شيرين محافظ القاهرة في ذلك الوقت أمام مستشار التحقيقات محمد على جمال الدين في 18/3/1953 حيث وجه المحقق إليه سؤالا على الوجه الآتي :
س: هل تقدم الشيخ حسن البنا لحضرتك بطلب التصريح له بالسفر للخارج؟
جـ: أذكر جيدا أنه وصلني جواب من المرحوم حسن البنا يقول فيه إنه يريد السفر إلى بلدة قليوبية للإقامة عند قريب له .وحدث بعد ذلك أن قابلت الأستاذ إبراهيم عبد الهادي رئيس الحكومة في مكتبه , ووجدت أنه على علم بهذا الخطاب وقال لى : لا ترد عليه . فقلت له : إنه يطلب الرد . فقال لى : أليس هناك أشخاص يكتبون إليك ولا ترد عليهم ؟ فقلت : نعم . فقال: إذن افعل ذلك معه .
وانتهى الحديث عند هذا الحد وأظن أن حضرة إبراهيم عبد الهادي يذكر ذلك... وبناء على ذلك لم اتصل بالشيخ حسن البنا , ولم يتصل هو بي لأنه قتل بعد فترة قصيرة.
س: ألم تفهم من حديث إبراهيم عبد الهادي ما هو السبب أو الداعي في عدم الرد وعدم التصريح للشيخ البنا في السفر والإقامة مع قريبة في بنها؟
جـ : لا ... لم أفهم شيئا ولكني تألمت لأني كنت أريد أن أرد عليه .
س : ألم تعلم باعتقال الشخص الذي كان البنا يريد الإقامة عنده ؟
جـ: لا.. لأن شئون الإخوان لم تكن تعرض على ولا أخطر بها .
الفصل الثاني التدبير الأثيم

وقعت هذه الجريمة في اليوم الذي اعتقد فيه المرشد العام – أمام المواثيق التي قدمتها إليه الحكومة عن طريق وسطائها – أنه اليوم الذي ثابت فيه الحكومة إلى رشدها ,وأرادت أن تخرج بالبلاد من ورطتها, وإنقاذها مما آل إليه حالها من تدهور في الأمن , وفقد للطمأنينة والأمان ,وتحول البلاد إلى ميدان حرب بينها وبين الشعب .
وقد تلمح هذا المعني فيما جاء بشهادة عبد الفتاح عشماوي أبو النصر حين استدعاه المحقق في 17/3/1953 فقال : إنه موظف بوزارة المعارف وإنه من الإخوان المسلمين .
وقد اتصل به البوليس السياسي ليعمل مرشدا في خدمته فأبلغ ذلك للشيخ حسن البنا الذي طالب منه مسايرة البوليس لمعرفة أغراضه. واستطرد يقول: فاشتغلت بمكتب عبد المجيد العشري الضابط بالقلم السياسي وطلب مني أن أخبره بكل اجتماعات مكتب الإرشاد. وكنت أطلع الشيخ البنا على كل أخبار البوليس السياسي .
وفي يوم الحادث كنت أنا والأستاذ أحمد سليمان المدرب بالسعيدية الثانوية – وهو من الإخوان وكان مرشدا أيضا للبوليس السياسي – عند الأستاذ المرشد العام لتبليغه خبر اعتقال الشيخ النبراوي.فأخبرنا أنه سوف لا يخرج في اليوم المذكور لأن الحكومة في سبيل السماح له بزيارة المعتقلين وتسوية المسائل ... وخرجنا على أن نعود إليه في اليوم التالي ولكنه اغتيل ..وقال لى الضابط عبد المجيد العشري : إحنا أخذنا بالثأر .
فسأله المحقق : لماذا لم تبلغ هذه الوقائع في حينها ؟ فقال :كل واحد كان يتقدم للشهادة كان يعتقل .
وهكذا خدع المرشد العام ..وما كان له إلا أن يخدع , فهو إنسان لم يعد يملك لنفسه شيئا أمام حكومة جردته من كل شئ .. من إخوانه وأهله وسلاحه وسيارته وقلما في الوقت الذي تجردت هي فيه من جميع القيم , ومن أبسط قواعد الأخلاق , ومن أدني صفات الإنسانية , وأباحت لنفسها مالا تبيحه عصابات السطو والإجرام ,فاستباحت أول ما استباحت الكذب والنفاق والخداع والقتل والخيانة والغدر .
تطورات الأحداث حتى وصلت إلى نهايتها
ولكي يتتبع القارئ تطور الأحداث حتى وصلت إلى نهايتها نقول :
مسارعة المرشد لتدارك الأمر :
1- عقب صدور أمر الحل مباشرة سارع المرشد العام إلى مقابلة إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت , وسلمه بيانا أعده لإذاعته على الإخوان يناشدهم فيه التزام الهدوء والسكينة , وأن يتركوا له أمر التفاهم مع الحكومة بما يتفق ومصلحة البلاد العليا .
فلما تسلم النقراشي باشا هذا البيان رفض نشره بالصحف وأنكره على المرشد العام قائلا : إن إخلاد الإخوان إلى الهدوء والسكينة من شأن الحكومة وليس من شأن حسن البنا ,
• على نفسها جنت براقش:
2- كان من أثر هذا الصلف والغرور والجهل الذي تسلط على عقلية ذلك الرجل النقراشي باشا فأعماه عن الحقائق وشرد به عن الواقع فصار يعتقد أن الشعب ليس إلا قطيعا من الغنم متى رفع عليه العصا اتجه حيث يريد .. كان أول أثر أن راح صاحب هذه العقلية الضحية الأولي لصلفه وجهله وغبائه فاغتيل في سويداء عرينه الذي لم يغن عنه شيئا .
• الحكومة تدفع الشباب إلى عمل أهوج :
3- قبض على قاتل النقراشي وعلى عدد معه من الإخوان واتبع في التحقيق معهم أساليب لا يقرها القانون , وانتزعت منهم اعترافات بوسائل دنيئة,في ظل نيابة عامة على رأسها النائب العام محمود منصور الذي تحدثنا عنه من قبل .. وخيل إلى شاب ممن ينتسبون إلى الإخوان – الذين عزلتهم الحكومة الغاشمة عن قيادة ترشدهم وتحسن توجيههم – خيل إليه أن إنقاذ إخوانه الذين سيموا العذاب في هذا التحقيق لا يكون إلا بنسف المحكمة التي أجرى في حجراتها هذا التحقيق وحفظ في خزانتها أوراقه .
وناهيك بعقلية شاب في العشرين فاقد الأعصاب لفظاعة ما تتبعه الحكومة من أساليب القهر والاستفزاز , ويحج نفسه وحيدا , حيث لا يبيح أمر الحل أن يجتمع مع أى آخر من إخوانه ليتبادل معه الرأي فضلا عن أن يتاح له لقاء مع المرشد العام .. فهو يفكر وحده, ويفكر شاردا مطاردا .. فهل يتفتق ذهنه إلا على أفكار خاطئة ؟!
• الحكومة تخادع المرشد العام :
4- عقب اغتيال النقراشي باشا تم لرسل الحكومة الحصول من المرشد العام على " بيان للناس " الذي طلبوا إليه أن يستنكر فيه اغتيال النقراشي باشا .. ونشروا هذا البيان في الصحف . وتبين بعد ذلك أنهم إنما طلبوا هذا البيان ليزلزلوا به عقيدة قاتل النقراشي كما جاء في خطاب اللواء صالح حرب باشا الذي نشرناه آنفا – وكان في هذا من معاني النذالة ما فيه .
وعقب محاولة نسف محكمة الاستئناف – وكان المرشد العام في حالة من التأثر الشديد كما وصف اللواء صالح حرب .. جاء رسول الحكومة واستطاع الحصول من المرشد العام في ظل هذه الحالة من التأثر على بيان آخر عنوانه " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ".
وقد ألقى رسول الحكومة في روع المرشد العام أن الحكومة في أمس الحاجة إلى بيان بهذا المعني يهدد فيه المرشد العام الإخوان إذا تكرر منهم حادث آخر أن يقدم نفسه للقصاص ... وألح الرسول في طلب البيان في الحال لينشر في الصحف مباشرة قبل أن يقدم الإخوان على حوادث أخرى.
• تصرف مريب إزاء هذا البيان :
5- أخذت الحكومة هذا البيان وبدلا من أن تنشره في الحال احتفظت به دون نشر نحو شهر .. ولم يكن مفهوما تعليل لهذه التصرفات المناقضة لنفسها.. حكومة تلح في الحصول على البيان بحجة حاجتها إلى سرعة نشره ليكون وازعا للإخوان عن الإقدام على أعمال أخرى .. حتى إذا أخذت البيان حجبته عن النشر لا يوما ولا أسبوعا بل شهرا كاملا ..ولكن الأحداث تكفلت فيما بعد بالتفسير الواضح والتفسير الوحيد لهذه التصرفات العجيبة مما نفصله فيما بعد إن شاء الله .
• رئيس الحكومة يستدرج المرشد إلى حيث يغتاله :
6- كان المرشد لعام دائم الإلحاح على الحكومة في كل اجتماع يجتمع فيه برسلها أن تتيح له فرصة الالتقاء بالمسئولين من الإخوان , إما بالإفراج عنهم وإما بالسماح له بزيارتهم في المعتقل ليستعين بهم على تهدئة الحال وتنقية الجو....وكانت الحكومة دائمة الرفض لهذا الطلب ..ولكنها فجأة دون مقدمات وافقت وحددت موعداي يقوم فيه المرشد العام بزيارة الإخوان المعتقلين .. وكان هذا التغير الفجائي في موقف الحكومة – دون مقدمات ودون أن يطرأ عنصر جديد يصلح أن يكون مبررا لهذا التغير – أمرا غير مفهوم , يقف العقل أمامه مشدوها متحيرا ..ولكن الأحداث أيضا تكفلت فيما بعد بالتفسير الواضح والتفسير الوحيد لهذه المفاجأة المذهلة .
ونورد في هذا الصدد ما جاء في شهادة زكي على باشا الوزير بوزارة عبد الهادي أمام المحكمة مما يلقي ضوءا باهرا على هذا التغير المفاجئ :
المحكمة – ما معلوماتك فيما يتعلق بحادث الشيخ البنا ؟
الشاهد – الشيخ البنا جاني أثناء كنت وزير دولة , وكان بيني وبينه علاقة قديمة بصفتي وكيل جمعية الشبان المسلمين,وقال لى : أنا جيت لك أحب أن تكلم رئيس الوزراء فيما يتعلق بالإخوان . فقلت له : أنا مش مختص . وسألته عن طلباته فقال : أنا مضطهد, وكل مجلس الإرشاد معتقل , وما فيش داعي لهذا الاعتقال .. فاتصلت برئيس الوزراء فقال إذا كان هو حقيقة حسن النية يذكر لنا أسماء الأشخاص اللي يشك فيهم أن عندهم أسلحة ومن جهة أخرى يرشدنا عن محطة الإذاعة السرية التي كانت تذيع كل يوم الساعة السابعة صباحا... فرجعت الشيخ البنا وقلت له عن المطلوب فقال : إن مسألة محطة الإذاعة لا أعرفها إطلاقا ,وأن الأشخاص اللي بتقول عندهم أسلحة ما أعرفهمش , واللي يعرف عن هذا مجلس الإرشاد كما قال لي : إن أمكنني الاتصال بالمعتقلين يمكن أعرف حاجة ....
فأنا قابلت إبراهيم عبد الهادي باشا وقلت له رغبة الشيخ البنا . فقال لى : المحطة تذيع أخبارا لا يعرفها إلا الشيخ البنا. وأما من جهة مسألة الإخوان ومجلس الإرشاد فإنه لا يمكن إجابته لطلبه ...فقلت هذا للشيخ البنا فقال لى : أنا مصر أن أقابل أعضاء مجلس الإرشاد بالمعتقل ويمكن أعرف حاجة فقلت له طيب .. وقابلت رئيس الوزارة وقلت له . فكان متشددا في هذه المرة فخرجت .
وبعد بضعة أيام جه رئيس الوزارة وقال لى : تقدر تقول للشيخ البنا إنه يقابل جماعة الإرشاد يوم الاثنين التالي .
وهذا الكلام كان يوم الأربع أو الخميس أى قبل لحادث . فأنا قلت أنا أروح له يوم الجمعة ,وأبلغه , وأنا كنت أعتقد أن هذا الكلام يسره , ويوم الجمعة لم يحضر الشيخ فاتصلت بالأستاذ الناغي سكرتير الجمعية وقلت له : اعمل معروف اتصل بالشيخ البنا وقل له إنه يقدر يقابل الجماعة , وأظن قلت له يوم الاثنين المقابلة – وبعد كده لم أعرف هل هو بلغ الشيخ البنا أم لا , ولم أعرف الحادث إلا ثاني يوم الصبح لما قرأت الجرايد.
7- كان التغير الفجائي في موقف الحكومة حيال السماح للمرشد العام بزيارة المعتقلين تطورا هاما جدا وملفتا للنظر , ومثيرا للاهتمام لأنه ذو دلالات بعيدة المدى بالنسبة للجريمة حتى إن المحكمة والنيابة استفسرتا من الشاهد عن هذا التغير على الوجه الآتي :
المحكمة – قالش لك الأستاذ البنا أنه مراقب وأنه مهدد؟
الشاهد – قال لى إنه مراقب وموش متمع بحريته وإذا كانوا عيزينه يترك البلد فهو على استعداد .
المحكمة – ما عرفتش من الناغي الإجراءات التي حدثت قبل الجريمة؟
الشاهد – الناغي قال لى أنه راح قابل رئيس الوزارة واتفق معه على زيارة الشيخ البنا للمعتقل وأنه طلب الشيخ البنا في الجمعية الساعة الخامسة يوم لحادث , وبعدين خرج من الجمعية وانصرف .
المحكمة – هل كنت تعلم أن الأستاذ الناغي كان حلقة اتصال بين الشيخ البنا ورئيس الوزراء بصفته من أقربائه؟
الشاهد – لا
النيابة – سيادتك بتقول إنهم اتصلت بإبراهيم عبد الهادئ وطرحت عليه إنه يسمح للشيخ البنا بمقابلة المعتقلين كان يرفض وإنه بعد كده سمح بذلك , ما الذي جعله يغير رأيه ؟
الشاهد – اللي فهمته أنه اتخذ احتياطه عند تنفيذ الفكرة .
8- ترتب على هذا التغيير الفجائي في موقف الحكومة إدخال عنصر جديد في الموقف بالنسبة للمرشد العام – عنصر فيه بالنسبة له رائحة الأمن فقد شعر بأنه ظفر أخيرا بما كان يأمله ويلح عليه منذ صدور أمر الحل ... وما كان لمثل الأستاذ المرشد أن يحمل هذا التصريح إلا على محمل الجد فإنه تصريح من رئيس الحكومة إلى وزير من وزرائها ثم أكده لأحد أقربائه الذي يشغل منصبا كبيرا في الحياة الاجتماعية للبلاد هو الأستاذ الناغي العضو المؤسس لجمعية الشبان المسلمين .. مما جعل هذا الأخير يرسل أقرب شخصيات جمعية الشبان المسلمين إلى نفس المرشد العام وهو الأستاذ محمد يوسف الليثي رئيس قسم الشبان بالجمعية إلى بيت المرشد العام ليلقي إليه بالنبأ السار الذي يؤمل المرشد من وزرائها حل الأزمة كلها ويطلب إليه الحضور إلى دار الجمعية في الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم السبت الموافق 14 ربيع الثاني 1368 -12 فبراير 1949 للتفاهم معه في هذا الموضوع .
9- عنصر الأمن هذا الذي ولده التغير المفاجئ في موقف رئيس الحكومة هو الذي جعل المرشد العام يغير من خططه ويعدل عن عزمه الذي اتفق عليه مع اللواء صالح حرب من مغادرة القاهرة إلى مكان آخر من تلقاء نفسه – دون استئذان الحكومة – ثم يبلغها بمكانه الجديد .
حتى أن سروره بتلقي هذا النبأ وما يؤمله من ورائه من خير قد طغي على شعوره بعكس ذلك مما تؤيده الوقائع وما تبعثه في النفس الظروف الغامضة المسيطرة .
فلقد كان شعور الريبة الذي أشرت إليه آنفا هو الشعور الذي تنطق به الظروف لا في نفس المرشد لعام وحده , بل في نفس كل من كان يعايش هذه الظروف .. فقد جاء في شهادة الأستاذ محمود محمد جبر شاعر الشبان المسلمين قوله :
- " قبل الحادث بيوم , رأيت رؤيا قصصتها على الأستاذ البنا: شفته بيصلي أمام بيتنا وبعد الانتهاء من الصلاة رحت أسلم عليه . وأخذته وخرجنا من الجامع فقال : أنا عاوز أشرب . فلقيت واحدة في الحارة طلبت منها شوية ميه. فأحضرت لى مية في كوز ولا حظت دماء على ذراع المرشد فبعد أن شرب مسحت له الدم من على إيده بالمية ومشيت ".
بل أن المرشد العام نفسه رأي في تلك الليلة فيما يرى النائم أنه سيقتل في اليوم التالي .وأخبر أسرته وأولاده بما رأي . فلما جاءه الأستاذ الليثي ونقل إليه ما أخبر به الأستاذ الناغي أخذ في التأهب للخروج للموعد , فتوسل إليه أولاده وبكوا ألا يخرج في ذلك اليوم , ولكنه أصر على الخروج قائلا : كيف نهاب الموت والله تعالي يقول ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة (النساء: 78)
طغى شعوره بالأمل في إصلاح الأمور عن طريق لقائه بالإخوان المعتقلين على ذلك كله حتى إنه حين جاءه الإخوان اللذان وكل إليهما موفاته بأنباء البوليس السياسي وأخبراه بأن الحكومة اعتقلت الشيخ النبراوي الذي كان سيأوي إليه في بنها لم يكترث بهذا معتقدا أن هذه المسألة الجديدة ستعالج ضمن معالجة الموضوع كله ورد عليهما الرد الذي أشرنا إليها في مستهل هذا الفصل .
10- كان الذي أوصل النبأ إلى الأستاذ المرشد هو الأستاذ محمد الليثي , والذي كلفه بهذه المهمة هو الأستاذ الناغي , ويبدو أن توصيل النبأ عن طريق الأستاذ الليثي شخصيا كان أمرا مقصودا لما يعلمون من ثقة الأستاذ المرشد فيه وكان اهتمام الأستاذ الناغي واضحا حتى إنه قال لليثي : إنني قابلت إبراهيم عبد الهادي باشافي الصباح وعندي أخبار سارة روح أنده لى بالشيخ البنا وأنا لن أخلع ملابسي إلا بعد أن تخبرني بالنتيجة بعد الظهر فقال له الليثي : تذهب أنت إليه في البيت . فرفض فذهب الليثي وألح على الأستاذ المرشد بناء على إلحاح الأستاذ الناغي .. ولابد أن إلحاح الناغي كان بناء على إلحاح قريبه إبراهيم عبد الهادي .
والله وحده يعلم هل كان الناغي في ذلك ساعيا في الخير أم كان متواطئا مع قريبه ولكننا نستبعد ذلك ونقدم حسن الظن ونقول إن إبراهيم عبد الهادي على عادته في استمراء النذالة قد استغل قريبه الناغي أسوأ استغلال ..وإن كانت هناك أقوال في شهادة الأستاذ الليثي تلقي ظلال من الشك على حسن الظن فقد قال: أن الحديث مكرر وليس هناك جديد "ولما سألته المحكمة : هل كان الناغي مستعجل عندما أرسلك في طلب الشيخ البنا ؟ أجاب : كان مهتم جدا ومتضايق لتأخير الشيخ ؟
ولكن غياهب الشك هذه تنقشع حين نسمع إجلبة الأستاذ عبد الكريم منصور – المحامي وزوج شقيقة الأستاذ المرشد العام وكان مرافقه في تلك الليلة – على رئيس المحكمة حين سأله : وإيه معلوماتك عن الأستاذ الناغي ؟ فيقول : أنا أعتقد بما أحسه بقلبي أنه برئ ورجل طيب , ولكن هو كتم بعض الأقوال اللي قالها إبراهيم عبد الهادي وكان عايز الإمام بيجي الجمعية. ولكن مظهره وتقواه وشكله باين إنه لا يرتكب جريمة .
• مراقبة دائمة على منزل المرشد العام :
11- كانت هناك مراقبة دائمة من البوليس السياسي على منزل المرشد العام سأل المحقق عنها الأستاذ فؤاد شيرين محافظ القاهرة في ذلك الوقت فقال إنه ليس لديه معلومات عن الرقابة على الشيخ البنا , إذ كان ذلك من اختصاص القسم السياسي بالاتفاق مع رئيس الحكومة ووزارة الداخلية .. فلما بدأ التحقيق في هذا الموضوع أنكر ضباط البوليس السياسي وجود هذه الرقابة . وقد سأل المحقق المخبر عبد المنعم إبراهيم الذي كان يراقب منزل الأستاذ البنا فأكد أنه ظل يراقبه حتى ليلة اغتياله – فسئل :
س - هل تتبعت الشيخ البنا في اليوم الذي وقع فيه الحادث ؟
جـ أيوه
س- من أصدر إليك أمر المراقبة ؟
جـ - البوليس السياسي , وأنا كنت في مكتب الصاغ محمد كمال عبد المنعم ومحمد على صالح والأخير هو الذي كلفني شخصيا بذلك .
س- هل كنت ترفع تقارير ؟
جـ - نعم كنت أعمل تقارير تودع في ملف خاص بالمكتب.
س – ألم يصدر لكم الأمر في ذلك اليوم بالكف عن المراقبة؟
جـ - أبدا... أبدا.
س- هل قدمت تقريرا كالمتبع في ذلك اليوم ؟
جـ - لم يطلب منى أحد تقريرا , وأنا ذهلت من حادث اغتياله .
وقام المستشار المحقق بالاطلاع على تقارير مراقبة منزل الشيخ حسن البنا فتبين أنها كانت ترفع يوميا موقعة من المخبر السابق سؤاله وزميله , وأنه مؤشر عليها تارة من الصاغ توفيق السعيد أو الجزار أو محمد على صالح وأنه لا يوجد تقرير عن مراقبة يوم الحادث .
• مواجهة , واستدعي البكباشي محمد على صالح فنفي أنه هو الذي كلف المخبر بمراقبة الشيخ حسن البنا وقال : إن مسائل الإخوان كانت من اختصاص الجزار وتوفيق السعيد . فلما ووجه بإمضائه على أحد التقارير أصر على كلامه كما أصر على تكذيب المخبر . فووجه به وتمسك المخبر بأن الضابط المذكور هو الذي كلفه بحراسة منزل الشيخ حسن البنا .
• ارتكاب الجريمة :
12- بعد مقابلة المرشد العام للأستاذ الناغي غادر الناغي الجمعية في الساعة الثامنة إلا عشر دقائق من مساء ذلك اليوم 12 فبراير 1949 .وحوالي الساعة الثامنة والنصف خرج الأستاذ المرشد العام والأستاذ عبد الكريم منصور ومعهما الأستاذ الليثي الذي طلب من أحد سعاة الجمعية أن ينادي على سيارة أجرة . فجاءت السيارة وركب فيها الأستاذ المرشد وعلى يساره الأستاذ عبد الكريم منصور – ولم تكد السيارة تبدأ السير حتى انقض عليها الجناة .. وخير وصف لما حدث ما جاء في شهادة الأستاذ عبد الكريم منصور حيث طلبت منه المحكمة وصف ما حدث فقال :
" وإحنا خارجين من الجمعية شفت ثلاثة أشخاص على ناصية الشارع الفاصل بين الجمعية ووابور المياه , ولم أشك في الأمر . وركبنا السيارة وبعدين بدأ الضرب من الجانبين, وحاول أحد الجناة أن يفتح الباب من ناحيتي فأنا قاومته فتغلب على وفتح الباب وضربني بالمسدس , والرصاص جه في الأول في الزجاج وتهشم ولم يصب . ولما فتح وضربني وضربني بالرصاص جت الرصاصة في ساعدى .. وفي هذه اللحظة لاحظت أن الجاني الثاني بيحاول فتح الباب وتمكن من فتح الباب اللي ناحية الإمام الشهيد وضرب الإمام بالرصاص فجرى الإمام وراه .وتبين أنه أصيب ولما رجع سألته هل مسكت الجاني فقال : لا دول ركبوا عربية نمرة 9979 , فسألته هو أنت أخذتها فقال أيوة وبعدين رحنا الإسعاف .
13- يقول الأستاذ الليثي في شهادته : لما دخلت الجمعية بعد وقوع الضرب لأطلب الإسعاف وجدت السماعة مرفوعة وتذكرت أن التليفون منتظرني للمكالمة وما أن رفعت السماعة حتى عرفت أن المتكلم هو الصاغ محمد الجزار فقلت له أن الشيخ البنا قتل الآن. فقال بصوت هادئ : يا شيخ مات ولا لأ ؟ - وهنا لاحظت أن التاكسي تحرك فجريت خلفه حتى وصلت الإسعاف . وهناك وجدت شابا أسمر يلبس جلبابا وطربوشا وقال لى : أنا شفت نمرة العربية التي ارتكبت الحادث وذكر لى رقم 9979 فكتبت النمرة على ورقة – وأثناء ذلك أخرج الشيخ البنا على نقالة إلى القصر العيني وطلبت من هذا الشاب التوجه للجمعية لانتظاري هناك..
عدت إلى الجمعية لمقابلة الشاب الذي صرح لى برقم السيارة , ولإبلاغ النيابة بالأمر , فمنعت من دخول الجمعية حيث كانت محاصرة بقوات كبيرة من البوليس , وأخيرا استطعت الدخول.
• بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " المدخر :
14- البيان الذي عنوانه " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " الذي أخذوه من المرشد العام عقب محاولة نسف محكمة الاستئناف التي وقعت يوم 12 يناير 1949 لم ينشروه إلا بعد وقوع الجريمة في 12 فبراير 1949.
أى بعد شهر وكان حجبه هذه المدة ونشره بعد الحادث نوعا من أنواع الخداع والتمويه التي رتبوها لإيهام الناس أن الإخوان هم الذين ارتكبوا هذا الحادث ونكتفي الآن بهذه الإشارة ولنا تعليق على هذه النقطة فيما بعد إن شاء الله .
• طرف الخيط أو الدليل الوحيد:
15- يقول العلماء المتخصصون : إن أية جريمة ترتكب مهما اتخذ مرتكبوها من وسائل الاحتياط والحذر ومهما أوتوا من ذكاء وبراعة فإنهم لابد أن يتركوا أثرا يستدل منه عليهم ...,هذه الجريمة قد توفر لمرتكبيها جميع أسباب الحذر والاحتياط فواضعو الخطة هم رئيس الحكومة ووزير الداخلية بتوجيه من الملك وحاشيته ووكيل الداخلية للأمن العام الذي كان من قبل مديرا ( محافظا ) لجرجا , وكان خبيرا في معرفة من يكل إليه أمر تنفيذ مثل هذه الجريمة فاختار رجلا من كبار رجال الوزارة له تاريخ هو يعرفه وهذا الرجل هو مدير المباحث الجنائية بالوزارة – وتداول الرجلان بما لهما من خبرة لاختيار مخبرين عريقين في الإجرام ممن عملوا تحت رياستهما في جرجا وقد وقع اختيارهما على ثلاثة مخبرين .
وقد استقدما هؤلاء الثلاثة إلى القاهرة منتدبين للعمل بالوزارة – دون إسناد أى عمل إليهم – وكان دور رئيس الحكومة ووكيل الداخلية في الجريمة هو ما أسلفنا في الفصل السابق من إخلاء جو البلاد من الإخوان بحلهم واعتقالهم وبتجريد المرشد العام من كل سلاح أو حراسة .. وتكفل رئيس الحكومة وحده بإحضار المرشد العام إلى دار جمعية الشبان المسلمين في يوم معين وفي ساعة معينة بحيث لا يغادرها إلا ليلا .
وكانت مهمة مخطط التنفيذ مدير المباحث الجنائية أن يخصص سيارته الحكومية لتوصيل الجناة الحكوميين إلى مكان الجريمة ثم نقلهم – بعد ارتكابها بأسلحة وزارة الداخلية بعيدا عن مسرح الحادث بآخر سرعة .
وكل هذا يتم تحت رعاية السراي الملكية التي كان هؤلاء جميعا في ذلك الوقت يعتبرونها المعبود القادر على كل شئ .. ويتم هذا في ظل الأحكام العرفية بعد تشبيع الجو مدة شهرين – عن طريق الصحف ووسائل الإعلام – بروح القهر الحكومي والإرهاب الرسمي حتى أن أحدا مهما رأي أو سمع لا يجرؤ أن يخاطر بنفسه فيتقدم للشهادة .
ونورد هنا شهادة اليوزباشي عبد الباسط البنا شقيق الإمام الشهيد حيث يقول أمام المحقق:
" كنت ملازما لشقيقي حتى اعتقلوني عندما وجدوني أنني أتبعه بمسدسي لحراسته وقال : أنني أعتقد أن ما تم حتى الآن في القضية هو تحقيق مع فريق من ثلاث فرق أو عصابة من ثلاث عصابات تسمي عصابة التنفيذ . أما العصابتان الباقيتان فهما عصابة المؤامرة وعصابة التمويه .
أما عصابة المؤامرة فتتكون من الملك السابق وإبراهيم عبد الهادي الذي اعتقل جميع الإخوان ولم يعتقل حسن البنا الذي كان يقول " أنتم تقتلوني بعدم اعتقالي " واتخذ عبد الهادي مع الشهيد سياسة تنبئ بخبيث النوايا , فكان يتظاهر بأنه يريد أن يصل معه إلى اتفاق لإنهاء التوتر بين الحكومة والإخوان وكلف اثنين من الوزراء للمفاوضة معه بينما كان يمهد لتنفيذ ما بيت عليه العزم مع بقية العصابة ثم استدعاء بواسطة قريبه الأستاذ الناغي إلى جمعية الشبان المسلمين حيث تم تنفيذ الخطة .
وقال : وكذلك اشترك في الجريمة الأستاذ حامد جوده فعندما كان رئيسا لبعثة الحج سنة 1948 كان الشهيد يؤدي فريضة الحج , دبرت مؤامرة لاغتياله فطن إليها جلالة الملك عبد العزيز آل سعود فعين له حراسة قوية , وأعطاه سيارة مسلحة لحراسته مما أنهي هذه المؤامرة بالفشل – وقد علمت من تحرياتي الخاصة أن حامد جوده استصحب معه أفرادا من عصابة له من بلدة " درنكة " ليقوموا بهذا العمل وأنه كان ينوى أن يموه بأن جناة من أقطار أخرى ارتكبوا الحادث ولعل مما يؤيد ذلك ما جاء بأقوال عبد الرحمن عمار من أن القتلة من قبل إمام اليمن .
وعبد الرحمن عمار هو الذي أعد للجريمة عدتها واستخدام سلطته لتنفيذها , فقد أجرى نقل الجناة جميعا كما هو واضح , وجمعهم حول رئيسهم محمود عبد المجيد ..وقد اتضح من غير هذه القضية أن مهمة هؤلاء إنما هي القتل ,آخر أفراد عصابة المؤامرة هو مندوب السراي وصفي الذي فضل أن ينتحر .
أما عصابة التمويه لإبعاد التهمة عن الجناة فيشترك فيها عبد الرحمن عمار واللواء عبد الهادي الحكمدار وقتئذ واللواء أحمد طلعت .
ويتضح من ذلك أن الظروف المواتية , والوسائل المتاحة التي توفرت لمخططي هذه الجريمة ولمرتكبيها لم يتوفر مثلها لمرتكبي الجرائم من قبل .. ولكنهم مع كل هذه الاحتياطات وكل هذا الحذر قد أغفلوا طرفا واحد لخيط رفيع لم يخفوه حين أخفوا بإتقان جميع أطراف الخيوط – وكان هذا الطرف هو رقم السيارة .
• محنة الأستاذ الليثي برقم السيارة :
16 لقد لقي هذا الشاب محمد يوسف الليثي من العنت والإرهاق وعانى من فتنة الإغراء ورعب التهديد , وما لا يصبر عليه إلا من تولاه الله وربط على قلبه من أهل الإيمان واليقين .. وكان هذا كله من أجل غرمه على أداء الشهادة , وإبلاغ المحقق برقم السيارة لذي أخذه من الشاب الأسمر الذي قابله في دار الإسعاف.
• جبهات البوليس الضالعة في الجريمة:
كان هناك من جبهات البوليس – غير الجبهة التي أسند إليها دور ارتكاب الجريمة جبهتان أخريان دورهما حراسة هذه الجبهة وإتمام إسدال الستار عليها, وهاتان الجبهتان هما :
- البوليس السياسي .
- الحرس الحديدي.
أما البوليس السياسي فمعروف وتحدثنا عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب حديثا موجزا وحديثه موصول ب‘سهاب في هذا الجزء إن شاء الله .
وأما الحرس الحديدي فقد تبين أن الملك فاروقا كان قد ألف عصابة من رجال البوليس ورجال الجيش مهمتها حراسته واغتيال من يعتقد أنه يقف في طريق عبشه ومجونه وكان على رأس هذه العصابة الضابط الأميرلاي محمد وصفي الذي كانت وظيفته الرسمية قائد حرس الوزارات .
وهاتان الجبهتان تصدتا للشاب محمد الليثي حين علمتا أنه عرف رقم السيارة وإليك بعض الأساليب التي لجأت إليها العصابتان في التصدي له ...وهو بعض ما قصه هذا الشاب على المحكمة فيما بعد:
• الضابط محمد الجزار :
أ- محاولاته في التأثير بالإغراء :
يقول الأستاذ الليثي للمحكمة : وحوالي الساعة العاشرة والنصف من ليلة الحادث حضر القائمقام مصطفي حلمي إلى الجمعية وسأل عني وأخذني إلى حجرة السكرتيرية فوجدت السماعة مرفوعة وطلب مني أن أتكلم في التليفون وعرفت أن المتكلم هو الصاغ محمد الجزار الذي طلب مني أن أكلمه من تليفون أخر بعيد عن الناس وسألني عن معلوماتي وطلب مني عدم الإدلاء بمعلومات أمام النيابة ونصحني بعدم الشهادة خالص .وقال لى : سأرسل لك عربة لتوصيلك إلى منزلك حتى تكون مطمئنا وإن شهادتك سوف تسبب لك متاعب كثيرة .
وحوالي الساعة 12 مساء حضر مصطفي حلمي مرة أخرى وقال :شو فمين عاوزك على الباب, فوجدت الجزار نفسه . قال لى : ألف مبروك لنجاتك... أنت مجنون تعرض نفسك لضرب الرصاص؟ وأنا جاى مخصوص علشان أنصحك بعدم الشهادة . فقلت لا يمكن لأن النيابة تعلم أني شاهد – فقال : لا دى مسألة في إيدينا والإخوان المسلمين مش حينفعوك وإحنا قطعنا رأس التعبان والسم انتهى فقلت له : أنا قلت للصحفيين على نمرة العربية وأنا اللي أحضرت الشيخ البنا من بيته والناس تقول على لابد شريك في الجريمة . فقال : سأعين لك حراسة تمشي وراك ولا تخاف والصحافة في إيدينا .. فشككت في الأمر فقلت له : أنا يمكن أختلف في رقم واحد فأقول النمرة 9979 أو 9997 فقال لى : لازم تغير الرقم كله . فرفضت وأخرجت الورقة التي بها رقم السيارة من جيبي فخطفها من يدى ومزقها وقال : هات إيدك واقرأ الفاتحة وأنا سأفرج لك عن توفيق بلال ومحمود شكري اللي كلمتني عنهم .
وبعد ذلك حضرت مجموعة من الضباط من بينهم محمد وصفي وحضر المحقق وكنت كلما استرسلت في الحديث عن نمرة العربية واحد يضربني بالمرسي من الخلف فقلت النمرة 9979 أو 9997 والسيارة سوداء على العموم فلقيت وصفي قال : لا النمرة ماهش كدة . ولما نزلت حضر لى الضابط ماهر رشدي وهددني وقال لى : أنت إرهابي كبير من الإخوان .
والحق أني كنت في أشد ضيق بعد أن غيرت رقم العربة , حتى أني كنت أشاهد صورة الشيخ البنا أمامي أينما ذهبت . كأنما يعتب على لتغيير شهادتي . ويعد ذلك انتظرنا حتى حضر النائب العمومي محمود منصور ( أشرنا إليه من قبل ) وقال لى : شرفت يا حضرة شاهد الإثبات وبعد ذلك حضر عبد العزيز حلمي المحقق فقلت له : أني غيرت النمرة تحت ضغط الجزار والنمرة الحقيقية هي 9979 فأثبت ذلك.
وبعد نصف ساعة اتصل بي الجزار وقال :مبروك أفرجنا عن أصحابك وطلب مني أن أقابله في محل نيوزبار خلف الجمعية ولما تقابلنا هناك قال لي : أنت أعصابك تعبانة وهيا نشرب كاسين وسكي ونفرفش ..وطلب من الجرسون إحضار عشاء وكاسين ويسكي فأكلت ورفضت الشرب .. وأخذ يسب في الشيخ البنا ويقول إنه راجل ساحر , وهو الذي قتل الخاندار والنقراشي وسليم زكي , وسيبك من الجماعة دول , ومحدش حينفعك وخليك تعيش لأولادك ويلا نقضي ليلة كويسة .. ولازم تروح قسم عابدين وتغير أقوالك وتطلع من جيبك ورقة مكتوب فيها النمرة غلط وتصر عليها ..فرفضت .
وأثناء الحديث التفت الجزار إلى فتاة كانت تجلس بجوارنا وابتسم لها وبادلته الابتسام وقال لى : اضحك لها فرفضت وقلت أنا متزوج فقال لى ولا يهمك أنا متجوز كمان .. وأخرج من جيبه رزمة فلوس وقال لى دي هدية لك من الحكومة مبلغ 500 جنيه ( خمسمائة جنيه) علشان تروح القسم , ولو أردت أى مبلغ آخر لما تروح النيابة أنا مستعد.. فاعتبرت ذلك جرحا لشعوري ورفضت . وبعدين عرض على الفلوس تاني للذهاب للقسم ساعتها فرفضت وقيل ما أقوم أخرج ورقة وقال لى : اكتب رقم العربية 7999 أحسن تنساها فأنا قلت له : لا أنا فاكرها وإحنا على العموم حنتقابل بكره وروحت .
وفي هذا اليوم نمت خارج البيت وخفت منه لأنه ضابط بوليس وتذكرت حديثه معي وتهديده لى – ونزلت الصبح بدرى وقعدت على القهوة وطلبت حرم اللواء صالح حرب في التليفون, وقلت لها : أنا عاوز أقابلك في أمر هام نظرا لسفر اللواء صالح في أسوان . ورحت لها البيت وسألتني عن الحادث فذكرت لها ما حدث بيني وبين الجزار . فقالت لى : اتصل بالأستاذ مصطفي الشربجي فاتصلت به فقال :أنت تروح للأستاذ فتحي رضوان وتفهمه الموضوع لأنه هو اللي ماسك قضايا الإخوان وتقول له الشوربجي هو اللي قال لى أروح لك ويروح معك النيابة .
وبعد كده رحت الجمعية وقابلت السكرتير والمراقب بها وقلت لهم القصة فاتصلوا بزكي على وكيل الجمعية فرحت له الوزارة لأنه كان وزير في وزارة عبد الهادي وقصيت له القصة فقال لى . مافيش مانع تقول الحقيقة .
واتصلت بالأستاذ فتحي رضوان فقال لى : تعال عندي المنزل بمصر الجديدة .. لما ذهبت إليه اعتذر عن الذهاب معي للنيابة لعدم جواز حضور المحامي مع شاهد فاتصلت بعد ذلك بالأستاذ أبو الخير نجيب وكان محررا بجريدة الأهرام , فاقترح على الاتصال بعمر عمر نقيب المحامين لأخذ رأيه في الموضوع فاتصلت به فلم أجده.
فذهبت إلى النيابة وأدليت لها بأقوالي وذكرت لهم كل التفاصيل التي دارت بيني وبين الجزار سواء بالتليفون أو أثناء مقابلاتي له ولقد دهشت يا حضرات المستشارين عندما علمت على لسان الجزار أن شاهدا هو الأستاذ حسني عباس المدرس بكلية التجارة قد ذكر رقما للسيارة التي ارتكبت الحادث يخالف الرقم الحقيقي الذي تأكدت منه وطلب مني الجزار أن أتوجه لقسم عابدين لأؤيد رواية هذا الشاهد فاعتقدت أن هذا الكلام غير صحيح والمقصود هو تغيير رأيي بأى وجه من الوجوه ..
ولقد أرسلت تلغرافا إلى النيابة أطلب منها حمايتي نظرا لما أدليت به في حق البوليس السياسي .
ب- أسلوب فاجر لوصم الشرفاء
كان ضباط البوليس السياسي يختارون من بين ضباط البوليس الذين لا ضمير لهم ولا حياء عندهم ولا خلق ولا دين , ولذا فإنهم كانوا يستبيحون كل منكر ويرون اللجوء إلى الكذب والافتراء وإلصاق التهم بالبراء وسائل مشروعة لا يؤنبهم عليها الضمير لأنهم خلو من الضمير .
ومن هذه الوسائل أنهم إذا حاولوا تجنيد إنسان لخدمة أهدافهم الدنيئة ففشلوا في تجنيده .. يرمونه بأنه كان عميلا لهم وأنه كان يأخذ من الأموال السرية ..وهذه التهمة من السهل عليهم رمي أى إنسان بها لأنه كان من حق أى ضابط في البوليس السياسي أن يطلب من الأموال السرية ما يشاء وينفقها كما يشاء دون أن يطالب بتسجيل طريقة إنفاقها في سجل معين ,, فإذا رمي ضابط منهم إنسانا بأنه كان عميلا له , لم يجد هذا المتهم وثيقة يرجع إليها في دفع هذا الاتهام .
وقد حاول الضابط الجزار – من قبل حل الإخوان بزمن طويل – تجنيد الليثي لينقل إليه أخبار جمعية الشبان المسلمين وأسرارها فلم يفلح وكان الليثي يخبر اللواء صالح حرب أولا بأول بمحاولات الجزار معه .. فلما لم يفلح
وجاء حل الإخوان وفتحت جمعية الشبان المسلمين دارها للمرشد العام ووضعت الحكومة خطة لاغتياله وارتكبت الجريمة وحصل الليثي على رقم السيارة أعاد الجزار محاولاته مع الليثي بالأسلوب الذي رواه أمام المحكمة . ولما انتهت محاولاته بالفشل أيضا وأسقط في يده لجأ إلى الأسلوب الذي أشرنا إليه وهو الأسلوب الوضيع من رمي الليثي بالعمالة للبوليس السياسي ..ولكن الليثي استطاع أن يثبت زيفه ويبين كذب ادعائه وتناقضه مع نفسه إذ قال في شهادته:
- "وفي النيابة فوجئت بأنهم يعتبرونني من رجال البوليس السياسي وكان المحقق ليس من رجال النيابة بل هو توفيق السعيد زميل الجزار . ودهشت حين قال لى السعيد : إن الجزار استغني عن خدماتك لأنك لا تقدم تقارير عن الجمعية فأنا استغربت لأنه ل كنت من البوليس السياسي حقيقة لما أمكن للجزار الاستغناء عني وخصوصا في هذه الفترة التي كان يتردد فيها الشيخ البنا على الجمعية وكان في حاجة إلى من يمده بالمعلومات .
الأميرلاى محمد وصفي ممثل الملك في الجريمة:
حتى بعد أن تم ارتكاب الجريمة أرادت الجبهتان الاطمئنان إلى ما تحقق مما هدفوا إليه من خطتهم وهو إزهاق روح حسن البنا لا مجرد الاعتداء عليه يقول الأستاذ الليثي في شهادته :" ذهبت إلى القصر العيني ورأيت الأستاذ الإمام حين أدخل حجرة العمليات وكانت حالته في نظرى غير خطيرة , بدليل أنه حينما طلب الدكتور من الترموجي خلع ملابس الشيخ البنا هب الشيخ وجلس وخلع ملابسه بنفسه ,, كما أنهم لما طلبوا اخذ عنوان الأستاذ عبد الكريم منصور رد الشيخ البنا وقال : اتركوا عبد الكريم لأن حالته خطيرة وأعطاهم هو العنوان .
وبعد ذلك وجدت شخصا يقول للدكتور :أنا جاي من قبيل الحكمدار لأعرف حالة الشيخ البنا . فرد الدكتور بأن حالته ليست خطيرة .. فانتهزت الفرصة وقلت لذلك الشخص إني أعرف نمرة السيارة , فنظر إلى بسخرية دون أن يتكلم , وعرفت بعد ذلك أنه الأميرالاى محمد وصفي ".
- • هذه الجبهات كانت تعد للجريمة منذ زمن طويل :
ويجدر بنا هنا أن نلفت النظر إلى أمرين من الأهمية بمكان :
أولهما : أن هذه الجبهات كانت تمهد للجريمة من قبل وقوعها بزمن طويل فبعد صدور أمر الحل وما تبعه من اعتقال ومن عزل الأستاذ المرشد العام عن الإخوان وتجريده من كل سلاح يدافع به عن نفسه , صور لهم الوهم أنه قد يكون مرتديا تحت ملابسه درعا يحميه من وصول الرصاص إلى جسمه إذا ما هو ضرب بالرصاص .
يقول الأستاذ عبد الكريم منصور في شهادته :
" بعد صدور قرار الحل قرر الأستاذ الإمام رفع دعوى أمام مجلس الدولة يطالب فيها بإلغاء أمر الحل وعند دخولي أنا والأستاذ مجلس الدولة فتشنا , وجاء شخص فتش الأستاذ الإمام تفتيشا عجيبا كأنه يبحث هل هو يلبس درعا . ولما سألت عن هذا الشخص قيل لى : إنه شخص غريب وإنه مرسل من قبل الأستاذ الدماطي مدير مكتب رئيس الوزراء .
وثانيهما :تبين من وصف الأستاذ الليثي لحالة الأستاذ الإمام وهو في حجرة العمليات بالقصر العيني ومن رد الدكتور الذي كشف على جسم الأستاذ الإمام – على استفسار محمد وصفي عن حالته " أن حالته ليست خطيرة "... ومعني ذلك أن علاجه ممكن وميسور .. في حين أن حالة الأستاذ عبد الكريم منصور هي التي كانت خطيرة بدليل أنه لم يستطع الإجابة عن عنوانه حين سأله الطبيب عنه وتولي الإمام الإجابة عنه .. فكيف يستقيم هذا مع النتيجة التي انتهت إليها حالة هذين المصابين ..؟
بعد ساعات تعلن وفاة الأستاذ الإمام وشفاء الأستاذ عبد الكريم منصور ..ما هذه المفارقات المذهلة ؟.... إن التعليل الذي يصيغه العقل , والذي تناقله الناس في ذلك الوقت عن شهود عيان من موظفين وعمال كانوا يباشرون عملهم بالقصر العيني في تلك الليلة أن أمر عاليا صدر – بعد تبليغ تلك الجهة العالية بحالة الأستاذ الإمام عن طريق محمد وصفي- بأن يترك الأستاذ البنا بالقصر العيني تنزف جراحة حتى يموت .
16- الدرك الأسفل من النذالة والخسة:
17- بلغ من خسة هذه الحكومة بعد أن ارتكبت الجريمة النكراء أن أدخلت جثمان الإمام الشهيد إلى منزله وسط القاهرة من رجال البوليس شاهرة المسدسات والبنادق في وجه سيدات أسرته العزل من كل سلاح . وأرغمت السيدات على حمل الجثمان إلى النعش ولم يسمح لواحد من رجال هذه الأسرة بالاقتراب من الجثة ... حتى القرآن حرم عليهم تلاوته .
ثم نقل انعش وسط هذه المظاهرة المسلحة إلى مسجد قيسون القريب من المنزل ولم يسمح لأحد بالصلاة عليه ولا بالدخول إلى المسجد إلا لوالده ثم نقل لجثمان إلى المقابر ولم يسمح لأحد بتشييعه , حتى إن البوليس كان إذا رأي أحد المارة يقرأ الفاتحة باعتباره يري ميتا أى ميت , كانوا يلقون القبض عليه.. وقد خاطر بعض الناس بزيارة قبره فاعتقلوه ..ولم يستطع أحد من تقديم العزاء فيه إلا مكرم عبيد باشا .. وظلت الحراسة المسلحة قائمة على القبر حتى تغير العهد.
• عنصر الزمن :
18- قلنا في البند الخامس عشر أن مخططي الجريمة – بالرغم من توفر جميع وسائل الحذر والحيطة والذكاء لهم قد أغفلوا شيئا واحد هو طرف خيط رفيع تمثل في رقم السيارة التي ارتكب بها الحادث .. ونقول الآن إن إغفالهم هذا الطرف لم يكن وحده كافيا لكشف جريمتهم ولا لفضح مؤامرتهم .. ولكن العنصر الذي أغفلوه حقا وكان كافيا لكشف جريمتهم وتعرية سواءتهم هو عنصر الزمن.
وهذا العنصر مع بالغ أهميته , خطير أثره يغفله أكثر مخططي الجرائم ويتعامون عنه مع إنه ظاهر ملموس . وكلما كانت إمكانات المخططين أعظم كان إغفالهم لهذا العنصر أكثر.. فإذا كان المخططون أصحاب السلطة كان إغفالهم له إغفالا تاما لأنهم في هذه الحالة يكون قد سيطر عليهم الشعور الذي صورته الآية الكريمة ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) ( يونس : 24)
فالسلطة التي كانت تتمتع بها حكومة السعديين في ذلك الوقت كانت سلطة مطلقة فهي تباشر الحكم وهي تحس أنها ربيبة واهبي السلطات جميعا ابتداء من الملك وانتهاء بالدول العظمي في العالم ويتخلل ذلك برلمان مصنوع يدين لها بالولاء .. ذلك أنها تنفذ الخطة التي أجمعت عليها كل هذه السلطات ..ولقد كانت هذه السلطات دائبة البحث عن منفذ مصري فاجر لخطتها .. فإذا وجدوه في هذه الوزارة فلم لا يمنحونها السلطة المطلقة والتأييد الأبدي ؟
ولو اطلع مطلع على مخيلة إبراهيم عبد الهادي في ذلك الوقت لما وجد فيها أثاره باحتمال فقده للسلطة المطلقة التي كان يتمتع بها أو حتى الانتقاص منها .. وكيف تفقد أو تنتقص وهو على الولاء التام الكامل لواهبي السلطات وتحت يده برلمان لا يعصي له أمر ؟!
ولهذا فحين أوشكت فترة الأحكام العرفية على الانتهاء طلب من هذا البرلمان مدها لمدة ستة أخرى, فاستجاب له مجلس النواب بما يشبه الإجماع كما استجاب له مجلس الشيوخ لم يعارض فيه إلا ثلاثة عشر عضوا.
ومن العجيب أن هؤلاء الذين لا يعترفون بعنصر الزمن هم أولي الناس بالاعتراف به .. فحسبهم أن ينظروا إلى أنفسهم ويسائلوها : كيف آل إلينا الحكم ؟ ألم يؤل إلينا على أنقاض آخرين سبقونا ؟ وإذن فلابد أننا تاركوا هذا الحكم لغيرنا راضين أو كارهين .. وهذا هو الذي قرعت به الآيات المحكمات آذان هؤلاء الغافلين في قول الله تبارك وتعالي :" أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال . وسكنتم مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ) ( إبراهيم : 44: 47)
وهكذا شهد الأستاذ محمد الليثي أمام المحقق برقم السيارة وأبلغ جريدة المصري بالرقم فنشرته .. وكان هذا هو كل ما فعله طرف الخيط الرفيع الذي أغفلوه .. فهل أجدي وحده ؟
لم يستطع وحده أن يغني فتيلا .. فقد صودرت جريدة المصري " وقد سأل المحقق الأستاذ محمود يوسف الموظف بدار الكتب والذي كان رقيبا للنشر بجريدة " المصري " في ذلك الوقت فقال انه حذف ما حذف عن مقتل الأستاذ حسن البنا ورقم السيارة بناء على تعليمات تليفونية من الأستاذ توفيق صليب مدير الرقابة .وسئل الأستاذ أنور حبيب في ذلك فأحضر الملف الخاص بالرقابة على " المصري " يوم الحادث - وقد قام المستشار المحقق بالاطلاع على مجلد الرقابة المذكور فتبين فيما يختص بيوم الحادث إنه يحوى البيانات الآتية :
- " تعليمات لحضرات الرقباء الساعة الحادية عشرة والنصف مساء 12 فبراير 1949 . حادث إطلاق الرصاص أمام جمعية الشبان المسلمين , ينشر الحادث كما وقع أى مجرد وقائع مجردة عن المقدمات والتعليقات والعنوانات الكثيرة ولا تنشر صور فوتوغرافية بتاتا ولا شئ عن جماعة الإخوان المسلمين المنحلة . وكل ما يراد نشره بعد تنفيذ هذه التعليمات يعرض قبل التوقيع بإجازة النشر .وكل ما هو معروف إلى الآن " أن الشيخ حسن البنا كان خارجا من جمعية الشبان المسلمين ومعه آخر فأطلق مجهول الرصاص عليهما ونقلا إلى القصر العيني " وقد أرفق بها بروفات " المصري " التي أشر عليها هذا هو ما كان من أمر رقم السيارة ونشره بجريدة " المصري " كما أن النائب العام في ذلك الوقت كان صنيعة العهد محمود منصور وقد أمر بحفظ التحقيق وتقييد الجناية ضد مجهول . ولم يستطع أحد – تحت سيف الإرهاب الحكومي الفاجر – أن يدلي بشهادة أو أن ينبس ببنت شفة ..وقتل حسن البنا وووري التراب وووري معه قضيته , واعتقد الجناة إنهم قد دفنوا هذه القضية في أعماق وتحت أطباق الثري يوم دفنوا جثة فريستهم دون أن يراها أحد أو يشيعها أحد.
وهنا صفا لهم الجو " وظنوا أنهم قادرون عليها " وأخذوا في مكافأة كبير المنفذين للجريمة صاحب السيارة التي نشر رقمها في جريدة " المصري " وشهد به الشاب المخاطر الأستاذ الليثي .. فقد ظهر في الصحف علنا في يوم 4/7/1949 ما يأتي :
- " تفضل جلالة الملك فأنعم برتبة البكوية من الدرجة الثانية على حضرة الأميرالاى محمود بك عبد المجيد مدير المباحث الجنائية بوزارة الداخلية – وقد قوبل الإنعام السامي بالاعتباط لما يبديه حضرته من جهود في خدمة الأمن".
• طغيان مسعور:
19- هذا الشعور الذي استولي على تفكير هذه الحكومة ,والذي أشرنا إليه بقوله تعالي : ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها) ( يونس : 24) دفع بهم إلى طغيان مسعور, فلملأوا السجون والمعتقلات .. وقد فتح إبراهيم عبد الهادي خزانة الدولة على مصراعيها لرجال البوليس , يكافأ الواحد منهم بقدر ما يورد للمعتقلات من أفراد الشعب . حتى أن الصحف نشرت في 4/5/1949 أن شابا كان ماشيا في حي السيدة زينب بالقاهرة فاعترضه رجال البوليس وسألوه عن اسمه فارتبك- كشأن أى شاب صغير يفاجأ بمثل ذلك – وبتفتيشه وجدوا في جيبه ورقة بها أبيات من الشعر تذم رئيس الوزراء فاعتقلوه واعتقلوا الطالب الذي قال الشعر . والطالبان هما عبد الله المنياوي وزميله الشاعر مهدي محمد يوسف الطالبان بمدرسة المنيرة الثانوية .
ومع دلالة هذه الحادثة الصغيرة على مدى تشوف رجال البوليس في تلك الحقبة من الزمن إلى الاغتراف من خزينة الدولة المفتوحة لهم والمشروط الاغتراف منها بمدى التهجم على الشعب فإنها تدل أيضا على مقدار ما يكنه الشعب لهذه الحكومة من كراهية ومقت وما تحسه هي نحوه من شكوك وفزع .
وبدافع من هذا التشوف قام البوليس – تحت قيادة البوليس السياسي – بحملات مكثفة على بيوت الإخوان لاعتقالهم بغير مبرر . وقد أدي هذا الاعتداء وهذا التحدي إلى ترك كثير من الإخوان بيوت أهليهم إلى بيوت أخرى استأجروها, هربا من الاعتقال وإشفاقا على أهليهم من غارات البوليس – ولكن البوليس مع ذلك تتبعهم وطاردهم فقتل بعضهم وقبض على بعض آخر ناسبا إليهم تدبير مؤامرات لقلب نظام الحكم مدعيا عليهم حيازتهم لأسلحة ومتفجرات , وسمي المنازل التي اختفوا فيها هربا من الاعتقال سماها أوكارا .
ولما رأي شباب الإخوان المطارد أن الحكومة قد فعلت بالأستاذ المرشد ما فعلت ,أنها تواطأت ودبرت مؤامرة اغتياله , ثم إنها بعد ذلك حفظت التحقيق وقيدت القضية جناية ضد مجهول – أثار ذلك بعض هذا الشباب فأرادوا أن يقتصوا بأنفسهم من القاتل الحقيقي إبراهيم عبد الهادي. فتربص عدد منهم له في طريق عودته إلى منزله – مع علمهم بأنه لا يتحرك إلا وسط جيش لجب من الحراس ..ولكن تبين أن الذي مر في ذلك الوقت كان حامد جودة رئيس مجلس النواب وقبض على هؤلاء الشباب .
وسنفرد إن شاء الله لهذه القضايا وما تم فيها من محاكمات وتحقيقات وتلفيقات وأساليب وحشية تكشف عن حقيقة هذا العهد و ومخازيه فصلا خاصا .
وقد جاء وصف لهذا الطغيان المسعور في الكلمة التي أوردناها في الفصل السابق للواء صالح حرب , ونورد وصفا آخر لهذا الطغيان جاء في بيان نشره في 5/7/1949 بجريدة " المصري" الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة بعد رجوعه من لندن قال فيه :
- " وفي وسط هذا الجو الذي عشته في انجلترا تلقيت من الوطن أنباء تجديد الأحكام العرفية التي يعتبر العالم مجرد اسمها يزمر إلى طراز من الحكم قد انقضت أيامه إلى غير رجعة .. فوقع على هذا النبأ موقع الصاعقة ولم يزدني السبب الذي أعلن تبريرا لهذا الإجراء الشاذ إلا فزعا واستنكارا فقد قيل أن الأحكام العرفية جددت بسبب حوادث الإرهاب .
إن الجميع يعلمون أن هذه الحوادث الإرهابية لم تنشأ إلا في ظل الأحكام العرفية وما تخوله للحكام العسكريين من سلطة مطلقة من شأن مزاولتها إيغار الصدور . فهل ستظل ندور في دائرة مفرغة بمعني أن يشتد القمع فيولد الإرهاب فنبقي محكومين بالأحكام العرفية إلى ما شاء الله دون عباد الله أجمعين ؟
وعدت إلى مصر فوجدت آلافا من الشباب لا تزال المعتقلات تغص بهم ولا يكاد الإنسان يفتح اليوم صحيفة من الصحف إلا ويطالع فيها نبأ الهجوم على أوكار إرهابية جديدة أو خلايا شيوعية , والقبض على الناس بالجملة وتفتيش البيوت بالعشرات والمئات..وليست هذه البيوت التي تفتيش في نهاية الأمر إلا بيوتا مصرية ليس هؤلاء الذين يقبض عليهم سوى نفر من أبناء الأمة المتعلمين ..والتسليم بأن هؤلاء جميعا إرهابيون أو شيوعيون معناه أن شباب مصر كله قد تحول إلى شيوعي أو إرهابي ويكون هذا في حد ذاته قضاء على الحكم الحاضر بالإفلاس .
وتوضع الآن قوانين تجعل مجرد حيازة كتاب من الكتب جريمة وتفرض عشر سنوات من الأشغال الشاقة لا على المشتغلين بالشيوعية والتي حددها القضاء المصري تحديدا فنيا ممتازا فإنها صورة من العمل على قلب نظام الحكم بالقوة ولكن هذه العقوبة تشمل عبارات وأقوالا مافتئنا ننادي بها جميعا منذ سنوات لا فرق بين حزب وحزب أو بين جماعة وجماعة دون أن يعتبر هذا إثما أو أمرا غير مشروع .
أى أن الأمر قد تحول كله إلى سد الثغرات والمنافذ التي يمكن للناس أن يتكلموا من خلالها أو أن يعبروا عن أفكارهم في حرية واطمئنان .والأمر كله هو قمع وبطش على كافة الصور والأشكال في سائر الاتجاهات يمينا وشمالا.
وإنني أرى أن ذلك كله دليل على أننا نعيش في أوضاع خاطئة وأن الاستمرار في هذه الأوضاع لا يعود على أحد بالخير أو الفائدة بما في ذلك الذين يظنون اليوم أنهم يستفيدون بهذه الأوضاع .
وحسبي إلى أن أشير إلى ما قاله ممثل إسرائيل في هيئة الأمم المتحدة وسط تصفيق دول العالم عندما قلت دولة إسرائيل عضوا بالهيئة حيث قال : إننا لم نذهب إلى فلسطين لتأليف دولة يهودية فحسب ولكننا ذهبنا لنحمل إلى الشرق الأوسط الحرية الديمقراطية التي لم يستمتع بها أهله منذ أجيال وقرون ونرفع مستوى حياتهم إلى مصاف الأمم الراقية .
ثم قال الأستاذ أحمد حسين : ولما كنت لا أملك من الأمر شيئا إلا إيماني وإخلاصي لبلادي , فلم يبق أمامي إ الاعتكاف في الريف والابتعاد عن الحياة السياسية في الوقت الحاضر حتى يقتنع الجميع بأن استمرار هذه الحالة الحاضرة وتجاهل إرادة الشعب , بل ومنأواته بهذه الأساليب من شأنه أن يمعن في العودة بمصر القهقري "
ولعل قد استبان للقارئ من الإشارات التي وردت في هذه الكلمة صورة الحالة التي آلت إليها البلاد في تلك الأيام السوداء ... حتى قد بلغ الهلع بهذه الحكومة إزاء ما تشعر بها من معاداتها للشعب ومقت الشعب لها أن صارت تشتبه في كل مصري وفي كل مواطن حتى أن رئيس الوزارة أصدر أمرا في 6/7/1949 بتفتيش السفن في ميناء الإسكندرية للقبض على المشتبه فيهم .. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن الأستاذ أحمد حسين قد تمكن من إصدار هذا البيان وأن جريدة " المصري " قد تمكنت من نشره لأن الأحكام العرفية كان ينتهي العمل بها في منتصف شهر مايو 1949 وتعمل الحكومة على مد العمل بها سنة أخرى وتحت ضغط المعارضة في مجلس الشيوخ تقرر تخفيف هذه الأحكام في أثناء فتنة إجراء الانتخابات التي كان قد حان ميعادها وقد تناول التخفيف في خلال هذه الفترة موضوع الرقابة على الصحف .
• اطمئنان إلى الخلود في الحكم :
20- مع أن البرلمان بمجلسيه كان ألعوبة في يد هذه الحكومة تستصدر منه ما تشاء من قوانين استثنائية شاذة فإن أقلية ضئيلة في مجلس النواب من أعضاء أحرار يمثلون الحزب الوطني والمستقلين وأقلية أخرى من أعضاء حزب الوفد في مجلس الشيوخ بدأت تثير غبارا في وجه هذه الحكومة.
ففي مجلس الشيوخ قدم استجواب عن استغلال الأحكام العرفية في التضييق على حرية النشر والصحافة وفي مجلس النواب قدم استجواب بهذا المعني كما قدم طلب مناقشة في موضوع لحكم العرفي ومبرراته بعد عقد الهدنة الدائمة في فلسطين واتفاق رودس والموقف العسكري والسياسي في فلسطين .
ومع أن رئيس الحكومة قد استطاع بأغلبية العددية الساحقة في المجلسين أن يتفادي تأثير ذلك كله على حكومته فإنه رأي أن تكرار مثل هذا الهجوم قد يحرجه في يوم من الأيام لاسيما وهو – وإن كان يعتقد أنه مخلد في الحكم – فإنه لا يستطيع مع ذلك أن يبقي على الأحكام العرفية إلى الأبد ...وإذن فلابد من حل ماكر يواجه به هذا التحدي ويضمن له الاطمئنان إلى أن هذه السلطة المطلقة التي يتمتع بها ستظل في يده في المستقبل ونلخص الحل الذي اهتدي إليه في وسيلتين إحداهما مؤقتة والأخرى دائمة:
أما الوسيلة المؤقتة فهي أن يطلب مد الأحكام العرفية مدة عام وسيحل موعد الانتخابات في خلال ذلك العام وسيجربها بنفسه وسيحصل طبعا على الأغلبية الساحقة ويظل في الحكم .. وقد يستطيع بمجلسه الجديد – الذي قد لا يدع لغير أتباعه فرصة دخوله – أن يمد الأحكام العرفية سنة أخرى أو سنتين.
وأما الوسيلة الدائمة فهي أن يسن تشريعا يسميه " تشريع تنظيم الجمعيات " يودعه كل ما في الأحكام العرفية من قيود بحيث يكون تكوين الجمعيات في مصر مستحيلا إلا أن تكون فرعا من فروع الحزب الحاكم تحت اسم مغاير لاسم الحزب ..وسنفرد لهذا التشريع فصلا مستقلا لبالغ أهميته إن شاء الله .
وتقدم إلى برلمانه الحالي يطلب مد الأحكام العرفية لمدة سنة أخرى فوافق البرلمان في الحال وتقدم إليه أيضا بمشروع قانون لتنظيم الجمعيات فأحيل إلى اللجنة التشريعية بمجلس النواب لإعداد تقريرها عنه .. ولم تطلب الحكومة إلى برلمانها نظر هذا التشريع على وجه الاستعجال , حيث لا داعي في نظرها لذلك إذ أمامها عام كامل ستحكم البلاد خلاله بالأحكام العرفية .
• في انتظار المكافأة:
21 – صفا الجو لحكومة إبراهيم عبد الهادي بعد أن أدت المهمة الكبرى التي كان عليها إنجازها فقد أزالت العقبة الكئود من طريق أولياء نعمتها , بالتنكيل بالإخوان المسلمين واعتقالهم ,واغتيالهم المرشد العام في جنح الظلام ,وإلقاء ستار كثيف من الضباب حول هذه الجريمة مما حجب الرؤية حجبا كاملا .. ثم أمنت بعد ذلك ظهرها للمستقبل , فمدت الأحكام العرفية سنة جديدة وبدأت في وضع مشروع لتنظيم الجمعيات ... ثم جلست بعد ذلك تنتظر من أولياء نعمتها المكافأة.
ولم يخطر ببال عبد الهادي أن تكون مكافأة تجديد فترة حكمه لخمس سنوات أخرى .. فهذا كان في نظره وفي نظر الناس المعاصرين أمرا مفروغا منه كما أنه لم يفكر في أن تكون المكافأة توسيع رقعة أملاكه من الأرض الزراعية فهذا أمر في يده هو باعتبار رئيس الحكومة وقد زاد الرقعة التي يملكها حتى صارت عشرة أضعاف ما كان يملك . أما ما كان ينتظره مكافأة له فهو أن تأتيه المكافأة في صورة إنعام ملكي سام بالرتبة التي طالما حلم بها لتضعه في البروتوكول وفي التاريخ في مصاف النحاس باشا وعلى ماهر وحسين سري باشا رتبة " حضرة صاحب المقام الرفيع ".
ولا يعجب القارئ لهذا النوع من الآمال . فكل عهد سماته وأوضاعه وآماله . وكان من سمات هذا العهد التهالك على الرتب والألقاب ,وما تضفيه هذه الألقاب على صاحبها من أبهة وانتفاخ في المجتمع الذي يعيش فيه مما يذكرنا بقول الشاعر الأندلسي:
مما يزهدني في أرض أندلس
- ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
- كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
أما الشعب المسكين المغلوب على أمره, المنكوب بزعمائه ورؤسائه فلم يكن أمله الذي يحلم به يتعدى أن يري هذه الحكومة – حكومة الملك – قد خففت من وطأة ظلمتها ورفعت عن ظهور المواطنين سياط جلاديها .. أما تغيير الحكومة فأمر لا يخطر بخيال أحد لأنها حكومة الملك جاء بها لتوط أقدامه , وقد وطدتها بتحقيق ما كان يأمله , فأمنته من خوف كان يقض مضجعه ومضجع سادته الإنجليز .
ولكن فريقا واحدا من هذا الشعب كانت آماله أوسع من ذلك مدى وأرحب أفقا وأبعد طموحا ...وكان هذا الفريق هو " الإخوان المسلمون" الذين كانوا يتربصون بهذه الحكومة وأولياء نعمتها عنصر الزمن , فكانت آمالهم معقودة بخالق الزمن والمتصرف فيه ..
ولو أن الإخوان المسلمين غفلوا لحظة عن إيمانهم بخالق الزمن الذي ( يخلق ما لا تعلمون ) ( النحل : 8) لما ثبتوا في موقفهم لحظة ولما واصلوا كفاحهم للطغيان دون هوادة ساعة من نهار .. وهل يستطيع من ملأ اليأس قلبه أن يثبت على قدميه ؟...
وسوف يرى القارئ في فصل قادم إن شاء الله أن الإخوان المسلمين قد تحملوا في خلال هذا العهد الأسود المنكود ما تنوء بحملة الجبال ( لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ) ( آل عمران: 146) وكما بهروا العلم بشجاعتهم المنقطعة النظير في حرب فلسطين , فقد أخذوا بلبه بثباتهم على مبدئهم واستمساكهم بعقيدتهم وهم في أتون التعذيب والقهر والإهانة والتنكيل ..
وعلى حين غرة من الجميع فعل عنصر الزمن فعله فوقف الشعب كله مشدوها فاغرا فاه شاخصة أبصاره لهول ما رأي وما سمع ... لقد قذف مصرف الزمن وخالق كل شئ بمفاجأة خيبت ظنون الظالمين , وقضت على أحلامهم وشتتت النوم من عيونهم فقد جاءهم الشر من حيث انتظروا الخير ,وأتاهم العذاب من حيث كانوا يترقبون المكافأة... فإذا أخير الذي ينتظرون , والغيث الذي يترقبون ... ريحا صرصرا عاتية اقتلعتهم من مقاعدهم وألقت بهم بعيدا في عالم النسيان فكان حالهم كما قال الشاعر الحكيم .
إذا كان غير الله للمرء عدة
- أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
- ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى
21- كان الإخوان في ذلك الوقت في معتقلاتهم وفي سجونهم وكنت أنا في منفاي الذي اختاروه لى – مما يأتي بيانه بعد قليل إن شاء الله – ومنا نتلقي في كل يوم من لحكومة مطارق جديدة على رءوسنا ففي كل يوم مطاردة وفي كل يوم قبض وفي كل يوم مؤامرة وفي كل يوم تهم جديدة ومحاكمة وفي كل يوم أوامر متلاحقة بالتضييق والتهديد والتنكيل .. وقد وطنا أنفسنا على ذلك نستقبله استقبال الأمر المتوقع ..ولكننا مع ذلك ومع انغلاق جميع المنافذ أمامنا لم يخامرنا اليأس من رحمة الله ... ولكن كيف تنفذ إلينا هذه الرحمة والمنافذ كلها محكمة الإغلاق ؟ هذا ما كنا نتركه لقدرة الله وإرادته .
• رؤيا لى نادرة:
وقد كنت إنسانا قليل الرؤى بل أكاد أكون عديمها ... وطالما شكوت ذلك إلى الأستاذ الإمام فكان يطمئنني بأن هذا ليس عيبا يعيب المؤمن ..وقد مكثت الفترة الأولي التي مكثتها في منفاى- أكثر من خمسة أشهر – لم أر خلالها رؤيا واحدة ..ولكنني في إحدي ليالي الثلث الأخير من شهر يوليو 1949 وكان ذلك موافقا لإحدى ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان رأيت رؤيا طويلة زاخرة أذهلتني وأطارت لبي وأثارت وجداني وأرسلت دموعي ..
وحين أحاول الآن – بعد ثلاثين عاما – أن أتذكر تفاصيل هذه الرؤيا أجد أكثر هذه التفاصيل قد بهتت في خاطري حتى لا أكاد أراها – ولكن الذي لا يزال ماثلا أمامي منها حتى الآن هو منظر الأستاذ الإمام واقفا على منصة عالية . ونحن – عدد غير قليل من الإخوان – بين يديه يحدثنا ويوجهنا ويوصينا وكأنه يريد أن يشعرنا بأنه مغادرنا ,, ووصاياه كلها في الحرص على الإخوة والترابط والحث على الصبر ..وكان شعوري بما يعتزمه من مفارقتنا قد جعل دموعي تنهمر لا أقوي على مدافعتها ..وقد أكثرت أنا وزملائي من الاستفسار منه عن أمور كثيرة وكنا في عجلة في توجيه الأسئلة إليه قبل أن يغادرنا المغادرة التي نشعر ألا لقاء بعدها .. وكنت حريصا على أن ألتزمه وأعنقه عناقا حارا طويلا ثم أمسك به حتى لا يفارقنا .. ولكنه كان يشعر بهذا الشعور منا فيمهلنا حتى يتم وصاياه إلينا ..وكان ارتفاع المنصة ارتفاعا لا يتيح لأحد منا أن نصعد إليه إلا أن ينزل هو إلينا .
وكان مما لفت نظري واسترعي انتباهي في هذه الرؤيا أن الأستاذ المرشد كان خلالها حليق اللحية, وهو منظر لم نره فيه من قبل . كما أنه كان حين يتكلم ويوجه نصحه إلينا ويسدى وصاياه كان يفتح فمه ويحرك شفتيه ولسانه كالمتكلم تماما ولكنه لا يصدر صوتا ومع ذلك كنا نفهم كل ما يقول .. وفجأة التفتنا فإذا بنا لا نراه .
وفي مساء اليوم التالي أتاحت لى فرصة عجيبة – وسط اجتماع أخوى حبيب أن ألتقي بضيف طارئ لم أره من قبل وكان شيخا وقورا ذا لحية ضخمة وفي سن يناهز السبعين – وقد أنسيت اسمه – وقد علمت أنه عالم أديب ومن المجاهدين غير المصريين المطاردين.. فلما قصصت رؤياه على إخواني في هذا الاجتماع ابتسم هذا الشيخ ابتسامة عريضة وقال لى ولمن حولي من الإخوان : أبشروا فإن الله سيغير الأوضاع وهذه رؤيا صادقة ودليل صحتها وصدقها أمران , أولهما رؤيتك الأستاذ المرشد بغير لحية مما لفت نظرك , والثاني كلامه المفهوم بغير صوت,فالأستاذ الآن في حياة البرزخ وهي الحياة التي بين الحياتين الدنيا والآخرة , ومن مميزاتها أن يكون الناس فيها في سن واحدة وبدون لحي .
وقد يكون من القول المعاد أن أقول أن الفترة التي رأيت فيها هذه الرؤيا لم يكن يخطر ببال أحد في مصر لا سيما في بال رئيس الوزراء أن تتغير الوزارة وكان أى محال يبدو ممكنا إلا أن يخلع إبراهيم عبد الهادي من الوزارة وهو أقرب المقربين إلى الملك ويؤيده مجلسا البرلمان بلا تحفظ وهو الخادم المطيع للحضرة الملكية التي كانت معبودا لهم من دون الله.وبعد أيام من هذه الرؤيا وقع النبأ الذي لم يكن متوقعا . واهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها لأن الحدث كان أبعد الأحداث عن الاحتمال . وأعلن سقوط وزارة عبد الهادي وتأليف وزارة سميت " محايدة" وأعلن في خطاب تأليفها أن مهمتها النظر في الإفراج عن المعتقلين .
وتدل مجريات الأحوال على أن إسقاط وزارة عبد الهادي وتأليف وزارة محايدة لم يكن من بنات أفكار الملك وحاشيته , كما لا يمكن أن يكون من تفكير عبد الهادي وحزبه وإنما كان من تفكير وسعة دهائهم وأنهم أمروا بذلك لأنهم خشوا لو طال بقاء عبد الهادي أكثر من ذلك لأدى إلى انفجار الموقف انفجارا قد لا تسهل السيطرة عليه .
وقد يتطلع القارئ إلى معرفة الصورة الرسمية التي تم هذا التغيير في إطارها فنقول نقلا عن الصحف في ذلك الوقت – أن الملك أوفد حيدر باشا –وكان قائدا عاما للقوات المسلحة ومن المقربين إلى الملك – إلى إبراهيم عبد الهادي لإبلاغه رغبة الملك في استقالته , كما أوفد حيدر باشا إلى حسين سرى لإبلاغه بتكليف الملك إياه لتأليف الوزارة الجديدة.
ولما كان إبراهيم عبد الهادي لا يملك إزاء هذه الصفعة القاتلة إلا الخضوع والإذعان فقد قدم استقالته ونصها :
" مولاى – تفضلتم فعهدتم إلى بالحكم في ظروف دقيقة – وقد استطعنا بفضل سامي توجيهكم وكريم إرشادكم ورعايتكم أن ننهض بالأمانة وأن نؤديها على خير ما نرجو – والآن وقد أوشكت الدورة البرلمانية على النهاية فإن الحكومة تضع استقالتها بين يدى جلالتكم لتوجهوا البلاد وفق ما ترجونه لها من خير ".
وقبل أن يكتب هذه الاستقالة رد على حيدر باشا بقوله : إنني أتلقي هذا التوجيه الملكي بالاحترام والإجلال وسأبلغه إلى زملائي وننزل على هذه الرغبة الكريمة.
وقد رد الملك في نفس اليوم على عبد الهادي بقبول استقالته وجاء في الرد :وإنا إذ نجيبكم إلى ملتمسكم لنذكر بالتقدير تلك الهمة العالية والوطنية الصادقة التي سستم بها أمور البلاد في حرص على طمأنيتها وسعى لتوطيد الأمن في ربوعها .
• هدية الملك إلى الشعب :
• ولما كانت إقالة هذه الوزارة قد تمت في 30 رمضان 1368, فقد أصدر الملك نطقا ملكيا بأن الملك قد جعل هذه الإقالة هدية الملك إلى شعبة بمناسبة عيد الفطر المبارك وفي أول جلسة لمجلس النواب حضرها حسين سري باشا رئيس الوزارة الجديدة ألقي حسين سري بيانا مقتضبا لم يشر فيه إلى المعتقلين فقام مكرم عبيد باشا عضو المجلس وطالب بإلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن جميع المعتقلين في الحال فصاح النائب السعدي فتحي المسلمي قائلا : إذا أفرج عن المعتقلين فستكون أنت أول ضحاياهم .
كان الدليل المادي على كذب هذا النائب السعدى وحزبه هو أن رئيس الوزراء الجديد في الوقت الذي قرر فيه أن تبقي الحراسة حول دار إبراهيم عبد الهادي كما كانت بدون تغيير لم يصحب هو بعد تكليفه بتشكيل الوزارة سوى ياور رئيس الوزراء وترك الحرس الكبير الذي كان يحرس رئيس الوزراء السابق – ورفع بوليس حرس الوزارات الذي كان قائما حول مبني ديوان الرئاسة وديوان المالية ولم يبق سوى ثلاثة جنود موزعين في أماكن متباعدة .
ولما قدم له عبد الرحمن عمار وكيل الداخلية للأمن العام بعد عشرة أيام من تشكيل الوزارة كشوفا بأسماء من تمنحهم إدارة الأمن العام مكافآت شهرية من المصاريف السرية أعاد إليه الكشوف مؤشرا عليها بعدم الصرف وإلغاء هذا النوع من المكافآت – ونقله هو شخصيا من وزارة الداخلية وكيلا لوزارة المواصلات ... ومع ذلك لمتحدث حادثة واحدة تفكر صفو الأمن .
تنفس الناس الصعداء وأخذت التحقيقات في القضية المراد طمرها تشق طريقها من جديد ولكن على استحياء.
الفصل الثالث شخصيات ومواقف كشفت عنها المحنة القاسية
مقدمة
كنت – منذ بدأت مؤامرة الحل – في دمنهور تحت الحراسة الأخوية النبيلة من الرجل الكريم الأستاذ ( ع) – فلما ارتكبت الجريمة الشنعاء كاد الحزن يقتلني .. ومع أنه كان فيما أسر إلى به الأستاذ (ع) من قبل إشارة إلى احتمال وقوع هذه الجريمة فإن ذلك لم يخفف من أثر وقوعها فعلا في نفسي .. ولم أفهم الحديث الذي كنت أقرأه ومعناه أن النبي صلي الله عليه وسلم يقول :" إذا عظمت مصيبة أحدكم في عزيز فليذكر مصيبته لى فتهون عليه مصيبته "
إلا حين وقعت هذه المصيبة ووجدتي عاجزا عن احتمالها , فقدرت مدي مصيبة المسلمين بوفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى أكوت أحب إليه من أبيه وأمه ومن نفسه التي بين جنبيه ". وبدأت أفهم معني قول الصحابي الجليل : كنا إذا أحمر الحرق وحمى الوطيس احتمينا برسول الله صلي الله عليه وسلم .
لقد كان محمد صلي الله هو صاحب الدعوة تلقاها بالوحي عن ربه , وقد قرر القرآن له حقا على المؤمنين أنه أولي بهم من أنفسهم , وحين قرر القرآن هذا الحق لم يكن مقررا إلا أمر واقعا ,وشعورا متملكا قلب كل مؤمن نحو هذا الرسول الكريم .. وبعد أن أدي مهمته , وبلغ رسالته, اختار الرفيق الأعلي , فكانت المصيبة التي أذهلت أثبت المؤمنين جنانا وأصلبهم عودا وأقواهم شكيمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ثم كان على مر الزمن , بين الفينة والفينة دعاة يقومون على أثر محمد صلي الله عليه وسلم,يجدون دعوته ويجمعون الناس على لب رسالته .. وهؤلاء الدعاة قلة على طول الزمن .. لا يكاد الزمن يجود بواحد منهم إلا بعد مرور أجيال وأجيال يكون الدين في خلالها قد درست معالمه وطمست قسماته وذهبت نضارته وغابت تحت أكداس الزيف والترهات حقيقة .. حتى صار أصحاب العقول يتلمسون من ينقذ الدين مما ألم به ومن يأخذ بيد الأمة الإسلامية الضالة الحائرة فيقفها على أول الطريق .. فيمن الله الرءوف الرحيم بواحد من هؤلاء الدعاة فيتسابق أصحاب العقول إلى مبايعته ثم يستجيب له الناس طوائف طوائف , فيسير فيهم سيرة النبي الكريم في صحابته فيحبهم ويحبونه , ويؤثرهم على نفسه ويؤثرونه ويعرفون له فضله في هدايتهم إلى الحق , ويحسون السعادة في عمق تأثيره في نفوسهم بإعراضه عن متاع الدنيا ويتعلمون بين يديه التضحية في سبيل الحق حين يرونه يخوض الغمرات في سبيله يتعلمون بين يديه صناعة الموت .. وما أعظم الفرق بين الموت وبين صناعة الموت , فكل الناس يموتون .. ولكن الذين تعلموا صناعة الموت لا يموتون لا إذا رغبوا لموتهم ثمنا غاليا وربحا كبيرا يموتون في المواقف التي يحيي موتهم فيها أممهم وعشائرهم حيث يرجون لأنفسهم في الآخرة مكانا عليا .
هؤلاء الدعاة تكون المصيبة في فقدهم قريبة في فداحتها على المؤمنين من مصيبة المؤمنين في فقد رسول الله صلي الله عليه وسلم – وكأنما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقصد هؤلاء الدعاة والمستجبين لهم حين قال لأصحابه :" ما أشوقني إلى إخواني . فقال الحاضرون : ألسنا إخوانك ؟ قال : لا ... بل أنتم أصحابي . إخواني قوم يأتون بعدكم ,أجر الواحد منهم كأجر أربعين . قالوا : وكيف استحقوا هذا الأجر ؟ قال : إنكم تجدون على الخير أعوانا أما هم فلا يجدون على الخير أعوانا " أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
أدرت الحديث حول الدعوة والدعاة لأقرب إلى خيال القارئ مدى فداحة الرزء الذي ينزل بالمؤمنين حين يفقدون مرشدهم وقائدهم ..ولم يكن هذا شعوري وحدي , وإنما كان شعور مئات الألوف من الناس , لا في مصر وحدها , بل في العالم الإسلامي كله .. لقد أذهلني المصاب عن أهلي وعن أولادي وعن بيتي وعن عملي وعمن حولي وعن نفسي ... وإذا كانت الخنساء تقول حين فقدت أخاها صخرا وهو رجل كسائر الرجال :
ولولا كثرة الباكين حول
- على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
- أعزى النفسي منهم بالتأسي
فأني لنا أن نجد عزاء في فقد حسن البنا الذي قلما تجود الأيام بمثله ؟! لم أجد بجانبي في ذلك الوقت العصيب إلا الرجل الطيب الدمث الأخلاق الكريم المحتد الأستاذ( ع) قضيت معه بعد المصاب أياما لا تعدو الأربعة , لم يكن يفارقني فيها إلا وقت النوم – إن كان هناك نوم – ثم وصلني أمر بالنقل فورا إلى " أبو تيج". وقد تبين لى أنه ليس نقلا بالمعني المألوف بل هو تحديد إقامة , فقد طلب إلى أن أسافر وحدى دون أسرتي وأولادي فلما وصلت إلى هناك علمت أنني ممنوع من مغادرة ذلك البلد غلى أى مكان آخر .. وقد ودعني الرجل الكريم ( ع) والدموع تترقرق في عينيه , وهو يقول لو معتذرا : لا تؤاخذني يا فلان هذا النقل هو أخف إجراء استطعت أن أصل إليه معهم فيما يختص بك .
أولا – شخصيات ومواقف خاصة
لما حملني القطار إلى " أبو تيج" وكنا في المساء نزلت في فندق بها ووجدتني مضطرا لقضاء هزيع من الليل في مكان آخر حتي يغلبني النوم حيث حالة الفندق تقتضي ذلك فاتخذت لى مجلسا في مقهى أمام الفندق – ولما كنت وجه غريبا فقد تقدم نحوي شابان ظريفان كان يجلسان معا في المقهى قريبا مني وتم التعارف بيني وبينهما .ولما علما بأنني نزلت بالفندق – وكانا يعرفان حالة الفنادق في هذا البلد – أصرا على استضافتي في شقتهما ذات الحجرتين الواسعتين القريبة من الفندق .
والحق أن الشابين – سعد وحسن – الموظفين بالمحكمة وأولهما من الفيوم والآخر من بنها كانا معي غاية في الكرم فلقد حضر الأخ الكريم الحاج هاشم محمد خليل صبيحة اليوم التالي – حين علم بحضوري – وحاول انتزاعي منهما فرفضا بكل شهامة , فأمدني الحاج هاشم –أكرمه الله – بكل ما يلزمني من الفراش, وشاركتهما السكن .. وكانت حجرة حسن أوسع فشاركته فيها .
ومعذرة إلى القارئ في هذا الاستطراد فسأقص طرفا من قصتي مع هذين الشابين ومع غيرهما ممن صادفني فيتلك الفترة من حياتي بهذا البلد الطيب , فلقد تعلمت على يد هذين الشابين أمورا في حياة بلادنا الاجتماعية من الخير أن يلم بها القارئ . وكأنما نحن – الإخوان المسلمين – أراد الله أن يطلعنا على خبايا من الحياة الاجتماعية للجمهور الذي هو منا ونحن منه حتى إذا تحدثنا إليه تحدثنا إلى من نعرف عنه الكثير .
- • خطورة القمار :
لاحظت أن " حسنا " قد كرر اقتراضه مني حتى اقترض مني أربع مرات في خلال أسبوعين . فسألت " سعدا" ن ظروفه التي دعته إلى هذا الاقتراض ففاجأني بأن " حسنا " يلعب القمار . فلما واجهت " حسنا " بذلك أنكر .
وكان من عادتي أن أستسلم للنوم بعد العشاء . فلفت " سعد" نظرى إلى أن " حسنا " يسهر معظم الليل في لعب القمار . وحدد سعد المكان الذي يباشر فيه هذا اللعب . فلماذا سألت " حسنا " عن ذلك أنكر . فلما علم سعد بهذا الإنكار طلب لى أن أخالف عادتي وأسهر الليلة القادمة . وصحبني نحو منتصف الليل إلى مكان ناء خارج المدينة وأشار إلى حجرة مغلقة الباب والنوافذ في الدور الأرضي . وكنا إذ ذاك في ليالي الشتاء الباردة وقال هذه الحجرة .
وطرقنا باب الغرفة وفتحوا لنا الباب بعد أن أطمأنوا إلى أننا لسنا من رجال البوليس ,فاندفع نحونا من الباب هبة نتنة من هواء ساخن فاسد,, مما حملنا على التراجع قليلا منحرفين عن الباب حتى خفت حدة هذه الهبة . ودخلنا فإذا هي غرفة صغيرة تتوسطها منضدة والغرفة مكتظة بالأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين الشباب والكهولة ورأيت بينهم صديقنا "حسنا" الذي بدا على وجهه الخجل – ولا أقول احمر وجهه خجلا , لأن اكتظاظ الغرفة بهذا العدد مع الانفعال المستمر أثناء اللعب جعل الدم مندفعا إلى وجوههم فهي حمراء دائما ,وبعد أن صافحنا حسنا انسحبنا من الغرفة .
ولما التقيت بحسن بعد ذلك اعتذر إلى من هذه " الهفوة" التي حاول أن يقنعني بأنها غلطة لن تتكرر.. وقد انتهزت الفرصة وشرحت لحسن خطورة مجرد وجوده داخل مثل هذه الحجرة وتنفس هذا الهواء النتن , وحذرته من أن خروجه من هذا الهواء الساخن ومقابلة الجو البارد قد يعرضه لمرض خطير .. فأقسم لى أن هذا لن يتكرر.
ولكن سعدا لفت نظري إلى أن حسن مستمر في خطته , وأنه في أكثر الليالي لا يأوي إلى المنزل لينام إلا بعد منتصف الليل , وفي بعض الليالي لا يأتي إلا قبيل الفجر , وأنه حريص حين يدخل الشقة ألا يحس به أحد فهوي يمشي على أطراف أصابعه ... أما أنا فكنت أصحو من النوم لأصلي الفجر فأراه نائما في سريره ..ومع ذلك فقد كنت حريصا على أن أسدى إليه النصح من الناحية العامة المرة بعد المرة , وهو يقنعني في كل مرة بأنه امتنع منذ الليلة التي رأيناه فيها في معمان اللعب ..وكان حريصا على أن يصلي صلاة الصبح أمامي كل يوم..
وفي صباح أحد الأيام حين استيقظت لصلاة الفجر رأيت سرير حسن خاليا فخشيت أن يكون قد أصابه مكروه , ولكنني بعد أن صليت الفجر واتخذت مضجعي في السرير ثانية وكادت الشمس تشرق ,أحسست أن أحدا قد فتح باب الشقة بخفة فتظاهرت بالنوم ورأيت صاحبنا قد دلف إلى الحجرة في هدوء وأوي إلى فراشه .
ولما حان الموعد الذي تتأهب فيه للذهاب لأعمالنا استيقظ حسن وهو معتقد أنني لم أشعر بدخوله ولكنني أفهمته أنني أحسست به فانتحل بعض الأعذار ..وشددت عليه النصح حتى بكي ووعد بالحضور مبكرا ..وما هي إلا أيام حتى عاد إلى ما كان عليه , ووصل الحال آخر الأمر إلى أنه لا يحضر إلى المنزل ويستغرقه اللعب في الحجرة الملعونة طوال الليل حتى يحين موعد الذهاب إلى عمله في الصباح فيهرول ولا يصل إلى عمله إلا متأخرا .. ويخبرني سعد بذلك ولا أراه أياما متتالية .. ثم يتفاقم الأمر ويخبرني سعد بأنه قد اكتشف عجز في خزينة المحكمة وأن حسنا يواجه تحقيقا قد يؤدي إلى فصله ( كان حسن أمين خزينة المحكمة ) ولكن زملاءه من موظفي المحكمة تعاونوا معا وأنقذوا الموقف.
وهنا طلبت من سعد أن يحضر لى حسنا إلى المنزل بعد صلاة العشاء مباشرة حيث جلست معه جلسة طالت إلى جوف الليل ..واجهته فيها بكل ما في نفسي وشرحت له خطورة ما هو منغمس فيه من ضلال وكذب, وما هو مقبل عليه من دمار وتحطم..وبينت له ألا داعي للكذب أمام إنسان يتمني الخير لك وهو لا يملك لك ضررا ولا نفعا .. ويبدو أن حالة من الانفعال في النصح لبستني وكأنما لمست أخيرا موضع الإحساس من قلبه فتغيرت لهجته فجأة واتجه إلى بقلبه لأول مرة وقال : يا فلان ... أنت الآن أعز عندي من أبي ودعني أصارحك لأول مرة بما لم أصارح به أحدا من قبل : كان والدي مدرسا في ثانوية بنها وكنت طفلا مدللا فكنت ألعب " البلي " مع الأطفال في الشارع فلم ينهني فلما كبرت باشرت أنواعا أخرى من القمار دون أن أجد من ينهاني فصار الشغف بالقمار مختلطا بدمي – وأحب أن أقرر بين يديك أن المقامر مهما أقسم لك أنه امتنع عن القمار فهو كاذب لأن القمار داء من تمكن منه استعبده واستولي على قلبه ومشاعره بحيث لا يستطيع التخلص منه طوعية فقد يستدين ويبيع ما يملك ويسرق إلا أن يجد من يحبسه عنه بالقوة ولمدة طويلة
فقلت له يا حسن ليتني أملك أن أحبسك ولكنك تعرف الظروف التي تحيط بي أنا الآن أبكي, لأنني أعرف النهاية التي تقترب منها كل يوم , وليتني أستطيع أن أدفع عنك.
وتطورت الأيام بعد ذلك , وغادرت " أبو تيج" إلى بلاد أخري وبعد سنوات التقيت بسعد صدفه فسألته عن " حسن "فقال لى : إن " حسنا " قد اغتاله " السل " والعياذ بالله ومات به .. فكان ما توقعته وحذرته منه أسأل الله تعالي أن يتغمده برحمته .
- • من أضرار الحشيش:
أما " سعد " فلم يكن يلعب القمار,وكان يبدو لى شابا مستقيما بل إنه كان يلفت نظرى إلى انغماس " حسن " في القمار رجاء إصلاحه, وقد ظللت على ظني هذا حتى كانت ليلة أيقظني على غير عادتي في منتصف الليل حصر بول , فقمت من سريرى متجها إلى دورة المياه التي كان بابها قبالة باب حجرة سعد.. وقد استوقفني عندما استيقظت أصوات منبعثة من حجرة سعد الملاصقة لحجرتنا , ولاحظت أن الأصوات لأكثر من شخص وأكثر من شخصين , كما لاحظت أن الألفاظ التي تبينتها من هذه الأصوات ألفاظ غير مهذبة... فتريثت لحظات ثم أرغمني البول على مغادرة الحجرة إلى الصالة حتى إذا وصلت إلى باب دورة المياه وجدت حجرة سعد مشاءة ووجدت بابها مفتوحا ورأيت منظرا مهينا .. رأيت هؤلاء الأشخاص بعد أن لعب الحشيش - الذي فاحت رائحة جخانه – بعقولهم وقفوا جميعا كل أمام الآخر وقد رفعوا ثيابهم وكشفوا عن عوراتهم وكل منهم يتبول على الآخر متفوها بألفاظ مزرية .
وفي الصباح قررت أن أنقل سريري إلى مسكن آخر مع صديق . وقد عارض سعد في ذلك أشد المعارضة , لكنه أحس من شدة إصراري أنني أطلعت على ما لم يحب أن أطلع عليه من أمره مع أصدقائه المنحرفين – ويعلم الله أنني ما قصدت إلى الاطلاع – فاضطر آسفا أن ينزل على رغبتي ..ولعله بعد ذلك أقلع وتاب .
هذا ولعلي بهذه الكلمات القصار قد ألقيت بعض الضوء على مرضين خطيرين من أمراضنا الاجتماعية ما كنت قبل تجربتي هذه أقدر خطورتهما هذا القدر .
- • في النار ولا يحترق :
قدمت من قبل أنني كنت أثق كل الثقة في مقدرة الأستاذ الإمام على اختيار الرجال .
كان الأخ الحاج هاشم محمد خليل من أوائل من وقع اختيار الأستاذ عليهم لعضوية الهيئة التأسيسية ولم تكن معرفتي به تتعدي فترات اللقاء في اجتماعات الهيئة القليلة العدد فلما اختارت وزارة السعديين " أبو تيج" لتكون لى منفي , كان هذا المنفي الذي أرادوه هو أحب مكان إلى بفضل تعرفي عن قرب على شخصية الأخ الحاج هاشم.
كان الحاج هاشم تاجرا وعالما وأديبا وكان أكبر تاجر للدخان في الوجه القبلي يستورد أوراقه الشجرية من الخارج ويوزعه على التجاروالمصانع, وعلمت أنه ورث هذه التجارة عن أهله كابرا عن كابر . وكانت شركات السجاير الكبيرة عندما تفكر في إنتاج توليفة لسيجارة جديد ترسل إليه مندوبا يعرض عليه التوليفة ليبدي رأيه فيها .. ومع هذا كله فهو لا يدخن مطلقا حتى أنه يختبر التوليفة المقترحة كان يتذوقها بأن يدخن منها عدة أنفاس دون أن يبتلع أى دخان منها ..وقد سألته في هذه المفارقة العجيبة ؟ كيف يكون أكبر تاجر للدخان وفي الوقت نفسه لا يدخن .. فكانت إجابته كالآتي :
تناول نوعا من السجاير كان يعد في ذلك الوقت أغلي وأرقي أنواع السجاير ويسمي " سيجار التوسكاني " والسجارة عبارة عن ورق شجر الدخان بحالته الطبيعية ملتف بعضه على بعض ولا يغلفه ورق عادي كالذي يغلف جميع أنواع السجاير. تناول واحدة منها وأشعلها وسحب منها عدة أنفاس وتركها حتى انطفأت( طبيعة هذا النوع أنه ينطفي من تلقاء نفسه عدة مرات ويعيد مدخنه إشعال السيجار في كل مرة ) فلما انطفأت كسر السيجارة نصفين وقربهما من أنفي فشممت رائحة نتنة لم أطقها – فقال لى : لهذا أنا لا أدخن .. هذه شجرة نتنة ولولا أنني ورثت هذه التجارة عن أهلي وآبائي ما زاولتها .
- • قلوب تلطف عسف القوانين
لما طال غيابي عن أولادي المقيمين في رشيد عدة أشهر وتولاني القلق عليهم فكرت في زيارتهم . فتحدثت في هذا الشأن مع رئيسي المقيم في أسيوط وكان زميلا لى مسيحيا , وطلبت منه إجازة لمدة أسبوع . فتلعثم وبدا عليه الحرج ثم كاشفني بأن هذا النقل هو بأمر من وزارة الداخلية وأطلعني على الخطاب السري الخاص بذلك.
ولما كان هذا الرئيس زميلا كما قدمت , فقد أخذ يفكر معي في وسيلة للخروج من هذا المأزق, وانتهي التفكير إلى أن السفر إذا أمكن فلا يكون بأجازة رسمية, وأبدي استعداده للقيام بعملي في غيبتي لكنه لفت نظري إلى أن رقابة من وزارة الداخلية مفروضة علي . وكنت أعلم أن مأمور المركز رجل كريم ومن أسرة عريقة . في العلم والدين فذهبت إلى المركز وقابلت ضابط المباحث وكان شابا دمث الأخلاق ذا سيرة طيبة فكاشفته بالموضوع بصراحة تامة. فقال لى أن الرقابة المحلية هنا مقدرة لظروفكم ونستطيع التهاون فيها, ولكن هناك رقابة أخرى من وزارة الداخلية بالقاهرة .. واتفق معي على أن أسافر في جنح الظلام وأترك رقم تليفون في رشيد وألا أشعر الناس في رشيد بوجودي فإذا جد في الأمر شي اتصلنا بك تليفونيا للحضور في أول قطار .
ونفذت الخطة . وبعد يومين من وصولي إلى رشيد جائني التليفون فاستقللت أول قطار وذهبت إلى عملي في أبو تيج حيث اتصل بي فيه تليفونيا مأمور المركز وطلبني لمقابلته .. فأطلعني على الإشارة التليفونية المرسلة إليه من وزارة الداخلية يسألونه عما ردا كريما , دافع فيه عني قرر أنه كان يتصل بي يوميا في عملي وأنني لم أغادره مطلقا وهكذا يقوم الرجال الصالحون بتلطيف القوانين مهما بلغت هذه القوانين من الجور والظلم والعدوان .
- • وعي فج مقلوب :
في البلاد الصغيرة التي يعرف الناس فيها بعضهم بعضا لا يكاد الناس يتأثرون بدعايات الحكومة ولا بما تذيعه أجهزة إعلامها من زور وافتراء حيث يسمعون ويقرأون عن الإخوان المسلمين أوصافا يجدون عكسها فيمن ينتسب إلى الإخوان من أهل بلدهم.
ولهذا كان محل الأخ الحاج هاشم – بالرغم من التضييق الحكومي – ملاذا للمثقفين من أهل " أبو تيج" ومن الطارئين عليها على اختلاف مبادئهم واتجاهاتهم وآرائهم .
وفي إحدي جلساتنا بمحل الحاج هاشم انطلق أحد الجالسين – وكان شابا حقوقيا يشغل منصبا إداريا مرموقا بالمدينة – يقول : لقد أثبت النحاس باشا أنه رجل طيب حقا لأنه ضرب بالنار ولكنه لم يصب أما حسن البنا فيبدو أنه كان رجلا شريرا بدليل أنه لما ضرب بالنار أصيب وقتل .
فقلت له :مهلا يا أخي ولا تتسرع بالحكم .. فلو أننا أخذنا بمقياسك هذا لخرجنا بنتائج عجيبة .. فبهذا المقياس يكون عمر بن الخطاب رجلا شريرا ويكون عثمان بن عفان رجلا شريرا ويكون على بن أبي طالب رجلا شريرا ويكون الحسن بن على رجلا شريرا وهكذا .. فبهت الشاب وأسقط في يده ..
وقد سقت هذه الواقعة ليقف القارئ على مدى سذاجة الناس في نظرتهم إلى الأحداث , وفي تقديرهم للرجال ومدى فقدانهم للوعي السليم وافتقارهم إلى ميزان دقيق يزنون به الأمور.
- • بعثة الأزهر للتوعية:
إن كل ما نزل بالإخوان في ذلك العهد من مصائب وما انصب علي رءوسهم من ويلات لم يجرح قلوبهم ,ولم يدم أفئدتهم .. ولكن الذي جرح قلوبهم وأدمي أفئدتهم هو ما سمي " بحملات التوعية الأزهرية ".
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وينبغي ألا يتطرق إلى ذهن القارئ أن الأزهر كان عدوا للدعوة الإسلامية المتمثلة في الإخوان المسلمين فإن شباب الأزهر كانوا هم عماد دعوة الإخوان وكانوا في مقدمة من صب على رءوسهم البلاء ... ولكن الذين أقصدهم هم فئة قليلة من كبار الشيوخ عبدوا المناصب ونسوا الله فأنساهم أنفسهم .
في خلال فترة وجودي في " أبو تيج" كان الأخ الكريم الشيخ أحمد شريت مفتش الوعظ في محافظة أسيوط . ولم تكن الحكومة قد تيقظت بعد إلى أنه من الإخوان المسلمين فكان لذلك حر الحركة .وكنا حريصين على ألا يكون اتصاله بنا اتصالا مباشرا حتى يمكننا الإبقاء على حريته فكان يتصل بنا عن طريق أشخاص معينين.
وفي يوم من الأيام جاء رسول الشيخ أحمد ينقل إلينا الخبر التالي :
وصلت إلى أسيوط بالأمس " حملة الأزهر للتوعية " مكونة من عدد من العلماء برياسة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز ( مدير الوعظ والإرشاد بالأزهر ووكيل الأزهر فيما بعد).
ولما كنت المسئول عن الوعظ في المحافظة فقد كنت في استقبالهم وطلبوا إلى أن أرافقهم لمقابلة المحافظ – كمال الديب باشا – ليستأذنوه في المرور ببلاد المحافظة فرافقتهم .
ولما دخلنا مكتب المحافظ استقبلنا الجرل وأخذنا مجالسنا . وشرع الشيخ دراز باعتباره رئيس الحملة – يتحدث عن الإخوان المسلمين حديث يطعن في إيمانهم .. فلما أحس أن الحديث بهذا الأسلوب لا يلقي قبولا لدى المحافظ اختصر الشيخ الكلام ولجأ إلى أسلوب آخر فقال : إن الإخوان المسلمين هم السبب في أن فقدت البلاد رجلين من رجالها فسأله المحافظ.. ومن هما الرجلان ؟ فقال الشيخ : النقراشي باشا وحسن البنا فإذا بالمحافظ ينطلق قائلا : ولكن يا فضيلة الشيخ " حسن البنا " لا يعوض .
وكأنما كانت كلمة المحافظ هذه سهما أطلقه على الشيخ فأصاب منه مقتلا إذ سكت الشيخ وارتج عليه ولم يتكلم حتى استأذن وانسحب برجاله .
ولا داعي من ناحيتنا نحن للتعليق على كلمة هذا الرجل الكبير الذي نطق بما نطق به وهو في منصبه الرسمي ممثلا للحكومة السعدية في وجه شيخ كبير من شيوخ الأزهر معروف بميوله لحزب الحكومة – كما لا أري داعيا للإشارة إلى ما قامت به حملة التوعية هذه من جوب البلاد تنشر الأكاذيب وتشيع البهتان وتثير الفتن مشيعين من أهل الريف الطيب في كل مكان نزلوا فيه بالاحتقار والازدراء .
ثانيا – شخصيات ومواقف عامة
في الأسطر القليلة السابقة أشرت إلى شخصيات ومواقف لابستها في الوضع الذي قضت فيه أحرج أوقات المحنة وكانت هنالك فينفس الوقت أحداث تجرى وشخصيات تتكشف ومواقف تتحدد , على مستوى القطر كله .. في القاهرة حيث حيكت المؤامرة وحيث المسرح الذي تتصارع على خشبته القوى المتآمرة والقوى المتحالفة والقوي المتزلفة والقوى المؤمنة,والقوى الشريفة ذات الضمير وذات المبدأ .
وأحاول هنا إن شاء الله أن أضع بين يدى القارئ نماذج من هذه الشخصيات وعينات من هذه المواقف ليتبين له دورها فيحكم على كل منها الحكم الذي هي جديرة به
- • الأول الهيئات الدينية
وهذه الهيئات إما رسمية ويمثلها الأزهر . وإما شعبية وهي الهيئات التي تناولنا تفصيلها في الجزء الأول من هذا الكتاب .. أما الأزهر فإنه كان يستغل في بعض المواقف أسوأ استغلال ونجد الحكومات في ضعاف النفوس من بعض شيوخه من يضع نفسه في خدمتها وحسبنا ما ذكرناه آنفا .
وأما الهيئات الشعبية فكانت في تلك الأيام تغط في نوم عميق وترى دورها قاصرا على تكفير بعضها بعضا لزيارة ضريح أو لتفسيرات مختلف عليها لآيات معينة وموقفها بعد ذلك إزاء ما يجرى على أرض هذه البلاد موقف سلبي حيث تعتقد أنها إذ فعلت ما فعلت مما أشرنا إليه فقد أدت حق الله والإسلام والوطن والمروءة.
ولكن الهيئة الإسلامية الشعبية الوحيدة التي لم ترض لنفسها هذا الموقف هي جمعية الشبان المسلمين ,وذلك بفضل رئيسها الرجل الشجاع المؤمن المناضل صاحب التاريخ المجيد اللواء صالح حرب – وقد ألمحنا إلى بعض مواقفه المجيد في مختلف المناسبات – وبفضل رجال حوله أوفياء مثل عبد القادر بك مختار والدكتور يحي الدرديري .. وإن كان يؤسفنا أن نذكر أن من أعضا مجلس إدارة هذه الجمعية من لم يكونوا على مستوى رئيسهم شجاعة مروءة ونجدة ووفاء في خلال تلك الأيام الملتهبة التي كشفت عن معادن الناس .
وقد يأتي توضيح ذلك في سطور قادمة إن شاء الله .
- • الثاني الملك
كان يكفي دليلا على تجريم فاروق في هذه المؤامرة الدنيئة أنه هو الذي كان محتضنا حزب السعديين منذ حكومة أحمد ماهر إلى آخر أيام إبراهيم عبد الهادي .. ومعروف أن السعديين حزب لا قاعدة له من الشعب فهو يستمد سلطته وقوته بل ووجوده من الملك.. وما كان هذا الحزب ليجرؤ على الانقضاض على ما انقض عليه من مقدرات الشعب وحرياته لولا ثقته المطلقة في تأييد السراي له ومباركتها اتجاهه الأثيم ..ولكننا لن نكتفي بهذا الدليل الدامغ وسوف نلجأ إن شاء الله في إثبات الإدانة إلى ما جاء في التحقيقات التي أجراها القضاء في القضية:
- • من شهادة الأستاذ فؤاد شيرين :
في 18 /3 / 1953 طلب الأستاذ فؤاد شيرين الذي كان محافظا للقاهرة أيام وزارة عبد الهادي للشهادة أمام المستشار محمد على جمال الدين الذي انتدب لإجراء التحقيق فسأله المحقق :
س- ألم تعلم باعتقال الشخص الذي كان الشيخ البنا يريد الإقامة عنده ؟
ج- لا.. لأن شئون الإخوان لم تكن تعرض على ولا أخطر بها . والسبب في ذلك أنني كنت أخالف في رأي السراي والحكومة في موضوع الإخوان ..وهذا الخلاف كان ينصب على حل هذه الجماعة..وقد أوضحت للأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي في ذلك الوقت – وكانت السراي تؤيد الحكومة في موقفها من ضرورة حل الإخوان – فأوضحت له أن ذلك قد يكون له نتائج سيئة , آذان للإخوان هيئة يرجعون إليها في تصرفاتهم ويخشونها فإذا حلت الهيئة لم يعد أفرادها يخشون أحدا .. ولكن لم يؤخذ برأيي .
'ح'نص غليظ- وبعد حل الإخوان ببضعة أيام قابلت الأستاذ حسن يوسف فقال لى : إن جلالة الملك يقول لك " إننا حلينا الإخوان ولم يحدث شئ".. وقال المحافظ في التحقيق أيضا أنه ليس لديه معلومات عن الرقابة على الشيخ البنا إذ كان ذلك من اختصاص القسم السياسي بالاتفاق مع رئيس الحكومة ووزارة الداخلية .
خ- ( ليلاحظ القارئ أن الأستاذ فؤاد شيرين صاحب هذا الرأي المخالف للحكومة والملك كان المفروض أن تعزله الحكومة – جريا على سياستها – أو تنقله إلى عمل آخر لكنها لم تفعل ولم تجرؤ على ذلك حيث كانت تربطه بالسراي صلة قرابة ونسب ..وبهذا نجا الرجل الصالح من بطش الحكومة الغاشمة .وقد يذكرنا موقفه هذا بموقف مؤمن آل فرعون الذي حكي لنا القرآن عنه فقال : ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصيبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) غافر : 28:29)
- • من شهادة الأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي
ثم استدعي المحقق الأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي ودار التحقيق معه على الوجه التالي :
س- ألم يدر بينك وبين الأستاذ فؤاد شيرين أى حديث بخصوص جماعة الإخوان ؟
جـ - أذكر أن الأستاذ شيرين زارني وأفهمني أن من المصلحة تعاون القصر مع الإخوان وأنه – بحكم صلته بهم – مستعد لتلقي أى توجيه من الملك .. فأخبرته بأن هذه المهمة تعتبر من المسائل السياسية وأحلته على رئيس الديوان ..وأذكر أنني بلغت رغباته واقتراحه للملك فقال لى فيما يتعلق باقتراحه لخاص بالإخوان : أن ردك عليه في محله .
س- هل لديك معلومات عن حادث اغتيال الشيخ حسن البنا ؟
ج- أذكر أن الملك اتصل بي تليفونيا في مساء يوم الحادث وكنت في منزلي . وأظن أنني كنت نائما وقال لى : هل سمعت الحادث ؟ فقلت له : أى حادث ؟ فقال : الشيخ حسن البنا ضربوه بالرصاص .. وأذكر أنني قلت لا حول ولا قوة إلا بالله وأرجو ألا يكون قد أصيب وأن يكون الجناة قد قبض عليهم . فقال : لسه ما فيش تفاصيل.
س – هل تعلم ممن تلقي الملك هذا الخبر؟
ج- أنا ليس لى معلومات بهذا الشأن وفيه بوليس سرى لذلك..وأذكر أنه كان من عادة الملك أن يكون هو البادئ بإخبار رجال الديوان بالحوادث الهامة على سبيل الزهو .
- • من شهادة محمد حسن الأمين الخاص للملك .
ثم طلب المحقق محمد حسن الأمين الخاص وكان التحقيق على الوجه الآتي :
س- أما كان الملك السابق يبدي تخوفه من الإخوان المسلمين قبل حصول الحادث ؟
جـ- ما فيش شك .. إنه كان يبدي تخوفه من الإخوان من ناحية أن الجماعة دول راح يقلبوا نظام الحكم.
س- ألم يبد منه ما يدل على رغبته في التخلص من هذا الحزب ومن رئيسه ؟
كان متخوفا منهم ولكنه لم يبد أمامي رغبة في التخلص منه وكل مالا حظته بعد وقوع الحادث أنه لم يكن ممتعضا من وقوعه, بخلاف مالا حظته عندما قتل النقراشي حيث كان متأثرا جدا في حين أنه وقت مقتل الشيخ حسن البنا لم يظهر أى تأثر بتاتا .
س- ذكرت في أقوالك في قضية مقتل الضابط عبد القادر طه أن الضابط محمد وصفي قال إنه سينفذ الجريمة أى قتل عبد القادر طه بواسطة ضابط وعسكريين فهل ذكر اسم هذا الضابط العسكريين ؟
جـ - لم يذكرهم وإنما أورد هذا في سياق حديثه لأحمد كامل قومندان بوليس السراي وسمعت وصفي يقول لأحمد كامل أن دول هم اللي قتلوا الشيخ حسن البنا .
س- ألم تسأله عن أسمائهم ؟
ج - أنا لم أسأله . وما أعرفش إذا كان أحمد كامل يسأله أم لا .. ووصفي كان بيقول هذا الكلام اعتدادا بنفسه , وبيقول أنا عندي رجاله وفيه عسكريين رايح أنقلهم من الصعيد وقال إن دول أولاد قتالين قتلة , ويقتلوا ولا يهمهم وقال لنا أهم دول اللي حسن البنا عيني عينك ولم يذكر أسمائهم .. ووصفي قال كما أنه بعد ما أصيب حسن البنا هو راح المستشفي بقصد إنه إذا كان حيا يخلص عليه
- • من شهادة أحمد كامل :
ثم استدعي المحقق أحمد كامل قومندان بوليس السراي وسأله عن شعور الملك السابق نحو الإخوان فقال :" كان الملك متخوفا من الإخوان كثيرا , لدرجة أنه كلفني في ذلك الوقت أن أشدد الحراسة عليه في تنقلاته وعمل حواجز حديدية على الأبواب الرئيسية لسراي القبة وعابدين لإجبار السيارات الداخلة إليها على الوقوف والتحقق ممن فيها كما طلب مني إخراج المستخدمين والموظفين الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان من السرايات والتفاتيش الملكية – واعتقادي الشخصي أن هذا الحادث ارتكب لحساب الملك السابق والحكومة "
- • الثالث الأحزاب:
أ- مصر الفتاة :

كان موقف مصر الفتاة موقفا كريما , وقد وضح للقارئ ذلك من مرافعات الأستاذ أحمد حسين في قضايا الإخوان كما وضح في كلمته التي نشرها في جريدة المصري حين رجع إلى مصر من زيارة قام بها إلى انجلترا .
ب- اللجنة العليا للحزب الوطني :
ونحب أن نذكر القارئ بأن هذه اللجنة هي شئ آخر غير الحزب الوطني وهي مجموعة من شباب الحزب الوطني أرادت أن تحمل الحزب على الاحتفاظ بمبادئه التي وضعها مؤسسه مصطفي كامل فلما يئست من استجابة كبار رجال الحزب اتفصلت عنه وحملت هي مبادئ مصطفي كامل ورأسها الأستاذ فتحي رضوان .
وهذه اللجنة لم تأل جهدا في الدفاع عن الإخوان حتى في عنفوان المحنة مخاطرة في ذلك بمستقبلها فلقد كانت الهيئة الوطنية الوحيدة التي لجت لدى حكومة النقراشي باشا على حل الإخوان المسلمين عندما صدر هذا الأمر , فقد نشرت جريدة " المصري " في 8/2/1950 تحت عنوان " اللجنة العليا للحزب الوطني تعترض على أمر حل الإخوان المسلمين " ما يلي :
تلقينا من الأستاذ فتحي رضوان البيان التالي باسم اللجنة العليا للحزب الوطني:
- " حينما نشر الأمر العسكري رقم 63 في 8 ديسمبر 1948 قاضيا بحل جمعية الإخوان المسلمين أذاعت اللجنة العليا للحزب الوطني بيانا تعترض فيها على هذا الأمر على أسس من الدستور . قم قال . ولم يفت اللجنة أن تقول في بيانها – الذي لم تأذن الرقابة وقتذاك بنشره – إنها لا تحتج على حل هيئة الإخوان المسلمين تشيعا لها ولا تشيعا ضد خصومها وإنها تصدر في ذلك الاحتجاج عن حرص على نص الدستور وروحه .. وقد كفل الدستور في المادة 21 للمصريين حق تكوين الجمعيات .. ثم قال .
ولم يفت اللجنة أن تقول في بيانها – الذي لم تأذن الرقابة وقتذاك بنشره – إنها لا تحتج على حل هيئة الإخوان المسلمين تشيعا لها ولا تشيعا ضد خصومها وإنها تصدر في ذلك الاحتجاج عن حرص على نص الدستور وروحه....
وقد كفل الدستور في المادة 21 للمصريين حق تكوين الجمعيات .. ثم قال
ونحن نذكر اليوم ما ذكرناه بالأمس من أنه لا توجد هيئة سياسية لم ينسب إلى أفراد أو جماعات من التابعين لها اتكاب الجريمة أو الجرائم . وقد صدرت أحكام ضد البارزين في كل هيئة سياسية في مصر – ومع ذلك لم يقل أحد أن هذه الهيئات تتحمل وزر عشرة أو عشرين من أعضائها .
ولعل من أبلغ الأمثلة على أن ما يلقيه التطاحن السياسي على الأحزاب والجماعات السياسية من ظلال الجريمة يكون ظالما أو على الأقل يكون عارضا يزول مع الزمن أن غاندي وهو الداعي إلى المسالمة قضت عليه محكمة الهند أكثر من مرة على أساس مسئوليته عن جرائم التخريب والشغب والقتل . ونحن لا نزال نذكر أن المرحومين ماهر والنقراشي أتهما بالقتل ولم ترتض بريطانيا الحكم الصادر ببراءتهما"
- ج- حزب الأحرار الدستوريين :
أما حزب الأحرار الدستوريين ومعه المستوزرون وهم الذين كانوا يسمون بالمستقلين فقد سجلوا على أنفسهم الخزي والضعة لقد كانوا يتهربون من لقاء الأستاذ المرشد العام فإذا زار أحدهم أمضي الجلسة يتلفت يمينا وشمالا خوفا من أن يراه أحد مع الأستاذ المرشد فيبلغ رئيس الوزارة فيغضب عليه ولقد عبر الأستاذ محمد يوسف الليثي وقد كان أكثر شخص اتصالا بالأستاذ المرشد في تلك الحقبة – عن ذلك فقال : إن الأستاذ المرشد كان يحس بمرارة من خسة هؤلاء الناس وجبنهم حين كان يزور بعضهم على أمل أن يجد منهم من يكون وسيط خير بينه وبين الحكومة ولقد كان يزور واحدا منهم ومعه شقيقه عبد الباسط فإذا بالرجل يفزع ويسأل : من هذا الذي يرافقك ؟ فهذا الأستاذ من روعه وقال له لا تفزع إنه شقيقي عبد الباسط البنا . أما موقف حزب الوفد فنرى أن نؤجله حتى توضحه فصول قادمة إن شاء الله
- د. الحزب الوطني :
..... ولحزب الوطني – كما سبق لنا الحديث عنه – هو بحكم نشأته وبمقتضي دستوره الذي وضعه مؤسسه مصطفي كامل رحمه الله وارتضاه صحبه وأنصاره .وهو أقرب صورة من الأحزاب السياسية – إلى هيئة الإخوان المسلمين – فهو يؤمن بما يؤمن به الإخوان من الرابطة الإسلامية والامتداد التاريخي الإسلامي والتربية الإسلامية ... ولا أزال أذكر حتى الساعة أنني كنت وأنا صغير أسمع والدي وأعمامي – وكانوا يمثلون قيادة الحزب الوطني في رشيد في إبانه – يتحدثون عن المسرحية التي كلفهم الحزب بتمثيلها أمام الجمهور وقاموا هم بتمثيل الأدوار الرئيسية فيها وهي تشرح للمشاهدين المعاني الإسلامية العليا والروابط الأخوية بين المسلمين في بقاع الأرض والتي قامت على أساسها الدولة الإسلامية الجامعة الممثلة في " الخلافة "
ولقد تعاقب على زعامة هذا الحزب بعد مؤسسه رجلان, أولهما محمد فريد , وقد سار على نهج زعيمه مصطفي كامل حتى مات مشردا غريبا – ميتة المجاهدين – وخلفه من بعده حافظ رمضان فتابع سيرة سابقيه في أول الأمر محترزا من فتنة الحكم فكان الحزب – مع انحسار عدد مؤيديه – رمزا للثبات على المبدأ وللكفاح الحر الشريف العارف عن المغانم الرخيصة التي كان الكل في ذلك الوقت يلهثون وراءها مدعين أنهم يجاهدون ومما تجدر الإشارة إليه أنه في خلال هذه الفترة التي نتكلم عنها قد ظهرت في أفق السياسة المصرية بدعة المفاوضة في حقوق البلاد في حين كانت النغمة التي ضرب علي وترها مؤسس الحزب الوطني وطرب لها الشعب كله هي " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " واقتضي هذا المبدأ أن يقاطع الحزب مناصب الحكم ما دام الغاصب يحتل البلاد . فلما ظهر الزعماء الجدد وعلى رأسهم سعد زغلول فتنوا الشعب بنغمتهم الجديدة فتبعوهم مولين ظهورهم للحزب الوطني آملين أن تتحقق آمال البلاد بالأسلوب الهين الين الجديد.. ومع توالي الأيام صار الوصول إلى كراسي الحكم هو الهدف الأصيل للزعماء الجدد وتميعت قضية حقوق البلاد..
على أن الحزب الوطني لم يقف موقفا سلبيا من الأوضاع الجديدة بل كان له أعضاء في مجلس النواب من أمثال محمد محمود جلال , ومحمد فكرى أباظة, وعبد اللطيف الصوفاني ,والدكتور عبد الحميد سعيد وعدد آخر من إضرابهم , كانوا يزلزلون بمساجلاتهم ومناقشاتهم واستجواباتهم أرجاء هذا المجلس . وكان الناس يترقبون نصوص ما يصدر عنهم في المجلس ليقرأوه بإمعان , حيث مستقر في نفوس الناس أن هذا هو الموقف الجاد. والرأي الأصوب والتوجيه السليم , لأنه صادر عن أشخاص عزفوا عن مناصب الحكم وما يلازمها من ضغوط وإغراءات – وكان هؤلاء النواب فوق كل هذا موئل كل مظلوم وملتجأ لكل من حاقت عليه السلطة .
ولكن يبدو أن المسئولين في هذا الحزب قد طال عليهم الأمد , وخيل إليهم أنهم إذا هم أدخلوا بعض التعديل على خطتهم فإنهم قد يحققون من أهدافهم الوطنية ما لم يحققوه طيلة عهودهم الماضية – وكان هذا التعديل الذي أدخلوه هو استعدادهم للمشاركة في الحكم مع وجود حيوش المستعمر جاثمة على صدر البلاد وكان في هذا التعديل خروج سافر على شعارهم العتيد وتجاوز لمبدئهم القويم ..أدخلوا هذا التعديل الكبير على خطتهم فانظر ماذا حققوا من وراء هذا التعديل .
• ماذا حقق الحزب الوطني بخروجه على مبدئه الأصيل ؟
1- كان من أوائل الوزارات التي اشترك فيها الحزب الوطني وزارة أحمد ماهر باشا في 9/10/1944 اشترك فيها رئيس الحزب حافظ رمضان باشا وزيرا للعدل – وكان منحه رتبة الباشوية دليلا على رضا السراي عنه ... وهذه الوزارة هي الوزارة التي باءت بإثمين كبيرين أحدهما داخلي وهو التضامن مع جيش الاحتلال في إسقاط المرشد العام حين رشح نفسه لمجلس النواب في دائرة الإسماعيلية – مما أتينا على تفصيله في الجزء الأول من هذا الكتاب.
والإثم الخارجي الذي باءت به هو استجابتها للمستعمر في إعلانها الحرب على المحور فكانت بهذا الإعلان قد خرجت على إجماع الأمة بجميع أحزابها وهيئاتها وطوائفها في وجوب أن تقف بلادنا على الحياد . وقد راح رئيس هذه الوزارة ضحية هذا الخروج على إجماع الأمة .
فماذا فعل اشتراك رئيس الحزب الوطني في هذه الوزارة ؟ هل استطاع أن يحول بينها وبين التواطؤ مع المستعمر ؟ وإذا فرضنا أنه حول ذلك ففشل فهل استقال احتجاجا على خطة لا يرضاها ؟.... لم يفعل من ذلك شيئا .
2- وبعد مقتل أحمد ماهر خليفة النقراشي فتولي الرياسة والداخلية و الخارجية وأبقي على الوزارة بتكوينها الذي كانت عليه . ومعني هذا أن الحزب الوطني ظل ممثلا في هذه الوزارة برئيسه .... فماذا فعلت الوزارة التي تولت الحكم في أواخر فبراير 1945 وماذا سجل التاريخ لها ؟
لم يسجل لها شيئا وإنما سجل عليها المذكرة الرزيلة المتخازلة التي تقدمت بها إلى المستعمر للمطالبة بحقوق البلاد بعد نحو عام ضيعته في إعدادها فكانت على حد قول القائل :" سكت دهرا ونطق كفرا " مما أطمع المستعمر وقوى مركزه وجعل مصر في مواقف المستجدي لا في موقف المطالب بحق مغتصب- وقد دمغت جميع الهيئات والأحزاب هذه المذكرة بالخزي والعار .
3- ثم ختمت هذه الوزارة النكدة أيامها البغيضة بعار لا يمحي على الزمن ..تلك هي مذبحة كوبري عباس الثانية التي نوهنا عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب وأصيب فيها 160 طالبا فقد منهم ثمانية وعشرون.. والفرق بين هذه المذبحة وبين سابقتها في نفس المكان عام 1936 أن الذي أمر بالضرب في الأولي ضابط انجليزي ولكن الذي أمر بالضرب في هذه مصري هو عبد الرحمن عمار وكي الداخلية المصري الذي تتبرأ " المصرية " منه ومن وزيره الذي فوضه في ذلك ... فماذا رئيس الحزب الوطني المشترك في هذه الوزارة ؟
ثم جاءت بعد ذلك وزارتان أولاهما برياسة إسماعيل صدقي والأخرى برياسة النقراشي مرة أخرى ولم يشترك الحزب الوطني في هاتين الوزارتين وإن اشترك رئيسه في وزارة النقراشي ثم استقال – وقد أحسنا الظن آنذاك وقلنا لعل الحزب رأي أنه مخطئ في العدول عن خطته الأصيلة بعد أن جرب فعاد عليه الاشتراك في الحكم بخسران مبين ولكن هذا الظن قد اصطدم بتصرف عجيب من الحزب نفسه .. فبعد أن اصدر حزب السعديين الأمر العسكري بحل الإخوان واغتيل النقراشي على أثره وأسندت الوزارة إلى إبراهيم عبد الهادي رأينا الحزب الوطني يشترك في هذه الحكومة بوزيرين هما عبد العزيز الصوفاني سكرتير الحزب ومحمد زكي على أحد كبار أعضائه .
ولا داعي هذه المرة للسؤال الذي نسأله في كل مرة اشترك فيها الحزب عما فعل اشتراكه للبلاد من خير فإن مجرد اشتراكه في وزارة يعلم الجميع سمتها والظروف المحيطة بها يثير الفزع ويبعث على الريبة والاشمئزاز ثم إن هذا الاشتراك قد استمر حتى بعد ارتكاب هذه الوزارة جريمة اغتيال المرشد العام !!
4- ومع كل هذا الذي جنح إليه الحزب من الانغماس في حمأة السياسة المشبوهة فإن الأستاذ المرشد العام – بما طبع عليه من مرونة ورحابه صدر وتقديم لحسن الظن دائما والتماس العذر لكل من بدا منه انحراف أو تقصير – لم يسئ الظن بهذا الحزب ولم يفقد الأمل فيه بل ظل يعتبره في مقام الأقربين الأولي بالمعروف , والأحق بأن يتشاور معهم .. فلما صدر أمر الحل كان أول من فكر في التشاور معه حافظ رمضان باشا ,, بحثا عن وسيلة لتسوية الأمور بين الإخوان والحكومة .
وقبل أن أترك مجال الحديث للأستاذ فتحي رضوان الذي كان أشد أعضاء هذا الحزب اتصالا بأحداث هذه الفترة وألصقهم بأشخاصها وأكثرهم معاناة لتناقضها – أراني مطالبا أن أحيط القارئ علما بما تلا وزارة عبد الهادي من وزارات حتى أصل إلى الظروف التي اضطر الأستاذ فتحي رضوان أمامها إلى الكشف عن حقائق كان يجهلها أكثر لناس فيما يتعلق بقصة الحزب الوطني مع الإخوان وقصته هو ومجموعة من زملائه أعضاء الحزب مع الحزب نفسه .
فقد أسند الحكم بعد سقوط عبد الهادي إلى وزارة ائتلافية اشتركت فيها جميع الأحزاب ومنها الحزب الوطني كما اشترك فيها مصطفي مرعي ممثلا للمستقلين وكانت برياسة حسين سري ثم استقالت هذه الوزارة وألف حسين سري وزارة كل أعضائها محايدون أجرت الانتخابات التي أسفرت عن فوز حزب الوفد فألقت وزارة وفدية برياسة مصطفي النحاس وكان فؤاد سراج الدين وزير الداخلية بها .
وعلى غير ما هو معهود في وزارات الوفد ولأسباب لا يعلمها إلا الوفد نفسه غيرت هذه الوزارة أسلوبها ,وأخذت تصانع الملك وتلاينه مما قضي على السبب الوحيد الذي كان يجعل الملك دائما في ضيق من وزارات الوفد حيث كان يتلمس لها الأخطاء ويتصيد الفرص لإقالتها والتخلص منها .
ولعل هذا الشعور الجديد بين الوفد والملك قد ألقي في نفوس السعديين وأحزاب الأقلية الأخرى اليأس من أن تتاح لهم فرصة في المستقبل للاستمتاع بمناصب الحكم فقد سد الوفد المنفذ الذي كانوا ينفذون إليها منه ... فماذا هم فاعلون ؟
اجتمعوا جميعا وقرروا رفع عريضة موقعة منهم إلى الملك يتباكون فيها على البلاد لما انتشر فيها من فساد في جميع مرافقها , ويطالبون بإصلاحات في كل ناحية ..ويومئون في خلال فقراتها من طرف خفي إلى مواطن ضعف تمس الملك شخصيا ..وكانت هذه الإيماءات التي بثها السعديون بالذات بين سطورها هي بيت القصيد والأمل الوحيد - كأنهم يهددون الملك قائلين : إذا لم تنتبه إلينا وتعرنا التفاتا فسنجهر بها إلى الشعب – ونحن أعرف الناس بأسرارها لأننا نحن الذين يسرنا لك أمرها يوم كنا نعمل لحسابك ..
واستطاعت حكومة الوفد أن تحول دون وصول العريضة إلى الملك فأخذوا في سلوك الطريق الآخر باستجواب قدمه مصطفي مرعي في مجلس الشيوخ - وهو المستقبل الذي حشر نفسه وسط أصحاب العريضة ولكنه كان مستوزرا وقد كشف هذا الاستجواب حقيقته فقد ثبت منذ اللحظة أنه حليف إبراهيم عبد الهادي ومولاه ويده التي يبطش بها وعقله الذي يدبر به ويحيك المؤامرات .
وكان الإخوان في ذلك الوقت قد خرجوا من المعتقلات ورأت الأحزاب التي نفذت خطة الإبادة بعينها كما رأي غيرهم أن هذه الخطة قد فشلت كل الفشل .. فالإخوان عادوا كما كانوا من قبل قوة وعزما وثباتا وحيوية .. فأخذ كل حزب يتزلف إليهم ويتملص مما هو منسوب إليه من مساهمة في خطة الإبادة أو إعانة عليها .
والآن أترك المجال للأستاذ فتحي رضوان ليروي قصة الحزب الوطني مع الإخوان في خلال الفترة العصيبة التي انصهرت في حر نارها المعادن الخبيث من الطيب :
قصة الحزب الوطني مع الإخوان
• ماسجلة حزبية بين الوفد والحزب الوطني بصدد الإخوان :
في 26 أكتوبر 1950 – في عهد وزارة الوفد – نشرت جريدة الأهرام تصريحا لفؤاد سراج الدين وزير الداخلية قال فيه : أن الإخوان سيباشرون نشاطهم قبل مايو المقبل .
وقد سأل مندوب " الأهرام " حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني في ذلك فجاء في رده :" وقد حاولت جهدي أن أقنع زملائي ممن وقعوا على " العريضة " المرفوعة إلى جلالة الملك بالنص فيها على وجوب إلغاء قرار حل الإخوان ولكنهم لم يوافقوا – ما عدا مكرم باشا – لأنهم كانوا في الحكم عندما صدر قرار الحل .
ولما قلنا لسعادته أنه كان عضوا في الوزارة التي أصدرت قرار الحل أجاب بأنه استقال قبل صدور القرار لأسباب سياسية معروفة ..وأخذ يهاجم قرار الحل .
وفي 27 أكتوبر قال "الأهرام ":تلقينا من الأستاذ عبد العزيز الصوفاني سكرتير الحزب الوطني الكلمة التالية " قرأت في أهرام اليوم تصريحا لفؤاد سراج الدين باشا نسب فيه إلى من يقولون بعودة الإخوان المسلمين إلى العمل وإلغاء أمر حلهم أنهم يتملقون هذه الجماعة باعتبارها طائفة من الجماهير – ويسألهم أين كانوا عندما صدر قرار الحل .
ولما كان حضرة صاحب السعادة حافظ رمضان باش رئيس الحزب الوطني هو صاحب وجهة النظر بادية الذكر , فيكون هو المعني من فؤاد سراج الدين باشا بما قال . ولما كنت سكرتير الحزب الوطني ويحكم هذا المركز كنت أطلع على ما يدور مع رئيس الحزب كما كان سعادته يخبرني أول بأول بما يجده عنده .. أقرر الآتي :
بعد أن صدر أمر حل جماعة الإخوان المسلمين زار المغفور له الأستاذ حسن البنا المرشد العام سعادة رئيس الحزب الوطني ليتبادل معه الرأي فيما يجب عمله ,وطلب إليه إن يبذل جهده لدى السلطات العليا لصالح الإخوان ويعمل على رفع الحيف الذي وقع عليهم بأمر حلهم .. فقام بهذا فعلا .. ورثي أن اللجوء إلى الهيئات النيابية قد يضر ضررا بليغا إذا ما وافقت تلك الهيئات على إجراء السلطة التنفيذية في حل هذه الجماعة .
إن الناس جميعا ومنهم فؤاد سراج الدين باشا يعرفون أن رئيس الحزب الوطني ليس بالرجل الذي يعمل دون عقيدة حبا في التملق للجماهير لكسب عطفهم لأن ما يعمله دائما يصدر عن عقيدة سليمة لوجه الله والمصلحة العامة ,كما يعرف فؤاد سراج الدين باشا بل هو أعرف الناس بهؤلاء الذين يلجأون إلى تملق والعمل على كسب عطفهم بالطرق الخداعة الملتوية ".
• الأستاذ فتحي رضوان يتصدى لكشف حقيقة موقف الحزب الوطني من الإخوان في محنتهم :
وفي 29 أكتوبر جاء بالأهرام ما يلي :
لمناسبة ما نشرته " الأهرام " عن الإخوان المسلمين لمعالي فؤاد سراج الدين باشا وسعادتي حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني والأستاذ الصوفاني سكرتير الحزب – كتب إلينا الأستاذ فتحي رضوان المحامي ورئيس اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني مقالا روي فيه قصة الحزب الوطني مع الإخوان كما عاصرها .وفيما يلي هذا المقال.
- " لما كنت قد اتصلت بالحوادث السابقة على حل الإخوان والمعاصرة للأمر العسكري الذي قضي بتصفية نشاطهم ومصادره أموالهم وما تفرع عن ذلك كله من اضطراب بلغ غايته بمقتل المرحومين النقراشي باشا والأستاذ حسن البنا فقد رأيت أن أضع تحت نظر الناس بعض ما يعين على تاريخ هذه الحقيقة المضطربة حتى يتبين الإخوان المسلمون على ضوئه طريقهم ..
في شتاء 1948 كنت دائم الاتصال المرحون الأستاذ البنا – وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره رحمه الله – جديا في أن يكل نشاط الإخوان المسلمين السياسي إلى الحزب الوطني وأن يقتصر عمله هو ودعوته على الناحية الدينية البحتة.
ثم وقع الحل فاتخذ المرحوم الأستاذ حسن البنا من مكتبي مكانا يلقي فيه بعض أنصاره ويتصل عن طريقه برجال السياسة والحكومة وفي أحد الأيام أفضى إلى أنه يود أن يكل إلى هيئة من رجال السياسة المصريين حزبيين ومستقلين وبعض المشتغلين بالشئون العربية والإسلامية بأمر الوساطة بين الإخوان وحكومة النقراشي باشا . وكان يؤمل أن تنجح وساطة هؤلاء الكبار في أن تخفف الحكومة من شدة إجراءات الاعتقال ,وأن تعفى من المصادر والحل للشركات التي تمارس نشاطا اقتصاديا وعلم الأستاذ الصوفاني بأن الأستاذ البنا عندي بالمكتب .وأننا نتناول فيما نشأ عن أمر الحل فحضر إلينا واشترك في الحديث إلى ساعة متأخر".
وأحطنا علما بما كنا فيه من التفكير في دعوة لجنة من الكبار تبسط للحكومة رأي الإخوان وتسعى بينهما بالخير والتوفيق . وأضاف الأستاذ البنا أنه كان يطمع في أن يقوم حافظ رمضان باشا بدعوة هذه اللجنة بداره ,وأن يوجه هو إلى أعضائها الدعوة ... وأخذ الأستاذ الصوفاني كشفا بأسماء أعضاء اللجنة ووضعه في جيبه ... وفي اليوم التالي ذهب إلى حافظ رمضان باشا وعرض عليه الفكرة والكشف . فنصحه حافظ باشا بأن يصرف النظر عن المشروع كله – وكان هذا آخر عهد المرحوم الأستاذ البنا بالأستاذ الصوفاني ورئيسه حافظ باشا .
وكان رحمه الله يتفضل بزيارتي كل ليلة بالمكتب وكانت بداية الحديث بيننا قوله لى مداعيا " ماذا فعل الباشا لنا وبنا .. نسينا أم غضب علينا ؟ وكنا نضحك . وكنت أقول له : أما قلت لك أن الخلاف بينك وبين الحكومة خلاف مبدئي لا تنفع فيه وساطة الوسطاء وكنت تقول هذا باب مفتوح يجب أن نطرقه حتى لا نكون في نظر الناس قد قصرنا في شئ .
وعين الأستاذ الصوفاني وزيرا بعد مقتل النقراشي باشا واشتدت وطأة الحكومة على الإخوان وضاق صدرها بمن يتصلون بهم أو يدافعون عنهم فرأيت من جانبي أن أرجو معالي مصطفي مرعي بك أن يلقي الأستاذ البنا ويستمع إليه وتوسطت في تحديد ميعاد لهما وكان مكان لقائهما في منزل مصطفي بك.. وذهب المرحوم الأستاذ البنا إلى الميعاد ومعه شقيقه الأستاذ عبد الباسط وكان الأستاذ البنا يحمل معه مسدسه المرخص فتجمل بإعطاء المسدس لأخيه حتى لا يلقي الوزير مسلحا وخصوصا في تلك الأيام الحرجة . وتحدث هو ومصطفي بك طويلا ,واستمع إليه مصطفي بك ونزلا معا فإذا بهما يجدان العسكري الحارس على دار مصطفي بك قد ألقي القبض على الأستاذ عبد الباسط فأمر مصطفي بك العسكري بإطلاق سراج عبد الباسط ووصل نبأ كل هذا إلى السلطات فاحنق بعضها على مصطفي بك وأحنق الجميع علي.
وعين الأستاذ الصوفاني وزيرا . وهو كما مر بك كان يلقي الأستاذ البنا وكان لا يكره أن يتوسط للإخوان عند رئيسه حافظ باشا وكان يعرف أن ما بيني وبين الإخوان ومرشدهم قبل وفاته هو الدفاع عن الحرية كمبدأ , ومشايعة الإخوان كفكرة وطنية تدفع الاستعمار ... فكم كان غريبا أن أسمع أن " معاليه" ذهب إلى مكتب دولة رئيس الوزراء ينقل إليه ما اتصل بعلمه من أنباء تعاوني مع الإرهابيين من الإخوان . ولما كانت الأقدار قد ساقت الأستاذ مصطفي مرعي بك فقد استمع إلى هذا الحديث وأدهشه أن يكون للأستاذ الصوفاني من مصادر الأخبار ما لم يتوافر لرئيس الوزراء نفسه ووزير الداخلية بالذات . ورأى أن خير ما يرصف به هذا الحديث " الخطر " هو أن يسأل عن رأي الأستاذ الصوفاني في بيان اللجنة العليا – التي أتشرف برياستها – في الأحكام العرفية ومحاولة مدها ..وأدرك رئيس الوزراء أن بين رأي اللجنة العليا في الأحكام العرفية والأخبار التي وصلت إلى علم الوزير الصوفاني بك صلة لا تخفي على لبيب .
وعرض أمر الأحكام العرفية على مجلس الوزراء وانقسم المجلس إلى فريقين فريق يرى مدها ستة أشهر وفريق يرى إطالة عمرها عاما .. وكان من رأي وزير اللجنة الإدارية التي يرأسها حافظ باشا رمضان أن يطول عمر الأحكام العرفية عاما وكان معني ذلك أن تطول مدة اعتقال المعتقلين عاما على الأقل . ولا يفوتك أن المبرر الوحيد عند الحكومة في ذلك الحين لإبقاء الحكومة على الأحكام العرفية هو جهادها ضد الإخوان المسلمين ودعوى اضطراب الأمن ..ولم يكن ثمة سبب لاضطراب الأمن عند الوزارة الإبراهيمية إلا الإخوان ونشاطهم " اللعين "
فإذا أضفت إلى هذا كله أن القبض والاعتقال والتفيش العسكري والتشريج العرفي استمر في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي كله ولم ينقطع يوما , وأن وزيرى اللجنة الإدارية المتشرفة برياسة حافظ باشا في وزارة إبراهيم باشا بقيا إلى آخر عهدها – أمكن لك أن تعرف مدى عطف الأستاذ الصوفاني ورئيسه على الإخوان ومدى اعتقادهما في صحة المثل الأعلى الذي تدافع عنه هيئة الإخوان وتؤمن به "
• ملاحظات على بعض ما جاء في حديث الأستاذ فتحي :
أولا – تفكير الأستاذ المرشد العام في أن يكل نشاط الإخوان السياسي إلى الحزب الوطني واقتصاره هو على الناحية الدينية البحتة , أمر لم يكن لى به سابق علم حيث كنت في ذلك الوقت بعيدا عن القاهرة ولكنني لا أستبعده فالأستاذ رحمه الله كان رجلا لبيبا مرنا واسع الحيلة ألمعيا وكان قد رأي غيوم المؤامرات التي أومأنا إليها – تتجمع في الأفق حتى أوشكت على سده .. فأراد بهذا الأسلوب أن يشق لدعوته منفذا تنفذ منه مؤقتا قبل أن تطبق عليها هذه الغيوم إطباقا كاملا فلا تجد منفذا ..
حتى إذا أفلتت من هذا الإطباق عملت بعد ذلك على تفتيت هذه الغيوم واسترداد ما وزعته من مسئولياتها الثقال في أثناء تفادي الإطباق وإلا فهو – رحمه الله – كان خير من يعلم أن فصل ما يسمونه " السياسة" عن الدين أمر لا يمكن تصوره بالنسبة للإسلام ولا في الخيال كما كان يعلم أيضا أن الحزب الوطني بتركيبه الذي كان عليه في تلك الأيام لا يصلح لحمل مثل هذه المسئولية ..
ولعله – رحمه الله – كان يهدف من وراء ذلك أن يدخل الطمأنينة إلى نفس الملك الذي كان أحد الأصابع المحركة في جهاز المؤامرات المتربصة بالإخوان خوفا منهم – ويعلم أيضا – رحمة الله أن الحزب الوطني في أسلوبه المستوزر الجديد أصبح من الأحزاب المرضي عنها ممن الملك ..ولكنه أى هذا الحزب لا يزال على كل حال أقلها سوءا .
ثانيا – جاء بصدد الوزير مصطفي مرعي في حديث الأستاذ فتحي ذكر واقعة تعرض لها الأستاذ محمد الليثي في حديث له نشر " بالأهرام " بعد حديث الأستاذ فتحي ..
وربما نقلنا بعض هذا الحديث وشيكا إن شاء الله لما فيه من أضواء ألقاها الأستاذ الليثي على شخصية الأستاذ مرعي وما لعبته من أدوار في قضية اغتيال المرشد العام ..وأستطيع أن أقول أن الواقعة التي أوردها الأستاذ فتحي في حديثه عن الأستاذ مرعي .. ربما كانت واقعة بذاتها تمت عن طريق الأستاذ فتحي دون علم الأستاذ الليثي وأنها وقعت قبل أن تبدأ اللقاءات الرسمية التي كلف بها الأستاذ مرعي من رئيس الوزراء والتي تمت في منزل اللواء صالح حرب .
ثالثا : بمناسبة ما ذكره الأستاذ فتحي عن رأي وزيري الحزب الوطني في وزارة عبد الهادي بصدد مد الأحكام العرفية . نضيف أن أحد هذين الوزيرين وهو محمد زكي على باشا كان وزيرا أيضا في وزارة حسين سري باشا التي خلفت وزارة عبد الهادي ..وأعلنت هذه الوزارة أنها ستعود بالبلد إلى حالتها الطبيعية وكان مفهوما أن الحالة الطبيعية هي رفع الأحكام العرفية .. غير أنها توانت في ذلك فشنت جريدة المصري حملة ضد إبقاء الأحكام العرفية ..وكانت هذه الحملة في صورة استفتاء للرأى العام في هذه القضية وقد وجهت السؤال في هذا الشأن إلى عدد كبير من رجال يمثلون قطاعات الرأي العام , وقد استمر الاستفتاء نحو أسبوعين ..
وفي نهاية المدة كتبت " المصري" تلخص نتيجة الاستفتاء فقالت – وكان ذلك في 25/10/1949 :-
- " الآن بقي أن نذكر من أمتنع عن الإجابة على سؤالنا : معالي محمود غالب باشا ( سعدي ) معالي على أيوب بك ( سعدى ) معالي محمد زكي على باشا ( وطني ) الدكتور نجيب محفوظ ( طبيب)..
وعلقت الجريدة على إجابة محمد زكي على باشا حين رد على سؤال الجريدة بصدد الأحكام العرفية بقوله :" ليس لى رأي "..ز فقالت الجريدة : كم كنا نتمني أن يكون لمعاليه - وهو الوزير المسئول – رأى في هذه المسألة ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وهذا الوزير كان في ذلك الوقت وكيلا لجمعية الشبان المسلمين : فلما مثل للشهادة أمام المحكمة في 18 /11/ 1953 – بعد طرد معبودهم فاروق – وأخذت المحكمة في توجيه الأسئلة إليه بشأن الأستاذ حسن البنا كان هو الشاهد الوحيد الذي أخرج منديله ليمسح دموعه التي ذرفها حزنا على فقده وحين سئل في المحكمة عن أخلاقه قال : أخلاقه .. هو حد يشك في أخلاقه ؟...
وكانت مفاجأة أن سمحت المحكمة لشاهد آخر هو الأستاذ محمد الليثي بمواجهة هذا الشاهد . فقال الليثي :" أنا لم أذهب إلى الأستاذ محمد زكي على بمكتبه بالوزارة إلا بناء على توجيه من الأستاذ عبد القادر مختار والدكتور يحيي الدرديري لأني أعلم أن الأستاذ زكي على كان غير موافق على حضور الشيخ البنا إلى الجمعية بعد حل الإخوان وإنني لم أذهب إليه لأستشيره بل ذهبت إليه لأستعين به بوصفه وزيرا لكي يمكنني من الإدلاء بأقوالي في النيابة .. ولكنه قال لى إليه أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنه وزير وأنه لم يقل لى كل لحقيقة بل قال لى أنهم يقولون أن هذا رجل مجرم ويقصد بذلك الشيخ البنا ولكن ما فيس مانع إنك تقول الحقيقة .
ولما استدعيته النيابة لسماع أقواله في هذه الواقعة غضب على وأبدي استياءه لأني ذكرت اسمه في التحقيق وأعرب عن هذا الشعور عندما طلب منه اللواء صالح حرب في إحدي المناسبات أن يجلس في مكتبي فلم يقبل وقال : حد الله ما بيني وبينه .. وذلك بعد أن سمع شهادتي أمام المحقق .وأنا لما نشرت بيانات عن الحادث في جريدة المصري احتج الأستاذ زكي مني فلم يكن لأجل تغيير النمرة وإنما لأنني عرضته لغضب الأستاذ إبراهيم عبد الهادي عندما كان رئيسا للوزارة ".
وهنا رد الاستاذ زكي على قائلا : إنني لم أكن أكره الشيخ البنا بل إنني كنت أعلم أن الشيخ البنا يريد أن يدمج الإخوان والشبان في جمعية واحدة وأنا كنت ضد هذا الرأي لأن مبادئنا تختلف عن مبادئهم .
هـ - الأستاذ مصطفي مرعي :
أما وقد أفردنا فصلا لتقييم أشخاص وإبرار مواقف في صدد ما نعالج من أحدث تلك الفترة فما ينبغي لنا أن نغفل شخصية هذا الرجل الذي رضي لنفسه أن يلعب الدور الذي أترك الحكم عليه للقارئ بعد أن أضع بين يديه الوقائع التي لن تكون من الوفرة والوضوح كما كان ينبغي أن تكون لأن الدور الذي أتم تمثيله وقع أكثره في الظلام الدامس الذي غطي رداؤه الأسود سماه البلاد أكثر من عام .
والأستاذ مصطفي مرعي محام كبير اختاره إبراهيم عبد الهادي في وزارته المشئومة وزير دولة ..ولم يكن هو وحده وزير الدولة في هذه الوزارة . ولكنه كان من بين وزراء الدولة في هذه الوزارة الوزير الوحيد الذي اختير لذاته , فقد كان زملاؤه مرشحين من أحزابهم أما هو فلم يكن منتسبا لحزب ..وإذا اختار إبراهيم عبد الهادي في وزارته تلك التي يعلم في قرارة نفسه المهمة المنوط بها إنجازها – والتي عرفها الناس فيما بعد – إذا اختار عبد الهادي لهذه الوزارة وزير دولة لذاته – في ظل تلك الظروف – فإنما ينتقيه على أساس من صفات معينة , ومقدرة خاصة تتلاءم والمهمة الموكول إلى الوزارة القيام بأعبائها .
ومهمة هذه الوزارة معروفة ..وإذا كان هناك من خامرة شك في معرفتها فقد سجل التاريخ وسجل التاريخ وسجل القضاء نوعها ومدى ارتباطها بما تم في أيامها من جرائم ...
- • كيف اختار عبد الهادي مرعي وزيرا ؟
اختار عبد الهادي هذا الوزير اختيار شخصيا بحتا , لما يعلم من كفاءته الفائقة لما رشحه للنهوض به من أ‘مال خطيرة يتوقف على إنجازها مستقبل هذه الوزارة ومستقبل رئيسها ... وقد اجتباه لنفسه وأئتمنه على أخص خصائصه فكان هو رئيس الوزراء والحاكم العسكري العام ووزير الداخلية للأمن العام , وكان الوزير المختار وزير دولة منوطا به الإشراف على الأمن العام .. وقد أثبت القضاء أن في ديان هذه الوزارة – وزارة الداخلية – وفي مكاتب إدارات الأمن العام بها قد حيكت المؤامرة الدنيئة لاغتيال المرشد العام . وربما لم يكن في وثائق تأليف وزارة عبد الهادي ما ينص على تعيين مرعي وزير دولة لشئون الأمن العام , ولكن الأحداث ومجريات الأمور هي التي وضحت مهمته هذه من بين زملائه وزراء الدولة بالحكومة , فقد جاء في شهادة الأستاذ محمد زكي على وزير الدولة بهذه الحكومة أمام المحكمة قوله :" الشيخ البنا جاءني أثناء كنت وزير دولة , وقال لى : أحب أن تلكم رئيس الوزراء فيما يتعلق بالإخوان فقلت له : أنا مش مختص وفيه وزير مختص " فسأله رئيس المحكمة : أمال مين المختص ؟ فأجاب : الأستاذ مصطفي مرعي .
ومعني أن وزير دولة بوزارة عبد الهادي هو المختص بشئون الإخوان . معني ذلك أنه هو المختص بشئون الأمن العام لأنهما في عهد هذه الوزارة كانا مترادفين .
- • حكومة الوفد مكنت القضاء من مسخ قضية الإمام :
وقد توالت على الحكم بعد سقوط عبد الهادي وزارتان برياسة حسين سرى ثم جاءت وزارة الوفد فوجدت نفسها أمام عاملين شديدى الضغط عليها ولكنهما متعارضان ضغط شعبي جارف يطالبها بفتح باب لتحقيق من جديد في قضية اغتيال المرشد العام.. هذا من ناحية . ومن الناحية الأخرى وجود الموصوم الأول بهذه الجريمة الملك – على رأس الدولة وهو المسيطر على شئون البلاد.. وكان خروج هذه الوزارة من المأزق إرضاء لمشاعر الناس ومصانعة للملك أن أمرت النيابة باستئناف التحقيق وأوعزت إليها فأصدرت في نفس الوقت أمرا بحظر نشر أى شئ عن هذا التحقيق .. فكان أمر الحظر هذا بمثابة إفقاد هذا التحقيق قيمته فإذا كان هذا التحقيق قد أتاح لبعض الشهود البرءاء من كل غرض كالأستاذ الليثي أن يقول الحقائق ويزوروا الوقائع بالطريقة التي تحقق أغراضها وتطمس المعالم بحيث يهيئ للمجرمين فرص الإفلات ويلقي بظلال الجريمة على البرءاء ..كان أمر الحظر الذي أصدرته النيابة حماية لهؤلاء المزيفين فقد كانوا في مأمن من أن يفتضح زيفهم فأني للناس أن يكشفوا هذا الزيف ما دام محجوبا عنهم ؟!
ولكن عاملا جديدا لم يكن بحسبان رجال الحكم قد طرأ على الموقف ذلك أن القضايا التي لفقها المستولون في عهد عبد الهادي ضد بعض الإخوان قد حل ميعاد نظرها أمام القضاء العادي – بعد أن زالت الأحكام العرفية وقد طالبت هيئات الدفاع في هذه أمام القضاء العادي – بعد أن زالت الحكام العرفية وقد طالبت هيئات الدفاع في هذه القضايا بضم ملف التحقيقات التي أجريت في قضية اغتيال المرشد العام . وأمرت إحدي هذه المحاكم بضم هذا الملف مع طبعه وتوزيعه على أفراد هيئة الدفاع وعن هذا الطريق افتضح السر الذي كان المتسترون على الجريمة يريدون أن يظل دفينا .
ونحب بهذه المناسبة أن نلفت النظر إلى أن التحقيق في هذه القضية قد تم على ثلاث مراحل :
المرحلة الأولي : في عهد وزارة عبد الهادي وحين كان محمود منصور نائبا عاما وقد طوى التحقيق بعد أيام قلائل حيث لم يجرؤ أحد – أمام الإرهاب الحكومي – على التقدم للشهادة . وقيد الحادث جناية ضد مجهول .
المرحلة الثانية : في عهد وزار الوفد وقد تم التحقيق بالطريقة التي ذكرتها آنفا وقد استحق أن يقال عنه إنه كان تحقيقا يجرى على استحياء فقد تستر صانعو الجريمة وراء قرار النيابة بحظر النشر وراحوا يختلقون قصصا كلها تزوير وكذب وافتراء .
المرحلة الثالثة: بعد أن قامت الثورة وطرد الملك فاروق . وقد تم التحقيق فيها ولكن طول المدة التي مرت بين ارتكاب الجريمة وبدء التحقيق في هذه المرحلة لم يتمكن التحقيق معها أن يصل إلى أغوار القضية وأن كان كشف الكثير من ظروفها .. وهو التحقيق المعول عليه والذي ننقل عنه في بحثنا هذا من أقوال وشهادات .
- • ادعاءات للأستاذ مرعي داحضة ومريبة :
وقبل أن نورد من أقوال الشهود وأقوال الأستاذ مرعي نفسه ما يلقي ضوءا على حقيقة دوره نوجز في النقاط التالية بعض ادعاءاته التي ادعاها وتبين مخالفتها للحقيقة :
1- ادعي أمام المحقق وأمام المحكمة أنه لم يكن له سابق معرفة بالمرشد العام إلا ما كان ينشر عن نشاطه ... وثابت ثبوتا قطعيا أن شقيقة المرحوم الأستاذ أمين مرعي المحامي بالإسكندرية كان رئيسا للإخوان بها في فترة خلال الأربعينيات ,وأنه رحمه الله – دعا المرشد العام لزيارة موطن أسرتهم وهي قرية من أعمال مركز فوه في البر المقابل لرشيد من النيل وكان والدهما رحمه الله عمدة هذه القرية وقد حضر هذا الحفل جميع آل مرعي كما حضره عدد كبير من إخوان رشيد .
فهل مثل مصطفي مرعي شقيق المرحوم أمين مرعي يجوز له أن يدعي أنه لا يعرف المرشد العام ولا يعرف عنه إلا ما يقرأه في الصحف ؟... نعم إن شقيقه قد فصل من منصبه في الإخوان بعد ذلك , ولكن ليس معني هذا أن الفصل من منصب يمحو حقائق التاريخ .
2- ادعي أمام المحققين أن الأستاذ المرشد هو الذي رغب في مقابلته فوسط اللواء صالح حرب في ذلك ..وقد كذبه في ذلك الادعاء الأستاذ محمد الليثي كما كذبه اللواء صالح حرب نفسه إذ قرر أن الأستاذ مرعي هو الذي رجاه أن يهيئ له مقابلة المرشد العام في بيته وقد تمت المقابلة فعلا في بيت اللواء وتكررت وكل مرة كانت تتم بناء على طلب الأستاذ مرعي .
3- ادعي أمام المحكمة أنه لم يأخذ من المرشد العام بيانا عنوانه " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " ثم ادعي أنه لا يعرف شيئا عن هذا البيان ولم يسمع عنه .. وقد كذبه في ذلك الأستاذ محمد الليثي واللواء صالح حرب .
4- لما أنكر أنه لم يسمع عن هذا البيان قالت له المحكمة إنه نشر في الصحف فادعي أنه لا يقرأ الصحف .. ولعل القارئ يري معي أن هذا ادعاء لا يستحق صاحبه حتى أن يكذب ( بتشديد الذال المفتوحة )
5- ادعي أمام المحكمة أنه إنما كان مجرد وزير دولة في وزارة عبد الهادي لا يعرف شيئا عن أعمال الوزارة وقد كذبه في ذلك الأستاذ الليثي بعبارات صدرت منه تفيد أنه كان الوزير المسئول عن الأمن العام وبشهادة زميله الأستاذ محمد زكي على بأنه كان مختصا بشئون الإخوان . • أضواء كاشفة على دور مرعي من شهادة الشهود ومن شهادته نفسه :
والآن نود من أقوال الشهود ومن أقوال الأستاذ رعي نفسه ما يؤيد ما جاء في هذه البنود الخمسة :
• من شهادة الأستاذ عبد الكريم منصور :
- "إن المرشد رغب في السفر إلى مكان آخر غير القاهرة ولكن الحكومة عملت على إبقائه فيها ليسهل اغتياله , واتخذت مصطفي مرعي كأداة صيد فقد أخذه مرعي بأساليب ملتوية ممقوتة للعمل على إبقائه في القاهرة موهما إياه بأن الحكومة ستلغي أمر الحل وتعيد الأمر إلى ما كان عليه معهم .
فسألته المحكمة : يعني إيه الطرق الملتوية؟
فأجاب : كان يوهمه بأنهم جادون في إعادة الإخوان ويقول له : بس لو سمحت تكتب بيانا صغيرا لإظهار حسن نية الإخوان وكان يملي عليه بعض الألفاظ ويعارض فيها الشهيد , وكان يحاول إقناعه بمختلف الأساليب لكتابة هذا البيان . وبمجرد ما كتب أخذه مرعي وأعطاه لرئيس الحكومة فعدلوا فيه وأحضره للشهيد وأقنعه بالتعديل ووقعه الشهيد . ثم أخذوه وأعطوه لقاتل النقراشي وقالوا له : شوف الشيخ حسن البنا بيقول إيه حتى يزلزلوا عقيدته .ثم قال : ودليل خبث سريرة مصطفي مرعي وسوء نيته أنه كان غير كريم في موقفه فقد افترى على الشهيد أقوالا لم تحدث إطلاقا ذكرها في التحقيقات ( في المرحلة الثانية ) والشهود الذين استشهد بهم مصطفي مرعي مثل صالح حرب كذبوه في أقواله .. مما يدل على أن هناك مسألة مبيتة وأن الأمور لم يكن المقصود منها مفاوضات"
• ومن شهادة الأستاذ محمد الليثي :
- " بناء على تكلف اللواء صالح حرب لى اتصلت تليفونيا في أوائل الأمر قبل محاولة نسف المحكمة – بالرموز المتفق عليها – بالأستاذ البنا وقلت له إن الباشا ( صالح حرب باشا ) يطلبك فحضر وقابل صالح باشا الذي أفهمه أن مصطفي مرعي اتصل به ويريد مقابلته في منزل اللواء الساعة الخامسة مساء .. فلما تم هذا الاجتماع علمت أن مرعي طلب من الشيخ البنا إصدار بيان يستنكر فيه قتل النقراشي , ووافق الشيخ بشرط أن تقف حركة الاعتقالات . فردت الحكومة البيان طالبة منه التبرؤ من الإخوان ..وأخيرا صدر البيان لكن الحكومة اعتبرته ناقصا لا يفي بالغرض المطلوب ..وبعد وقوع حادث محاولة نسف المحكمة تكررت اتصالات مصطفي مرعي باللواء صالح حرب للتفاهم على الأوضاع وأمر المعتقلين .. وتبرم الشيخ من هذه الاتصالات غير المجدية ورفض مقابلة مرعي خصوصا بعد حادث المحكمة ..واقترح مرعي أن يقابله في منزله ... وأخيرا اجتمع به واصدر الأستاذ البنا لمرعي بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " ورغم ذلك كله زادت حركة الاعتقالات ..وتضايق الشيخ من مرعي لأنه أحس بأنه يكلمه بلهجة الأمر لموظف لديه وشعر الشيخ بأن الأمور تزداد سوءا "
• ومن مقال للأستاذ الليثي بجريدة الأهرام :
وقد نشر بتاريخ 3/11/1950 قال الأستاذ الليثي :
- "وقد لعب سعادة مرعيبك في قضية الإخوان دورا خطيرا اكتنفه الغموض التام على الرغم من أنه لم يكن له أى اتصال سابق بالإخوان إلا ما عرف من أنه شفيق الأستاذ أمين مرعي رئيس جمعية الإخوان بالإسكندرية والذي أصدر فضيلة الأستاذ البنا قرار بفصله من رياسته لهذه الجمعية في عام 1947.
ولقد ترتبت على اتصالات مرعي بك بالأستاذ البنا نتائج خطيرة مما جعل الأمور تسير من شئ إلى أسوأ ..ونقل إلى الأستاذ البنا أن مرعي ينقل عنه أقوالا لم ترد على لسانه ما زاد موقف الإخوان سوءا على سوء وقد أيد ذلك ما جاء على لسان مرعي في أثناء تحقيق قضية مصرع الشيخ البنا إذ قال مرعي في ذلك التحقيق أقوالا يمنع حظر النشر في هذه القضية من أذاعتها هنا ( نشر هذا المقال في الوقت الذي كان لا يزال ساريا حظر النشر لما
يدور في أثناء التحقيق ) ولكنها تسئ بغير شك إلى ذكري الأستاذ البنا , وتهدف إلى إهدار دمه فقد أراد أن يدخل في روع المحقق أن الإخوان هم الذين قتلوا الأستاذ البنا "
• ومن مقال آخر للأستاذ الليثي:
وقد نشر هذا المقال أيضا في جريدة الأهرام في 7 / 11/1950 ولكنه تميز بتفصيل ومعالجة أمور خطيرة بالغة الأهمية جاء فيه ما يلي :
- " وبعد أن وقع حادث محاولة نسف محكمة الاستئناف المؤسف والذي كان له أسوأ الأثر في نفس فضيلة لمرشد طلب مرعي من فضيلته أن يصدر بيانا آخر لنشره بالصحف يقول فيه بصراحة ( إنه يعتبر أى حادث من هذه الحوادث يقع من أى فرد سبق له الاتصال بجماعة الإخوان موجها إلى شخصه ولا يسعه – أى الأستاذ البنا – إلا أن يقدم بنفسه للقصاص, أو يطلب إلى جهات الاختصاص تجريده من جنسيته المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء )
ولقد أوجد حادث محاولة نسف المحكمة جوا صالحا مكن مرعي من الوصول إلى ما يريد من بيانات يود الحصول عليها ..وقد صدر البيان موقعا عليه من فضيلته بعنوان " ليسو إخوانا وليسوا مسلمين "
البيان لا ينشر في موعده
وتسلمت الحكومة البيان , ولكنها بدلا من أن تنشره في اليوم التالي لحادث نسف المحكمة نشرته في اليوم التالي لحادث اغتيال الشيخ البنا ... ثم قدمته لجهات التحقيق زاعمة أن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا شيخهم لإصداره هذا البيان .
ولعل هناك حكمة لا يعلمها إلا علام الغيوب ثم مرعي بك في أن يظل هذا البيان حبيسا شهرا كاملا , وألا يفرج عنه إلا لكي تنشره إحدي الصحف ( الأساس" صحيفة السعديين) بالزنكوغراف تحت عنوان " النار بدأت تأكل بعضها – الإرهابيون ينقلبون على شخيهم ".
خطاب مفتري بشأن تسليم الأسلحة
ونشرت هذه الصحيفة أيضا قصة خطاب آخر قالت أن فضيلته أرسله قبل مصرعه بيومن إلى الحكومة وأعلن فيه استعداده لتسليم محطة الإذاعة السرية التي تتحدث باسم الجماعة واستعداده لتسليم الذخائر والأسلحة الباقية لدى بعض إخوانه ولم تقع تحت يد البوليس حتى الآن .
وإني لأعلن هنا أن قصة هذا الخطاب غير صحيحة وأؤكد أن فضيلته لم يرسل مثل هذا الخطاب وأنه قد صرح لى بأنه أبان لمن تحدثوا إليه من ممثلي الحكومة في هذا الشأن بأنه لا يعلم شيئا مطلقا عما يسمى أسلحة وذخائر أو محطة سرية
لماذا لم ينشر الخطاب المزعوم ؟
وكان من الطبيعي أن تهتم الصحيفة لمشار إليها بنشر صورة زنكو غرافية للخطاب الذي ادعت فيه أن فضيلته أبدي استعداده لتسليم الأسلحة ومحطة الإذاعة إن كان لهذا الخطاب وجود – ولكنها لم تفعل .
وإذا كان فضليته قد أرسل هذا الخطاب فما الذي كان يدعو رئيس الحكومة في ذلك الوقت إلى أن يرسل في يوم 12 فبراير – وهو يوم مصرع فضيلته – مندوبا من قبله ليتباحث مع الشيخ في مسألة ضرورة تسليم الأسلحة والذخائر والمحطة ؟
تهديد الشبان المسلمين
ويقول الأستاذ الليثي : عقب صدور قرار الحل ذهب اللواء صالح حرب وعبد القادر بك مختار والدكتور يحيي الدرديرى إلى الأستاذ البنا في منزله وقالوا له : اعتبر دار الشبان هي دار الإخوان , وفي اليوم التالي حضر الأستاذ البنا إلى دار الشبان . فلما علمت الحكومة بذلك اتصلوا بصالح حرب وقالوا له : إن هذا تحد لأمر الحل . وإذا لم تمنعوه من دخول لدار فسنطبق عليكم بنود هذا الأمر فأصر صالح حرب وقال لى : أخل حجرة مكتبك للأستاذ البنا ولكن حاول ألا يجتمع معه في المكتب أكث من ثلاثة أشخاص حتى لا يجتمع أكثر من خمسة فيطبق عليه قرار الحل وقال لى : لا تدع الأستاذ البنا يعلم بشئ مما دار بيننا وبين الحكومة بشأنه ..وقد اشترك الأستاذ البنا في لجمعية ودفع اشتراك خمس سنوات ماضية حيث إنه من مؤسسي الجمعية ( انتهي مقال الليثي ) .
- • ومن شهادة الأستاذ مصطفي مرعي أمام المحكمة :
وكان الأستاذ مرعي قد بدا شهادته بقوله " كنت في وزارة عبد الهادي وزير دولة فقط وعلى هذا لم يكن لى علم بنشاط الحكومة بخصوص القبض على الإخوان أو غيرهم لأن هذا هو شأن وزارة الداخلية وحدها – وفي الأسبوع الأول من وزارة عبد الهادي اتصل بي السيد صالح حرب وافهمني أن الشيخ البنا يطلب أن يجتمع بي فقلت له لماذا ؟ قال : لأشياء يريد أن يصارحك بها حين يلقاك. فأنا لم أعرف عن الشيخ البنا إلا ما أسمعه عن نشاطه , ولم أكن أعرفه شخصيا ومع ذلك استجبت لطلب صالح حرب . ثم أنهي الأستاذ مرعي شهادته بأن أدعي أن الأستاذ البنا هو الذي طلب من تلقاء نفسه أن يكتب بيانا ... وجاء ي مناقشة الدفاع له : ألم تقرأ جريدة المصري بعد حادث الشيخ البنا ؟
مرعي – لا أذكر .
الدفاع – إزاى دى أكبر جريدة .. أولا تذكر واقعة مصادرتها ؟
مرعي : لا .. إنما أذكر أن جماعة من نقابة الصحفيين شكوا إلى من شدة الرقابة .
المحكمة – ماذا تعرف عن البيان الثاني الذي أذاعه المرشد بعنوان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ؟
مرعي – لا أعرف عنه شيئا .
المحكمة – ألم تنشر الصحف هذا البيان بعد مقتل البنا ؟
مرعي – أنا مش غاوي قراءة جرايد ولا أعرف إلا البيان الأول .
المحكمة – دا البيان نشر في جريدة " الأساس " بالذات .
مرعي – هو أنا غاوي " أساس " أنا لم أقرأ " الأساس " في حياتي إلا مرتين وأنا مندهش كيف يسمح لهذا الإنسان المدعو الليثي بنقل التحقيق حرفيا ونشره في الجرايد في حين أن التحقيق كان سريا .
( وهنا وقف الأستاذ الليثي وطلب من المحكمة السماح له بتوضيح هذه النقطة فرفضت المحكمة).
مرعي – أقول لكم كيف تمكنت من نشر مقالي في " الأهرام " ردا على أكاذيب الليثي .. اتصلت بالأستاذ زكي عبد القادر فرحب بنشر المقال . وفي الساعة الواحدة والنصف بعد نصف الليل اتصل بي زكي عبد القادر وأخبرني أن الرقيب منع المقال بأمر سراج الدين . فاتصلت سراج الدين فقال لى : النشر محظور في قضية الشيخ البنا فسألته كيف يكون محظورا على ومباحا لليثي ؟ فقال / ما هو شأنك . فقلت له : ما هش عيب ؟ ..وذرته بخدماتي في أيامه السود.. وتمكنت من استدرار عطفه فوافق على النشر وأدلي بنفسه بحديث " للأهرام " بأني كنت من أشد المتحمسين للإفراج عن الإخوان . عضوا اليسار – إيه صلة الموضوع ده بالشهادة ؟
مرعي – أنا بأقول إني نجحت في إثارة النخوة في سراج الدين , ومضي يقول : إنه مما ساعد على إثارة الغبار حول أحد أولياء الدم اسمه عبد الكريم منصور وهو كان موظف حكومة فرفع دعوى تعويض والمحكمة قررت ضم ملف الموظف .وأنا كنت في إدارة قضايا الحكومة في ذلك الوقت فغاب الدوسيه وأجلت القضية وفوجئت بعبد الكريم منصور يرفع على دعوي لأني ساهمت بفعلي في الضرر الواقع عليه.
المحكمة – هل كنت في الوزارة عند مقتل البنا ؟
مرعي- نعم
المحكمة – ألم تصل لكم معلومات بخصوص السيارة التي استعملت في مقتل البنا ؟
مرعي – لا شأن لى بذلك . وأنا قدمت استقالتي ثلاث مرات من وزارة عبد الهادي
المحكمة – لهذه الأسباب ؟
مرعي – لا... لخلاف بيني وبينهم وعلشان كده كده كنت بعيد عن هذه المعلومات .
المحكمة – يبدو غريبا أنك اطلعت على بيان الليثي سنة 1950 ولم تطلع على الصحف التي كتبت بعد مقتل الشيخ البنا.
مرعي – أبدا ... أبدا لأن هذا البيان كان يهمني وله ظروف خاصة
المحكمة – ألم تذكر يوم قتل الشيخ البنا؟
مرعي – ما أعرفش.
( وهنا طلبت المحكمة الأستاذ الليثي ليقول ما عنده فقال )
إن البيانات التي نشرتها في جريدة الأهرام كان الغرض منها الوصول إلى معرفة الحقيقة في قضية الشيخ حسن البنا ..ونظرا لأني كنت قد قابلت الأستاذ فؤاد سراج الدين قبل توليه الوزارة ووعدني في هذه المقابلة بإثارة قضية الشهيد حسن البنا عند عودة الوفد إلى الحكم , فانتهزت فرصة تولي الوفد الحكم وكان الأستاذ فتحي رضوان نشر في ذاك الوقت بيانا أشاد فيه بموقف الأستاذ مصطفي مرعي من الإخوان والمعتقلين ..ونظرا لأني أعرف حقيقة موقف مصطفي مرعي من الإخوان والمعتقلين من الأستاذ البنا فضلا عما جاء على لسان الأستاذ مرعي نفسه في تحقيقات قضية الشهيد من أنه قال للأستاذ البنا بأنني بحثت حالة جميع المعتقلين فوجدت أن اعتقالهم له ما يبره.... كل هذه الأمور هي التي دفعتني إلى الكتابة في موضوع القضية ولم يكن الأستاذ مرعي هو المقصود بل إنه جاء في الطريق لأنه له دور في القضية.
ولقد طلبت صراحة في بياناتي التي يدعي الشاهد بأنني نشرتها بناء على إيحاء من الحكومة الوفدية من الأستاذ فؤاد سراج الدين وزير الداخلية أن يفي بوعده ويثير القضية خاصة وأن مرتكبيها من رجال وزارة الداخلية التي يتولاها . وقد نشر الأستاذ مرعي بيانا ضدي في الأهرام ولما طلبت من الجريدة أن تنشر ردى عليه أبلغتني بأن وزير الداخلية أمر بعدم نشر أى بيان لك ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن الوزير نشر بيانا باسمه أشاد فيه بموقف الأستاذ مرعي من المعتقلين .
وإني أطمئنك ( الكلام موجه إلى مرعي ) وأقول لك بأن محكمة الجنايات التي تنتظر قضية الاعتداء على حامد جودة قررت ضم أوراق قضية الشيخ البنا استابة لطلب الدفاع , ووزعت ملفات هذه القضية على أكثر عن عشرين محاميا ,, وكان بينهم الأستاذ طاهر الخشاب عضو مكتب الإرشاد بالإخوان المسلمين فأطلعني على أقوالك التي سجلتها على نفسك في التحقيق . فنشرتها لتأييد أقوالي التي نشرتها عنك..وأظن أن ذلك يبين لك أنني كنت أستقي معلوماتي من الإخوان وليس من الوفد كما كنت تتخيل .
- • شهادة أحد الرقباء على الصحف في أيام عبد الهادي :
وقد يكون مناسبا قبل أن أختم الحديث عن موقف الشخصية التي نعالج الحديث عن موقفها أن نثبت هنا شهادة للأستاذ بكر درويش الذي كان رقيبا في عهد وزارة عبد الهادي.وقد أدلي بها أمام المحكمة بعد أن أنكر الأستاذ مرعي بطريقة مثيرة علمه بهذا البيان بيان "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " وقد وصل به التنصل من هذا البيان إلى حد قوله إنه لا يقرأ الجرائد...
المحكمة – ما هي معلوماتك عن الحادث ؟
الشاهد – الذي أعرفه قد يكون متصلا بسر العمل ولكن العدالة...
المحكمة – العدالة لازم تأخذ مجراها .
الشاهد – أثير اليوم موضوع البيان الذي كتبه المرحوم الشيخ حسن البنا , ونشر بعد وفاته,,....
المحكمة – بيان ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"؟
الشاهد – أيوه ... وأنا كنت في ذلك الوقت رقيبا بمراقبة النشر بوزارة الداخلية وكنت أقوم بمراقبة جريدة" صوت الأمة" وبعد الحادث بيون أو يومين على ما أذكر طلب منا إعطاء البيان للصحف لنشره على أساس أن يلقي في الأذهان أن لحادث كان مرجعه إلى تذمر بعض الإخوان المسلمين تذمرا أدى إلى ارتكابهم الحادث .
المحكمة – هل طلب منك الإيحاء بهذا لجريدة " صوت الأمة؟
الشاهد – الذي أذكره أنه طلب منا هذا .
المحكمة – من كان الرقيب العام ؟
الشاهد – كان الأستاذ عبد الرحمن عمار , وكان مدير الرقابة هو الأستاذ توفيق صليب .
المحكمة – وممن كنتم تتلقون التعليمات؟
الشاهد – كان اتصالنا بمدير الرقابة .وكان هو يتلقي التعليمات من الجهات التي يتلقي منها . ولكن كان اتصال الرقباء بمدير الرقابة دائما .
المحكمة – وهل أوصيت أنت إلى " صوت الأمة" بذك؟
الشاهد- الذي أذكره أنني نفذت التعليمات وأذكر أني أعطيت البيان للجريدة ونشرته ولكني أظن أنها لم تنشر تعليقا عليه .
و. جريدة " المصري".
من حق هذه الجريدة – وننحن بصدد ما نعالج من قضية – أن تذكر وأن يشاد بذكرها... ومع أن هذه الجريدة كانت جريدة حزبية فإنها كانت طيلة حياتها الصحفية وتتلمس طريق الحق وتنتهجه لنفسها طريقا حتى مع حزبها الذي تنتسب إليه وتنطق بإسمه ... رأيناها في مواقف هامة نشغب عليه وتف في وجهه تريد أن تسدده لأنها ترى الحق في غير موقفه . ولا زلنا حتى اليوم نذكر بالدهشة والإعجاب المقالات الضافية الصارخة التي دبجها يراع الأستاذ أحمد أبو الفتح على صفحات جريدته الأيام تلو الأيام رافعا لواء العصيان حين أعلنت حكومة الوفد في عام 1950 عزمها علي إصدار تشريع يقيد حرية الصحافة ..وظل الأستاذ أحمد أبو الفتح يوالي مقالاته النارية حتى أحبط المشروع.
ولقد كانت هذه الجريدة تكن نحو الإخوان عاطفة من الود – لا سيما بعد أن برزت دعوة الإخوان في أفق الحياة المصرية , فكانت تنتهز الفرص السانحة للتعبير عن هذه العاطفة بنشر منجزات الإخوان في مختلف المناسبات والتنويه بها ... كما أنها كانت تمتنع عن أن يسطر على صفحاتها ما يعد نيلا من الإخوان إذا ما اقتضت الشهوة الحزبية ذلك..
ولو لم تخاطر هذه الجريدة ويغش مندوبها ميدان المعركة الخبيثة التي وقعت أمام باب جمعية الشبان المسلمين في الليلة السوداء ويلتقط رقم السيارة ممن رآها .. ولولا مسارعة هذه الجريدة إلى طبع كمية من هذا العدد الذي به رقم السيارة وتسريب بعضها قبل أن تنتبه الرقابة .. لو لم تقدم هذه الجريدة على هذه المخاطرة لاستطاع المجرمون أن يطمسوا معالم الجريمة إلى الآبد .
- • شهادة مدير ومحرر " للمصري " أمام المحكمة :
ونورد بهذه المناسبة الشهادة التي أدلي بها إلى المحكمة الأستاذان محيي الدين فكرى المحرر " بالمصري " ومرسي الشافعي مدير تحريرها :
قال الأول: كنا موجودين في " المصري " الساعة الثامنة مساء فبلغنا الحادث , فنزلت وأخذت معي المصور. فوجدنا عربة الإسعاف ووراءها سيارة بوليس – ووصلنا الجمعية وجمعنا معلومات . وبعد خمس دقائق أخرجنا البوليس ثم عرفنا نمرة السيارة التي هرب بها الجناة من كونستابلين لابسين ملكي وقالا إنهما أخذا النمرة من الأستاذ الليثي , مع أننا لم نكن نعرف الليثي في ذلك الوقت..
وقال الأستاذ الشافعي : كان فيه رقابة على المصحف فأفهمت الرقيب المعلومات التي عندي ... فاتصل برؤسائه وكان البوليس مهتم ليلتها " بالمصري " على غير العادة وبينزلوا المطبعة , وكنا ابتدينا نطبع العدد وفيه صورة للشيخ حسن البنا ورقم السيارة وبعدين صودر العدد وتسرب منه بعض النسخ وحصل معنا تحقيق بعد ذلك.
الرئيس – ما تعرفش اللي تسربت قد إيه ؟
الشاهد – حوالي ستة آلاف نسخة .. مش متأكد
الرئيس- والنسخ الثانية صدرت من غير النمرة ؟
الشاهد –أيوه ... نفذنا تعليمات البوليس فشيلنا النمرة والصورة لأنها تثير الشعور.
الرئيس – طيب وما عرفتش ليه منع نشر الرقم بتاع السيارة ؟.... عرفنا أن الصورة انشالت علشان تثير الشعور ... طيب والنمرة ؟
الشاهد – في الوقت ده ماكانش يمكننا مناقشة الرقيب ...وإحنا فوجئنا بالبوليس داخل الجريدة ( انتهت الشهادة)..
أقول : ثم تابعت " المصري " بالرغم من وجود الأحكام العرفية جهودها في نفس الاتجاه .. وقد طالع القارئ في فصل سابق من هذا الجزء من الكتاب حديث الأستاذ المرشد العام الذي كتبه مفندا أسانيد مذكرة الحل وقد نقلناها عن " المصري " وسيقرأ القارئ حديثا آخر بعد قليل إن شاء الله نقلناه أيضا عن " المصري "
فلما زالت الغمة عن البلاد بسقوط عبد الهادي : أخذت " المصري " تدعو إلى رفع الأحكام العرفية .. حتى إذا خفت وطأتها – أى وطأة الأحكام العرفية – وقفت بجانب الإخوان في موضوع بالغ الأهمية يتصل بهذه الأحكام وبكيان الإخوان بعد رفعها مما نفرد له فصلا خاصا إن شاء الله تعالي .
وقد تابعت قضايا الإخوان منذ عرضت على القضاء فكانت حريصة على نشر ما يجرى خلالها مبررة ما يتصل من مناقشاتها بالتعذيب وانتزاع الاعترافات بالإرهاب أو بالإغراء .
• " المصري " تحاول كشف دور مرعي :
• وكان مما حرصت " المصري" على التنبيه إليه وإماطة اللثام عنه الدور الخطير الذي مثله الوزير مصطفي مرعي الذي كان موضع سر عبد الهادي فيما يتصل بما تم في أيامه من إجرام ..وقد بدأت " المصري " في ذلك في 28 أكتوبر 1950 بجعلها "كلمة المصري " في ذلك اليوم بعنوان " الإخوان المسلمون " وكتبت تحته ما يلي :
- " كان الإخوان المسلمون أصحاب صيحة دينية عالية استطاعوا بها أن يشغلوا الأذهان فترة غير قصيرة وأن ينقذوا كثيرا من الشباب من براثن الفراغ المثيت ومن ممارسة حياة اجتماعية فاسدة قد تدفع إليها ضرورات شباب متعطل .
ولا ينكر منكر أنهم استطاعوا – على هدى من إيمانهم – أن يكونوا أولي الطلائع المصرية بل والعربية جمعاء في الذهاب إلى أرض فلسطين عن طواعية لإحدى الحسنيين .. استخلاص فلسطين أو الاستشهاد في سبيل استخلاصها من أيدي الصهيونيين ...وأنهت " المصري " كلمتها بالمطالبة بإعادة حقوقهم إليهم .
وفي 2 نوفمبر كتبت عنوان :" مصطفي مرعي بك وعد الإخوان المسلمين بالدفاع عنهم ثم أعد مذكرة كانت سبب تشريدهم " قالت :" كان مصطفي مرعي بك في وزارة النقراشي باشا رئيسا لأقلام قضايا الحكومة , واتصل به المرشد العام فتظاهر بأنه معارض للإجراءات التي اتخذتها الحكومة ضد الإخوان , ووعد بإعداد مذكرة في ذلك ... فتبين أنه حتى بعد أن صار وزيرا في وزارة عبد الهادي كتب مذكرة معاكسة لذلك .ولما صار وزيرا في وزارة حسين سري باشا كان هو معارضا في الإفراج عن المعتقلين ثم صار وزيرا في وزارة حسين سري باشا كان هو معارضا في الإفراج عن المعتقلين ثم أوردت حديثا لزميل له في الوزارة هو عبد العزيز الصوفاني بك يقرر هذا المعني بالنسبة له وبأنه كان معارضا حتى في رفع الأحكام العرفية ".
ثم نشرت " المصري " ردا من مصطفي مرعي تحت عنون " مصطفي مرعي يقول : لم أهاجم الإخوان المسلمين ولم أكن ضدهم – كنت لهم السفير الداعي إلى الهوادة والرفق والمطالب بحريتهم " وفي رده هذا حاول أن ينفي عن نفسه ما نشر عنه من موقف معاد للإخوان .
ولكن " المصري" نشرت في نفس الصفحة ردا على رده تحت عنوان " كيف أصدر الشهيد حسن البنا " " بيان للناس " منع تلاوة القرآن الكريم عند دفن المرشد العام "وقالت : هذا هو رد مصطفي مرعي بك على ما نشرناه بالأمس . وكنا نود أن يتضمن هذا الرد إجابة أو إيضاحا على ما آثاره عبد العزيز الصوفاني بك عن موقف سعادته من الأحكام العرفية ومن جمعية الإخوان المسلمين .. ولا شك في أن الصوفاني بك عندما تكلم في هذه المسائل إنما كان يتكلم عن معرفة حقيقية بحكم زمالته لمرعي بك في وزارة عبد الهادي ".
ثم نشرت بعد ذلك تحت عنوان " معلومات الأستاذ الليثي " ما يلي جاءنا من الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين ,والذي أتيح له أن يرافق الشيخ حسن البنا في أيامه الأخيرة منذ حلت جمعية الإخوان حتى يوم مصرعه .وقد اطلع بحكم هذا الاتصال على جميع ما دار في الاتصالات التي تمت بين المغفور له الشيخ حسن البنا والمسئولين في ذلك الوقت ومن بينهم مصطفي مرعي بك – يقول الأستاذ الليثي عن رأيه في حقيقة موقف مصطفي مرعي من الإخوان المسلمين والشيخ حسن البنا عندما كان وزيرا للدولة في وزارة عبد الهادي :
رغبة مرعي بنفسه
- " أحب أن أؤكد أن اتصال مرعي بك بالشيخ حسن البنا لم يتم بناعلى رغبة من الشيخ حسن البنا , بل تم هذا الاتصال بناء على رغبة من مرعي بك وكان في اتصاله هذا ممثلا للحكومة ومتكلما بإسمها , ولذا وسط سعادة صالح حرب باشا الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين ليساعده على الاجتماع بالشيخ البنا .
وكان مفهوما في أول الأمر أن مرعي بك بوصفه وزير الدولة المشرف على شئون الأمن في ذاك الوقت – كما ذكر هو بنفسه – إنما أراد الاتصال بالشيخ البنا ليتفاهم معه على إنهاء حالة التوتر التي كانت قائمة بين الإخوان والحكومة ...ولكن اتضح بعد ذلك من المناقشات التي دارت في اجتماعاتهما أن غرض سعادته كان ينحصر في الرغبة في الحصول على بيان من الشيخ يستنكر فيه مقتل النقراشي ويندد بحركة الإرهاب ومرتكبيها .
ولكي يحصل على هذا البيان بسط وعودا طمأنت الشيخ البنا إذ صرح له بأنه وهو الوزير المسئول سيوقف بمجرد إصدار البيان حركة الاعتقال والتنكيل بالإخوان بل ذهب إلى أبعد من هذا ووعد بأنه سيبحث من جديد مع إبراهيم عبد الهادي مسألة الأمر العسكري الصادر بحل الجمعية وسيعمل أيضا على الإفراج عن المعتقلين على دفعات. وطلب من الشيخ البنا كشفا بمن يرى الإسراع في الإفراج عنهم لظروفهم الخاصة .
ولما كان الشيخ موافقا من ناحية المبدأ على إصدار البيان إذ أنه رحمه الله كان لا يقر الحركات العنيفة ,علاوة على أن الوعود التي تقدم بها مرعي بك كانت ستؤدي كما فهم الشيخ إلى الكف عن حركات الاعتقال بل والإفراج عن المعتقلين فإنه أقر فكرة إصدار بيان رغم ما جاء في بعض فقراته من نصوص لم تكن ترضيه وصدر البيان بعد ثلاثة اجتماعات متوالية عقدت بمنزل صالح حرب باشا ونشر تحت عنوان " بيان للناس " وما أن صدر البيان حتى تعذر على الشيخ البنا مقابلة مرعي بك الذي كان يعتذر دائما عن المقابلة بانشغاله في العمل . المعتقلون
أما عن المعتقلين الذين وعد سعادته بالإفراج عنهم فقد نقلوا من معسكر هاكسيتب بالقاهرة إلى معتقل الطور .. وكانت أول دفعة تصل إلى الطور تضم – بين من رحلوا فيها – جميع من طلب الشيخ الإفراج عنهم لظروفهم الخاصة ..وفتح معتقل الهاكستيب لاستقبال معتقلين جدد.
كيف دخل الجثمان منزله ؟
وأين كان سعادته عندما أدخل جثمان الشيخ البنا منزله وسط مظاهرة مسلحة من رجال البوليس شاهرة المسدسات والبنادق في وجه سيدات أسرته العزل من كل سلاح... وأرغمت السيدات على حمل الجثمان إلى النعش , ولم يسمح لواحد من رجال هذه الأسرة بالاقتراب من الجثة .. حتى القرآن حرمت عليهم تلاوته كما حرم على أسرته وأقاربه زيارة قبره , بل اعتقل بعض محبيه ممن زاروا قبره ...
وأين كان سعادته يوم كانت الحرية تهدد بهذا الشكل الخطير ؟ وما له ينسي كل هذا ويتقدم اليوم الصفوف محاولا أن يظهر بمظهر المدافع عن الحرية ؟ ( انتهي )
هذا .. ولعل القارئ قد لاحظ أننا في تناولنا تجلية موقف جريدة المصري في قضيتنا قد جاءت هذه التجلية في معظمها امتدادا لتجلية موقف الوزير مصطفي مرعي ...
وأرجو بعد هذه العجالة الخاطفة أن أكون قد وفقت إلى جمع شتات ما تناثر هنا وهناك من " فتافيت " هذه الصورة التي أراد صاحبها أن يمزقها عن قصد إلى " فتافيت " صغيرة ويرسلها مع الرياح في كل جانب حتى لا يقوى أحد على جمعها فتظل بذلك صورته الحقيقية مجهولة المعالم ليظهر هو بالصورة التي تروقه مما يناسب كل وقت , ويتلاءم مع كل مقام .. وإني لأدع للقارئ بعد ذلك أن يصدر حكمه على هذه الصورة بما يوحى به إليه ضميره .
الفصل الرابع لوذات سوار لطمتني ؟ .. من هم السعديون ؟
قد يكون فيما أسلفنا في هذه المذكرات من سرد لتاريخ القضية الوطنية وقضية فلسطين ما يكفي لدمغ حكومات السعديين بالخزي والخيانة والعار ولكن رأينا مع ذلك أن نختم هذه الفصول التي استأسدوا فيها على بنى جلدتهم من أبناء هذا الوطن بنبذة تكشف عما كان تحت جلود الأسود التي تطاولوا بها على مواطنيهم من قلوب الذئاب وأحلام العصافير .
ومن حق القارئ أن يعرف الحقائق المجردة عن الشخصيات التي لعبت في تاريخه أدوارا خطيرة لا زال الشعب يعاني من آثارها ويكتوى بنارها .. ومما يؤسي له أن الظروف السياسية لم تتح إلى اليوم أن يتصدي للكتابة عن هذه الشخصيات إلا للكتاب الذين تمرغوا فيما كان هؤلاء الحكام يعتصرونه من أقوات الشعب ليشتروا به الضمائر والأقلام.. فكان هو هؤلاء الكتاب حتى اليوم أن يحجبوا عن الشعب ما يعرفونه من آثامهم وجرائمهم .. وبات الشعب بعد ذلك مضللا تائها لا يميز بين المحسن والمسئ ويتقلب في المصائب يصطلي بنارها ويحترق في لهيبها وهو يسبح بحمد من أشعلوا منذ ثلاثين عاما فتيلها .
فكان حقا علينا أن نميط الألثمة عن الوجوه حتى تبدو على حقيقتها دون زيف أو تمويه أو تزوير .. وحين نحاول هذه المحاولة لن نلجأ إلى أسلوب القدح والقذف بجارح اللفظ فهذا ليس أسلوب المؤمنين ولكننا سننقل الحقائق المادية من سطور التاريخ المجمع عليه دون تحوير ولا تنميق ولا زيادة ولا نقصان .. ونترك الحكم بعد ذلك للقارئ وهو حينئذ على بينة من الأمر .
والتاريخ الذي ننقل عنه قد سطر ما سطر في فترتين مختلفتين : أولاهما كتب فيها ما كتب في عهد السلطة الملكية وهو عهد كان يحتضن هؤلاء السعديين ويحميهم حتى بعد أن أبعدهم عن الحكم فقد يسمح بنشر بعض أخطائهم وفضح بعض جرائمهم ولكنه مع ذلك لا يسمح بمؤاخذتهم ولا حتى بمساءلتهم لأنه يعتبرهم من جملة خدمه وقد يحتاج إليهم في يوم من الأيام والفترة الأخرى من التاريخ هي تلك التي انقشع فيها ستار الحماية الملكية عن السياسيين المحترفين عامة بزوال الطاغوت الذي كان يحتضنهم وهي مستهل أيام ثورة يوليو 1952 , وهي فترة زالت فيها الحوائل التي كانت تحول دون أخذ المجرمين بجرائمهم .
أولا – فترة ما قبل الثورة
كانت وزارة إبراهيم عبد الهادي قد سقطت وتنفس الناس الصعداء وأخذوا يتنفسون في شوق أنفاسا عميقة – بعد أن كتمت أنفاسهم ردحا طويلا – وإن كان الهواء الذي يتنفسونه ليس الهواء النقي الذي تهفو إليه نفوسهم بل هو هواء مشوب بأذي وكدر ولكنه على كل حال هواء مسموح بتنفسه يزيل بعض ما في الصدور من حرج .. بدأت بعض الأوراق المحجوبة تتكشف وبعض الألسنة تفصح وتتكلم.. وإليك بعضا مما تكشف :
- (1) سفير يشرح كيف جنى الجهل والأنانية على قضية البلاد:
كان محمود حسن باشا سفيرا لمصر في الولايات المتحدة الأمريكية في خلال الفترة التي كان النقراشي باشا رئيسا لوزارته الثانية التي قررت عرض قضية مصر على مجلس الأمن , وقد استقال هذا السفير في عهد الوزارة نفسها بعد الانتهاء من عرض القضية على المجلس ... والآن أترك له الحديث الذي نشره " المصري " يوم 13/12/1949 وهو يعالج موضوعا سبق لنا أن عالجناه , ولكنه يعالجه بإسهاب معالجة الأخصائي المتمرس وباعتباره أحد المحاور التي كان يدور عليها الموضوع الذي يعالجه فيقول :
- " إن من حق مواطني أن يطالبوني بما أعرفه في صدد قضيتنا ولكني رأيت أن الوقت لم يكن مناسبا وقتئذ لتلبيتهم لأن الجمهور عند عودتي لم يكن قد هدأ من أثر الصدمة التي أصابته بسبب فشلنا في مجلس الأمن حتى جاءت حوادث فلسطين ومأساتها في جمعية الأمم المتحدة واندفاعها بسببها إلى حرب أكدت الحكومة – رغم ملاحظاتي المتكررة أنها على أتم الاستعداد لها وهي في تأكيدها هذا لم تكن إلا منخدعة أو مخدوعة ..
ثم أعلنت الأحكام العرفية فقيدت الحريات وفرضت الرقابة على الصحف وقلت أقلام الكتاب ,فحال ذلك بيني وبين سد تفاصيل القضية المصرية , رغم ما كنت أشعر به من حق الخاصة والعامة على ولا سيما والقضية ما زالت معلقة في مهب الرياح .. وقد يكون لذكر تفاصيلها نفع لمن يريد مخلصا أن يختط خطة سليمة ناجحة أو محتملة النجاح لحل هذه المسألة التي ما عقدتها إلا لنزاعات الحزبية والمآرب الشخصية , والرغبة في الإعلان عن النفس , واكتساب المجد الكاذب .
ثم ذكر كيف أفادت سورية ولبنان وإيران من عرض قضاياها على مجلس الأمن منتهزة الفرص المناسبة , منتفعة من اختلاف لدول الكبرى فيما بينها , ومكتسبة بينها , مكتسبة الدول إلى جانبها ... أما مصر فقد أهملت كل ذلك , وركزت كل جهدها في مفاوضات طال أمدها كما لو كانت تعيش في عام 1936 ..وكان خليقا بها أن تعرف أن نتحاءها زاوية وحدها مع انجلترا في عزلة عن الدولة الأخرى لن تفترق بعدها إلا ونحن من الخاسرين.
ولعل فيما جاء على لسان وزارة الخارجية الإنجليزية في ختام فترة المفاوضات الأخيرة " أن هذا هو أقصي ما تستطيع أن تعطيه إنجلترا لمصر " ما يفيد أن انجلترا تنظر إلينا نظرها إلى المستجدي لأصحاب الحق .
لكنا وبكل أسف لم نلجأ إلى مجلس الأمن إلا بعد أن أمضت ( وقعت) الحكومة – بالأحرف الأولي – مشروع اتفاقية مع الحكومة الإنجليزية فأصبحنا في وضع شاذ وأكثر منه شذوذا أن يتولي الدفاع عن قضيتنا رجال قبلوا هذا المشروع ودعوا إليه ودافعوا عنه بل وخاصموا غيرهم من أجله .
إن الحكومة القائمة في ذلك الوقت لم تكن جادة في الالتجاء إلى الهيئة الدولية , بل هي اضطرت إلى ذلك تحت ضغط المعارضة والرأي العام الذي أشعرها بأنها لن تستطيع البقاء في الحكم وهي واقفة ذلك الموقف السلبي الذي كانت تفقه بعد المفاوضات .
وليس أدل على ذلك من أنها أخذت تسوف وتؤجل – تارة تحت ستار السعي في اختيار أشخاص ممثليها أو اختيار الهيئة المختصة – وأخرى في انتظار انتهاء الدورة البرلمانية – حتى كان صيف سنة 1947 رأت أن تتحرك بعد أن ضيعت الفرصة تلو الفرصة فلا هي نجحت في ضم الصفوف في الداخل ولا هي طرحت القضية في الوقت المناسب بل لعل الوقت الذي أتت فيه إلى نيويورك كان أبعد الظروف ملاءمة .
وبعد أن أثبت سيادته نصوص الخطابات التي أرسلها إلى النقراشي باشا برأيه في عرض القضية من ناحية الشروط والظروف المناسبة قال :وكان آخر خطاب مني بعد ما وصلت إلى شبه اليأس وتغيرت الظروف , حيث عرضت قضية فلسطين على هيئة الأمم وصاحب عرضها دعاية واسعة لصالح اليهود ضد العرب وضد مصر , والتجاء الأمير عبد الكريم لمصر وما في ذلك من إثارة خواطر الفرنسيين, ثم الانقلاب الذي حدث في المجر وما صحبه من شعور متزايد بضرورة التضامن والتكاتف بين الولايات المتحدة وبريطانيا إزاء الخطر الروسي المتفاقم .
يقول : ومع ذلك أصر النقراشي باشا على المجئ إلى نيويورك وتمسك ببقائي في منصبي مع ما طلبته من إعفائي ..فرحت أستشير ذوي الرأي فيما يجب اتخاذه من التدابير واقترحت استشارة محام ذي خبرة دولية فوافقت الوزارة على هذا الطلب فرأيت أن ألجأ إلى أكبر مكتب في العاصمة , وهو المكتب الذي تولي مسألتي إيران واليونان عند عرضهما على مجلس الأمن وكان هذا المحامي يعرفني حيث كنت ممثل مصر في مجلس الأمن عند هاتين القضيتين فرحب بي وطالب إلى أن أزوده بالمعلومات اللازمة عن قضيتنا ووعدني بالرد في أقرب فرصة .. وراح بدوره يدرس القضية وظروفها وملابساتها ,ثم اتصل بي ليبدي جوابه بأحاطني علما بأن مكتبهم يري بعد الاتصالات العديدة وبعد جس نبض الرأي العام بالعاصمة ونيويورك بأن عرض القضية في القريب العاجل هو أسوأ الأوقات اختيارا وأن قضيتنا يجب لتوافر نجاحها أن يكون بجانبها الرأي العام الأمريكي ولكن الوقت الحاضر غير مناسب لذلك إذ كب البيئات بجانبها الرأي العام الأمريكي , ولكن الوقت الحاضر غير مناسب لذلك إذ كل البيئات متخوفة من الاتحاد السوفييتي واتجاهه نحو المجر وبلغاريا إلخ .. فعرض القضية ليس فقط بعيدا عن المصلحة فحسب بل هو مضر لمصر . وإن مكتب المحامي على كل حال لا يقبل التوكيل في هذه القضية في الوقت الحاضر ..ومع كل هذا فقد أصر النقراشي باشا على عرض القضية في ذلك الوقت وأن يكون هو وحده المتقدم بها إلى المجلس .
ملحوظة : كان من بين المقترحات التي أقترحها السفير على النقراشي باشا لما رآه مصرا على عرض القضية في ذلك الوقت غير المناسب ,أن تقوم بعرضها على المجلس هيئة تضم ممثلين عن جميع الجبهات السياسية في مصر , لعل ذلك يكسب القضية شيئا من القوة ويبطل حجة الإنجليز في أن الذي يتقدم بالقضية شخص سبق أن وافق ووقع على معاهدة بينه وبينهم وهو ملزم بتوقيعه .. وقد حدث هذا فعلا وكان من أهم الأسباب التي اعتمد عليها المجلس في رفض القضية . وإن كان المجلس قد سمي هذا الرفض تعليقا .
- (2) التستر على خيانة الجيش :
لعل القارئ الكريم يذكر أن من أهم أسباب هزيمة الجيش المصري في فلسطين أنه أمد بأسلحة وذخيرة فاسدة... وقد قامت إحدي الوزارات التي تولت الحكم بعد إبراهيم عبد الهادي بإجراء تحقيقات في هذا الشأن كانت على جانب كبير من الأهمية باشرتها النيابة العامة ..وقد كشفت هذه التحقيقات عن وقائع خطيرة وجنايات جسيمة ..ولكن السراي الملكية تدخلت في التحقيقات لصالح المتهمين حيث تبين أن بعضهم كان يعمل لحسابها... فأخفيت الحقائق حتى أنها لما عرضت على القضاء لم يجد بين يديه من الأدلة ما يكفي لإدانة المتهمين فحكمت المحكمة ببراءة جميع المتهمين ما عدا اثنين حكمت بتغريم كل منهما مائة جنيه ... وقد جاء في حيثيات هذه القضية التي جاءت في مائتي صفحة وحكم فيها في 5/7/1953 ما يلي :
- " ثبت أن فاروق هو الجاني الأول جعل لنفسه حسابا خاصا باسم إدمون جهلان – أحد سماسرة الأسلحة – وأوفد ناظر خاصته أثناء تفتيش خزانة جهلان يفرض على سلطة التحقيق أخذ أوراقه من الخزانة ..."
وفي 18 أكتوبر 1950 وتحت عنوان " النقراشي باشا وعبد الهادي باشا تسترا على جرائم الجيش " كتبت جريدة " المصري " ما يلي : " في الوقت الذي تعددت فيه الاجتماعات من بعض أفراد المعارضة وبعض المستقلين لوضع العريضة التي قرروا رفعها إلى جلالة الملك.. وفي الوقت الذي يريد فيه موقعوا هذه العريضة التي قرروا رفعها إلى جلالة الملك.. وفي الوقت الذي يريد فيه موقعوا هذه العريضة أن يوهموا الناس بالحرص على مصالح البلاد وتطهيرها من الفساد .. إلى آخر ما جاء في عريضتهم ... تسلم سعادة الأستاذ محمد عزمي بك النائب العام ملفا رسميا من الملفات التي تحتفظ بها وزارة الداخلية منذ عام 1948, احتوى على مستندات على جانب كبير من الأهمية والخطورة تشير إلى أن النقراشي باشا وخليفته عبد الهادي باشا تسترا واحدا بعد الآخر في منصبيهما كرئيسين للوزارة ووزيرين للداخلية وحاكمين عسكريين على كثير من الجرائم التي ارتكبت في حق الجيش ويدور بشأنها التحقيق الآن ..
• تفاصيل التستر:
وترجع تفاصيل هذا التستر من جانبها واحدا بعد الآخر إلى عام 1948 , فقد أعلنت الأحكام العرفية في صبيحة دخول قوات الجيش المصري إلى فلسطين , وكان من نتائج إعلانها أن فرضت الرقابة الدقيقة على المراسلات والمخابرات التليفزيونية والبرقية الداخلة إلى مصر والخارجة منها .
وقد حدث في خلال أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1948 ويناير وفبراير ومارس وأبريل ويونيه 1949 – حدث خلال هذه الشهور على وجه التحديد أن ضبطت وسجلت في محاضر رسمية مخاطبات تليفونية ورسائل تبودلت في الداخل ومع الخارج بين ضباط من المتهمين في التحقيقات الدائرةوعملاء وسماسرة لتوريد الأسلحة , وقد تضمنت هذه المخاطبات والمراسلات المسجلة في أحد ملفات وزارة الداخلية الرسمية اعترافات صريحة بأيدي بعض المتهمين تتضمن هي الأخرى عبارات تثبت الجريمة , وضعت كلها في ملف المضبوطات التي تعرض على وزير الداخلية والحاكم العسكري للبت فيها .
وكان النقراشي باشا وعبد الهادي باشا من بعده يطلعان بحكم منصبيهما كوزيرين للداخلية وحاكمين عسكريين على كل هذه المضبوطات .. ومع ذلك بقيت هذه المستندات الخطيرة في الملف الذي احتواها دون أن يفكر أحد منهما في كشف ما انطوت عليه .
- (3) حالة الجيش المصري عند إدخاله فلسطين :
في 28 أكتوبر 1950 نشرت المصري هذا التحقيق البالغ الخطورة في صفحتها الأولي فقالت :
" وفي الحقائق التي سنوردها هنا تفاصيل جديدة على جانب كبير من الخطورة تكشف كيف كانت حكومة السعديين تهزل في معالجتها لمصائر البلاد:
قبل بدء حملة فلسطين ببضعة أيام سافر سعادة اللواء المواوي بك إلى الحدود للإشراف على القوات المصرية هناك التي كان قد بدئ في ترحيلها إلى مراكزها بالتدريج .
وقد عكف سعادته بعد وصوله إلي الحدود على تفقد القوات المصرية والاطلاع على ما تملكه من أسلحة وعتاد ..وهال سعادته أن تكشف له أن هذه القوات ليست مستعدة بالمرة لأى احتمال بالاشتراك في الحرب .. ولما كانت الأنباء تتحدث في ذلك الوقت بصراحة عن استعداد الدول العربية ومشاوراتها لشن حملة تأديبية على فلسطين فقد رأي سعادته أن الواجب يحتم عليه أن يصارح المسئولين بحقيقة الأحوال بالنسبة للقوات المصرية التي تستعد على الحدود فوضع سعادته ما يسميه العسكريون " أمر تقدير " أشار فيها بصراحة تامة إلى أن حالة القوات من حيث العتاد والأسلحة سيئة جدا ولاسيما إذا كانت الحكومة تفكر في الاعتماد عليها في حملة ضد الصهيونيين في فلسطين .
وعود
وسارعت الحكومة السعدية القائمة تطمئن قواد الجيش المسئولين عند الحدود . وتؤكد لهم أنه إذا تطور الأمر وأصبح من اللازم أن تشتبك القوات المصرية في حرب ضد الصهيونيين فستنهال الأسلحة الثقيلة والخفيفة على الميدان وستمتلئ سماء المعركة بطائرات القتال المصرية التي ستكون كثيرة إلى حد " يحجب الشمس عن العيون " .
السيارات
وكان مما أشار به القواد في ذلك الوقت وجوب مد القوات المرابطة عند الحدود بالسيارات وقبل أن تصدر الأوامر إلى القوات المصرية بدخول فلسطين بليلة واحدة وصلت إلى القوات المصرية في الميدان 17 سيارة فقط من أكثر من150 سيارة تعطلت في رمال الصحراء أثناء اتجاهها إلى الحدود. فإذا تصورنا أن هذا العدد الضخم من السيارات لم يتحمل عبء السفر من القاهرة إلى الحدود لأدركنا تفاهة للرجاء في أن تعتمد القوات المصرية على السيارات التي تيسر لها الوصول .
بدء القتال
وبينما القوات المصرية على هذه الحال من العجز والحاجة الماسة إلى العتاد والسلاح والسيارات صدرت الأوامر من القاهرة ببدء الزحف لتأديب الصهيونيين في فلسطين .
روح معنوية عالية
ولم يسع قواد الجيش إلا طاعة الأوامر وبدأ الجيش المصري الحرب وكل اعتماد قواته على الروح المعنوية وحدها إلى كانت مرتفعة إلى أقصي حد بين رجال الجيش ضباطه وجنوده وعلى أمل أن تبر الحكومة بوعدها فتمطر الميدان بما وعدت به من أسلحة .
أول هدف
وكان من أول أهداف الجيش المصري الزحف نحو مستعمرة يهودية وقد قدرت المسافة بينها وبين العريش بأربعة كيلو مترات وكان العجز في السيارات واضحا ولكن الروح المعنوية المرتفعة بتت في الموقف فتقرر أن يكون اتجاه الجيش إلى المستعمرة مشيا على الأقدام .. وسار الجنود البواسل يجرون ما تيسر لهم من مدافع وراءهم وكان عليهم أن يشقوا طريقهم في حذر حتى لا تقع عليهم عيون العدو. فاضطروا إلى أن يسلكوا مناطق صحراوية وجداول نضبت فيها المياه وهكذا حتى طالت المسافة بينهم وبين الهدف ..
وشعر الجنود بالعطش بعد أن فرغ ما يحملونه من ماء وأنهكهم المشى على الأقدام حتى أن بعض الجنود قد اضطر إلى التخفيف من حملهم , كما اضطر بعضهم الآخر إلى ترك بعض المدافع التي يجرونها وراءهم .
العودة
وواصل الجنود إلى المستعمرة فعلا بعد أن قطعوا عشرة كيلو مترات ولكنهم كانوا في حالة من التعب والإجهاد لم يسعهم معها إلا العودة من حيث أتوا ... وكانت هذه البداية بمثابة صدمة عنيفة لم يخفف من حدتها إلا إيمان الجميع بسمو الرسالة التي وكل إليهم أمر أدائها .
العدو يشهد
واستمرت المعارك التي يشترك فيها الجيش المصري , وأثبت الجيش خلالها جميعا أنه قوة فعالة جعلت الخصوم أنفسهم يخشونها حتى أن بعض الصهيونيين في هذا الوقت طبعوا منشورا يقع في 31 صفحة يتحدثون فيه عن بسالة ضباط الجيش المصري وجنوده ووقعت بعض النسخ من هذا المنشور في أيدي القوات المصرية في ذلك الحين وكان لها أثر كبير في مضاعفة الروح المعنوية وتحبيب الجنود في التضحية والإقدام .
25%
وبقي قواد الجيش المصري ينتظرون أن تبر الحكومة بوعودها ولم يترددوا مع هذا في مواصلة الحرب بما يملكون من عتاد كان في مجموعة لا يزيد على 25% مما تحتاج إليه القوات فعلا .
معركة دير سنيد
وجاءت معركة دير سنيد .وقد اشتركت فيها القوات المصرية بروح معنوية عالية يمكن وصفها بأنها كانت رقما قياسيا من ارتفاع المعنوية وكان سبب هذا هو فرح الضباط والجنود وسعادتهم البالغة بتلك الدبابة التي تسير وهم يسيرون خلفها فكانت أول دبابة تطأ " جنازيرها "أرض المعركة في فلسطين من جانب القوات المصرية .
الدبابة
وهكذا كان حال الضباط والجنود يوم معركة " دير سنيد" أما حال الدبابة نفسها فكان مصيبة بل مهزلة مبكية كانت دبابة إيطالية قديمة تركتها فلول الجيش الإيطالي المنهزم أمام البريطانيين في الصحراء الغربية وكانت خالية من كل ما تزود به الدبابات من مدافع وسلاح ولم يكن فيها غير " الموتور" الذي يجعلها تتحرك .. ولا يعلم إلا الله وحده كيف نقلت هذه الدبابة من مكانها في الصحراء الغربي إلى القوات المصرية المحاربة في فلسطين .
ومع هذا كانت هذه الدبابة – بحالها هذا – مصدر فزع ورعب كبيرين للصهيونيين المدافعين عن " دير سنيد" ومعني هذا أنه لو كانت الحكومة القائمة في ذلك الوقت ساهرة بجد على حاجات الجيش في الميدان لكان في وسعها أن تردك أن شيئا من هذا الاهتمام بإعداد عدد غير كبير من الدبابات المزودة فعلا بالسلاح كان من شأنه أن يمكن الجيش المصري من القضاء على عدوه في الأيام الأولي من المعركة وقبل أن يتمكن من الاستعداد والتزود بالأسلحة التي مكنته فيما بعد من الوقوف في وجه الجيش المصري .
وكانت نتيجة " معركة الدبابة الواحدة" هذه أن انتصرت القوات المصرية وتمكنت من أسر 112 صهيونيا كان من بينهم طبيب اعتمدت عليه القوات المصرية بعد دخولها " " دير سنيد"
خطر جديد
وبعد أن استتب الأمر للقوات المصرية في دير سنيد بدأ الضباط والجنود يتفقدون الحصن وما حوله . وهنا تقدم الطبيب الصهيوني الأسير قائلا : هل أحميكم من الموت مقابل تمكيني من إنقاذ ابنتي الجريحة؟ فقيل له : لك هذا إذا صدقت الوعد . فاصطحب بعض الضباط والجنود المصريين وأرشدهم إلى حقول الألغام التي ثبتت بالقرب من الحصن في طرق كانت القوات المصرية لا شك ستطرقها في تقدمها وتجوالها في هذه المنطقة .
عجز في مجسات الألغام
ولولا هذا الطبيب الصهيوني الأسير وابنته الجريحة لتعرضت القوات المصرية لخطر داهم نتيجة لهذه الألغام فقد كانت القوات المصرية في ذلك الوقت لا تملك حتى مجسات الألغام اللازمة للكشف عن حقوله التي بثها العدو.
الذخيرة الفاسدة
وحديث الذخيرة الفاسدة حديث طويل ويكفي أن نذكر منه الآن طلقات المدافع زنة 25 رطلا. وكانت هذه المدافع بالذات هي أثمن ما يملكه الجيش في الميدان ..
ولقد سببت الطلقات الفاسدة التي تلقتها القوات في الميدان لهذا النوع من المدافع أن شرخ عدد كبير منها بل إن حادثا معينا وقع – وعلمته الحكومة في حينه في تقرير مفصل – يتخلص في أن أحد تلك المدافع قد انفجر أثناء إطلاق قذيفة فاسدة فيه فأودي بحياة كل من كانوا حوله يشرفون على إطلاقه .
وبقي القواد مع هذا ينتظرون أن تبر الحكومة بوعدها أملا في تسلمهم أسلحة وذخائر غير فاسدة ولكن الحكومة مضت في تصرفاتها فراحت ترسل إلى الميدان ذخيرة فاسدة تفتك بأرواح الأبطال من أبناء البلاد.
- (4) براءة أعداء البلاد:
لما تولت الحكم في عام 1950 وزارة حزب الوفد برياسة مصطفي النحاس باشا أخذت تعالج القضية الوطنية بالأساليب المعتادة التي تعتمد على التفاوض مع المستعمر واستجدائه فلما يئست من جدوى هذه الأساليب استجابت أخيرا لصوت الشعب وأقدمت على خطوة جريئة بإعلانها بطلان معاهدة 1936واتفاقيتي 1899 وحملت لواء مقاطعة الإنجليز والتف حولها الشعب , واستجاب لدعوتها جميع الزعماء على اختلاف ألوانهم ونزعاتهم ..وكان إجماعا رائعا قلما تحقق مثله في يوم من الأيام .
لو كان مصريا واحدا خرج على هذا الإجماع وشذ عن الشعب الثائر على المستعمر وذهب يتقرب إلى هذا المستعمر متحديا إرادة الشعب وجماع الأمة وذلك هو إبراهيم عبد الهادي باشا الذي انتهز فرصة عيد الميلاد في تلك السنة وأرسل إلى السفير البريطاني برقية يهنئه فيها بالعيد ويبعث إليه بأحسن التمنيات .
يبدو أن عبد الهادي أراد أن يثمل الدور الذي تضمنه المثل العربي الذي يقول" رمتني بدائها وانسلت " فأوعز إلى جريدة " أخبار اليوم " أن تنشر خبرا مؤداة أن النحاس باشا أبرق إلى المستر تشرشل يهنئه .. فلم يكتف النحاس باشا بتكذيب هذا الخبر بل استطاع أن يحصل من الجهات المختصة على أصول البرقيات التي أرسلت إلى الخارج في خلال تلك الفترة واستخرج منها السر الدفين فقد نشرت جريدة " المصري " في 30 ديسمبر 1951 ما يلي : ادعت " أخبار اليوم " أن النحاس باشا أرسل برقية يهنئ فيها تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بمناسبة عيد الميلاد – ولكن النحاس باشا كذبها وقال أن الذي أرسل البرقية هو إبراهيم عبد الهادي وهذا نصها :
سير رونالد كامبل
أدمبره – موراي بليس
عيد سعيد وأحسن التمنيات بالعام الجديد
إمضاء
العنوان –إبراهيم عبد الهادي باشا بالقاهرة المعادي
- (5) الخروج على إجماع الأمة وتحدى شعورها :
في 26 يناير 1952 وقع حريق القاهرة , وهو حدث تاريخي كبير سيأتي الحديث عنه في حينه إن شاء الله , ولكن حسب القارئ الآن أن يعلم أن هذا الحريق قد قوض الجهود العظيمة التي كتلت الأمة جمعاء خلف الحكومة ضد الإنجليز .. والفاعل الحقيقي لهذا الحريق هم الإنجليز....
وقد زاد هذا الحدث الخطير المصريين على اختلاف نزعاتهم حقدا على الإنجليز ومقتا لهم حتى إنهم قاطعوهم ورفضوا التعامل معهم ..,لا عجب في ذلك فلا زالت دماء المصريين الذين قتلوا برصاص الجيش البريطاني تخضب شوارع الإسماعيلية ومدن القناة ..وانظر ماذا كان موقف إبراهيم عبد الهادي وسط هذه المقاطعة الجماعية ؟!
في 20 /2/1952 تحت عنوان " شطر بريطاني لعبد الهادي باشا "نشرت جريدة المصري " صورة لعبد لهادي باشا وهو في الكنيسة الإنجليزية بالقاهرة وكتبت تحتها ما يلي :
- " نشرنا منذ بضعة أيام نبأ مبادرة إبراهيم عبد الهادي باشا إلى الاشتراك في الصلاة على روح جلالة الملك جورج السادس ملك بريطانيا .وأشرنا على التعليقات التي أثارتها تلك المبادرة من جانب دولته في الوقت الذي امتنع فيه عن الاشتراك في أية مظاهرة قومية كما أدي إلى ثورة أحد أعضاء الهيئة السعدية وتهديده بالاعتكاف .
وقد أعادت مجلة " الدعوة " التي يصدرها الأستاذ صالح عشماوي وفريق كبير من كبار الإخوان المسلمين نشر ما جاء " بالمصري " أول أمس في هذا الصدد وقد علقت عليه المجلة بقولها :" ليس هذا غريبا على إبراهيم عبد الهادي باشا , ولكن الغريب أن يبقي هذا الرجل على رأس حزب ولو من الوجهة الرسمية .
ونضيف إلى ذلك أن دولته قد تلقي من السفير البريطاني كتابا رقيقا يشكر فيه دولته على اشتراكه في الصلاة ".
وفي 25 /2/ 1952 نشرت " المصري " تحت عنوان " عبد الهادي باشا يستضيف الإنجليز " ونشرت صورة له وكتبت ما يلي :
" عندما علم دولة إبراهيم عبد الهادي باشا بأن كثيرا من أصحاب المباني في القاهرة رفضوا تأجير محال أو غرف لمكتبة " سميث " التي احترق محلها يوم 26 يناير وأن أصحاب المباني بنوا رفضهم على أساس أن مكتبة " سميث " يملكها انجليز – عندما علم دولته بذلك بادر فأصدر أمرا بإخلاء ثلاث غرف من الدور الثالث الذي تشغله جريدة " الأساس " جريدة حزب السعديين – واستضاف المكتبة في هذه لغرف .
وقد كان لهذا التصرف أعظم الأثر في نفس الجالية الإنجليزية في مصر وقد اتصل كثير من الإنجليز بدولته وعبروا له عن عظيم امتنانهم لدولته لعواطفه نحوهم في كل مناسبة .
هذا وقد اقترح بعض أفراد الجالية إقامة حفل تكريم لدولته ولكن رؤى أن الوقت غير مناسب لذلك "
أما أنا فتعليقا على هذا أقول : صدق الله العظيم إذ يقول:
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) (المجادلة : 22)
ثانيا – بعد قيام الثورة
مع عدم إقرارنا للمحاكمات العسكرية والمحاكمات الخاصة باعتبارها وسيلة من وسائل التقاضي فإن النصوص التي نستشهد بها مما جرى على ألسنة رجال النيابة ولشهود فيها هي نصوص من صميم الواقع التاريخي . لا علاقة لها بإجراءات التقاضي .
وكل الذي فعلته الثورة – في إبانها – هي أزالت السلطة المتحكمة في البلاد التي كانت تحمس اللصوص والخونة والسفاحين من رجال الحكم باعتبارهم من أدوات تحكمها ولا تسمح لسلطة القانون أن تمتد إليهم – وبإزالتها وجد هؤلاء المجرمون من الحكام أنفسهم فجأة أمام سلطة المساءلة وجها لوجه .
وقد نجد أكثر التهم الموجهة إلى حكام السعديين بعد قيام الثورة هي نفس التهم التي وجهها إليهم من قبل حكام الوفد ولكنهم وقفوا بها عند حد الاتهام دون أن يجرءوا على محاكمتهم عليها ..,حتى تلك التي جرءوا على محامتهم عليها – خوفا من ثورة الجيش – تدخلت القوة المسيطرة وقتئذ وعلى رأسها الملك فسلبت التحقيقات فاعليتها – كما أشرنا آنفا – حتى لم يعد الاتهام حين قدم إلى القضاء يقوم على قوائم من القانون .
أما عند قيام الثورة فإن لجو كان خاليا من العوائق فوجهت الاتهامات مدعومة بأسانيدها وانطلقت ألسنة الشهود التي كانت ملجمة من قبل بلجام من الخوف ,وأدلي كل إنسان بما عنده .
وإليك بعض الحقائق التاريخية التي تكشفت خلال هذه المحاكمة حيث كان إبراهيم عبد الهادي هو أول سياسي قدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى الإشغال الشاقة المؤبدة وكانت محاكمته في حقيقتها هي محاكمة عهد حزبه قبل أن تكون محاكمة شخصية له.. ولو أن سلفه النقراشي كان على قيد الحياة وقتئذ لقدم معه في نفس المحاكمة :
1- تضاعف ثروة عبد الهادي عشرة أضعاف :
جاء في مرافعة النيابة أن ثروة إبراهيم عبد الهادي – مستقاة من المصادر الرسمية – تضاعفت إحدي عشرة مرة في ظل المناصب الحكومية التي تولاها فقد صارت 990 ( تسعمائة وتسعين ) فدانا وثلاثين ألف جنيه وكانت في الأصل تسعين فدانا .
2- الزج بالجيش في الحرب دون أدني استعداد :
قرر الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة في أيام حرب فلسطين وأيده في ذلك اللواء موسي لطفي مدير العمليات الحربية آنذاك " أن موقف القوات المصرية بالعريش لا يسمح لها بالدخول في المعركة بالنسبة للنقص الكبير في العربات ولأن الموجود منها وإن كان صالحا للسير إلا أنه غير صالح للقتال – والأسلحة والذخائر الموجودة منها لا يكفي للبدء في العمليات ويجب التأكد من وجود مورد ثابت مضمون لاستعاضة المستهلك منها ولتسليم الوحدات التي ستستدعي من الاحتياط للخدمة العاملة . وقرر اللواء أحمد المواوي – القائد العام للجيش المصري بفلسطين – حسن سئل في اللجنة التي جمعت الضباط يوم 10/5/1948 بصراحة تامة عما يفتقر إليه الجيش وما كان يعانيه من نقص فقال :
- " لا توجد وحدة ما في الجيش كاملة المعدات والتسليح وأذكر أنني فتشت على الوحدات بمجرد وصولي للعريش وقدمت لرياسة الجيش كشوفا بالنقص وهي مريعة وتجعل الوحدات عاجزة تماما عن الدخول لأية معركة"
ويقول الفريق محمد حيدر في التحقيق وفي لجنة الجيش " بينت للنقراشي الحالة وعلى الرغم من أني عارضته صمم على دخول الحرب. وكان في ذلك تحقيق رغبة الملك بدليل حضور رئيس الديوان أى أن الأمر كان من السراي , وكان فاروق يريد تزعم الدول العربية وهو الذي دعا رؤساء هذه الدول إلى أنشاص ولم تعلم الحكومة بأمر هذه الدعوة وأول من اشتهي دخول الحرب هو فاروق والمسئولون عن تحقيق هذه الشهوة اثنان هما رئيس الديوان إبراهيم عبد الهادي ورئيس الحكومة النقراشي ..ولو سمعا كلام اللجنة المختصة وعملاء به لأقنعا فاروق بوجهة النظر الصحيحة ولما دخل الجيش الحرب ولكنهما عملا على تحقيق شهوته – كما أيد هذا اللواء أحمد المواوي في شهادته الموجودة بهذا الملف وكذلك اللواء موسي لطفي .
ومما يجب ألا ينسي أن اللواء موسي لطفي بعد أن قرر أمام النقراشي الأمر الواقع للجيش قال له النقراشي " لا تتهيب " ثم قال له " انتم تحت أوامرنا "
3- تضليل البرلمان :
قرر شاهد النفي الدكتور نجيب اسكندر – عضو حزب السعديين وأحد وزرائهم – أن رئيس الحكومة النقراشي لم يكن من رأيه دخول الحرب بعدما رأي في مؤتمر بلودان ...ومع ذلك أعلن في جلسات مجلس الشيوخ والنواب يوم 12 مايو 1948 ما جاء بالحرف الواحد في المضبطة السرية لمجلس النواب يوم 13 مايو 1948 :" أن في الجيش المصري كفاية كاملة وأسلحة وافية , وذخيرة متوفرة ,وأن الذي يقدم على مثل هذا الأمر يتخذ له عدته ".
4- إغفال المؤسسات المختصة :
قرر مجلس الجهاد الأعلى أن موضوع الدخول في حرب فلسطين لم يعرض على المجلس ... كما قرر المحققون في هذه القضية أنه بالبحث عن قرار مجلس الوزراء في شأن دخول هذه الحرب تبين أن مجلس الوزراء لم يصدر قرارا في هذا الشأن ولم يرد ذكر لهذا الموضوع في محاضر جلسات المجلس أى أن الأمر تقرر شفويا .
5- نماذج من طريقتهم في الحكم :
(أ) يؤلمه أن يسمع " أن واحد ماشي بالقانون ":
في أثناء محاكمة إبراهيم عبد الهادي طلب شاهدي نفي هما الأستاذ حسين رأفت واللواء أحمد عبد الهادي .وقد استدعي الأستاذ حسين رأفت وجرت شهادته على النحو التالي وكان السائل هو المدعي :
س- في أى عهد كنت مديرا ( محافظا ) للدقهلية ؟
ج – نقلت إليها ومكثت مديرا لها ثلاث سنوات في عهد النقراشي وعبد الهادي .
س- لماذا نقلت ومتى من الدقهلية؟
ج- نقلت في مايو 1949 إلى مدير عام اللوائح والرخص وأنا حاولت معرفة السبب الحقيقي فلم أعرف ولكن الظروف التي كنت فيها جايز تنير الطريق – حصل بيني وبين النواب والشيوخ في الحزب السعدي سوء تفاهم ووصل لرئيس الحزب وكان رئيسا للحكومة وهو السيد إبراهيم عبد الهادي وكان سببه قرب موعد الانتخابات فكان لهم بعض طلبات كنت أؤخرها , فمثلا كانوا عاوزين نقل رؤساء المدارس الأولية والمدرسين في دائرة المديرية( المحافظة) فأنا قلت لهم فاضل ثلاثة أو أربعة أشهر . وفيه طلبات أخرى بالعمد والمشايخ وبعض الموظفين ..وكانوا بيقولوا إحنا عاوزين نهئ أنفسنا وقلت لهم لسه بدرى ولازم أعرف سبب كل شئ – وقمت بأجازتي السنوية , وبعدها طلبني رئيس الوزارة وقال لى إنه طلب منه كشف بتعديل الدوائر فقلت له : لماذا عملت هذا التعديل قبل حضوري ؟ فقال : أنت حد في تعديلها . وعلمت أنه أرسل صورة منها لرئيس الديوان ويظهر أن ذلك كان بناء على طلب النواب والشيوخ .. فقلت له : ما دامت أرسلت لرئيس الديوان حراجع إيه ؟
والسبب الثاني في نقلي أن إبراهيم عبد الهادي كان بيطلب مني طلبات ما أقدرش أجيبها .. وأنا كنت أسمع أنه بيقول إني عامل قانوني .. وكان بيؤلمه أن يسمع أن واحد ماشئ بالقانون .. وهو اتصل بي مرة وقال : إنت اعتقلت أد إيه من الإخوان ؟ فقلت له . سبعة . فقال : سبعة ولا سبعين .. أنت منتظر لما بيجو يقتلوني ؟.. وبعد كده قال لي : انت بتطبطب على المعتقلين وتوديهم المعتقل كده ؟
فقلت له : أمال أعمل إيه ؟ فقال : يا أخي أسأل إخوانك .
فقلت له : أسأل إخواني ليه.. أنا أتلقي أوامري منك بس تكون في حدود القانون
فقاللى : يا أخي إنت دايما تقول لي ... قانون قانون .ز؟!
س- هل نقلت وحدك أم في حركة ؟
ج- وحدي وكان ذلك في عيد الجلوس .
س – وهل المركز الذي نقلت إليه كان يساوى مركزك ؟
مركز المدير ( المحافظ ) أكبر من الناحية الإدارية .
(ب) عبد الهادي يتصل مباشرة بالضابط السنباطي متجاهلا المحافظ :
كان سعد الدين السنباطي أحد الضباط العريقين في الإجرام في عهد إبراهيم عبد الهادي .. وجاء دوره في المحاكمة بعد قيام الثورة عما اقترفه من جرائم التعذيب .. وقد طلب هذا المتهم الأستاذ أحمد راغب الدكروري شاهد نفي فاستدعته المحكمة وجرت شهادته على النحو التالي :
س- متى كنت مديرا ( محافظا ) للغربية ؟
ج – في نوفمبر 1947 إلى سبتمبر 1949 حيث نقلت إلى الداخلية .
س – ما هي الوظيفة التي كان يشغلها سعد الدين السنباطي في عام 1949؟
ج – كان في وظيفة رئيس القسم المخصوص بمديرية ( محافظة ) الغربية .
س- هل حصلت اعتقالات في هذا العهد؟
ج- أحب أن أوجه النظر إلى أن السنباطي عندما نقلت للغربية كان من الموظفين الذين وثقت فيهم كل الثقة, لأني لمست فيه الكفاية والإخلاص والجداول اجتهاد فقربته مني . حتى أن كثيرا من إخوانه حقدوا عليه هذه المنزلة وحذروني منه كثيرا , وقالوا لي إنه رجل خطر .. ولكني حملت هذا على أنه حقد ..وظل على هذا وأنا واثق فيه إلى أن قتل المرحوم النقراشي وظفر إبراهيم عبد الهادي بالحكم.. وصحب هذا كله موجة من الإرهاب والطغيان أرسلها إبراهيم عبد الهادي في القطر كله .وليس هناك من يجهل هذه الموجة وكان الغرض من هذه الحملات الإرهابية الانتقام من الإخوان المسلمين لقتل النقراشي .
في هذا الوقت تغير السنباطي ومشي في ركاب الطغيان والإرهاب وخرج عن وفائه لى لأنه كان أدني إلى إبراهيم عبد الهادي منه لى لأنه صنيعته في الأصل . وكما علمت منه فيما بعد أنه من أخلص المخلصين له وأنه يضحي بنفسه وماله وأولاده في سبيل إرضائه .
فكنت ألمس أن إبراهيم عبد الهادي كان يتصل مباشرة بسعد الدين السنباطي في كل ما يتصل بالإخوان المسلمين والاعتقالات والحبس وغير ذلك ويتجاهلني تماما ..,كلنا في هذا الوقت كنا نرهب هذا العهد لا لشئ إلا لأنه كان عهدا لا عقل به ويجوز أنه كان ينال من الأبرياء ..
فكان السنباطي – بصفته رئيس القسم المخصوص وبحكم اتصاله بإبراهيم عبد الهادي – يتصرف كيفما يشاء ويعتقل كيفما يشاء ولا معقب لتصرفاته فكان يعتقل ويقبض كما يريد , وما عليه إلا أن يقدم مذكرة بمعلوماته – وفيها الكفاية – على أن هؤلاء الناس من أخطر الناس على الأمن وكان يحصل بهذا على أوامر الاعتقال .
وقد لاحظت أن الحملة الإرهابية كان يصاحبها دائما تفتيشات وضبط أسلحة ومهمات كثيرة مثل الأجهزة اللاسيلكية فلما تكررت العملية بدأت أتشكك في أنها صحيحة ولكن تشككي لم يذهب إلي حد اليقين , وكنت غير مرتاح لهذا ..ولهذه اللحظة ما أقدرش أقول إني متيقن من أن هذه الأشياء كانت تضبط فعلا أم أنها كانت للفتنة .
وفيما يختص باتصال سعد الدين السنباطي بإبراهيم عبد الهادي واستسلام عبد الهادي لطلباته .. وكان سعد الدين صاغا ( رائدا ) في ذلك الوقت .. فيه حادثة أقول لكم عليها :
سعد الدين في موجة الإرهاب ادعي أن هناك مؤامرة على قتلة من الإخوان المسلمين ليه؟ لأنه داير يقبض عليهم .. بلغني هذا واتخذ هو بنفسه إجراءات فيها فكان محقق ومجني عليه .. فأنا أشرت أن المسألة لازم تروح النيابة .. وبدأ التحقيق فيها رئيس النيابة ..ولأن القضية فيها مؤامرة على قتل موظف كبير حبيت أشوف التحقيق ماشي إزاي . فذهبت إلى البندر ووجدت رئيس النيابة أمامه أحد المتهمين وكان يسأله عن نقطة معينة أنكرها المتهم . فرئيس النيابة قال له : إن زميلك اعترف بها , فأجابه بأنه يمكن أعترف لأنهم عذبوه كما عذبوني . فأراد رئيس النيابة أن يسأله عن وقائع تعذيبه فهاج سعد الدين السنباطي وثار وترك التحقيق وانصرف قائلا لرئيس النيابة : إنت بتسيب التحقيق الأصلي وعاوز تحقق في التعذيب ؟ أنا الحقيقة ذهلت .. ماذا أستطيع أن أفعله .. بعد ما سابنا ومشى وحاولنا أن نعيده مارضيش إلا بعد نصف ساعة محايلة .. وأنا وجدت إني أحسن ما أقعدش فخرجت ورحت قعدت في النادي .. ثم قابلت سعد الدين فقال لى : هذا ليس بتحقيق لأن رئيس النيابة يترك الموضوع الأصلي ويحقق ضدنا في التعذيب ...ومع ذلك هو مش رايح يحقق القضية أنا اتصلت بإبراهيم عبد الهادي ووعدني أن النائب العمومي سيصل باكر صباحا لسحب التحقيق منه .
لم أستغرب ولكني برضه استكثرتها .. فقعدت أفكر وأنا زعلان منه لأنه أساءني ومس كرامتي وجت الحكاية دى .. ولو تم ما قاله سعد الدين تبقي هذه الجريمة - جريمة سحب التحقيق من رئيس النيابة – لأني اعتبرها جريمة – تقع على عاتق مين ؟ سعد الدين السنباطي ولا إبراهيم عبد الهادي ولا النائب العام ؟
انتظرت للصبح فسمعت ان النائب العام وصل للأسف .. رحت أشوف النائب العام فوجدت النائب العام بنفسه ومعه ثلاثة من مفتشي النيابة – سلمت عليه ثم فهمت منه بأنه جاى يفتش فوجد أن رئيس النيابة مشغول بقضية كبيرة وفيه شغل تاني كتير وأنه رأي من صالح العدالة إنه يسحب التحقيق معه ويعطيه لمفتش النيابات ليتفرغ هو إلى الشغل العادي .. وقد كان ويكل أسف وسحبت القضية من رئيس النيابة .
رئيس المحكمة – من هو النائب العام في ذلك الوقت ؟
جـ الأستاذ محمود منصور .
بعد كده دلني هذا على شئ هو أن فيه تعذيب .. ولو لم يكن فيه تعذيب ما كانش سعد الدين ثار واتصل برئيس الحكومة ولا كانش رئيس الحكومة يسوغ له العبث بالعدالة . لكن من المسئول؟ .. هذه مسألة أتركها لكم .
س- ألم يصل إلى علمك أن رئيس الحكومة نكل برئيس النيابة وعطل ترقيته ؟
ج – سمعت فيما بعد من رئيس النيابة أنه كان مدرجا ضمن المرشحين للترقية ولما عرض على إبراهيم عبد الهادي شطبه وآخر ترقيته وأنا قلت لرئيس النيابة ولم يكن يعرف السبب الحقيقي – لا يا أستاذ حصل كذا وكذا وحكيت له حقيقة اللي حصل .
- (ج) البوليس السياسي في عهدهم :
وجاء دور اللواء أحمد عبد الهادي حكمدار القاهرة ( مدير أمن القاهرة ) في عهد عبد الهادي لأداء الشهادة فسئل عن البوليس السياسي( وكان يسمى أيضا بالقسم المخصوص ) فأجاب :
" ضباط البوليس السياسي لم يكونوا خاضعين للحكمدار وإنهم يكتبون تقاريرهم من ثلاث صور : إحداها ترسل للسفارة البريطانية والثانية للسراي والثالثة للوزارة ".
وبعد
فهؤلاء هم الذين كانوا يحكمون البلاد في تلك الأيام..
ومن هؤلاء .. جاءت مذمتنا ..
ورحم الله أبا الطيب إذ يقول :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لى بأني كامل .
الفصل الخامس هذه القضية .. تطورها الإجرائي أمام القضاء
في سجلات النيابة العامة والقضاء نقرأ أطوار هذه القضية في الخطوط الرئيسية التالية :
- أولا - وقعت الجريمة في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم السبت الموافق 12 فبراير 1949 أمام مبني جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
- ثانيا : أجريت تحريات وتحقيقات وقتئذ لم تسفر عن معرفة الجناة وانتهي الأمر بحفظ التحقيق مؤقتا, وكان ذلك في عهد النائب العام محمود منصور .
- ثالثا – استأنفت النيابة التحقيق في عهد وزارة حسين سري ثم في عهد وزارة الوفد وأصدرت النيابة أمرا بحظر النشر عن هذا التحقيق فلم تسفر هذه التحقيقات عن الوصول إلى الجناة .
- رابعا : لما قامت الثورة أمرت القيادة بالقبض على الأميرالاي ( العميد) محمود عبد المجيد وكان مديرا ( محافظا ) لجرجا في ذلك الوقت وذلك في 29 يوليو 1952 كما أمرت بالقبض على المتهمين الآخرين,وأودعوا السجن الحربي ,حيث تولي التحقيق معهم نائب الأحكام البكباشي ( المقدم ) إبراهيم سامي جاد الحق .
- خامسا – إحالة القضية إلى غرفة الاتهام :
ثم أحيل التحقيق إلى القضاء وندب الأستاذ حسن داود المستشار بمحكمة الاستئناف للقيام به . وأحيلت القضية إلى غرفة الاتهام برياسة الأستاذ مرسي فرحان رئيس محكمة الاستئناف وعضوية الأستاذين محمد على جمال الدين وعبد الرحمن جنينة .. ومثل النيابة الأستاذ فؤاد سري – فقررت الغرفة الإفراج عن اليوزباشي عبده أرمانيوس والبكباشي حسين كامل والأمباشي حسن محمدين رضوان والجاويش محمد سعيد إسماعيل والبكباشي محمد الجزار – واستمرار حبس الأومباشي أحمد حسين جاد ومصطفي محمد أبو الليل غريب والباشجاويش محمد محفوظ السائق والأميرالاي محمود عبد المجيد ..
كما قررت إحالة جميع المتهمين إلى محكمة الجنايات – وقررت ألا محل لإقامة الدعوي على إبراهيم عبد الهادي وعبد الرحمن عمار . سادسا – أول دائرة جنايات تنظر القضية:
ثم تولت دائرة الجنايات برياسة الدكتور كامل ثابت نظر القضية في 10 نوفمبر 1953 فبدأت بسماع شهود ( الإثبات ) فاستمعت إلى الأستاذ محمد يوسف الليثي وهو الشاهد الرئيسي في القضية وقد أوردنا نتفا من شهادته .
• شهادة عبد الله خليل فواز :
ثم استمعت إلى شهادة عبد الله خليل فواز من أعيان جرجا وكان على صلة وثيقة بالمتهم الميرالاي محمود عبد المجيد – وجاء في شهادته : أنه حضر إلى القاهرة في شهر فبراير 1949 لزيارة المعرض , وفي يوم 12 فبراير دعا مدير عليهم محمد محفوظ سائق محمود عبد المجيد وتحدث معه حديثا خاصا نحو عشرة دقائق ثم خرجا معا.
وفي اليوم التالي قابله محمود عبد المجيد وأخبره بمقتل الشيخ البنا فقال له : إنني سمعت هذه الإشاعة بعد ما تركتموني أمس بربع ساعة – وقال : إن محمود عبد المجيد قال لى : إن البعض أعطي نمرة سيارتي على أنهم رأوها عند الحادث .. وحدثت مناقشة بيننا حاول خلالها أن يحملني على أن اعترف بأن سيارته كانت تقف أمام اللوكاندة وقت الحادث إلا أني نظرا لأني لم أرها قلت له : والله أنا لا أعرف حاجة , ورفضت أن أشهد بذلك.. وطلب مني عدم السفر حتى أدلي بأقوالي التي يريدها.
وفي اليوم التالي قابلته التالي بالوزارة وسألته عما تم فقال : مافيش داعي .. سافر أنت ..
• اعتراف السابق محمد محفوظ بارتكاب الجريمة :
وبعد أسبوع رجعت إلى القاهرة مرة أخرى وركبت سيارة محمود عبد المجيد مع السائق محمد محفوظ.. وأثناء الطريق طلب منى محفوظ أن أتوسط لدى محمود عبد المجيد لترقيته فرفضت .. وفوجئت به يقول : 30 جنيه إيه.. دي حاجة ليس لها قيمة – وأنا كنت خالي الذهن من هذا الموضوع .. إلا أنه لاعتقاده بصلتي بمحمود عبد المجيد ظن أنني أعرف كل شئ فبدأ يصارحني واعترف بكل شئ وقال : أنا ركبت السيارة ومعي أمارنيوس ومحمدين وأشخاص آخرون لا أذكر أسماءهم , وتوجهنا إلى جمعية الشبان المسلمين ,ووقفنا في مكان مقابل لها ونزل أحمد حسين – المتهم الأول – ومعه شخص لا أذكر اسمه وراحوا الجمعية وارتكبوا حادث مقتل الشيخ لابنا وعادوا وركبوا السيارة ..والجماعة اللي كانوا معاهم كانوا حاميين ظهورهم – وبعد الحادث ركبوا معي وأمروني بالاتجاه لوزارة الداخلية .. وهناك غيروا ملابسهم.. وعاد محمد محفوظ إلى اللوكاندة حيث قابل الأميرالاي محمود عبد المجيد.... فانا دهشت وقلت له هذه مسائل خطيرة وتضرك كثيرا .
• شهادة محمد حسنين عضو جمعية الشبان :
وسمعت الحكومة أيضا الشاهد محمد حسنين وجاء في شهادته أنه كان المتهم ( وأشار إلى أن أحمد حسين جاد) يتردد كثيرا على الجمعية . كما أنه شاهد المتهم محمدين يجلس القرفصاء على الرصيف أمام الدار وذلك قبل مصرع الشهيد بأيام – وقد أمرت المحكمة المتهمين بالوقوف فتعرف عليها الشاهد وأصر على أقواله .
• حرم النقراشي تعطي القاتل بقشيشا:
ثم سمعت المحكمة الشاهد سعد الله مصطفي السيد من أهالي أبو دومه بسوهاج وجاء في شهادته ما يلي :
كنت موجودا بسوهاج بعد الحادث بشهر . وقابلني أحمد حسين جاج – وأشار إلى المتهم الأول – فعرض على قطعتين من الصوف لبيعهما .. وإحنا في سياق الحديث سألناه عن مصدر الصوف فقال :" هدية من ناس كبار . من حرم النقراشي باشا لأني أخذت لها ثأر زوجها .. ومحمود عبد المجيد وعبد الرحمن لحرم النقراشي باشا فأعطتني الهدية وأعطوني يقشيش 600 جنيه ".
فقلت له : ما دام صاحب القماش قتل أنا لا آخذه. وتركته .
وسألته المحكمة : هل رأيت شيئا آخر مع المتهم؟
فقال : وراني صورة النقراشي مكتوب عليها " هدية لبطل الصعيد وجرجا " وموقع عليها من حرم النقراشي باشا .
ثم سمعت المحكمة الشاهد على محمد يونس تاجر وترزي بطما .. شهد بأن سعد الله مصطفي أخذه إلى القهوة وحضر المخبر أحمد حسين ومعه القماش وصورة النقراشي وأيد شهادة سعد الله .
• اعتراف السائق محمد مرة أخرى:
وسمعت المحكمة أيضا شهادة الباشجاويش محمد فرج على الوجه الآتي :
المحكمة : هل حدث حديث بينك وبين محمد محفوظ؟
الشاهد – بعد الحادث بثلاثة أو أربعة أيام الأميرالاي محمود عبد المجيد كان عاوز يركب ويروح مجلس الوزراء فلم يجد سيارته فركب في سيارتي الحكومية ووصلته وانتظرته هناك وفي هذه اللحظة جه محمد محفوظ وأنا قلت له أن الشيخ البنا قتلوه أول امبارح ومحدش عمل حاجة وأن واحد سفرجي ضربه . فرد على وقال : الحكاية ماهيش كده... أقول لك الحكاية وما تقولش لحد ؟ فحلفت له إني لا أقول ولكن لم يصدقني إلا بعد أن حلفت يمين الطلاق.
فقال لى : احنا كنا في الحادث وضربناه إحنا والعيال المخبرين اللي جايين من جرجا , وكان ويانا سعادة محمود بك عبد المجيد وقت ما ضربوه . وقال لى : أن محمود عبد المجيد كان يلبس الجلابية ولافف تلفيعة على دماغه وقالوا عليه سفرجي وهو اللي ضرب أول طلقة ,احمد حسين هو اللي ضرب الطلقات الثانية .
وقلت له : إزاى تعمل كده ؟ فقال : احنا نعمل إيه ؟ رغبة الحكومة كده والسراي راضية لأن الإخوان قتلوا النقراشي .
وقال كمان إن عبده أرمانيوس وحسين كامل والمخبر محمد السعيد كانوا مجودين معانا وكان محمد سعيد يلبس بدلة وكان واقف بالشارع وكانوا دول حارسين .
وقال الشاهد : أن هذه المعلومات لم أقلها إلا في القيادة بعد أن قامت حركة الجيش وعلمت أن محمد محفوظ جابوه من جرجا .
المحكمة – محمد محفوظ ما قالش لك إنه أخذ فلوس ؟
الشاهد - بعد اعترافه لى بعشرين يوم تقابلنا بالوزارة . وأخذت اشتكي له الضيق وكثرة المصاريف , فأخرج محفظة من جيبه وبها ثلاث ورقات , ورقة بمائة جنيه والاثنين التانيين كل واحدة بمبلغ خمسين جنيه – فقلت له : ليه شايل المبالغ دي كلها ؟ قاللى : لو كان معايا فكة كنت أعطيت لك اللي أنت عاوزه .
كما سمعت المحكمة شهادة آخرين منهم الأستاذ مصطفي مرعي والأستاذ محمد زكي على واللواء صالح حرب ومطلقته والأستاذ مصطفي الشوربجي..
وقد عرضنا في الفصول السابقة لبعض ما جاء في شهادتهم .
سابعا – رد هيئة المحكمة التي تنظر القضية :
في نهاية جلسة 19/11/1953 وفي أثناء أداء اللواء صالح حرب لشهادته طلب المتهم محمد محمد الجزار عقد الجلسة سرية لأنه يريد أن يقول أشياء تتصل بالليثي والشاهد وزوجته لا يجوز ذكرها في جلسة علنية . فأصر الشاهد على أن يقول الجزار ما يشاء علنا , ولكن محامي الجزار قال للمحكمة أن موكله عدل عن طلبه .. فإذا برئيس المحكمة يقول للمحامي : هل رجعت إلى موكلك في شأن العدول عن السرية ؟
وهنا ثار الأستاذ عبد القادر عودة من المحامين المطالبين بالحق المدني وقال :
إن المطالبين بالحق يرون في تصرف رئيس المحكمة في قوله للمحامي عن الجزار : هل رجعت إلى موكلك بعد أن قرر العدول عن الجلسة السرية وموكله بجانبه , يرون في ذلك نوعا من التحيز لا سيما وقد سمح رئيس المحكمة للدفاع بمناقشة الشهود قبل المطالبين بالحق المدني الأولوية في توجيه الأسئلة إلى الشهود – وقال : إن رئيس المحكمة تربطه بإبراهيم عبد الهادي روابط معينة كما أنني حين كنت قاضيا كنت لا أشهر في ثقة من ناحيته وأشعر بحرج .. وأساس القضاء ليس هو العدالة ولكن الثقة في نفوس المتقاضين – وطلب تنحيه .
وقررت المحكمة – بعد المداولة – إحالة الأستاذ عبد القادر عودة لقاضي التحقيق على أن يتخذ هو من جانبه إجراءات الرد.
واستغفرت إجراءات رد المحكمة زمنا طويلا فقد عرض طلب الرد أولا على دائرة برياسة محكمة الاستئناف فطلب الأستاذ عبد القادر رد هذه الهيئة . فعرض بعد ذلك على هيئة برياسة أكبر مستشاري محكمة الاستئناف سنا فرفضت طلب الرد.
فاستأنف الأستاذ عبد القادر القرار أمام محكمة النقض – الدائرة المدنية – ثم الدائرة الجنائية فقررت كلتاهما عدم الاختصاص .
فظل قرار رفض طلب الرد قائما .. وحينئذ تنحت هيئة المحكمة من تلقاء نفسها عن نظر القضية .
ثامنا – هيئة جنايات أخرى تعيد نظر القضية :
انعقدت الجمعية العمومية للمستشارين وعهدت إلى دائرة الأستاذ محمود عبد الرازق وعضوية الأستاذين محمد شفيع الصيرفي ومحمد متولي عتلم بنظر القضية ومثل النيابة الأستاذ على نور الدين ..وبدأت أولي جلساتها يوم 16/ 4/ 1954.
وحضر عن المدعين بالحق المدني الأساتذة عبد القادر عودة ومحمد عزمي وعبد الحكيم منصور والدكتور عبد الله رشوان وعلى طمأن وأحمد كامل .. وطلبوا 30 ألف جنيه لزوجة الشيخ البنا وأولاده 30 ألف جنيه للأستاذ عبد الكريم منصور . كما طلب والدا المجني عليه قرشا صاغا من المتهمين والحكومة.
وحضر عن الحكومة الأستاذ أحمد محمد أغا المستشار بقسم قضايا الحكومة وطلب رفض الدعوى المدنية وبراءة المتهمين وتألفت هيئة الدفاع عن المتهمين من الأساتذة فريد أبو شادي وأحمد الحضري وشوكت التوني ومحمد على رشدي وعبد الجليل العمري وسيد مصطفي وحماده الناحل وعبد الحميد رستم وحسن إدريس وعبده أو شقة وعبد لمجيد الشرقاوي والظاهر حسن ومختار قطب .
تاسعا – شهود جدد استمعت إليهم الهيئة الجديدة:
• موظف بالداخلية يقرر أن المخبرين جاءوا من جرجا لمهمة سرية :
بعد أن استمعت المحكمة إلى الشهود الذين أدلوا بشهاداتهم أمام الهيئة السابقة أخذت في الاستماع إلى شهود آخرين لم يكونوا قد أدلوا بعد بشهاداتهم .. ومنهم الأستاذ زكي عبد التواب الموظف بوزارة الداخلية وعضو جمعية الشبان المسلمين وجاء في شهادته ما يلي :
قال : إنه كان في جمعية الشبان المسلمين لأنه سكرتير القسم الاجتماعي بها فسمع فرقعة ونظر من نافذة الدور الثاني فرأي رجلا شكله شاذ يلبس جلابية وعلى رأسه تلفيحة كان واقفا عند محطة الترام ..وشهد بأنه رأي غلاما أسمر يقول إنه أخذ نمرة السيارة . ثم قال : وكان واحد أسمه محمد عثمان عندنا في الجمعية ناداني قائلا : يا زكي يا زكي .. فرحت وقال لى : إن الولد ده معاه نمرة السيارة . فسألت الولد فذكر لى النمرة وواحد من الواقفين كتبها ومش متذكره .. وبعدين الولد ركب على رفرف العربية وراح معاهم الإسعاف .. وأنا قلت للعسكري هناك : بقي ترتكب أمامكم جريمة ولا تمسكوش الجاني وإحنا نمسكه .. روح يا شيخ ما هو انتوا اللي قتلتوه .. ورحت أنا ومحمد مصطفي ومجموعة كبيرة الإسعاف وما وجدناش الشيخ البنا لأنه كان راح القصر العيني .
وفي اليوم التالي رحت الوزارة – وزارة الداخلية – وسمعت مخبرين بيقولوا ما حدش ارتكب الحادث ده إلا المخبرين دول .. وأنا تذكرت شكل الشخص اللي شقته عند الترامواي ..
ولما شفتهم في الوزارة عرفتهم وسألت عنهم فقيل لى إنهم من جرجا والمدير جابيهم علشان مهمة سرية فقلت لازم هم اللي عملوا الحادث فنزلت علشان أتأكد من الشخص اللي شفته فلم أجدهم لأنهم كانوا مشيوا وربطت بين الحوادث دي كلها . وبعد كده بدأ محمد محفوظ يتكلم مع مخبرى الوزارة .
وفيه واحد اسمه فهمي مصطفي سأل المخبر أحمد حسين قائلا : هو الشيخ البنا فين النهاردة ؟ فقال له : إنت بتسألني ليه .. هو أنت بتجسس على ؟ .. والمخبرين اللي في الإدارة قالوا إن محمد محفوظ بيقول لهم : إحنا رحنا واستنتهم بالعربية ارتكبنا الحادث , وأنا بيتهالي كل ما أروح الحتى دي أشوف شبح الشيخ البنا .
الرئيس – مين اللي قال كده من المخبرين ؟
الشاهد – واحد اسمه محمدين ..ومرة حصل إن محمد محفوظ كان مدين لفهمي هذا في خمسة قروش صاغ فطلع له محفوظ ورقة بمائة جنيه .
ومضي الشاهد يقول إنه حذر الليثي أكثر من مرة نظرا لاهتمامه بالحادث وقال له : يجب أن تكون حذرا لأن هؤلاء الناس خطرين وإن المجهودات التي يقوم بها ستضيع هباء .
الرئيس – وده إذن اللي خلاك امتنعت عن الشهادة ؟
الشاهد – أيوه .. أنا شخصيا كنت خايف , وعارف أن السعديين خطرين وهم حاولوا نقل خمسة مخبرين مرة واحدة وظهر على شان كانوا بيتكلموا كتير في الموضوع – ومرة طلب مني الليثي أن أتقدم للشهادة فقلت له : مش ممكن لأنه ما فيش ضمان للواحد وأنا كان ضميري يؤنبني لأني عايز أقول الحاجة اللي شفتها فكتبت جواب من غير إمضاء وبعته لليثي وذكرت فيه المعلومات اللي أعرفها .
الرئيس – واشمعني بتبعته لليثي؟
الشاهد – أنا خفت أرسله للنيابة بخطفوه فبعته لليثي لأنه متحمس
الرئيس – من هو الشخص الذي اشتبهت في وقوفه أمام محطة الترام ؟
الشاهد – ( أشار إلى أحمد حسين) وقال : هو ده 80% هو ده وبعدين شفته في الداخلية مع المخبرين الثلاثة .
الرئيس – ما شفتش حد غيره من المخبرين اللي شفتهم في الداخلية بعد الحادث عند باب الجمعية ؟
الشاهد – أيو شفت وهم دول ( وأشار إلى محمد إسماعيل وحسين محمدين).
الرئيس – هل بينك وبين الأميرالاي محمود عبد المجيد حزازات ؟
الشاهد – أبدا .. أبدا وأنا أحترمه .
الرئيس – لما سمعت إنهم جابوا مخبرين من جرجا ما عرفتش مين جايبهم؟
الشاهد – اللي سمعته أن عبد الرحمن عمار هو صاحب الفكر والموعز بإحضارهم لأنه كان مدير جرجا وعارفهم من زمان .
الرئيس – عرفت منين كده؟
الشاهد من الوزارة .. كان الموظفين بيتكلموا وقالوا أن عبد الرحمن عمار خايف على نفسه بعد حل الجمعية .
الرئيس – إيه اللي خلاك فاكر نمرة السيارة ؟
الشاهد – لأنه رقم سهل جدا 9979.
• شاهد آخر سمع اعتراف محمد محفوظ :
ثم سمعت المحكمة محمد حسن ندا صاحب محل حلوي قال :
أنا في محلي فوجدت عربية الأميرالاي محمود عبد المجيد وقفت أمام بيت أحمد سليم جابر اللي جنب المحل ونزل الأميرالاي عبد المجيد وفضل السواق محمد محفوظ والمخبرين ثلاثة لا أعرفهم . ومحمد محفوظ دخل جوء المحل عندي فقلت له : أنتم جايين منين كده ؟ فقال: جايين من حاجة جامده .. احنا قتلنا الشيخ حسن البنا .. فقلت له : إزاي ؟ فحكي لى عن الدور وإنهم ضربوه بالمسدس وانكسر الزجاج والسواق اترمي على الأرض , وواحد فتح الباب من اليمين والتاني فتح الباب من الشمال – وكان الكلام ده يوم الحادث الساعة تسعة ونصف تقريبا .
الرئيس – هل كان محمد محفوظ بتردد عليك قبل كده وشفت المخبرين قبل كده ؟
الشاهد – أنا شفت محمد محفوظ كتير قبل كده لكن المخبرين ما شفتهومش .
الرئيس – شفتش حد يتردد على بيت سليم جابر غير محمود عبد المجيد ؟
الشاهد – كان بيجيله على حسنين المتهم في قضية عبد القادر طه
• ومن شهادة الصول محمد البهي شرف:
وهو موظف بإدارة المباحث الجنائية يقول :
في خلال شهر يناير 1949 وجدت الثلاثة المخبرين دول في بوفيه الوزارة تحت وكنت لاحظت أنهم بيترددوا على الصاغ حسين كامل فسألتهم أنتم مين ؟ فقالوا :احنا مخبرين وجايين نشتغل في الوزارة هنا . فدخلت أبحث عن أوراق عن كيفيه نقلهم فلم أجد فسألت الصاغ حسين كامل عنهم فقال : ايوه .. ثم عاد وطلب مني أن أنتظر حتى يسأل الأميرالاي محمود عبد المجيد ثم دخل لمحمود عبد المجيد وخرج بعد شوية وقال لى : دول جايين في مأمورية خاصة ومالكش دعوة بيهم .
الرئيس – ألم تثبت اسم أحد من المخبرين دول في الدفاتر؟
الشاهد – أظن أثبت اسم أحمد حسين جاد في الوقت اللي سألت فيه الصاغ حسين كامل ومأ أثبتش الباقي علشان الأمر اللي صدر لي .
• جاكتة الصول للسائق محمد محفوظ :
وجاء في شهادة القائمقام طه زغلول أن السائق محمدي الحركي أطلعه على جاكته صول فصلها محمد محفوظ مقدما حيث وعدوه بالترقية مكافأة له فأخذه طه زغلول فأوصله إلى القيادة بالسجن الحربي وسلم الجاكتة للقيادة .
فطلبت لمحكمة إحضار السائق محمدي الحركي في الحال فأحضر وبسؤاله قرر ما قاله طه زغلول . فلما ووجه بمحمد محفوظ وحاول محفوظ على الإنكار قال محمدي للمحكمة : إذا أصر على الإنكار فأذكر اسم لا ترزي الذي فصلها ..وقد اعتبرت المحكمة موضوع الجاكتة هذا من أهم نقط القضية.
عاشرا – من مرافعة النيابة في القضية:
بدأت النيابة مرافعتها بالسطور التالية :
- " الجريمة المقدمة اليوم تعد من أخطر الجرائم التي نكبت به البلاد في العهد الأخير وتتمثل خطورتها في ناحيتين : أولا – أنها جريمة اغتيال رجل من أكبر رجال الدين في العصر الحديث هو المغفور له الشيخ حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين – وثانيا – أنها جريمة قتل دبرتها وأشرفت عليها ونفذتها الدولة في سبيل القضاء على فكرة معينة أو دعوة معينة كان ينادي بها الفقيد . وكانت تلقي التأييد من عدد من الموطنين..
وكانت الدولة ترى في هذه الدعوة ما يهدد كيانها فأرادت أن تقضي عليها بالتخلص من صاحبها ,وذلك باغتياله . وهكذا سخرت الدولة قوتها وسلطانها في ارتكاب جريمة قتل رجل أعزل مجرد من القوة والحماية ولا لشئ إلا للرغبة في إرضاء الحاكمين الذين رأوا أن بقاء هذا الرجل الأعزل يهدد نظام دولتهم وحكمهم فدبرت هذه الجريمة بوساطة رجال الأمن المفروض فيهم المحافظة على أرواح المواطنين وحمايتهم .
وهكذا عادت بنا هذه الحكومة إلى عصور البربرية الأولي حين كانت شريعة الغابة هي القانون الوحيد وحيث كان السيف هو اللغة الوحيدة لمناقشة رأي معارض أو فكرة لا تروق الحاكم – كيف لا وقد أهدرت هذه الحكومة كل القوانين السماوية والوضعية ونسيت وظيفتها الأولي في حماية الناس وتمكينهم من التعبير عن آرائهم وأفكارهم "
الحادي عشر – نص الحكم الذي أصدرته المحكمة :
بدأت هذه الدائرة في نظر القضية يوم 16 من أبريل 1954 وانتهت من نظرها يوم 7 يوليو 1954 , وقررت تأجيل النطق بالحكم إلى جلسة 2 من أغسطس 1954 .
وبلغ عدد الجلسات التي عقدتها المحكمة 34 جلسة سمعت خلالها 33 شاهدا وبلغ عدد صفحات محاضر الجلسات 1100 ألف ومائة صفحة عدا أوراق القضية وتبلغ نحو آلاف صفحة .
وقد عقدت الجلسة يوم 2 من أغسطس وأصدرت الأحكام التالية :
حكمت المحكمة حضوريا :
أولا – بمعاقبة أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقة المؤبدة . وكل من الباشجاويش محمد محفوظ والأميرالاي محمود عبد المجيد بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشر سنة وبإلزامهم بطريق التضامن والتكافل مع الحكومة المسئولة عن الحقوق لمدنية :
- أ- بأن يدفعوا عشرة آلاف جنيه على سبيل التعويض للسيدة لطيفة حسين الصولي زوجة المرحوم الشيخ حسن البنا وأولاده القصر منها وفاء وأحمد سيف الإسلام وثناء ورجاء وهالة واستشهاد المشمولين بولاية جدهم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا .
- ب- وبأن يدفعوا للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والسيدة أم السعد إبراهيم صقر والدي القتيل مبلغ قرش صاغ واحد على سبيل التعويض المؤقت .
- ت- وبأن يدفعوا للأستاذ عبد الكريم محمد أحمد منصور مبلغ ألفي جنيه على سبيل التعويض ..
وألزمت المتهمين المذكورين بالمصروفات المدنية وثلاثين جنيها مقابل أتعاب المحاماة للفريقين الأول والثاني المدعين بالحق المدني و20 جنيها للثالث .
ثانيا – بمعاقبة البكباشي محمد محمد الجزار بالحبس مع الشغل لمدة سنة ورفض الدعاوي المدنية قبله .
ثالثا: ببراءة كل من : مصطفي محمد أبو الليل واليوزباشي عبده أرمانيوس والبكباشي حسين كامل والجاويش محمد سعيد إسماعيل والأومباشي حسين محمدين رضوان مما أسند إليهم مع رفض الدعوي المدنية الموجهة لهم.
رابعا : وقدرت المحكمة 20 جنيها لكل من المحاميين المنتدبين وهم الأساتذة أحمد الحصري وحمادة الناحل وعبد الحميد رستم وعبد الفتاح لطفي تصرف لهم من الخزانة العامة.
وكانت المحكمة خلال هذه الجلسة في حراسة شديدة . وحضر المراسلون لوكالات الأنباء والصحفيون وقد ازدحمت قاعة الجلسة بعدد كبير من رجال القانون والضباط وأقارب المتهمين والسيدات . ومنع الدخول إلا بتذاكر – وسأل الصحفيون رئيس المحكمة عن حيثيات الحكم فقال إنها قد تم إنجازها وهي تقع نحو خمسمائة صفحة .
وقد أمرت النيابة بالقبض على البكباشي محمد الجزار المحكوم عليه بسنة حيث قضي منها في السجن ثلاثة أشهر فقط . وهكذا كان من حق القارئ علينا أن يكون على تصور كامل واضح لمعالم المحاكمة وإجراءاتها الرسمية انعقدت جلساتها في خلال عامي 1953, 1954 في قاعة الجنايات بمحكمة القاهرة, وما دار خلالها وما أسفرت عنه من نصوص الأحكام ... فهذا بلا شك جزء لا ني عن الإلمام به لمن يريد أن يلقي على القضية نظرة شاملة .
والواقع أن هذه المحاكمة وما جرى فيها وما أسفرت عنه لم تكن في حقيقة أمرها إلا مجرد مؤشر ذي دلالة ناطقة أشار بأسلوب رمزي إلى الجناة الحقيقيين من بعيد ... وأومأ من طرف بنداء صامت إلى أصحاب الحق أن استرداد حقوقه من غاصبيها هو أمر فوق طاقة القضاء .
ذلك أن القضية ليست نزاعا بين أفراد, بل هي صراع أمم ونضال مرير بين مبادئ وأفكار , وأن هذا الخلاف متأصل في النفوس وأصل إلى أعماقها , وأن الزمن وحده هو الذي يقضي فيه... وهو نزاع قديم متجدد ... إنه الصراع بين الحق والباطل .. وهو الصراع الذي بدأت آخر حلقاته برسالة محمد صلي الله عليه وسلم .. ولا زالت الحرب منذ ذلك الحين قائمة على قدم وساق وإن تشكلت في كل مرحلة من مراحلها بشكل معين وتزيت بزى مختلف .
ولعل هذا هو ما نحا بنا في معالجة هذه القضية هذا النحو الذي جعلنا نوغل فيما أحاط بها من مؤامرات عالمية ومؤشرات سياسية بعيدة الغور وحللنا في خلالها كثيرا من مواقف الأشخاص والأحزاب والحكومات والدول .
وقد يرى القارئ فيما وقع بعد ذلك من أحداث جسام أن الحكم الحقيقي في هذه القضية لم يصدر بعد لأن الزمن حين يصدر حكمه لا يصدره داخل جدران محكمة, ولكن يصدره في ميادين تراق فيها الدماء ,وترخص فيها النفوس, وتزهق فيها الأرواح وتقوض فيها العروش وتذال فيها الدول , ويتغير معها وجع الدنيا .. وسيظل الصراع قائما هكذا حتى يتمخض آخر الأمر عن انتصار الأفكار التي اغتيل حسن البنا من أجلها فتحتل مكانها في القلوب والعقول ,وتكون هي الفيصل بين الناس في جميع شئون حياتهم بعد أن يثبت لهم أفكار المتآمرين وإفلاس أساليبهم ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ) ( فصلت : 53) ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون .وإن جندنا لهم الغالبون ) ( الصافات : 171 -173)( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) ( آل عمران : 196)
الباب الثاني محاولات أخيرة للإجهاز على الجريح
- • قانون الجمعيات
- • المحاكمات .
- • معالم في هذه القضايا .
- • البوليس السياسي والتعذيب
الفصل الأول قانون الجمعيات
مقدمة
اعتقد الإخوان ,واعتقد أكثر الناس بأن معاناتهم ومعاناة الإخوان قد آن لها أن تنتهي بعد أن عملوا بكل جهودهم على إسقاط السعديين وتم ذلك بنجاح " الوفد" في الانتخابات , وتقديمه ليتسلم زمام الحكم غير منازع, بالأغلبية الساحقة التي أولوه إياها وهي أغلبية تكاد تكون إجماعا .. لاسيما وأن حصوله على هذه الأغلبية قد جاءه على يأس وكانت قد سدت أمامه السبل .
ولم يأل المسئولون في الوفد جهدا في قطع العهود على أنفسهم وعلي حكومتهم المستقبلة ألا يبقوا من عهد السعديين على أثر , وأن يردوا إلى الشعب وإلى الإخوان المسلمين كل ما سلب من حقوقهم , وأن يعوضوهم عما أصابهم .
وكان الجميع يعرفون أن الورقة الرابحة الحيدة التي لعب بها الوفد في هذه الانتخابات ضد خصومه إنما هي ورقة الإخوان المسلمين , وهي التي جعلته يكتسح اكتساحا , وجعلت مرشحي خصومه يتوارون من الناس خجلا وجعلتهم سخرية للناخبين .
وتسلم الوفد بكل جدارة أزمة الحكم . وأخذ الناس يتطلعون أن توافيهم الإذاعة وتطالعهم الصحف في صبيحة اليوم التالي بالنبأ المرتقب الذي ترتقبه كل نفس في البلاد وهو إلغاء الأحكام العرفية بكل ما نجم عنها وما ترتب عليها ... ولكن طال أمد الانتظار ومرت الأيام تباعا دون أن يتحقق للناس ما يأملون ..
فكثير القيل والقال , واستبد بالناس القلق , وآخذوا يتساءلون فيما بينهم,يوجهون الأسئلة المشوية بالغضب إلى ممثليهم في مجلس النواب .. ووجد سكرتير الوفد ووزير الداخلية الأستاذ فؤاد سراج الدين أن لا بد من إجابة على هذه الأسئلة الملحة فصرح سيادته في 18 يناير 1950 بالتصريح التالي :
- " أن الوزارة قبل أن تقدم على رفع الأحكام العرفية ستنتظر حتى تسن قوانين لحماية البلاد ولحماية الأمن ومن ضمنها تشريع خاص بالجمعيات ينظمها ويجعلها لا تحيد عن الطريق الذي أنشئت من أجله , ومن بينها الجمعيات التي نشأ لأغراض دينية بحتة ". تصريح فاجأ الناس ودهمهم وصدمهم وخيب آمالهم وزعزع ثقتهم في هذا الحزب لنقضه عهوده أثناء الانتخابات .
وهذا التصريح المخيب للآمال يضطرنا إلى أن نرجع بالقارئ قليلا إلى الوراء .. إلى عهد السعديين لنفتش عن أواصر القربي التي ربطت بين حزب الوفد وبينهم والتي تدلنا على أنهما – وأن اختلفا في المظهر فإنهما يستقيان من معين آسن واحد .
قدمنا من قبل أن إبراهيم عبد الهادي حين آذنت الدورة الأخيرة لبرلمانه بانتهاء , واستقر في علمه أنه مهما طال الزمن وهو على رأس الوزارة فلابد أنه مواجه يوما من الأيام ترفع فيها الأحكام العرفية .. ولما كانت الإجراءات الشاذة المعلنة على الإخوان المسلمين مرتبطة بوجود هذه الأحكام – لأنها مستمدة منها – فلابد لتأييد هذه الإجراءات من تشريع يسن بالطريق " الديمقراطي " يتضمن كل هذه الإجراءات والقيود .. ومثل هذا التشريع " الديمقراطي " يتطلب أن تضع الحطومة مشروع هذا القانون , وتضمنه ما تشاء من قيود وشروط ثم تعرضه على مجلس النواب فمجلس الشيوخ .. فإذا وافقا عليه وقعه الملك وصار قانونا نافذ المفعول يلتزم به الشعب وتحكم به المحاكم ....
ولما كان التشريع لا يكون تشريعا حتى تكون له صفة العموم , فلا يجوز أن يسن تشريع لفئة خاصة من الشعب أو لطائفة معينة منه , فكان لابد من البحث عن صيغة يكون المقصود منها تقييد نشاط الإخوان المسلمين ووضع العقبات في طريقهم وتأخذ في نفس الوقت صفة العموم .. ,كان أن تمخض تفكير القانونيين عن سن تشريع للجمعيات عامة ..
وطلب عبد الهادي من حكومته وضع المشروع .. فوضعته في الإطار الذي يروقه ويستوفي كل ما انطوت عليه جوانحه من ظلام وحقد .. وأحيل المشروع إلى مجلس النواب الذي أحاله بدوره- كالمعتاد- إلى هيئة تضم لجنتي الشئون الداخلية والشئون الاجتماعية والعمل .... وكانت هذه الهيئة تفهم أن مهمتها تقتصر على تبرير ما تضمته المشروع من أحكام جائزة واستحداث مواد جديدة تضفيها إلى المشروع تزيده جورا وظلما وخروجا على العرف والدستور والقانون .. وإن سمت ذلك تأكيدا للحريات وحفاظا على الدستور.
ولم تعجل عبد الهادي برلمانه في نظر المشروع وإقراره – ولو شاء لتم له ذلك في يوم وليلة – بل تمهل – كما قلنا من قبل – لأنه كان واثقا من أن خمس سنوات طوالا هي في انتظاره ليقضيها على رأس الحكومة القادمة ببرلمانه الجديد.
وأتمت هذه الهيئة البرلمانية تقريرها عن هذا المشروع في النصف الأول من شهر يوليو 1949, وتوطئة لعرضه على مجلس النواب فمجلس الشيوخ .. وقد رأينا أن نطلع القارئ على ملخص لهذا التقرير حتى يرى بنفسه ما كان يعده هذا العهد البغيض للإخوان المسلمين خاصة وللشعب عامة من أغلال تشل يديه ورجليه وتكمم أنفاسه وتقتل إنسانيته وتلغي شخصيته :
- مشروع قانون الجمعيات
في عهد عبد الهادي وتعديلات لجنة النواب عليه
- " انتهت الهيئة المكونة من لجنة الشئون الداخلية ولجنة الشئون الاجتماعية والعمل في مجلس النواب من نظر القانون الخاص بالجمعيات وأدخلت عليه بعض التعديلات وفيما يلي تقرير اللجنة :
دعا منطق الحوادث إلى وجوب تلافي النقص في التشريع لتنظيم الجمعيات . فلا أمر تكوينها فوضي , تندمس فيها العناصر الخطرة فتنحرف بها عن الطريق السورى وتطوح بها إلى هوة الجريمة السحيقة فتقوض أكان الأمن والنظام . فالتحرز في أمر تكوينها والتأكد من أنها أمينة على الغرض الذي قامت من أجله أمر لا جدال فيه لتأمن الجرائم التي تدبر في الخفاء والتي لو تركت لاستشري خطرها وهزت كيان الأمة هزا فتعوقها من اللحاق بركب التقدم والازدهار الذي أخذت نفسها به.
وهذا التشريع إنما هو استكمال حق مقرر بمقتضي الدستور والذي مؤداه :" أن للمصريين حق تكوين الجمعيات . وكيفية استعمال هذا الحق يبينها القانون"
لم يتعرض هذا المشروع للجمعيات إلا بالقدر اللازم لوقاية الأمن والنظام لذا نراه لا يتعرض للجمعيات التي ترمي للربح المادي لأعضائها ولا للجمعيات والمؤسسات المنظمة بقوانين أخرى, ل للهيئات المركزية للأحزاب السياسية الحالية لوضوح أغراض تلك الأحزاب ولقيامها منذ فجر الحركة الوطنية – وإن كان يجدر وضع تشريع خاص بها أسوة بما هو متبع في أكثر البلاد الأجنبية لما لها من أكبر الأثر في حياة البلاد للبرلمانية والاجتماعية .
• استصدار إذن:
وقد نص على اشتراط استصدار إذن في حالة انضمام الموظفين والطلبة للجمعيات يكون من رئيس المصلحة بالنسبة للأولين ومن دور التعليم بالنسبة للآخرين , حتى لا يكون التحاق الموظف بجمعية مدعاة لأضرار أهوانها عدم قيامه بعمله على خير وجه وللطالب انصرافه عن الدرس والتحصيل فتنضب ثروة الأمة المرتقبة من جهود شبابها المدخر الذين ينعقد عليهم مستقبلها ومجدها .
• مقر ثابت :
• وقد فرض المشروع على الجمعيات إخطار المحافظة أو المديرية عند إنشائها وموافاتها بالبيانات التي يهم السلطات العلم بها , فإذا لم تعترض المحافظة أو المديرية في المدة المقررة كان للجمعية الحق أن تباشر عملها . كما نص على أن يكون لتلك الجمعية مقر ثابت توجد فيها جميع أوراقها , وأن تنشئ سجلات تدون فيها جميع قراراتها وكل ما يتعلق بنشاطها لتكون واضحة الغرض , بينة المرمى وليسهل على رجال الأمن أمر الأشراف على تلك الأغراض ووسائل تحقيقها .
• قرار الحل :
والجمعية التي لا تلتزم أحكام هذا المشروع أو التي ترتكب مخالفة جسيمة أو تحيد عن هدفها , تستهدف لقرار الحل من مجلس الوزراء . كذلك إذا قامت الجمعية بتدوين بيانات غير مطابقة للحقيقة في الإبلاغ أو الأخطار أو إذا قامت بما يخالف الآداب والنظام العام أو تعدت أغراضها الأساسية ولا يعفي هذا من تطبيق العقوبات الأشد المنصوص عليها في القوانين الأخرى .
وقد رأت الهيئة في المادة (3) إشراك رئيس الجمعية في المسئولية عن الأحكام المنوه عنها في المادة الثالثة إمعانا في الحيطة والحذر فقد لا يكون الرئيس من الداعين إلى تأسيس الجمعية أو المؤسسين لها أو عضوا في مجلس إداراتها فيفلت من المسئولية المقررة في تلك المادة .
كما أضافت الهيئة فقرة أخيرة إلى المادة ( 14) هذا نصها :
" إذا كان مرتكب هذه الجرائم كلها أو بعضها من الداعين لتأسيس الجمعية أو المؤسسين لها أو رئيسا لها أو عضوا في مجلس إدارتها حسب الأحوال وجب ألا تقل عقوبة الحبس عن ستة أشهر والغرامة عن مائة جنيه وذلك بفرض حد أدني لعقوبة من يرتكب جريمة من الجرائم المشار إليها في تلك المادة إذ أن مسئوليتهم في الواقع أشد وجريرتهم أنكي من باقي الأعضاء فلا أقل من أن ينص على أخذهم بالشدة لضمان حد أدني لعقوبتهم فيكونون عبرة لغيرهم ". ولنفس السبب المتقدم أضافت الهيئة فقرة أخيرة للمادة ( 15) هي :
" فإذا كان مرتكب الجريمة من المنصوص عليهم في الفقرة الأخيرة من المادة السابقة وجب ألا تقل عقوبة الحبس عن شهر والغرامة عن عشرين جنيها "
• ورجال الضبط:
ورأت اللجنة بشأن المادة ( 16) الاكتفاء برجال الضبط القضائي في القيام بإثبات الجرائم التي ترتكب مخالفة لأحكام هذا القانون تمشيا مع نصوص مشروع قانون الإجراءات الجنائية .
• القضاء العادي :
ولاحظت اللجنة أنه قد يرد على الخاطر لأول وهلة أن تقدير ركن العمد في تلك الجرائم وحق الحل كان يحسن إخضاعه للقضاء العادي أو الإداري تحقيقا للعدالة , وتوكيدا للطمأنينة ودفعا لمظنتي الشطط والاضطهاد , ولكن هذا الحق المعطي لمجلس الوزراء روعي فيه اتصاله بسياسة البلاد ومصيرها فوق اتصاله بأمنها ونظامها . فهو إذن مقرر لعلاج أمر يستدعي سرعة البت وقوة الحزم .. وهذا الحق لا يتأتي إلا لمجلس الوزراء المنوط به مصالح البلاد العليا , ولا شك أنه في حكمه على تلك الأمور سيكون مستهدفا الصالح العام وحده .
• قطع السبيل :
وقد أيد التشريع قطع السبيل على الجمعيات التي يصدر قرار بحلها من أن تعود بصورة من الصور , وتحرز في ذلك بشتى الوسائل . كما أعطي مهلة شهرين للجمعيات التي يسري عليها أحكام هذا المشروع ومن انضم من الموظفين والطلبة إلى جمعية من الجمعيات لمراعاة تلك الأحكام , واستيفاء البيانات والإجراءات التي أوجبها .
وفي هذا المشروع دعم للأمن فينتشر علم الصفاء على ربوع الوادي وتتضافر جهود الجمعيات لإقامة بناء مجده شامخا عزيز الجانب " هذا ما أعده عبد الهادي لتقييد الحريات
فما الذي فعله الوفد؟
كان هذا هو تقرير الهيئة البرلمانية في عهد السعديين عن مشروع قانون الجمعيات الذي قدمه عبد الهادي إلى مجلس نوابه ...وكان مفروضا أن يعرض على المجلس الذي كان سيسارع بكل قوة إلى إقراره .. ولكن إرادة الله وقضاءه الذي لا يرد داهم عبد الهادى فجأة في يوم 26 يوليو 1949 بما لم يحتسب فأقصي عن الحكم وجهازه الحكومي وهو في أوج سلطانه وعنفوان تمكنه ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( هود: 102).
وجاءت وزارة انتقالية برياسة حسين سري كانت مهمتها تجميد أعمال برلمان عبد الهادي حتى أصدرت مرسوما في 5 نوفمبر بحله وحددت 2 يناير 1950 لإجراء انتخابات جديدة وأجريت الانتخابات التي تمخضت عن فوز حزب الوفد الفوز المكتسح الذي أشرنا إليه .
وجاءت وزارة الوفد .. فانظر ماذا فعلت وماذا اتخذت من موقف .. موقف مثير للألم إزاء هذا الموضوع الخطير الذي كاد الناس يتهمون أسماعهم وأبصارهم حين رأوا تصرفات هذه الحكومة وسمعوا تصريحات المسئولين فيها..ونحاول إن شاء الله في السطور التالية إحاطة القارئ علما بهذه التصريحات :
أولا : تصريح مذهل:
أصدرت الوزارة بلسان وزير داخليتها وسكرتير حزب الوفد التصريح الذي أشرنا إليه من قبل والذي صدم مشاعر الناس وأذهلهم .
ثانيا : الوفد يحمي ظهر عبد الهادي ويتحدى الشعب :
في 20 فبراير 1950 تقدمت حكومة الوفد إلى مجلس النواب بمشروع قانون لإلغاء الأحكام العرفية وكانت المادة الثانية منه تنص على :
- " عدم سماع أى دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في تصرفات الحاكم أو السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية ".
ومعني هذا النص أن تهدر حقوق جميع الذين أضيروا وعذبوا واضطهدوا وشردوا واعتدى عليهم وعلى أبنائهم وزوجاتهم وأهليهم فلا يكون لواحد من هؤلاء الحق في مقاضاة هذا الحاكم الظالم المعتدى حيث يحميه هذا النص ويجعله في حصانة من أن يطلب للمثول أمام القضاء .
ولسنا ندرى ما هي مصلحة حزب الوفد في حماية إجرام السعديين وتحصينهم ضد القضاء وضد من أضيروا من هذا الشعب الذي بوأهم مناصب الحكومة ليستردوا له حقوقه التي اغتصبها السعديون وداسوها بالنعال ؟
ولقد كان تضمين الحكومة مشروع القانون هذا النص صدمة للنواب الوفديين أنفسهم حتى أن أكثر من نائب منهم طالب بإلغاء هذه المادة. ولكن سراج الدين أصر عليها . فلما رأي الضغط شديدا من جانب النواب اقترح إبدالها بنص آخر تضمن نفس المعني بل إنه كان أشد إبرازا للمعني المبذول وهو : " أنه لا تسمع شكوى الشاكين أمام الجهة القضائية ضد أى عمل تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها عملا بالسلطة المخولة لهم بمقتضي نظام الأحكام العرفية وفي حدود تلك الأحكام "
وتكلم عدة نواب فعارضوا ذلك حتى أن العضو الدكتور محمد مندور – رحمه الله - استحلف النواب أن يؤيدوه في إعطاء الحق في مقاضاه الحاكم العسكري وعماله إذا ثبت أنهم أساءوا استعمال السلطة التي خولت لهم.
ولكن مصيبتنا فيمصر هي أن مجالسنا النيابية التي كان مفروضا – كدأب البرلمانات – أن تكون رقيبة على الحكومة لا يعرف أعضاؤها مهمة لهم إلا الولاء للحكومة والخضوع لها والتزلف إليها وخدمة أغراضها والتفاني في إرضائها مهما تعارض إرضاءها مع مصلحة البلاد ومع حريات الشعب ..ولذا فقد نسي أعضاء هذا المجلس تعهداتهم لأهل دوائرهم الانتخابية ونسوا حق بلادهم وأعرضوا عن استحلاف زميلهم لهم وانطلقوا مؤيدين سيدهم وزير الداخلية .
• الوفد يستبقي الأمر العسكري بحل الإخوان :
أما المادة الثامنة من مشروع قانون إلغاء الأحكام العرفية فإنها تستبقي أو تنص على استبقاء عدد من الأوامر العسكرية منها الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين..
وقد نوقشت هذه المادة طويلا في مجلس النواب نظرا لما فيها من تحد ظاهر لمشاعر الناخبين , ومن خرج بالتالي لنواب هذا المجلس .. وطالب كثير من أعضاء المجلس بإلغاء هذا الأمر بالذات مباشرة ومن الآن .. ولكن سراج الدين وزير الداخلية وعبد الفتاح الطويل وزير العدل قررا أن هذا الأمر العسكري سيستمر حتى يصدر قانون الجمعيات ومما قاله سراج الدين:
" لقد كانت هذه الجماعة على صلة طيبة بنا, ولكنا لا ندرى من الذي زج بها في ميدان السياسة ؟"
ثم طلب سراج الدين إقفال باب المناقشة في هذا الموضوع . فصدع المجلس بالأمر ولما نظر مشروع قانون إلغاء الأحكام العرفية أمام اللجنة التشريعية بمجلس الشيوخ عدلت المادة الثامنة على الوجه التالي ." استبقاء الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين لمدة سنة أو حتى يتم سن قانون الجمعيات أيهما تقدم .فإذا لم يصدر قانون الجمعيات في خلال هذه السنة ألغي الأمر العسكري تلقائيا"
ثالثا – حادث تافه ولكن ذو دلالة :
في 29 / 3/ 1950 وقع حادث هو في ذاته تافه إلا أن له دلالات كبيرة ذلك له أمام مسجد المنيرة بالقاهرة – وهو مسجد كان يؤمه كثير من الإخوان في صلاة الجمعة – فبعد صلاة الجمعة في ذلك اليوم وزعت شارات الإخوان .. وقد قامت الحكومة لهذا الحادث التافه كأنه جريمة نكراء ,وأمرت الحكومة بإجراء تحقيق , واعتبرت هذا التصرف مقصودا به إحراج حكومة الوفد مع الإخوان .. ولا ندرى ما وجه الإحراج في هذا مع حكومة تعهدت من قبل أنها سترد للإخوان جميع حقوقهم حين تلي مناصب الحكم ؟!
رابعا – الإخوان يبدون استياءهم من مشروع القانون :
حين وجد الإخوان أن الحكومة مصممة على سن قانون للجمعيات طلبوا إليها في 16/4/1950 أن تتمها في إصداره ,وتعرضه أولا على الهيئات والجمعيات لإبداء ملاحظاتها عليه قبل عرضه على مجلس الوزراء والبرلمان وختم الإخوان مذكرتهم التي تقدموا بها إلى الحكومة بقولهم : " وكيفما كان الأمر فلن يتزحزح الإخوان عن أداء رسالتهم الكبرى كأصحاب دعوة تعمل لخير الوطن والإسلام ".
لم تستجب الحكومة لاقتراح الإخوان فتصدي أحد جهابذة القانون لمناقشة هذا المشروع على صفحات الجرائد فنشرت " الأهرام" مقالا ضافيا للأستاذ محمد حسن العشماوي باشا, وهو وزير معارف سابق ومن كبار رجال القانون في مصر , وكان عنوان المقال " حول تشريع الجمعيات " أثبت فيها القانون المزمع إصداره يتنافي مع الدستور وأن التشريع المصري في وضعه الحالي كفيل بضمان الأمن والنظام وعدم الانحراف عن النشاط المشروع وأنه كفل بذلك الحرية كما كفل الجزاء على سوء استعمالها.
وبعد نشر هذا المقال بيومين نشر "الأهرام " الكلمة التالية :
تلقينا كلمة من الأستاذين أحمد حسن الباقوري وكيل جمعية الإخوان المسلمين ومحمد طاهر الخشاب المحامي وعضو مكتب الإرشاد بالجمعية جاء فيها ما يلي :
- " إذا كنا لا نملك حق الحديث عن الإخوان المسلمين , لأن رئيس أية هيئة هو الذي يملك الحديث عنها لكن هناك أمورا دخلت في لب التفصيلات والخطط الجزئية وهي أشبه بالمبادئ العامة ويجوز لكل منتم إلى تلك الهيئة أن يتناولها بالحديث , ومن هذا الجانب نستطيع أن نقول : أن عودة الإخوان المسلمين حق لهم وليس منحة من أحد الناس والإخوان المسلمون موجودون فعلا وهم يؤدون رسالتهم الخالصة في حدود ما يعتقدون أن فيه مصلحة لوطنهم – أداء كاملا لا ينقص منه عدم الاعتراف بهم من الناحية الرسمية .
أما قانون الجمعيات الذي تزمع الحكومة – كما قال معالي وزير الداخلية – إصداره فقد قال أحد كبار رجال القانون قوله فيه . ولعل الحكومة تنصف نفسها فتعيد إلى الإخوان حقهم المسلوب كاملا "
خامسا : تواطؤ الأحزاب التقليدية :
كان هناك اتفاق بل تواطؤ بين جميع الأحزاب التقليدية بما فيها الحزب الوطني على إصدار هذا التشريع القاتل للحريات فتصدت حكومة الوفد – ناكثة عهودها لمهمة إصداره , ووقفت الأحزاب الأخرى موقف الشيطان الأخرس لا تتكلم ولا تعترض بل تؤيد من صميم قلبها كل خطوة تخطوها الحكومة.... • اللجنة العليا للحزب الوطني تشجب المشروع :
ولم يبق بعد ذلك إلا القلة القليلة من الأحرار من الشباب الذي يمثله حزب مصر الفتاة والمجموعة التي يرأسها فتحي رضوان وتضم محمد زهير جرانة ومصطفي المنزلاوي والدكتور نور الدين طراف والتي اعتبرها الحزب الوطني شاغبة عليه وأصدر هذا الحزب في 29 يناير 1950 قرارا بفصلها , فأعلنت عن نفسها أنها " اللجنة العليا للحزب الوطني "
وأنها صاحبة الحق في الكلام باسم الحزب الوطني .. وقد أصدرت هذه اللجنة بمناسبة تصميم الحكومة إلى إصدار هذا التشريع بيانا في 8/2/ 1950 جاء فيه :
" ولذلك تري اللجنة أن التشريع الذي تنوى الحكومة إصداره لتحويل الأمر العسكري الرقيم 63 من إجراء اقتضته ضرورات النزاع القائم بين الحكومة السابقة وجماعة الإخوان المسلمين إلى قانون دائم هو تشريع مخالف لروح الدستور وأن الأحكام العرفية تعتبر باقية طالما أن هذا القانون لم يلغ لأن المصريين لم يحسوا بوطأة الحكم العرفي فيما يخص حملة فلسطين وإنما أحسوا بوطأته في حملة الحكومة ضد المسلمين وأنصارهم ومن أخذ بشبهة الاتصال بهم أو معاونتهم .
ولا يفوت اللجنة أن تشير إلى أن التشريع المزمع إصداره قد نص على منح وزير الداخلية حق مراقبة الأشخاص الذين كانوا معتقلين في ظل الأحكام العرفية الملغاة وأن من حق هؤلاء أن يعارضوا في قرار المراقبة أمام لجنة مكونة من رئيس محكمة ورئيس نيابة ومندوب عن قسم الرأي في مجلس الدولة .
واللجنة – اللجنة العليا للحزب الوطني – ترى أن مراقبة السياسيين هي ابتكار جديد تسبق به الدولة المصرية جميع الدول ولعل ذلك مما يصمنا في وقت تعلو فيه الصيحة للحرية في كل مكان وترى اللجنة أن الحكومة قد أخطأها التوفيق حتى في اختيار الهيئة التي يعارض أمامها هؤلاء التعساء الذين اعتقلوا لشبهات وظنون والذين يراد استمرار تعذيبهم لنفس هذه الشبهات والظنون فقد كان ممكنا أن يلجاؤا بشاياتهم وظلاماتهم للمحاكم العادية على اختلاف درجاتها فالحد من حقهم القانوني وخلق محاكم مصرية خصوصية يعيد إلى الذهن ذكريات الاحتلال البريطاني القديمة التي لا نظن أن الحكومة تود إحياءها .
لقد عاهدنا أنفسنا أن نخلص النصح للحكومة في هوادة ورفق وهنا نحن أولاء نناشدها مناشدة المواطن لأخيه أن تعدل عن إصدار هذا التشريع لتلتئم جروح الماضي ولتسدل على مآسيه وآلامه ستار كثيفا عسانا نستطيع أن نقف في وجه ما تدبره لنا الأيام من مخاطر صفا واحدا ملء قلوبنا الثقة بالوطن وبرحمة وعدل أبنائه"
هذه هي مذكرة اللجنة العليا للحزب الوطني ... أما موقف مصر الفتاة فلعل سطورا تالية إن شاء الله تجليه.
سادسا : مجلس الوزراء يصر ويقر مشروع القانون :
لم تعر الحكومة اقتراح الإخوان ولا نصيحة الناصحين اهتماما , وفوجئ الشعب بإقرار مجلس الوزراء لمشروع القانون وإحالته إلى مجلس النواب .. وقبل أن نعرض لما قوبل به هذا المشروع من مختلف الجهات نرى أن نقتطف منه البنود الهامة حتى يوازن بين هذا المشروع وبين مشروع السعديين وربما خرج القارئ من الموازنة بالنتيجة المؤلمة وهي أن المشروعين مشروع واحد , وكانت ستقدمه يد أثيمة ملطخة بالدماء والعار وارتضت لنفسها أن تنوب عنها في تقديمه يد كنا نعتقد أنها تربا بنفسها أن تنوب عنها في تقديمه يد كنا نعتقد أنه تربأ بنفسها أن ترضي بذلك... وإليك أهم بنود هذا المشروع ثم نتبعها بالمذكرة الإيضاحية له :
من مواد مشروع قانون الجمعيات لحكومة الوفد
المادة الأولي – يسري هذا القانون على الجمعيات التي تسعى إلى تحقيق أغراض اجتماعية أو دينية أو علمية أو أدبية إذا كان عدد أعضائها يزيد على عشرين شخصا طبيعيا .
المادة الثالثة – لا يجوز أن يشترك في تأسيس الجمعية أو ينضم إلى عضويتها :
- (أ) المحكوم عليهم بعقوبة جنائية
- (ب) المشتبه فيهم
- (ت) القصر .
المادة الخامسة : يجوز للمحافظ بقرار مسبب أن يعارض في إنشاء الجمعية أو فروعها خلال الثلاثين يوما التالية لوصول إخطارها إلى المحافظة .
المادة السادسة : يجب على من يناط بهم إدارة الجمعية أن يخطروا المحافظ خلال ثلاثين يوما بكل تعديل في النظام وبالقرار الذي يصدر بحل الجمعية وأسبابه – وفي حالة عدم توفر حكم من أحكام هذا القانون يجوز للمحافظ أن يعارض في التعديل بقرار مسبب خلال ثلاثين يوما من تاريخ الإخطار ..
المادة السابعة – على الجمعية أن تحتفظ في مركزها بالوثائق والأوراق والسجلات الخاصة بها والصور الفوتوغرافية للأعضاء وبمعلومات كاملة عن كل عضو , وتدون محاضرها وحساباتها في دفاتر مفصلة .
المادة الثامنة – يحظر على غير أعضاء الجمعية المقيدة أسماءهم في سجلاتها أن يشتركوا في إدارتها أو في مداولات الجمعية العمومية .
المادة التاسعة – لا يجوز للجمعية أن تجاوز في نشاطها الغرض الذي أنشئت من أجله .
المادة العاشرة – يحظر على الجمعية أن يكون لها تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية.
المادة الحادية عشرة – مع عدم الإخلال بأحكام المادة 66 من القانون المدني يجوز لوزير الداخلية عند مخالفة أحكام المواد 10,9,8,7,6,3 أن يطلب حل الجمعية أو فروعها أو إبطال الإجراء المخالف , ويقدم الطلب إلى المحكمة الابتدائية لتابع لها مركز الجمعية أو الفرع ويكون الحكم الصادر منها نهائيا .
المادة الثالثة عشرة – عقوبات بالحبس والغرامة 6 شهور ومائة جنيه لمن يخالف هذا القانون .
المادة السادسة عشرة – يكون لرجال الضبط القضائي في سبيل إثبات الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون أو القرارات المنفذة له حق الاطلاع على دفاتر الجمعية وحساباتها وأوراقها .
- المذكرة الإيضاحية للمشروع
نصت المادة 21 من الدستور على أن للمصريين حق تكوين الجمعيات وأن كيفية استعمال هذا الحق يبينها القانون وبناء على هذا النص فإن حق المصريين في تكوين الجمعيات أصبح مقررا في الدستور بحيث لا يجوز المساس به , وإنما تكون مهمة المشرع مقصور على تنظيم استعمال هذا الحق ومراقبة السلطة التنفيذية لاستعماله ضمانا لعدم تجاوز الجمعيات في نشاطها الحد المشروع .
ثم قالت المذكرة : إنه يبدو أن القانون المدني بما تضمنه من أحكام خاصة بالجمعيات في المواد من 54 إلى 68 وفي المادة 79 قد سد فراغا في هذه الناحية , وإنما الواقع أن هذا القانون لم يعن وكان له أن يعني بأكثر من تنظيم الجمعيات عموما من الناحية المدنية وحقوق الأعضاء قبلها , وكيفية التصرف في أموالها عند حلها وتقييد حق ملكيتها في العقارات وتمتعها بالشخصية الاعتبارية بمجرد إنشائها وشهرها وما يترتب على عدم الشهر , وجواز إبطال القرارات التي تصدرها بالمخالفة للقانون أو لنظام الجمعية , والجهة التي تصدر حكمها بإبطال هذه القرارات وكذلك جوار إبطال التصرفات التي يقوم بها مديرو الجمعية متجاوزين حدود اختصاصاتهم .
وليس في هذه الأحكام أى غناء عن إصدار تشريع آخر بتنظيم هذه الجمعيات من حيث خضوعها لمراقبة السلطة التنفيذية ضمانا لعدم خروجها في نشاطها عن الحد المشروع والإتيان بما ينطوى على إخلال بالنظام العام أو الأمن العام أو الآداب العامة مما يدخل في نطاق القانون العام . وتحقيقا لهذه الغاية قامت الحكومة بما وعدت به البرلمان في دور انعقاده السابق بوضع مشروع القانون المرافق وضمنته أحكاما تسري على الجمعيات التي تنظم بقوانين خاصة ويجرى العمل بمقتضاه جنبا إلى جنب مع تلك القوانين الخاصة .
وختمت المذكرة بالقول إنه من المفهوم أن أحكام القانون المدني في شأن الجمعيات تسري على الجمعيات المنظمة بهذا المشروع باعتبارها أحكام القانون العام في هذا الشأن. ولتأكيد ذلك المعني بوضوح رؤى النص في المادة ( 17) على أنه ( فيما عدا الأحكام الخاصة الواردة في هذا القانون تسرى على الجمعيات المنصوص عليها فيه أحكام القانون المدني ) .
ومن المفهوم كذلك أن هذا المشروع لا يسري على الجمعيات السياسية وبعبارة أخرى الأحزاب السياسية وذلك لأن هذه الأحزاب لها من الأهمية والخواص بما يجعلها محلا لتنظيم خاص بتشريع يصدر مستقبلا في المستقبل إذا رؤى لزوم ذلك – وهذا فضلا عن أن المصريين يمارسون حقوقهم السياسية التي خولها لهم الدستور في حدود القوانين القائمة وحسبنا أن نذكر أنهم يشتركون بمالهم من تشكيلات سياسية في حكم البلاد , وفي توجيه سياستها عن طريق الاشتراك في الانتخابات العامة وفي البرلمان .
سابعا : قانون الجمعيات أمام لجنتي الشئون التشريعية والداخلية بمجلس النواب
في 17/4/1950 عرضت الحكومة مشروع هذا القانون على مجلس النواب فأحيل إلى لجنتي الشئون التشريعية والداخلية ..وطلبت الحكومة مناقشته في اليوم التالي .. فعارض بعض النواب في هذا التعجل الذي لا داعي له .
وفي يوم 18 منه بدأت اللجنة في مناقشة وكان المفروض ألا تستغرق مناقشة مواد القانون السبع عشرة وقتا طويلا غير أن المعارضة التي قوبل بها القانون من فريق من الأعضاء أدت إلى أن تستغرق مناقشته سبع ساعات كاملة .. وقد عقدت اللجنة اجتماعين أحدهما في الصباح والآخر في المساء .
• الحكومة تهدد أعضاء اللجنتين :
ولما كانت المعارضة من الشدة حتى أنها دفعت ممثل الحكومة عبد الفتاح حسن بك وكيل وزارة الداخلية البرلماني إلى التهديد بأن الحكومة ستضطر إلى سحب مشروع القانون في حالة رفض اللجنة له وتستعيض عن ذلك بحل الجمعيات بقرارات من مجلس الوزراء .
• معارضة في المبدأ :-
وقد حمل لواء المعارضة ثلاثة من أعضاء اللجنة هم الأساتذة فريد زعلوك وعوض الجندي بك ومحمود كمال أبو النصر . فقد أعلنوا في بدء الاجتماع أنهم يرفضون فكرة القانون من مبدئها ولا يقرونه على الإطلاق لأنه يتنافي والحريات العامة والدليل على ذلك أن القانون المدني حدد طرق إنشاء الجمعيات المختلفة وكيفية التصرف في مواردها المالية كما أن قانون العقوبات نظم طرق المعاقبة على ارتكاب الجرائم ..فلا محل إذن لاستصدار تشريع جديد خاص بالجمعيات والتخوف من إنشائها وطلبوا من اللجنة أن تقرهم على طلبهم الخاص برفض نظر هذا القانون .. غير أن بقية الأعضاء لم يوافقوا على هذا الرأي .
• شروط العضوية :
وأخذت اللجنة في مناقشة مواد القانون مادة مادة .. وتوقفت طويلا عند المادة الثالثة الخاصة بشروط العضوية . واستغرقت المناقشة فيها أكثر من ساعتين كاملتين إذ طلب الأستاذ عوض الجندي استثناء المحكوم عليهم في جرائم الرأي من عدم جواز اشتراكهم في الجمعيات , غير أن الحكومة رفضت الأخذ بهذا الرأي وقالت أن عقوبة جريمة الرأي لا تعتبر جناية أما العقوبات المشددة التي تنزل بالجرائم التي يرتكبها الهدامون كالشيوعيين وأمثالهم فلا يجوز التغاضي عنها والسماح لمن صدرت ضدهم أحكام لمثل هذه الأسباب بالاشتراك في الجمعيات .
القصر وعدم جواز اشتراكهم :
وعارض الأستاذ فريد زعلوك في حرمان القصر والمشتبه فيهم من الاشتراك في لجمعيات . غير أن الحكومة خالفت هذا الرأي وأشار ممثلها إلى أن المجال متسع أمام القصر للاشتراك في الجمعيات المدرسية وما يشابهها .وأخيرا وافقت أغلبية اللجنة على هذه المادة دون تعديل ..
• حكم الحل غير نهائي :
وتمت الموافقة بعد ذلك على بقية المواد دون إدخال أى تعديل عليها ما عدا المادة الحادية عشرة التي كانت تنص على أن يكون حكم المحكمة الخاص بحل الجمعيات نافذا ونهائيا إذ رأت اللجنة تعديلها فنصت على أن يكون الحكم الذي تصدره المحكمة على أى جمعية حكما غير نهائي وقابلا للاستئناف .
• حق الالتجاء لمجلس الدولة :
وقررت اللجنة أيضا إضافة مادة جديدة بعد المادة السادسة نص فيها على أن اعتراض المحافظ أو المدير على إنشاء الجمعية وكذلك اعتراضه على كل تعديل في نظامها يمكن التظلم منه أمام مجلس الدولة:
• الأحزاب السياسية :
هذا وقد اعترض الأستاذ فؤاد زعلوك على عبارة وردت في نهاية المذكرة الإيضاحية للقانون يفهم منها أن الأحزاب السياسية ستكون محل تنظيم خاص بتشريع سيصدر مستقبلا في المستقبل إذا رؤى لزوم ذلك وطلب حذف هذه الفقرة من المذكرة فوافقت الحكومة وأقرت اللجنة على ذلك .
• تسجيل رأي الأقلية:
هذا وستقوم اللجنة بوضع تقرير برأيها في مشروع القانون اليوم في الصباح ليعرض في الجلسة الخاصة التي سيعقدها مجلس النواب في مساء اليوم لهذا الغرض .
وقد اختارت اللجنة الأستاذ محمود فهمي جندية بك مقررا لرأي الأغلبية التي وافقت على المشروع والأستاذ فريد زعلوك ليشرح رأي الأقلية التي رفضته .
وكانت الحكومة – بعد أن حظيت من هذه اللجنة البرلمانية على ما تبتغي مستغلة في سبيل ذلك كل ما كان متاحا لها من وسائل – كانت حريصة على عرض المشروع في نفس اليوم على المجلس كله.
ثامنا : موقف الإخوان من القانون :
لم يقف الإخوان مكتوفي الأيدي أمام هذا التدبير الذي قصد به قتلهم ووأد الحرية في البلاد.. فقد عقدوا اجتماعا طويلا مساء ذلك اليوم ونظروا فيه في مشروع القانون الذي يناقشه البرلمان في الغد على وجه الاستعجال .
• رفض العودة وإعداد مذكرة :
وانتهي اجتماعهم إلى قرار أعلنوا فيه رفضهم العودة في ظل هذا القانون وأنهم يكتفون بالتزام موقفهم الحالي بمعني أنهم مكونون فعلا ولا يضيرهم أن يحرم الشعب من امتداد دعوتهم للاستفادة بخيرها – كما أقر الاجتماع مذكرة ناقشوا فيها المشروع وضمنوها رأيهم فيه وقرروا إبلاغها إلى المسئولين وتوزيعها على أعضاء مجلس النواب قبل نظرهم المشروع .
• نص مذكرة الإخوان :
إن الإخوان حين يبدون رأيهم في مشروع قانون الجمعيات لا يرمون من وراء ذلك حماية مصالحهم التي لا صلة لها بهذا القانون .. وإنما يريدون أن ينبهوا الشعب المصري إلى ما يحمله هذا المشروع من قيود فرضها على حقوق الأفراد التي كفلها الدستور للمصريين في تكوين الجمعيات ومن حد من نشاط هذه الجمعيات ذات الأغراض السامية ومن وضع لها تحت سلطان الإدارة وتقلباتها إلى أبعد الحدود .
ونريد أن يذكر نواب الأمة وشيوخها الذين سيتولون مناقشة هذا القانون موقفهم المجيد في أول الجلسة الماضية حين أريد أن يعبر القانون المجلس دون دراسة أو تمحيص .ونريد أن يذكر نواب الأمة وشيوخها الذين سيتولون مناقشة هذا القانون موقفهم المجيد في أول الجلسة الماضية حين أريد أن يعبر القانون أن المجلس دون دراسة أو تمحيص .
وليذكروا دائما أن كل قانون رجعي لن يقتصر ضرره على جماعة من الأمة دون جماعة بل إن مساوئه ستمتد إلى جميع المصريين بما فيهم حضرات الشيوخ والنواب أنفسهم فإن سلطان الحكم إذا كان يعفي من كثير من المتاعب مؤقتا فإنه سلطان زائل. أما القانون الرجعي فباق أثره السئ في تعويق الأمة عن نهضتها .
وإنا لنتساءل أولا .. ما الداعي إلى إصدار هذا القانون ؟ والقانون المدني وما حوى من مواد تنظم الجمعيات وتراقب نشاطها كفيل بأن يحفظ لها حريتها في حدود القانون.
وما نظنها بحاجة إلى إضافة قيود جديدة في صور هذا المشروع المقدم من الحكومة أخيرا ثم نتساءل ثانيا عن المقصود بعبارة " أغراض دينية" الواردة في المادة الأولي من المشروع ؟,.... فإنها على هذا النحو لا تتفق مع الإسلام وهو دين الدولة الرسمي لأن الإسلام من العموم في معناه وشموله لكافة نواحي النشاط , بحيث لا يتفق إطلاقا مع الفكرة السائدة في الغرب من التفريق بين الدين والتربية والسياسة فإن كان قصد القانون من هذه العبارة – وهو مالا يتصور غيره – هي تلك التي تدعوا إلى مكارم الأخلاق , والتمسك بالفضائل فليحدد الشارع إذن هذا الغرض على أساس " الأغراض الخلقية مثلا فيزيل اللبس ويتجنب ما قد يثور من اعتراض .
ونظرة خاصة إلى نصوص هذا القانون تكشف عن العجلة التي صاحبت إعداده, والرغبة في إصداره على أى وضع , حتى جاء مجافيا لأولويات المبادئ التشريعية , منافيا لأبسط أسس العدالة مهدار للكثير من حريات الأفراد وحقوقهم :
أ: الشباب أحوج إلى التربية
تنص المادة الثالثة من المشروع على حرمان القصر أى الشبان من الانضمام إلى عضوية الجمعيات ذات الغرض الاجتماعي أو الخلقي أو الأدبي أو العلمي .
وهذا التحريم أمر غير مفهوم وغير مقبول , إذ أن الشباب أحوج الناس إلى الانضمام لجمعيات تلك أغراضها : تربيهم وتنشر بينهم العلم , وكيف تستسيغ أن يحرم على الشباب الانضمام لجمعيات تربوية وثقافية بينما يجوز لهم قانونا الانضمام إلى الأحزاب السياسية التي تعرضهم للفساد وتزج بهم في مضمار الحزبية التي تضربهم دون أن تعود عليهم منها أية فائدة خلقية أو تربوية أو علمية .. هذا أمر غير مستساغ إلا إذا كان المقصود حماية مصالح الأحزاب دون الشباب ..
ولا يمكن أن يقبل الاحتجاج بأن القاصر غير مكتمل الأهلية . فهذا حجة لا صلة لها بالتربية والتثقيف عن طريق الجمعيات بل هو أدعي لإباحة انضمام القصر للجمعيات فضلا عن أن تشريعاتنا تحمل القصر – وأهليتهم غير مكتملة – أمانة الوظائف العامة حتى الخطير منها مثل النيابة العامة .
ت- ما شأن وزير الداخلية ؟
يقضي المشروع بأن وزير الداخلية هو صاحب الإشراف على الجمعيات إذ يطلب حلها ويصدر اللوائح التنفيذية للقانون الخاص بها , ولا ندرى صلة الأغراض التي تسعي إليها هذه الجمعيات بوزارة الداخلية .. فكلها أغراض اجتماعية وخلقية وعلمية وأدبية يعم نفعها المجموع .. فكان من الطبيعي أن يكون الإشراف على القانون الخاص بها لوزارة تشجعها وترعي مصالحها وتتفق وأغراضها كوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة المعارف العمومية.
ث- البوليس :
إذا كان القانون قد نظم الجمعيات في بضع مواد فقد قضي عليها في مادة واحدة ألا وهي المادة السادسة عشرة التي تجعل لرجال البوليس حق الاطلاع على سجلات الجمعية وكافة أوراقها لإثبات المخالفات القانونية .. فهل يمكن أن تدلنا الحكومة على الصلة بين البوليس وهذه الجمعيات ذات الأغراض السامية التي تتبع في تحقيق أغراضها أسسا علمية ؟... أما كان المنطق يقضي بترك هذا الاطلاع لفنيين متخصصين ؟ أمترى أريد أن يترك لرجال البوليس الذين يخدمون أغراضا حزبية وسياسية ؟
د. أسباب طلب الحل:
يبدو أن الغرض الأساسي من هذا المشروع هو منح الحكومات أوسع سلطة ممكنة في قتل الجمعيات بواسطة طلب حلها – ولا أدل على ذلك من أن المادة الحادية عشرة أعطت وزير الداخلية الحق المطلق في طلب حل الجمعيات عند وقوع أى مخالفة للمواد 10,9,8,7,6,3 من القانون – أى أغلب نصوصه .. مع أن طلب حل الجمعية يجب أن يراعي فيه أنه طلب خطير واستثنائي يعادل طلب الإعدام للشخص الطبيعي .
والمنطقي من الأمر أن يقصر طلب هذا الجزاء على المخالفات الخطيرة الجوهرية لأحكام القانون والتي تنسب إلى الجمعية ذاتها ... أما المخالفات القانونية أو العرضية والتي ترجع إلى الأشخاص فيكفي فيها الحكم بإبطال الإجراء وتصحيح الوضع .
هـ - الحل بحكم نهائي :
وأريد أن أسأل أخيرا عن الداعي لجعل الحكم الذي يصدر من المحكمة الابتدائية بحل الجمعية بناء على طلب وزير الداخلية حكما نهائيا لا يجوز الطعن فيه بأى طريق من طرق الطعن في الأحكام .. في حين أن العقوبات الأخرى التي نص عليها القانون في مادته الثالثة عشرة مثلا تسرى عليها القواعد فيجوز الطعن فيها بالاستئناف حتى لو لم تكن العقوبة إلا بغرامة قروش معدودة .
فهل يرى واضع المشروع أن حل جمعية أى الحكم بإعدامها أمر أهون من حكم الغرامة .. فلا يترك الباب مفتوحا أمام الجمعية للطعن في الحكم لطرق التي قصد بها في التشريع التأمين لسلامة الأحكام ؟
: ولا حاجة بنا للقانون إطلاقا :
إن الإخوان المسلمين وأن كانوا قد درسوا مشروع قانون الجمعيات وأدلوا برأيهم القانوني فيه. فإنهم لا يزالون عند رأيهم من أن أوضاعنا التشريعية ليست بحاجة إطلاقا لصدور أى قانون بضيف جديدا إلى ما ضم القانون المدني من نصوص كاملة لا تحتاج إلى مزيد.. تاسعا: محاولة أخيرة للإنقاذ : في 19/4/1950 نشرت الصحف بيانا عما تم في مجلس النواب بالأمس تحت العنوان التالي :
" ثلاثة آلاف متظاهر من الإخوان المسلمين أمام مجلس النواب أمس "
" فؤاد سراج الدين باشا يفند أقوال المعارضين للمشروع - المجلس يقر القانون ".
وكانت المظاهرة الإخوانية تهتف " الإسلام دين ودنيا" " الإسلام نظام لا يحتاج إلى نظام " " الإسلام قانون لا يحتاج إلى قانون " وهم يحملون المصاحف – وخطب الجموع صالح عشماوي ثم فريد عبد الخالق . ثم سمح لوفد منهم بمقابلة رئيس المجلس وتقديم مذكرة إليه , وكان الوفد من صالح عشماوي وسعد الوليلي وفريد عبد الخالق وأمين إسماعيل .
• مناقشة في المجلس بين أحرار قلائل وحكومة مستبدة :
وأهم ما دار في المجلس من مناقشات في هذا اليوم هو الآتي :
قال الأستاذ فريد زعلوك : لا حاجة قط إلى هذا القانون المعروض علينا الآن ما دام القانون المدني قد نص فيه على تنظيم الجمعيات من الناحية المدنية , كما أن القانون الجنائي قد نص فيه على تنظيم الجمعيات من الناحية الجنائية أما لجرائم لسياسية فشأنها كشأن الأحزاب السياسية التي لا تخضع لأى نوع من أنواع التنظيم أو الرقابة _ وقال : إن الضمانات التي وردت في مشروع القانون ومنها رفع الأمر إلى مجلس الدولة , تشبه رجلا نسرق نقوده ثم يقال له : اذهب إلى المحكمة – فيحين أن الأصل ألا تسرق نقوده .
وتكلم الأستاذ عبد الحميد السنوسي فقال :
إن الهيئة التي بحثت مشروع القانون قالت في تقريرها أن هذا المشروع مماثل لأرقي التشريعات في العالم . وقد رجعت إلى القانون الإنجليزي وإلى القانون البلجيكي وبعض القوانين الأجنبية فلم أجد فيها قانونا مماثلا أو شبيها بهذا القانون وقال : إن مجلس الدولة قد انحرف عن طريق الدستور بإقراره هذا التشريع .
فقال عبد الفتاح حسن الوكيل البرلماني : لا أذيع سرا إذا قلت أن سعادة رئيس مجلس الدولة وواضع القانون المدني العام قد شارك في وضع نصوص مشروع القانون المعروض عليكم ..
وتكلم الأستاذ إبراهيم شكري – مصر الفتاة – فقال :
إن هذا الاستعجال في نظر مشروع القانون , والظروف التي تحتم أن يصدر في وقت معين قبل أن ينتهي تاريخ الأمر العسكرى الذي حل جمعية الإخوان المسلمين .. يؤيد أنه تشريع خاص أريد به حالة خاصة وهي حالة " الإخوان المسلمين " وإن هذا القانون يخالف روح دستور لأنه قصد به تنظيم بوليسي للإشراف على الجمعيات.
وقال : أن معالي وزير الداخلية واثق من أن هذا المجلس يري ما يراه معاليه.
وثار المجلس – كالمعتاد – وعد هذا الكلام إهانة له فاعتذر إبراهيم شكري .
وانتهي الأمر بموافقة البرلمان بمجلسيه على القانون ..واستغرق الموضوع كله منذ بدء تقديم المشروع إلى مجلس النواب حتى التصديق عليه من المجلسين الفترة من 18 / 4 حتى 25/4
• تعقيب على هذا التشريع:
أوردنا هذا القانون , وأوليناه اهتماما خاصا وفصلناه تفصيلا . مع أنه – وقد أراد الذين أوحوا به وأراد الذين تحملوا إصر تمريره بالخطوات التي جعلته قانونا , أن يجعلوه غلا دائما في عنق الشعب – أراد الله الذي بيده الأمر كله أن يئده حيا وأن يجعل الجهد الذي بذلوه في إنجازه كما قال في كتابة ." وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ".
بعد إنجاز هذا القانون واستوائه تشريعا فعالا كما يقولون , لم يستمتع الذين أنجزوه ولا الذين أوحوا به بيوم واحد ذاقوا فيه لذة ما كانوا يأملون من لذع ظهور الشعب بسياطه .. فلقد تعاظمت الأمور وتفاقمت ووجدت الحكومة نفسها في أمس الحاجة إلى سند يسندها من الشعب فتناست هزلها الذي كانت تهزله , وراحت تلتمس من الشعب العون والتأييد والحماية والتسديد .
فلم إذن كان اهتمامنا هذا الشديد بقانون لم يعمل به واندثر فيما اندثر من مئات القوانين ؟.. لقد كان اهتماما لدواع منها :
- أولا : الإلمام بالتاريخ : وهي فترة مرت بها الدعوة , وكانت من أعصب فتراتها فكان لابد من الكتابة عنها والإبانة عما أحاط بها .. وهو أمر لا غني عنه .
- ثانيا : لفت النظر إلى صفحات مطوية : فمن أخطر الأمور أن يهمل أصحاب الدعوات النظر إلى صفحت التاريخ المطوية , وألا يولوا اهتمامهم إلا للصفحات المنشورة .. ظنا منهم أن صفحة ما كادت تفتح حتى طويت هي صفحة عقيم , بدليل أنها كانت عديمة الأثر في أيامها , فهي في غير أيامها أشد عدما .. في حين أن مثل هذه الصفحات لم تطو, لأن أحداثا أكبر منها لنموها طغت عليها وحجبتها ولكنها لا تلبث – وهي مستكنة – حين تجد البيئة المناسبة لنموها أن تنطلق من سباتها وتكشف عن أنيابها .
- ثالثا : أن يتنبه أصحاب الدعوات إلى أن لمناصب الحكم سحرها الذي لا يقاوم فقد يكون الرجل كريما نبيلا, يتدفق رقة ووطنية وإخلاصا .. فإذا احتل منصة الحكم صار شيئا آخر ونسي ما كان يدعو إليه من قبل .
- رابعا : أن يعرف دعاة الدعوة الإسلامية أن جميع القوى العاملة في ميدان السياسة والاجتماع – مهما اختلفت وجهاتها وتباينت مناهجها وناصب كل منها الآخر العداء – تتفق جميعا وتنسي خلافاتها في مواجهة الدعوة الإسلامية .
- خامسا : إنها لحقيقة ثابتة ,جديرة بالاعتبار والتدبر .. تلك هي " أن التاريخ يعيد نفسه " على المؤمنين الكيسين الفطنين أن ينتفعوا بهذه الحقيقة .
وتوضيحا لهذه الدواعي الخمسة نقول :
• الجولة الأولي لمحاولة فرض هذا التشريع الخانق :
ليست هذه هي المرة الأولي أو بالتعبير الأدق ليست هذه هي المحاولة الأولي التي حاولت فيها حكومة مصرية إنشاء القيود وخلق العقبات أمام تكوين الجمعيات فلقد بدأت هذه المحاولات وزارة الوفد التي تولت زمام الحكم في فبراير 1942 .. إذ وضعت هذه الحكومة مشروع قانون سمته " قانون تنظيم الجمعيات الخيرية " وعرضته على مجلس وزرائها ثم على مجلس نوابها وناقشه هذا المجلس وفي 20/ 6/ 1944 اعتمد هذا المجلس من هذا المشروع النص التالي :
تعد جمعية خيرية كل جماعة من الأفراد تسعى إلى تحقيق غرض من أغراض البر سواء أكان ذلك عن طريق المعاونة المادية أو المعنوية وتعد مؤسسة اجتماعية كل مؤسسة تنشأ بتخصيص مال لمدة غير معينة سواء أكانت هذه المؤسسة تقوم بأداء خدمة إنسانية أو دينية أو علمية أو فنية أو زراعية أو رياضية أو أى غرض آخر من أغراض النفع العام دون قصد إلى تحقيق ربح مادي لأعضائها – ويشترط في جميع الأحوال ألا تكون الجمعية أو المؤسسة ووسائلها في تحقيق هذه الأغراض مخالفة للنظام أو الأمن العام أو الآداب العامة " وأقيلت حكومة الوفد في 9/10/1944 قبل أن يستكمل مشروع القانون خطوات إصداره . وجاءت حكومة السعديين برياسة أحمد ماهر الذي اغتيل فجاء من بعده النقراشي ..
ومعروف أن وزاراتنا الحزبية في مصر تأتي كل وزارة منها إلى الحكم وهمها الأول أن تنقض ما بنته سابقتها إن خيرا وإن شرا .. ولكن وزارة السعديين نقضت ما بناه الوفد في وزارته إلا " قانون تنظيم الجمعيات الخيرية " فإنها أبقت عليه وتبنته وأخذت في استكمال خطواته " حتى أصدرته على نفس الأسس وبنفس الصياغة التي تركته بها الوزارة الوفدية وكل الذي فعلته وزارة السعديين أن عرضت على البرلمان بقية المواد التي لم تكن قد عرضت بعد.
ووافق برلمان السعديين على التشريع وأصدر قانونا في أبريل 1945 .. وكانت إحدى مواده تجعل للحكومة حق حل الجمعية إذا اشتغلت بالسياسة .. وهو بيت القصيد ..
ولا شك في أن القارئ الكريم مدرك من مجرد ما أشرنا إليه من بنود هذا القانون أنه إنما كان المقصود به هيئة واحدة وجمعية معينة .. أرادوا أن يقذفوا بها بعيدا عن ميدان السياسة ويضعوا كل أنشطتها تحت رقابتهم حتى يظل ميدان السياسة دولة بينهم محتكرا لهم خاليا إلا منهم .
إن دخول عنصر الإخوان المسلمين ميدان السياسة في مصر كان حدثا تاريخيا ..وكان مثار غضب وفزع لدي محتكري السياسة في مصر من رجال الأحزاب وخدام المستعمر , وعباد القصر الملكي .. ذلك أن هذا العنصر الجديد أراد أن يجعل للسياسة مقاييس جديدة وأهدافا جديدة ووسائل جديدة لا يتقبلها هؤلاء المحتكرون ولا يستطيعونها ..
فهو يطالب الساسة بالشجاعة في مواجهة الغاصب , وبالتضحية بالمال والجهد والدم فضلا عن المناصب ..وهذا أمور لا قبل لهم بها وفيها قضاء على آمالهم ومصادرة لشهواتهم .
ولهذا قرر هؤلاء المحتكرون أن يتعاونوا – والحكم في أيديهم – على حصر هذه الهيئة الناشئة في أضيق نطاق وضربها ضربة تبدد شملها وتشغلها بنفسها وتقضي على أحلامها ... وانتهى تفكيرهم إلى سن هذا القانون .
ولا يعنينا أن نعترف بأن هذا القانون الذي بدأه الوفديون وأكمل إصداره السعديون كان تحديا صارخا لبناء دعوة الإخوان المسلمين ..ولقد شغلنا بأنفسنا فعلا عدة أشهر فلقد واجهتنا به حكومة السعديين بعد إنجازه مباشرة سنة 1945 وخيرتنا بمقتضاه بين أن تكون جمعية خيرية تحت إشراف وزارة الشئون الاجتماعية أو أن تكون حزبا سياسيا .
ووقف الأستاذ المرشد العام أمام هذه المواجهة حائرا فترة من الزمن وعقدت الهيئة التأسيسية أكثر من اجتماع لاتخاذ قرار في هذه المواجهة الخطيرة وكان القرار الوحيد الذي اتخذته الهيئة بعد أول دراسة للقانون هو رفض فكرة الحزب السياسي وفوضت الهيئة الأستاذ المرشد العام في اتخاذ ما يراه من قرار بعد ذلك .. واجتمع مكتب الإرشاد العام عشرات المرات ,وتباحث المتخصصون في القانون بعد ذلك.. واجتمع مكتب الإرشاد العام عشرات المرات وتباحث المتخصصون في القانون من الإخوان واستعان المرشد العام بالمتخصصين من غير الإخوان .. ومع ذلك وبعد كل هذه البحوث والاجتماعات ظل القرار الوحيد الذي أمكن اتخاذه هو قرار رفض الحزبية دون الوصول إلى صيغة تخرجنا من الحيرة والحرج ..
وأخيرا تفرغ الأستاذ المرشد إلى نفسه مسترشدا بما قدم إليه من بحوث مستعينا بما عوده ربه من هداية وبما يسكبه في نفسه من إلهام ..وخرج علينا بعد ذلك بمشروع انتشلنا به من وهدة لحيرة وقادنا به إلى بر الأمان وعرض المشروع على مكتب الإرشاد ثم عرض على الهيئة التأسيسية فنال الثقة الكاملة وحمد الجميع ربهم أن وفق مرشدهم إلى هذا القرار الملهم المنقذ ..
• الخطوط العريضة للقرار المنقذ :
وينبغي للقارئ الكريم أن يعلم أن هذا القرار كان من أخطر القرارات التي اتخذها الإخوان المسلمون في حياتهم العملية فكان فاصلا بين عهدين في تاريخهم وكان بمثابة تجربة قاسية كان على الدعوة أن تخوضها وهي راغمة لتستبقي لنفسها حق مواصلة الحياة ..ولذا فإن القرار لم يقف عند حد تعديل في بعض مواد قانون الإخوان المسلمين بل تناول القانون الأساس كله بالتغيير , بحيث اتخذ صورة جديدة . وكان ذلك على الوجه الآتي :
- تعريف الإسلام بأنه نظام شامل لجميع شئون الحياة وأهدافه النهوض بكل هذه الشئون .
- ما اختص من أهداف الإسلام بالشئون الاجتماعية تؤسس له هيئة مستقلة مركزها القاهرة تسمى " المركز العام لجمعيات البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين " لها أعضاؤها الذين يكونون جمعيتها العمومية ولها اشتراكاتها وماليتها الخاصة بها ولها دفاترها وحساباتها التي تخصها – ويقوم أعضاء جمعيتها العمومية بانتخاب مجلس الإدارة الخاص بها وتكون مسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية وتحت إشراف مندوبيها في جميع أعمالها وتصرفاتها – ولهذا المركز العام أن ينشئ فروعا تابعة له في مختلف الأحياء والبلاد وتكون فروعه مسجلة بوزارة الشئون الاجتماعية وتحت إشراف مندوبيها ,
- أغراض الإسلام الأخرى التي لا تدخل في نطاق أعمال البر والخدمة والاجتماعية كنشر الدعوة الإسلامية وبث الروح الوطنية والقيام بالأعمال الاقتصادية .. تقوم بها " هيئة الإخوان المسلمين العامة"
وبذلك تفادي الإخوان الشراك الذي نصبته الدولة لاصطيادهم ..وقد ذهل رجال القانون الحكوميون حين تلقوا رد الإخوان .. وكانوا يعتقدون أن الإخوان سيعجزون عن الجواب إلا أن يأتوا مذعنين فلقد أحكموا الخناق القانوني حول عنقهم فإما الاستسلام وأما الاختناق وكلاهما فناء .
وكانت هذه إحدي عبقريات حسن البنا التي أيئست أعداءه أن يستطيعوا النيل منه مهما أحكموا من خطط اصطياده .. ما دامت هذه الخطط في حدود العرف والقانون فما كانت مشكلة يستعصي عليها حلها مهما تعاظم أمرها وتفاقم خطرها وتعقدت خيوطها وما ذلك إلا بتوفيق الله تعالي له .
وكان هذا القانون محنة اجتازها الإخوان بسلام وتفادوا بمعونة الله وتوفيقه ما أ‘د لهم من مزالق ومهالك . ومنذ ذلك اليوم كنت تدخل المركز العام بالحلمية الجديدة فتجد على يمينك في فنائه مبني صغيرا مستقلا عليها لافتة كتب عليها " المركز العام لجمعيات البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين " ولهذا لمركز مجلس إدارة مستقبل على رأسه الأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن البنا – شقيق الأستاذ المرشد العام – وتجد القانون الخاص بهذا المركز مطبوعا في كتيب صغير مستقل .. كما أنك واجد في كل شعبة من شعب الإخوان تقريبا في مختلف البلاد فروعا للبر والخدمة الاجتماعية على نسق هذا المركز وتابعة له :
ولا أعتقد أن وزارة الشئون الاجتماعية تبعها في يوم من الأيام جمعيات لها عشر معشار ما كان لهذا المركز وفروعه من نشاط في ميادين البر والخدمة الاجتماعية من أنشطة صحية وثقافية ورياضية واجتماعية وإصلاحية وبر وإحسان .
• الجولة الثانية :
كانت هي الجولة الأولي من جولات هذا النوع من الصراع وقد رأي القارئ أنها لم تكن صراعا بين حزب معين وبين الإخوان بل كنت بين الباطل الحزبي كله علي اختلاف أحزابه وألوانه وبين الإخوان وحدهم فلقد اشترك في وضع هذا القانون حزب الوفد وحزب السعديين ومن معه من الأحزاب الأخرى. ثم كانت الجولة الثانية ..وكانت بتدبير نفس المدبرين إلا أنها كانت نابعة هذه لمرة من أحط ما في نفوسهم من خسة ونذالة .. فإذا قلنا – تجاوزا- أن الجولة الأولي كانت أشبه بالمواجهة بين خصمين فماذا نقول في جولة كانت إجهازا على جريح؟...
هاجموا الإخوان هذه المرة وهم يترنحون من شدة طعنات حكومة غادرة متواطئة غاشمة ودماؤهم تتفجر من كل جانب , ولا يجدون من يضمد لهم الجراح ..
إن الأعداء الشرفاء عن شهر السلاح على عدوهم إذا وقع مثخنا بالجراح ولكن الأخساء يهتبلونها فرصة فيتكالبون عليه وهو في الرمق الأخير لا يدفع عن نفسه وكانت الجولة الثانية من هذا النوع الخسيس الذي تأباه النفوس الشريفة .. أخذوا في سن هذا القانون والإخوان ممزقون كل ممزق بين معتقل ومسجون ومطارد ومعذب وبعد أن امتدت يد الغدر والخيانة إلى مرشدهم العام .
" هل هناك جولات أخرى ؟
وقد رأيت أن أتناول بشئ من الإسهاب الحديث عن هذا القانون بجولتيه , لتتضح أما أعين هذا الجيل والأجيال القادمة صورة حقيقية غير مزيفة لطبيعة الرجال وطبيعة الزعماء وطبيعة المجتمعات في بلادنا .. حتى لا يتمادى بهم حسن الظن فؤخذوا على غرة وحتى لا ينخدعوا بالمظاهر المصطنعة والخطب الرنانة والأحاديث المنمقة.. ألا فليعلموا أن من ورائها نفوسا لا تنطوى إلا على الأنانية والأثرة والغدر .. ولا هدف لها إلا التسلق على أكتاف المخدوعين حتى يتسنموا قمة السلطة فيخلفوا وعودهم ويستنكروا لماضيهم ولشعبهم ولوطنهم ... وينحصر همهم بعد ذلك في العمل على تثبيت أقدامهم في مراكز السلطة ..ويتحول معني الإخلاص في نظرهم حينئذ إلى مظاهر الخضوع لهم والإذعان لأمرهم , ,معني الوطنية إلى التفاني في خدمتهم والإشادة بفضلهم ومعني لشجاعة إلى الدفاع عن باطلهم وتبرير أخطائهم .. أما من خرج على هذا الخط الذي حددوا به معاني الإخلاص والوطنية والشجاعة واستنكف أن يعبد أحدا من دون الله فإنه يعد خارجا وخائنا وإرهابيا وتزرع أمامه الطرق بالعقبات وتكال له التهم وتلفق له العيوب ويلاحق بأساليب القهر والمطاردة .
وهذا الذي تسنم قمة السلطة وذاق حلاوتها فتشبث بأسبابها لا يريد لها فراقا أول ما يلجأ إليه في محاربة من ارتفع على أكتافهم ويعلم أنهم لا يقبلون بآماله الجديدة – هو أن يستغل ما تنيحه له هذه السلطة من وسائل .. وأول هذه الوسائل هي التشريعات والقوانين التي تجعل الحلال حراما والحرام حلال .. وهكذا تأتي جولات وجولات .. ( والله من ورائهم محيط) ( البروج : 20) .
الفصل الثاني المحاكمات
مقدمة
كانت ثمرة السياسة الحاقدة الخرقاء التي انتهجتها الطغمة الحاكمة التي كانت واجهتها هي وزارات السعديين, أن اضطربت أحوال البلاد, وخيم عليها ظلام دامس لا يأمن فيه مواطن على نفسه .. وكيف يأمن والحكومة التي وظيفتها أن تحميه وتوفر له أسباب الأمن رأي أنها صارت هي التي المؤامرات بل وترتكب الجرائم ..
وأخطر من هذا وأدهي وأمر أن هذه الحكومة – وقد تلوثت يداها بدماء أفراد الشعب .. أضحت فريسة للوساوس والهواجس والأوهام , فقد صور لها شعورها بجريمتها أن كل فرد يمشي في الشارع أو يأوي إلى بيت أو يدرس في معهد أو يلهوا في مقهي أو يتكلم مع أصدقائه خيل لها أن هؤلاء جميعا يعملون على فضح جريمتها والكشف عن مؤامرتها ... فثبت عيونها في كل مكان يتتبعون السائرين ويتصنتون على لمتحدثين ويهاجمون الآمنين .. وتفرغت بكل مقوماتها وإمكاناتها لهذا الأسلوب المثير .
وتحولت صورة الموقف في مصر من حكومة ترعي مصالح الشعب إلى حكومة تتحدي شعبا وتقف له بالمرصاد تبتدع كل يوم أسلوبا جديدا لاستفزازه وإثارته... مدعية – زورا وبهتانا – أنها تحميه من الإخوان المسلمين .. فهل شكا إليها الشعب يوما من الإخوان المسلمين ؟؟... وهل الإخوان المسلمون .. فهل شكا إليها الشعب يوما من الإخوان المسلمين ؟... وهل الإخوان المسلمون إلا أبناء هذا الشعب وإخوته وأخواته وآباؤه وأمهاته وأعمامه وأخواله ؟ لم يكن الإخوان المسلمون فئة محدودة تعد على الأصابع كما هو الحال في حزب السعديين وأمثالهم حتى يقال إنها عصابة تفزع الناس في قرية من القري أو في حي من الأحياء فتقوم الحكومة بمحاصرتها حتى تقضي عليها وتوفر لهذه الجهات الأمن والأمان .
وإنما الأمر شئ آخر تماما .. الإخوان المسلمون فكرة وعقيدة سرت في قلوب لشعب من أقصاه إلى أقصاه ..ودخلت كل بيت واستقرت في كل نفس لأنها فطرة الله لتي فطر الناس عليها , وما من مكانة دخلته هذه الفكرة إلا ولمس أهله والمقيمون فيه من آثارها ما سرهم وأسعدهم ومن تقريب بين النفوس وتثقيف للعقول وتصحيح للأبدان وتطهير للقلوب وأخذ بيد الضعيف .. فكيف يشكوا الناس من هذا الفيض الرباني الذي غمرهم فنقلهم من الظلمات إلى النور ؟
لم يشك أحد من هذا الشعب المفترى عليه ولكن الذين شكوا هم سكان القصور في القبة وعابدين ومرضي النفوس من الساسة المحترفين الذين رأوا في هذه الفكرة تدمير آمالهم , وتحطيم رفاهيتهم القائمة على استعباد الشعب واستغلال جهوده لأنفسهم..
لم يكن بد أمام الشعب المغلوب على أمره – ممثلا في شبابه الطاهر – إلا أن تثور نفسه إزاء الاستفزاز المستمر , فيقدم على أعمال يعلم أنها مهالك ولكنه يقدم عليها أملا في أن تضع حدا لهذا الاستفزاز المتوقح , والظلم لجائر , والاستبداد الفاجر. هي طبيعة النفوس البشرية .. لها طاقة محدودة من التحمل والصبر , فإذا زاد الضغط على حد التحمل انفجرت غير عابثة بشئ ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ( النساء : 148) وقعت أحداث خطيرة .. كانت تعبيرا لرد الفعل لا ردا للفعل , فإن رد الفعل الذي كان يجب أن يقع – وهو كما تقول القوانين يضاد الفعل ويساويه – أن تندلع في البلاد ثورة عاتية تقتلع الظلم والظالمين ..ولكن يبدو أن إرادة الله قدرت أن تؤجلها – كما يتضح ذلك في ثنايا الحديث عن المحاكمات – أو لعل هذه الثورة لم تكن قد استكملت بعد كل عناصر اندلاعها فكانت هذه الأحداث مقدمة لها ونذيرا لها , وإرهاصا بقدومها ..
وإذا أردنا أن نحصي هذه الأحداث هالتنا كثرة عددها ولذا فإننا نختار منها ما استطاعت أن تصل به تلك العصابة الحاكمة إلى الحد الذي صورته للشعب في صورة الأعداد للثورة عليها والعمل على قلب نظام الحكم وشكلته في هيئة قضايا خطيرة أمضي القضاء الجاني في نظرها بضع سنين وقامت الدنيا لها وقعدت لما أثير فيها من أسرار ومفاجآت .
ولما كنا بصدد الحديث عن المحاكمات فنري علينا أولا وقبل الخوض فيها أن نعرض لقضية نسبت إلى الإخوان كهيئة زورا وبهتانا لأنها لم تكن إلا عملا فرديا وتصرفا شخصيا ووحي انفعال ذاتي كما ينفعل أى فرد من الناس على آخر في الطريق أو في العمل أو في لبيت نتيجة كلمة نابية أو تصرف يمس كرامته .. فهل إذا أسفر هذا الانفعال عن ضرر يكون كل الجهة المنتسب إليها هذا الفرد مؤاخذ بآثار انفعاله ؟.... كان هذا الانفعال الفردي ,وما نجم عنه من تصرف شخصي بحت هو ما سمي " قضية اغتيال الخازندار " .
• قضية اغتيال الخازندار
وقعت هذه الجريمة في 22 فبراير 1948 . واتهم فيها طالبان من المنتسبين إلى الإخوان المسلمين من بين عشرات الآلاف من الطلبة المنتسبين إلى الإخوان ... ولا أزال أذكر كيف وقع نبأ هذه الجريمة على الأستاذ الإمام وعلينا جميعا موقع الصاعقة .. حتى أن الأستاذ -رحمه الله – تنهد طويلا وأخذ يشكو إلى الله من هذا التصرف الأحمق والحماس الأعمي الذي شبهه بإخلاص الدب لصاحبه , إذ أراد أن يخلصه من مضايقة ذبابة على وجهه وهو نائم , فأتي بحجر ضخم وألقاء على الذبابة فلم يصبها ولكنه قتل صاحبه .
تبين فيما بعد أن هذين الشابين – وكان بعد في الدراسة الثانوية – كان صديقين لشابين في مصل سنهما من الإخوان هما حسين محمد عبد السميع ومحمود نفيس حمدى , اتهما – في معمعان ثورة الشعب على طغيان العسكريين الإنجليز وتعديهم على أفراد الشعب – بإلقاء قنبلة يدوية على نادي الضباط الإنجليز بالقاهرة في ليلة عيد الميلاد من عام 1947م ولم يصب أحد من هذه القنبلة , ولم يقبض عليهما في مكان الحادث بل ضبطا في أثناء سيرهما , وبتفتيشهما وجد في جيب الأول قنبلة لما سئل عنها قال إنه وجدها في الطريق ولما عرضت هذه القنبلة على ضابط استكشاف القنابل قدم تقريرا بأنها ليست من النوع الذي ألقي في تلك الليلة ..وقد هذان الشابان إلى محكمة الجنايات برياسة المستشار أحمد الخازندار بك فأصدرت حكمها في 18 يناير 1948 بحبس حسين عبد السميع ثلاث سنوات مع الشغل وغرامة مائة جنيه – وقد سبق أن أشرنا إلى هذه الحادثة في موضعها في الجزء الأول من هذا الكتاب .
وفي خلال ذلك العام نفسه عام 1947 كانت هناك أمام القضاء قضية هامة لجريمة بشعة مروعة وقعت في الإسكندرية وقد هزت أرجاء البلاد سميت بجريمة سفاح الإسكندرية وكان يدعي حسن قناوي , وقد راح ضحية هذه الجريمة أكثر من قتيل .
وكانت دوافع ارتكاب جرائم القتل هذه دوافع جنسية قذرة.. وكانت تفاصيل هذه القضية وما دار في جلساتها من شهادات مما يزكم الأنوف ويؤذي المشاعر من بهيمية منحلة ووحشية مرعبة .. وكان من تنقله الصحف مما يدور في جلسات هذه القضية يثير الذعر والاشمئزاز في نفس كل مصري ومصرية ... وتمنى الشعب أن لو استطاع القضاء أن يخلص الإنسانية من هذا الوحش الكاسر الدنئ .. وطالب الأستاذ أنور حبيب وكيل النيابة في مرافعته برقبة المتهم فجاء طلبه مترجما لشعور الناس جميعا في أنحاء البلاد..
ولكن الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات برياسة احمد الخازندار بك كان صدمة لمشاعر الناس , فقد أصدرت المحكمة في 12 مارس 1947 حكمها على سفاح الإسكندرية بسبع سنوات من الأشغال الشاقة , تلقاها المتهم – كما جاء بالصحف في ذلك الوقت – بالابتسام بعد أن كان واجما .
تبين أن هذين الشابين حنقا على رئيس المحكمة ألا يراعي في حكمه الدوافع الوطنية النبيلة في القضية الأولي ,, وأن يساوي بينها وبين الدوافع القذرة الأثيمة في القضية الثانية فأقدما على ما أقدما عليه .
كانت هذه الجريمة في ذاتها – مع كل ما قيل فيها من اعتبارات وظروف – جريمة شائنة ولكنها بالنسبة للإخوان المسلمين – وهم متقيدون بالمثل الإسلامية العليا – كانت صدمة قاسية وكارثة أليمة ... وما كان الإخوان في ذلك الوقت يملكون إزاءها أكثر من أن يعلنوا استنكارهم أشد استنكار, وتبرؤهم منها ومن مرتكبيها .
ومع أن محاكمة الشابين أثبتت أنهما لم يستوحيا إقدامهما على الجريمة من أية جهة غير تصورهما الشخصي, ومع أن الفحص الطبي أثبت أن بهما لوثة من الجنون وأصدرت المحكمة بناء على ذلك حكمها عليهما بالأشغال الشاقة المؤبدة دون الإعدام... مع كل هذا فإن الجريمة تركت أثرها في نفوس الرأي العام بأن كل ذلك لم يكن كافيا لإبراء ذمة دعوة هي في نظر الناس أطهر من ماء السماء ..وليس معني هذا أن الرأي العام قد وصم الإخوان بهذه الجريمة , أو اعتقد أن لهم فيها يدا, وإنما كان يتمنى ألا يكون مرتكبا هذه الجريمة قد انتسبا إلى هذه الدعوة في يوم من الأيام .. وكما أن هذا الشعور كان شعور الرأي العام فإنه أيضا كان شعور الإخوان أنفسهم لا سيما الأستاذ الإمام , الذي دفعه هذا الشعور إلى إعداد العدة لإعادة النظر في صفوف المنتسبين إلى الدعوة .. ولولا معاجلة الأحداث له لنفذ الخطة التي أعدها لذلك وإن كان المسئولون عن الدعوة من بعده قد وضعوا خطته هذه موضع التنفيذ ..مما يأتي بيانه في فصول قادمة إن شاء الله .
هذا بيان موجز غاية الإيجاز عن هذه القضية كان لابد من تقديمه قبل الحديث عن موضوع هذا الفصل – فإن هذه القضية – وأن لم تكن من قضايا الإخوان – إلا أنها كانت من أبعد القضايا أثرا في دعوة الإخوان المسلمين بحيث اتجهت بها اتجاها خاصا , وشكلتها بتشكيل معين .
• أهم القضايا المسماة بقضايا الإخوان :
ثم نرجع إلى ما كنا بصدده مما تمخضت عنه جهود حكومة عبد الهادي إذ تمخضت عن عدد وافر من القضايا أهمها هذه الخمس :
- قضية اغتيال النقراشي .
- قضية محاولة نسف محكمة الاستئناف .
- قضية السيارة الجيب .
- قضية محاولة اغتيال حامد جوده ( رئيس مجلس النواب ).
- قضية الأوكار
وكل هذه القضايا وقعت أحداثها في عهد عبد الهادي ما عدا قضية السيارة الجيب فقد وقعت أحداثها في عهد النقراشي ..وقد تعارف الناس كما تعارفت الصحافة على تسمية هذه القضايا الخمس بقضايا الإخوان .. وقد استغرق نظر هذه القضايا الفترة الزمنية ما بين أيام عبد الهادي سنة 1949 حتى بعد قيام الثورة إلى عام 1954 حيث لم يكن القضاء قد أنهى بعد نظر قضيتي حامد جوده والأوكار – أما القضايا الثلاث الأخرى فقد صدر حكم قضائي عسكري في اثنين منها وهما قضية اغتيال النقراشي وقضية محاولة نسف محكمة الاستئناف في عهد وزارة عبد الهادي .. أما القضية الباقية وهي قضية السيارة الجيب فقد نقلت من القضاء العسكري بعد أن نظرها حينا إلى القضاء العادي حيث ألغيت الأحكام العرفية , وأصدر القضاء حكمه فيها في عهد وزارة الوفد سنة 1951.
وفي معالجتنا لموضوع المحاكمات لن نقصد إلى تناول هذه القضايا تناولا موضوعيا مفصلا, وإنما سوف نقتصر في هذا التناول على النواحي الشكلية منها .. وتلك النواحي التي جعلت من هذه القضايا بدلا من أن تكون محاكمة لأفراد على تهم وجهت إليهم ..
جعلت منها محاكمة تاريخية لعهد , ولأسلوب حكم , ولفترة مظلمة من حياة هذه البلاد. ولهذا فقد حشدت حكومات ذلك العهد كل ما تملك من قوة ومال وسلطة وبطش وفرغت المسئولين فيها في جميع المواقع لجمع العناصر التي لابد من جمعها لخلق هذه القضايا وتكوينها .. وكانت غايتها من وراء ذلك أن تجد بين يديها آخر الأمر من أحكام القضاء ما يدفع الإخوان المسلمين بالجريمة, فيكون هذا الدفع القضائي مبررا لما اتخذته ضدهم من إجراءات انتقامية شاذة فاجرة.. ويكون في هذا الإجهاز التام على الجريح المثخن بالجراح ولكنه لا يزال يغالب الموت .
ومع أن معالجتنا لهذه المحاكمات هي على النحو الذي بيناه , فإننا مطالبون مع ذلك بأن نضع بين يدى القارئ فكرة موجزة عن كل واحدة من هذه القضايا حتى يساير الحديث الذي نسوقه بعد ذلك فيما يتصل بها إن شاء الله . نبذة موجزة عن هذه القضايا
1- قضية اغتيال النقراشي :
وقعت هذه الجريمة في 28 ديسمبر 1948 , وقبض فيها على الجاني عبد المجيد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري .... وحسب هذه القضية ما كتبناه في الفصول الأولي من هذا الجزء من الكتاب , فقد أطلنا الحديث فيها عن ظروف هذه الجريمة وأسبابها ودواعيها وعن المسئول الحقيقي عن وقوعها – كما أشرنا إلى " بيان للناس " الذي أخذوه من الأستاذ الإمام بدعوى أنه وسيلة لتحسين العلاقات بين الإخوان والحكومة ولكنهم استعملوه لزلزلة عقيدة المتهم في هذه القضية .. وقد تزلزلت عقيدته فعلا فبعد أن اعترف بأنه أقدم على هذه الجريمة من تلقاء نفسه تراجع وأخذ يتهم آخرين بالتأثير عليه .
• قرار الاتهام :
وكان محمود منصور بك في ذلك الوقت هو النائب العام , وكان من المتفانين في خدمة أغراض الطغمة الحاكمة , حتى إنه كان يريد ضم جميع قضايا الإخوان في قضية واحدة وتقديمها إلى القضاء العسكرى .. ولكن نظرا لطول التحقيق وكثرة عدد المتهمين مما يحتاج إلى وقت طويل في النسخ والاطلاع والاستعداد فقد رأوا أن الوقت لا يتسع لنظر هذه القضية في العام القضائي الحالي الذي ينتهي في منتصف يونيه – وإن كان هذا لا يمنع من نظرها خلال العطلة على اعتبار أن القضايا العسكرية من القضايا التي تنظر على وجه الاستعجال , فلا تحول العطلة القضائية دون نظرها – ولكن رئي أخيرا – لتعذر تنفيذ هذه الخطة – العدول عنها .
واكتفي النائب العام بعد ذلك بضم بعض المتهمين في قضية السيارة الجيب وقضية حامد جوده إلى المتهمين في قضية اغتيال النقراشي , ووضع تقرير الاتهام في هذه القضية في 8 مايو 1949 وجعل المتهمين في 24 متهما , منهم خمسة متهمون بالاشتراك في قتل النقراشي والتسعة عشر الباقون متهمون بالاتفاق الجنائي مع الخمسة للاستيلاء على الحكم بالقوة وأصدر قرار الاتهام على الصورة الآتية :
عبد المجيد أحمد حسن | سن 22 سنة | طالب بكية الطب البيطرى | بسجن الأجانب |
---|---|---|---|
السيد فايز عبد المطلب | سن 29 سنة | مهندس ومقاول مباني | بسجن مصر |
محمد مالك يوسف محمد مالك | موظف بمطار القاهرة | - | هارب |
عاطف عطية حلمي | سن 25 سنة | طالب بكلية الطب | بسجن مصر |
سيد سابق محمد التهامي | سن 24 سنة | مقرئ دلائل | بسجن مصر |
أحمد عادل كمال | سنة 23 سنة | موظف بالبنك الأهلي | بسجن مصر |
طاهر عماد الدين | سن 25 سنة | مهندس بشركة كوكينوس | بسجن مصر |
إبراهيم محمود على | سن 30 سنة | ترزي | بسجن مصر |
مصطفي كمال عبد المجيد أيوب | سن 26 سنة | مكانيكي | بسجن الأجانب |
مصطفي مشهور مشهور | سن 27 سنة | مهندس بالأرصاد الجوية | بسجن مصر |
محمود السيد خليل الصباغ | سن 28 سنة | مهندس بالأرصاد الجوية | بسجن مصر |
أحمد زكي حسن | سن 25 سنة | مدرس بمدرسة الجيزة الابتدائية | بسجن مصر |
أحمد محمد حسنين | سن 28 سنة | مراقب حسابات شركة المعادن | بسجن مصر |
محمد فرغلي النخيلي | سن 29 سنة | تاجر معادن | بسجن مصر |
عبد الرحمن على فراج السندى | سنة 32 سنة | موظف بوزارة الزراعة | بسجن مصر |
محمد حسني أحمد عبد الباقي | سن 33 سنة | عضو مجلس مديرية الجيزة | بسجن مصر |
أحمد قدرى البهي الحارتي | سن 21 سنة | مهندس بمصلحة الطيران المدني | بسجن مصر |
محمد بكر سليمان | سنة 26 سنة | نساج بشركة النيل للمنسوجات | بسجن مصر |
أسعد السيد أحمد | سن 26 سنة | مكانيكي | بسجن مصر |
محمد سعد الدين السنانير | سن 28 سنة | مقاول نقل | بسجن مصر |
على محمد حسنين | سن 27 سنة | قوموسيونجي | بسجن مصر |
سعد محمد جبر | سن 28 سنة | مهندس لاسلكي | بسجن مصر |
محمد محمد فرغلي | سن 24سنة | واعظ الإسماعيلية | بسجن مصر |
محمد إبراهيم سويلم | سن 22 سنة | فلاح | بسجن مصر |
الأول متهم بقتل النقراشي باشا والأربعة التالون اشتركوا معه بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة ,والجميع حتى 24 متهمون بالاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب الجنايات والجنح المذكورة بعد, واتخاذها وسائل للوصول إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة . واتحدت إرادتهم على الأعمال المسهلة والمجهزة لارتكابها ... وهذه الجرائم هي :
- قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بواسطة عصابات مسلحة .. المادتين 87,88 عقوبات .
- إتلاف سيارات وأسلحة الجيش المصري المعدة للدفاع عن البلاد , الأمر المنطبق عليه المادة 81 عقوبات .
- تخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز البوليس ومحطات الإضاءة والمياه وغيرها – المادة 90 عقوبات .
- قتل عدد كبير من المصريين والأجانب المبينة أسماءهم بالكشف المرفق عمدا مع سبق الإصرار والترصد , مما ينطبق عليه المواد 230, 231, 232 عقوبات .
- تعريض أموال الناس وحياتهم عمدا للخطر باستعمال القنابل والمفرقعات في عدد من السفارات والقنصليات الأجنبية وغيرها من الأماكن العامة والخاصة المأهولة بالسكان والمبينة بالكشف – المادة 258 عقوبات .
- تعطيل وسائل النقل العامة بنسف قطارات السكة الحديدية وجسورها وخطوطها ونسف الطرق والكباري العامة وسيارات الأوتوبيس وتعطيل القوى الكهربائية المولدة لحركة الترام - المادة 167 عقوبات .
- إتلاف الخطوط التلغرافية والتليفونية الحكومية عمدا في زمن الفتنة بقطع أسلاكها وقوائمها ونسف أدواتها – المادتين 165, 166 عقوبات .
- سرقة البنك الأهلي وبعض المحال التجارية بطريق الإكراه, باقتحامها بأشخاص مسلحين.
- إتلاف مباني شركة قنال السويس .
- قتل خيول البوليس عمدا.
- إقامة واستعمال محطات إذاعة سرية.
ثم طلبت النيابة بناء على مواد الأحكام العرفية إحالة القضية إلى المحكمة العسكرية .
• قائمة الشهود
طائفة للشهادة في حادث قتل النقراشي باشا والطائفة الثانية عن حادث ضبط السيارة الجيب . والثالثة عن ضبط حافظة جلدية مع المتهم مصطفي مشهور وبها باقي أوراق الجماعة والرابعة عن ضبط محطة الإذاعة والخامسة عن ضبط أسلحة ومفرقعات في دكان السنانيري بمصر القديمة والسادسة عن ضبط أسلحة ومفرقعات وأوراق الجماعة الإرهابية في مزرعة الشيخ محمد محمد فرغلي بالإسماعيلية .
كما وجدت أوراق لتكوين جماعة لغرض التجسس على جميع الأحزاب السياسية وغيرها من الهيئات كالبوليس السياسي ونقابات العمال وحزب العمال الاشتراكي .
وقد بلغت ملفات التحقيق ألقي صفحة . وتولي التحقيق فيها محمود منصور باشا – الذي استحق أن ينعم عليه بالباشوية – ومعه كبار رجال النيابة – وتنظر القضية في دورة يوليو ويترافع فيها محمد منصور باشا بنفسه .
ومعذرة إلى القارئ , فقد أتعبت نفسي بنقل كل هذه البنود,ولابد أنه قد أرهق أيضا بقراءتها ولكني تحملت وإياه هذه المشقة مرة واحدة لأعفيه من قراءتها مرات بعد القضايا فإن هذه البنود التي تفتق عنها ذهن موظف النيابة الذي وكل إليه أمر اختراعها هي التي تضمنتها قرارات الاتهام في جميع القضايا .. ولقد كان مؤسفا وسنة سيئة اقتفت أثرها الحكومات التي جاءت بعد ذلك حين أرادت أن تنكل بخصومها السياسيين .
وأحيلت هذه القضية إلى القضاء العسكرى أمام دائرة عسكرية عليا برياسة محمد مختار عبد الله بك وعضوية غالب عطية بك ومحمد عبد العزيز كامل بك واثنين من العسكريين ومثل النيابة الأستاذ محمد عبد السلام .
• طلب رد رئيس المحكمة :
وقد تقدم المتهمان السابع السيد فايز والخامس عشر محمد نايل طالبين رد رئيس المحكمة.... فتنحي مؤقتا ونظر أسباب الرد العضوان الآخران في حجرة المداولة . وبعد ساعتين نطقت الهيئة برفض طلب الرد.
وأخذ الدفاع على رئيس المحكمة أنه قام بدور قاضي التحقيق في هذه القضية مما يبطل هذا التحقيق ولكنه رفض رأى الدفاع وأصر على مواصلة نظر القضية ..وكان لهذا الرجل مواقف غريبة في أثناء نظر هذه القضية سنشير إليها في موضعها إن شاء الله .
وقد استمعت المحكمة فيمن استمعت إليهم من الشهود إلى عبد الرحمن عمار .. وقد ناقشه الدفاع في مذكرة الحل التي كان قد أعدها .. وألقي مرافعة النيابة محمد عزمي بك النائب العام في ذلك الوقت حيث سقطت في خلال هذه الفترة فجأة وزارة عبد الهادي , فلم يعد لمحمود منصور مكان في الحكومة الجديدة التي أرادت أن تظهر للشعب بمظهر المطهر .
وبدأت جلسات هذه القضية في 27/ 8/ 1949 وكانت آخر جلساتها في 25/9/ 1949 , ومعني هذا أنها لم تستغرق إلا أقل من شهر , وصدر الحكم فيها في 9/ 10/1949 بإعدام المتهم الأول وبأحكام دون ذلك لبقية المتهمين ومنها البراءة لبعضهم .
2- قضية محاولة نسف محكمة الاستئناف :
وهي تعتبر ملحقة بالقضية السابقة لأنها مرتبطة بها في ظروفها ودواعيها التي وضحناها من قبل وقد وقعت هذه المحاولة في 12 / 1/ 1949 والمتهم فيها هو شفيق إبراهيم أنس سنة 22 سنة يعمل موظفا في أرشيف وزارة الزراعة . ,قد أراد أن ينسف المحكمة انتقاما لما كان يجري بين جدراتها من تزييف وتلفيق وإكراه وتعذيب لإخوانه .. على أن أحدا لم يصب والحمد لله .
وقد نظرت هذه القضية أمام نفس المحكمة التي نظرت قضية اغتيال النقراشي وكان ممثل الاتهام فيها هو محمد كامل القاويش .. ولم تستغرق المحاكمة إلا أياما قليلة صدر بعدها الحكم على المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة .
في يوم 21 /11/1948 نشرت الصحف نبأ أذاعته وزارة الداخلية يقول : إنه قد تم ضبط سيارة جيب بها كميات كبيرة جدا من المتفجرات الخطرة والأوراق في دائرة قسم الوايلي أمام أحد المنازل . وتبين أن راكبي السيارة الذين جروا وقبض عليهم من جماعة الإخوان المسلمين .
وفي 25 / 29/1949 وضع النائب العام محمد عزمي بك تقرير الاتهام في هذه القضية فقدم 32 متهما بتهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم – ولا داعي لإعادة إثبات البنود الأحد عشر التي دأبت النيابة على رصها رصا في هذه القضايا أمام القضاء أما المتهمون فهم :
عبد الرحمن على السندي | 32 سنة | موظف بوزارة الزراعة |
---|---|---|
مصطفي مشهور | 27 سنة | موظف بالأرصاد الجوية |
محمد الصياغ | 28 سنة | مهندس بالأرصاد الجوية |
أحمد زكي حسن | 25 سنة | مدرس ابتدائي |
أحمد محمد حسنين | 28 سنة | مراقب حسابات شركة المعادن |
محمد فرغلي | النخيلي 29 سنة | تاجر معادن |
أحمد قدرى الحارتي | 21 سنة | مهندس بالطيران المدني |
محمد حسني عبد الباقي | 33 سنة | عضو مجلس مديرية الجيزة |
أحمد متولي حجازي | 29 سنة | تاجر راديو |
السيد فايز عبد المطلب | 29 سنة | مهندس ومقاول مباني |
أحمد عادل كمال | 23 سنة | موظف بالبنك الأهلي |
طاهر عماد الدين | 25 سنة | مهندس |
إبراهيم محمد علي | 30 سنة | ترزي |
دكتور أحمد الملط | 32 سنة | طبيب بوزارة الصحة |
جمال الدين فوري | 39 سنة | موظف بالبريد |
محمود حلمي فرغلي | 27 سنة | موظف بالداخلية |
محمد أحمد علي | 25 سنة | موظف بالأشغال |
عبد الرحمن عثمان | 22 سنة | طالب حقوق |
السيد إسماعيل شلبي | 44 سنة | تاجر |
أسعد السيد أحمد | 26 سنة | ميكانيكي |
محمد بكر سليمان | 26 سنة | نساج |
صلاح الدين عبد المتعال | 18 سنة | طالب ثانوي |
جمال الدين الشامي | 26 سنة | مهندس ري |
جلال الدين ياسين | 24 سنة | موظف وطالب |
محمد الطاهر حجازي | 24 سنة | بالتجارة |
عبد العزيز البقلي | 24 سنة | طالب بالزراعة |
كمال القزاز | 27 سنة | ترزي |
محمد سعد الدين السنانيري | 27 سنة | نجار |
على حسنين الحريري | 27 سنة | مقاول نقل |
محمد محمد فرغلي | - | واعظ بالإسماعيلية |
محمد إبراهيم سويلم | - | فلاح بالإسماعيلية |
سليما مصطفي عيسي | - | قوموسيونجي |
وجاء في ملاحظات النيابة على هذه القضية وجود رسم حارة اليهود ورسم للسفارتين الأمريكية والبريطانية وتقرير عن حسن رفعت باشا ( يبدو أنه كان الأستاذ الأعظم للماسونية في ذلك الوقت ) ومحل إقامته والأشخاص الذين يترددون عليه والأمكنة التي يتردد هو عليها , وتقرير عن نسف مصنع النيل للمنسوجات بشبرا ..وقد قرر المتهم محمد بكر سليمان أنه حرر هذه الأوراق بخطه وزعم أنه حررها من نسج الخيال لتحسين خطه .
والملحوظة الأخيرة هي أنه ضبط في دار المركز العام للإخوان المسلمين مشروع اعترف المتهم سليمان مصطفي عيسي بأنه حرره وجاء فيه أنه يقترح أن يكون هذا النظام جمهوريا اشتراكيا وأن ينتخب رئيس الجمهورية لمدى الحياة .
وقد أحيلت القضية إلى دائرة جنائية عسكرية عليا ... ولما رفعت الأحكام العرفية أحيلت إلى دائرة جنايات عادية برياسة أحمد كامل بك وعضوية محمد عبد اللطيف بك وزكي شرف بك. ومثل النيابة محمد عبد السلام بك..وعقدت هذه المحكمة لنظر هذه القضية جلسات متوالية . وكانت أول جلسة لنظرها في هذه الدائرة يوم 2/12/ 1950.
وقد استدعت المحكمة بناء على طلب الدفاع في هذه القضية إبراهيم عبد الهادي واستجوبته باعتباره شاهدا كما استدعت كثيرين من كبار رجال الدولة وقواد الجيش ومن كبار رجالات العرب.
وفي أثناء نظر هذه القضية قام الأستاذ شمس الدين الشناوي – أحد أفراد هيئة الدفاع – بتقديم الوثيقة التي اشرنا إليها في فصل سابق فكانت مفاجأة اهتزت لها الأوساط البريطانية والدوائر السياسية.. وفي أثناء نظر هذه القضية تكشفت أسرار كثيرة داخلية وخارجية ..
وكانت آخر جلسة لهذه القضية في 26/ 2/ 1951 وتقرر النطق بالحكم يوم 17 مارس 1951 , وبذلك يكون نظر هذه القضية قد استغرق أمام هذه الدائرة نحو ثلاثة أشهر ونصف شهر .
وكان للحكم الذي أصدرته هذه المحكمة في هذه القضية , ولحيثيات هذا الحكم دوى كبير في الأوساط القانونية والأوساط السياسية في مصر وفي خارج مصر .
4- قضية محاولة الاعتداء على حامد جوده
رؤى في أول الأمر نظر هذه القضية وحدها . ونظرت عدة جلسات منها فعلا أمام محكمة عسكرية عليا – ولم يكن المقصود من هذا الحادث الذي وقع في 6 مايو 1949 هو حامد جوده , بل كان المقصود هو إبراهيم عبد الهادي , ولكن هذا تخلف عن موعده ومر حامد جوده فألقيت على سيارته قنبلة وهو يمر عند جامع عمرو , ولكنها لم تصبه .
وقدمت النيابة عشرة متهمين في هذه القضية إلى القضاء العسكري وهم :
- مصطفي كمال عبد المجيد ( ميكانيكي )
- محمد نجيب جويفل ( طالب )
- عبد الفتاح ثروت ( راصد جوى )
- فتحي محمد علام ( طالب )
- سمير جلال شهبندر
- مصطفي محمد الجابري
- عبد الكريم محمد السيد ( عامل )
- محمد شحاته عبد الجواد ( طباع)
- سعيد جلال شهبندر ( طالب)
- على صديق السيد فراج ( طالب )
والمحكمة العسكرية العليا التي نظرت هذه القضية في أول الأمر كانت برياسة رياض رزق الله بك وعضوية عبده المليجي بك وقطب عمر بك واثنين من العسكريين .. ثم أحيلت إلى دائرة عسكرية أخرى برياسة مرسي فرحات بك وعضوية محمود صبري بك وعبد الرحمن جنينة بك واثنين من العسكريين . وقد ظلت هذه القضية تنظر أمام هذه الهيئة حتى جاءت وزارة الوفد وأسندت وزارة التموين إلى مرسي فرحات بك فأجلت جلساتها .ولما رفعت الأحكام العرفية أحيلت إلى دائرة جنائية غير عسكرية برياسة حسين طنطاوي بك... وفي الجلسة الرابعة لهذه الدائرة وافقت المحكمة على ضم هذه القضية إلى قضية الأوكار واعتبارها قضية واحدة .. وسمعت هذه الدائرة الأستاذ حامد جودة باعتباره شاهدا.
وفي أثناء نظر هذه القضية أمام المحكمة العسكرية الثانية وافقت المحكمة على طلب للدفاع بضم ملف قضية اغتيال الأستاذ الإمام حسن البنا فكان هذا هو أول تحريك لهذه القضية .
5- قضية الأوكار :
هي قضية حشروا فيها كل من أرادوا حشره من الإخوان – الخطرين في نظرهم وأسندوا إليهم تهما باتخاذهم أوكار جمعوا فيها أسلحة وذخائر ومحطات إذاعة لقلب نظام الحكم .. وقد ضمت هذه القضية أكبر عدد من المتهمين حيث بلغ عددهم خمسين متهما وهم العشرة المتهمون في قضية حامد جودة مضافا إليهم من يأتي :
- حلمي محمد الفيومي
- أحمد على يوسق
- حسين حامد عوده
- كمال عبد المجيد مرسي
- محمد محمود دعبس
- حسن يوسف طويلة
- فؤاد أحمد الصادق
- مصطفي أمين البطاوي
- عبد الفتاح إسماعيل علم الدين
- محمد جلال إبراهيم سعده
- دسوقي إبراهيم ضيف
- صالح محمد محمد الجنايني
- محمد عبد الحكيم عبد المنعم
- يحي أمين البطاوي
- صلاح الدين أحمد علي
- مصطفي محمد محمود البساطي
- إبراهيم عامر محمد
- سعد محمد جبر التميمي
- محمد حلمي الكاشف
- محمد عبد العزيز على خالد
- إسماعيل على السيد
- محمد عبد المتعال محمد مدني .
- جمال الديم عطية محمد 4
- محمد نايل محمود إبراهيم
- وائل محمد زكي شاهين
- محمود يونس الشربيني
- مختار حسين إبراهيم
- عز الدين إبراهيم
- محمود على حطيبة
- عصام الدين حامد الشربيني
- حسن أحمد يوسف
- يوسف على يوسف
- يوسف عبد المعطي شرك
- أحمد محمد البساطي
- إبراهيم أحمد محرم
- أحمد نجيب الفوال
- محمد طه عبد النبي
- بيومي مرسي جعفر
- عبد الفتاح محمد شوقي
- على أحمد رياض
وجاء في تقرير النيابة أن هؤلاء المتهمين قد قبض عليهم في أوكار : وكر روض الفرج ووكر شبرا ووكر شارع السندوبي ووكر آخر بروض الفرج ووكر الجيزة وعثروا في هذه الأوكار على محطة إذاعة وأسلحة وذخيرة واتهمتهم النيابة باتفاق جنائي لمحاولة قتل إبراهيم عبد الهادي .
ومن هولاء الخمسين متهما أربعة أفلتوا من أيدي البوليس السياسي وتمكنوا من الهرب إلى ليبيا وهم : محمود يونس الشربيني وعز الدين إبراهيم ويوسف على يوسف ومحمد جلال سعده.
وقد قبض البوليس بعد شهر في الإسكندرية على أحدهم وهو يوسف على يوسف – أما الثلاثة الآخرون فقد تمكنوا من الفرار إلى ليبيا قبل القبض عليهم , وقد نشرت الصحف صورهم بأمر الطغمة الحاكمة ,وطالبت الطغمة حكومة ليبيا بتسليمهم مهددة بقطع العلاقات إذا لم يسلموا , ولكن عاهل ليبيا الملك إدريس السنوسي رفض تسليمهم فكان موقفا إسلاميا بطوليا لهذا الرجل العظيم .
وهذه القضية – قضية الأوكار – هي التي اغتال البوليس السياسي في أثناء تتبع الإخوان فيها الأخ الشهيد أحمد شرف الدين بأحد المنازل حي روض الفرج .
ولما ضمت هذه القضية وقضية محاولة اغتيال حامد جودة واحدة أمام الدائرة التي يرأسها حسين طنطاوى بك, وافقت هذه الدائرة – بناء على إلحاح الدفاع – على تحقيق التعذيب .. وجاء ذكر " العسكرى الأسود" في سياق ما ذكره المتهمون من ألوان التعذيب التي كانوا يسامونها مما نبسط الحديث عنه في صفحات قادمة إن شاء الله .. وقد افتضحت أساليب التعذيب في أثناء نظر هذه القضية بحيث صارت جريمة ثابتة بالأدلة المادية .
وهنا وفي جلسة يوم 9/6/ 1951 طالب الدفاع بالإجماع المحكمة بأن تفصل أولا في بطلان الإجراءات نظر لما سمعته من شهادات قاطعة بحدوث التعذيب واشتراك النيابة في تزوير القضية . وأصر الدفاع بإجماع أعضائه على هذا الطلب .. ثم عقدت الجلسة وقام رئيس المحكمة وهو في حالة نفسية تسترعي النظر وقرر تأجيل القضية لدور مقبل , بعد أن اتهم الدفاع بوضع العراقيل أمام المحكمة.
وفي 24 أكتوبر 1951 عقدت المحكمة جلسة قررت فيها الإفراج عن 25 منهما وهم : سمير جلال شهبندر ومصطفي الجابري وسعيد شاهبندر وعلى صديق والمتهمين أرقا ,12, 13, 19, 21, 22, 23, 24, 25, 26, 27, 28, 29, 30, 31, 32, 36, 39, 40, 41, 42, 45, 47 – وكان قد أفرج من قبل عن ستة من المتهمين .واستمر حبس 19 متهما هم الباقون . وأجلت القضية إلى دور مقبل ..وظلت القضية معلقة حتى أول أكتوبر 1954 حيث تقرر إعادة عرضها من جديد على محكمة الجنايات .
وكان هذا هو السبب في أن هذه القضية لم تتم جلساتها ولم يصدر فيها حكم حتى قامت الثورة في 23 يوليو1952 .
هيئة الدفاع
في قضية السيارة الجيب : المحامون الأساتذة : ( مرتبون حسب ترتيب المتهمين )
محمود كامل | الدكتور عزيز فهمي | على حسين بك | حمد المسماري |
---|---|---|---|
أحمد رشدي بك | زكي عريبي | على بدوى بك | إسماعيل وهبي |
عبده أو شقة | يوسف حلمي | شمس الدين الشناوي | حسن العشماوي |
حسن الجداوي | فهمي أبو غدير | الدكتور مصطفي القللي | حنفي عبود |
على منصور | عبد المجيد نافع | صلاح توفيق | هنرى فارس |
إبراهيم رياض | فهمي القلعاوي | جمال عبد الفتاح | |
فتحي رضوان | مختار عبد العليم | طاهر الخشاب |
- في قضية الأوكار وجودة : المحامون الأساتذة : ( بحسب ترتيب المتهمين أيضا )
عبد المجيد نافع | عمر التلمساني | جلال شاهين | شمس أحمد الشناوي |
---|---|---|---|
عبد الفتاح حسن | طاهر الخشاب | فتحي رضوان | أحمد السادة |
أحمد حسين | عبد الرحمن الوكيل | سامي عازر جبران | سمير حيدر |
مختار عبد العليم | الدكتور عزيز فهمي | زكي البهنيهي بك |
أما القضيتان الأخريان فكانت هيئة الدفاع فيهما بعض أفراد هاتين الهيئتين مضافا إليهم في قضية النقراشي محامون آخرون منهم الأساتذة محمود سليمان غنام وحنا أنطون وعطية البقلي :
علما بأن هيئات الدفاع في هذه القضايا قد ضمت أعظم المحامين وأكبر رجال القانون في مصر في تلك الأيام .
الفصل الثالث معالم في هذه القضايا
إن القضايا التي استغرق نظرها أمام القضاء زهاء أربعة أعوام وملأت محاضرها عشرات الآلاف من الصفحات , وتشعبت في كل اتجاه.. ليس من اليسير الإحاطة بكل ما دار فيها ولا الإلمام بكل ما تشعب منها ولكننا نحاول في هذا الفصل إن شاء الله التقاط عدة صور لأبرار المواقف في هذه القضايا , بحيث يستطيع القارئ إذا هو أنعم النظر في هذه الصور أن تكون له رؤية واضحة لهذه القضايا .
ولا يخفي على القارئ أن هذه المحاكمات قد بدأت والمسئولون في الدولة ينظرون إلى الأفكار التي حاكموا عليها هذه المجموعة من الشباب على أنها هي الكفر بعينه , وهي الخبل والعته والجنون . وتعاقبت في هذه النظرة في هذه المحاكمات خمس حكومات مصرية .. وشايع الشعب هؤلاء المسئولين في نظرتهم ردحا من الزمن ,ولكن المحاكمات نفسها – بما دار فيها وبما تكشف في أثنائها – أخذت كل يوم تغير من نظرة الشعب ...
فما كادت تنتهي المحاكمات حتى كان الشعب قد اقتنع تمام الاقتناع بأنه كان مضللا..وحينئذ قام مع الجيش يوم 23 يوليو 1952 لتحقيق الأفكار التي حوكم من أجلها هؤلاء المتهمون , والتي طالما تهكم عليها حكام البلاد .. وهكذا كانت هذه القضايا وما تكشف عنها من أفكار وبطولات وفدائية ووعي جديد نتيجة تكوين وتربية استمرت عشرين عاما .. كانت تمهيدا لابد منه لإعداد الشعب للقيام بالثورة وتغيير الأوضاع .
أولا – في قضية النقراشي
• رأي رئيس المحكمة في القضية :
في جلسة 29 / 8 / 1949 جاء على لسان بعض المحامين أن هذه القضية قضية سياسية , فاعترض رئيس المحكمة على ذلك وقال : أن هذه القضية ليست سياسية فتصدى له الأستاذ أحمد حسين وقال : إن هذه القضية سياسية مائة في المائة , وأنا أطلب سماع أقوال إبراهيم عبد الهادي وحامد جوده وعبد الرحمن عزام لكي أبرهن على أنني لست متعسفا وأقرر أنني أريد أن أصل إلى أكثر من أن شخصا قتل شخصا . وإني أحمل إبراهيم عبد الهادي والآخرين نتيجة هذه الجريمة.
تبجح عمار وانحياز رئيس المحكمة له :
في جلسة 4/9/1949 استمعت المحكمة لشهود النفي ومنهم عبد الرحمن عمار ومن أسئلة الدفاع له :
الدفاع – هل زارك الأستاذ البنا قبيل صدور أمر الحل بساعات , تحدث معك في شأن اجتماع سفراء انجلترا وأمريكا وفرنسا في 6 ديسمبر الماضي , وتقديمهم مذكرة بحل الإخوان وكان اجتماعهم في فايد ؟
الرئيس – هل سفراء يجتمعون فيوسط الصحراء ؟ بلاش يا عمار بك الإجابة .
عمار - هذه المسألة في مذكرة سرية طبعها الإخوان بعد الحل لكي يظهروا النقراشي بأنه خاضع للتأثير الأجنبي وهي واقعة لا ظل لها من الحقيقة .
الدفاع – لقد أوردت في مذكرتك كثيرا من الحوادث منسوبة للإخوان مع حفظ التحقيق فيها أو صدور البراءة .. فكيف تفسر ذلك؟
عمار – لم أكن مقيدا بالتصرفات القضائية التي تصدر في القضايا سواء بالبراءة أو الإدانة وإنما كنت أذكر الوقائع التي تنطق بها التحقيقات , لأن لها دلالتها ومراميها , فأنا أتصرف في هذا تصرف رجل الأمن .
ولما واجهه الدفاع بأنه كان يحضر في أثناء إجراء تحقيقات النيابة قال إنه حضر بعض التحقيقات لينفذ ما تشير به النيابة العمومية من إجراءات ونفي أنه شهد أو سمع أو اشترك في حوادث تعذيب للمتهمين .
ولما واجهه الدفاع بأنه أورد في مذكرته حادث مقتل طالب شبين الكوم رغم أن هذا الطالب هو القتيل وهو من الإخوان المسلمين فرد على ذلك بأنه أورد هذا الحادث في مذكرته لأن الاشتباك الذي نجم عنه الحادث كان الإخوان طرفا فيه .
وناقشه الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي فيما أورده في مذكرته من حادث اشتباك البوليس مع الجوالة وسأله: ألم تسمح إدارة الأمن العام للإخوان بإقامة حفلة في نفس المكان الذي حدث فيه صدام الجوالة ترضية لهم ؟ فقال عمار : لم يحصل ..ولو عرض على لرفضته . فقال الأستاذ عبد الكريم منصور : ولكن الحفل أقيم فعلا وأنا حضرته .
وتعليقا على شهادة عمار جاء في مرافعة الأستاذ على منصور في جلسة 14/ 9/ 1949 ما يلي :
"وما وقعت الجريمة حتى احتدمت النيران التي كانت تأكل صدور معظم رجال الإدارة بالنسبة لهذه الجماعة , وظهر منها أمام المحكمة الروح التي ما استطاع كبير رجال الأمن في ذلك العهد وهو عبد الرحمن عمار أن يخفيها فقد اندفع ملكيا أكثر من الملك ممثلا حقدا هو بعض ما كان في صدور أعوانه وأتباعه . ثم قال :
" إن النيابة صورت الإخوان في الصورة التي ارتأتها في نظرها وهي إدخال كل من مت لهذه الجماعة بصلة إلى داخل نطاق هذه الصورة .. وفي إمكان الدفاع أن يقارع قول النيابة في تكييف الإطار الخاص بالإخوان بأن يستشهد بأقوال ذات كبراء البلد ووزرائها يوما في الجماعة المكونة لهذا الإطار .. ولكنه ( الدفاع) لا يقر مبدأ الجمع بين هذه القضية كقضية قتل مستقلة وبين غيرها حتى لا ينحدر إلى مبدأ أخذ هؤلاء المتهمين كجماعة .
وهاجم على منصور قرار الحل فقال ك نبتت الجريمة في جو تمهيد الطعن في جماعة الإخوان وجني على رئيس الوزراء في خلال ذلك سياسته ومريدوه وأعقب الحادث تشريد وتشديد . ثم تلت سلسلة من الوقائع والإجراءات التي تدور بين الترغيب والترهيب.
فلا يضار المتهمون بما يعزى إليهم من انتمائهم لجماعة الإخوان , فلا تثريب على هذه الحفنة من الشباب في انضوائها تحت لواء جمعية آزرتها يوما الطبقات المختلفة في البلد واحتضنها لفيف من الكبراء ذوي الرأي فينا .
حتى أن مذكرة الحل التي بني عليها القرار الذي أنهي شكل الجماعة استندت إلى أمور كانت مبررة في نظر ولاة الأمور يوما ما,, وانتهت هذه الأمور رسميا وقانونا بما يؤخذ للجماعة لا عليها , وهو أكثر حجية مما لهذه المذكرة من حجية".
• أين قتلة حسن البنا؟
طالب الأستاذ أحمد حسين بالتحقيق وكشف قتلة حسن البنا والذين حاولوا قتل النحاس وقال إنني أتهم السلطات بالتعصب الحزبي مقارنا بين تتبعها قتلة النقراشي وإغفالها ذلك في النحاس وحسن البنا وطالب بإحضار عبد الهادي ومصطفي مرعي للشهادة لسؤالهما عن الظروف التي صدر فيها بيان الشيخ حسن البنا في وقت كان كل من ينطق بكلمة يشتم منها رائحة النشاط للإخوان يرتكب جريمة , وقد كان البيان ثمرة مفاوضات طويلة متصلة بين الشيخ البنا وبين معالي مرعي بك وزير الدولة وكان أساسها أن يذيع الشيخ البنا هذا النداء تمهيدا للنظر في إعادة الإخوان بعد إدخال إصلاحات على نظمهم .
ولقد دهش الناس وقتئذ لصدور هذا البيان الذي يدل على قرب عودة المياه إلى مجاريها بين البنا والحكومة .. فلما سألت واحدا من كبار السعديين العاملين عن تفسير هذا البيان وهل هو مقدمة لعودة الإخوان ؟ إذ به يقهقه ساخرا ويقول : لقد غررنا بحسن البنا لنحصل منه على هذا البيان للتأثير به على عبد المجيد من ناحية وليكون مقدمة لما سيحل بعد ذلك بحسن البنا "
• شخصية حسن البنا :
وكان مسك الختام في هذه القضية كلمة ختم بها الدكتور عزيز فهمي مرافعته حيث قال :
- " ولقد افترى على الشيخ حسن البنا كثيرون في حياته , وظلمه كثيرونه بعد قتله . ولكنه كان مؤمنا برسالته الإسلامية ,ولم يكن له مطمع سوى تحقيقها . لذلك لم يحقد رحمه الله على خصومه. بل كان يتمثل بقول الرسول عليه الصلاة والسلام :" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
واغتاله المجرمون , وليس في مصر من يجهلهم بعد أيام في أكبر شارع من شوارع العاصمة .. وخطف مشيعوه وأرسلوا إلى الطور... وقيد الحادث ضد مجهول ... وأصبح الصباح وليس في بيته كسرة من الخبز يتزود بها أهله – ذلك هو الرجل وهذه رسالته . ولئن قتل في سبيلها فإن رسالته لم تمت بموته , فهي خالدة لأنها رسالة الإسلام وإنها لأبقي على الزمن الباقي من الزمن ".
ثانيا – في قضية السيارة الجيب
طلب الدفاع من المحكمة أن تأمر بتوزيع ملف القضية على هيئة الدفاع مجانا نظرا لفداحة ثمنه ,وأكثر المتهمين لا يتحملون هذا الثمن , وأجابت المحكمة الطلب .
• علاقة هذه القضية بحرب فلسطين
قال الأستاذ طاهر الخشاب المحامي : حيث أن السيارة ضبطت في 15 نوفمبر 1948 أى بعد دخول حرب فلسطين , فإننا نطلب شهودا كثيرين ليشهدوا بأن هذه الأسلحة كانت تجمع لحساب فلسطين . وممن طلبهم للشهادة اللواءات أحمد المواوي وفؤاد صادق وسيد طه , الصاغات كمال الدين حسين وصلاح سالم وحسن فهمي واليوزباشيات معروف الحضري وخالد فوزي وصلاح متولي كما طلب مفتي فلسطين ومأمور مركز الحمام .
وطلب إبراهيم عبد الهادي ليشهد على أن البوليس السياسي أخذ المتهم عبد الرحمن عثمان المعترف لمقابلة عبد الهادي في صالونه الخاص بالقطار بمحطة القاهرة فقابله وركب معه حتى الإسكندرية .
(أ) من شهادة الشهود
1- مصر جمهورية إسلامية
في الجلسة الثانية في 4/12/1950 سمعت المحكمة أقوال الصاغ محمد الجزار والصاغ توفيق السعيد اللذين قالا أنهما وجدا في أوراق المركز العام مذكرة على هيئة دستور مادته الأولي أن مصر جمهورية إسلامية .
2- شهادة إبراهيم عبد الهادي :
وفي الجلسة الرابعة في 19/ 12/1950 سمعت شهادة إبراهيم عبد الهادي – ولما كانت هذه الشهادة من أهم ما أدي من شهادات في هذه القضية بالرغم من كل ما فيها من اعتصام بالإنكار وحذق في المراوغة فإننا نثبتها بنصها لبالغ أهميتها .
المحكمة – عبد الرحمن عثمان أحد المتهمين في القضية يقول إنه أخذ من السجن إلى محطة القاهرة وأنه سافر معك إلى الإسكندرية واختليت به في صالونك الخاص. فإيه الحكاية ؟
الشاهد – قبل سفري إلى الإسكندرية بيوم وكان ذلك في شهر يوليه 1949 كنت أسأل عن مجريات التحقيق في القضية فقيل لى أن أحد المتهمين له اعتراف جديد فطلبت اللواء أحمد طلعت بك وسألته عن هذا الاعتراف فقال إن هذا المتهم يعترف على ابن خالته وهو نجل محمود يوسف باشا وكيل الخاصة الملكية وكان وقتئذ طالبا في الكلية الحربية أو البوليس , فأحببت أن أسمع هذا الاعتراف من المتهم نفسه فطلبت إلى طلعت بك أن يحضره لى لأسمع أقواله .
وفي اليوم التالي جد أمر استوجب سفري للإسكندرية فنزلت من مكتبي وقصدت إلى المحطة لاستقل قطار الظهر فلحق بي طلعت بك وذكرني برغبتي في مقابلة هذا المتهم وقال إنه جاء به إلى المحطة فطلبت إليه أن يحضره إلى في القطار وفعلا ركب المتهم القطار واستمعت لاعترافه ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك ,هل استمر في القطار مع الضابط المرافق له إلى الإسكندرية أم غادره في الطريق ؟
المحكمة – لماذا طلبتم سماع أقوال هذا المتهم ؟
الشاهد – لكي أوجه التعليمات اللازمة . فمثلا طلب إلى اعتقال الشخص الذي ذكره هذا المتهم فلم أوافق على ذلك وأحببت أن أعرف الحكاية إيه .
محمود كامل المحامي – من الذي يعرض على دولة الشاهد نتائج التحقيق وتطوراته ؟ الشاهد – ( يجيب في حدة) لم يعرض على أحد نتائج تحقيق ولا خلافه . ولا يعرض على شئ إلا حين أسأل أنا عن شئ . فلم يعرض الحكمدار على حلقات التحقيق وكل ما في الأمر لما يكون فيه حاجة مهمة أسأل أنا عنها أو يطلعوني عليها .
ونفي دولته اختلاءه بالمتهم في القطار وقال أن أحمد طلعت بك كان حاضرا الاجتماع وكذلك نفي أنه تحدث مع المتهم في أى شئ آخر غير موضوع اعترافه . وقال إنه لا يعرف الأستاذ عبد الحكيم عابدين .
وأجاب دولته على سؤال خاص بتمويل جماعة الإخوان بأنه لا يذكر أنه سأل المتهم عبد الرحمن عثمان عن مصدر هذا التمويل , وأنه لم يتحدث إليه بشأن حل الجماعة ولم يعرض عليه بعض المرطبات , وإن كان قد قدم طعاما إلى متهم آخر في قضية أخري .
وسئل الشاهد هل علم أن هناك تعذيبا وقع على المتهمين فأجاب بالنفي وقال أن هذه مجرد إشاعات , وهنا ذكر الأستاذ محمود كامل أن المتهم عبد الرحمن عثمان قال إنه في يوم10 يوليو 1949 أثناء تولي دولتك الحكم جئ به إلى المحافظة وعذبه الضابط محمود طلعت والضابط محمد الجزار بوضع ساقيه في فلكة وضربه بالسياط. وأن الطبيب الشرعي أثبت الإصابات التي في جسمه . فهل سمعت دولتك بذلك؟
فأجاب دولته – لم أسمع .
وذكر الدفاع واقعة تعذيب أخرى حدثت لهذا المتهم , فنفي دولته حدوث أى تعذيب بعلمه , وأنه لم يكن يحضر إلى المحافظة في أثناء التحقيق .
وسئل دولته هل رأي مصطفي كمال عبد المجيد؟
فقال : إنه في ليلة وقوع حادث محاولة الاعتداء على الأستاذ حامد جودة قصد إلى قسم مصر القديمة, فوجد هناك مصطفي كمال عبد المجيد .وبمجرد أن رأي دولته صاح مستغيثا به . فسأله دولته لماذا فعل ذلك فأجابه أنه فعل ذلك تحت تأثير العقيدة وأنه سيعترف بكل شئ . ثم صعد إلى الطابق العلوي وظل في القسم حتى حضر المحققون وباشروا التحقيق .
وأقسم إبراهيم عبد الهادي بشرفه أن مصطفي كمال عبد المجيد لم يعذب أمامه. وقال دولته ردا على سؤال إنه ذهب إلى المحافظة بضع مرات أثناء تحقيق قضية حامد جوده .والليلة الوحيدة التي سهر فيها بالمحافظة إلى الخامسة صباحا هي ليلة اعتقال محمد مالك .
وهنا أراد عبد الرحمن عثمان أن يوجه أسئلة إلى دولة الشاهد . فاعترضت المحكمة قائلة أن لكل متهم محاميا يسأل عنه ما يشاء – فتدخل سعادة محمد هاشم باشا المحامي ورجا المحكمة أن تفسح صدرها للمتهمين فهم أولي بالسؤال من المحامين – وبعد مناقشة سمحت المحكمة للمتهم بإلقاء أسئلته عليها أولا ... وتبين من إلقائها أن دولة الشاهد سبق أن سئل عنها وأجاب عليها وأكثر هذا الأسئلة كانت خاصة بتعذيب هذا المتهم.
ثم سأله المتهم ألم تقل لي دولتك أن الشيخ حسن البنا قتل واسترحنا منه وأنت تدرس القانون ومن مصلحتك أن تنجو بنفسك وهذه قضية عسكرية ؟
الشاهد – ما كانش فيه موجب لكل هذا .
وسأل الأستاذ زكي عريبي دولة الشاهد : تؤكد لنا دولتك أن النيابة لم تكن تتلقي وحيا ؟
الشاهد – نعم ... ثم قال إنه يأمر باعتقال شخص أو الإفراج عن شخص بحكم كونه حاكما عسكريا لا يعرف إن كان القبض نتيجة تحريات البوليس أو تحقيق النيابة , إنما تعرض عليها أسماء مطلوب اعتقال أصحابها , كان لابد أن يسأل عن سبب اعتقاله , فالمسألة ليست مسألة توجيه النيابة ولكنها مسألة حفظ أمن البلاد.
وسأل الأستاذ مختار عبد العليم دولة الشاهد عن سبب استغاثة مصطفي كمال عبد المجيد حين رآه في القسم . الشاهد – كان يستغيث أنا عطشان . عايز أشرب ( ضحك)
وأجاب على سؤال بأنه لا يعرف جمال فوزي – وهو أحد المتهمين في القضية – ولا يذكر هذا الاسم . ولا يعرف أن كان أحمد طلعت بك استأذن النيابة في خروج عبد الرحمن عثمان من السجن أم لا .
ونفي دولته أنه تحدث إلى الشيخ حسن البنا في شأن جمع الأسلحة في أثناء توليه رياسة الديوان الملكي , وقال أن كل ما حدث أن الشيخ حسن البنا كان يريد السفر إلى اليمن أثناء الثورة اليمنية فنصحه بالعدول عن ذلك.
وهنا انتهت شهادة إبراهيم عبد الهادي .. وحدث أثناء خروجه من القاعة أن أخذ المتهمون يهتفون :" رحم الله شهيدا أعزل " و" يحيا الشعب ويسقط الظلم " وقد غضبت المحكمة لهذا الهتاف وأنبت المتهمين عليه ,اعتذر الدكتور هاشم باشا بالنيابة عن المتهمين فصفحت المحكمة .
• طلب ممثل الاتهام للشهادة :
وطلب الأستاذ زكي عربي المحامي الاستشهاد بالأستاذ محمد عبد السلام بك ممثل النيابة في القضية عن واقعة خروج عبد الرحمن عثمان من السجن لمقابلة عبد الهادي إذ أنه ثابت في دفتر أحوال السجن أنه خرج للنيابة للتحقيق , وعبثا حاول الأستاذ محمد عبد السلام ثنيه عن طلبه قائلا أنه سيعرض لهذه النقطة في مرافعته – كما طلب أعضاء من الدفاع آخرون سماع ممثل النيابة كشاهد , والسؤال الذي سيوجه إليه هو :
" بعد أن قابل المتهم عبد الهادي قال له الأستاذ محمد عبد السلام في اليوم التالي " هل قابلت الباشا ووعدك خيرا ؟" كما أنه قال له " أن الباشا قابل مصطفي كمال عبد المجيد ووعده خيرا وإن شاء الله يعدك أنت الآخر خيرا " .. فطلبت المحكمة أن يجتمع الدفاع لإعداد الأسئلة المراد توجيهها إلى النيابة وتعرض على المحكمة للنظر فيها .
.. في الجلسة التالية قرت المحكمة عدم الموافقة على .. في الجلسة التالية قرت المحكمة عدم الموافقة على إدخال رئيس النيابة شاهدا في القضية.
3- شهادة الصاغ محمود لبيب :
قرر أن التطوع لفلسطين يرجع إلى سنة 1947 عندما عينته الهيئة العربية العليا قائدا عاما لمنظمة الشباب الفلسطيني .وأراد الإنجليز إخراجه من فلسطين فرفض لأنه عربي في أرض عربية وفي عودته اتصل بالمفتي ,وبصالح حرب ..وانتهي تشاورهم إلى أن العرب لا ينقصهم العدد وإنما تنقصهم العدة... فأخذت الهيئات العربية ومنها الإخوان في الحصول على تصاريح بجمع الاسماء ..
وقد بدأ المتطوعون أعمالهم في فلسطين تحت قيادته بمهاجمة قوافل اليهود ومستعمراتهم ونسف أنابيب المياه , وهاجموا دير البلح لعجم قوة اليهود.
الأستاذ زكي عربي ( محام مصري يهودي ) – بلا ش تسميه اليهود . قل الصهيونيين .
الشاهد – صحيح الصهيونيين أستغفر الله .
وقال إن المتطوعين وزعوا أنفسهم على المستعمرات الصهيونية فكان دخول الجيش المصري من رفح إلى غزة بدون إطلاق رصاصة واحدة . كما تمكن الفدائيون بقيادة الشهيد أحمد عبد العزيز من غزو هذه المستعمرات لدرجة أنهم دخلوا حدود القدس الجديدة بثلاثة كيلو مترات .. كل ذلك في 13 يوما .
وروي كيف تمكن المتطوعون ببسالتهم قبل دخول الجيوش النظامية بثلاثة أيام من تدمير ثماني مصفحات يهودية وغنم أربع مصفحات, كما غنموا كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة والمؤن .
• كيف سقطت راما تراحيل ؟
وقال إنه في خلال معركة القدس رؤي وجوب الاستيلاء على مستعمرة راما تراحيل التي كانت تمون القدس باللبن والدواجن . فتسلل الإخوان المتطوعون إليها واحتلوها , لكنهم فوجئوا بجيش الملك عبد الله ( ملك الأردن ) يحضر إليها ومعه فرقة اسمها ( النهاده) جعلوا ينهبون ويتشاجرون مع بعضهم ويثيرون الفوضى فانسحب الإخوان من المستعمرة وتمكن الأعداء من استردادها من جيش الملك عبد الله .
وعاد الإخوان واحتلوها للمرة الثانية وفوجئوا بجيش الملك عبد الله والنهادة الذين كانوا يقتتلون على بقر المستعمرة وهو من النوع الهولندي الكبير فترك الإخوان المزرعة مخلفين النهاده يقتل بعضهم ويثيرون الفوضي فانسحب الإخوان من المستعمرة وتمكن الأعداء من استردادها من جيش الملك عبد الله .
وعاد الإخوان واحتلوها للمرة الثانية وفوجئوا بجيش الملك عبد الله والنهاده الذين كانوا يقتتلون على بقر المستعمرة , وهو من النوع الهولندي الكبير , فترك الإخوان المزرعة مخلفين النهادة , يقتل بعضهم بعضا للفوز ببقرة هولندية . وعاد الإخوان للمرة الثالثة واحتلوا المستعمرة ,ولكنهم لم يفاجأوا هذه المرة بظهور جنود الملك عبد الله لأنهم يمكن " اخشوا على دمهم " .
• محاولة لفك حصار الفالوجه :
وقال إنه حدث في نوفمبر 1948 أن أرسل إليه عزام باشا ( الأمين العام للجامعة العربية ) وقابله باللواء أحمد منصور بك ضابط الاتصال, وأخبره بأن إشارة وردت للجامعة العربية بضرورة إرسال كتيبتين من الإخوان بالذات لفك حصار الفالوجه . وتوجه به إلى صلاح صبري مدير مكتب وزير الحربية وتم الاتفاق على إعداد الكتبيتين وأعد هو 1600 ( ألف وستمائة متطوع ) واحدا من كل شعبة إخوانية في القطر .. ثم إذا به يفاجأ بأن النقراشي باشا رفض هذا الرأي .
وقرر الشاهد أن الجيش المصري في فلسطين حدث أن طلب من الإخوان إمداده ببعض المتفجرات لأن الجيش لم يكن لديه سوى أسلحة انجليزية في حين أن المتطوعين كانوا يملكون أسلحة وذخائر ألمانية وإيطالية . وقرر أن هيئة الإخوان المسلمين وزعت منشورات على المتطوعين بالحث على القتال والجهاد.
• قطار اللاجئين:
وقال الشاهد أن المتطوعين كانوا يقتسمون مئونتهم مع اللاجئين .ولقد رأوا أن يطلب من أهل الخير في جميع أنحاء القطر التبرع بما يفيض عن حاجتهم من مؤن وغيرها. وأعد لذلك قطار يدعي قطار اللاجئين. واستطاعوا أن يجمعوا من القاهرة في ليلة واحدة ما حمولته ألف عربة يد وعشرات السيارات ولكنهم فوجئوا بأن وزارة الداخلية منعت ذلك . فكانت صدمة حيث حظروا عملا إنسانيا خيريا .
ملحوظة : اللاجئون هم ضعاف الأسر الفلسطينية التي أخرجهم اليهود من ديارهم ففروا بأبنائهم ونسائهم وأطفالهم إلى القرى والمدن الفلسطينية التي يسيطر عليها الجيوش العربية وقوات المتطوعين .
• وسائل خاصة :
وأجاب الشاهد بناء على أسئلة من النيابة أنه بعد دخول الجيوش النظامية فلسطين كان الجيش يمد المتطوعين بالمؤن أما الأسلحة فكانت ترسل إلى المتطوعين بوسائلهم الخاصة عن طريق الهيئة العربية العليا وغيرها لا عن طريق الحكومة .
4- شهادة اللواء أحمد المواوي بك:
5- كان اللواء أحمد المواوي أول قائد للجيش المصري في فلسطين وجاء في شهادته ما يلي :
• جيش بلا معدات :
قرر الشاهد أن هؤلاء المتطوعين كانت روحهم المعنوية قوية , واشتركوا في معارك كثيرة وقاموا بانتزاع الألغام من النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية واستعملوا هذه الألغام ضد اليهود الذين تكبدوا بسببها الخسائر حتى أنهم تقدموا إلى مراقبي الهدنة الأولي شاكين وكان هذا العمل من الإخوان له أهميته إذ لم يكن لدي الجيوش النظامية ألغام .
الرئيس – هذا شئ عجيب . كيف لا يكون لدى جيش ألغام؟
الشاهد – من المعروف أن الجيش دخل الحرب بدون معدات .
ثم ذكر الشاهد كيف استمات الإخوان حتى استردوا العسلوج بعد أن فقدها الجيش وكانت رياسة الجيش قد أرسلت أمر باستردادها مهما كان الثمن لخطورة موقعها .
وأجاب على سؤال عن الشروط التي يجب توفرها في رجل العصابات " الكوماندوز" فقال إنه يجب أن يكون مثل هؤلاء الرجال الأذكياء الذين يمتازون بالجرأة وحسن التصرف بسرعة ولا يعتمد الواحد منهم إلا على نفسه .. هذا إلى المهارة في استعمال السلاح والتسلل والتخفي وتسلق الأشجار فضلا عن اعتياده على أعمال الكشافة . وقال أن نظام الفرق الفدائية قد استحدث في الحرب الأخيرة وأصبح لا غني عنه .
المحكمة –هل في جيشنا هذه الفرق ؟
الشاهد – لا... ولكن الفكرة موجودة .
• عشرة آلاف متطوع :
وقرر الشاهد أن عدد المتطوعين كان حوالي عشرة آلاف شخص من مختلف البلدان والأديان ومعظمهم من الإخوان وكانت الجامعة العربية هي التي تتولي مدهم بالسلاح , وقد حدث مرة أن أعطيتهم بعض الذخيرة .
• متطوع في المائة من عمره:
واستطرد قائلا : كان فيه مشايخ متطوعون عمر الواحد مائة سنة.
الرئيس – مائة سنة ويحارب .. ده تطوع لدخول الجنة بسرعة .
الشاهد – أن الروح المعنوية كانت عظيمة جدا حقا .
وقال أن أسلحة المتطوعين كانت مدافع خفيفة ورشاشة وتومي وقنابل يدويه إيطالية. ثم سمعت المحكمة شهادة اللواء فؤاد صادق باشا ثاني قائد للجيش المصري في فلسطين فكانت شهادته مطابقة لشهادة اللواء المواوي ..وكانت شهادتهما قد أدليا بها في جلسة 20/12/1950.
6- شهادة الحاج عبد الرحمن علي:
وهو مقاول فلسطيني . وجاء في شهادته التي أدلي بها في جلسة 21/12 / 1950 أنه كلف من الهيئة العربية العليا بجمع الأسلحة من الصحراء الغربية من أبريل 1947, واستعان على ذلك ببعض الإخوان ومنهم الصباغ المتهم , حتى منعه رجال الحدود من دخول الصحراء على أثر مصادرة حكومة النقراشي باشا لمخازن الأسلحة .
فما كان من سماحة مفتي فلسطين إلا أن راجع النقراشي باشا في هذه التصرفات فلم يبد النقراشي باشا استعداده لتسليمها إلا على الحدود وحتى ذلك اليوم لم يتم فرؤى أن يكون إرسال السلاح من مرسي مطروح عن طريق اللاذقية بدلا من العريش .
وسأله الأستاذ مختار عبد العليم المحامي عن أسماء الأشخاص الذين كانوا يسعدونه فتفرس الشاهد في وجه المحامي وقال : أنت نفسك كنت منهم .
وقرر أن الشهيد عبد القادر الحسيني كان يدرب المتطوعين في جهات عديدة بالقطر المصري كحلوان والهرم .
7- شهادة السيد أمين الحسيني مفتي فلسطين
سأله الأستاذ حسن العشماوي المحامي عن دور الإخوان في حرب فلسطين فأجاب بأن الإخوان كان لهم دور كبير منذ البداية فقاموا بالدعاية للقضية الفلسطينية منذ عام 1936 وأثناء الجهاد جمعوا أسلحة وذخيرة واستمروا على خدمة القضية بأقصى جهدهم وقال: كانوا يعاونون المرحوم عبد القادر بك الحسيني في جمع الذخائر ويساهمون في دفع ثمنها ومنهم الصباغ ( المتهم )فقد اشترى بثلاثة آلاف جنيه أسلحة وقام بتسلميها للهيئة العربية العليا, كما استشهد فريق منهم في معركة القسطل .
ولقد استمروا على ذلك بعد دخول الجيوش النظامية , كما استمرت الهيئة العربية في جمع الأسلحة , فبعد دخول الجيوش العربية فلسطين زارني المرحوم الشيخ حسن البنا وقال لى ما ينم عن قلقه من موقف التخاذل الذي اتخذته جيوش بعض الدول العربية , وما لمسه من دسائس تحاك في الظلام , لتودي بقضية فلسطين بسبب الدسائس والتخاذل من " البعض " .
وابتسم سعادة رئيس المحكمة لكلمة " البعض " فابتسم سماحة الشاهد بدوره .
• عشرة آلاف متطوع :
ومضي سماحته يقول : أن الشيخ البنا قال إنه لابد من عمل حاسم , وإنه سيقوم على الفور بإعداد عشرة آلاف متطوع من الإخوان ليشتركوا مع المجاهدين في الميدان ,وإنه سيعرض الأمر على الحكومة حتى تمدهم بالسلاح فإذا تعذر ذلك فإنه سيصدر أوامر إلى كل شعبة للإخوان بأن تتولي تسليح متطوعيها بسلاح تشتريه .
• لم يمكن إرسالهم :
• وتابع كلامه بقوله : إنه متأكد من أن الشيخ البنا كان مصمما على تنفيذ هذه الفكرة وإنه في سبيل تنفيذها اتصل بكافة الشعب لتجمع الأسلحة ولتدريب المتطوعين ويبدو أن العقبة كانت في أنه لم يكن من المستطاع إرسالهم . وقال : إن الإخوان عملوا على شراء الأسلحة حتى بعد دخول الجيوش النظامية فلسطين وذلك بسبب خيبة الآمال في بعض الجيوش العربية لتخاذلها .
• لا تتوسل بالعنف :
وسأله الأستاذ مختار عبد العليم عن رأيه في هيئة الإخوان المسلمين وأهدافها ووسائلها وعما إذا كان من بين وسائلها العنف والإرهاب ؟ فقال : اعتقد أن الإخوان المسلمين هيئة إسلامية تعتنق المبادئ الإسلامية وتحمل دعوتها .وتعمل على إنشاء جيل على مبادئ الإسلام وأخلاقه ,ذلك لصالح المسلمين وغير المسلمين ولا أعتقد أنها تتوسل بأى عمل يخالف الشرع كاستعمال العنف ..
• كيف يمكن إنقاذ فلسطين ؟
ووجه إليه الأستاذ مختار عبد العليم السؤال الآتي :
بوصفكم المسئول الأول عن القضية الفلسطينية هل يمكن أن تشرحوا لنا الطريقة المثلي لإنقاذ فلسطين ؟
عضو اليمين – يعني الجهاد الشعبي هو الأفضل أم المجهود الحكومي ؟
الشاهد – إن اللجنة العسكرية المختصة قررت سنة 1947 الخطة المثلي , وذلك في اجتماع الجامعة العربية في عالية بلبنان ..وأسس هذه الخطة هي التعويل على عرب فلسطين أنفسهم في الدفاع عنها , على أن تعاونهم الدول العربية بتسلحيهم وتدريبهم وتحصين قراهم . أى تضعهم في نفس الوضع الموضوع فيه اليهود في فلسطين .
ولقد وافق مجلس الجامعة على تقرير هذه الخطة بالتعويل على عرب فلسطين ثم المتطوعين أما الجيوش العربية فتقف على الحدود مترقبة . • لماذا عدل عن هذه الخطة ؟
كانت هذه هي الخطة المثلي المتفق عليها ..ولكن حدث بعد ذلك أن قدمت إحدى الدول الأجنبية مذكرة تحتج فيها على هذه الخطة .. وبذلك أوقف تسليح عرب فلسطين وتدريبهم وتحصينهم وترتب على ذلك العدول عن الخطة المثلي .. ومضي سماحته فقال : إن كفاح فلسطين بين عقيدتين متعارضتين , العقيدة العربية والعقيدة الصهيونية , فالسلاح الأول في هذه المعركة إنما هو الإيمان والعقيدة .
ولقد فطن الأعداء إلى هذه الحقيقة فوجهوا كل همهم إلى أبعاد العناصر المؤمنة عن ميدان المعركة.. ثم ثنوا بالسعى لأبعاد الفريق الثاني في الأهمية وهم المتطوعون من العرب كالإخوان وغيرهم , وذلك حتى يخلوا الميدان فلا يبقي فيه إلا الجنود النظامية . وبذلك استطاعوا أن يأمنوا .. إذ أبعدوا العناصر المصممة أبديا على الكفاح ..
ثم أجاب سماحته بناء على مناقشة الدفاع أنه لم يفهم من النقراشي باشا حقيقة الدافع إلى مصادرة السلاح , وأن النقراشي باشا لم يخبره أنه يخشي من تسرب جانب من أسلحة مخازن العربية لاستعمالها في حوادث داخلية.
8- شهادة صلاح أمين الحسيني:
وهو نجل سماحة مفتي فلسطين وطالب بكلية الحقوق . وقد قرر أن بعض الإخوان كانوا يقومون فعلا بجمع السلاح للهيئة العربية العليا , وأن الهيئة تراقب استلامها حتى لا تتسرب إلى جهة أخرى , وأنه اشترك في مسترى محطة كهربائية للهيئة .
9- تقرير خبير الخطوط :
وهو الأستاذ محمد وهبي . انتدبته المحكمة خبيرا استشاريا لمضاهاة الأوراق المضبوطة بسيارة الجيب بخطوط المتهمين عبد الرحمن عثمان وإبراهيم سويلم ومحمد أحمد علي فقدم تقريره إلى المحكمة ويقول فيه أن هذه الأوراق المضبوطة ليست بخطهم .
(ب) من المرافعات
جاء في مرافعة النيابة تهجم على هيئة الإخوان المسلمين في نقطتين:
الأولي- في موضوع اغتيال الخازندار بك والثانية في شعار الهيئة السيفان والمصحف والآية .
وجاء في مرافعة الأستاذ عبد المجيد نافع وكانت هي المرافعة الأولي رد على النيابة في هذين التهجميين كما تعرضت المرافعة لنقاط أخرى لها أهميتها . ونورد فيما يلي نتفا من هذه المرافعة .
1- من مرافعة الأستاذ عبد المجيد نافع :
كان أول المترافعين من هيئة الدفاع في هذه القضية واستغرقت مرافعته عدة جلسات وقد بدأ مرافعته في جلسة 16/1/1951 وجاء فيها .
• حسن قناوي والبواعث الوطنية :
وإذا كان عبد الحافظ قد قتل الخازندار بك فما كان ذلك إلا لأن المتهم أخطأ النظر في الأمور .وفي ذلك الحين كانت تدور مفاوضات بين مصر وانجلترا في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية وهي الجلاء الناجز ووحدة وادي النيل تحت التاج المصري ..واعتقد الشبان أنهم يستطيعون تقوية مركز المفاوض المصري حين يجلس على المائدة الخضراء وجها لوجه مع المفاوض البريطانية فألقوا القنابل التي ألقوها ( هذه قضية أخرى غير التي أشرنا إليها قبلا وكانت في القاهرة ).
ونظرت قضايا هذه القنابل أمام الخازندار بك وأصدر فيها أحكاما قاسية بلغت عشر سنوات في جريمة سياسية يحدوها باعث شريف هو تخليص مصر من الاستعمار ..
وذلك في نفس الوقت الذي حكم فيه على سفاح الإسكندرية حسن قناوي بالأشغال الشاقة سبع سنوات .
ولا شك أن لهذه الأحكام ما يبررها من وجهة النظر القانونية تماما.. ولكن الشبان الصغار الذين تختل لديهم الموازين لا يدركون ذلك .. ومع ذلك فإنه لا يوجد منطق في عدالة السماء والأرض يحمل الإخوان المسلمين مسئولية هذه الجرائم .
• عهد ملوث :
إنه في الوقت الذي تسند فيه النيابة إلى الإخوان الجرائم التي عددتها , يتوافد إلى الذهن مصرع الشهيد حسن البنا ينادي بأعلي الصوت وملء الفم: إن الدماء عالقة بهذا العهد وإن يده مخضبة بدم الشهيد وغيره من الشهداء .
• الموت لحسن البنا :
ولقد هدد بذلك في جنازة النقراشي باشا على ملأ من الناس في هتافات مدوية فكان الشبان يصيحون من حناجرهم في هتافات تدوي فتبلغ عنان السماء , ويتوعدون بالويل والثبور وعظائم الأمور جماعة الإخوان المسلمين بل لقد كانوا يملأون أفواههم هتافات " الموت لحسن البنا " .
• تنفيذ الوعيد:
وكان هذا في ختام عام 1948 وبالتحديد في يوم وفاة المغفور له في 28 ديسمبر 1948 . وبعد ذلك في مستهل عام 1949 وبالتحديد يوم 12 فبراير 1949 استشهد حسن البنا الزعيم السياسي والروحي لجماعة الإخوان المسلمين على باب جمعية الشبان المسلمين في ظروف غامضة تثير الشكوك والشبهات وتوحي إلى أية جهة أو أية جهات تتجه الشكوك وهذه الشبهات .
• السيفان والمصحف:
تقول النيابة : أن حسن البنا جعل شعار الجماعة سيفين بينهما مصحف وزود الشعار بهذه الآية ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ( الأنفال :60) ولا يمكن أن يكون السيف رمزا للعنف وعنوانا للجريمة, ولكنه رمز للقوة لأن الأمم الإسلامية لا ينبغي أن تكون مستضعفة أمام الاستعمار الأجنبي والسيف رمز للحرب المعلنة أما الجريمة فترتكب في الظلام وفي غفلة من الناس .
• الحمد لرب مقتدر:
ثم تلا ما استشهدت به النيابة من قول حسن البنا " أنتم لستم جمعية خيرية محدودة المقاصد " فقال : إنه يقول لهم أنتم لستم جمعية خيرية .. وهذا صحيح فهم ليسوا جمعية مكارم الأخلاق ولا جمعية مواساة ولا جمعية عروة وثقي ولا جماعة الحمد لرب مقتدر ...
• لن تقتلوا دعوته :
واستطرد فقال : إنهم قتلوا حسن البنا ولكنهم لم ولن يستطيعوا أن يقتلوا دعوته في سبيل انتشال الإسلام مما وصل إليه من ذلة وخضوع وهو دين عزة وقوة .
• الشيخ المراغي يقرظه :
يقول الشيخ المراغي عن حسن البنا " إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه , يفهم الوسط الذي يعيش فيه ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية "
• شهادة مكرم عبيد باشا :
وقال مكرم باشا " إني لا أدي لماذا ثار جدل عنيف حول اشتراك الإخوان في السياسة وهم في ذلك على دينهم والدين هو المظهر الأول للسياسة الوطنية .
• رئيس المحكمة يطلب قانون الإخوان:
وبعد أن تحدث الأستاذ نافع طويلا عن نظم الإخوان وقوانينها طلب الرئيس قانون الجماعة فقدمه إليه الأستاذ طاهر الخشاب –واستطرد الأستاذ نافع في مرافعته فقال : إن حسن البنا لم يبغ إلى قلب نظام الحكم , وإنما كان يقصد إلى إصلاح الحكم فحسب وهذا ما دل عليه في جميع خطبه ومقالاته ونصحه لإخوانه , فقد قال :" لقد نادينا بدعوة الحكومات إلى عمل الإصلاح , لأن الهوة بين الغني الفاحش والفقر المدقع اتسعت حتى كاد الشعب المصري يخرج عن طوره , وقد عصرته تلك المظاهر الصاخبة التي يظهر بها الأغنياء وأغلب الشعب يتضور جوعا وعريا وإني لأقولها بأعلى صوتي وملء فمي : " ارحموا الشعب يرحمكم خالقه , فالشعب من حقه أن يعيش ولا أقل من أن يعيش ".
• الإسلام دين ودولة :
وخلص من ذلك إلى قوله : إن الإسلام دين ودولة يجمع بين سلطتين وسلطة دينية وسلطة زمنية وهو قسمان معاملات وعبادات وهو يضع الأصول والكليات ويترك الجزئيات والتفاصيل تتطور مع تطور الأزمان – وإن الفصل بين الدين والدولة ضلالة وقد وضع القرآن أسس الحكم , وتنظيم الحكومات والشعوب ..
واستهل مرافعته في يومها الثالث بالكلام عن العوامل التي دعت إلى حل الإخوان المسلمين فقال : إن السلطات البريطانية طلبت من الحكومة المصرية صراحة حل الإخوان وقد طلبت ذلك من رفعة النحاس باشا في سنة 1942 وقوات المحور على مشارف مصر,ولكن النحاس باشا لم يذهب إلى المدى الذي ذهب إليه النقراشي باشا فاكتفي تحت ضغط ظروف الحرب بإغلاق الشعب وابقي على المركز العام .
• ضحك الأقدار:
وقال : وفي عهد الظلم والظلام سنة 1949 عندما كان إبراهيم عبد الهادي باشا يعتقد أنه سيجري الانتخابات فيسوم البلاد الخسف والهوان خمس سنوات أخرى عمل جاهدا للتخلص من الإخوان لأنه عرف أن قوتهم اشتدت وأنهم سوف يكتسحونه في الانتخابات , ولذلك أمعن في تشريدهم وتعذيبهم حتى يذهب ريحهم .. ويقدرون وتضحك الأقدار..
ثم ختم مرافعته بالحديث عن حق السعديين حتى منعوا أحدا من تشييع جنازة حسن البنا.
2- من مرافعة الأستاذ هنرى فارس:
اتهم النيابة بالتحريف فقال : إنها حين نقلت كلام الأستاذ البنا أغفلت كلمة "وسلام" في قوله " نحن دعاة حق " كما أنها غيرت ميعاد ضبط السيارة الجيب بدلا من الساعة الثانية ظهرا جعلته الساعة الثالثة .
3- من مرافعة الأستاذ شمس الدين الشناوي :
سبق لنا الإشارة إليها في فصل سابق وذكرنا فيه موضوع الوثيقة التي قدمها إلى المحكمة والتي تثبت أن القيادة البريطانية للجيش البريطاني في الشرق الأوسط طلبت إلى حكومة النقراشي حل الإخوان .
4- من مرافعة الأستاذ حنفي عبود:
قال : أن حسن البنا قد نجح إلى حد بعيد في وضع المسمار الأول في نعش الاستعمار بأن ربي جيلا جديدا .
• الإنجليز يخافون:
وقال : وكان آية هذه الرسالة القوية ما سمعوه عن بلاء الإخوان في حرب فلسطين مما لفت نظر العالم المستعمر وبخاصة الإنجليز فملأ الخوف قلوبهم واتجهت لذلك نيتهم إلى التخلص من هذه الجماعة عن طريق مخالب القط من رجالنا الرسميين . وثائق التاريخ :
وقال : أننا إذا قلنا الإنجليز فلا نحتاج إلى وثائق لإثبات ما نقول , لأن بيدنا الوثيقة الكبرى التي لا يستطيعون الطعن فيها ألا وهي التاريخ .. وأن هذا التاريخ يحدثنا عن تدخلهم في فجر الحركة الوطنية لإقالة شيخ الأزهر لأنه أفتي الدين يهدر دم كل كافر من أهل الكتاب إذا دخل ديارنا بدون أمان من الأمام .
وقال : إن التجارب قد علمت الإنجليز أن الروح الدينية خطر على كيانهم فإذا ما رأوا هذه الروح من جديد في حركة الإخوان فلا غرابة في أن يطالبوا بالحل والتشتيت .
وقال : إن التجارب قد علمت الإنجليز أن الروح الدينية خطر على كيانهم فإذا ما رأوا هذه الروح من جديد في حركة الإخوان فلا غرابة في أن يطالبوا بالحل والتشتيت .
• عهد وصم نفسه بالفوضى:
واستطرد فقال : إننا كنا في عهد عجيب وصم نفسه من أول يوم بأنه عهد الفوضى..وأن من يرجع بذاكرته إلى يوم 9 من أكتوبر سنة 1944 ويذكر ما نشرته الصحف عقب إسناد الحكم إلى رجال ذلك العهد من أنهم ركبوا إلى دور الوزارات ولم ينتظروا حتى تفتح لهم الأبواب بل حطموها .. فسجلوا بأنفسهم على أنفسهم ومن اللحظة الأولي بعدهم عن إدراك أصول الحكم الصالح وما يتطلبه من نظام ووقار ورزانة, وكشفوا عن خفايا النفس وما انطوت عليه من فتنة وشهوة متعطشة إلى الكراسي ( يقصد أول وزارة للسعديين برياسة أحمد ماهر ) .
5- من مرافعة الأستاذ طاهر الخشاب :
جاء في مرافعته أن الإخوان اشتروا 800 فدان في نجع حمادي من الأراضي غير الصالحة للزراعة وحولوها إلى جنة .
6- من مرافعة الأستاذ فتحي رضوان:
قال : إن الأستاذ البنا بعد أن صدر قرار الحل زاره أكثر من مرة فكان يرحب به , وكان الأستاذ البنا يشكوا إليه ويكرر الشكوى , فلا يسعني إلا أن ابتسم في وجهه لأنني أعلم أن الخلاف بين الإخوان والسعديين لا يمكن أن يفلح فيه صلح أو مفاوضة .
وأشار إلى الحق الذي كانت تكنه حكومة تلك العهد على كل من يناصر جماعة الإخوان .. وقال : إنه ذهب ذات يوم إلى قنا للمرافعة في إحدي القضايا فقابله أحد أصدقائه وقال له : أصحيح ما نسب إليك من أن الشيخ البنا قد زارك في ليلة مقتل النقراشي باشا وقال لك : لقد انتهي الأمر ورد إلينا اعتبارنا ؟ لقد أشيع هذا الكلام ووصل إلى مسامع رئيس الوزراء وقال إنه دهش لهذا الحديث .. قال : ونفيت هذا الحديث لمحدثي ولم أعلق على الأمر أهمية , حتى حدثني أحد الوزراء بعد ذلك بنفس هذه المعاني قائلا إنه لا يستطيع أن يدافع عني لدي الحكومة بعد ذلك ,لأن رئيس الوزراء غاضب عليك لما نقل إليه من أمر هذا الحديث الذي أكد له أنك ممن يناصرون دعوة الإخوان .
• وطنية صادقة :
وقال : إن التاريخ يشهد على صدق وطنية المصريين وإنه لم يحدث أن حوكم مصري لأنه خان وطنه , وإنما للأسف الشديد يقدم المصريون للمحاكمة لأنهم أرادوا أن يقفوا فيوجه الإنجليز مطالبين بحقوقهم .
ثالثا - في قضية جودة والأوكار
لم تكن في هذه القضية معالم ذات بال فيما يتصل بالسياسة العامة والأفكار الوطنية والاجتماعية بخلاف القضية السابقة ولكن هذه القضية كانت ذات معلمين بارزين هما تحريك بل إحياء التحقيق في قضية اغتيال الأستاذ الإمام حسن البنا ثم فضح أساليب التعذيب ..وقد أفردنا لفضح أساليب التعذيب فصلا مستقلا ..ولذلك نقتصر في هذا المقام على الإشارة إلى نقاط في هذه القضية أكثرها يتصل بقضية الأستاذ الإمام .
• طلب ضم قضية اغتيال الأمام :
الأستاذ نافع – ( في جلسة 6/11/ 1949 ) اطلب ضم أوراق التحقيق في مصرع الشيخ حسن البنا.
رئيس المحكمة – ما هي الحكمة في ضم أوراق هذا التحقيق ؟
الأستاذ نافع – لقد اغتيل الشيخ البنا في 11 فبراير الماضي , والحدث المنظور أمامنا وقع في 5مايو. ومن الطبيعي أنني سأتعرض في دفاعي للباعث على الجريمة , ولقد كان الشيخ البنا مرشدا عاما للإخوان .ولقيام الشكوك حول موقف الحكومة من مصرعه وزنه في تقدير الباعث في قضيتنا وأنا لا أطلب ضم أوراق حادث مصرع الشيخ البنا فحسب بل أطلب نسخة وتوزيعه ..والشهود قد أدلوا بأن الهدف من الاعتداء لم يكن حامد جودة بل كان إبراهيم عبد الهادي .
إن الشيخ البنا قد قتل في ظروف غامضة للغاية ومثيرة للريبة . وهناك شاهد في حادث مصرعه هو محمد الليثي أفندي ( رئيس القسم الرياضي بجمعية الشبان المسلمين ) فقد قرر عند سؤاله أنه عقب اغتيال الشيخ البنا أخبره على الفور شخص برقم السيارة التي ارتكبت بها الجريمة وأن المساعي بل الجهود قد بذلت من جانب البوليس السياسي بالوعد والوعيد والتهديد بأنه إذا لم ينزل عن هذا القول الخاص برقم السيارة فإنه سيكون فريسة للإعتقال .. وبرغم ذلك فقد أرشد الليثي أفندي عن رقم السيارة .. وتبين أنها خاصة برئيس القلم الجنائي بوزارة الداخلية وهو الضابط محمود عبد المجيد بك – وفجأة طويت أوراق التحقيق .. فالأمانة لموكلي على تنقاضاني أن لحف في ضم هذه التحقيقات .
الدكتور عزيز فهمي – أؤيد طلب طلب ضم أوراق مصرع المرحوم الشيخ حسن البنا وأن ما ذكره الأستاذ عبد المجيد نافع عن محمد الليثي أفندي جعل الليثي في خطر محقق ومن المحتمل قتله – وأنا أحمل في حالة وقوع اعتداء على حياة الليثي أفندي المسئولية للصاغ الجزار وكذلك مدير المباحث الجنائية الذي استخدمت سيارته في قتل المرحوم الشيخ حسن البنا وحبذا لو رأت النيابة من جانبها أن تعمل على حماية الليثي أفندي .
( وأحنى الأستاذ فتحي مرسي ممثل النيابة رأسه بما معناه " حاضر "
• طلب ضم نسخة من جريدة " المصري " المصادرة"
الأستاذ طاهر الخشاب – أطلب ضم نسخة جريدة " المصري " التي صدرت صباح يوم مقتل الشيخ البنا وصودرت الطبعة الأولي منها . وهذه النسخة موجودة الآن بإدارة المطبوعات ولها أهميتها الكبرى , لأن فيها مفتاح الجريمة وأؤكد أن هذه النسخة كان بها رقم السيارة التي ارتكبت بها الحادث فصودرت لذلك, وظهرت الطبعة الأخرى وليس فيها رقم السيارة .
الرئيس – ما هي العلاقة بين ما تذكر والقضية .
الأستاذ طاهر الخشاب – إن جرائم القتل – وأنتم أئمة القانون – ببحث فيها عن الباعث . فإذا كان صحيحا ما قيل من أن الحكومة هي التي دبرت اغتيال الشيخ البنا وأنها أهملت التحقيق , وأنها تسترت على المجرم بمصادره " المصري " مع أن فيه الدليل المادي الذي كان يمكن أن تسير وراءه النيابة .. فإن موقف الحكومة هذا يكشف لنا عن الباعث في هذه القضية .وأنا مصر على طلب هذه النسخة .
ثم قال : إن النيابة تقول عن حادث سليم زكي باشا أن شخصا أبلغ عن نفسه فحقق معه ولكني كنت في المعتقل وقد مر على فيه جميع المتهمين وذكروا لى أن هذا الشخص أدلي باعترافات وبأسماء أشخاص خارجة عن المحضر الذي أثبت فيه أقواله وأتي بسلسلة من الشخصيات نتيجة تعذيبه .
الأستاذ البيطاش ( ممثل النيابة أيضا ) لالا .. لقد ذكر في أول بلاغه أنه ارتكب الحادث مع آخرين ذكر أسماءهم .
الأستاذ الخشاب – أصر على أنه اعترف على أشخاص غير الواردين في بلاغه فبدأت الاعترافات تنتزع من هؤلاء الأشخاص .
• قضية الأستاذ الإمام تصور الجو الذي صدرت فيه الاعترافات :
الأستاذ عبد الفتح حسن – إن الدفاع يرجو على الأخص ضم قضية مقتل الشيخ حسن البنا لأنها ليست متعلقة بالباعث في قضيتنا فحسب , بل إنها تصور الجو الذي صدرت فيه الاعترافات .. وما دام المحققون في قضية مقتل الشيخ البنا حاولوا أن يلتوى شاهد عن السبيل القويم , فلا يكون هناك عجب إذا قيل أن هناك إجراءات قصد بها إبعاد التهمة عن الهيئة الحاكمة وقتئذ .
ولقد فوجئنا باعترافات قال فيها كل معترف " ألقيت قنبلة انفجرت وقصدت بها الإصابة" وهذا الأسلوب لا يعرفه متهم وإنما يعرفه الذين يكيفون الواقعة ويصفون التهمة ..وتلك هي وظيفة النيابة العمومية فهذه الاعترافات لم يكن للمتهمين بها شأن سوى تحريك ألسنتهم .
الأستاذ نافع – إن هذه القضية ليست قضية هؤلاء المتهمين , بل هي قضية حكومة متمدينة أو غير متمدينة لم نر لها مثيلا في عصور الهمجية والوحشية – أن الذي قيل أن الهدف من هذه الجريمة التي نحن بصددها هو إبراهيم عبد الهادي لأن يده انغمست في جريمة مقتل الشيخ حسن البنا ويجب أن أقرأ القضية وأبحثها بعناية لكي أرتب دفاعي كما ينبغي ويجوز أن أطلب إبراهيم عبد الهادئ للشهادة وقد يوفي التحقيق بسمع شهادة أمثال محمد زكي على ومصطفي مرعي وصالح حرب ومحمد الناغي ومصطفي الشوربجي .
الأستاذ سامي عازر – أطلب التصريح بإعلان شهود نفي وهم الواردة أسماؤهم في عريضة مصطفي الجابري السابق تقديمها قبل الجلسة ويضاف إليهم والد الشيخ حسن البنا . ومعالي مكرم باشا لسماع شهادتهما عن الطريقة التي شيعت بها الجنازة ودفن بها القتيل .
( استجابت المحكمة لهذا الطلب ) .
• تليفونات جمعية الشبان المسلمين كانت مراقبة بأمر:
الأستاذ طاهر الخشاب – ( في جلسة 5/12/ 1949 ) إن تليفونات جمعية الشبان المسلمين كانت موضوعة تحت المراقبة وأطلب ضم التقرير الذي أرسل إلى المراقبة في هذا الشأن في الفترة ما بين الساعة الخامسة مساء يوم اغتيال الشيخ حسن البنا إلى الساعة العاشرة من مساء اليوم التالي :
الرئيس – وما علاقة ذلك بالقضية ؟
الخشاب – أن قضية اغتيال البنا ضمت إلى قضيتنا .
الرئيس – ذلك لما قد يتناوله الدفاع عن الباعث .
الخشاب – ولكن الأهم أن أقدم مثلا على تصرفات الحكومة في ذلك العهد – تلك الحكومة المفروض فيها المحافظة على الأمن – والثابت في تحقيقات مقتل الشيخ البنا أنه وقت مصرعه كانت تليفونات جمعية الشبان المسلمين تدوي بأصوات رجال القلم السياسي تسأل عما إذا كان الشيخ البنا قضي نحبه أم لا يزال فيه نفس يتردد.
• الحاكم العسكرى استغل الأحكام العرفية لمحاربة خصومه السياسيين :
الأستاذ فتحي رضوان :- دفع بعدم اختصاص المحكمة العسكرية بنظر الدعوى وأفاض في ( البحث القانوني ) وجاء في دفعه : أن الدفاع يتهم الحاكم العسكرى – ( ولا داعي لذكر اسمه ) بأنه خرج عن سلطته التي منحها , ومسخ النص الذي أقامه, فبدلا من أن يصدر أوامر حربية للاطمئنان على الجيش المصري أصدر أوامره لمحاربة خصومه السياسيين.
ولقد أغنانا ذلك الحاكم العسكري عن البرهنة على صحة هذا الاتهام فقد أذاع عن طريق مكتبه ردا على النحاس باشا رئيس الوفد , فجعل يتكلم في بيانه عن عصابات الإخوان المسلمين لا عن عصابات الصهيونيين, وعن الأسلحة والقنابل في أوكار الإخوان لا عن ذخائر وأسلحة الجيش المصري .. فهو في صراحة يعلن أن الدافع لهذه الأحكام العرفية لا أنه يريد حماية ظهر الجيش المصري, ولا لأنه مشغول البال بحركات جيشنا في الميدان ,وإنما ليحارب الإخوان المسلمين وغيرهم من خصومه السياسيين .
ولا يصح إطلاقا أن يأتي رئيس وزراء على خلافات سياسية مع غيره وهو في هذه الخلافات لا يريد أن يترك مقاعد الحكم .. حتى انتهي الأمر به إلى ما يشبه الإقالة – لا يصح أن يسخر الأحكام العرفية في مآربه الشخصية .
إن الشعب جميعه كان يعلم وكان مقتنعا بأن الأحكام العرفية لم تكن لسلامة الجيش . بل إن هيكل باشا – وهو رئيس حزب مشارك بحق النصف في هذه الوزارة وهو أيضا رئيس مجلس الشيوخ أى رئيس الهيئة التشريعية – هذا المسئول الكبير قال قولا له قيمته القانونية لنا – فقد قال : " إنه يعلن أنه دائما كان ضد الأحكام العرفية والرقابة على الصحف. وضرب سعادته مثلا بأن الحكم في مسألة إعلان الأحكام العرفية إنما كان قائما على المعلومات التي رأس رئيس مجلس الوزراء وقتئذ شخصيا أن يلقيها على زملائه الوزراء "
وعلق الأستاذ فتحي على حديث هيكل باشا قائلا: إن سعادته يعلن ويعني أن الحاكم العسكري قال كلاما للوزراء فهموا منه أن الحالة في فلسطين تستدعي مد الأحكام العرفية , وأنه استطاع بعد ذلك هيكل باشا أن يعرف أنهم كانوا مخدوعين, وأن الحاكم العسكرى أعطي بيانات غير صحيحة .
وقال الأستاذ فتحي : أن الحاكم العسكرى في هذه الفترة ( الانتخابات ) في إجازة ولا يجوز أن تنظر محكمة عسكرية دعوى في خلال هذه الإجازة .
وقد قررت المحكمة ضم الدفع إلى الموضوع مع التصريح بتقديم مذكرات .
• من شهادة الأستاذ حامد جودة :
حضر في جلسة 18 / 12/ 1949 وقرر في شهادته أن القصد بالاعتداء لم يكن هو بل كان إبراهيم عبد الهادي . وقال إنه لما وصل منزله اتصل بعبد الهادي ليحذره فوجده قد سبقه .
الأستاذ مختار عبد العليم – هل تتولي حضرتك الإشراف على جريدة " الأساس "؟
الشاهد – تقريبا .
الأستاذ مختار – هل تذكر أنه نشر بها مقال عقب مقتل النقراشي باشا بأنه يجب مقاومة العناصر الإرهابية بالطرق المشروعة وغير المشروعة ؟
الشاهد – مش متذكر .
الأستاذ مختار – ما السبب في اعتقادك أن المقصود بالحادث هو إبراهيم عبد الهادي ؟
الشاهد – لأنه هو الذي يقاوم الإخوان المسلمين.
المحكمة – من الذي تعتقد أنه يقوم بهذه الحوادث ؟
الشاهد – الحوادث التي وقعت كانت من فعل خليط من الشيوعيين والصهيونيين والإخوان . وأن لثلاثة امتزجوا ببعض .
الخشاب – ما الدليل على ذلك ؟
الشاهد – لأن جمعية الإخوان كانت تصرف مبالغ كبيرة .
ثم سأله المحامون عما إذا كان قد اتهم في حوادث قتل أو أوي مجرما فقال : أنا الذي سلمت الخط.
الفصل الرابع البوليس السياسي والتعذيب
مقدمة
أنشئ البوليس السياسي في مصر ليكون أداة لتثبيت أقدام الاحتلال البريطاني فيها فهو من ناحية الشكل جهاز من أجهزة وزارة الداخلية المصرية وأعضاؤه ضباط وجنود وموظفون مصريون جنسية , ولكن أعمالهم وجهودهم وأهواءهم وولاءهم للمستعمر الذي يعتقدون فيه ما يعتقد المؤمن في ربه .
وكانت الرياسة السرمية لهذا الجهاز في أول الأمر لغير المصريين فلما أبدت شخصيات من العاملين في هذا الجهاز من المصريين نضوجا في خيانة بلادهم وتفانيا في الإخلاص للقائم في السفارة البريطانية أسندت الرياسة الرسمية للمصريين , فنبذ هؤلاء الرؤساء المصريون أسلافهم الأجانب في التسلط الإجرامي على الشرفاء من مواطنيهم تسلطا أذهل سادتهم الإنجليز أنفسهم .
والعجيب هو أن الحكومات المصرية المتعاقبة كانت تعلم عن هذا الجهاز هذه المعلومات ومع ذلك لم تجرؤ واحدة منها على المساس به أو حتى على الاحتجاج عليه بل أن بعضها كان يستخدمه في الكيد لمنافسيه على كراسي الحكم .. ولم تكن السفارة البريطانية – صاحبة الجهاز الحقيقية – تعارض في ذلك , لأن هذا كان لحسابها إذ هو في نطاق اللعبة التي اخترعها ليتلهي بها الزعماء عن المطالبة بحقوق بلادهم .. ولكن الأساليب التي كان يتبعها الجهاز في هذه الحالة بالذات لم تكن تتعدي فض اجتماع أو التصنت عليه أو مصادرة عدد من صحيفة أو منشور , أو مضايقة سياسية في تنقلاته .
وأعمال البوليس السياسي الآثمة – ومجرد وجوده إثم – كانت موضع سخط الشعب باعتباره أداة للتجسس عليه ونقل أخباره وتحركاته بل وهمساته إلى المستعمر ,.... ومع ذلك فإن هذا الجهاز كان يعتبر هذه الأعمال إن هي إلا مداعبات إذا قيست بما خول من سلطات لا حدود لها .. ولكن سادته الإنجليز كانوا يرون أن ما بقي في هذا الشعب من رمق لا تستدعي مكافحته بأكثر من هذه المداعبات . فلما فوجئ المستعمر بحيوية مفاجئة في هذا الشعب , نمت وترعرعت في غفلة منه نموا لم تعد الأساليب المعتادة كافية لمكافحته ,فإن وجود المستعمر نفسه أصبح مهددا أمام هذا النمو الفارغ المباغت .. أخذ في استجماع قواته المصرية شكلا ليقابل بها السيل الجارف الجديد من الحيوية المتدفقة .. فأشار إلى حكومة عميلة حاقدة , فأتته طائعة جاثية , ووضع في خدمتها وتحت إمرتها رجاله الخلصاء من البوليس السياسي , على أن يهيئ رئيس هذه لحكومة لهم الجو المغلق بإعلان الأحكام العرفية , وعلى أن تكون أبواب خزانة الدولة مفتوحة لهم على مصاريعها , لأن هذين معا – الجو المغلق والخزانة المفتوحة - هما الوقود الدافع لهم والمحرك لأحط الغرائز فيهم , حتى يحققوا الغاية التي من أجلها أنشئ جهازهم , وهو إزالة كل ما من شأنه أن يهدد وجود المستعمر أو يعكر صفوه .
فاندفعوا بأحط غرائزهم اندفاع الذئاب الجائعة, ففعلوا بالشباب الطاهر من الوطنيين المؤمنين الشرفاء ما يعجز الخيال عن تصوره من أساليب الإجرام وضروب الوحشية غير عابثين بشرف ولا مكترثين بعرف ولا قانون ..
وقد رأيت حين أفردت هذا الفصل لعرض هذه الأساليب الوحشية ألا أتدخل في وصفها بكلمات من عندي أو بعبارات من قلمي حتى لا أتزيد في الوصف ولا أقصر عنه ورأيت أن أدع هذا الوصف لأولئك الذين عانوا من هذه الوحشية وكانوا فرائس لهذه الوحوش الآدمية الضارية .
وليس معني ذلك أنني آتي في هذا الفصل على كل من عانوا ولا على كل ما عانوا – فهذا ما لا يتسع له الكتاب بجميع صفحاته – لكنني أجتزئ بقليل من كثير على سبيل الأمثلة والنماذج التي يهتدي القارئ بها إلى ما وراءها .
أولا – في قضية النقراشي
• المتهم محمد مالك :
في جلسة 29/8/1949 طلب المتهم محمد مالك من رئيس المحكمة السماح له بالكلام فقال : إنه لما اعتقل في الإسكندرية جاءوا به موثق اليدين والرجلين إلى المحافظة فقال له الأستاذ عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية " أنا عمار عدو الإخوان " ثم أمر رجال البوليس بتعذيبه فانهالوا عليه بالضرب المبرح – ولما جئ به إلى القاهرة اجتمع عليه ضباط القسم السياسي ورفعوا بعد ربطهما وانهالوا عليه ضربا في كل جسده , وكانوا يدوسون علي وجهه بأحذيتهم ثم شفعوا ذلك بلفحات من الكرابيج وكان يغمي عليه ويود ألا يخرج من إغمائه حتى لا يشعر بهذا العذاب.
وخيروه بين تأييد رواية عبد المجيد وبين التعذيب وأعدوا له حجرة تعذيب ..ولما أدركوا أنه لم يعد يستطيع المشئ أجبروه على أن يجري , ولما لم يستطع الوقوف أرغموه أن يقف ساعات , وكان يترك الأسابيع دون أن يغتسل أو يبدل ملابسه . وهنا وقفت والدة مالك وفي يدها رباط شاش وقالت أن ابنها كان كل جسده جروحا فأسكتها رئيس المحكمة .
وكان مالك يروى بتأثر وحنق ويقول إنه عاجز عن تصور ما كان يعانيه من عذاب حتى تلفت أعصابه وكان يضرب بالحديد لعله ينطق وكان البوليس يوجه إليه كلمات مقذعة خبيثة ,واستعانوا بصغار إخوته ليرغموه على الاعتراف .
فسأله الرئيس : ولماذا لم تخطر النيابة وقد حقق معك أكثر من مرة ؟
مالك – بلغت إسماعيل عوض بك رئيس النيابة بلا جدوى كما بلغت محمد عبد السلام بك .
محمد عبد السلام – عندما بلغني المتهم أحلته على الكشف الطبي .
دكتور عزيز فهمي – لقد عذب أيضا بعد الكشف .
وقال مالك أنه لم ينج من التعذيب حتى في الشوارع أثناء ذهابه للتحقيق.
الرئيس – وكيف ذلك ؟
الأستاذ أحمد حسين – ثابت أن المتهم كان يقاد إلى التحقيق وهو يرتدي جلبابا وحافي القدمين .
• المتهم محمد نايل :
وفي نفس الجلسة قال المتهم محمد نايل أمام المحكمة إنه كان يضرب على قفاه من ضباط القلم السياسي وهو جالس في الغرفة المجاورة للمحقق وأنه أخذ بحجة التحقيق معه في النيابة واقتيد إلى قسم عابدين حيث هدده رجال القلم السياسي بتشريح جسمه إذا لم يعترف .
وقال إنه بعد أن نال ضربا مبرحا أخذ مكبلا إلى غرفة الحكمدار فوجد فيها إبراهيم عبد الهادي باشا , فدهش لوجوده ...ويظهر أن رئيس الوزراء لاحظ تلك النظرة فقال له
"بتبص لى كده ليه ؟ أنت عندك حاجة يا واد؟" ثم أمر بإخراجه حيث ضرب بالفلقة وقال المتهم أن لديه شاهدا على هذا التعذيب وهو أمان الله خان .
الرئيس – من ملوك أفغانستان؟
نايل – فعلا من الأسرة المالكة الأفغانية وكانت له قضية يعرفها القلم السياسي.
• عدم إثبات الإصابات
وقال نايل لما توجه إلى سجن مصر , رفض الطبيب أن يثبت إصاباته . فلما ألح عليه اكتفي بوصفها " قراحات " وقال إن هذه المعاملة الهمجية الظاهرة جعلته يطمع في حمي النيابة- وهو يعتقد أنها ستنصفه – ولكن لما استدعاه إسماعيل عوض بك رفض أن يسجل إصاباته بناء على طلب القلم السياسي.
• عمليا تعرف مزيفة :
وقال إن عمليات التعرف عليه كانت مزيفة فإن الشخصين اللذين تعرفا عليه كانا قد أجلسا قبلا بجواره طيلة ساعة كاملة .
• صمت مخجل:
وقال أن هناك أشياء أخرى يخجل من ذكرها أمام الناس .
وفي الجلسة التالية المنعقدة يوم 3/9/1949 بدأ الحديث الدكتور عزيز فهمي المحامي فقال : إن لمحكمة تفضلت في الجلسة السابقة بالاستماع إلى أقوال المتهمين مالك ونايل وقد اتضح من هذه الأقوال أن بعض المتهمين كان هدفا للتعذيب لحملهم على الإفضاء باعترافات معينة . وقد رأت المحكمة آثار هذا التعذيب على أجسامهم , ووصف الرئيس هذه الآثار بأنها لا تزول مع الزمن – واستطرد الدكتور عزيز فقال : ولم يكن التعذيب جسمانيا فحسب , بل كان البعض هدفا لجرائم من نوع آخر يمس أعراض المتهمين وأعراض أخواتهم وأمهاتهم وزوجاتهم كما أشار إلى ذلك كل من مالك ونايل وأمسكا اللسان عنها استحياء . ثم طلب الدكتور عزيز من المحكمة أن تسمع أقوال المتهمين فيما وقع عليهم من اعتداءات تمس الأعراض وتحقيقها لمحاكمة مرتكبيها طبقا للقانون( ودارت مناقشة بين الدكتور عزيز في ذلك وبين رئيس المحكمة رفض في نهايتها رئيس المحكمة طلبه بالتحقيق في التعذيب ) .
• لا حياء في القانون :
وقال الدكتور عزيز : أن المتهمين يريدان الإدلاء بأقوال للمحكمة ومن حقهما أن يطلبا الاستماع إلى هذه الأقوال . ولقد منعتهما المحكمة في الجلسة الماضية من سرد ما ارتكب ضدهما ويمس الأعراض بحجة أنه يتضمن عبارات نابية مع أنه لا حياء في القانون كما أنه لا حياء في الدين ..وأصر الرئيس على عدم سماع المتهمين.فتساءل الدكتور عزيز عما إذا كانت المحكمة ترفض سماع متهم ولا تريد أن تستنير ..وقال أن الجرائم التي أشار إليها المتهمان تحمل مرتكبيها مسئولية جنائية عقوبتها الأشغال الشاقة أو السجن ..ومع ذلك أصر الرئيس .
• المتهم عبد الفتاح ثروت شاهدا :
وفي خلال جلسة 3/9 هذه استمعت المحكمة إلى ثلاثة من المتهمين في قضية السيارة الجيب – بناء على رأي رئيس المحكمة – كشهود في هذه القضية ,ومن هؤلاء الشهود عبد الفتاح ثروت الذي قرر أنه راصد جوى . وما إن سألته المحكمة عن معلوماته في القضية حتى اندفع يروى قصة تعذيبه .
وقد استعل كلامه قائلا إنهم عذبوه – وكشف للمحكمة عن آثار التعذيب في قدميه – ثم قال إنه ارتكبت معه أعمال منافية للآداب . الرئيس – بس.... بس .
الدكتور عزيز – نريد أن نسمع الشاهد.
الرئيس – ستسمعون ولكن ليس في جلسة علنية .
واستأنف الشاهد كلامه فقال إنه كان يعذب بالضرب في سجن الأجانب والمحافظة . وكانوا يجبرونه في حجرة التعذيب على الوقوف من الصباح إلى المساء حتى لا ينام . كما قبضوا على أقاربه ونكلوا بهم.
• أصبحت محطما :
واستطرد يقول : لا يمكن أن أصور الآلام التي قاسيتها .. لقد كنت في عملي الحكومي نشيطا , أما الآن فقد تحطمت أعصابي ,وأصبحت فريسة للنوبات والاضطرابات, ولم يعمل لى طبيب السجن شيئا ..وأنا أتناول أدوية من الخارج ...
• تعذيب أمام النائب العام:
وقال : لقد كان رجال البوليس السياسي يحضرون التحقيق ويهددونني بعد تعذيبي وذلك أمام سعادة محمود منصور باشا النائب العام السابق وقد شكوت له فقال لى :
" لا تتعب نفسك بالشكوى فنحن نعرف والحكومة تعرف وسوف نشرحك "
• وأما إبراهيم عبد الهادي:
واستأنف يقول : وقاموا بضربي يوميا ثلاث مرات في المحافظة ومرة في النيابة وأخذوني لإبراهيم عبد الهادي باشا فقال لى " تكلم أحسن لك علشان تطلع كما طلع غيرك" – وقال الشاهد : أنه لانهيار أعصابه وقع على أوراق لا يدري ما فيها .
وأجاب الشاهد على سؤال لغنام بك المحامي بأنه دخل على إبراهيم عبد الهادي باشا وملابسه ملوثة بالدماء فقال له " يا ولد أنت عارف حتتكلم إزاى ولازم تقول كل حاجة "
ثم أخرج بعدها إلى غرفة التعذيب . وقال : إنهم كانوا يفصحون له بأنهم يعرفون كل شئ عن عائل 257 ته فقالوا له أن أخته مريضة بالسكر وأنهم شردوا والده ..وقال أن البوليس طلب منه أن يذكر كلاما عن مالك وأن يتهمه بالاشتراك في الحادث .
وأجاب على سؤال آخر لغنام بك بأنه قابل إبراهيم عبد الهادي باشا ثلاث مرات وكان البوليس يهمس في أذنه قبل المقابلة أن الباشا في يده كل شئ .وكان الباشا بلح عليه في أن يتكلم .
وقد وافقت المحكمة على إحالة الشاهد إلى الكشف الطبي .
• الأستاذ على منصور يطالب المحكمة بتحقيق التعذيب أو إيقاف المحاكمة
وقد طالب الأستاذ على منصور المحكمة بتحقيق التعذيب أو إيقاف المحاكمة حتى تقوم النيابة بهذه المهمة حتى ترى المحكمة ما يلقيه هذا التحقيق من ظل – وعقب على النيابة أن التعذيب تم بحضورها .. كما هاجم تقرير الكشف الطبي على " مالك" حيث قرر أنها مجرد تسلخات بسيطة من أثر القيد الحديدي وأنها لا تحتاج إلى علاج بل تزول من نفسها على مرور الأيام .
وقال الأستاذ على منصور: لقد جانب هذا التقرير الحقيقة مجانية سافرة إذ أن الآثار التي يكشف عنها " مالك " أمام المحكمة ليست بالتسلخات البسيطة , ومنها ما هو بالفخذ مما لا يعقل أن يكون من القيد الحديدي .
وقال إنه يتمسك بتحقيق التعذيب الثابت من الآثار المادية التي شاهدها الجميع في قاعة الجلسة كما أن لدي " مالك " شهودا على وقائع تعذيبه هم الدكتور جمال عامر والشيخ محمد جبر وسيد أفندي شامه ومحمد أفندي أمين حنفي .
• يتهم البوليس السياسي بأنهم قتلوا متهما ودفنوه :
ثم قال الأستاذ على منصور : والدليل على ذلك أيضا أنه قد توفي بين أيدي الجلادين أحد الشقيقين أحمد عبد النبي أو محمد عبد النبي وذلك بدار محافظة الإسكندرية حيث تولت الإدارة دفنه في مكان مجهول ثم أخطرت أهله .
واستطرد يقول : هي حقائق مقتطفة من كثير مما ثبت لدى ولا أستطيع بيانه خوفا على مراكز من يعرفني بها . وفي هذا الكفاية أضعه أمام الضمائر الحية لحضرات المستشارين والضباط العظام لتقديرها .
• الدكتور عزيز فهمي يقول " هذا التعذيب لم يقع مثله في القرون الوسطي:
في جلسة 26م9/1949 جاء في مرافعة الدكتور عزيز فهمي عن التعذيب قوله:
" أن هذه الجرائم التي يتحدث عنها الناس في الأندية العامة والخاصة لم نسمع لها مثيلا من قبل فلقد كان عهد فلبيدس وبدر الدين ومن إليهما من الطغاة والمستبدين – الذين وصفت محكمة النقض والإبرام عهدهم بأنه كان إجراما في إجرام – عهدا إنسانيا بالنسبة لهذا العهد الأخير. ولقد كان فلبيدس وبدر الدين ومن إليهما ملائكة رحمة إذا قورنت جرائمهم بهذه الجرائم – إن هذه الجرائم لا يمكن أن يرتكب مثلها في بلاد الهمج , ويستحيل أن يكون ممثلها قد وقع في القرون الوسطي أو في المجتمعات البدائية دون أن ينال مرتكبوها جزاءهم الصارم .
ثانيا – في قضية السيارة الجيب
في جلسة 19/12/1950 استمعت المحكمة إلى ثلاثة من المتهمين في قضية الأوكار وجودة باعتبارهم شهود نفي في هذه القضية وهم سعد جبر التميمي ومصطفي كمال عبد المجيد وعبد الفتاح ثروت .
• سعد جبر – ضربوني بالحذاء في وجهي :
• قال إنه استأجر فيلا الزيتون ولم تكن الأجهزة التي بها هي لمحطة إذاعة كما أذيع وإنما هي أدوات لمشروع تجاري خاص بتسجيل إسطوانات المطربين في مصر بدلا من الخارج. وقال إنه اعتدي عليه بالضرب حتى منتصف الليل على يد الصاغين ( الرائدين ) توفيق السعيد وعبد المجيد العشري والجاويش مصطفي التركي الذي كان يضربه بالحذاء في وجهه.
• مصطفي كمال – علقت كالذبيحة وشووني بالسجاير أمام عبد الهادي :
قرر أن كل ما نسب إليه في التحقيقات هو من إملاء اللواء طلعت بك بعد تعذيبه – وقال:علقوني في شباك القسم زى الذبيحة ولما صرخت شووني بالسجاير المولعة – وجاء إبراهيم عبد الهادي باشا فاستغثت به ولكنه لم يعبأ بي وأشار على ضابط ضخم معه لمواصلة تعذيبي قائلا : شرحوه.
كما أنهم لم يسمحوا لى بالنوم أبدا . وقد حاصرني ضابطان كانا يبادراني بصفعي كلما همت عيني بالنوم وكانوا يجعلوني أوقع على أوراق وأنا كالجثة الهامدة – وقد استغثت بحضرة المحقق محمد عبد السلام بك فلم يعبأ بي وتخلي عني .
• عبد الفتاح ثروت مرة أخري :
ولما كانت حالته لا تمكنه من أداة الشهادة واقفا فقد سمحت له المحكمة بالجلوس على مقعد وقد قرر أنه لم يعترف بأى شئ في التحقيق وأن التعذيب جعله فاقد الشعور .
• جردوني من ملابسي :
وروي بصوت مرتعش ضعيف صنوف التعذيب فقال : أن اللواء طلعت بك هدده بالتشريح إذا لم يعترف قائلا : أن البلد في أحكام عسكرية – ثم قال :أخذوني إلى غرفة الضابطين العشري وفاروق كمال وجردوني من ملابسي ونزلوا في ضرب من تسعة مساء إلى أربعة صباحا .
• الفلكة انكسرت:
ولقد قسموا أنفسهم أربع مجموعات كل مجموعة من 12 عسكري وضابط ووضعوا رجلي في الفلكة واستمر الضرب حتى أن الفلكة انكسرت.. ثم استعملوا كرابيج الهجانة ..ولما أفقت من إغمائي قال لى طلعت بك : هذه هي الجولة الأولي والبقية تأتي.
• أمر بالموت :
وأخذوني إلى إبراهيم عبد الهادي باشا فقال لى : أنا عندي أمر إني أموتك.. ثم أمر بموالاة تعذيبي . وكان التعذيب على أربع درجات : بالضرب بالعصي والكرابيج ثم الكي بالنيران وأحضروا سيخ حديد محمي ولكن الضابط محمود طلعت طلب من الضباط أن يكفوا عني قائلا : ده صاحبي وسيعترف بكل شئ .. ثم نمت على الأسفلت فكانوا يطرقون الباب حتى يهرب النوم من عيني وما كانوا في حاجة إلى ذلك لأنني لم أكن أستطيع الرقاد على أى جزء من جسمي المشوي كله .
• اعتداء منكر :
• ثم طالبوني بالاعتراف وهددوني أن لم أفعل أن يعتدوا على اعتداء منكرا وفعلا تقدم واحد يريد الاعتداء على .. فقلت له : أنا أعرف أنني لا أستطيع مقاومتك وأنت يمكنك أن تفعل معي هذه الجريمة .ويمكنك أن تنجو من عقاب القانون .. ولكني أريد أن أقول لك قبل أن تبدأ : أن الله لن يترك هذه الجريمة بلا حساب .. فابتعد عني .
• هاتوه أخرس : وظل تعذيبي ..وتلفت أعصابي ..وكنت لما أذهب إلى إسماعيل عوض رئيس النيابة وأشكوا له يضرب الجرس ويأتي الحرس فيقول لهم هاتوه لى أخرس خالص .
• أنا الحاكم العسكري :
وجاءني إبراهيم عبد الهادي باشا 4 مرات وقال : أنا أبهدلك أهلك وأنا الحاكم العسكري . كما جاءا النائب العام محمود منصور باشا فلما تقدمت له شاكيا قال : أنا عارف كل حاجة . وتركني .
• حفظة الأمن :
وقال :إن من الغريب حقا أنني حينما حضرت اليوم لأداء الشهادة وجدت بعض رجال البوليس السياسي معهودا إليهم المحافظة على الأمن . وكنت أعتقد أنهم الآن أمام المحاكمة لمعاقبتهم على ما ارتكبوه من آثام .
الرئيس – هل طلبوا منك أقوالا معينة ؟
الشاهد – نعم .. أن أقول إنني أ‘رف مالك وعاطف وأنني مشترك في الاعتداء على حامد جودة.
• نوبة عصبية :
وما كاد المتهم ينتهي من هذه العبارة حتى ارتجف بدنه وحملق في الهواء وأصيب بنوبة إغمائية وجعل يرسل شهيقا عصبيا مؤلما أبكي معظم الحاضرين في القاعة – وبادر رجال البوليس برش الماء على وجهه كما خف إليه طبيب من الموجودين وحملوه إلى الخارج . وقد وافقت المحكمة على إثبات ذلك في المحضر.
• عبد المجيد نافع يقول : أقسم أن عبد الهادي كان يحضر التعذيب :
تحدث الأستاذ عبد المجيد نافع في مرافعته عن الاعترافات والتعذيب فقال : أن التواتر يعتبر حجة . والذي تواتر على الألسنة أن حوادث تعذيب مروعة كانت تقع على كثير من المتهمين . بل كان الناس يتناقلون في مجالسهم الخاصة والعامة أن هذا التعذيب كان يقع بأوامر من إبراهيم عبد الهادي باشا أو على الأقل بمعرفة منه أو على أقل القليل كان يصادف هوى في نفسه .
ولقد مثل إبراهيم عبد الهادي باشا بين أيديكم , واعتصم بالإنكار البات فيما تعلق بوقائع التعذيب , ولكن عبد الهادي باشا إنسان, وقد كان رئيس حكومة ووزير الداخلية فلا يعقل أن يعترف أمام الرأي العام بأنه كان يأمر بالتعذيب .
لقد أقسم عبد الهادي باشا بشرفه أنه لم يشهد التعذيب . والدفاع يقول : " لقد قال لكم " بروتس " ذلك "وبروتس" رجل شريف وكفي ".
• يمين على أقوال ضابط:
ثم عاد الأستاذ نافع فقال : إنني أقسم يمينا ويمينا حقا بأنني سمعت من أحد كبار الضباط أن إبراهيم عبد الهادي باشا كان يحضر بنفسه عمليات التعذيب .
• إلى متر هذا البوليس السياسي :
ثم قال : أن البوليس السياسي قد استعمل من صنوف التعذيب للمتهمين ما لم يتصوره أحد . حتى أن هيئة الدفاع التي شكلت للدفاع في قضية قنابل 6 مايو ( ليست من قضايا الإخوان ) كانوا يصرخون ظلما من تصرفات رجال البوليس السياسي ومنهم عبد الفتاح الطويل باشا ومحمود سليمان غنام بك وعمر عمر بك وعبد الفتاح الشلقاني بك ( منهم من تولوا منصب الوزارة بعد هذه القضية التي ترافعوا فيها ونرجو أن يعملوا شيئا لإصلاح هذه الحالة.
ثالثا – في قضية جودة والأوكار
في 6/11/1949 أثبت الطبيب أن أحد المتهمين نزعت أظافره.
• أمر عسكري بإخضاع سجن الاستئناف للبوليس السياسي:
الأستاذ فتحي رضوان المحامي – أطلب من المحكمة أن تأذن لى بأن يسلمني المتهم الثاني التقرير الذي كتبه عن وقائع تعذيبه ومعذيبه وشهود التعذيب على أن يكون ذلك مباشرة دون أن تطلع النيابة على هذا التقرير .
وقد فهمت عند مقابلة المتهم في السجن أن أمرا عسكريا صدر لمدير مصلحة السجون يخرج سجن الاستئناف من سلطة مصلحة السجون ويخضعه للحاكم العسكري , بمعني أن الحاكم رأي أن يدخل ضباط القسم السياسي سجن الاستئناف وكما يشاءون مع أن لائحة السجون تمنع دخول أحد إلا بإذن من النيابة . وأطلب ضم هذا الأمر العسكري فإن صدوره يعني أن الحاكم العسكرى رأي أن الإجراءات العادية لا تمكنه من سير التحقيق على النحو الذي يرتضيه . الرئيس – ماذا يهم الدفاع من ذلك ؟
فتحي رضوان – صدور هذا الأمر يدل على أن المحقق ضاق ذرعا بالنظام العادي المتتبع في كل قضية وأن الاعترافات صدرت في ظل إجراءات شاذة مخالفة للقوانين .
الرئيس – ما هو رقم هذا الأمر ؟
فتحي رضوان – لم أمكن من معرفة ذلك .
الرئيس – ألا تكون المسألة وهمية؟
عبد الفتاح حسن المحامي – إن الدفاع مصدق . وفتحي بك يذكر واقعة محددة في فترة معينة ومن حق المحكمة أن تستجليها كما أن من حق الدفاع أن يبرر الظروف التي شابت هذه القضية ومن بينها العمل على الوصل بين ضباط القلم السياسي وبين المتهمين في سجن الاستئناف .
فتحي رضوان – أن واقعة هذا الأمر العسكري ليست مستنتجة أو مدعاة بل سمعتها من نفس موظفي السجن وأطلب ضم قضية مقتل سليم زكي باشا حيث نسبت فيها لبعض المتهمين اعترافات ثم رأت النيابة حفظ القضية مع وجود هذه الاعترافات والدفاع يستفيد حين يقدم نموذجا من تحقيقات القضايا في ذلك العهد وظروف الاعترافات وحفظ القضايا رغم وجود اعترافات فيها .
عمر التلمساني المحامي – أطلب ضم قضية مقتل النقراشي باشا لأن موكلي ( الثالث) كان شاهد نفي أثناء التحقيق فيها , وقد أحيل وقتئذ على الطبيب اشرعي فأثبت وجود آثار تعذيب به كما أطلب ضم ملف خدمة المتهم بالأرصاد الجوية حيث أن البوليس السياسي استطاع أن ينتزع صورة المتهم من ملف خدمته وأن يعرضها على الذين تعرفوا عليه وقد ناقشته في هذا الطلب فتدخل في المناقشة الأستاذ عبد الفتاح حسن .
عبد الفتاح حسن – إن من مصلحة الدفاع أن يضم ملف خدمة المتهم حتى يتبين للمحكمة الموقرة مدى تزيد هؤلاء الأشخاص الذين عاونوا المحقق . وذلك رصيد نقدمه لأن دفاعنا سيستقي من هذا المعين , وسنقدمه للتدليل على الأكاذيب التي اكتنفت التحقيق .
الأستاذ مختار عبد العليم – أطلب إحالة موكلي ( الرابع ) إلى طبيب أخصائي في أمراض الإذن لأنه فقد سمعه وأصبح ( أطرش ) نتيجة تعذيبه .
الرئيس – لقد أحيل على الكشف ولم يثبت به شئ .
مختار – الطبيب الشرعي فحص فقط الإصابات الظاهرة , ولقد مضي على إحداثها عدة شهور فامحت , أما آثارها فباقية ومنها فقد المتهم سمعه. عبد الفتاح حسن – إن الذي قام بالتحقيق في قضيتنا هذه هو المحامي العام – ولا أسميه – حقق أيضا القضية المحدد لنظرها 15 الجارى بالإسكندرية " قضية إخفاء يوسف على يوسف " وفي القضية المذكورة تقرير من الطبيب الشرعي بأن أحد المتهمين قد انتزعت أظافره انتزاعا و وعلى الرغم من ذلك لم يثبت المحقق هذا في محاضر تحقيقه .
ومن حق الدفاع أن يحصل على صورة من هذا التقرير الطبي حتى يشعر المحكمة بالدليل المادي بأن التحقيق الذي باشره شخص معين كان يغفل الوقائه الخاصة بالتعذيب حتى الأظافر المتنزعة لا يمكن أن يكون تحقيقا أمينا . فأرجو أن تأذن لى المحكمة بصورة من هذا التقرير .
( وكان الدفاع قد طلب تقارير استشارية عن بعض المتهمين وقررت المحكمة إجابة جميع طلبات الدفاع ).
• مكافأة المتواطئين :
في جلسة 5/ 3/ 1951 استمعت المحكمة إلى أقوال مصطفي كمال عبد المجيد ونجيب جويفل وبقية المتهمين . وكان من أقوال عبد الفتاح ثروت أن التعذيب يبتدئ بالفلقة والكرباج وينتهي بالقتل , وأن إرهاب البوليس السياسي له بلغ حد استعداده لأن يعترف بأنه قتل النقراشي رغم اعتراف قاتله – واعترف شهود الإثبات وأكثرهم من جنود البوليس بأنهم قبضوا مكافآت سخية من إبراهيم عبد الهادي باشا .
• رئيس النيابة زور التحقيق :
• وذكر أحد المتهمين في سياق أقواله بأن إسماعيل عوض بك رئيس النيابة والمحقق في قضية حامد جودة كان متخصصا في التزوير وقلب الحقائق فكان لا يثبت في محاضر التحقيق إلا ما يمليه عليه رجال القلم السياسي .
وهنا وقف الأستاذ صادق المهدي بك ممثل النيابة وقال إنه يحتج على هذا الألفاظ التي يتفوه بها المتهمون .وقال أن المحقق وهو مستشار الآن ينزه عن ذلك الكلام.
وعلى أثر ذلك وقف الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي وقال : إن للمتهم أن يحرج المحقق , وله أن يهدم أدلة الاتهام بما يشاء .. ثم التفت إلى ممثل النيابة وقال : إني سوف أكون على استعداد لتجريح حضرة ممثل الاتهام بالذات , وإني سأهاجم ما استطعت المحقق في قضية حامد جوده بالذات , بل إني سأهاجمكم أنتم ,وإني أعتبر ذلك إنذار لكم وأن الدفاع يعرف واجبه حق المعرفة وسوف يؤدبه على أكمل وجه.
• وزير الزراعة مع متهم :
في جلسة 12/3/1951 قال المتهم محمود محمد دعبس إنه بعد تعذيبه أدخلوه حجرة أخرى وقالوا له : ستقابل الباشا .. فرأى عبد الهادي وبجواره شخص لا يعرفه فأشار عبد الهادي إلى هذا الشخص وقال له : هل تعرف هذا الشخص ؟ فقال لا . فقال إنه معالي وزير الزراعة أحمد عبد الغفار باشا – فتقدم نحوي وزير الزراعة وقال : نحن بلديات وأنا أعمل لمصلحتك , والأجدر بك أن تعترف حتى تنقذ من هذا العذاب . ثم قال المتهم : ومن هذه الفترة وقف التعذيب لأني قريب الباشا .
• البوليس يقيم في مسكنه مع أمه وأخته :
وقال المتهم يوسف عبد المعطي أن ثلاثة من رجال البوليس السياسي أقاموا في مسكنه مع أمه وأخته لمدة أسبوعين بعد اعتقاله واعتقال والده – وقد أرسلت أخته ( سن 12 سنة ) برقية إلى النائب العام تطالب بإخراج البوليس من الشقة ولكن عهد الإرهاب لم يستجب .
• النائب العام يأمر بعدم إثبات الإصابات :
وقال المتهم محمد نايل بالهندسة إنه لما عاد إلى سجن مصر – الذي كان يثبت وقتئذ إصابات كل من يرد إليه – حدثت أزمة استدعت حضور النائب العام السابق محمود منصور باشا الذي أصدر أمرا بألا يثبت السجن إصابات أى متهم .
• عبد الهادي يكذب على مجلس الشيوخ :
• وقال المتهم عصام الدين الشربيني وهو من طنطا : إن الضابط سعد الدين السنباطي رئيس القلم السياسي بطنطا اعتقله وعذبه ونقله إلى القاهرة وهدده بأن والده وفدي. وقال المتهم : بعد أن عذبت في القاهرة حملني الجنود وعرضوني على إبراهيم عبد الهادي باشا وأنا محمود . وقد ذكرني هذا المنظر بالمناظر التي نراها في السينما عن رئيس العصابة وهو ينظر مزهوا إلى الضحية بين يدى أعوانه .
ثم قال المتهم : إن فؤاد سراج الدين باشا حين وصلته أنباء اعتقالنا قدم استجوابا في مجلس الشيوخ فأجاب عن الاستجواب إبراهيم عبد الهادي باشا معلنا في كذب جرئ صريح أنه لا أنا ولا أى واحد من أسرتنا في الاعتقال .. وقال المتهم أن ذلك ثابت في مضبطه مجلس الشيوخ , وأني أطالب بضمها لتروا كيف أن رئيس وزراء بلد وحاكمها العسكري ودكتاتورها قد كذب على مجلس الشيوخ المحترمين . فهل يستبعد عليه أن يلفق لنا التهم ؟ • هذا هو الطبيب الشرعي:
ثم قال : لا أدخلت على إسماعيل عوض بك رئيس النيابة حافي القدمين التمست منه أن يحيلني على الطبيب الشرعي . فأظهر سعادته استجابة سريعة لهذا الطلب . وإذا به يستدعي الضابط أحمد طلعت بك ويقول : هذا هو الطبيب الشرعي . داويه يا أحمد بك – ومنذ تلك اللحظة ( حرمت ) أن أطالب بالطبيب الشرعي .
• المطالبة بتحقيق التعذيب :
في جلسة 9/4/1951 طلب المحامون أن تبدأ المحكمة بتحقيق التعذيب وعارضتهم النيابة وقررت المحكمة النظر في طلب الدفاع بعد سماع الشهود .
تهافت البوليس على المكافأة الحكومية:
وفي جلسة 10/4/1951 استمعت المحكمة إلى شاهد هو على محمد على الطالب بكلية الحقوق قال : إنه كان يسكن هو وبعض زملائه فيلا بمنطقة الهرم ثم نقلوا منها إلى فيلا مجاوزة .
وفي أول فبراير 1949 حضر شخص ومعه سمسار لاستئجار الفيلا فأرشده إلى صاحبها وتم العقد . وبعد مضي شهرين لاحظ الشاهد تغيب السكان فذهب ومعه بعض رفقائه للسؤال عنهم ولكنهم فوجئوا بوجود باب المسكن مفتوحا . فلما دخلوا لاستطلاع الأمر وجدوا في إحدي الحجرات أجهزة لا سلكية وأدوات أخرى .
واستطرد الشاهد يقول إنهم ارتابوا في الأمر وتوجهوا فورا إلى بندر الجيزة وأبلغوا المأمور فأحالهم إلى ضابط المباحث الذي شكرهم على هذا البلاغ ونصحهم ألا يذكروا شيئا عنه , وأنه سوف يجرى التحقيق ويبعدهم عن الشبهات إذا ما قرروا أنهم لم يبلغوا شيئا وذكرهم بأن مكافأة الحكومة لا قيمة لها – ومع ذلك فقد اعتقل هو ومن معه واستمروا في السجن خمسة عشر يوما .
فاستدعت المحكمة ضابط المباحث وهو الملازم أول حسن أبو باشا فادعي أنه كلف بتفتيش المساكن المتطرفة وأنه هو الذي عثر على هذه الفيلا .
وهنا واجهت المحكمة هذا الضابط بالشاهد فأصر كل منهم على أقواله . ولكن الشاهد لم يقنع بهذا وطلب من المحكمة أن يحلف الشاهد على المصحف على صحة أقواله وأيده الدفاع ولكن النيابة اعترضت بأن هذا القسم لم يرد في القانون .
• والدة متهم تربط بقيد واحد مع إحدي العاهرات :
وقبل أن ينصرف هذا الضابط وقف المتهم صالح الجنايني وأشار إليه قائلا : أن هذا الضابط أحضرني إلى بندر الجيزة في 20 مايو 1949 وهددني بوجود مظروف سيؤدي بي إلى حبل المشنقة إذا لم أعترف . فلما أخبرته بأني لا أعرف شيئا أمر الجنود بإحضار والدتي – وكان قد استحضرها من بلدتي بمحافظة الشرقية ووضعت في الحجز – ولكني لم أصدق هذا حتى تبينت لى الحقيقة المرة ووجدت العسكري يدخلها علينا وهي مربوطة بقيد حديدي واحد مع إحدي العاهرات وكانت العاهرة عارية الثياب فأشار إليها الضابط وقال لى : سوف نجعل والدتك كهذه العاهرة إذا لم تتكلم . واستطرد المتهم يقول : ثم احضروا أخي الصغير – وهو كفيف البصر – ومعه ابن عمي –وهو مريض بالصرع – والدم ينزف منهما وقال لى الضابط : انظر بعينيك لتعرف مصيرك ومصير أهلك . ثم أخرجوني ودخلت على المحقق الذي أعرض عني وانشغل بمكالمة تليفونية . ثم دخل هذا الضابط وأخرجني حيث نصبت لى فلكة من نوع جديد ابتكروه لى وتوالي التعذيب .
وسئل الضابط عن صحة هذه الوقائع فأنكرها .
• الدفاع يطلب سمع شهادة محققين في هذه القضية :
وعلى أثر افتتاح الجلسة التالية للمحكمة في 13 / 4/ 1951 طلب أحمد حسين المحامي إعفاءه من الانتداب وتنازله عن التوكيل عن المتهمين لأنه لا يستطيع الاستمرار في القضية ما لم تأخذ المحكمة بما طلبه من إجراء تحقيق فيما تم من تعذيب فرد عليه رئيس المحكمة بأن المحكمة وافقت على طلبات المحامين .وزملاؤه تقدموا بحوالي خمسين شاهدا للتحقيق في وقائع التعذيب وطلبت منه تقديم ما عنده في هذا الشأن – فشكر المحكمة وطلب منها سماع أقوال الأستاذين عصام الدين حسونة وعدلي بغدادي وكيلي النيابة , لأنهما اشتركا في تحقيق هذه القضية فأجابته المحكمة إلى هذا الطلب .
• هل هناك أدلة قانونية على التعذيب ؟
في جلسة 16/4/1951 قال رئيس المحكمة أن المحكمة قررت تحقيق هذه الوقائع بالفعل , وكل متهم يقدم دليلا على تعذيبه فنحن على استعداد لتحقيقه .
البهنيهي بك المحامي – المتهمون لا يستطيعون أن يقدموا أدلة لأن التعذيب كان يحصل بين أربعة جدران وهم لا يستطيعون الاستشهاد بأحد خصوصا وأن المحيطين بهم كلهم من رجال البوليس . وكان الأطباء يدعون للكشف عليهم بعد عدة شهور من وقوع التعذيب مما يجعل الأطباء يثبتون آثار الإصابات وأن كانوا لا يستطيعون الجزم بها .
الرئيس – إن المحكمة ستقدر كل ذلك .
• كلهم خطرون :
سألت المحكمة الضابط محمد الجزار عن وظيفتهم في هذه القضية فأجاب بأننا نبحث عن جميع الخطرين ونضبطهم.
الرئيس – من هؤلاء كان خطرا ؟
الجزار – اتضح أنهم كلهم كانوا خطرين .ولكن لا أذكر أحدا بالذات.
الرئيس – هل يعد من الخطرين في الكشوف الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي وهو ضرير والشيخ جبر التميمي وسنه 70 سنة والشيخ أحمد الشناوي القاضي الشرعي والشيخ إبراهيم على سعده المدرس في كلية الشريعة ؟
الجزار – ما أنا إلا ضابط – فلو صدر أمر لي بضبط أحد فأنا أضبطه .
• اغتيال البوليس السياسي أحمد شرف الدين :
ادعي البوليس السياسي أن أحمد شرف الدين كان في وكر بشبرا وكان يحمل مدفعا رشاشا وجهه إلى القوة التي هاجمت الوكر – ودفاعا عن النفس ضربوه بالنار فقتلوه ولم يصب منهم أحد ..وقد دار النقاش حول هذا الحادث بين زكي البهنيهي بك وبين الجزار على الوجه الأتي : البهنيهي – هل كان أحمد شرف الدين يستعمل المدفع الرشاش في منزل روض الفرج ويوجهه إلى القوة في نفس الوقت ؟ الجزار – نعم .
البهنيهي – وكيف لم يصب أحد من القوة ؟
الجزار – هذه إرادة الله ( ضحك).
البهنيهي – بل هي بركة الإخوان تخلت عن الإخوان وحلت على رجال البوليس – الواقع يا حضرة الصاغ أن المسألة غير معقولة وقد فهمت أن استعمال المدفع الرشاش لا يحتاج تصويبه إلى أى مجهود فني إطلاقا فكيف وشرف الدين كان ضابطا في الاحتياطي متمرنا على استعمال هذا المدفع وغيره ؟
• خداع البوليس السياسي للشيخ جبر التميمي وعبد الرحمن عثمان :
في جلسة 22/4/1951 استمعت المحكمة إلى شهادة أحمد طلعت الضابط بالبوليس السياسي .. فقدم للمحكمة ورقتين أحداهما مكتوب فيها شهادة من الشيخ محمد جبر التيميم أنه يثني على حسن معاملة البوليس السياسي له – فأحضرته المحكمة وسألته فاعترف بأنه كتب هذه الورقة ولكنه قال :
ظللت في القسم حوالي عشرين يوما لم أطلب فيها وكانوا يعرضون على بين الفترة والأخرى المعذبين أمثال مالك وأحمد فؤاد الصادق. وكان في القسم معتقل من الإخوان اسمه على إبراهيم كان يتولي تضميد جراح الإخوان .
وقال الشيخ إجابة على سؤال من المحكمة : إن الإخوان كانوا يؤخذون بغير سؤال ولا جواب وأنا شخصيا كرهت كلمة " الله أكبر ولله الحمد " لأنها كانت تجر إلى جحيم لا نهاية له وقال إنني لم أكتب هذه الشهادة إلا بعد أن طلبوها مني .
• عبد الرحمن عثمان شاهدا:
أما الورقة الأخرى فكانت عبارة عن خطاب موجه من المتهم عبد الرحمن عثمان إلى أهله مكتوب فيه :" إنني مرتاح وفي حالة جيدة وأطلب إرسال ملابس " فأحضرته المحكمة كشاهد في هذه القضية , فاعترف بكتابة الورقة وقال:
إن الصاغ توفيق السعيد كان يستدعيني ليلا و ومهمته تحطيم أعصابي وبدعوي الإشفاق على وقد رأي ملابسي قد تمزقت أرشدني أن أكتب خطابا لعائلتي بخصوص الملابس وكتبت الخطاب..ومهما كان الإنسان في ضيق فلابد أن يخبر أهله أن مرتاح – ولما كنت أعرف عن رجال القلم السياسي المكر والخداع طلبت من المحقق أن يسمح لى بإرسال خطاب ..وإذ كنت على يقين بأن الخطاب السابق لن يرسل وفعلا هذا هو الذي حصل , وظل توفيق السعيد محتفظا بالخطاب حتى قدم للمحكمة ليكون دليلا على أننا كنا مرتاحين في السجن .
• جريمة خلقية :
وقال المتهم عبد الرحمن عثمان : إنني أذكر يوم 11 يوليو ذهبت برفقة الملازم أول فاروق كامل وظللت ست ساعات في المحافظة واعتدى على الصاغ العشري بالضرب ومعه عسكري أظن أنه رقي لدرجة الصول ويدعي حسب الله .. وما كان الضرب والتعذيب يحملاني على الاعتراف وإنما التهديد بجريمة خلفية .وقد لمست في ذلك الوقت أن مبادئ القانون قد ديست .
وفي 13 يوليو استدعاني المحقق محمد عبد السلام بك فظننته حصنا لي ولكني وجدته عونا لرجال السلطة التنفيذية على .
• اتهام عبد الهادي بقتل حسن البنا :
وفي يوم 14 يوليو حضر الملازم كمال الرازي وأخرجني من السجن لتوصيلي إلى نيابة الاستئناف ولكنني فوجئت بالصاغ محمد على صالح والملازم فاروق كامل يصحباني إلى محطة القاهرة . وصعدت إلى القطار الذاهب إلى الإسكندرية. وبمجرد تحرك القطار أدخلني صالونا وجدت به إبراهيم عبد الهادي باشا - أحب أن أسجل أن هذه المقابلة لم تكن كما زعم دولة الباشا بخصوص أحمد محمود يوسف ابن خالي . وإنما كانت بخصوص التحقيقات نفسها وكان مع عبد الهادي باشا محاضر التحقيقات .
وأخذ الباشا يسألني عدة أسئلة حتى يئس منى لأني لم أجبه على شئ – فقال لى : ما رأيك في شعور الإخوان بعد قتل مرشدهم ؟ فقلت : إن شعورهم ينحصر في أن دولتك قاتل حسن البنا . فذهل الباشا , وكان لهذا الرد وقع أليم في نفسه , وطلب مني الإفصاح عن هذا القول فقلت له:
إننا نعلم جميعا أن الأنوار أمام جمعية الشبان المسلمين أطفئت , وارتكب الحادث بسيارة محمود بك عبد المجدي رئيس المباحث الجنائية .. فأطرق الباشا مليا ,وطلب لى مشروبا " ساقع " ولكنني رفضت لأني كنت صائما في رمضان فأذن لى بالخروج فخرجت .
• دماء على الحائط:
ثم قال : وقد فاتني أن أذكر حينما دخلت الحجرة رقم ( 12) في سجن الأجانب ,وجدت على الحائط آثار دماء مشار إليه بقوس ومكتوب تحتها عبارات " لقد مزقوني إربا إربا وسعادتي في إيماني , وإيماني في قلبي , ولا سلطان لأحد على قلبي" ومذيلة بإمضاء إسماعيل على – وأظن أن آثار هذه الدماء موجودة حتى الآن .
• النيابة تنتقل :
وهنا طلب الدفاع أن تأمر المحكمة بتحقيق هذه الواقعة . فكلفت المحكمة الأستاذ صادق المهدي ممثل النيابة بالانتقال مع الشاهد وبصحبته الأستاذ أحمد السادة من هيئة الدفاع لى السجن ومعاينة المكان وإثبات حالته .
ثم طلبت المحكمة المتهم إسماعيل على وواجهته بالشاهد , فقرر أنه كان بهذه الحجرة وظل بها حوالي شهر ثم رحل بعد ذلك إلى سجن مصر . وقال إنه كتب كلاما كثيرا وآيات قرآنية ومنها نفس الكلام الذي ذكره الشاهد.. وقرر أنه كتب هذا الكلام بواسطة قطعة من زر جرس كان بالحجرة وحفر به هذا الكلام على الحائط تحت الدم الذي كان يمسحه على الحائط من آثار الضرب والتعذيب والجروح الموجودة بجسمه . وأضاف الشاهد قوله : إني أتذكر أن هذا الكلام مكتوب على الحائط على يسار الداخل على ارتفاع حوالي متر . وإني أنا شخصيا حفرت على الحائط عبارة " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "
• نتيجة المعاينة :
وجد أن كل ما قرره المتهم والشاهد صحيح حيث وجدت على الحائط عبارة " أيتها العصبة الطاغية لكم الجسد البالي فمزقوه إن شئتم إربا إربا , فإن ذلك لن يشقيني أبدا أبدا لأني سعادتي في إيماني, وإيماني في قلبي , وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا الله " وقد وقع على ذلك بإمضاء إسماعيل علي.
ووجد بجوار هذه العبارة كلمات" إيذاء زائد صبر زائد بلا زائد صبر زائد تعذيب زائد صبر يساوي نصر " – ووجدت آثار الدماء على الحائط في خطوط سوداء قاتمة اللون,ووجد أن مفتاح الجرس الذي أشار المتهم إلى أنه استخدمه في الحفر على الحائط مخلوع من مكانه وقد ركب بدله جرس آخر – وقد حرر محضر بكل ذلك وختم على الغرفة بالشمع الأحمر.
• العسكري الأسود:
هو أحد معالم ذلك العهد الدنس . وهو عار لا يمحي مهما طال الزمن وهو الشخص الدنئ الذي رضي لنفسه أن يكون آلة في يد البوليس السياسي في تهديد المتهمين بهتك عرضهم لحملهم على الاعتراف بما يريدون .
وقد ذكره المتهمون أمام المحاكم التي حاكمتهم.. ولكن الأدلة القانونية واسمه الحقيقي ومكان وجوده وقت المحاكمات , لم يكن متوفرا ..ولكن جريدة أسبوعية كانت تصدر في ذلك الوقت وكانت ذات نشاط صحفي مبتكر تسمى جريدة " الجمهور المصري " تبنت هذا الموضوع, وحملت على عاتقها كشف سر هذا الشخص الدنئ ..
وجازف اثنان من محرريها هما الأستاذان إبراهيم البعثي وسعد زغلول وقاما برحلة يكتنفها الخطر بعد أن أثبتت تحرياتهما أن هذا العسكري قد سرح من البوليس وأنه مقيم في بلدته الأصلية " إدفو"
واستطاع هذان الصحفيان – بطريقتهم الخاصة – أن يلتقيا بالعسكري الأسود في بلدته , ونشرت جريدة " الجمهور المصري " اسم هذا الشخص ومحل إقامته .. وبناء على ما نشر في هذه الجريدة أمرت المحكمة النيابة بإحضاره لسماع أقواله باعتباره شاهدا ..
وفي جلسة 10/5/ 1951 حضر هذا الشخص واسمه " أمين محمد محمود مرسي النقيب " في سن دون الثلاثين , وتمسك بالإنكار التام المطلق ..ولكن الدفاع كان قد علم بأن طريقة إحضاره من بلدته وحضوره إلى النيابة قد تخللها مناورات خطيرة قام بها البوليس السياسي في القاهرة.
وقد واجهه الدفاع بما أحرجه في كيفية تسفيره من بلدته إلى القاهرة , وفي نزوله أول ما حضر عند ضابط من ضباط القلم السياسي اسمه مرتضي ... مع أنه كان يجب أن يسلم نفسه مباشرة إلى النيابة .
وطلب الدفاع من المحكمة أن تسمع أقوال سعد زغلول الصحفي في جريدة " الجمهور المصري " فكان الموجود زميله بالجريدة الأستاذ البعثي فسمعت المحكمة أقوال على سبيل الاستدلال فقال :
- " إن زميلي سعد زغلول محاصر الآن بمنزل صديق له هو عبد الرحيم صدقي شقيق اليوزباشي مصطفي كمال صدقي . وقد عمد رجال البوليس إلى محاصرة زميلي حتى لا يحضر الجلسة ومنعوه من الخروج من المنزل بحجة أن إخوة العسكرى الأسود ينوون قتله , ولا زال أربعة من رجال البوليس السياسي يحاصرون المنزل حتى الآن .
وكانت المحكمة قد سألت العسكرى الأسود عن تاريخه في البوليس وعن كيفية لقائه بالأستاذين البعثي وسعد زغلول وعن كيفية حضوره وأجاب إجابات كان البوليس السياسي قد لقتها له قبل مثوله أمام المحكمة .
المحكمة – هل ما ذكره الشاهد الآن هو ما حصل في إدفو؟
البعثي – لا... هناك اختلافات كثيرة في أقواله . أولا أن هذا العسكرى قد ظل في المحافظة سنة كاملة لا ستة أشهر كما يقول – ثم إنه لم يكن يعرف شيئا عن القضية لدرجة أن أهالي بلدته جميعا لا يعرفون أن اسمه هو ما نشر في الجرائد لأنه مشهور باسم أمين النقي .
• حيدر باشا عاوز راجل صعيدي :
وقد اهتديت في البلدة على الشيخ يوسف ناظر المدرسة لعلاقة سابقة بيننا , ولما سألته عن أمين قال عندنا أمين الخطيب . فكلفته بإحضاره في منزل أحد أقارب الشيخ . ولما حضر كنت متحيرا كيف أبدأ الكلام معه. وفجأة انطلق زميلي سعد زغلول وقال له :يا أمين إن حيدر باشا في حاجة إليك لأنك جل شهم وهو في حاجة إلى رجل صعيدي زيك:
- اعترافات بالتعذيب :
ثم تحول الكلام إلى رجال القلم السياسي ,ووجدت منه أنه يميل إلى ضابط القلم السياسي ويعرف عنهم الكثير . حتى إنه يعرف أن الصاغ العشري نقل إلى البحيرة . ولما سألته عمن كان معه أثناء تعذيب الإخوان ذكر اسم مصطفي التركي وعسكري آخر بالفيوم وأنه هو وذلك العسكري كانا مكلفين بارتكاب جرائم تعذيب الإخوان .
ولما توغلنا في الحديث ارتعش وبدت عليه علامات الاضطراب والتفت إلى وقال : أنا عارفك مش كده ؟ فقلت له أيوه أنا كنت أتردد على المحافظة أحيانا – ومن هذا الوقت بدأ بتخوف ويتهرب من الحديث .
وهنا ارتفع صوت العسكري ونظر إلى الأستاذ البعثي وقال : أنا خفت منك ؟ أنت يا سلام .. أمال كيف وصلتك المحطة وأنا خايف منك ؟
واستأنف الأستاذ البعثي كلامه فقال : أنا سألت شخصا في البلد عن أمين فقال لى : أن أمين هذا عفريت .. ده ينط على البيوت .. وأى واحدة تعجبه في البلد ينط عليها بالليل الساعة 12 منتصف الليل .
واستطرد يقول : أني فهمت أثناء حديثي مع العسكري في بلدته أنه يكره الإخوان جدا وحاقد عليهم لأقصي حدود الحقد , وكان يسألني أثناء الحديث هل أحد من الإخوان يتهمني في القضية أنا على كل حال كنت عبد المأمور, وأنا مالي وإحنا في الأول خالص لم نفعل شئ مع الإخوان وإنما في الآخر الحقيقة نفذنا الأوامر , وعملنا فيهم كتير خالص .
وبعد قضاء هذه الفترة معه في البلدة طلب منا بإلحاح أن ننام عنده ليلة في البلدة ولكنا تخوفنا جدا وآثرنا السفر ..وودعنا هو حتى مغادرة القطار .وعند قيام القطار من المحطة نظر إلى وقال : إذا جري لى حاجة أنت تكون المسئول ..وقد نفذنا بعمرنا ..
• شبكة .. وشبكة :
وقد فاتتني نقطة وهي أن هناك محاميا سعديا أتصل بمأمور المركز لتهريب العسكري .
ووصل العسكري الساعة 12 ظهر يوم الخميس , فعملنا عليه شبكة . كما عمل البوليس السياسي عليه شبكة هو الآخر وكان البوليس على اتصال به دائما , وقد عقد البوليس اجتماعا حضره الصاغ العشري قرر فيه قتل البعثي وسعد زغلول ,
• جهاز لكشف الكذب :
ولما وجد الدفاع أن الشاهد معتصم بالإنكار المستمر وقف الأستاذ عبد الرحمن الوكيل المحامي وقال: إني أود أن أقدم للمحكمة الآن موضوعا هو الفريد من نوعه , ولم يعرض على القضاء المصري من قبل .. واستطرد يقول : أن هذه القضية من أخطر القضايا وإنها ترتكز على نقطة وهي : هل هناك تعذيب أم لا . وهذا لا يثبت إلا من أقوال هذا الشاهد.
وهناك من رجال القانون من كرسوا حياتهم وجهودهم لمعرفة حقيقة أقوال الشهود ومطابقتها للحقيقة فنري الدكتور كيلر من شيكاغو ظل 45 عاما يبحث هذه المسألة حتى وصل إلى صنع جهاز يوضع عليه المتهم المراد أخذ أقواله ويبدأ في استجوابه فيعمل الجهاز على تسجيل كل حركاته من ضغط الدم وحركات قلبه وأعصابه وهناك شريط بالجهاز يسجل كل ما يدور من مناقشة .
ومن حسن حظنا أن هذا الجهاز الفريد الذي اعتمد عليه القضاء في أمريكا وقد وجد في مصر عند أحد المشتغلين بالمسائل النفسية وممكن أن تأمر المحكمة بوضع هذا الشاهد على هذا الكرسي .
• شهادة الضابط مصطفي كمال صدقي برؤيته التعذيب :
وكان ضابطا بالجيش وحكم عليه بخمس سنوات بتهمة الاتفاق الجنائي وصدر عنه عفو ملكي وقد قرر في جلسة 15 / 5/ 1951 أنه رأي المتهمين الإخوان وحدد أسماءهم يأتون محمولين والدماء تنزف من جروحهم وكان هو يضمدها .
• شهادة جار لقسم مصر القديمة كشف كل ما جرى بداخله :
وهي من أهم ما أدلي به من شهادات فقد استمعت المحكمة في نفس الجلسة إلى الأستاذ عبد العزيز الشيري الموظف بوزارة الحربية وفي سن الستين يسكن بجوار قسم مصر القديمة بينه وبين القسم ستة أمتار ,
المحكمة – هل كنت موجودا بالمنزل يوم حادث رئيس النواب السابق ؟
الشاهد – نعم .. رجعت من مصر حوالي الساعة التاسعة مساء فوجدت سيارات كثيرة تقف على جانبي الطريق وزعيق وهيصة . ولما دخلت المنزل سمعت صراخ ينبغث من حجرة سجن القسم الواقعة بجوار منزلي .. فصعدت إلى سطح المنزل في الظلام لأتبين الأمر . فإذا بي ألاحظ أن الحجرة المنبعث منها الصوت مضاءة بنور قوي , وفيها يقف إبراهيم عبد الهادي باشا وبجواره أفندي يمسك ورقة وقلما . وكثير من الضباط والعساكر ومعهم حزم عصي وكرابيج بعضهم يتناوب ضرب شخص لم أتبينه لأنه كان تحت الشباك .
جهنم الحمراء – وكان هذا الشخص المضروب يصيح بأعلي صوته ويستغيث فلم أتمالك أعصابي فنزلت وخرجت من المنزل ولم أعد إليه إلا الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل ..وعندما صعدت إلى سطح المنزل مرة أخري وجدت منظر جهنم الحمراء في الحجرة وظل هذا المنظر المؤلم حتى الفجر .
المحكمة – الثابت أن الحادثة كانت الساعة التاسعة وإبراهيم عبد الهادي باشا لم يكن موجودا في ذلك الوقت ..
الشاهد – أنا كنت الساعة دى مأخوذا برهبة الموقف فلم أفكر في أن أنظر في ساعتي حتى أ‘رف الساعة كام بالضبط وعلى كل حال أنا انتابتني نوبة ولا زالت مؤثرة على أعصابي حتى الآن – وفي صبيحة اليوم التالي منعت أولادي من الخروج لصلاة الجمعة ..
وقد فوجئت بعد ذلك بهجوم رجال البوليس وتفتيش منزلي والقبض على وعلى أولادي وهم طبيب ومحام وطالب بالهندسة وأودعنا جميعا القسم بالحجرة نفسها التي كان يجرى بها التعذيب وكانت ملطخة بالدماء ثم أخرجونا منها وأعادونا مرة أخري ومكننا بها عشرة أيام .
النيابة – كيف تبينت الحجرة ومن فيها ؟
الشاهد – بمنظار مكبر كان معي , وسمعت عبد الهادي باشا بأذني وهو يتفوه بألفاظ بذيئة أنتزه عن ذكرها الآن بل يتنزه عن ذكرها كل آدمي, وكنت أسمعه يقول للشخص المطروح تحت الشباك : اخلع الل.... يا.... يا.... شهود آخرون – وقد شهد شهود آخرون في هذه الجلسة بأنهم رأوا التعذيب وهم السادة : عمر السيد غانم وعبد الفتاح محمد وحسن الشافعي وفايد عبد المنعم .
• البوليس السياسي يمنع إسعاف المعذبين :
أما الدكتور عبد الحميد زاغو حكيمباشي بوليس مصر والدكتور محمد كمال قاسم طبيب الأمراض العصبية والعقلية لمصلحة السجون فقد شهدا في هذه الجلسة برؤيتهم المتهمين في حالات تستدعي الإسعاف وكان البوليس السياسي يمنعهما من إسعافهم .
• شهادة اليوزباشي كمال صقر برؤيته التعذيب :
المحكمة – هل عاصرت فترة تحقيق قضايا الإخوان ؟
الشاهد – عاصرت معظمها ثم طلبت نقلي من القلم السياسي وأنا الآن بسواري بوليس مصر .
المحكمة – ما الداعي إلى طلب نقلك ؟
الشاهد – لأني لم أوضع في الوضع اللائق بي والذي كنت أطمع فيه حيث كانت وظيفتي هي نقل المتهمين من مكان لآخر .
المحكمة – هل شاهدت وقائع تعذيب ؟
الشاهد – رأيت بعض المتهمين معذبين ومضروبين ولكني لا أذكرهم بالضبط ,وإذا ذكرني أحدهم بأي واقعة فربما أتذكر كل شئ .
( وهنا طلبت المحكمة من المتهمين الوقوف ,واستعرضهم الشاهد) ثم أشار إلى مصطفي كمال عبد المجيد وقال أن هذا المتهم عندما كان يراد نقله إلى دورة المياه كان يحمل على الأكتاف , لأنه لم يكن يقوى على الوقوف على قدميه من آثار الضرب – ثم أشار إلى على رياض وقال : أن هذا المتهم رأيته مستلقيا على نبة بحجرة أحد الضباط ورجليه مبتورة خالص – وأشار إلى نجيب جويفل وقال : رأيته ملقي على الأرض بحجرة الصاغ العشري حوالي الساعة الرابعة مساء والدم ينزف من جسمه .
المحكمة – ألا تعرف من كان يشترك في التعذيب ؟
الشاهد – ثلاثة أرباع الضابط كانوا يشتركون في التعذيب بل كان يجري التعذيب من المخبرين على مرأى منهم . وأنا على كل حال كنت من الضباط ولكن الحمد لله ( ورفع يديه إلى أعلي وسكت عن الكلام ) . شهادة رجال القضاء والنيابة
نظرا لما لشهادة رجال القضاء ورجال النيابة من أهمية خاصة ولما لها من دلالات خطيرة فقد رأينا أن نلفت القارئ إليها بأفرادها بعنوان خاص
• شهادة القاضي محمد أسعد محمود :
سئل عن معلوماته عن التعذيب حين كان يعمل وكيلا للنائب العام سنة 1949 فقال :
بعد أن أثبت إصابات يوسف عبد المعطي تحادث معي الصاغ توفيق السعيد تليفونيا وأخبرني بأن القلم السياسي يتعجب لأني أثبت إصابات يوسف عبد المعطي وأنه بسيل الذهاب إلى النائب العام ليشكوني إليه .. فأحسست وقتها كما قلت أن ضميري كمحقق قد مس عنيفا ,وأن عوامل خارجية تريد أن تتسلل للتأثير على في عملي فلم أتمالك نفسي من الغضب وقلت : ليشك من يشاء . وحضر بعد قليل صلاح مرتجي بك وكيل النائب العام وقتئذ وأخبرته بما حدث فقال لى : لا تهتم بذلك .وانتظرت لأن يحادثني النائب العام في ذلك ولكنه لم يفعل .
والذي أستطيع الجزم به أنني بدأت في التحقيق في قضية السيارة الجيب وحيل بيني وبين الاستمرار فيها في 4 يناير .
وسئل : هل تذكر اسم جمال الدين عطية كاتب التحقيق ؟
فقال أيوه ... إرضاء لضميري أقول : في الفترة الأخيرة من عملي في قضية السيارة الجيب حرر معي التحقيق , وأذكر أنني دهشت عندما علمت بعد ذلك أنه ضبط في منزل من منازل الأوكار لأنه كان في استطاعته والمستندات في يده أن يتلفها أو أن يفعل ما يشاء ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك..
• شهادة الأستاذ عصام الدين حسونة :
س- هل كنت وكيلا للنائب العام في سنة 1949؟
جـ - نعم كنت أعاون النيابة في قضايا الإخوان .
س- هل تذكر أنك رأيت بعض المتهمين ممن لم تحقق معهم حضرتك ؟
جـ - كنت أ‘مل في نفس الجناح الذي يعمل به حضرات المحققين في القضية وكنت بحكم مكاني وعملي وثيق الصلة بالضباط الذين عهد إليهم بنقل المتهمين وبكتبة النيابة .وبكل من يتصل بهذه القضية وكنت أسمع من هؤلاء جميعا يروون ما يقع على المتهمين من تعذيب واعتداء وكنت أيضا أشهد بعيني بعض المتهمين مصابين بإصابات ظاهرة .
• قضية وكيل النيابة عدلي بك بغدادي
ثم قال الأستاذ عصام : والذي أذكره من وقائع معينة حتى أغني الدفاع عن الأسئلة أنه في صباح ذات يوم سمعت من زملائي أن خلافا قام بين عدلي بك بغدادي وبين إسماعيل بك عوض الأفوكاتو العمومي , لأن الأستاذ عدلي وكيل النيابة شاهد في بعض المتهمين إصابات فأثبتها وطلب إحالتهم إلى الطبيب الشرعي فلم يوافق الأفوكاتو على ذلك وأخذ عليه هذا العمل , ولعل هذا الحديث وصل إلى جميع أعضاء الهيئة لأنه أذيع وقتئذ أن حضرة وكيل النيابة كان محل غضب وأنه نقل بسبب هذا .
• الأفوكاتوا العمومي يرفض إثبات الإصابات:
الأوفاكاتو العمومي أى المحامي العام ) وواصل الأستاذ عصام شهادته فقال :والواقعة الأخيرة التي أعلمها –ولعلها كانت في نفسي لجسامتها ولأني علمتها من مصدر ليس محل شك في اعتقادي – هي أن أحد المتهمين واسمه البساطي حمل إلى غرفة المحقق حملا لشدة إعيائه بسبب إصابات , وأن المحقق لم يصف حالته , وكان المحقق هو الأفوكاتو العمومي إسماعيل بك عوض .
• مفاجأة:
وقد سألت المحكمة الأستاذ عصام عن المصدر الذي وصلت إليه منه هذه المعلومات فأجاب بقوله " في سبيل تحقيق العدالة والمصلحة العامة أستبيح لنفسي أن أقول أنه حضرة الأستاذ فتحي مرسي مرسي ممثل النيابة في هذه القضية .
ممثل النيابة – أنا ؟ يظهر أن الذاكرة خانتك يا عصام بك.
• كان يسب المتهمين :
وسئل الأستاذ عصام ألم يسمع بأن إسماعيل بك عوض كان يسبب المتهمين ؟ فأجاب بقوله " لم أسمع هذه الواقعة بالتحديد , وإنما كان الحديث المتبادل بين كتبه النيابة ومن يتصل بالتحقيق أن مثل هذه الواقعة تقع أحيانا من هذا المحقق .
• معاملة الجواميس :
وسئل هل يذكر بعد ضبط محمد مالك أنه سمع من أحد رجال البوليس أن تعذيبا غير طبيعي في بشاعته وقع عليه ؟
فأجاب بقوله " نعم سمعت من أحد كبار رجال البوليس أن هذا المتهم ضربوه بما لو أصيبت به جاموسه لنفقت ".
صدام بين الدفاع والمحكمة
عنه هذا الحد من الشهادات المثيرة التي تقطع بأن هناك تعذيبا بشعا قد وقع علي المتهمين في هذه القضية , لم تستطع هيئة الدفاع أن تسير في القضية السير العادي واضعة موضوع التعذيب على الرف في صورة دفوع كما تريد المحكمة .
عند هذا الحد من الشهادات المثيرة التي تقطع بأن هناك تعذيبا بشعا قد وقع على المتهمين في هذه القضية , لم تستطع هيئة الدفاع أن تسير في القضية السير العادي واضعة موضوع التعذيب على الرف في صورة دفوع كما تريد المحكمة .
ففي جلسة 24/5/ 1951 وكان الدفاع من قبل قد طلب سماع أقوال محمود إسماعيل بك الذي كان يحقق القضية ثم نزعت منه وأسندت تحقيقاتها إلى إسماعيل عوض بك كما طلبوا سماع إسماعيل عوض بك أيضا – في هذه الجلسة قام الدكتور عزيز فهمي المحامي وقال: أنني مصر على سماع شهادة محمود إسماعيل بك ولكنني لا أوافق على سماع شهادة إسماعيل عوض بك لأن المتهم لا يسمع شاهدا وأن إسماعيل عوض بك ومحمود منصور باشا النائب العام السابق قد ارتكبا جرائم ومخالفات توقفهما موقف الاتهام , ونحن نترك للمتهمين الرأي بعد الانتهاء من القضية في رفع الدعوي العمومية ضد هذين الشخصين .
ومضى الدكتور عزيز يقول : إن هذه القضية قد أساءت إلى سمعة مصر في الخارج إساءة بالغة وما زالت الصحف الأجنبية تتحدث عن العسكرى الأسود وعن وقائع التعذيب وتصف التحقيقات بأوصاف لا تليق بالقضاء المصري إذ ذكرت إحدي الصحف الأوربية أن التحقيقات التي أجريت في القضية لا تقارن إطلاقا بما كان يحدث في العصور الوسطي .
ولما رفضت المحكمة طلبات كان قد طلبها قرر الانسحاب من الدفاع.
• الجلسة الأخيرة والحاسمة – تأجيل القضية لدور مقبل.
وبعد أن سمعت المحكمة مرافعة النيابة وفي جلسة 10/6/1951 قام الأستاذ عبد المجيد نافع وقبل أن يبدأ دفاعه , طالب بأن تفصل المحكمة في بطلان الإجراءات نظرا لما سمعته من شهادات قاطعة بحدوث التعذيب واشترك النيابة في تزوير القضية وسمي إسماعيل عوض بك " إسماعيل عوض بك" إسماعيل ميكيافيللي " وأبرز شهادة القاضي محمد أسعد محمود وعضوي النيابة عدلي بغدادي وعصام الدين حسونة وتمسك بذلك ..
وقد أيده في ذلك الأستاذان أحمد حسين وفتحي رضوان .. وقال أحمد حسين :
"إن الدفاع قبل أن تكون المحكمة رأيها في هذه القضية يسجل أن هذه القضية تحركت من اعتداء على حامد جودة إلى قضية اعتداء على الحريات العامة في شخص المتهمين . ونحن نقول أن هذا التحقيق مبني على الجريمة وأن التعذيب عدم إثباته في التحقيق هو جريمة التزوير بعينها ,وهو تزوير وجرائم يقال عنها إنها تحقيق – فلم يكن هدف التحقيق الوصول إلى الحق وإنما هدفه هو تزييف الحق للوصول إلي هدف خاص "
وانضم إليه جميع هيئة الدفاع – وقال الأستاذان شمس الدين الشناوي وأحمد السادة :
" لن يتكلم محام في موضوع القضية حتى يفصل في هذا الدفع الذي تقوم عليه القضية . وإن الدفاع في هذا الطلب ليس متعسفا ". وقال الأستاذ سمير حيدر : أن المحكمة كانت قد وعدت في جلسة 8 من أبريل الماضي بالأخذ بما طلب به الدفاع من حق التصدي للتهم الموجهة إلى المحققين وقررت إرجاء هؤلاء الشهود بتنفيذ قرارها فيما يتبع مع هؤلاء الشهود المتهمين ..وأصبح الموقف معلقا مبتورا . ووقف الأستاذ طاهر الخشاب فأيد مطالبة المحاكمة بحق التصدي وإلا فإن الدفاع سيستعمل حقه في رد أحد أعضاء المحكمة لقرابته بأحد الشهود الذين اتهموا بارتكاب التعذيب .
وهنا فطن عضو اليسار إلى أنه هو المقصود. فقررت المحكمة رفع الجلسة للنظر في هذه الطلبات .. ثم عقدت الجلسة وقام رئيس المحكمة وهو في حالة نفسية تسترعي النظر وقرر تأجيل القضية لدور مقبل .
ونحب أن نحيط القارئ علما بأن هذه القضية حين جاء ميعاد جلسة للنظر فيها في دور مقبل .
وكانت هناك مفاوضات تدور في خلال ذلك بين هيئة الدفاع وبين رياسة محكمة استئناف القاهرة – انعقدت جلستها لتقرر الإفراج عن عدد من المتهمين .. أما الحكم في القضية فلم يصدر إلا في سنة 1954 .
• عود إلى البوليس السياسي:
بدأنا هذا الفصل بالإشارة إلى البوليس السياسي ونوهنا بدوره في التلفيق والتعذيب .. ثم كانت وقائع هذه القضايا برهانا ساطعا على أن هذا البوليس هو دولة داخل الدولة ,وأنه يتعالي على القانون ويري من حقه أن يسخر أجهزة الدولة لتنفيذ أغراضه لا يستثني منها أجهزة النيابة العامة والتحقيق ..وأنه في تعامله مع المواطنين لا يعترف بحقوق المواطنة ولا الإنسانية ولا الآدمية . ولم يكن الإخوان المسلمون أول من عاني من إرهاب هذا الجهاز ومن تسلطه وإجرامه , بل عاني منه جميع من عملوا في حقل السياسة المصرية . وإن كان معاناة الإخوان هي أشد أنواع المعاناة ..... غير أن هيئة من هذه الهيئات السياسية حين أتيح لها أن تتصدر منصة الحكم لم تجرؤ كما سبق القول على مس هذا الجهاز أدني مساس .
وشاءت الأقدار أن يكون عرض هذه القضايا على القضاء في أيام حكم حزب الوفد الذي كان أكبر عامل مهد له الطريق إلى الحكم هو ما ارتكبه البوليس السياسي من مآثم ضج لها الشعب وكفر بالقائمين على الحكم في أيامها .. فلما جاءت حكومة الوفد انتظر الناس منها عملا حاسما إزاء هذا الجهاز الإجرامي وطال انتظار الناس وهم يقرأون في الصحف كل يوم من وقائع قضايا الإخوان ما يفضح جرائمه ويكشف عن خفاياه ومآثمه .
• الدفاع يطالب حكومة الوفد بإلغاء البوليس السياسي :
وقد تردد هذا الشعور في ثنايا ما كان يدور في جلسات هذه المحاكم من مناقشات وما يلقي فيها من مرافعات ومن ذلك ما أشرنا إليه من قبل وما جاء على لسان الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي في جلسة 27 مارس 1950 في قضية الأوكار حيث قال : إن البوليس السياسي في مصر هو منظمة إنجليزية اسما ولحما ودما وعظاما ونخاعا فالإنجليز هم الذين أوجدوه ولن تغب عن الذاكرة تلك المآسي التي مثلت على المسرح السياسي منذ عصر قنبيدس إلى اليوم . ثم قال : في قضية قنابل 6 مايو ترافع فيها أصحاب المعالي والعزة عبد الفتاح الطويل باشا وسليمان غنام بك وعبد اللطيف محمود بك الوزراء وعبد الفتح حسن بك الوكيل البرلماني وكامل يوسف صالح بك وكيل مجلس النواب والأستاذ مصطفي موسي عضو مجلس النواب كان متهما..وكل هؤلاء يجأرون بالشكوى من البوليس السياسي ,وحدثت مشادات في الجلسة حامية الوطيس..وها هم الآن قد أصبحوا في الحكم . وبيدهم السلطات التشريعية والتنفيذية .. فلما لا يلغون القلم السياسي ؟
• سؤال في مجلس النواب :
وفي 16/4/1951 تقدم الأستاذ فوزي البرادعي عضو مجلس النواب إلى وزير الداخلية بالسؤال التالي : " ما هي الإجراءات التي اتخذتها الوزارة حيال الجرائم التي ارتكبها رجال البوليس السياسي في القضايا التي نظرت أمام محاكم الجنايات والتي تنظر الآن , واعترافات مالك السجين . وما هي الإجراءات التي تتخذها الوزارة لوقف هذا السيل من الجرائم مستقبلا؟
ولكن حكومة الوفد كانت في ذلك الوقت منهمكة في إعداد تشريع يقيد حق تكوين الجمعيات الذي بسطنا الحديث فيه في فصل سابق – ومثل هذا لتشريع يكون تنفيذه بطبيعة كونه قيدا على الحرية موكولا إلى هذا الجهاز... ولذا فإن الحكومة لم تعر سؤال النائب أدني اهتمام .
( استجواب لوزير الداخلية :
ولكن النواب الذين قطعوا العهود لناخبيهم على أن يكون أول عمل لحكومتهم أن تستجيب لشعور الشعب وتطهر الأداة الحكومية من هذا لجهاز وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه بين شعب متلهف وحكومة معرضة أن نستها مناصبها ما قطعت للشعب من وعود .
فلما رفعناهم إلى غاية لعلا
- بأكتافنا حيث الأمور بهم تجرى
لووا رأسهم عنا وعن كل مبدأ
- إليه دعوا إذ هم يعيشون في فقر
وأخيرا تقدم عضو آخر من أعضاء مجلس النواب هو الأستاذ سليمان عبد الفتاح باستجواب لوزير الداخلية نوقش في جلسة المجلس يوم 14 / 5/ 1951 وهاك نص الاستجواب :
"إن قلم البوليس السياسي هو أثر من آثار الإنجليز فقد أنشئ في عهد اللورد كرومر ليكون عونا للإنجليز, وسوط عذاب على الوطنيين. وفي الميزانية حوالي مائتي ألف جنيه تتفق على هذا البوليس السياسي كل عام .. وقال النائب : إن البوليس السياسي أصبح نقمة على هذا البلاد , ويجب قبل أن نبدأ بجلاء الإنجليز عن القتال أن نبدأ بجلاء البوليس السياسي عن مصر .
ثم قال : إنه يودع مكتب المجلس كشوفا بأسماء الموظفين الذين تولوا تعذيب المتهمين في القضايا السياسية , وأشار إلى حادث كوبري عباس . فذكر أن طلبة الجامعة خرجوا يوم 9 فبراير 1946 لإعلان غضبهم على تهاون الحكومة في حقوق البلاد وفي تحقيق أهدافها الوطنية , فصدرت الأوامر من موظف كبير مسئول ما زال يشغل منصب وكيل وزارة ( وهنا سئل من هو فقال : عبد الرحمن عمار بك ) بفتح الكوبري والهجوم على الطلبة بالمدافع الرشاشة والبنادق والعصي , وراح الطلبة يتساقطون في النيل كأوراق الشجر في أيام الخريف وأسفر الحادث عن إصابة 160 طالبا بعاهات مستديمة وفقد 28 طالبا لم يعرف مقرهم حتى الآن.
وتلا حضرته بيانا أصدره النحاس باشا حينذاك طالب فيه بضرورة معاقبة المواظفين الذين تسببوا في هذا الحادث وارتكبوا هذه الجرائم . ثم قرأ حيثيات حكم صادر في قضية تعويض أقامها طالب ضد الحكومة بسبب إصابته في المظاهرة.
وتكلم عن محاولة اغتيال النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا وعن اغتيال الشيخ حسن البنا إذا عجز مصطفي النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا في ذلك الوقت عن إثبات الجرائم فليس مستحيلا عليهما الآن .. ولكن الأمور ظلت كما هي ولم تحرك الحكومة ساكنا "
وتكلم عن خطاب وصله من متهم يصف فيه كيف عذبوه ثم جاءوا له بالعسكري الأسود فاضطر أن يعترف بما أملوه عليه .
وروي النائب أن أحد رؤساء النيابة أثبت في محضره بعض حوادث التعذيب فكان جزاؤه النقل إلى جهة نائية بعد أن سحبوا منه التحقيق ,وأن أحد وكلاء النيابة علم أن بعض المتهمين قد أوحي إليهم أن يقحموا اسم النحاس باشا في التحقيق حتى يستدعيه المحقق لسماع أقواله وعندئذ ترتكب جريمة ضده , وعلى أثر ذلك اتصل وكيل النيابة بالنحاس باشا وحذره من الحضور فكان جزاؤه النقل إلى جهة نائية أيضا.
• الحكومة تمالئ البوليس السياسي :
وقالت النائب : أن الحكومة تتعمد ممالأة هؤلاء الموظفين الذين ارتكبوا هذه الجرائم – ثم اقترح تأليف لجنة برلمانية لتحقيق هذه الجرائم وعرض تقريرها على المجلس وطالب الحكومة من الآن بحل البوليس السياسي وبالتحقيق في جرائم التعذيب والقتل .
• نتيجة الاستجواب :
تكلم عبد الفتاح حسن بك مدافعا عن الحكومة وقال أن وزارة الداخلي قررت تأليف لجنة يكون واجبها الاطلاع على جميع القضايا المحفوظة والتي ينطبق عليها وصف هذا الاستجواب لتحديد مسئولية الموظفين المشار إليهم .
على أن رد عبد الفتاح حسن هذا لم يكن أكثر من مسكن, فإن أى إجراء إيجابي لم يتخذ حيال هذا الجهاز .
الباب الثالث أخيرا المؤامرة تتحطم على صخرة صلدة من نزاهة القضاء المصري
- • مكانة القضاء في الأمم وموضعه في الإسلام.
- • من الأحكام الخالدة
- • تعقيب وتحليل لهذه الأحكام .
الفصل الأول مكانة القضاء في الأمم وموضعه في الإسلام
القضاء الصالح النزيه هو في حياة الأمم قلبها النابض ومركز الإحساس فيها , الذي يتوقف بقاء حياتها عليه .. وإذا تطرق الفساد إلى مؤسسات دولة من الدول وبقي قضاؤها سليما نظيفا كان هذا القضاء حصنا لها دون الموت والفناء ..وإذ أن قضاءها النظيف قادر أن يبعث الحياة والنظافة والنقاء في أعصاب بقية المؤسسات .. ذلك أنه هو صمام الأمان فلا تنفجر الدولة من داخلها مهما اختلت أجهزتها ما دام صمام الأمان صالحا وعاملا .
وعند فساد أجهزة الدولة يكون أفراد الأمة هم ضحية هذا الفساد .. فإذا وجد هؤلاء الأفراد من يلجأون إليه من ظالمهم , فإن إنصاف القضاء إياهم يكون بمثابة إنذار لمغتصبي الحقوق بأن فوقهم سلطة تلزم كل فرد – مهما عظم شأنه – حدوده , وترده إلى حجمه وتخضعه راغما لطائلة الحق والقانون ... فلا يجد هؤلاء المتطاولون بمناصبهم على عباد الله بين أيديهم من سبيل إلا أن يرعووا عن غيهم ويكفوا من غرب غطرستهم ويفيتوا إلى الحق والصواب ... وهنا تجد العدالة طريقها إلى كل أجهزة الدولة .
والمقصود بصلاح القضاء صلاح رجاله , فإن القانون وحده لا يردع ما لم يقم على إعماله إنسان . فإذا كان هذا الإنسان صالحا أخرج للناس من القانون أداة فعالة وخلقا سويا وإذا كان غير ذلك أخرج من القانون مسخا منفرا وخلقا مشوها ,وصار القانون في نظر الناس أضحوكة يتندون عليها ,وألعوبة يشكلونها حسب أهوائهم , ووفق شهواتهم .
والقوانين المتحضرة – مهما اختلفت تفاصيلها كلها تتوحي تحقيق العدالة بين الناس وكلها تعتبر المتهم بريئا حتى تثبت إدانته .وكلها – تعطي المتهم الفرص الكاملة للدفاع عن نفسه ولكنها ترفض الإغراء والإكراه وسيلة للحصول على اعتراف المتهم ,وكلها تعتبر المواطنين جميعا سواء أمام القانون. وهكذا فأصول القوانين واحدة ..ولكن القوانين على كل حال أجساد هامدة حتى ينفخ القاضي فيها روح الحياة فتنبض وتعمل وتؤثر وتوجه ..ولذا كان اهتمام المصلحين ومنشئ الدول منصبا جله على شخصية القاضي وتفكيره وخلقه وأسلوبه ومسلكه ..
وأعظم دليل على ما لشخصية القاضي من مكانة في الحياة هو أن الله سبحانه وتعالي جعل القاضي خليفة له في الأرض فقال جل شأنه معقبا على حكم أصدره داود عليه السلام في قضية عرضت عليه ( يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ( ص:26) ولم يكن هذا التعقيب الإلهي والتحذير الشديد إلا لأن دواد ترك لعواطفه- وإن كانت عواطف نبيلة- أن تتدخل في صياغة الحكم .. فما بالك إذا كانت العواطف التي ينبعث حكم القاضي منها غير نبيلة ؟! ... إنها تكون البلاء والدمار والخراب ... أليس القاضي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم .
وإذا عرف القاضي مكانته هذه في المجتمع فإن عليه إذا جلس مجلس القضاء لأن يتجرد من نوازع نفسه , ومن أهوائه وعواطفه التي كان عليها قبل أن يجلس هذا المجلس .. وعليه أن يري نفسه في هذا المكان وأرفع قدرا من كل إنسان في المجتمع لأنه صار خليفة الله في هذا المجتمع .
ولقد بلغ تقديس القضاء في الدولة الإسلامية مبلغا لم يبلغه في دول أخرى على مدى التاريخ فلم يكن في هذه الدولة المترامية الأطراف إنسان يرى نفسه أكبر من أن يمثل بين يدى القاضي ولو كان هذا الإنسان هو أمير المؤمنين .. روى الإمام الشعبي أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب خصومة . فتقاضيا إلى زيد بن ثابت . فلما دخل عليه أشار لعمر إلى وسادته ( أى قدم إليه وسادته ليجلس عليها) فقال عمر :هذا أول جورك أجلسني وإياه مجلسا واحدا . فجلسا بين يديه .وكما اشتد الإسلام في كتابه الكريم وحديث رسوله العظيم في تحذير القضاة من الميل مع الهوى , فقد عني أيضا بالخصوم فوجه إليهم تحذيرا عنيفا , حتى تكتمل بذلك العدالة التي هي هدف الإسلام وغايته الكبرى.. فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إنما أنا بشر , وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض , فأقضي له بنحو ما أسمع قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ".
واللحن بالحجة لا ينتهي مدلوله عند البراعة في الإلقاء , والإفتنان في تزويق الكلام والبلاغة في الأسلوب – كما قد يتبادر إلى الخاطر – بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير . فقد يكون اللحن بالحجة تعبيرا عن خصمين أحدهما حاكم والآخر محكوم ولدى الحاكم من وسائل القهر وأساليب التخويف والإغراء ما يلجم به لسان المحكوم فلا يجرؤ على بسط مظلمته والكشف عما يلقاه من قهر خصمه , رهبة منه وتوجسا وخوفا ... ورسول الله صلي الله عليه وسلم حين يتحدث في الشئون العامة لا يكون هدفه من الحديث مقتصرا على ما يعالج من مشكلة بذاتها في أيامه, وإنما هو يصوغ الحديث بحيث يتسع لما قد يجد في الأمة الإسلامية على مر الزمن .
قال الإمام ابن العربي – فيما أورده القرطبي – في معني قوله تعالي ( وعزني في الخطاب ) التي ختمت بها الآية ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) ( ص:23) وقيل غلبني بسلطانه لأنه لما سأله لم يستطع خلافه .
ومن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنة حكام المسلمين من بعده أنهم كانوا لا يختارون للقضاء بين الناس إلا أعظم العلماء ممن اشتهروا بالذكاء ,واتصفوا بالورع , وتنزهوا عن الشبهات .ولذا فإن أحكامهم كانت مضرب الأمثال ... قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : لا يستقضي ( أى لا يختار قاضيا) إلا من كان عالما بآثار من مضي , مستشيرا لذوي الرأي, حليما نزيها ورعا – وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه : ينبغي للقضاة مشاورة العلماء , وينبغي أن يكون القاضي متيقظا كثير التحذر من الحيل – وقال الإمام القرطبي في تفسيره : دل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق, وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرهما .
روى الإمام الليث قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان . فأقامهما ( صرفهما ) ثم عادا فأقامهما , ثم عادا ففصل بينهما , فقيل له في ذلك فقال :تقدما إلى فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه , فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك, ثم عادا فوجدت بعض ذلك ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما .
وكان أمير المؤمنين نفسه لا يري لنفسه الحق في الجلوس مجلس القاضي ليحكم في قضية يعلم هو علم اليقين من هو صاحب الحق فيها. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه " لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري – وروي أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فقالت له : احكم لى على فلان بكذا فأنت تعلم ما لي عنده فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا .
وكان على بن أبي طالب كرم الله وجهه أعظم من أوتي مواهب القضاء , وشهد له بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال : " أقضاكم علي " .وكانت أحكامه التي يصدرها فيما يعرض عليه من قضايا يحار ذوو العقول الكبيرة في فهمها حتى يشرحها لهم , ويبين لهم كيف استنبط حكمها من كتاب الله وسنة رسوله .. وهي أحكام رائعة لولا ضيق المقام لأثبتنا هنا طرفا منها , ولكننا هنا نكتفي – مناسبة للمقام – بنقل فقرات من كتاب له رضي الله عنه في كيفية اختيار القضاة وكيفية معاملتهم .
• من كتاب على رضي الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر :
وهذا الكتاب هو الذي عهد فيه إلى مالك بن الحارث الأشتر بالولاية على مصر – ويعد هذا الكتاب إحدى الوثائق التاريخية , بل إحدى الذخائر النادرة التي لم يجد الدهر بمثلها ولا تفتقت أذهان علماء الإدارة المتخصين حتى اليوم عن شئ يقارنها أو يدانيها . فكتابة – كرم الله وجهه – هذا جمع فيه طرائق الحكم, وأساليب الإدارة .. هو دستور كامل جامع مفصل , فيه كل ما يحتاج حاكم ليرسي دعائم حاكم صالح , يسعد الناس في كل نواحي حياتهم .. ويقع هذا الكتاب في اثنتي عشرة صفحة .وجدير بكل حاكم من حكام المسلمين اليوم أن يطلب هذا الكتاب ويرجع إليه ويطالعه بنظره وعقله وقلبه , ويتخذه دستورا لحكمه ليسعد ويسعد ويسير في حكمه على هدى ونور – وهاك فقرة من هذا الكتاب مما يتصل بكيفية الحاكم للقضاة وكيف يعاملهم .
" واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ,ويشتبه عليك من الأمور , فقد قال الله تعالي لقوم أحب إرشادهم : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله الرسول ..) ( النساء : 59) فالرد إلى الله بالأخذ بمحكم كتابه ,الرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة .
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور , ولا تمحكه الخصوم , ولا يتمادى في الزلة , ولا يصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ( لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق ) ولا تشرف نفسه على طمع , ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه ... أوقفهم في الشبهات , وأخذهم بالحجج, وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ,وأصبرهم على كشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم .ممن لا يزدهيه إطراء ,ولا يستميله إغراء ..وأولئك قليل .. ثم أكثر من تعاهد قضائه .
وأفسح له في البذل ما يزيل علته , وتقل معه حاجته إلى الناس .وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.
فانظر في ذلك نظرا بليغا فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا".
• القضاء المصري :
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الفساد كان مستشريا في جميع مرافق البلاد ..وأن جهازا واحدا من أجهزة الدولة لم يكن يخلو من فساد حتى السلطة التشريعية الممثلة في مجلس النواب والشيوخ كشفت بعض الظروف أنها لم تكن أقل فسادا.
أما الجهاز الذي يحق لمصر أن تفخر به وتعتز, والذي لم يستطع أن يتطرق إليه الفساد مع أنه ينحدر من أعلي رأس في الدولة – فهو جهاز القضاء ... هذا الجهاز قد صان نفسه مع تقلب العهود عن أن يكون مطية لعهد , أو حليفا لحكومة , أو مشايعا لنظام أو مجاملا لكبير .. بل كان يرى نفسه أكبر من كل عهد , وأعظم من كل حكومة وأرفع شأنا ومقاما من كل كبير .
وينبغي أن يكون مفهوما أن التزام القضاء لحدود مهمته , وترفعه عن مستوي من حوله ليس معناه أن يسلخ نفسه من الوطنية التي ينتمي إليها , أو أن يتعامي عما يدور في بلاده من أحداث .. فالفرق شاسع بين الوطنية عامة وبين الحزبية كما أن الفرق شاسع بين من يرتكب جريمة دفاعا عن النفس وبين من يرتكبها اعتداء على الآمنين .. ويقاس على ذلك من يرتكبون جريمة للتخلص من مستعمر غاصب وبين من يرتكبون الجريمة ضد المسالمين الشرفاء من أبناء وطنه .. إن مراعاة القضاء لأهداف الجريمة وللدوافع إليها لا يقدح في عدالة القضاء , ولا ينال من حياده , ولا يغص من ترفعه .
لم يكن القضاء المصري في يوم من الأيام متعاميا عن هذه المعاني الإنسانية والوطنية العامة بل كان بصيرا مرهف الحس – لا نحو الأشخاص – ولكن نحو المعاني السامية – فكانت أحكامه دائما مثلجة لصدور الوطنيين المعتدى عليهم من الظلمة الطغاة والمستعمرين .. لم يساووا في أحكامهم بين الدوافع الوطنية النبيلة وبين الدوافع الشخصية الوضيعة... كان القضاة المصريون دائما مكملين لنقص القانون سادين لثغراته .
وإذا لم يكن القاضي كذلك فلا خير فيه لأنه يكون عديم الشخصية وإذا كان القاضي مجرد لسان ينطق بنص قانوني على أنه الحكم أو القرار فإنه يكون بلاء على نفسه وعلى الناس ..وكيف لا والمتقاضون ينتظرون أن يكون حكم القاضي نتيجة تفاعل بين القانون وظروف القضية وعقل القاضي ؟.. وقد يتصل بهذا المجال ما قضي به عمر بن الخطاب حين جاءه الرجل بأجير عنده سرق, فلما أحاط عمر بظروف القضية , وعلم أن الرجل يظلم أجيره ويفتر عليه في الأجر تقتيرا لا يجد معه الأجير ما يسد حاجاته الضرورية .. لم يقض عمر بالنص القانوني الذي يقضي بقطع يد السارق , بل كان قضاءه أن أعفي السارق من العقوبة ووجه إنذارا إلى صاحب العمل بأن يزيد من أجر أجيره , وإلا فإذا عاد الأجير إلى السرقة مدفوعا إليها بالحاجة فإنه سيقطع يد صاحب العمل .
والأمثلة كثيرة للقضاة الذين تجاوزوا النص أمام ظروف القضايا .. جاء في تفسير الإمام القرطبي لقوله تعالي : ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) ( ص: 2) قال القاضي أبو بكر بن العربي " فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم المجرد , وفصل منه مؤكد , غير معرفة الأحكام,والبصر بالحلال والحرام, ففي الحديث يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم " أقضاكم على وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال , عارفا بالحلال والحرام, ولا يقوم بفصل القضاء ".
وعلى هذا سار القضاء المصري الذي استمد أصالته من تاريخه الإسلامي الحافل , ومن الذكاء المصري الفطري ,وإذا شذ عن هذا الإجماع قاض أو عدد قليل من القضاة فإن ذلك لا يطعن في الحكم العام على القضاء المصري , كما أن هذا الشذوذ لا يحملنا على افتراض سوء النية فيمن شدوا ملتزمين بحرفية النصوص فإن هذا مبلغ علمهم , ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وفي درجات التقاضي متسع لتدراك أخطاء هؤلاء الشاذين .
• صفحة مجيدة للقضاء مع الإخوان :
أما القضاء بالنسبة للإخوان المسلمين فإن له معهم صفحة مجيدة رائعة تسجل للقضاء المصري بحروف من نور . فلقد محص القضاء المصري قضاياهم تمحيصا كشف خباياها وأوضح ما طمس من معالمها واقتحم من خلالها إلى معاقل الظلم والقهر والعدوان , وبين للرأي العام المصري والعالمي من هو البرئ ومن هو المعتدي .
ولقد كان التخطيط مؤسسا على أن يقدم هؤلاء المتهمون إلى القضاء في ظل الإرهاب الحكومي الذي كان على رأسه إبراهيم عبد الهادي والذي سيكون شبحه مائلا أمام كل متهم فلا يجرؤ على الإفضاء بما سيما من سوء العذاب ولذا فقد رأينا النائب العام محمود منصور باشا – خادم ذلك العهد- قد أجهد نفسه في ضم جميع قضايا الإخوان مع قضية مقتل النقراشي باشا في قضية واحدة تقدم للقضاء في أقرب فرصة ليصدر حكمه فيها مرة واحدة قبل أن ينقشع ظلام الإرهاب الحكومي ولكن أعوانه من رجال النيابة عجزوا عن تلبية طلبه لكثرة عدد المتهمين ,ولما سيكون عليه ملف هذه القضية من ضخامة تعجز من يطلع عليه أن يحيط بكل ما فيه .
فلما أراد أن يزلزل أقدام الطاغية .... وزال الشبح .. تلك المتهمون ووجدوا من يستمع إليهم , فكشفوا عما كان يقترف من جرائم التعذيب وإهدار الكرامة – لا تحت سمع الحكومة ويصرها فحسب – بل وبأمر من رئيس حكومتها وتوجيهه .. ولقد هز الكشف عن هذه الجرائم البلاد من أقصاها إلى أقصاها لأن هذه البلاد بالرغم من شدة وطأة الاستعمار عليها فإنها كانت لا تزال تحتفظ بقسط من الشعور والحيوية .
ولقد كانت هذه القضايا فرصة أتيحت كشف الدفاع – الذي كان الكثير من أعضائه متطوعا – عن حقيقة الإخوان المسلمين وعن جهادهم وتضحياتهم مما كان الإخوان حريصين على إخفائه إيثارا لما عند الله فعرف المصريون والعرب لأول مرة أن لهم في تاريخهم الحديث مفاخر تذكرهم بمفاخرهم في عصورهم الأولي من الدعوة الإسلامية الباكرة واستقر في أذهانهم أن هذا الطراز من الرجال هو الذي يرجي علي يديه إجلاء اليهود عن البلاد المقدسة التي مكنهم الاستعمار من اغتصابها .
ولقد كان للشهادات التي أدلي بها أمام القضاء القائدان العامان للقوات المصرية في فلسطين اللواءان أحمد المواوي وفؤاد صادق صدى مدو في أسماع العالم كله لا سيما في أسماع المصريين – المجني عليهم دائما –والذين لم يكونوا يسمعون من أبواق الحكومة السعدية إلا ذما وافتراء وتحقيرا لهذه الفئة الطاهرة المجاهدة .
ولم يكتف القضاء بإصدار أحكام تبرئ ساحة هؤلاء المجاهدين بل كانت الروعة في حيثيات هذه الأحكام التي أشادت بهم ودمغت ذلك العهد بالاستبداد والتعنت والإرهاب .
وينبغي أن يكون ماثلا في ذهن القارئ أنه ليس معنى أن هذه الأحكام وقد صدرت بعد سقوط وزارة السعديين أن العهد الذي تلا هذه الوزارة كان عهدا جديدا .. لا بل إن العهد كان ممتدا , لم يتغير فيه شئ إلا الأشخاص الذين أتي بهم على المسرح .. أتي بهم المسيطر على المسرح .. المحرك من المصريين كان هو الملك وكان مؤلف المسرحية هم الإنجليز ..وكان هذا موجودين وكانا هما المسيطرين على مقادير البلاد.. ولكنهما مع ما كان لها من رهبة في صدور الناس .. وقد استطاعا التدخل في كل شئ واستطاعا إفساد كل شئ فإنهما عجزا عن أن يقتحما إلى ساحة القضاء التي كانت حيالهما أمنع من عقاب الجو.
وإذا كان الشئ بالشئ يذكر ونحن بصدد الإبانة عن مناعة مقام القضاء حتى ذلك العهد , أراني مذكرا بمشكلة من هذا القبيل كثر حولها الجدل في خلال عامي 1951,1952 حين وليت الحكم وزارة الوفد مؤيدة بأغلبية شعبية ساحقة , ومشمولة بتأييد الملك لأول مرة , ومعنى هذا أنها كانت وزارة وطيدة الأركان راسخة الأقدام نافذة الكلمة مما لم يتوفر لوزارة على الصعيد المصري من قبل..
وكان الدكتور عبد الرازق السنهوري في ذلك الوقت رئيسا لمجلس الدولة – وهو العالم القانوني المشهود له من الجميع – غير أن الدكتور السنهوري كانت له صفحة أخرى هي أنه كان من قبل عضوا في حزب السعديين وتولي منصب الوزارة في بعض وزاراتهم .
فلما جاءت وزارة الوفد أراد النحاس باشا رئيس الوزراء – بهذه السلطة المطلقة التي يملكها – أن يقتلع السنهوري من منصبه القضائي بدعوي أنه رجل حزبي . وأرسل إليه من يطلب إليه الاستقالة من منصبه فكان أن أعلن السنهوري على صفحات الجرائد أنه يوم تولي منصبه في القضاء تخلي عن حزبيته وقطع صلته بها وأنه لن يتخلي عن منصبه القضائي إلا أن ينحيه مجلس القضاء الأعلى ..ولما كان السنهوري كفاءة قانونية نادرة فقد تمسك به مجلس القضاء ..
وبذلك حكومة الوفد جهودا جبارة بجهازيها التنفيذي والتشريعي وبنفوذها الصحفي والإعلامي طيلة عام كامل .. دون أن تتمكن أقوي حكومة تولت الحكم في مصر في عهد الملكية من زحزحة السنهوري عن منصبه .. وسقطت الحكومة في عام 1952 وظل القاضي في منصبه ..
الفصل الثاني من الأحكام الخالدة
أولا – الحكم في قضية السيارة الجيب
مقدمة
لعل قد استبان للقارئ من الصفحات السابقة الصورة التي كانت التحقيقات تجري في إطارها . والمجزرة البشرية التي كانت ترتكب جريمتها باسم هذه التحقيقات بين جدران السجون ومكاتب البوليس والاعترافات التي كانت تملي على المتهمين . ويوقعونها وهم في شبه غيبوبة من أثر الضرب والتعذيب .
وظن المزورون أنهم استطاعوا أن يذللوا كل عقبة اعترضت طريقهم بإزاحة كل رجل بوليس فيه بقيه من شرف أو مسحه من ضمير عن طريقهم .. وحتى رجال النيابة انتقوا منهم قلة شاذة باعت نفسها للشيطان, وشردوا الآخرين الذين رفضوا الخضوع لمشئتهم .
وكانوا يعتقدون أنهم بذلك قد أتموا المشوار إلى آخره , وأكملوا طبخ الطبخة ومهكوا عناصرها بعضها ببعض حتى فقدت هذه العناصر معالمها فلم تعد تميز عنصرا فيها عن الآخر ثم مزجوا بها السم الزعاف فسري في كل ذرة من ذراتها وأعادها مهكها مرة بعد مرة حتى خرجت من تحت أيديهم عنصرا واحدا يشهد بمهارة الطابخين ..طبخوها في عزلة وفي تأن وهدوء , فقد كان الوقت في أيديهم يتصرفون فيه كما يشاءون .. ولم يقدموها للقضاء إلا بعد أن استكملت تجانسها وصارت مهيأة للالتهام .
فالقضاء واجد أمامه اعترافات صريحة مذيلة بتوقيعات المتهمين.وإن كان إكراه أو تعذيب فقد كان يجرى بين أربعة جدران , ما من شاهد عليه ولا دليل وقد مضي عليه شهور طويلة كادت تذهب بآثاره .. فماذا يفعل القضاء أمام هذه الظروف إلا أن يصدر أحكام التي رتب الظالمون هذه القضايا لتصدر فيها ؟!
ولا عجب في هذا , فقد رأينا في قضية الأوكار حين قررت المحكمة سماع أقوال الشهود في موضوع التعذيب رأينا أحد كبار المحامين في القضية وهو الأستاذ زكي البهنيهي يقرر للمحكمة أن استجلاء هذا الموضوع بهذا الأسلوب غير مجد لأن التعذيب كان يجرى بين أربعة جدران ولم يكن يحضره إلا المتهم والقائمون بالتعذيب .
لم يكن القضاء – كما رأي القارئ – هو القضاء الساذج المتسرع الذي يؤخذ بالظواهر والمناظر فيلتهم الطبخة الفائحة الرائحة التي قدمت إليه .. بل إنه سد أنفه وأخذ يجيل النظر في محتوياتها..ولفت نظره الاعترافات الكاملة من كل المتهمين والمكتوبة بأسلوب قانوني وبعبارات اصطلاحية لا يحذفها إلا الأخصائيون المتمرسون بالتحقيقات القانونية .. فهل هؤلاء المتهمون جميعا – ومنهم الطبيب والمهندس والمعلم والأزهري والطالب والعامل والميكانيكي والتاجر – كلهم على درجة عالية من الدراية بالاصطلاحات القانونية التي لا يفهمها إلا الأخصائيون؟
لم يكن القضاء اللقمة للملفقين كما كانوا ينتظرون بل إنه خيب آمالهم فقد أفسح صدره وتتبع الآثار حتى وصل إلى أصلها وتعاون مع الدفاع في تقصي الحقائق واستجوب الرءوس الكبيرة – التي كانت تعتقد أنها أمنع من أن يهبط بها من عليائها – وأوقفها أمام المتهمين وجها لوجه .. واقتحم بسلطانه العادل إلى معاقل الظلم فعاين زنازين السجون المحصنة التي استقل بها البوليس السياسي وعزلها عن الدولة.
ترك القضاء الطبخة كلها جانبا ,وراح ينظر فيما بين يديه من آثار في أجسام المتهمين ويستعين بالأطباء على معرفة أسبابها وأعمارها .. وأخذ يبحث تاريخ هؤلاء المتهمين ,وهل هم فئة مردت على الإجرام بطبيعتها أم أن هناك بواعث أخرى كانت هي السبب الأصيل في مثولهم بين يديه في قفص الاتهام ؟ ثم أخذ يقيم هذه البواعث حتى إنه قرأ القوانين الضابطة لمسيرة هؤلاء المتهمين في الحياة والتي التزموا بها وبايعوا عليها من أول يوم فوجدها مثلا عليا مستمدة من القرآن الكريم , ولكنها تتعارض مع أهواء السادة الحاكمين , وتقف عقبه في طريق شهواتهم .
وكانت القضيتان الكبريان اللتان آلتا آخر الأمر إلى ساحة القضاء هما قضية السيارة الجيب وقضية الأوكار وحامد جودة . وضمت الأولي اثنتين وثلاثين متهما وضمت الثانية ومع أن القضية الثانية ( الأوكار ) قد عقدت أكثر من عشرين جلسة تكشفت في خلالها فضائح وأعاجيب – عرضنا لبعض منها في الفصل السابق – فإنها انقطعت عن مواصلة الجلسات للأسباب التي أشرنا إليها .
ولهذا فإن القضية الكبيرة والهامة التي صدرت فيها الأحكام هي قضية السيارة الجيب ليس غير وقد رأينا أن نثبت هنا نص هذا الحكم , ثم نتبعه بالحيثيات التي بنى عليها ليرى القارئ في هذا الحكم وحيثياته وثيقة تاريخية نترك له تقييمها .
ولا يفوتنا – بهذه المناسبة - أن نقول أنه لو أن قضية الأوكار قدر لها أن تتابع جلساتها لانتهت إلى أحكام وحيثيات أبدع وأروع .. ولكن يبدو أن إرادة الله قد سبقت بأن تكون أحكام هذه القضية وحيثياتها لا مجرد إدانة لحكم فاروق وعصابته بل تقويضا لدولتهم وشلا لعرشهم بقيام ثورة يوليو 1952 .
• نص الحكم في قضية السيارة الجيب :
نظرا لما كان للحكم في هذه القضية من صدى داخل مصر وخارجها . ونظرا لما لهذا الحكام من دلالات بعيدة المدى .. ولما له من آثار عميقة الغور في تاريخ مصر ومستقبلها .
فقد صدرت أكبر الصحف اليومية في ذلك اليوم 18/ 3/ 1951 وملء صفحاتها الأولي بالخط الأحمر هذا العنوان وكتب تحته براءة 14 متهما من 32 متهما وكتبت تحت ذلك :
كان المتهمون ينشدون نشيد السجون الذي ألفه أحدهم وهو :
الله أكبر في سبيل الله أدخلنا السجون
- والمخرجون من الديار بلا ذنوب يحبسون
الله أكبر وليكن بعد الحوادث ما يكون
- لا نستعين بغير ناصرنا وما نلقي يهون
والله أكبر في سبيل الله أدخلنا السجون
• نص الحكم
السجن ثلاث سنوات : مصطفي مشهور – محمود السيد خليل الصباغ – أحمد محمد حسنين – أحمد قدرى الحارتي – السيد فايز عبد المطلب .
الحبس سنتين مع الشغل : عبد الرحمن على فراج السندى – أحمد زكي حسن – أحمد عادل كمال – طاهر عماد الدين – محمود حلمي فرغلي – محمد أحمد علي – عبد الرحمن عثمان – صلاح الدين عبد المتعال – جمال الدين طه الشافعي – جلال الدين ياسين – محمد سعد الدين السنانيري – على محمد حسنين الحريري .
الحبس سنة واحدة : محمد إبراهيم سويلم .
براءة المتهمين جميعا من التهمة الرابعة الخاصة بحيازة أجهزة وأدوات ومحطة إذاعة لا سكلية بدون إخطار ..
براءة 14 متهما هم : محمد فرغلي النخيلي – محمد حسني أحمد عبد الباقي – أحمد متولي حجازي – إبراهيم محمود على – الدكتور أحمد الملط – جمال الدين إبراهيم فوزي – السيد إسماعيل شلبي – أسعد السيد أحمد – محمد بكر سليمان – محمد الطاهري حجازي – عبد العزيز أحمد البقلي – كمال سيد القزاز – محمد محمد فرغلي – سليمان مصطفي عيسي ..
• تعليق الدكتور محمد هاشم باشا على الحكم :
كان الدكتور محمد هاشم باشا من أكبر المحامين في مصر في ذلك الوقت وقد تقلد منصب الوزارة في وزارة محايدة .. وقد أدلي لمندوب جريدة " المصري " برأية في هذا الحكم فقال :
رأيي أنه حكم سليم , قد راعي كل الاعتبارات ,وبخاصة فيما يتعلق بالظروف التي أحاطت بالتحقيق , وعلى الأخص من جهة المعاملة التي عوامل بها المتهمون وكيفية انتزاع ما أسمته النيابة اعترافات منهم . ومن الناحية الأخرى يخيل إلى وأنا لم أقرأ الحيثيات بعد أن المحكمة راعت الاعتبارات الخلقية الاجتماعية التي كان يقوم بها الإخوان المسلمون بصفة عامة .
وإلى جانب هذا فإن المحكمة كانت واسعة الصدر بشكل واضح وقد أوسعت صدرها للإتهام أولا وللدفاع ثانيا ولم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا حققتها ووزنتها وقد عشنا – نحن القضاة والنيابة والمحاميين – ثلاثة أشهر في بحث هذه القضية ولم يمل المستشارون بحال من الأحوال بل وأرادوا أيضا أن يدققوا أكثر مما دققوا فحجزوا القضية للحكم قرابة ثلاثة أسابيع لمراجعة الأوراق من جديد ووزن كل ما جرى في التحقيق وما قيل في المرافعة من جانب الاتهام والدفاع..
ولا شك أن قضاة يظهرون هذا التدقيق والوزن في كل أمر يمس هذه القضية لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يجئ حكمهم عادلا سليما ولا يرد عليه مطعن .
ويخيل إلى أيضا أن القضاة وهم يباشرون نظر هذه الدعوى كانوا حقيقة بعيدين عن كل شئ يمس الجو العام للقضية كالدعاية وما شابهها .
ثم انسحبوا بعد ذلك إلى محراب العدالة يستلهمون فيه حكم القانون أولا والعدل ثانيا والقضاء ليس إلا تحقيقا للعدالة في حدود القانون .
ولعلنا بعد أن نطلع على أسباب الحكم نقتنع تماما بهذا الشعور الذي حكمنا به لأول وهلة عندما سمعنا النطق بالحكم . وهذا من غير شك يجعلنا نردد بحق تلك العبارة التقليدية التي تقول" إن في مصر قضاة ".
• حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب
في 13/4/1951 نشرت الصحف حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب على الصورة الآتية:
- " المحكمة تعلن " وهي مطمئنة " أن تعذيبا وقع على المتهمين "
- " وكان التحقيق فوضي تارة تتولاه النيابة وأخرى يتولاه عبد الهادئ باشا "
- " المحكمة تشيد بمبادئ الإخوان المسلمين , ولكن المتهمين انحرفوا عنها بدوافع وطنية كأبناء بلد محتل مغلوب على أمره " " وتحت تأثير كارثة فلسطين "
وقع أمس سعادة أحمد كامل بك رئيس دائرة الجنايات المكونة من سعادته وعضوية محمود عبد اللطيف بك ومحمد زكي شرف بك حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب التي كان متهما فيها 32 شخصا من الإخوان بالاتفاق الجنائي العام على قلب نظام الحكم وإحراز الأسلحة وقضي ببراءة 14 متهما وبحبس الباقين مددا تتراوح بين ثلاث سنوات وسنة واحدة – ويقع الحكم في 385 صفحة فولسكاب . وقد بدئ بأسماء المتهمين والتهم المنسوبة إليهم وبيان الأوراق والأسلحة التي ضبطت ثم جلسات المحاكمة – ثم أشار إلى اعترافات عبد المجيد حسن قاتل النقراشي – ثم عرض إلى اعترافات عبد الرحمن عثمان .
• اعترافات مصطفي كمال :
ثم انتقل الحكم إلى سرد اعترافات مصطفي كمال عبد المجيد المتهم الأول في قضية الاعتداء على حامد جودة – المتضمنة أنه تعرف بالمتهم الأول عادل كمال وأنه كان يتردد على شعبة الظاهر, وعلم أن محمود الصباغ اشترى سيارتين من سيارات الجيب عهد بإصلاحهما لأنيس أنس وأنه اشترك مع أحمد عادل في نقل أوراق من أحد المنازل بالسيارة – وبعد ذلك ضبط مع بعض المتهمين أثناء وجودهم في السيارة الجيب بالوايلية ولكنه استطاع الهرب إلى القاهرة وظل مختفيا تحت أسماء مستعارة – أنه دبر هو وزملاؤه مؤامرة لقتل إبراهيم عبد الهادي باشا , ولكن تصادف مرور سيارة الأستاذ حامد جودة فظنوا عبد الهادئ باشا وألقوا على سيارته القنابل بمصر القديمة.
• عدم تعرف المعترف :
وأشارت المحكمة إلى أنه بناء على هذه الاعترافات صحب المحقق هذا المتهم المعترف للإرشاد عن منزل عادل كمال الذي يردد في اعترافاته , فإذا به لا يستطيع الإرشاد عنه بل أرشد عن منزل آخر تبين أن صاحبه لا صلة له بالحادث.
• اعترافات صنعها التعذيب :
ثم تناولت المحكمة عدول هذا المتهم عن اعترافاته وقوله أن أقواله المذكورة لم تصدر من على الإطلاق , وأنه عذب فور القبض عليه في 5 مايو 1949 على إثر محاولة الاعتداء على الأستاذ حامد جوده رئيس مجلس النواب وقتئذ , وأن التعذيب ترك بجسمه آثارا وأن المحكمة استجابت لطلب الدفاع بضم التقرير الطبي الشرعي عنه.
• سبع ندب بعد عدة شهور :
ثم استطرد الحكم يقول : أنه بمراجعة التقرير الطبي تبين أن الكشف على المتهم المذكور إنما تم بعد خمسة أشهر من وقوع التعذيب المدعي به , وقد وجد بساعده وعضده سبع ندب لشقوق يتراوح طولها بين سنتيمترين وستة سنتيمترات , وأنها قد تكون معاصرة للوقت المدعي بحصول الاعتداء فيه كما قد تكون سابقة لهذا التاريخ وأنه لا يوجد لدى الطبيب ما يساعده على الجزم بأن هذه الآثار ناشئة بالذات عن ضرب الكرباج ومن الممكن تخلفها من الاحتكاك بأجسام صلبة أيا كانت طبيعتها .
• لولا قرار المحكمة:
ثم استطردت المحكمة معلنة رأيها في هذه الواقعة قائلة : أنه ثابت في صدر التقرير الطبي أن هذا المتهم مصطفي كمال عبد المجيد عندما كشف عليه تنفيذا لقرار المحكمة العسكرية العليا في 8 أكتوبر 1949 لم يكن أحد قد عني من قبل ذلك بإحالته إلى الكشف الطبي .
• في قبضة البوليس :
وأنه لا نزاع في أن المتهم المذكور كان في قبضة رجال البوليس وتحت سلطتهم في الفترة ما بين 5 مايو 1948 وهو تاريخ القبض عليه وبين 10 من أكتوبر 1949 وهو تاريخ الكشف الطبي عليه .
• حيموتوني يا باشا:
وحيث أن دولة إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس مجلس الوزراء وقتذاك قد أدلي بأقواله أمام هذه المحكمة بجلسة 18 ديسمبر 1950 وجاء فيها أ،ه عندما وصل إلى علمه نبأ محاولة الاعتداء على حياة رئيس مجلس النواب السابق انتقل إلى قسم مصر القديمة وهناك رأي مصطفي كمال عبد المجيد مقبوضا عليه وأنه استغاث بدولته قائلا : في عرضك أنا عطشان حيموتوني فسأله دولته عن الحادث واشتراكه فيه فأقر بما ارتكب .
• الشعب المعتدي :
وأضاف عبد الهادي باشا إلى أقواله أنه علم أن الأهالي اعتدوا على مصطفي كمال عبد المجيد عقب القبض عليه .
• استغاثة لها دلالتها :
وعلقت المحكمة على هذه الشهادة من إبراهيم عبد الهادي باشا قائلة : إن عبارات الاستغاثة التي أسندها دولة إبراهيم عبد الهادي باشا إلى المتهم إن دلت على شئ فإنما تدل على أن المتهم كان محل اعتداء بعد القبض عليه وبعد أن أصبح تحت سلطان رجال البوليس وحدهم وفي دار القسم وبعيدا عن تناول الأفراد .
• لو كان في مأمن :
ولو أن هذا المتهم كان بعد القبض عليه في مأمن من أى اعتداء لكانت استغاثته بدولة عبد الهادي باشا غير مستساغة ولا معني لها .
• من فم عبد الهادي باشا :
وحيث إنه من هذا ترى المحكمة أن هذا المتهم كان محلا للاعتداء في دار قسم مصر القديمة بعد القبض عليه وأن العبارات التي قال رئيس مجلس الوزراء الأسبق أنه فاه بها إنما تدل على أن الاعتداء كان شديدا
• المحكمة تعلن ثبوت التعذيب.
واستطردت المحكمة تعلنها مدوية : إن المحكمة تستطيع أن تقرر وهي مطمئنة أن الآثار التي شوهدت بجسم مصطفي كمال عبد المجيد بعد ما يزيد على خمسة أشهر من وقت ضبطه يمكن إرجاعها كلها أو بعضها ‘على الأقل إلى ما كان يقارفه من تولوا ضبطه والمحافظة عليه من رجال البوليس .
• وتعلن بطلان الاعترافات:
تطرقت المحكمة مرتبة على هذا الرأي الخطير نتيجة خطيرة فقالت : حيث إن ما أدلي به هذا المتهم في التحقيقات الخاصة بهذه القضية – قضية السيارة الجيب- عن قيادته للسيارة الجيب مع بعض المتهمين ونقل أوراق وغير ذلك من وقائع إنما كلها أتي بعد وقوع الاعتداء عليه إثر ضبطه , ولذا فإن المحكمة لا تطمئن إلى أقواله جميعا وترى أن تسقطها من حسابها عند الكلام على الدليل .
• تسليم النيابة بالإصابات:
ولقد أرفق ممثل الاتهام الخطابات التي كتبها أحمد عادل كمال وزملاءه بالتحقيقات وإن إرفاق هذه الخطابات دون سؤال مرسليها يدل على ما ورد بها عن إصابتهم – أيا كان سببها – كان أمرا مسلما به ويدل على ذلك شهادة دولة إبراهيم عبد الهادي باشا عن استغاثة مصطفي كمال عبد المجيد به ولا محل لسماع شهادة ممثل الاتهام عن هذه الواقعة وقد تبينت المحكمة حصول اعتداء عليه داخل القسم .
• تعذيب في صالون :
ثم انتقل الحكم بعد ذلك إلى الكلام عن المتهم عبد الرحمن عثمان فتناول الواقعة الخاصة بتعذيبه في 11 يوليو 1949 بقصد الاعتراف أمام المحقق في اليوم التالي وواقعة أن إبراهيم عبد الهادي باشا اصطحبه معه في صالونه الخاص في سفره إلى الإسكندرية
• ظروف :
ثم استطردت المحكمة تقول: أنها تري قبل الكلام على الأدلة القائمة قبل هذا المتهم أن تعرض للظروف التي تم فيها ضبطه ثم الظروف التي أدلي فيها بأقواله سواء أكان ذلك في التحقيقات أو بمحضر جلسة قضية مقتل النقراشي باشا ..
• إنكار ينهار فجأة :
وأشارت إلى القبض عليه وتمسكه بالإنكار ثم تقديمه طلبا إلى النيابة بأنه يريد الاعتراف . وأبرزت ظروف ذلك مقررة أنها تلاحظ أن آخر استجواب للمتهم قبل اعترافه كان بتاريخ 25 يونيه 1949 وقد ووجه بجانب من تقرير الخبراء من أن التقارير المضبوطة في المحافظة بخطه وأصر رغم ذلك على الإنكار ولم يجد جديد في شأنه حتى تقدم بالطلب المؤرخ 11 يوليه 1449 عن طريق السجن يريد الاعتراف .
• تعليل النيابة غير معقول :
وحيث أن النيابة في مرافعتها قالت أن المتهم تبين بعد ورود التقرير بخطه أن إنكار الحقيقة لم يعد مجديا وهذا القول مردود لأن المتهم ووجه بتقرير فأصر على الإنكار . ثم كان الطلب بعد أن أصر بنحو 26 يوما دون أن يجد جديد فلم يواجه مثلا بأقوال شاهد أو بأقوال متهم معترف عليه بل إن الطلب قدم دون أسباب أو مقدمات .
• سر له أثر حاسم :
وحيث إن الثابت من الاطلاع علي دفتر سجن الأجانب أن المتهم خرج منه مع أحد ضباط القسم السياسي وقضي 6 ساعات في دار المحافظة ثم ظهر أنه قدم الطلب الذي يبدي فيه رغبته للإعتراف في نفس هذا اليوم . وأن الطلب كتب بعد عودته من المحافظة , ذلك ينطوى على مسألة قد يكون لها أثر حاسم في القضية محل التحقيق.
• خفايا المحافظة:
وحيث إنه لا يوجد في الأوراق ما يكشف عن حقيقة ما دار في الفترة التي قضاها المتهم في دار المحافظة ولم يتحدث أحد بما حصل سوى الدفاع عن المتهم الذي قرر أنه عذب واستكتب طلبا بالاعتراف .
• الاعتداء أقل ما يقال :
وألقت المحكمة برأيها في هذه الواقعة فأعلنت أن أقل ما يقال في هذا الشأن أن المتهم كان تحت تأثير اعتداء أو تحريض من رجال البوليس لدفعه إلى كتابة ما كتب وللإدلاء بعد ذلك بما أدلي من اعتراف في 13 يوليو 1949 .
وحيث إنه مما يلفت النظر أنه في اليوم التالي للاعتراف أخرج عبد الرحمن عثمان من السجن مرة أخرى ( لتوصيله لنيابة الاستئناف) ولكنه لم يصل إلى النيابة .
وقد دعا الدفاع إبراهيم عبد الهادي باشا للإدلاء بأقواله أمام هذه المحكمة وكان من بين ما قرره أن المتهم ركب معه القطار في ذلك اليوم واستجوبه لفترة قصيرة بشأن اعترافه على قريب له هو ابن محمود يوسف باشا وكيل الخاصة الملكية وذلك لكي يتحقق دولة الشاهد – وهو الحاكم العسكري العام – من صحة هذا الاعتراف ويتصرف على مقتضي ما يصل إليه في هذا الشأن . واستطرد دولة الشاهد فقال أنه بعد أن سمع من المتهم ما أراد سماعه صرفه ولا يعرف ما تم في أمره بعد ذلك.
وأمسكت المحكمة بهذه الرواية من إبراهيم عبد الهادي باشا لتبدي رأيها فيها قائلة : إن ما قرره دولة إبراهيم عبد الهادي باشا بشأن ابن محمود يوسف باشا لم يكن شيئا في أوراق هذه القضية . ولم يخطر دولته المحقق بهذه المقابلة وبما تم فيها.
وانطلق الحكم يدوى بكلمة المحكمة : وحيث إنه مع التسليم بأن من حق الحاكم العسكري أن يدعو الأفراد ويستجوبهم بنفسه وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالمحافظة على الأمن العام إلا أن ما تم بشأن هذا المتهم بالذات يدعو إلى إمعان النظر.
فلقد أخرج المتهم من السجن بحجة توصيله إلى نيابة الاستئناف – ولم يصل ذلك اليوم على الإطلاق واقتيد إلى محطة القاهرة حيث ركب القطار والتقي بدولة رئيس مجلس الوزراء وقتذاك وكان ما كان بينهما مما رواه دولة الشاهد الذي لم يعن بإثبات ما تم بينه وبين المتهم أو تبليغ المحقق أمر هذه المقابلة .
• وواصل الحكم يجهر برأيه عن هذه الواقعة يسجل قائلا:
وحيث إنه مهما يكن من سلطان الحاكم العسكري في هذا الشأن فإن حريات الأفراد يجب أن يكون لها حدود تقيها من العبث أيا كان مصدره وألا يترك أمر استجواب المتهمين المقبوض عليهم فوضي يتولاه تارة المحقق وطورا الحاكم العسكري صاحب السلطان الأكبر .. وذلك في غيبة المحقق وعلى غير علم منه دون إخطاره بشأن الاستجواب ..
• اعترافات فاسدة :
وانتهت المحكمة من هذه الصيحة المدوية إلى القول بأنها ترى أن كتابة المتهم الطلب الخاص بالاعتراف ثم اعترافه كل هذا شابه عوامل غير عادية قد تكون تعذيبا كما رغم المتهم أو على الأقل إغراء أو تحريضا . وهذه الأقوال لا تعول عليها المحكمة وتعدها مهدرة.
وحيث إن هذه المحكمة ترى أن إطلاق يد البوليس في مقابلاتهم للمتهمين , ويلقونهم متى يشاءون ويخرجونهم من السجن متى أرادوا ,ويعيدونهم ثانيا طبقا لأهوائهم ودون رقابة من رجل النيابة المحقق .. هذه السلطة المطلقة لا تتفق مع ما كفله القانون للمتهم من حرية الدفاع عن نفسه والإدلاء بأقواله في جو بعيد عن شتي المؤثرات .
وتناول الحكم بعد ذلك الكلام عن جماعة الإخوان المسلمين مشيرا إلى نشأتها ومسارعة فريق كبير من الشباب للالتحاق بها والسير على المبادئ التي رسمها منشئتها والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق أو يعلق بها من شوائب , وإنشاء جيل جديد من إخوان مثقفين ثقافة رياضية عادية مشربة قلوبهم بحب وطنهم , والتضحية في سبيله بالنفس والمال .
ومضت تقول : وقد كان لابد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام هذا الشباب مثلا أعلي يحتذونه , ووجدوه في الدين الإسلامي وقواعده التي تصلح لكل زمان ومكان فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبت في النفوس وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد..
وهذه الأمور تلازم عادة أفراد شعب محتل مغلوب على أمره فقام هذا النفر من الشباب يدعو إلى التمسك بقواعد الدين والسير على تعاليمه. وإحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلا بالعبادات والروحانيات أو بأحكام الدنيا .
ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة هي جيش الاحتلال الذي ظل بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات ومفاوضات على إقرار الأمور ليخلص الوادي لأهله , ولم تنته هذه المفاوضات والمحاولات الكلامية إلى نتيجة طيبة . ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صحبها من ظروف وملابسات ..
ولما كان كل هذا .. اختل ميزان بعض أفراد شباب جماعة الإخوان فبدلا من أن يسيروا على القواعد التي رسمها زعماءهم والتي كانت قديرة حتما على تربية فريق كبير من أفراد الشعب وتثقيفهم وإعلاء روحهم المعنوية .. بدلا من السير على هدى هذه المبادئ أرادوا أن يختصروا الطريق – ظنا منهم أن أعمال العنف تبلغ بهم أهدافهم من سبيل قصير ..
فاتحدت إرادتهم على القيام بأعمال قتل ونسف وغيرها مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يؤذى بمواطنيهم , وذهبوا في سبيل ذلك مذهبا شائكا منحرفين عن الطريق الذي رسمه لهم رؤساؤهم والذي كان أساسا قويا لبلوغهم أهدافهم .
وحيث إنه يتبين من كل هذا أن هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة وإنما انحرفوا عن الطريق السوى فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسا .
• درس رءوف:
• على أن المحكمة تراعي في هذا الدرس جانب الرفق فتأخذهم بالرأفة تطبيقا للمادة 17 من قانون العقوبات لأنهم كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره .
ثانيا – الحكم بوقف بيع المركز العام وممتلكات الإخوان
دعوى رفعها الإمام ودعاوي رفعها رؤساء الشعب :
على أثر صدور الأمر العسكري في عهد النقراشي باشا بحل هيئة الإخوان ومصادرة أموالها وممتلكاتها في أنحا القطر ورفع الأستاذ الإمام البنا رحمه الله دعوي أمام مجلس الدولة يطالب فيها بإلغاء أمر الحل . فلما اغتيل واصل أصهاره – الأستاذ عبد الحكيم عابدين والأستاذ عبد الكريم منصور – الدعوى. كما أقام بعض رؤساء الشعب دعاوي مماثلة يطالبون فيها بوقف تنفيذ مصادرة الشعب وبيع ممتلكاتها.
• السنهوري يتنحي:
وقد رأي عبد الرازق السنهورى باشا رئيس مجلس الدولة – لعلاقته السابقة بحزب السعديين – أن يتنحي عن نظر كافة الدعاوى المتعلقة بالإخوان المسلمين , وعهد بنظرها إلى السيد على السيد بك وكيل مجلس الدولة – وكانت هذه كياسة من السنهوري باشا .
وفي يوم 26/11/1950 عرضت بصفة عاجلة إحدى هذه الدعاوي وهي مرفوعة من محمد حمزة الجميعي بصفته رئيسا لشعبة الإخوان بدمنهور ضد وزارة الداخلية ومدير البحيرة والمندوب العام لتصفية أموال جمعية الإخوان يطالب فيها بإلغاء أمر الحل لصدوره مخالفا للقانون والدستور ولتضمنه نصوصا بالإلغاء والمصادرة لا يملكها الحاكم العسكري, كما يطالب بصفة عاجلة بوقف تنفيذ الأمر الصادر من مدير البحيرة بناء على أمر الحل ببيع أرض يملكها المدعي بصفته رئيسا للشعبة ونائبا عن المرشد العام ووضعت عليها الحراسة يدها باعتبارها من ممتلكات الجماعة .
• الوفد ينكث وعده :
وينبغي هنا أن نذكر أنه كان مفروضا حسب وعود حزب الوفد بلسان مرشحيه لمجلس النواب وحسب الوعود التي قطعها هؤلاء لناخبيهم أن تتخذ حكومة الوفد عند توليها الحكم الإجراءات التي تغني الإخوان عن السير في هذه الدعاوي التي رفعوها في المحاكم , وذلك بأن تصدر الحكومة قرارات بإلغاء الأوامر العسكرية والقرارات التي صدرت من حكومات السعديين بالاستيلاء على دور الهيئة وأملاكها وبرد هذه الأملاك إلى أصحابها الشرعيين .
ولكن الذي حدث هو أن وزارة الوفد تلكأت في اتخاذ هذه الإجراءات – بالرغم من استئجار الإخوان هذه الوعود – حتى حان الميعاد الذي حدده الموظف المسئول عن تصفية هذه الأملاك لبيع دار المركز العام .
وهنا اضطر الإخوان إلى تحريك دعوهم , فعرضت الدعوى التي أشرنا إليها في 26/1/1950 في جلسة برياسة السيد على السيد بك .وحضر عن المدعي الأستاذ محمد طاهر لخشاب الذي طلب وقف تنفيذ قرار البيع بصفة عاجلة حيث تحدد يوم الأحد الماضي لاتخاذ إجراء بيعها على أن يحدد سعادة الرئيس جلسة لنظر الدعوى أمام القضاء الإداري إذ يستغرق الفصل فيها وقتا يصبح من المتعذر بعده إصلاح هذه الحالة الطارئة الناجمة عن قرارات الحراسة كما طلب ضم قضيتين أخريين مرفوعتين من الإخوان لأهميتهما في الدعوي ..
ودفع محامي الحكومة بعدم توافر صفة الاستعجال قائلا أنه لا يوجد ضرر غير ممكن تداركه فطلب إيقاف التنفيذ متعلق بذمة مالية وخزانة الدولة دائما عامرة يمكنها السداد إذا حكم بتعويض .
ثم نطق الرئيس بالقرار وهو يقضي بتأجيل القضية لجلسة 6 فبراير القادم مع القضيتين المشار إليهما ..وتوالي التأجيل بعد ذلك .
هذا .. ثم حدث بعد ذلك أن ركبت حكومة الوفد رأسها وأصرت على سلوك الطريق الملتوى الذي تحدثنا عنه في باب سابق وهو الطريق الذي تجاهلت فيه ما قطعت على نفسها للإخوان من عهود وشرعت في استصدار تشريعات تكبلهم بها وتشل حركتهم وتلغي وجودهم ..وتم لها ما أرادت وأصدرت التشريعات التي أشرنا إليها .
• تحت ضغط الظروف فاء الوفد إلى رشده أخيرا :
ثم جاء إلغاء معاهدة 1936 فوجدت هذه الحكومة – كما وضحنا من قبل – أنها في أمس الحاجة إلى وقوف الإخوان المسلمين بجانبها , فتراجعت عن كل ما أجهدت نفسها في إعداده من تشريعات وأخذت في انتهاج سياسة جديدة تذكر معها سكرتير الوفد ووزير المالية موضوع دار المركز العام الذي كان معروضا للبيع منذ أكثر من عام وتعمد هو ألا يستجيب لرجاء الإخوان بإصدار تعليمات بوقف بيعه - وسأل الوزير رجال وزارته هل بيع المركز العام ؟ فأجيب بأن الإخوان استطاعوا أن يؤجلوا موعد بيعه بدعاوي رفعوها أمام مجلس الدولة وأن الجلسة الأخيرة لمجلس الدولة لإصدار الحكم تنعقد بعد أسبوع وكان ذلك يوم 11/ 9/ 1951 فانتهز الوزير الفرصة وسارع بإصدار تصريح ظهر في اليوم التالي بجريدة المصري " هذا نصه :
" علم مندوب " المصري " أن فؤاد سراج الدين باشا أصدر تعليماته بوقف جميع الإجراءات التي كانت ستتخذ بشأن بيع دار الإخوان الذي كان محددا له يوم 17 الجاري – وستتم في القريب اتصالات بينه وبين أقطاب الإخوان لرد ممتلكاتهم"
ولكن الإخوان لم يعتمدوا على هذا التصريح الذي يعلمون الظروف التي اضطرت الحكومة إلى إصداره وواصلوا دعواهم في مجلس الدولة .
مجلس الدولة يوقف بيع دار المركز العام
ويقرر أن جمعية الإخوان المسلمين موجودة قانونا
وانعقدت محكمة مجلس الدولة في 17/ 9 / 1951 وأعلن محمد سامي مازن بك المستشار بمجلس الدولة حكم المجلس في هذه الدعوى ويقضي بوقف تنفيذ القرار المذكور وجاءت حيثيات هذا الحكم في اثنين وعشرين ورقة من الحجم الكبير وجاء في هذه الحيثيات ما يلي :
• حق تكوين الجمعيات:
وقد أجابت المحكمة على دفع الحكومة بعدم قبول الدعوى لانتفاء صفة المدعي ولعدم وجود دعوى موضوعية ولخروج طلب وقف التنفيذ عن سلطة رئيس مجلس الدولة وولايته بما يلي :
أنه للفصل في ذلك يقتضي بيان الوضع القانوني للجمعية والصفة التي كانت لها قبل الحل ثم ما كان لهذا الأمر من أثر عليها :
أما عن المسألة الأولي فإن حق تكوين الجمعيات قد ورد في المادة ( 21 ) من الدستور بحيث تقرر أن " للمصريين حق تكوين الجمعيات , وكيفية استعمال هذا الحق بينه القانون ثم استشهدت المحكمة بما جاء في محاضر لجنة الدستور عن هذه المادة من أن الدستور قد عهد إلى القانون بتنظيم الحق في تكوين الجمعيات بعد أن قرر قيامه – كما أن اللجنة إذ تحدثت عن الباب الذي وضعته في الدستور " حق المصريين وواجباتهم " والذي يعتبر حق تكوين الجمعيات فرعا منه قالت :" وقد كان المصريون يتمتعون بهذه الحقوق تدعمها النظم السياسية التي كانت جارية في مصر وتنظم معظمها القوانين المصرية غري أن تلك الحقوق لم تكن مجموعة في باب ظاهر منشور بين الناس لذلك رأت اللجنة أن تضع ذلك الباب جريا على سنن الدساتير الأخرى . وتحقيقا للغرض الذي يلتمس منه وليكون قيدا للشارع المصري لا يتعداه فيما يسنه من الأحكام "
ثم عرضت الحيثيات لما جاء في مذكرة وزير الحقانية عن الدستور وما جرت عليه المحاكم قبل الدستور وبعده لكفالة هذا الحق في إطلاقه – ثم عرضت للقانون رقم 49 لسنة 1945 في شأن الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية ثم للقانون رقم 66 لسنة 1951 الخاص بالجمعيات .
• هيئة استوفت عناصرها :
واستطردت المحكمة فقالت :" ومن حيث أن جمعية الإخوان المسلمين قد تكونت في ظل ذلك الحق الأصيل في تكوين الجمعيات فاكتسبت صفتها كما تمتعت بشخصيتها المعنوية منذ تكوينها وفقا للمبادئ المقررة من إسناد هذه الشخصية إلى كل هيئة استوفت عناصرها ومقوماتها من إرادة خاصة ونظام تبرز به هذه الإرادة ومن ذمة مالية مستقلة عن ذمم أعضائها .. وطبقا لما قضي به القانون رقم 49 لسنة 1945 فقد سجلت الجمعية أوجه نشاطها الخيرية في وزارة الشئون الاجتماعية .. وبذلك تكون قد استوت – في ظل أصول القانون العام ووفق أحكام القانون الخاص – خلقا سويا متكاملا ".
الإخوان يفتحون مركزهم العام بعد تسلمه
تقدير الممتلكات التي أعادتها الحكومة إليهم بمبلغ ( 200) ألف جنيه
نشرت جريدة " المصري" في عددها الصادر يوم 17/12/ 1951 تحت هذا العنوان ما يلي : كان أول عمل قام به الإخوان حين فتح المركز العام أن أقاموا به صلاة المغرب ثم توجهوا إلى قبر الأستاذ الإمام رحمه الله .
ثالثا – الحكم ببطلان أمر الحل وإلغائه
كان أمام مجلس الدولة أربع قضايا كل منها تطلب الحكم بإلغاء قرار الحل وقد ضمت جميعا إلى القضية التي رفعها الأستاذ عبد الحكيم عابدين ونظرت أمام محكمة القضاء الإداري بالمجلس برياسة السيد على السيد بك وكيل المجلس وكانت آخر جلسة لها استمعت فيها إلى المرافعات هي جلسة يوم 9/4/1952.
وقد ترافع فيها الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله وفي نهاية مرافعته الطويلة الشاملة قال : إن كل ذلك لا علاقة له بسلامة الجيش . وكما قرر رجال الجيش أنفسهم أن سلامتهم كانت في وجود الإخوان وأنهم عندما حوصر جزء منهم في الفالوجا طلبوا عونا من الإخوان . وكانوا كلما هدد اليهود مواصلات الجيش لجأوا إلى الإخوان ليردوا هذا العدوان وكلما احتل اليهود موقعا له أهمية إستراتيجية طلبوا من الإخوان إجلاءهم عنه .
وقال إن هذه القضية ليست قضية الإخوان إنما هي قضية الأمة المصرية .. قضية الأمس واليوم والغد ..وأن أمر هذه الأمة لن ينصلح إلا إذا وضع القضاء حدودا ظاهرة بين حق الحاكمين وحق المحكومين وإلا إذا علم الحاكمون أن وراءهم القضاء يحاسبهم حسابا عسيرا كلما اعتدوا على حقوق الأمة :
• كلمة للأستاذ عبد الحكيم عابدين أمام المحكمة :
واستأذن الأستاذ عبد الحكيم عابدين المحكمة في إلقاء كلمة في القضية يبين فيها البواعث الحقيقية لصدور أمر الحل فقال :
إن الوزارة المذكورة في عجزها عن علاج القضية الوطنية وفي تهاونها أمام طغيان الحاكم العام في السودان , وفي صبرها على صفعات اليهود بفلسطين وفي تعلقها آخر الأمر بكراسي الحكم .. لم تجد معكرا لصفوها ولا مظهرا للأمة على حقيقة مخازيها .
إلا جماعة الإخوان المسلمين, الذين كانوا ضوء الصباح يكشف للأمة عن حقيقة الحكام الهازلين . فلا عجب – منطقها الشيطاني السقيم – أن تقدم على إطفاء هذا المصباح ليسود الظلام الذي يحجب الأنظار عن مخازيها ... لا عجب في ذلك, وإنما العجب أن تعمد الحكومة إلا محو العار بالعار , وستر الجريمة بالجريمة..ومحاولة محو الوزر بوزر مثله .
وختم كلمته بقوله :" ألا ترى أخيرا أن قرار الحل المطلوب منكم إلغاؤه وإبطال آثاره لم يكن أبدا في خدمة مصر , ولا برا بالعروبة ولا وفاء للإسلام وإنما كان خدمة جلي للسياسة البريطانية التي أماتت الوعي في مصر . وقطعت أشواطا في جلنزة السودان , ونجحت في إسكات صوت الحق والقوة والحرية ولو إلى حين.
وبعد إنهاء كلمة الأستاذ عبد الحكيم عابدين قررت ضم الدعاوي الأخرى وقررت إصدار الحكم بعد سبعة أسابيع . • حكم مجلس الدولة في القضية :
في 30/6/1952 أصدرت الدائرة الثانية لمحكمة القضاء الإداري برياسة السيد على السيد بك وكيل مجلس الدولة حكمها في الدعوى المرفوعة من الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان المسلمين .. ويقضي الحكم بالآتي :
- أولا : يرفض الدفع الذي تقدمت به الحكومة بعدم جواز سماع الدعوى .
- ثانيا : يرفض الدفع بعدم الاختصاص.
- ثالثا :برفض الدفع بعدم القبول الذي قدمته الحكومة على أساس أن الإخوان المسلمين لا وجود لها .
وحكمت المحكمة في الموضوع بإلغاء الأمر العسكري رقم 63 بحل جمعية الإخوان المسلمين فيما تضمنه من أحكام ترمي إلى القضاء على ذات الجمعية وإنهاء حياتها القانونية وتصفية الأموال المكونة لذمتها المالية , وكذلك جميع الآثار المترتبة على أمر الحل. حيثيات حكم مجلس الدولة
بإلغاء الأمر العسكرى بحل الإخوان المسلمين وببطلانه
في 4/7/1952 نشرت حيثيات هذا الحكم ,وإلى القارئ هذه الحيثيات لما لها من بالغ الأهمية :
• دفوع الحكومة ورد المجلس عليها :
كانت الحكومة قد دفعت عند نظر الدعوى بدفعين :
أولهما عدم الاختصاص, والثاني عدم القبول تأسيسا على أن جمعية الإخوان لا وجود لها قانونا ..وعادت عندما صدر المرسوم رقم 64 لسنة 1952 بمنع سماع الدعاوي والطعون الموجهة إلى تصرفات السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية فدفعت بعدم جواز سماع الدعوى مما أدي إلى تأجيل الحكم في الدعوى حتى يوم 30 يونيه الماضي لاستظهار أثر ذلك المرسوم في الدعوى القائمة .
• الدفع بعدم جواز سماع الدعوي :
وقد رفضت المحكمة هذا الدفع استنادا إلى حكمها في قضية الأستاذ أحمد حسين وقد نشرت حيثيات ذلك الدفع , كما أن ذلك الدفع رفض في دعوى أخرى هامة صدر فيها أخيرا حكم تاريخي خالد , وانتهي مجلس الدولة من مناقشة ذلك الدفع والمرسوم الذي تستند إليه الحكومة بأن المرسوم نفسه باطل من جميع النواحي ويقتضي عدم الأخذ به . وقال مجلس الدولة أنه لو كان في معرض دعوى خاصة مباشرة بذلك المرسوم لقضينا بإلغائه ..ويفهم من ذلك أن مجلس الدولة قد حكم ضمنا بإلغاء المرسوم المشار إليه .
• الدفع بعدم الاختصاص :
بنت الحكومة هذا الدفع – الدفع بعدم الاختصاص – على أن النظام العرفي في مصر نظام عسكري وليس نظاما إداريا أو سياسيا , استحدثته مصر من واقع ما حدث في الحرب العظمي الأولي ومن قواعد القانون الدولي العام ,وشأنه شأن القيود العسكرية التي تفرضها الدول المحاربة على البلاد التي تحتلها جيوشها .. وإن المشروع المصري اقتبس النظام العرفي القائم من نظام الأحكام العرفية العسكرية التي أعلنتها انجلترا في مصر وقت إعلان الحماية وأن هذه الطبيعة العسكرية للنظام تجعله أبعد ما يكون عن ولاية القضاء.
وقالت الحكومة أن المشرع المصري درج على أن يقرن رفع الأحكام العرفية بنظام يحميها عن طريق سن قانون للتضمينات,وبذلك تمتنع مساءلة الحكومة خلال فترة قيام الحكم العرفي بمقتضي طبيعة هذا النظام كما تمتنع مساءلتها بعد انتهائه بمقتضي قانون التضمينات .
وقالت الحكومة أيضا أن الأمر العسكرى رقم 63 لسنة 1948 بحل جماعة الإخوان من التدابير العليا للأمن الداخلي فيخرج بوضعه من أعمال السيادة عن اختصاص المحكمة .
• رد مفحم من مجلس الدولة على هذا الدفع :
أما مجلس الدولة فقد رد على ذلك بأن نظام الأحكام العرفية في مصر هو نظام يستمد أساسه وأصوله وأحكامه من الدستور ومن قانون الأحكام العرفية والقوانين المكملة له ... فتنص الماد ( 45) من الدستور على أن " الملك يعلن الأحكام العرفية , ويجب أن يعرض إعلانها على البرلمان فورا ليقرر استمرارها أو إلغاءها , فإذا وقع ذلك الإعلان في غير دور انعقاد وجبت دعوة البرلمان للاجتماع على وجه السرعة ".
وتنص المادة( 155) من الدستور على أنه " لا يجوز بأية حال تعطيل حكم من أحكام هذا الدستور إلا أن يكون ذلك وقتيا في زمن الحرب أو أثناء قيام الأحكام العرفية وعلى الوجه المبين في القانون .وعلى أى حال لا يجوز تعطيل انعقاد البرلمان متى توافرت في انعقاده الشروط المقررة بهذا الدستور ".
وينظم قانون الأحكام العرفية هذا النظام العرفي تنظيما شاملا , فبين على وجه الحصر الحالات التي يجوز فيها إعلان الأحكام العرفية , وكيف يكون إعلان هذه الأحكام , وكيف يكون رفعها وما هي السلطات الاستثنائية التي تخول للقائم على إجرائها.ويعدد القانون هذه السلطات الاستثنائية على سبيل التحديد والحصر, ثم يجير تضييقها أو توسيعها بقرار من مجلس الوزراء إذا دعت الحاجة إلى ذلك , بقدر هذه الحاجة , على أن تبقي دائرة هذه السلطات الاستثنائية دائما في نطاق محدود هو ما يقتضيه صون الأمن والنظام العام من تدابير وإجراءات وما دعت إليه الضرورة من إعلان الأحكام العرفية .
• لماذا يجب أن تكون إجراءات الحاكم العسكري خاضعة لرقابة القضاء ؟
وقال مجلس الدولة أنه يتبين من ذلك أن نظام الأحكام العرفية في مصر وإن كان نظاما استثنائيا إلا أنه ليس بالنظام, بل هو نظام خاضع للقانون وضع الدستور أساسه وبين القانون أصوله وأحكامه ورسم حدوده وضوابطه .. فوجب أن يكون إجراءه على مقتضي هذه الأصول والأحكام وفي نطاق هذه الحدود والضوابط وإلا كان ما يتخذ من التدابير والإجراءات مجاوزا لهذا الحد أو منحرفا عنه – مخالفا للقانون – تنبسط عليه رقابة المحكمة ..
وكل نظام للحكم أرسي الدستور أساسه ,, ووضع القانون قواعده هو نظام يخضع بطبيعته – مهما يكن نظاما استثنائيا – لمبدأ سيادة القانون , ومن ثم لرقابة القضاء .
وأضافت حيثيات الحكم تقول: أنه مهما كان المصدر التاريخي الذي استقي منه المشرع هذا النظام فليس من شك في أن الاختصاصات المخولة للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية مصدرها الرسمي هو القانون الذي تولي تحديد نطاقها فلا يجوز بحال أن تخرج عن حدود هذا النطاق ..وإذا كانت اختصاصات القائم على إجراء هذه الأحكام في مصر بالغة السعة . فإن ذلك أدعى أن تنبسط عليها الرقابة القضائية حتى لا يتحول نظام – هو في حقيقته ومرماه – نظام دستوري يقيده القانون إلى نظام مطلق لا عاصم منه وليست له حدود .. إذ رقابة القضاء هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة , ويؤكد ذلك مما درجت عليه الحكومات من سن قانون التضمينات عند رفع الأحكام العرفية لدفع المسئولية من جراء التدابير التي اتخذت تنفيذا لهذه الأحكام . وفي سن هذا القانون إقرارا واضح بمبدأ المسئولية الذي لم يسن القانون إلا لدفعه. وانتهت المحكمة من مناقشة ذلك الدفع إلى الحكم برفضه .
• الدفع بعدم القبول :
أسست الحكومة هذا الدفع على أن جماعة الإخوان المسلمين لا وجود لها قانونا, وبنت الدفع على وجهين :
الأول : أن الجماعة لم تكتسب الشخصية المعنوية أصلا لأن القانون المدني الجديد بين في المادة (52 ) منه الأشخاص المعنوية على سبيل الحصر وأن الهيئة المذكورة لا تدخل بما لها من أغراض سياسية واجتماعية ودينية في أى نوع منها ولا تتسق معه ....
والثاني : أن القرار المطعون فيه قد قضي عليها قضاء مبرما , فلم يعد لها من بعده أى وجود.
• رد مجلس الدولة على هذا الدفع :
وقد رد مجلس الدولة على ذلك بأن حق تكوين الجمعيات للمصريين حق مقرر أصيل كان قائما قبل الدستور الذي جاء فأقره وأكد قيامه , وإن عهد إلى القانون بتنظيم استعماله.ومؤدى ذلك أن للمصريين حق تكوين الجمعيات بلا حاجة إلى قانون يستمد منه هذا الحق ,لهم أن يستعملوه في حدود القانون وما لم يرد قيد على هذا الاستعمال فهو يجرى على إطلاقه .
وقالت الحيثيات : أن جمعية الإخوان تكونت في ظل هذا الحق الأصيل , فاكتسبت الشخصية المعنوية وفق المبادئ المسلمة من إسناد هذه الشخصية لكل جمعية استوفت مقومات هذه الشخصية من ذمة مالية مستقلة عن ذمم أعضائها , ومن قيام هيئة منظمة تعبر عن إرادتها .
واستمرت الحيثيات تقول : أنه لا اعتداء بما تنعاه الحكومة على أغراض الجمعية لتدفع به اكتسابها الشخصية المعنوية , فهي تأخذ عليها أنها جمعية سياسية وهذا لا يحول دون اكتسابها الشخصية المعنوية .وقد أقر القضاء المصري للهيئات السياسية بالشخصية المعنوية هذا فضلا عن أن المصريين يمارسون حقوقهم السياسية التي خولها لهم الدستور في حدود القانون , وحسبنا أن نذكر أنهم يشتركون بما لهم من تشكيلات سياسية في حكم البلاد وفي توجيه سياستها عن طريق الاشتراك في الانتخابات العامة في البرلمان .
كما تأخذ الحكومة على جمعية الإخوان أنها هيئة خيرية اجتماعية إلى جانب أغراضها السياسية وهذا بدوره لا يمنع اكتسابها الشخصية المعنوية فقد اعترف القضاء المصري للهيئات الخيرية والاجتماعية بالشخصية المعنوية . ثم إن الحكومة اعترفت بها بصفاتها تلك فرخصت لها بإصدار صحيفة تكون لسان حالها وأقرت نشاطها في شتي وجوهه وأغراضه بل منحتها بعض الإعانات المالية في سبيل تحقيق هذه الأغراض الخيرية .
وبالنسبة للوجه الثاني إذ قالت الحكومة أن الأمر رقم 63 لسنة 1948 قضي على الجمعية ولم يعد لها وجود قانوني فقد قالت الحيثيات : أن الحاكم العسكرى إذا كان يملك بمقتضي قانون الأحكام العرفية تعطيل نشاط الجمعيات تعطيلا مؤقتا بمنع اجتماعاتها فهو لا يملك القضاء عليها مبرما ب, بل تبقي قائمة قانونا وإن تعطل نشاطها .
وانتهت المحكمة من مناقشة هذا الدفع إلى القول بأنه قائم على غير أساس سليم من القانون وحكمت برفضه .
موضوع الدعوى الأمر العسكري رقم 63
• المجلس يستعرض حجج الدفاع :
وانتقلت حيثيات الحكم بعد ذلك إلى موضوع الدعوي بعد أن رفضت كافة الدفوع التي تقدمت بها الحكومة , فبدأت بسرد لدفاع الأستاذين محمد طاهر الخشاب وعبد القادر عودة المحاميين وقد جاء فيه : أنها هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام , وسردا هذه الأغراض ثم الوسائل لتنفيذها ثم الأدوار التي قام بها الإخوان إلى أن قالا :
" ولما نشبت الحرب الفلسطينية جندت الجمعية من شبابها جيشا خاض غمارها , وكان مثار الإعجاب لما أبدوه من ضروب البسالة . ولكن الحكومة ( السعدية ) إزاء حوادث فردية وقعت من بين المنتمين إليها اندفعوا تحت تأثير حماسة جامحة فالتوى عليهم القصد – حملت الهيئة بأجمعها وزر هذه الحوادث وألقت عليها إثمها فأصدر الحاكم العسكري _( دولة محمود فهمي النقراشي باشا ) الأمر المطعون فيه .
وكان مما قاله الدفاع أيضا : دسائس الإنجليز والصهيونيين وغيرهم الذين ظلوا يرمون الجمعية بالتهم الباطلة قد أفلحت في تأليب الحكومة ضد الهيئة فحالت الرقابة دون تمكينها من الرد على ما يكال لها من التهم بل صدر أمر الرقيب العام بتعطيل جريدة الإخوان إلى أجل غير مسمي ثم حشدت المعتقلات بالكثيرين من أعضائها بغير ذنب وبدون مبرر ثم صدرت الأوامر المطعون فيها بحل الجمعية وتصفية ممتلكاتها ومصادرة أموالها وتجميد أموال الأعضاء مع مخالفة ذلك للقانون إذ هي تخرج عن النطاق الذي فرضت من أجله الأحكام العرفية في ذلك الوقت وهي تأمين سلامة الجيوش المحاربة في فلسطين كما أنها تخرج عن نطاق التدابير التي تدخل في اختصاص الحاكم العسكري.
• المحكمة تناقش مذكرة الأمن العام للنقراشي
وقد ناقشت المحكمة المذكرة التي رفعتها إدارة الأمن العام إلى النقراشي باشا رئيس الوزراء وقتئذ ووزير الداخلية والقائم على إجراء الأحكام العرفية ثم قالت :
إنه ولئن كان ما جاء في هذه المذكرة أن الجماعة أعلنت في أول الأمر على الملأ أن لها أهدافا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفا سياسيا معينا ترمي إليه , ولكنها ما كادت تجد لها أنصارا حتى أسفر القائمون عليها عن أغراضهم الحقيقية وهي أغراض سياسية ترمي إلى الوصول إلى الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد بوسائل العنف .
وهذا يخالف الواقع لأن الجمعية حددت أغراضها في المادة الثانية من قانون نظامها الأساسي ومنها أغراض سياسية إلى جانب أغراضها الدينية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية .. وهذه الأغراض السياسية هي : تحرير وادى النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي , ومساعدة الأقليات الإسلامية في كل مكان وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا .
• المحكمة تستأنس بحيثيات حكم قضية السيارة الجيب : ثم قالت المحكمة : إنه مما يخالف الواقع ذلك الذي رمت به الحكومة تلك الجمعية من أنها كانت ترمي إلى قلب نظام الحكم بوسائل العنف . ولا أدل على ذلك مما ورد في حكم محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب . إذ بعد أن ذكرت المحكمة أن النيابة العامة قصدت إلى تصوير الجماعة بأسرها على أنها رمت لقلب نظام الحكم وأن أقوال المرشد العام ( الشيخ البنا ) كانت تحمل معاني التحريض السافر على القيام بهذه الجريمة , وأن المتهمين وزملاءهم فهموا من كلام المرشد أنه يرمي إلى ذلك وأن الغرض النهائي هو إقامة جمهورية على رأسها المرشد العام.... استعرضت نشأة الجماعة وأغراضها ووسائلها وتطورها ثم قالت : إن الاتهام لا يتفق مع الحقيقة المعروفة من أن الإسلام دين ودولة وقد سبق للمرشد العام أن تحدث في هذا الصدد..
وقالت المحكمة أنه ظهر جليا في أقوال المرشد العام أن الجماعة لا تناهض نظام الحكم القائم في مصر بل تراه متفقا مع النظم الإسلامية . وأنها كانت تهدف إلى تحقيق نظام شامل للنهضة والإصلاح وفقا لأحكام الدين الإسلامي وبالطرق الدستورية المعروفة .
ثم دحضت المحكمة ما عزي إلى الجمعية من أنها وقد سعت إلى قلب نظام الحكم أعدت لذلك جماعة إرهابية دربت وأعدت وسميت بالنظام الخاص وقالت المحكمة أن الاتهام على هذه الصورة خلط بين أمرين :
- الأول – التدريب على استعمال الأسلحة وحرب العصابات.
- الثاني – ذلك الاتجاه الإرهابي الذي انزلق إليه بعض المتطرفين من أفراد تلك الجماعة وكانت نتيجة الخلط الاتهام بأن نظام الجماعة بجملته نظام إرهابي .
وقالت المحكمة بوجوب التفريق بين الأمرين لأن النظام الخاص يرمي إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادا عسكريا تطبيقا لما دعا إليه مؤسس الجماعة من أن الأمر أصبح جدا لا هزلا , وأن الخطب ما عادت تجدي , وأنه لابد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل وأن حركة الإخوان تمر بثلاث مراحل :
الأولي – مرحلة التعريف بنشر الفكرة .
والثانية – التكوين وهي استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد المدني من الناحية الروحية والعسكري من الناحية العملية وصفات هاتين الناحيتين دائما أمر وطاعة من غير بحث ولا مراجعة .
والثالثة – مرحلة الإعداد .
واستطردت المحكمة تقول : أنه مما يدل على أن النية لدى أفراد النظام الخاص كانت متجهة إلى مقاومة جيش الاحتلال تلك الأوراق التي ضبطت في السيارة الجيب وهي تحض على أعمال الفدائيين وأن الصداقة البريطانية المصرية مهزلة , وأن الإنجليز يظنون شعوب الشرق الأوسط مسالمة ساذجة , ثم تحدثت عن التدريب على استعمال زجاجة مولوتوف وعرقلة المواصلات وتعطيل وسائل النقل الميكانيكي والقوات المدرعة .وانتهي كاتب هذه الأوراق إلى القول صراحة بأنهم يقاومون العدو الغاصب .
وقالت المحكمة أن أثر ذلك التدريب الروحي والعسكري ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين وأرسلت الجماعة الكثيرين من متطوعيها للقتال .
وبعد استشهاد مجلس الدولة بهذه الفقرات من حيثيات الحكم التي أصدرتها محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب خلصت من ذلك ومن مناقشة مذكرة الأمن العام إلى القول بأن ما نسبته هذه المذكرة إلى جماعة الإخوان مخالف للحقيقة والواقع .
• مناقشة أمر الحل نفسه والحكم بأنه على غير أساس من القانون :
وانتقلت محكمة القضاء الإداري بعد ذلك إلى مناقشة أمر الحل نفسه فقالت : إنه استند في ديباجته إلى البن الثامن من المادة الثالثة من القانون رقم ( 15) لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية .وهذا النص يخول للحاكم العسكري " منع أى اجتماع عام وحله بالقوة – وكذلك منع أى ناد أو جمعية أو اجتماع وحله بالقوة ".
وقالت المحكمة أنه ليس من شك في أن المقصود من هذا النص هو تخويل لحاكم العسكري في سبيل صون الأمن وحفظ النظام الإشراف والهيمنة على الاجتماعات لما قد تؤدي إليه من إخلال بالأمن والنظام وحفظ ذلك هو الغاية التي من أجلها وسدت إليه السلطة بموجب قانون الأحكام العرفية لمنع الاجتماع قبل عقده كإجراء وقائي وله حل الاجتماع وفضه بالقوة بعد عقده كإجراء علاجي .
وأضافت المحكمة قائلة :إن المقصود باجتماع أو ناد أو جمعية هو تواجد لفيف من الناس في مكان معين قد يخل تواجدهم فيه بالأمن والنظام .
ولذلك خول القانون للحاكم العسكري منع هذا التواجد ثم حله إذا تم أى تفريقه بالقوة .
وقالت المحكمة : أنه على ذلك تكون سلطة الحاكم العسكري في حل الجمعية لا تشمل القضاء على شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية وتصفية أموالها التي تتكون منها ذمتها المالية ..وآية ذلك أن المشرع قرر الحل باستخدام القوة وهي بطبيعتها لا تتوجه إلا إلى الاجتماع الذي هو مظهر مادي لا إلى الشخصية المعنوية التي هي وضع أو تكييف قانوني معنوي .
وانتهت المحكمة من ذلك إلى القول بأنه لكل هذه الأسباب يكون الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 القاضي بحل جمعية الإخوان المسلمين على غير أساس سليم من القانون ويتعين إلغاؤه.
الفصل الثالث تعقيب وتحليل لهذه الأحكام الخالدة
أولا – أنشئت هذه القضايا وركبت ورتبت بحيث طمست فيها جميع المعالم التي يمكن الاهتداء بها إلى الحق ,وأنشئت فيها معالم أخري تهدي إلى طريق محدد مرسوم في نهايته نهاية هذه الدعوى وإعدامها وتلاشيها لا من الوجود القانوني فحسب بل أيضا من نفوس الناس
ثانيا - وتوضيحا لذلك نقول: إن الذين تعاونوا وتآمروا على خلق هذه القضايا وإرساء أسسها وإقامة بنيانها , ثم طلائها , وفتح المنفذ الوحيد بها . وهم دولة كاملة بقضها وقضيضها , منحت نفسها جميع القدرات والإمكانات في الوقت الذي حرمت فيه غيرها من كل وسائل الدفاع عن نفسها , فكان رئيس الوزراء ووزراء الداخلية يخططون على هوى الجالس على العرش ومن وراءه من المستعمرين . وأجهزة الأمن مع أجهزة التحقيق تتعاون معا في التنفيذ..وحسبك أن تعلم أن رئيس جهاز التحقيق في الدولة كان إحدى الأدوات السخرة لهذا التنفيذ فلم يعد القارئ يجهل محمود منصور باشا النائب العام الذي كان يشرف بنفسه على التحقيقات في هذه القضايا , ويختار لها المحققين الذين يأنس فيهم لين الضمير ويستبعد عنها من يبلغه عنه أن عنده إثارة من ميل إلى العدالة .. فكان رئيس النيابة الأستاذ محمود إسماعيل هو الذي تولي التحقيق في قضية الأوكار فانتزعها منه النائب العام وأسند التحقيق فيها إلى إسماعيل عوض الذي كان متهتكا في إرضاء الحكومة .
ثم إن ضباط القسم السياسي لم يكونوا يكتفون بألوان التعذيب التي كانوا يسومونها المتهمين لانتزاع اعترافات محدد منهم , بل كانوا أيضا يحضرون التحقيقات .وقد منحهم النائب العام حق انتزاع التحقيق من يد محقق آخر .
ثالثا – كان المفروض أن يكون عرض هذه القضايا على القضاء لإصدار الحكم فيها هو الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤامرات ضد دعوة الإخوان الملمين ولما كانت الحلقة الأخيرة في السلسلة هي الحلقة التي يكتمل بها ارتباطها بعض ببعض لأنها هي التي تضم طرفي السلسة وتغلق الدائرة وبدونها تفقد السلسلة ارتباطها وتتعرض بقية حلقاتها لتشتت والتناثر فقد بذل المتآمرون أقصي جهدهم لإحكام هذه الحلقة وتأميها إذ كانت كل حلقات المؤامرة خادمة لهذه الحلقة وتحضيرا لها وتمهيدا " ذلك أن مل ما تم اتخاذه من إجراءات ضد الإخوان من حل واعتقال وتشريد واستيلاء وتشويه سمعة واغتيال لا يكون ذا قيمة ما لم يؤيد بحكم قضائي تكتسب منه هذه الإجراءات شرعيتها .
رابعا – كان إحراز المتآمرين النجاح من إحكام هذه الحلقة أمرا مفزوعا منه لا يساورهم فيه شك,, فالجهود التي بذلت في تحضير هذه القضايا جعلتها – كما قدمنا – كالطبخة الناضجة المشهية أمام من أشرف على الموت من الجوع ليس أمامه إلا التهامها عن آخرها دون أن يسأل عن مكوناتها .
وإن هذا الشعور لم يكن شعور المتآمرين وحدهم بل إنه كان شعور كل من عايش هذه الفترة العصيبة, ورأى إكباب كل السلطات في الدولة على تحضير هذه القضايا حتى أن هذا الشعور قد ظهر على لسان أحد هيئات الدفاع في قضية الأوكار حين أبدي رئيس المحكمة استعداد المحكمة لسماع شهادات في موضوع التعذيب فقال الأستاذ زكي البهنيهي المحامي :" المتهمون لا يستطيعون أن يقدموا أدلة لأن التعذيب كان يحصل بين أربعة جدران وهم لا يستطيعون أن يستشهدوا بأحد خصوصا وأن المحيطين بهم كلهم من رجال البوليس وكان الأطباء يدعون للكشف عليهم بعد عدة شهور من وقوع التعذيب مما يجعل الأطباء يثبتون آثار الإصابات وإن كانوا لا يستطعيون الجزم بها "
خامسا – يخطي من يظن أنه بعد سقوط وزارة عبد الهادي قد صار الجو مواتيا للإخوان .. نعم تغيرت الوزارة تارة إلى وزارة ائتلافية وتارة إلى وزارة محايدة وأخيرا إلى وزارة وفدية ..ونعم أيضا.. كانت هذه الوزارات على خلاف كبير مع وزارة عبد الهادي ولكن هذا الخلاف كان فيما سوي ما يتصل بالإخوان المسلمين فلقد كانوا جميعا مختلفين في كل شئ إلا في عدائهم للإخوان وقد أفردنا فصلا من قبل لقانون تنظيم الجمعيات حتى لا يداخل القارئ شك في هذه الحقيقة المؤلمة المزرية ..
كان العهد عهد الملك الذي كان يعمل من وراء ستار .. غاية الأمر أنه كان كلما علم أن المتفرجين داخلهم الملل غير المنظر ولكن الهدف من الرواية التي وضعها لا يتغير مهما تغيرت مناظرها أمام المتفرجين... كان هدف الدولة القضاء على الإخوان المسلمين وكان يعرف ذلك الخاصة والعامة.. وكان القطاع الأكبر من العامة في ذلك العهد مضللا فقد سلطت على سمعه وبصره وعقله وقلبه وسائل إعلام – كما يقولون تفتن العابد ... وحسبك أن تعلم أن كتابا كبارا مثل عباس العقاد باعوا ضمائرهم وسخروا أقلامهم للكذب والإفك والافتراء ورضوا لأنفسهم أن يكونوا مطية ذلولا لهذا العهد البغيض .
سادسا - القضاة أمام طريق مسدود :
وسط هذه الظروف كلها المواتية كل المواتاة لطرف ..والمنعدمة كل الانعدام للطرف الآخر .. طلب إلى القضاء أن يقول كلمته في هذه القضايا ..والقضاة – مهما قيل فيهم – بشر كسائر البشر له عقول ولهم قلوب , ولكن لهم أيضا مصالح وآمالا .
ومع ذلك فقد كان لهم فيما بين أيديهم مندوحة .. فلو أنهم تناولوا هذه القضايا تناولهم لسائر القضايا التي تعرض عليهم واقتصروا على الأسباب الظاهرة التي لا يطالب القاضي – باعتباره بشرا – بالنظر إلى ما هو أبعد منها فحكموا بالحكم الذي تمليه هذه الأسباب فكان الحكم هو م أراده المتآمرون أو قريبا منه .... لما كانوا في ذلك ملومين بل كانوا معذورين أمام قضايا أحكم إغلاق كل منافذها ..وإذن لتفتحت أمام مصالح هؤلاء القضاة وآمالهم أبواب السعادة والرقي ولوجدوا أحضان الحكومة مفتوحة في انتظارهم لتبوئهم أعلي مناصبها .
ولكن الذي حدث هو أن هؤلاء القضاة قد حاك في صدورهم شئ حين رأوا بين أيديهم قضايا كل المتهمين فيها معترفون وأكثرهم آثار التعذيب بادية على أجسامهم بالرغم من طول المدة منذ انتهاء التحقيق . فلم تسترح ضمائرهم إلى أخذ هذه القضايا مأخذ غيرها من سائر القضايا التي تكفي أسبابها الظاهرة لإصدار حكم فيها يكون عادة أقرب شئ إلى الصواب .. فكان قرارهم أن يتأنوا في نظر هذه القضايا وأن يقلبوها على جميع وجوهها وأن يحاولوا بكل الوسائل المتاحة أن ينفذوا إلى داخلها .
سابعا: براعة المحكمة في جر عبد الهادي للشهادة :
ولما رأي هؤلاء القضاة أنهم عاجزون عن النفوذ إلى داخل هذه القضايا إلا عن طريق حائكي خيوطها وناسجي الجدار الواقي المنيع من حولها ولما كان من المستحيل استدعاؤهم كمتهمين في هذه القضايا حاولوا استدعاءهم شهودا ..وضربت المحكمة الأولي – محكمة سيارة الجيب – في هذه المعركة الضربة الأولي – والضربة الأولي نصف المعركة فاقتحمت إلى كبيرهم واستدعته شاهدا .. وظهرت مهارة رئيس هذه المحكمة في تهيئة المناسبة التي تقتضي استدعاء هذا الكبير وتبرر سماع شهادته حيث استمعت إلى أقوال المتهم عبد الرحمن عثمان الذي جاء فيها أنها أخذ من سجنه بحجة الذهاب إلى محكمة الاستئناف للتحقيق معه ولكنه بدلا من ذلك أخذ من سجنه إلى محطة سكة حديد القاهرة حيث قابل إبراهيم عبد الهادي باشا في صالونه الخاص بالقطار وظل معه حتى وصل إلى الإسكندرية وروي للمحكمة ما دار بينه وبين الباشا من حديث .
فرأت المحكمة أن في أقوال هذا المتهم ما يبرر استدعاء إبراهيم عبد الهادي باشا باعتباره شاهدا للاستفسار منه عن مدى صحة أقوال هذا المتهم ولكنها وبناء عن طلب الدفاع رأت قبل مثوله شاهدا بين يديها أن تستمع إلى ثلاثة من المتهمين في قضية الأوكار وجودة باعتبارهم أيضا شهود نفي في هذه القضية وهم سعد جبر التميمي ومصطفي كمال عبد المجيد وعبد الفتاح ثروت ..وبعد أن أدي هؤلاء الثلاثة شهادتهم طلبت إبراهيم عبد الهادي باشا فمثل أمامها .. وكان ذلك كله في جلسة 19/12/ 1950 التي تعد بحث جلسة تاريخية .
أتي الباشا للشهادة صاغرا وتناوبت عليه المحكمة من جانب والدفاع من جانب آخر , وأمطروه بالأسئلة , وطلب المتهم مواجهته بالشاهد وتمت المواجهة .
وانتهز الدفاع الفرصة – والرجل كان يعلم أنه قد جاء للشهادة في قضية السيارة الجيب ,وهو يعرف كل شئ عنها ,ويعرف المتهمين فيها فاستعد لكل ذلك ولكن الدفاع فاجأ الباشا من حيث لا يحتسب ,وباغته بأسئلة تتصل بمتهم من خارج القضية هو مصطفي كمال عبد المجيد المتهم في قضية حامد جودة فكانت المفاجأة للباشا جعلته – رغم مهارته في تزوير الحقائق – في أحرج المواقف , حتى كان من إجابته ما أضحك الحاضرين وقد اضطرته المفاجأة إلى الاعتراف بأمور كانت مفتاح اللغز الغامض للتعذيب .
وكانت حركة التفاف بارعة ماهرة أن استدعت المحكمة مصطفي كمال عبد المجيد واستمعت إليه شاهدا قبل أن تستمع إلى عبد الهادي وفي جلسة واحدة حتى لا يعرف عبد الهادي ما كان من شهادة مصطفي كمال لو أنها كانت في جلسة سابقة فيستعد الباشا في شهادته لترتيب معين في أقواله يتفادي به المآزق التي أوقعته فيها أسئلة الدفاع المفاجئة وأسفرت هذه المظاهرة المفاجئة لأكبر رأس في المؤامرة عن شق ثقب في الجدار المنيع استطاع القضاء أن يكشفوا عن طريقه ما وري من سوءات المدبرين . ما كان أغني هؤلاء القضاة عن هذا العناء ؟ وقد كانوا في حل من اقتحام هذا الطريق الشائك الوعر , ولكن القلوب المؤمنة .والضمائر الحية المرهفة لا تبالي بالعناء , ولا تنثني أمام العقبات .. حتى تشعر بالرضا عن نفسها وحتى تحس في قرارة ضميرها أنها لم تقصر في حق وأنها قد أبلت بلاء حسنا .
لقد كان مثل هؤلاء القضاة ومثل هذه السلطات المتآمرة في هذه القضايا كمثل نفر من المشهورين بارتياد الغابات دعوا لارتياد غابة كثيفة في أعماق الغابات- وقصد الذين دعوهم من دعوتهم أن يسمع الناس من أفواه هؤلاء الخبراء في ارتياد الغابات ما ينفرهم من هذه الغابة – فرأي المرتادون أول ما رأوا في الغابة كومة ضخمة من العقارب والأفاعي والحيات ومختلف الهوام التي تقشعر لرؤيتها الأبدان .. فقال الداعون للخبراء : أرأيتم ؟
هيا بنا نرجع أدراجنا قبل أن تفتك بنا وبكم هذه الآفات .. ولقد جئنا بكم لتروا بأعينكم أننا على صواب حين حذرنا قومنا من هذه الغابة قلنا لهم أنها غابة والموت والأهوال .. ألسنا على صواب ؟.. هيا أعلنوا ذلك على الملأ .
ولكن فريقا من خبراء الغابات المدعوين لم يتسرعوا بالحكم على صواب ما سمعوه ممن دعوهم وقالوا لهم : دعونا نقترب من الكومة .. فكرر هؤلاء تحذيرهم ولكنهم أصروا مجازفين .. وصاروا يقتربون من الكومة فيحذر خطوة خطوة حتى غافل واحد منهم الداعين وفي قفزة واحدة وصل إلى حافة الكومة فرأي كبرى الأفاعي رابضة على هذه الحافلة تتلوى وتنذرهم بالالتهام .. وبشجاعة وحذق ضربها على رأسها بعصاه فولت مذعورة وولي خلفها مئات الأفاعي والهوام .. فانكشف جزء من المكان الذي كانت تغطيه هذه الأفاعي بأجسامها ..فأخذ هذا الخبير المرتاد ينبش بعصاه في المكان الذي انكشف وظل يحفر حتى رأى بريقا يأخذ بالأبصار منبعثا من موضع نبشه .. دفعا زملاءه فنبشوا بعصيهم فإذا به كنز مدفون قد حجب عن الناس بهذه الكومة الشاهقة المصطنعة من الآفات والأفاعي والهوام.
فلما رأى الرواد الخبراء هذا الكنز بأعينهم طلعوا على قومهم أن أبشروا فإن غابة الموت والأهوال لم تكن إلا خديعة أراد مدبروها أن يحجبوا عن أنظاركم كنزا ثمينا لكم فيه الغناء والرخاء والرفاء .. حجبوه بهذه الكومة المصطنعة من الهوام التي جمعوها من هنا وهناك .
وهكذا لم يكتف فريق الرواد بفضح الخديعة الكبرى التي طلبوا للمشاركة في حكبها على قومهم بل إنهم كشفوا في نفس الوقت لقوهم عن الكنز المدفون تحتها لينتفعوا به.
ثامنا - خسر الإخوان في هذه المحنة الكثير الثمين الغالي من الأرواح والأجسام والمال والممتلكات , ولكن إذا وضعنا كل هذه الخسائر في حساب الدعوة الإسلامية في كفة الميزان لجاء ما اكتسبه الإخوان من أحكام القضاء في الكفة الأخرى راجحا.
وإذا كانت أعظم هذه الخسائر هي بلا شك فقد الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله فإن فقد القائد في الدعوة الإسلامية في معاركها مع الظلمة والمتآمرين أمر متوقع سوابقه في التاريخ الإسلامي معروفة مشهورة فقد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبي طالب والحسين بن على وفقد الكثيرون من القادة والأئمة فما توقفت الدعوة بفقدهم بل جادت بخلفاء لم رفعوا اللواء وواصلوا المسيرة .
إذا مات منا سيد قام سيد قنول لما قال الكرام فعول
وسوف يري القارئ في الصفحات التالية إن شاء الله كيف أن الدعوة لم تمت بموت حسن البنا بل أن دمه الطاهر قد روي شجرتها فكان أكسير الحياة لها , بحيث لم تعد قابلة للموت بعد ذلك بإذن الله .
خسرت الدعوة ما خسرت في هذه المحنة ولكنها اكتسبت الخلود بأحكام القضاء , وإذا عبرت بلفظ الخلود فإنما قصدت التعبير عن الطور الجديد الذي تمخضت عنه هذه المحنة فقد صارت دعوة الإخوان فكرة عالمية وأصبحت إحدى القوى المؤثرة في هذا العالم سواء اعترف بها رسميا أم تجاهلها الرسميون .
تاسعا - قد يلاحظ القارئ أن حكم المحكمة في قضية السيارة الجيب تناول بعض المتهمين فيها بعقوبات ... فكيف بأحكام تضمنت إدانة لبعض المتهمين ؟
وهذه ملاحظة جديرة بأن نعلق عليها في صدد ما نحن فيه , ذلك أن القضاة – مهما تفاعلوا مع مجتمعهم ومهما بلغوا في تقدير الظروف , ومهما أيقنوا من شرف الغاية- فإنهم مقيدون أولا وأخيرا بالأسس التي يقوم عليها النظام العام للدولة ... فقضاة هذه المحكمة كانوا على تفهم تام لظروف القضية وظروف المتهمين فيها , وكانوا مقدرين كل التقدير هذه الظروف,وكانوا مقتنعين بشرف غاية المتهمين ويتمني كل قاض منهم أن لو أتيحت الفرصة لنجاح هذه الدعوة في تحقيق أهدافها لإنقاذ البلاد مما ترزح تحته من احتلال أجنبي واستغلال داخلي .. ولكن – حتى يزول هذا النظام الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة – هم مقيدون بهذا النظام وبالاستناد في أحكامهم إلى القوانين التي سنها هذا النظام .
لقد كان المطلوب هو الحكم بإعدام هؤلاء المتهمين أو الحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة.. فإذا بالحكم يبرئ أربعة عشر متهما ويحكم على الباقين بأحكام أقصاها ثلاثة سنوات .. وما كان لمحكمة مقيدة بنظام الدولة إلا أن يكون في حكمها إدانة , فكانت الإدانة في أخف صورها مشفوعة بما يشبه التماس العذر لمن أدين مع الإشادة بنبل غاية الإخوان المسلمين وسمو مقاصدهم , ورائع جهادهم , والإقرار بسلامة أسلوبهم في تربية الشباب تربية روحية رياضية عسكرية .
وليس أدل على اقتناع قضاة هذه المحكمة بكل هذا الذي أشرنا إليه مما ضمنوه حيثياتهم , من أن رئيس هذه المحكمة بعد أن فرغ من هذه القضية ومما كان منوطا به من قضايا أخري قرر اعتزال القضاء وتقدم إلى الإخوان المسلمين معلنا انضواءه تحت لوائهم ... وكان أحد المتطوعين في هيئة الدفاع عن المطالبين بالحق المدني في قضية اغتيال الأستاذ الإمام .
عاشرا – كان الحكم سيكون أروع لو تم نظر قضية الأوكار :
ومع إقرارنا وإقرار كل الأوساط المثقفة لا سيما الأوساط المشتغلة بالقانون بأن حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب هي إحدي المعالم البارزة في تاريخ القضاء المصري , والتي نطق كبار رجال القانون في مصر حين أطلعوا عليها تعبيرا عن بالغ إعجابهم فقالوا :" إن في مصر قضاة " – مع إقرارنا بذلك وبأن الضربة الأولي نصف المعركة وبأن هذه الأحكام وما تبعها من حيثيات كانت مفاجأة مذهلة للجميع فقد أذهلت السلطات القائمة لأنها نسفت كل ما خططوا وأرسوا بناءه في سنين وأذهلت الشعب نفسه , لأنه لم يكن يتصور أن في أبناءه – بعد – من تصل به الجرأة إلى هذا الحد من مناطحة أكبر رءوس الدولة بمثل هذه الشجاعة المنقطعة النظير.
مع إقرارنا بذلك كله نقول : لو أن الظروف أتاحت لقضية حامد جودة والأوكار أن يستمر نظرها دون العوائق التي عوقتها , لسمعنا ورأينا العجب العجابا في أحكامها وحيثياتها .. ذلك أن هذه القضية – وقد جاءت بعد قضية سيارة الجيب – لم يدخل القضاة فيها على طريق مسدود – كما كان الشأن في قضية الجيب , بل وجد القضاة أمامهم بعض منافذ أنشأتها المحكمة السابقة, وقد استطاع الدفاع بمهارته أن يوسع من هذه المنافذ شيئا فشيئا حتى صارت طرقا سلكها القضاة فكشفوا فيها عن مواقع لم يكن المتآمرون يعتقدون أنها تكشف في يوم من الأيام .
ففي هذه القضية – الأوكار وجودة – كشف عن شخصية " العسكري الأسود" الذي كان الفضل في كشفه لجريدة " الجمهور المصري " وإلى الصحفيين المحررين بها سعد زغلول والبعثي , وقد رأينا البوليس السياسي - حين علم بعثور المحكمة على هذا العسكري – قد شمر عن ساقه ووضع خطة للإلتقاء به قبل أن يمثل أمام المحكمة . ووصل اهتمام البوليس السياسي بهذا اللقاء إلى حد تطويقه الصحفي سعد زغلول في منزل أحد أصدقائه ومنعه من الخروج حتى لا يمثل أمام المحكمة شاهدا , ولم كين اهتمام البوليس السياسي هذا الاهتمام البالغ إلا دفاعا عن أنفسهم لأنهم أيقنوا أن هذا العسكرى إذا صرح أمام المحكمة بالحقائق فإنهم سيوضعون جميعا في قفص الاتهام .
وفي هذه القضية شهود التعذيب شهود عيان كالشاهد الذي كان جارا لقسم مصر القديمة والذي وصف ما رآه بعينه وبمنظاره المقرب وما سمعه بأذنيه من تعذيب ظل طول الليل داخل هذا القسم للمتهم مصطفي كمال عبد المجيد, وكالشهود الذين كانوا ضباطا بالقسم السياسي ثم تركوه .
ولكن الحدث الجلل,والمفاجأة المذهلة والطامة الكبرى على المتآمرين هي شهادة اثنين من رجال القضاء والنيابة ممن باشروا التحقيق فترة في هذه القضية أحدهما من رجال النيابة والآخر قاض .. وناهيك بشهادة رجال القضاة إن كلمة واحدة منها ترجح في ميزان العدالة عشرات الشهادات .
ومما يؤسف له أن الإخوة المتهمين في هذه القضية قد صدر قرار بالإفراج عنهم أو العفو عنهم على الأصح في سنة 1954 – وكم كنا نود لو أن محكمة الجنايات التي كانت تحاكمهم في سنة 1951 أصدرت أحكامها قبل قيام الثورة في سنة 1952 ونشرت حيثيات هذه الأحكام , إذن لسجلت لدعوة الإخوان المسلمين مجدا أروع مما سجلته لها محكمة سيارة الجيب ولسجلت على الطرف الآخر المتآمر خزيا وعارا – لا مجملا كما جاء في أحكام قضية الجيب وحيثياتها – بل مفصلا تفصيلا لأن هذه المحكمة قد كشفت من مخازيهم ما يزكم الأنوف ويجرح الصدور, وتتقزز منه النفوس .
• مجلس الدولة اعتمد في أحكامه على حيثيات قضية الجيب :
وإن كنا لا ننكر أن للمحكمة الأولي الفضل في أنها هتكت أول حجاب تنكري كان المتآمرون يظهرون به أمام الشعب ليخدعوه. وكانت حيثياتها مما اعتمدت عليه حيثيات محكمة مجلس الدولة في حكمها ببطلان الأمر العسكري بحل الإخوان وإلغائه .
أم حيثيات مجلس الدولة نفسها فإنها قواعد قانونية حددت لسلطة الحاكم نطاقا لا تتعداه وقررت لحرية الشعب في تكوين الجمعيات المدى الذي لا يطمع عشاق الحرية فيما هو أبعد منه .
وقد رأينا أن نثبت نصوصا كاملة في هذه الحيثيات حتى يستنير القارئ بقراءتها فيعرف حقوقه المخولة له بنصوص الدستور فيحرص على السهر عليها , والمطالبة بها, والذود عنها , بهذه الحجج القاطعة الدامغة التي قررتها أ‘م هيئة للقانون الإداري في الدولة .
وقد كان الإخوان يطمعون في أن يستردوا مركزهم العام وممتلكاتهم وأن يباشروا عملهم الرسمي لدعوتهم بقرار تصدره الحكومة ولكن شاءت إرادة الله – وهو الذي يختار لدعوته – أن يختار لهم الموقف الأكرم والرجوع الأشرف , عن طريق حكم القضاء حتى لا يتحملوا بجميل لأحد سوي القضاء الذي هو ملجأ كل مظلوم.
ويعد ... فها نحن الآن نؤرخ لفترة مضي عليها أكثر من ربع قرن . تطورت فيها الأمور . وتغيرت خلالها الأحوال – كدأب الأيام وطبيعة الزمن انقضي في أثنائها ما انقضي ومضي في خلالها من مضي فصار بين يدى الله ( ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ( النجم : 31 )
فمن الذي ربح من الرجال الذين مروا بهذا التجربة القاسية ممن وضع الله في أيديهم مصائر الناس ومن الذي خسر ؟... هل ربح الذين التحقوا بركب الطغاة أملا فيما عندهم من ألقاب ومناصب , فرحوا بها حينا من الزمن ثم تركوها مخلفين وراءهم عارا لا يذكرهم مواطنوهم إلا به , وسجلوا على أنفسهم في صفحات التاريخ خزيا لا يمحي ؟ ثم أفضوا إلي ربهم الذي لا يضل ولا ينسي .
أم هؤلاء الذين كان من قدرهم أن يعتلوا منصة القضاء في تلك الفترة العصيبة, وزين لهم الشيطان – كما يزين لكافة الناس – ما ينتظرهم من متع الحياة ومباهجها والحظوة لدي أصحاب السلطان , فهموا بالتعلق بها – كدأب سائر البشر – لولا أن رأوا برهان ربهم فتذكروا أنهم بين يدى امتحان رهيب : متع زائلة يعقبها ذكر سئ وبئ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة وإعراض عن هذه المتع يعقبه ذكر عطر في الدنيا والآخرة وخر هنالك المبطلون , ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )( الحديد : 20) .
ألا رحم الله رجالا تبوأوا منصب القضاء فعلموا أنهم خلفاء الله في الأرض ,كلمتهم فاصلة في المال والأعراض والدماء .. فلم يستوحوا إلا ضمائرهم , ولم يستلهموا إلا ربهم ولم تفتنهم عن كلمة الحق رغبة ولا رهبة, فقالوا مدوية رائعة .. تاركين لأنفسهم ولأمتهم ذكرا في الخالدين ( فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) ( آل عمران : 148) .
ختام الباب
وقد يجمل بنا بعد ذلك, وفي ختام هذا الباب المتضوع بأريج نزاهة القضاة المصري أن ننقل للقراء تحقيقا صحفيا أجرته صحيفة أخبار اليوم في 12 /7/1952 مع رئيس المحكمة التي أصدرت حكمها في قضية السيارة الجيب . وهاكم نص هذا التحقيق الذي نشرته الجريدة تحت هذا العنوان :
المستشار الذي حاكم الإخوان المسلمين
أصبح واحدا منهم
الإسكندرية – مكتب " أخبار اليوم "
بدأ الإخوان المسلمون في تعديل لائحة الجماعة , وذلك على أثر صدور حكم مجلس الدولة ببطلان الأمر العسكري الصادر بحل الإخوان .
وقرر مكتب الإرشاد العام اتخاذ الإسكندرية حقلا لأول تجاوب اجتماعية من نوعها تقوم بها الجماعة حتي إذا ما نجحت التجربة عممت هذه المشروعات في جميع بلاد القطر.
وقد اختيرت الإسكندرية بالذات لإجراء هذه التجارب الجديدة بعد أن انضم إلي الجماعة سعادة أحمد كامل بك الرئيس السابق لمحكمة جنايات مصر , الذي أصدر حكمه في قضية سيارة الجيب . وقد اختير سعادته رئيس للجنة الاستشارية للإخوان في العاصمة الثانية ليبحث وينظم هذه التجارب على ضوء دراساته وتجاربه الماضية .
وسيشرف سعادته على تنفيذ هذه المشروعات التي وضعت لصالح الجماعة وهي :
- الضمان الاجتماعي .
- التأمين الصحي والعلاجي .
- تنظيم جباية الزكاة وإنفاقها في وجوهها الشرعية .
• الرجل الذي غير مصير الإخوان :
• وقبل عامين كان أحمد كامل بك هو الرجل الوحيد في مصر كلها , بل في العالم العربي كله الذي يتحكم في مصير الإخوان المسلمين . وكانت كلمة منه كفيلة بالقضاء علي المستقبل السياسي للجماعة , وإغلاق فروعها وشعبها في كل قرية ومدينة وفي سوريا ولبنان والباكستان وفي كل قطر إسلامي وقف عنده أو امتد إليه الدعوة الجديدة .
.... كلمة واحدة فقط يمكن أن تغير مصير الدعوة وكان يمكن أن تؤدي إلى تشريد كل من يدين بمبدأ الإخوان .. وأبقي الرجل على الجماعة حتى قدر له أن يصبح واحد منها يساهم بجهده من أجلها , بعد أن ظل مصيرها كله معلقا به .
من فوق المنبر العالي :
وجلس الرجل فوق المنصة العالية أربعة شهور متتالية يدرس برامج الجماعة ويتعمق في تحليل حقيقة أهدافها ومراميها وتلتقط أسماعه أقوالا متناثرة في ساحة القضاء ليصدر بعد ذلك حكمه بأن الإخوان المسلمين جمعية إسلامية تهدف إلى إقامة مجتمع إسلامي مثالي بحكمة الدين.
• إذاعة السر :
هذه المراحل الثلاث المتضاربة بقيت سرا مكتوما في ضمير القاضي .. حتى فتح قلبه " الأخبار اليوم" هذا الأسبوع ليروي القصة كاملة .. قصة القضية التي غيرت مصير الإخوان , وغيرت أيضا مصير القاضي نفسه .. بحيث نقلته إلى الصف الأول من صفوف المكافحين يجلس بينهم بعد أن كانوا جميعا يقفون بين يديه ,وكان ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم رهن كلمة منه .
• قصة الماضي :
وتبدأ القصة مع الرجل في ماضيه البعيد عام 1930 عندما خلع الأستاذ أحمد كامل روب المحاماة بعد ستة عشر عاما ليرتدي وشاح القاضي .
وفي المنيا سمع لأول مرة عن هيئة دينية جديدة تسمي " الإخوان المسلمين " وكان يظنهم جماعة صوفية تشبع أفرادها بالتعصب الديني وكراهية الأجانب .. وتخيل أن عملهم مقصور على حفلات الذكر ..ولم يحاول أن يصل إلى الحقيقة في هذا الأمر فلم يكن يعنيه منه شئ .. وما خطر بباله يوما أن الوصول إلى حقيقته سيكون شغله الشاغل .
• كانت الفكرة تطاردني :
وانتقلت نفس الفكرة معه من المنيا إلى بني مزار .وكلما تقلب بين بلاد القطر كانت الفكرة لا تزال مسيطرة عليه , كما يروي " كانت تتبعني دائما بل كانت تطاردني . هربت منها في إسنا ولكنها لحقتني في أسيوط , وتعقبت خطواتي كلما ارتقيت درجة في السلك القضائي , وكانت معي في طنطا ودمنهور والقاهرة .. ولم أكن أعرف أني سألتقي بهذه الفكرة التي رسبت في أعماقي في معركة حاسمة في محكمة جنايات القاهرة ".
• اللقاء الأول والأخير:
• وسرح الرجل بفكره وهو يذكر قصة لقائه الأول بحسن البنا , وهو اللقاء الأخير أيضا وكان ذلك في الزقازيق عام 1945 وقد أضحي الشاب مستشارا في محكمة الجنايات وأقيم حينذاك احتفال بالمولد النبوي
• بين العقل والقلب :
واستمع في هذا اليوم إلى حسن البنا , وهو يتحدث عن العالم الإسلامي كما ينشده الإخوان المسلمون وعن المجتمع المثالي كما يتخيلونه إذا نفذت برامجهم .
وشعر حينئذ أن الرجل خطيب ممتاز يؤثر في سامعيه.ولم يحاول أن يفاضل بين الخاطر الذي استقر طويلا في عقله , والخاطر الجديد الذي بدأ يطرق زوايا قلبه طرقا رقيقا هينا ولكن في نغم حلو .
وبين العقل والقلب قام الكفاح أربعة أشهر حتى انتهي الاثنان إلى رأي واحد, بعد أن جمعت أمامه بل حشدت له جميع بيانات حسن البنا وخطبه وأحاديثه الدينية ومذهبه السياسي جمعتها له النيابة كمستندات ضد اثنين وثلاثين شخصا من الإخوان المسلمين , أو " الأعضاء الإرهابيين في الجماعات المنحلة " كما أطلق عليهم في ذلك الحين .
• الفكرة السجينة :
وحلقت خواطر القاضي السابق بعيدا وهو يذكر تلك الأيام من شهر ديسمبر 1950:
" كانت أمامنا أوراق كثيرة, ربما عشرة آلاف صحيفة , وربما تزيد على ضعف هذا العدد وكنا مطالبين بأن نقرأها جميعا.
وأقولها مخلصا. لم يكن يعنينا كثيرا في هذه الأيام هؤلاء الاثنين والثلاثين متهما الذين وقفوا يحملقون فينا من وراء القضبان .. بل كان يعنينا كثيرا تلك الفكرة السجينة خلف هذه القضبان ما هي ؟ ما حقيقتها ؟ ما وراءها من آمال ومطامع ؟ إن صح أن للدعوة مطامع على الإطلاق عدا المثالية في مجتمع مأساته الأولي أخلاق بنيه .
كانت الفكرة السجينة هي هدف المحاكمة الأول . كنا نريد أن نحكم لها أو عليها .. فإما أن يتاح لها أن تطل برأسها على مصر والعالم من جديد . وإما أن تلفظ أنفاسها صريعة داخل القضبان . حيث يطويها العدم والفناء .
كان يعنينا كثيرا مصير عشرات الألوف بل ومئات الألوف من " رهبان الليل وفرسان النهار " كما قالت عنهم الصحف ووكالات الأنباء , وكان علينا أن نقرر مرة واحدة وإلى الأبد هل هؤلاء جميعا يسعون إلى قلب نظام الحكم وإتلاف أسلحة الجيش المصري وتخريب المنشآت الحكومية ونسف الطرق والكباري والسرقة المسلحة ؟... وما أكثر ما وجه إلى هؤلاء الأبرياء .. الذين أصبحت واحدا منهم .
• الحقائق مطلقة للقاضي :
إن الحقائق نسبية لجميع البشر إلا للقاضي . فإنه لا يعرف إلا حقيقة واحدة مطلقة . وأقل شك لديه يغير مصير حياته والحيوات الأخرى المتعلقة بكلمة القدر التي تنطق بها شفتاه.. كنت حريصا على أن أقرأ كل شئ . فتتبعت نشأتهم وأحسست إذ ذاك بروحي تجوب معهم شوارع الإسماعيلية في عام 1928, ثم تترك المدينة الضيقة لتضئ كل مكان في مصر وحتى في ميدان القتال على أرض فلسطين .
واستمعت إلى أحد الشهود .. ولم أستطع أن أنسي شهادته إلى الآن .. ما أكثر ما ناقشته في تلك الأيام ... وكنت أنا وهو حريصين على أن نصل إلى الحقيقة كاملة .. وعرفنا الحقيقة الكاملة , وأنا وزميلي اللواء أحمد على المواوي بك قائد حملة فلسطين الذي انضم إلى الإخوان المسلمين في الشتاء الماضي عضوا في اللجنة الاستشارية ليضع خطوطا جديدة لتحركات الإخوان في الميادين الاجتماعية والرياضية .
• من كان يدرى ؟
هل كنت أستطيع في ذلك الوقت أن أتنبأ بأني سأضيف إلى مشروعاتهم صفحة جديدة ؟ لا أحد يدرى .. وربما كان الاثنان والثلاثون متهما الذين كنت قاضيهم هم آخر من يتوقع ذلك .
• القصة غيرت مجرى القضية :
إن قصة " العسلوج" غيرت كثيرا من مجرى القضية... لقد روى المواوي بك القصة كاملة , قصة الذين قيل عنهم أنهم أرادو إتلاف أسلحة الجيش المصري .. لقد نفذت ذخيرة ألف وخمسمائة جندي من الجيش .. ولم يستطيعوا التقدم للاستيلاء على الموقع .. وتقدم خمسة وعشرين من فرسان الليل من كتيبة المرحوم أحمد عبد العزيز ليستولوا على الموقع ونجحوا في ذلك .. حقيقة كانوا قلة , ولكن كان لهم شعارهم الخالد , شعار الأجيال ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) ( البقرة : 249) .
• تحررت :
وبدأ فكرى يتحرر من رواسب سبعة عشر عاما , وبدأت خواطري القديمة عنهم تتلاشي وبدأ حسن البنا يفقد في ناظري شخصية شيخ الطريقة المتصوف الذي يعقد حلقات الذكر لتحل محلها شخصية قائد الدعوة .
• قاضيهم ومحاميهم :
كنت مطالبا بأن أكون عقيدة لنفسي قبل أن أكون عقيدة لغيري , وكان يجب أن أعيش في القضية مكان المتهمين ومكان أعضاء الجماعة ومكان قائد الدعوة لأؤمن بما يؤمنون به , أو لأكفر بما يعتقدون أنه الحق ... وبين الإيمان والكفر كانت تنظر قضية سيارة الجيب لتحدد وإلى الأبد... مصير الإخوان المسلمين ..ولتحدد بعد ذلك مصيري . فإني أعتقد أن هذه القضية هي وحدها التي هدتني إليهم , وهي التي دفعتني إلى أن أصبح عضوا عاملا في الجماعة أسير معهم وأدافع عنهم عندما يحين لقضية الأوكار " أن تعرض أمام القضاء .
ملحوظة : قضية " العسلوج" التي جاء ذكرها في حديث الأستاذ أحمد كامل بك هذا كنا قد تناولناها بشئ من التفصيل في الجزء الأول من كتابنا هذا في صفحة 346 تحت عنوان " بطولات خارقة لحماية انسحاب الجيش المصري " .
الباب الرابع نظرة أخيرة إلى حسن البنا
- • تاريخ أرادوا طمسه .
- • حسن البنا بين مختلف الطوائف والأفكار.
- • حسن البنا والطائفة الخامسة أو موقفه من الساسة والحكام.
- • أخر ما كتبه حسن البنا بخط يده للنشر .
- • حسن البنا وكبار الدعوة في العالم الإسلامي في العصر الحديث .
الفصل الأول تاريخ أرادوا طمسه بعد حسن البنا
حسن البنا صاحب دعوة أفني حياته في نشر لوائها , فقد وصل بها إلى أعماق الريف بعد أن غزا بأفكاره عقول الطائفة الرائدة في البلاد من طلبة الجامعة والأزهر , فهز بهذه الطائفة أرجاء مصر من أقصاها إلى أقصاها .. وظل يزحف بدعوته هذه يوما بعد يوم حتى ضيق الخناق على كل فكر زائف .. سواء أكان عقيديا أو اجتماعيا أو سياسيا .. مما دعا أصحاب هذه الأفكار الزائفة – مع ما بينهم من خلاف مرير – إلى تناسي خلافاتهم وأجمعوا كيدهم ثم أتوا صفا لضرب هذا الزحف الهادر ضربة رجل واحد .. واتحدت الشيوعية الدولية مع الصهيونية العالمية مع الاستعمار الغربي مع الخونة من المصريين ووجهوا الضربة القاضية إلى صاحب الفكرة وباعث لحركة ومنشي الدعوة , وقائد الزحف فأردوه قتيلا , وسط مؤامرة محبوكة الأطراف ..وراح حسن البنا شهيد فكرته وضحية دعوته .
ولما تم لهم ما أرادوا من اغتياله فوجئوا بما لم يكونوا يحتسبون . إذ وجدوا أنهم لم يظفروا بما كانوا يأملون من الأمن .. فقد ظل شبحه يلاحقهم ويقض مضاجعهم ويبعث الرعب والفزع في نفوسهم .. فجندوا كل إمكاناتهم من أقلام كتاب إلى حناجر خطباء إلى محرري صحف إلى أبواق دعاية إلى ملفقي تهم إلى مزوري تحقيقات , إلى محترفي تعذيب لمطاردة هذا الشبح ..وظلت هذه المطاردة عاما كاملا لا تهدأ يوما واحدا ولا ساعة من ليل أو نهار ..ولكنها مع ذلك فشلت في مطاردته وتغلب عليهم – فاضطروا إلى تغيير الأسلوب , ولجأوا في المطاردة إلى أسلوب الخداع والمداهنة عن طريق من القوانين .. ففشلوا كذلك .. ولما سقط في أيدهم سلموا بالأمر الواقع راغمين .
استشهد حسن البنا في 12 فبراير 1949 ولكن كلمة إنصاف واحدة في حقه لم تخطها يد كاتب في صحيفة إلا في 14 فبراير 1952 حيث كتبت جريدة " المصري " معبرة عن رأي أصحابها فنشرت صورة له وتحت عنوان " ذكري الإمام الشهيد المغفور له الشيخ حسن البنا " كتبت ما يلي :
" صادف يوم تعطيل " المصري" ( الجمعة 12 فبراير حيث كانت عطلتها الأسبوعية وكان لكل جريدة يوم عطلة في الأسبوع ) الذكري السنوية للإمام الشهيد المغفور له الشيخ حسن البنا ( بخط كبير ) . والحق أن الشهيد العظيم باق في قلب كل مصري . ويلتف المسلمون في مصر والبلاد العربية حول دعوته الكريمة لأنها كانت وما زالت نورا أى نور .
وإذا كان الفقيد الكريم قد انتقل إلى دار البقاء , فإن دعوته خالدة ممتنعة على الزوال وحسب الفقيد أن تلك الدعوة تنتظم الناس في جميع الظروف , وأن حياته المجيدة كانت جهادا في سبيل إعلاء كلمة الله .ٍ
رحم الله الفقيد وعاشت ذكراه الوضيئة مثلا من الإنسانية المكافحة في سبيل الحق "
• تناقض مريب في تقييم حسن البنا :
والآن.. وبعد ثلاثين عاما من استشهاده تخللتها أحداث جسام كان من أبرز سماتها أنها أحداث متناقضة يقف المؤرخ أمامها مشدوها حائرا .. كيف يعلل هذا التناقض ؟
فقسم من الناس يثني على حسن البنا أجمل ثناء وقسم آخر يغض من قدره .. بل وصل التناقض إلى حد أذهل المؤرخين فجهة واحدة مجدت شخصيته وشهدت له بالفضل في إيقاظه الأمة من سباتها وفي بعث الوعي الإسلامي فيها حتى صارت مهيأة للانتفاضة التي تخلصت فيها من معوقي نهضتها – ثم رأي المؤرخون أن هذه الجهة نفسها – بعد أن استقرت لها الأمور – انقلبت في عنف ونزق فسلبت حسن البنا كل فضيلة وألصقت به كل رذيلة .. فوقفوا أمام هذا التناقض ذاهلين .. كيف يكون هذا ؟ وبماذا يعللونه ؟
وإذا كان بعض الأذكياء من الجيل الذي كان معايشا هذا التناقض قد استطاعوا أن يلمحوا في ثنايا الأحداث ما يلقي بعض الضوء على هذا التناقض , فماذا يكون وقع هذا التناقض على أجيال لم تعايش هذه الأحداث ؟ لا سيما وأن ستارا كثيفا قد أسدل على الحقائق التي جرت طيلة هذه الثلاثين عاما .. وكان مما زاد هذا الستار كثافة أن الألسنة والأقلام التي سمح لها بالتعبير كانت مأجورة من الجهة التي وقع منها التناقض .
• الشعب أخطأه التوفيق في اختيار القيادة :
إنني التمس العذر لهذه الأجيال – بعد أن لقنت ما لقنت – فذهبت بها الظنون في أمر حسن البنا كل مذهب , وانتهي بها الأمر إلى أطراح هذه الشخصية جانبا , والجري وراء شخصيات أخرى أرادت لها هذه الجهة المتسلطة أن تبدو براقة أخاذة , فركزت عليها أضواء باهرة لتملأ في نفوس الشباب الجديد فراغا باعتبارها الزعامة والقيادة .
ولكننا اليوم – وقد أوشك هذا الستار أن ينقشع – هل نترك هذا الجيل وما يليه من أجيال في هذا التيه الذي لا نهاية له إلا الضياع الذي نعاني اليوم من بوادره وأخف ما فيه ..ومع ذلك فقد ضاق الشعب بمصائبه ذرعا , ويئس الجميع من أن يجدوا لمعضلاته حلولا وبات الناس وقد بلغت القلوب الحناجر .. فكيف إذا دهمنا من معضلات هذا التيه ما هو أدهي وأمر ؟
إن أول الطريق للشعوب دائما هو الإيمان بقيادة .. فإذا وفق الشعب إلى قادة صالحة لم ينتقل من حال إلا إلى ما هو أحسن منها, أما إذا أخطأه التوفيق في اختيار القيادة فالتدهور المتلاحق هو نصيب الشعب لا يفيق منه لحظة واحدة .
والشعوب الحية قد تخطئ الأخيار لكنها لا تتمادي في خطئها بل تعيد النظر وتقلب الطرف الفينة بعد الفينة على أساس من تقييم واضح وحساب دقيق .. وبهذا الأسلوب تقيل نفسها من عثرتها , وتسترد رشدها . وتعدل اختيارها فتصحح بذلك مسارها .. ولا يتأتي ذلك إلا إذا اخترقت بثاقب نظرها سحائب الأوهام وبددت بحرارة إيمانها ضباب الشكوك فرأت الحقائق المستورة مجردة واضحة .
وقد أتينا في الفصول السابقة من هذا الكتاب على سرد تاريخي مدعوم بالأدلة والأسانيد مشحون بالأقوال والنصوص . وكان هدفنا من وراء هذا العناء كله أن نستخلص من بين حطام المعارك التاريخية في عهود مظلمة ما أخفي عن هذا الشعب – لا سيما الأجيال الحديثة منه - من ظروف غامضة وقرائن محجوبة وأسرار مكتومة وحقائق مغلفة بأغلفة كثيفة من الباطل .. حتى يتمكن هذا الشعب – بإعادة النظر في تاريخه – من تصحيح أخطائه ,ومن وضع عناصر هذا التاريخ لا سيما الرجال والقادة .. كل منهم في وضعه الصحيح الجدير به .. فربما ارتفع بذلك رجال..وهبط إلى الحضيض رجال كانوا في نظره في الذروة. أنموذج لمسخ التاريخ :
رأى المسيطرون على مصائر البلاد أن يصوروا حسن البنا في صورة منفرة حتى ينفض الناس عن دعوته .. ولا نستطيع في عجالة كهذه أن نستوعب ذكر جميع الصور التي صوره فيها ولا سيما بعد استشهاده وبعد اعتقال أنصاره واعتقال جميع الألسنة الحرة والأقلام الحرة في البلاج , فإن هذه الصورة قد حوتها نشرات وكتيبات ومجلات وصحف لو أنها جمعت لكانت في حجمها أضعافا مضاعفة لحجم هذا الكتاب , ولكننا نجتزئ منها جميعا بصورة واحدة تمخضت عنها قريحة كاتب كبير وأديب عظيم يضعه الجيل الحالي – مخدوعا- موضع الإجلال والتكريم ويفكرون في تخليد ذكره بتمثال يجعله في صف القادة الخالدين . كتب عباس محمود العقاد – الأديب العملاق – في إحدى صحف ذلك العهد مقالا وقامت الحكومة بطبعه ونشره وتوزيعه مجانا على الناس .. ويتلخص المقال في أن الأديب العملاق والكاتب المحقق قد اكتشف أخيرا أن حسن البنا دجال من أصل يهودي قام لتخريب الدولة الإسلامية .
وقد اخترت هذه الصورة لأنها كانت من أجرأ الأكاذيب على الحق .. وحين قرأت هذا المقال تعجبت أشد العجب لاستهتار هذا الكاتب بعقول الناس فحسن البنا لم يكن شخصية قديمة موغلة في القدم مضي عليها عشرات القرون حتى يختلف الناس في أصلها ونسبها.. وإنما هو رجل من جيلنا نعرفه ونعرف أباه وأمه وأخوته وأعمامه وأخواله وعماته وأجداده للأبوين إلى سابع جد كما يقولون ونعرف مسقط رأسه وهي قرية شمشيرة من أعمال مركز فوة محافظة كفر الشيخ – وكان والده من العلماء العاملين يرتزق من تصليح الساعات في محل له بالمحمودية التي نزح إليها في مقتبل أيامه طلبا للرزق , ويشهد لهذا الوالد بالعراقة في الدين وطول الباع في العلم كتابه " الفتح الرباني في شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني " الذي يقع في أكثر من عشرين مجلدا .
ولكن بلادنا الأسيفة قد ابتليت بطائفة من أبنائها استحلوا الاتجار بضمائرهم فهم في الغالب على المغلوب مهما كان الغالب ظالما والمغلوب فهذا الكاتب العقاد الذي طالع القارئ في كتابنا هذا من قبل كيف كان يتزلف إلى حسن البنا ويعده الإمام المنقذ والقائد الملهم ,ويتمني أن يظفر بالجلوس إليه – حيث كانت أسهمه في ارتفاع .. استباح – حين رأي الحكومة الباغية قد اضطهدته وصادرت دعوته واغتالته – أن يرتع في عرضه , وأن يكذب على نفسه وعلى الناس وعلى الحقائق الماثلة وعلى التاريخ لقاء دريهمات من خزانة هذه الحكومة الغادرة استمتع بها حينا من الدهر .
وإذا كان " الأديب العملاق " قد انحدر إلى هذا الحد فكيف بمن هم دونه علما وأدبا وثقافة ممن كانوا معايشين ذلك العهد الأنكد؟
على أن الذي يعنينا الآن هو أن نأخذ بيد المنصفين من أبناء هذا الجيل الجديد الذين لا زالوا في حيرة من أمرهم حين يحاولون تقسم شخصية حسن البنا .. وسنحاول إن شاء الله في المصفحات التالية أن نعرض عليهم شخصيته مقيسة بمختلف المقاييس المتعارف عليها ونترك لهم بعد ذلك تقييمها والحكم عليها .
الفصل الثاني حسن البنا بين مختلف الطوائف والأفكار
إذا أردنا أن نقسم المسلمين في مصر في ذلك العهد إلى طوائف حسب أفكارهم ومواقفهم من الدين رأينا أنهم طوائف خمس .
- طائفة المنتسبين إلى التصوف.
- طائفة الداعين إلي التزام السنة ومحاربة البدع .
- طائفة الصالحين من غير الطائفين السابقتين.
- طائفة الذين لا يبالون بالدين لجهلهم به .
- طائفة المترفين المنحرفين عن الذين المتمردين عليه ومنهم أكثر الساسة والحكام
ونحاول إن شاء الله في السطور التالية تجلية موقف حسن البنا من كل من هذه الطوائف حتى يخرج القارئ بتقييم واضح المعالم لشخصيته.
- حسن البنا والتصوف
القسم الأول يتبادر إلى أذهانهم هذه الصور وتلك المظاهر التي نشاهدها في الاحتفالات الرسمية والأعياد الدينية . فيرون موكبا يتقدمه خياله الشرطة تتبعها طوائف من الناس على رءوسهم عمائم خضراء وسوداء وحمراء , ويتوشحون بأوشحة ذات أشكال وألوان – ويرفعون أمامهم ألوية كتب على كل منها اسم الطريقة – وقد يتبين للناس أن أكثر هؤلاء المشتركين في هذه المظاهر لا يتخلقون في حياتهم لخاصة بخلق الإسلام , ولا يلتزمون في مسلكهم مع الناس أحكامه وآدابه .. ومن هنا ينشأ في خواطر الناس أزدراء للتصوف وانصراف عنه ,واستنكار له وللقائمين به والمنتسبين إليه .
والقسم الثاني تقفز إلي مخيلتهم صورة أولئك الذين اعتزلوا الحياة وانعزلوا عن الناس واحتجبوا داخل الزوايا والتكايا عاكفين على العبادة والذكرلا يعنيهم من أمور بلادهم ومواطنيهم شئ ..حتى السعي على المعاش قعدوا عنه وعاشوا على صدقات الناس , ظنا منهم أن مسلكهم هذا هو الزهد الذي حث عليه الدين..
والقسم الثالث وهم عادة من ذوي الثقافات الغربية فهموا التصوف على أنه أسلوب فلسفي للحياة اشتقه المسلمون من نظريات فلسفية قديمة ونقلوه إلى الإسلام .. فلم تعد العبادة معه عبادة بقدر ما انقلبت إلى فلسفة ..وينتقل المتصوف بهذه النظريات إلى متاهات لا حدود لها وتنتهي به عادة إلى الضلال والزندقة .
هذه هي نظرات أكثر الناس إلى التصوف , ولكن نظرة حسن البنا إليه نظرة تختلف عن هذه النظرات . فهم يرى التصوف أخذ النفس بأسلوب تربوي قويم يصفيها من أدرانها ويرتفع بها عن المطامع والشهوات .. على أن يكون هذا الأسلوب مستمدا من القرآن الكريم والسنة النبوية , لا حاجة بنا إلى الاستعانة في ذلك بما سواهما ففيهما الكفاية والغناء ,والأمن من التفريط والإفراط السلامة من التورط والانحراف ..
وقد مارس حسن البنا التصوف بهذا المفهوم ممارسة عملية فتربي منذ صغره على أيدى شيوخ علماء أتقياء صالحين ,ويقرر في مذكراته أنه أفاد من هذه الممارسة أعظم الفوائد . ويثني على التصوف والمتصوفين بهذا المفهوم فيقول :" وهذا القسم من علوم التصوف وأسميه " علوم التربية والسلوك " لا شك أنه من لب الإسلام وصميمه ,ولا شك أ، الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها والطب لها والرقي بها لم يبلغ إليها غيرهم من المربين , ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب على خطة عملية من حيث أداة الفرائض لله واجتناب نواهيه وصدق التوجه إليه " ثم يردف ذلك قائلا :
" وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة في كثير من الأحيان تأثرا بروح العصور التي عاشت فيها هذه الدعوات كالمبالغة في الصمت والجوع والسهر والعزلة .. ولذلك كله أصل في الدين يرد إليه : فالصمت أصله الإعراض عن اللغو , والجوع أصله التطوع بالصوم , والسهر أصله قيام الليل , والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها . ولو وقف التطبيق العملي عند هذه الحدود التي رسمها الشارع لكان في ذلك كل خيرة ".
ويقول أيضا :" ولا شك أن التصوف والطرق كانت من أكبر العوامل في نشر الإسلام في كثير من البلدان وإيصاله إلى جهات نائية ما كان ليصل إليها إلا على يد هؤلاء الدعاة , كما حدث ويحدث في بلدان أفريقيا وصحاريها ووسطها وفي كثير من جهات آسيا كذلك – ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف في ناحية التربية والسلوك له الأثر القوي في النفوس والقلوب ولكلام الصوفية في هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس "
ثم يتحدث عن بعض الطرق الصوفية المعاصرة وما دخل عليها من المغالاة والانحراف فيقول : ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس وإصلاحهم سهل ميسور .وعندهم الاستعداد الكامل له ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا , وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين والوعاظ الصادقين المخلصين لدراسة هذه المجتمعات والإفادةمن هذه الثروة العلمية وتخليصها مما علق بها وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة "
أما نحن فنقول : لعل اتصال حسن البنا في مقتبل حياته بالصوفية , وأخذه نفسه بأساليبهم في تطهير القلب وتزكية النفس وحملها على السهر وتعويدها على التقشف والصبر ..وهو الذي هيأه للقيام بأعباء الدعوة بعد ذلك.. وهي أعباء ثقال – كما أن اندماجه هذا في الصوفية وخوضه بنفسه بحارها . ومعاناته أساليب التربية الروحية المكثفة فيها .. هو الذي جعله أهلا لتربية أتباعه بعد ذلك حين قام بالدعوة تربية روحية قوية كان لها أكبر الأثر في نجاحها نجاحا أذهل الأقربين والأبعدين على السواء - ولا نعتقد أن حسن البنا كان قادرا على تحقيق هذا النجاح في دعوته لو أنه لم يكن مؤهلا هذا التأهيل الصوفي القويم فإن تكوين الفرد كان هو أساس نجاح هذه الدعوة والركيزة العظمي في تكوين الفرد هي تربيته تربية روحية وفاقد الشئ لا يعطيه ..ولعلنا قد جلينا أسلوب حسن البنا في تربية أتباعه فيما قدمنا في الجزء الأول من هذا الكتاب .
• حسن البنا والسنة :
كما أن عوامل الإهمال والتحريف قد فعلت فعلها بمرور الزمن في الصوفية حتى حرفتها عن أصلها وبعدت بها عن حقيقتها وألصقت بها ما ليس منها فكذلك فعلت هذه العوامل نفسها فعلها فيما يتصل بالمعتقدات والعبادات فدخل فيها من التحريف ما بعد بها عن السنة المأثورة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم . وكما قام دعاة – حين ركن الناس مع اتساع عمران الدولة الإسلامية إلى الرفاهية والترف – يدعون إلى الزهد والتقشف الذي سمي فيما بعد بالتصوف فكذلك قام دعاة – حين بعد الناس عن السنة في العبادات والمعتقدات – يدعون إلى الرجوع إلى السنة ومحاربة ما أدخل على الدين من البدع والخرافات .
وحمل لواء هذه الدعوى في عصرنا الحديث الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي قام في نجد , وكان لدعوته أصداء في بعض البلاد الإسلامية لا سيما في مصر حيث نادي بالرجوع إلى السنة ومحاربة البدع الشيخ محمود خطاب السبكي فأنشأ لهذا الغرض الجمعية الشرعية ثم نشأت بعد ذلك لنفس الغرض جمعية أنصار السنة المحمدية كما أشرنا إلى ذلك بشئ من التفصيل من قبل .
وغني عن البيان أن نذكر أن شابا كحسن البنا نشأ في حجر والد متضلع في علوم السنة النبوية عكف طيلة حياته على ترتيب أحاديث أكبر المسانيد الصحيحة فيها وتخريجها وتبويبها وشرحها والتعليق عليها وهو مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يضم بين دفتيه أربعين ألف حديث – ولعل هذا الشاب قد شارك والده في بعض المراحل في هذا لمجهود الكبير .. شاب نشأ هذه النشأة لابد أن يكون حب السنة قد اختلط بمهجته وامتزج بدمه وملك عليه لبه .. وسوف يري القارئ بعد قليل إن شاء الله إلى أى مدى وصل به هذا الحب .
حسن البنا بين طائفتي المنتسبين إلى التصوف والداعين إلى محاربة البدع والطائفتين المحايدتين
تبين مما سقناه آنفا أن التصوف والسنة باعتبارهما فكرتين قد أقرهما حسن البنا واعتقدهما اعتقادا راسخا وأخذ نفسه بهما وارتوي منهما وتضلع – لكن موقفه باعتباره داعية للفكرة الإسلامية الشاملة كان شيئا آخر , إذ أنه في هذه الحالة لم يكن يواجه التصوف والسنة باعتبارهما فكرتين مجردتين وإنما هو مواجههما باعتبارهما دعوتين ..وفي هذه الحالة يدخل العنصر البشري في الفكرتين على أساس أنه المكيف للفكرة والمحدد لها والموجه ..هذا التكييف والتحديد والتوجيه هو الذي يخرج بالتصوف والسنة من كونهما فكرتين إلى صيرورتهما دعوتين .. ومن هنا ينشأ الخلاف .
فالتصوف – كفكرة مجردة – يدخل في الفكرة الإسلامية الشاملة على أساس أنه أحد عناصرها المكمل لشمولها . والسنة أيضا كفكرة مؤادها الاقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم واتخاذه أسوة هي كذلك أحد عناصر الفكرة الإسلامية الشاملة ولا غني عنها ..
أما أن يحمل هاتين الفكرتين طائفتين وتدعي كل منهما أن الإسلام مقصور على فكرتها لا يتعداها فيدعي الدعاة إلى التصوف أن التصوف هو الإسلام وأن الإسلام ليس إلا التصوف ويدعي الدعاة إلى السنة أن محاربة البدع – وادعاء الفريقين أن ما سوي ذلك من شئون الدنيا من جهاد في سبيل القرآن الكريم دستورا لها .. إن هو إلا إقحام للإسلام فيما لا يعنيه .. هنا رأي حسن البنا أن يكون له موقف آخر .
كان للطرق الصوفية في مختلف الأنحاء أتباع كثيرون كما أن بعض الناس قد استجابوا لدعوة الرجوع إلى السنة ومحاربة البدع .. ولكن نوعا من التحدي قد نشأ بين الطائفتين فتعرضت كل منهما للأخرى بالنقد اللاذع والتجريح الشديد وتربص كل طرف منهما بالطرف الآخر يشهر به وينفر منه ويعلن الحرب عليه . حتى رمي كل منهما الآخر بالكفر .. فتحول الأمر من دعوة إلى التمسك بالدين إلى إشاعة التقاطع والتباغض ونشر الفرقة والعداء بين المسلمين .
وفي خلال هذا التلاحي والتخاصم بين هاتين الطائفتين قام حسن البنا بدعوته .. ولما كان أساس دعوته الإخوة فإنه توجه بها أول ما توجه إلى الطائفتين المحايدتين الثالثة والرابعة ممن لا تشغل بالهم قضايا الخلاف – وهما يضمان أكثر أفراد الشعب – فالتف حوله جمع غفير منهما .. فنهض بهم متخطيا حمأة الخلاف ورقاب المتناحرين وواصل السير بعيدا عن هذا الخلاف يدعو المسلمين إلى التآخي والتآزر للوقوف في وجه المد الاستعمار الذي بسط نفوذه على الأمة الإسلامية فأذلها وسخرها لمصالحة بعد أن نشر فيها الفساد والانحلال وقضي فيها على الدين والأخلاق .
أحنق هذا الأسلوب في الدعوة الطرفين المختلفين إذ رأيا حسن البنا لا يعير مواطن الخلاف بينهما اهتماما, في حين يري كل منهما أنه يدعو إلى الإسلام كله لبه وجوهر , وأن اعتقاده هو الحق وأن اعتقاد الطرف الآخر هو الباطل .. فرماه دعاة السنة بأنه يدعو إلى السفساف والتافه من أمور الإسلام ويدع العظيم والخطير منها وهو العقيدة الصحيحة وتطهيرها من البدع والخرافات ..ورماه الصوفيون بأنه تنكب الأسلوب الإسلامي بدعوته الناس إلى التدخل في شئون الدنيا ,وحسبه لو كان يريد الدعوة الصحيحة إلى الإسلام حقا أن يقتصر على دعوة المسلمين إلى الانتظام في سلك الطرق الصوفية ليتربوا في أحضانها تربية روحية مبتعدين عن التدخل في شئون لا دخل لهم فيها , فما لهم وللاستعمار ولا يقع في ملكه إلا ما يشاء ,وليس وليس في الإمكان أبدع مما كان .
وقد يقع هذا الكلام من قرائنا اليوم موقع الاستغراب , فالحال الآن مغاير للحال التي نتحدث عنها . ولكنني أؤكد لهم أن هذا الوصف الذي أوردنا طرفا منه كان هو الأمر الواقع في ذلك. فلقد كنا – نحن دعاة الإخوان المسلمين – تعترضنا هذه الأفكار حين نوجه دعوتنا إلى زملائنا بالكليات , وحين كنا نغشي المجتمعات الشعبية خارجها من عامة الناس في القاهرة والأقاليم .. وقد أشرت في مكان سابق في الجزء الأول من هذه المذكرات إلى مواقف لى شخصيا مع زملاء لى في الكلية من السنيين وأخرى مع أحد مشايخ الطرق .
وقد أومأ حسن البنا نفسه إلى مثل هذه المواقف في أدب جم حين كتب في" مذكرات الدعوة والداعية " يقول :" واستمرت صلتنا على أحسن حال بشيخنا السيد عبد الوهاب الحصافي حتى أنشئت جمعيات الإخوان المسلمين وانتشرت , وكان له فيها رأي ولنا فيها رأي وانحاز كل إلى رأيه . ولا زلنا نحفظ للسيد – جزاه الله عنا خيرا – أجمل ما يحفظ مريد محب مخلص لشيخ عالم عامل تقي نصح فاخلص النصيحة , وأرشد فأحسن الإرشاد ".
• طريقته في الدعوة :
وتوضيحا للطريقة التي انتهجها حسن البنا في الدعوة إلى الفكرة الإسلامية وفي صدد ما وجه إليه من هاتين الطائفتين من نقد شديد كتب – رحمه الله – في مجلة الإخوان المسلمين " في أواسط الثلاثينات مقالا رسم فيه مربعا كبيرا كتب على حوافه الأربع من الداخل " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ورسم في مركز هذا المربع مربعا صغيرا.
وكتب يقول : إن إخواننا الذين ينتقدوننا يحصرون دعوتهم في حدود المربع الصغير الذي يقع في مركز الدائرة .وهم بذلك يقصرونها على الذين اكتمل فيهم كل ما يرون أنه العقيدة الصحيحة ..وهذا عدد ضئيل .
أما نحن فنتوجه بالدعوة إلى كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله مهما كان مقصرا فيما سوي ذلك من تعاليم الإسلام وأفكاره – وكل ما نطالبه به أن يرتبط معنا برباط الإخوة الإسلامية للعمل على استعادة مجد الإسلام .
وهذه الدعوى غير المشروطة بشئ إلا بالقرار بالشهادتين يستجيب لها طوائف على درجات متفاوتة من الإيمان بالتعاليم الإسلامية والعمل بها , تبدأ من مجرد الإيمان بالشهادتين وتنتهي بالعاملين بجميع بالتعاليم الإسلامية الفاقهين لأسرارها.
وفي ظل روح الإخوة التي تجمع بين كل هذه الطوائف , وتحت لواء المبايعة على العمل لاستعادة مجد الإسلام , وعلى ضوء توجيهات قيادة الدعوة الممزوجة بروح الحب والمودة .. تنصهر كل هذه الطوائف في بوتقة هذا المجتمع فترقي كل طائفة في إيمانها وعملها وعقيدتها وفقهها.. ويتقبل الفرد من هذه الطوائف – عن طيب خاطر بل وبمسارعة – من النصائح والتوجيهات والأفكار ما لم يكن ليتقبله وهو خارج نطاق هذا المجتمع الذي تسوده روح الإخوة والتضامن والمحبة والود .
وأعود إلى وصف الحال الذي كان فأقول : إن هجوم الطائفتين على حسن البنا كان يزداد شدة كلما ازدادت دعوته انتشارا .. فلما وصل الانتشار إلى الحد الذي أحستا فيه أنه أخذ يغزو معسكريهما رفعتا درجة الهجوم حتى شككوا في عقيدة الإخوان وفهمهم للإسلام .. وهنا أصدر حسن البنا رسالة هامة من رسائله التي كان يصدر كلا منا بمناسبة من المناسبات . فهمه للفكرة الإسلامية :
وكانت هذه الرسالة هي رسالة " التعاليم " التي حدد فيها رؤية الإخوان المسلمين للتعاليم الإسلامية الأساسية ,ورأيهم في مواطن الخلاف بين الطوائف . كما تشتمل على توجيهات عملية كثيرة .ولكن بيت القصيد فيها هو ما صدرت به من رسم للصورة التي يرى الإخوان الفكرة الإسلامية في إطارها , وهاك هذه الصورة – يقول حسن البنا رحمه الله " أيها الأخ الصادق .. إنما أريد بالفهم :
أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة " وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز :
- الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها, فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة , وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ,وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء , وهو مادة وثروة أو كسب وغني ,وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ,وكما هو عقيدة صادقة وعبادة .
- والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام . ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف . ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات .
- وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب كل من يشاء من عباده .ولكن الإلهام والخواطر, والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ,ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه .
- والتمائم والرقي والودع والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته " إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة ".
- ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد .
- وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم . كل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولي بالإتباع , ولكننا ولكنا لا نعرض للأشخاص – فيما اختلفوا فيه – بطعن أو تجريح ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا.
- وعلى كل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل , متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته . وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر .
- والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلى خصومه ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره ..ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب .
- وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا , ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع , والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد . والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف . ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحة .
- معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده وتنزيهه هي أسمي عقائد الإسلام . وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يتعلق بذلك من المتشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا ما وسع رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) ( آل عمران : 7)
- وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه – ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها .
- والبدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي لكل فيه رأيه, ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان .
- ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله سبحانه وتعالي والأولياء هم المذكورون في قوله تعالي ( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) ( يونس: 63) والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم .
- وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة .ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا,ونداءهم لذلك, وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد, والنذر لهم , وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها , والحلف بغير الله , وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة .
- والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة .
- والعرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية , بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها. كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين , فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء .
- والعقيدة أساس العمل وعمل القلب أهم من عمل الجارحة .وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعا وإن اختلفت مرتبتا الطلب .
- والإسلام يحرر العقل وبحث على النظر في الكون , ويرفع قدر العلم والعلماء ويرحب بالصالح النافع من كل شئ والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها .
- وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما يدخل في دائرة الآخر , ولكنهما لن يختلفا في القطعي فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي,فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولي بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار .
- لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض – برأي أو معصية – إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلومة من الدين بالضرورة أو كذب بصريح القرآن , أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال , أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
• تعليق على بعض البنود:
يلاحظ القارئ أن السمة العامة لهذا الفهم ببنوده العشرين سمة الداعية الذي يريد أن يجمع ولا يفرق ,ويريد أن يغلب روح الإخوة على جموع التعصب , ويريد أن يبرز سماحة الإسلام ورحابة أفقه ومرونة أسلوبه وكفاءته العالية في تكوين الشخصية المؤمنة القادرة على تعمير الحياة وإصلاحها وجعلها الأمة المثالية الجديرة بالقيادة والريادة ..وإذا أردنا نتناول البنود العشرين بشئ من التوضيح طال بنا الحديث وتفرغ ولذا نكتفي بتعليق مقتضب على البنود التي تتصل بما نحن بصدده في هذا المقام فنقول :
أولا – قرر البند الثاني أن مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ليس القرآن وحده بل السنة المطهرة معه , وأن فهم السنة المطهرة يرجع فيه إلى رجال الحديث الثقات .
ووراء هذا الحرص على الجمع في النص بين القرآن الكريم والسنة قصة وموضوع خطير ذلك أن من الأساليب التي بيتها المتآمرون على الإسلام وأحكموا تدبيرها حتى وجدت طريقها إلى أفئدة بعض المسلمين وعقولهم دون أن يقدروا خطورتها ودون أن يعلموا أنها كافية أن تأتي على بنيان الإسلام من القواعد , وتنسفه من أساسه إن نجحت – أن يلقوا في روع المسلمين أن في القرآن وحده الغناء في معرفة أحكام الدين , فالقرآن وحده هو الكتاب الذي تكفل الله عزوجل بحفظه , أما السنة فإنها لم تحظ بمثل هذا التكفل فهي لذلك غير موثوق بها.
ولكي تتضح خطورة هذه المؤامرة يستعرض القارئ ما يعرفه من أحكام الإسلام الأساسية في العبادات والمعاملات فيجد أن أكثرها مأخوذ من السنة ولم يتعرض له القرآن إلا بالإشارة المجملة . فالصلاة بعددها ومواقيتها وهيئاتها وأركانها وشروطها ومبطلاتها كلها جاء من السنة المطهرة والزكاة بمواعيدها ومقاديرها وأنواعها كذلك ورجم الزاني المحصن وغير ذلك من الأحكام الأساسية في الإسلام كلها أخذت عن السنة النبوية ..والقرآن الكريم نفسه يقرر وجوب الأخذ بالسنة في قوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ( آل عمران : 31 ) وقوله ( وإن تطيعوه تهتدوا ) ( النور: 54) وقوله : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ( الحشر : 7)
• أمنية لحسن البنا :
كان الكثيرون من أصدقاء حسن البنا من عارفي فضله من العلماء يحثونه على تأليف كتب في التفسير وفي مختلف فنون الإسلام , ويلحون عليه في ذلك حرصا على تزويد المكتبة الإسلامية بنظرات عميقة وأفكار غير مسبوقة مما يسمعونه منه في بعض دروسه وفي مجالسه الخاصة معهم ..ولكنه كان يقول لهم : " دعوني من تأليف الكتب , فمهما حوى الكتاب من نظرات وأفكار فإن هذه النظرات والأفكار ستظل حبيسة دفتيه, رهينة صفحاته حتى تصادف قارئا أهلا لفهمها قادرا على الانتفاع بها .. وقلما تصادف الكتب هذا اللون من القراء .. فأكثر المؤهلين لذلك لا تسعفهم ظروفهم باقتناء الكتب ولا بقراءته .. أما أكثر الذين يقتنوها فإنهم يقتنونها ليزينوا بها أثاث بيوتهم – والمكتبة الإسلامية متخمة بالمؤلفات في جميع العلوم والفنون , ومع هذا فإنها لم تغن عن المسلمين شيئا حين قعدت هممهم وثبطت عزائمهم وركنوا إلى الدعة والخمول , واستكانوا للترف فركبهم الأعداء من كل جانب .
والوقت الذي أضيعه في تأليف كتاب أستغله في تأليف مائة شاب مسلم , يصير كل شاب منهم كتابا حيا ناطقا عاملا مؤثرا , أرمي به بلدا من البلاد فيؤلفها كما ألف هو "...
وقد أثبت حسن البنا أنه كان على صواب في نظريته هذه .. وقد حققها تحقيقا لمسه العالم كله ولا زال العالم يعيش هذه الحقيقة . أقول : أنه – رحمه الله – مع عزوفه هذا عن تأليف الكتب , فإنه كانت له أمنية يسر بها إلى بين الحين والحين في مناسبات معينة , إنه يتمني أن تتيح له الظروف وضع كتاب واحد هو الوحيد الذي تفتقر إليه المكتبة الإسلامية وهو كتاب في إثبات حجية السنة النبوية " وكان يقول لى : إن عدم سد هذه الثغرة في المكتبة الإسلامية مدخل خطير للشيطان على الأمة الإسلامية فعن طريق هذه الثغرة يستطيع الشيطان أن يفسد على المسلمين دينهم .
ويقول في هذا الصدد : إن أوثق الأخبار التاريخية التي نتلقاها في مدارسنا ومعاهدنا المتخصصة باعتبارها قضايا مسلمة وحقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ..
لا تداني في موازين روائها ولا في مقاييس نصوصها درجة الحديث الضعيف عند علماء الحديث فلقد وضع هؤلاء العلماء من المقاييس والموازين لرواة الأحاديث ما جعل أدني شبهة حول تصرف واحد لراو واحد من سلسلة رواة حديث كافيا لإسقاط هذا الحديث ورميه بالضعف واعتباره مما لا يعتد به.
أقول :ولما كان وضع كتاب في مثل هذا الموضوع يقتضي تفرغه بضعة أشهر – ولم تكن مطالب الدعوة لتمهله يوما واحدا – فإنه لجأ أخيرا إلى أسلوب الصحافة العلمية لعله يتناول فيها الموضوع مجزأ , كلما سنحت له فرصة كتب مقالا كل شهر أو شهرين. وقد بدأ هذه المحاولة حين أسندت إليه رياسة تحرير مجلة المنار ,ولكن الأحداث لم تمهلها طويلا فاحتجبت بعد أشهر , فأصدر بعدها مجلة" الشهاب " التي لم تكن أحسن حظا من أختها " المنار" إذ لحقت بها بعد بضعة أعداد.. ثم طغت الأحداث الداخلية والخارجية على النحو الذي وضحناه من قبل فلم تدع لتحقيق هذه الأمنية سبيلا .
ثانيا – وضح مما قدمناه في هذه العجالة مدى اهتمام حسن البنا بالسنة , وتقديره لمكانتها في الإسلام باعتبارها الركن الأساسي الذي لا يقوم الإسلام إلا به .. لكنه أراد بعد ذلك أن يبين أن الانتفاع بالقرآن الكريم والسنة النبوية في تكوين الشخصية المسلمة المتوخية لاكمال لا يكون إلا بأخذ النفس بأساليب التربية الروحية المستمدة منهما فنص في البند الثالث على أن الإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نورا وحلاوة يقذفها في قلب من يشاء من عباده – ثم ألحق ذلك بتحذير من المبالغة التي قد تؤدي إلى الانحراف .
وبذلك يكون حسن البنا قد جمع في فهمه للإسلام بين التعاليم في ذاتها وبين تطبيق هذه التعاليم في نفس الفرد المسلم . وهو المعني العملي الشامل الذي قصد إليه القرآن وحثت عليه السنة. وبدون هذا التطبيق لا تتكون الشخصية المسلمة التي هي نواة الأمة المسلمة ..وقد يعبر عن هذا الفهم بالاصطلاح العصري أنه جمع بين الالتزام بالسنة وبين التصوف ..ويذكرني هذا بما كان يحاوله – رحمه الله – من تدريس كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام أبي حامد الغزالي ووضع شرح له . وقد بدأ في ذلك كما أشرت من قبل ولكن الظروف حالت دون تحقيق هذه المحاولة أيضا .. ورحم الله مالك ابن أنس إذ يقول :" من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق , ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق , ومن تصرف وتفقه فقد تحقق ".
ثالثا – الإمام الذي يشير إليه البند الخامس هو رئيس الدولة حين يكون للمسلمين دولة – أما موضوع أن الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني ,وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد فقد جليناه في المدخل إلى الجزء الأول من هذا الكتاب .
رابعا – ويقول البند السابع " وعلى كل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين " ويجدر بنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة قد فهمها بعض الناس لا سيما الشباب الذي نال قسطا من العلم فهموها على غير وجهها فراحوا يهاجمون المذاهب والمتمذهبين ويرمونهم بتنكب طريق السنة واعتقدوا في أنفسهم – وقد استطاعوا مجرد أن يقرأوا القرآن وأن يقرأوا في كتب الأحاديث أنهم يستطعون أن يستنبطوا الأحكام دون حاجة إلى اتخاذ مذهب أو إتباع إمام .. مع أن درايتهم باللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها لا تعدو دراية سطحية فهم لا يعرفون وجوه الإعراب ولا اشتقاق الألفاظ ولا الشواهد التي استند إليها علماء اللغة من كلام العرب , كما أنهم لا يعرفون الناسخ والمنسوخ ولا إلمام لهم بعلوم أصول الحديث وأصول الفقه ولا بعلوم التعديل والتجريح ولا بتاريخ الرجال وغيرها من العلوم التي لا يكفي مجرد الإلمام بها بل لابد من التضلع فيها لمن يريد أن يستنبط من القرآن والسنة .
• أنموذج يوضح معني المذاهب في الأحكام الفقهية:
وتوضيحا لهذه النقطة من البحث وتقريبا للأذهان من فكرة المذاهب في الفقه الإسلامي ووجوب وجودها , لأنها هي الدليل على مرونة هذا الفقه , ورحابة صدره وهي وليدة هذه المرونة والدليل عليها ... وسعيا وراء هذا التوضيح نتناول موضوعا قريبا من فهم أكثر الناس هو موضوع فرائض الوضوء شارحين الكيفية التي تم بها استنباط هذه الفرائض, مستمدين ما نعرض في هذا الموضوع من كتابي الدين الخالص وتفسير القرطبي..ومنه يتبين كيف نشأت المذاهب والأسس التي قامت عليها هذه المذاهب فنقول :
إن النص الذي رجع إليه كل من أدلوا بدلائهم في هذا الاستنباط هو قوله تعالي في سورة المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) ( المائدة:6)
وهذا النص هو المعين الذي استقي منه أئمة الفقه فخرج كل منهم للأمة الإسلامية بشراب فكانت أشربة مختلفة طعومها ولكنها جميعا أشربة حلوة عذبة شهية سائغة لذيذة
والقرآن الكريم – كما هو مقرر – حمال أوجه .. ولكنها أوجه لا تبين للسذج لجهلة ولا للمثقفين السطحيين, وإنما تبين لأصحاب البصائر من أفذاذ العلماء المزودين بزاد لا ينفد على طول البحث وتشعب سبل النظر مهما طوحت بهم أسباب الاسقتصاء.
والمذاهب في الفقه الإسلامي كثيرة متعددة بقدر ما أنجبت هذه الأمة من علماء أفذاذ وأئمة فضلاء , ولكننا في هذه لعجالة , وفي معالجة هذا الموضوع نقتصر في تجليته على المذاهب الأربعة التي انتشرت وتعلق بها أكثر المسلمين فنقول:
مع أن الآية الكريمة لم تشتمل من التكاليف إلا على أربعة هي : غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين والمسح بالرأس والأرجل إلى الكعبين.. مع هذا فقد كانت نظرات هؤلاء الأئمة إلى الآية أكثر عمقا وأنفذ بصرا وأوسع إحاطة .وكان لهم أمامها ست وقفات :
• الموقف الأولي – النية :
فقد أضاف مالك والشافعي النية إلى هذه الأربعة المفروضة في الآية مستندين إلى حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " وأحمد بن حنبل وإن كان لم يقتنع بجعلها ركنا أو فرضا في الوضوء فإنه جعلها شرط صحة له .
ولكن أبا حنيفة اقتصر على الأربعة الورادة بالآية حيث لا ذكر للنية فيها وقال أن الحديث حديث آحاد يقبل التأويل .
• الوقفة الثانية – المسح بالرأس :
ثم كانت لهم وقفة أمام قوله تعالي :( وامسحوا برءوسكم) ( المائدة:6) واختلفت نظراتهم إلى هذا التركيب القرآني العربي المعجز .. ورجوعا منهم إلى رصيد لهم بالغ الثراء في علوم اللغة وآدابها وشواهدها رأي مالك أن الباء هنا مؤكدة زائدة وأن الرأس هي الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه , فلما ذكره الله تعالي في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقية للمسح,ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم ..
وبناء على ذلك قرر مالك أن الغرض هو مسح الرأس كله .. وقد سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟... وكان من دليل مالك على أن الرأس هي محوى كل ما ذكر قول الشاعر القديم :
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقي ثم سانري
واتفق رأي أحمد بن حنبل في هذه النقطة مع رأي مالك.ولكن الشافعي رأي أن الباء هنا للتبعيض فيجزئ ولو مسح شعره بحد الرأس لأن الباء الداخلة على متعدد كما في قوله : ( وامسحوا برءوسكم ) تكون للتبعيض.
وقال مالك: لو كان معنى الباء للتبعيض لأفادته في التيمم في قوله تعالي : ( فامسحوا بوجوهكم) ورد الشافعي على ذلك قائلا : إن مسح الوجه في التيمم بدل من غسله فلابد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه , ومسح الرأس أصل , فهذا ما بينهما ..وورد في السنة أن النبي صلي الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته . فرد مالك قائلا لعل النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر , فقد فعل ذلك في السفر وهو مظنة الأعذار وموضع الاستعجال والاختصار .
أما أبو حنيفة فقال أن المفروض قدر الربع, لأن الباء باء الالصاق , إذا دخلت على المحل تعدى الفعل إلى الأدلة – والآلة هنا هي اليد – فيكون التقدير "وامسحوا أيديكم برءوسكم" وهذا يقتضي استيعاب اليد دون الرأس . واستيعابها ملصقة بالرأس لا يستغرق غالبا غير الربع – ويستند أو حنيفة أيضا في ذلك إلى حديث أنس بن مالك قال : رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة ومسح مقدم رأسه .
• الوقفة الثالثة – ما يخص الرجلين:
ثم وقف الأئمة مرة أخرى في الآية الكريمة أمام قوله تعالي ( وأرجلكم إلى الكعبين ) حيث ورد فيها ثلاث قراءات : الأولي – وهي التي نقرأها في مصر – ينصب اللام والثانية برفعها والثالثة بخفضها – وقد أجمع العلماء علي الأخذ بالقراءة الأولي حيث تكون " أرجلكم " معطوفة على " أيديكم " والعامل في هذه الحالة هو " اغسلوا " ويكون التقدير هو " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم "ويعضد هذه القراءة فعل النبي صلي الله عليه وسلم .
أما قراءة الخفض فالعامل فيها الباء ويكون المعني في هذه الحالة هو مسح الرجلين لا غسلهما وروي عن أنس بن مالك أنه قال نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل , وكان إذا مسح رجليه بلهما – وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح , ألا ترى أن التيمم بمسح فيه ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا – وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين المسح والغسل وجعل القراءتين كالروايتين أى يعمل بهما إذا لم يتناقضا .
• الوقفة الرابعة الدلك:
ورأي مالك أن الدلك أحد فرائض الوضوء لقول النبي صلي الله عليه وسلم لعائشة في الغسل :
ادلكي جسدك بيدك" والأصل في الأمر الوجوب , ولا فرق بين الوضوء والغسل , وأيضا فإن الدلك من مسمي الغسل أو شرط فيه – الحديث حبيب بن زيد أنه سمع عباد بن تميم عن عمه عبد الله ابن زيد أن النبي صلي الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول هكذا يدلك .
ولكن الأئمة الثلاثة الآخرين قالوا : أن الدلك سنة لا فرض لعدم التصريح به في الأحاديث الكثيرة الواردة في صفة الوضوء الغسل , وهو قرينة على صرف الأمر بالدلك للندب ودعوى أن الدلك من مسمى الغسل أو شرط فيه , محل نظر . والمقرر أن فعل النبي صلي الله عليه وسلم لا يفيد الفرضية.
• الوقفة الخامسة – الموالاة :
وفي هذه المرة وإن اتخذوا الآية قاعدة لهم إلا أنهم لجأوا إلى السنة لتوضيح حجتهم والموالاة أو الفور هي التتابع بأن يطهر العضو اللاحق قبل جفاف السابق – وقد استنبط مالك وأحمد أن الموالاة فرض من فرائض الوضوء لحديث عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم أنه رأي رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء , فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة .
أما أبو حنيفة والشافعي فقد رأيا في سند هذا الحديث بقية بن الوليد وقد ضعفه غير واحد فقررا أن الموالاة ليست فرضا مستندين إلى حديث عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه, فأبصره النبي صلي الله عليه وسلم فقال : " ارجع فأحسن وضوءك "
فرجع ثم صلي . رواه مسلم . قالا : فلو كانت الموالاة فرضا لقال صلي الله عليه وسلم " ارجع فأعد وضوءك" وإنما قال :" أحسن وضوءك " وإحسان الوضوء إكماله .
• الوقفة السادسة – الترتيب:
واستنبط الشافعي ووافقه أحمد أن النص القرآني بتركيبه يوحي بأن الترتيب فرض من فرائض الوضوء, بحيث لا يجوز تقديم عضو من أعضاء الوضوء على آخر بل لابد من الالتزام بالترتيب الذي جاء في الآية الكريمة – وكان حجتهما في ذلك أن الله تعالي أدخل ممسوحا بين مغسولين والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة وهي هنا الترتيب والأية ما سيقت إلا لبيان الواجب . ولأن من حكي وضوء النبي صلي الله عليه وسلم كان مرتبا .
ولكن مالكا وأبا حنيفة رأيا أن الترتيب في الوضوء ليس بواجب , لأن الله تعالي أمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس , وعطف بعضها على بعض بالواو , وهي لا تقتضي الترتيب فكيفما غسل كان ممتثلا . ووضع الممسوح بين مغسولين لا يدل على أن الترتيب فرض بل فائدته الدلالة على استحباب الترتيب . وعلى ذلك كانت أركان الوضوء أو فرائضه عند هؤلاء الأئمة كالآتي .
عند أبي حنيفة : أربعة : غسل الأعضاء ومسح الرأي ولو شعرة والترتيب ,
وعند الشافعي : ستة : النية وغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس ولو شعرة والترتيب.
وعند مالك : سبعة : النية وغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس والدلك والموالاة
وعند أحمد : ثمانية : غسل الأعضاء الثلاثة والمضمضة والاستنشاق باعتبار الفم والأنف من الوجه ومسح الرأس والترتيب والموالاة – أما النية فجعلها شرط صحة .
هذا .. وقد أوردت هذا القدر المقتضب غاية الاقتضاب لأعرض على شبابنا الناشئ صورة مصغرة لكيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة والآلات اللازمة لها , والمؤهلات الضرورية لمن يرشح نفسه لها , من حفظ مستوعب للقرآن الكريم والسنة النبوية وإحاطة كاملة بفنون اللغة العربية وأدابها وشواهدها وأوجه الإعراب فيها وأقوال العرب ولهجاتهم وإلمام تام بالسيرة النبوية في أدق تفاصيلها وبعلوم السند والرواية وتاريخ الرجال والتعديل والتجريح وعلم القراءات وعلم الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم التي تقصر دون الإحاطة بكل علم واحد منها الأعمار فما بالك بالإحاطة بها جميعا ؟ ثم المقدرة على استعمال كل معروفة من معارفها في الموضع الذي يحتاج إليها وتؤتي ثمرتها فيه من أساليب الاستقصاء والاستنباط .
على أن تكون كل هذه المواهب مرتكزة على فكر ثاقب وعقل ناضج , وقريحة وقادة وبديهة حاضرة وأفق فسيح , وقدرة على الابتكار وبصيرة مستنيرة واعية – ومع كل هذه المؤهلات فلا اعتبار لها ما لم يكن صاحبها ذا قلب عامر بالإيمان مترع باليقين مفعم بالخوف من الله , فهو يصدع بالحق ولا يخشي في الحق لومة لائم.
وهؤلاء الأئمة الذين نروي عنهم هم وأضرابهم .. هم من هذا الطراز الذي جمع إلى المواهب الفائقة النادرة القلب الخاشع والنفس الزاهدة المتبتلة العازفة عن متاع الدنيا , فمن هؤلاء من حفظ القرآن لسبع ومنهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء وكلهم أوذي في الله وجلد وسجن ومثل به جهرا بكلمة الحق عند سلطان جائر .. فهل في إتباع هؤلاء إلا إتباع للكتاب والسنة ؟ وهل عاش هؤلاء وماتوا إلا حفاظا على الكتاب والسنة ؟ وهل تراثهم الذي خلفوه لنا إلا الكتاب والسنة ؟ وهل كانوا بالنسبة للأمة الإسلامية إلا من أولي الأمر الذين قال الله تعالي فيهم ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لأتبعتم الشيطان إلا قليلا ) النسا : 83)
وعلى إخواننا الذين يرغبون في الاستنباط من الكتاب والسنة مباشرة إن كانوا من أهل العلم حقا أن يتوفروا على دراسة هذه العلوم التي أشرنا إليها حتى يستوعبوها جميعا فيكونوا بذلك أهلا للاستنباط .وإن كان دون الوصول إلى هذه الغاية خرط القتاد – وأما من كان هذا الشوط عليهم بعيدا – وهو بعيد فعلا فحسبهم أن يتبعوا إماما وأن يحاولوا فهم أدلته , لعل ذلك ينمي موهبة البحث فيهم ويكونون بذلك قد ساروا في اتباعهم على بصيرة وهو ما يجدر بكل مسلم ..وإلا فإنهم يكونون كالذين يقحمون أنفسهم في الحرب بلا سلاح .
خامسا – أشار البند الثامن إلى الخلاف الفقهي في الفروع وما يؤدي إليه عادة من خصومة وتفرق نتيجة المراء وهو الجدال بدافع الانتصار للرأي وكان حسن البنا رحمه الله كثير التحذير من المراء ..ولا زلت أذكر الحديث الذي كان كثيرا ما يردده والذي ينهي فيه الرسول صلي الله عليه وسلم عن المراء ويغلظ في النهي حتى أنه ليقول في نهايته :" أنا كفيل ببيت في وسط الجنة لمن ترك المراء وهو محق , وببيت في ربضها لمن تركه وهو مبطل ".
سادسا – وفي البند التاسع ينهي عن الخوض في الأمور التي لاينبي عليها عمل وعن الخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد – وكان حسن البنا رحمه الله – يستشهد على ذلك بقول الله تعالي في سورة الكهف ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحد ) ( الكهف : 22)
ففي هذه الآيات نهي الله تعالي نبيه صلي الله عليه وسلم عن المماراة مع سائليه عن عدد أهل الكهف كما نهاه حتى عن الاستفسار من هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب عن هذا العدد – ذلك أن معرفة عددهم لا جدوى من ورائها , ولا ينبني عليها عمل أو تجني فائدة وحسب المرء أن يزداد من سياق القصة إيمانا بقدرة الله على الأماتة والإحياء وعلى البعث .. أما مدة لبثهم في الكهف – لأنها موضع العبرة – فقد حددها القرآن تحديدا واضحا بالسنين الشمسية والسنين القمرية فقال : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) ( الكهف : 25) .
وزيادة في إيضاح هذين البندين نورد خلاصة تجربة عملية عاناها حسن البنا بنفسه في إبان قيامه بالدعوة في مدينة الإسماعيلية ننقلها من " مذكرات الدعوة والداعية " تحت عنوان :" في زاوية الحاج مصطفي بالعراقية " يقول رحمه الله " " كانت هذه الزاوية هي الزاوية التي بناها الحاج مصطفي تقربا إلى الله تبارك وتعالي , وفيها اجتمع هذا النفر من طلاب العلم يتدارسون آيات الله والحكمة في أخوة وصفاء تام.
ولم يمض وقت طويل حتى ذاع نبأ هذا الدرس – الذي كان يستغرق ما بين المغرب والعشاء,وبعده يخرج إلى درس القهاوي – حتى قصد إليه كثير من الناس ومنهم هواة الخلاف وأحلاس الجدل وبقايا الفتنة الأولي .
وفي إحدى الليالي شعرت بروح غريبة , روح تحفز وفرقة, ورأيت المستعمين قد تميز بعضهم من بعض , حتى في الأماكن ولم أكد أبدا حتى فوجئت بسؤال : ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل ؟
فقلت له : يا أخي أطنك لا تريد أن تسألني عن هذه المسألة وحدها . ولكنك تريد أن تسألني كذلك " في الصلاة والسلام بعد الأذان ,وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة , وفي لفظ السيادة للرسول صلي الله عليه وسلم في التشهد ,وفي أبوى النبي صلي الله عليه وسلم وأين مقرهم وفي قراءة القرآن وهل يصل ثوابها إلى الميت أو لا يصل وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الطرق وهل هي معصية أو قربة إلى الله ". وأخذت أسرد له مسائل الخلاف جميعا التي كانت مثار فتنة سابقة وخلاف شديد فيما بينهم – فاستغرب الرجل وقال : نعم أريد الجواب عن هذا كله .
فقلت له : يا أخي إني لست بعالم, ولكني رجل مدرس مدني أحفظ بعض الآيات وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية من المطالعة في الكتب والتطوع بتدريسها للناس ..فإذا خرجت بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني, ومن قال لا أدري فقد أفتى. فإذا أعجبك ما أقول , ورأيت فيه خيرا فاسمع مشكورا. وإذا أردت التوسع في المعرفة فسل غيري من العلماء والفضلاء المختصين فهم يستطيعون افتاءك فيما تريد , وأما أنا فهذا مبلغ علمي ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها – فأخذ الرجل بهذا القول ولم يجد جوابا وأخذت عليه بهذا الأسلوب سبيل الاسترسال وارتاح الحاضرون أو معظمهم إلى هذا التخلص.
ولكني لم أرد أن تضيع الفرصة فالتفت إليهم وقلت لهم : يا إخواني ... أنا أعلم تماما أن هذا الأخ السائل , وأن الكثير من حضراتكم , ما كان يريد من وراء هذا السؤال إلا أن يعرف هذا المدرس الجديد من أى حزب هو ؟ أمن حزب الشيخ موسي أو حزب الشيخ عبد السميع ؟... وهذه المعرفة لا تفيدكم شيئا . وقد قضيتهم من جو الفتنة ثماني سنوات وفيها الكفاية..وهذه المسائل اختلف فيها المسلمون مئات السنين ولا زالوا مختلفين .والله تبارك وتعالي يرضي منا بالحب والوحدة ويكره منا الخلاف والفرقة ..فأرجوا أن تعاهدوا الله أن تدعوا هذه الأمور الآن وتجتهدوا في أن نتعلم أصول الدين وقواعده,ونعمل بأخلاقه وفضائله العامة وإرشاداته المجمع عليها , ونؤدي الفرائض والسنن وندع التكلف والتعمق حتى تصفو النفوس ويكون غرضنا جميعا معرفة الحق لا مجرد الانتصار للرأي . وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معا في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص ,وأرجوا أن تتقبلوا منى هذا الرأي ويكون عهدا فيما بيننا على ذلك.
وقد كان . ولم نخرج من الدرس إلا ونحن متعاهدون على أن تكون وجهتنا التعاون وخدمة الإسلام الحنيف ,والعمل له يدا واحدة وطرح معاني الخلاف واحتفاظ كل برأيه فيها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ..
واستمر درس الزاوية بعد ذلك بعيدا عن الجو الخلافي فعلا بتوفيق الله . وتخيرت بعد ذلك في كل موضوع معني من معاني الإخوة بين المؤمنين أجعله موضوع الحديث أولا تثبينا لحق الإلخاء في النفوس , كما اختار معني من معاني الخلافيات التي لم تكن محل جدل بينهم والتي هي موضع احترام الجميع وتقدير الجميع, أطرقه واتخذ منه مثلا لتسامح السلف الصالح رضوان الله عليه ,لوجوب التسامح واحترام الآراء الخلافية فيما بيننا .. مثل : وأذكر أنني ضربت لهم مثلا عمليا فقلت لهم : أيكم حنفي المذهب ؟ فجاءني أحدهم فقلت : وأيكم شافعي المذهب ؟ فتقدم آخر . فقلت لهم : سأصلي إماما بهذين الأخوين فكيف تصنع في قراءة الفاتحة أيها الحنفي ؟ فقال : أسكت ولا أقرأ . فقلت وأنت أيها الشافعي ما تصنع ؟ فقال : أقرأ ولابد – فقلت : باطلة لأنه لم يقرأ الفاتحة وهي من أركان الصلاة . فقلت :وما رأيك أنت أيها الحنفي في عمل أخيك الشافعي ؟ فقال : لقد أتي بمكروه تحريما فإن قراءة الفاتحة للمأموم مكروهة تحريما – فقلت : هل ينكر أحدهما على الآخر ؟ فقال : لا .. فقلت للمجتمعين: هل تنكرون على أحدهما ؟ فقالوا : لا فقلت :" يا سبحان الله !! يسعكم السكون في مثل هذا وهو أمر بطلان الصلاة أو صحتها ولا يسعكم أن تتسامحوا مع المصلي إذا قال في التشهد اللهم صلي على محمد أو اللهم صلي على سيدنا محمد وتجعلون من ذلك خلافا تقوم له الدنيا ولا تقعد".
وكان لهذا الأسلوب أثره فأخذوا يعيدون النظر في موقف بعضهم من بعض .وعلموا أن دين الله أوسع وأيسر من أن يتحكم فيه عقل فرد أو جماعة وإنما مرد كل شئ إلى الله ورسوله وجماعة المسلمين وإمامهم إن كان لهم جماعة وإمام "
سابعا – البندان الثالث عشر والرابع عشر يتناولان الأولياء في حالتي الحياة والموت .وهذا التناول وإن كان يغضب بعض المتغالين من المتصوفة فإنه يقرر حقائق قررها القرآن الكريم بصريح آياته ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ( الأعراف : 188) ولكن المعتدلين المتفقهين من المتصوفة لا يجدون غضاضة في عموم هذا الفهم .
ثامنا – والبند السادس عشر يحذر من التلاعب بالألفاظ وخداع الجماهير بالألفاظ الجوفاء والخداع الفقهي والدجل السياسي معا يحرف الكلم عن مواضعه , ولا يكون نصيب الشعوب منه إلا الضلال وإلا العبارات المغرية الجوفاء كالحرية وحقوق الإنسان دون أن تستمع هذه الشعوب فعلا بشئ من هذه الحقوق ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة لدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) ( البقرة : 204) ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ( الصف : 2, 3)
تاسعا- مع إقرار البند الحادي عشر أن البدعة التي لا أصل لها في الدين تجب محاربتها والقضاء عليها فإنه قيد هذه المحاربة بسلوك أفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها – والذي هو شر من البدعة هو أن تؤدى وسيلة محاربتها إلى الخصومة والعداء والقطيعة بين المسلمين .. وهذا هو ما كان الإخوان حريصين على تفاديه ولو أدي الأمر إلى التغاضي بعض الوقت عن البدعة والدوران حولها من بعيد , بدعوة صاحبها إلى الإلتحاق بالركب الإخواني فإذا التحق لم يلبث إلا قليلا حتى يرى نفسه قد أقلع – مقتنعا – من تلقاء نفسه عن بدعته .
كما أن البند الثامن كما أشرنا قد قرر مبدأ متفقا عليه هو أن الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء – وجاء البندان الثاني عشر والخامس عشر فقررا أن البدعة الإضافية – وهي التي تضيف شيئا لم يكن موجودا كالاحتفال بالهجرة النبوية والمولد النبوي – والبدعة التركية وتكون بترك سنة معمول , والالتزام في العبادات المطلقة كالتزام نافلة في وقت معين وإن كان مسموحا بالتنقل فيه إلا أن السنة لم تنص على التزام نافلة معينة فيه , والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه .. كل هذه يعتبر الخلاف بشأنها خلافا فقهيا في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلى خصومه ولا بغضاء .
وهنا أقول : إن نقل البدع التي أشير إليها من إضافية وتركية والتزام وتوسل من جانب الأمور الأساسية الخطيرة المتعلقة بالعقيدة والتي تمس كيان الدين إلى جانب الخلاف الفقهي في الفروع , والاقتصار في محاربة البدعة على الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها ... هذا النقل – وإن كان قد اغضب طائفة من الداعين إلى السنة ومحاربة البدع – فإنه فتح الباب على مصراعيه أمام أفواج ضخمة من ذوي المشارب المختلفة من المسلمين للحاق بالركب الإخواني الذي تولاهم بأسلوبه الخاص .
وهكذا استطاع حسن البنا بهذا " الفهم " وبانتهاج هذا الأسلوب أن ينقل في صمت وهدوء – إلى صفوف العباد قوام الليل صوام النهار المجاهدين في سبيل الإسلام بالنفس والمال – مئات الألوف من الشباب والشيب الذين كانوا يعيشيون عيشة الضياع على هامش الحياة في اللهو واللعب – بل إن مجموعات كبيرة من صفوف الشباب هذه الطوائف التي كان تتعترض عليه في فهمه وأسلوبه قد استجابت أخيرا لدعوته , بعد أن اقتنعوا بأن فهمه هو الفهم الأمثل وأن أسلوبه هو الأسلوب الأقوم , لجمع شمل الأمة الإسلامية وسط الظروف القاسية التي تحيط بالمسلمين في هذا العصر .
• توسيع الدائرة:
إذا كنا قد اعتبرنا المنتسبين للتصوف والداعين إلى الرجوع إلى السنة ومحاربة البدعة طائفتين دب بينهما خلاف , فإنهما في لحقيقة بالنسبة للطوائف على مستوى العالم الإسلامي بنتميان إلى طائفة أهل السنة حيث الطائفة الأخرى على هذا المستوى العام هي طائفة الشيعة .
ولما كان المجال العملي لحسن البنا حين قام بدعوته هو مصر, فلما عالجه أخذ في توسيع دائرة عمله فاتجه إلى معالجه الطوائف على مستوي العالم الإسلامي , حيث تنتشر طائفة الشيعة في الشام والعراق وإيران وتركيا وغيرها .
وكانت هذه الطائفة – على كثرتها – تعيش في عزلة تامة عن طائفة أهل السنة كأنهما من دينين مختلفين , مع أن هذه الطائفة تضم أقواما من أكرم العناصر المسلمة ذات التاريخ المجيد والغيرة على الإسلام والذود عن حياضه ..ووجه الخلاف بينهم وبين أهل السنة المجيد والغيرة على الإسلام والذود عن حياضه .. ووجه الخلاف بينهم وبين أهل السنة ينحصر في أنهم يتغالون في حب أهل البيت رضوان الله عليهم ..وإذا كان فيهم من تطرف فإن من المنتسبين إلى أهل السنة من تطرف .. ولكن هل تظل هذه القطيعة قائمة بين طائفتي المسلحين والإسلام في أمس الحاجة إلى جهد كل فرد منتسب إليه للوقوف في وجه الغارة المطبقة عليه ؟
رأي حسن البنا أن الوقت قد حان لتوجيه الدعوة إلى طائفة الشيعة فمد يده إليهم أن هلموا إلينا فأنتم إخواننا في الإسلام . وهيا نتعاون معا على إقامة صرحة واستعادة مجده .. وقد وجدت دعوته هذه من الشيعة أذنا صاغية , إذ أسعدهم أن يسمعوا لأول مرة منذ مئات السنين صوتا ينضح بالحب ويدعو إلى الإخوة الإسلامية .. فقدم إلى مصر شيخ من كبار مشايخهم في إيران هو " الشيخ محمد تقي فمي " والتقي بحسن البنا وحسن التفاهم بينهما .. وثمرة لهذا التفاهم أنشئت في القاهرة دار ترمز إلى هذه المعاني السامية اسمها " دار التقريب بين المذاهب الإسلامية " وقامت هذا الدار بجهد مشكور في سبيل هذا الهدف . ولو كانت الظروف قد أمهلت حسن البنا لتم مزج هذه الطائفة بالطوائف السنية مزجا عاد على البلاد الإسلامية بأعظم الخيرات – ومع ذلك فقد وضع أساس التقارب وأنجز شئ منه إذ زالت القطيعة إلى حد ما , وتوحد الصوت في المطالبة في مختلف البلاد الإسلامية بالرجوع إلى الحكم الإسلامي .
والذي أعلمه أن هذه الدار " دار التقريب " لا تزال موجودة بالقاهرة لكنها فقدت العنصر الفعال والرجل الذي كان قادرا على حسن توجيهها والإفادة منها لخير العالم الإسلامي أعظم إفادة .. ولكن حسب حسن البنا أنه اقتحم الباب المغلق , وأرسي أساس التقارب والاتصال.
• حسن البنا بين القومية والإسلامية
كان لابد لنا من عرض موقف حسن البنا من هذا الموضوع لأن كل الزعامات التي قامت في هذه البلاد اتخذت لها مواقف محددة منه .. وقد أبانوا عن هذه المواقف , فبعضهم أبان عنها في خطب ومقالات , وبعضهم أبان عنها في رسائل وكتيبات وكتب وفلسفات .. وما كان لزعيم من هؤلاء أن يغفل الإبانة عن موقفه من هذا الموضوع لأن حكم الموقع والروابط الطبيعية والإنسانية توجب هذه الإبانة .
وقبل أن نعرض لموقف حسن البنا من هذا الموضوع نشير إلى أن مواقف الزعماء الذين سبقوه والذين جاءوا من بعده لم تكن إلا وليدة مصالح مادية ومنافع مأمولة,ثم إنها على كل حال لم تكن مبنية إلا على آراء شخصية ونظر شخصي وتقدير شخصي , مما يجعلها مواقف محتملة للصواب والخطأ - أما حسن البنا فبالرغم من تفوقه على سابقيه ولاحقيه من الزعماء في المقدرة على إصدار الرأي وفي سعة الأفق وبعد النظر ورجاحة العقل , وحسن التقدير .. فإنه لم يعتمد في تحديد موقفه على ما هو مستمتع به من هذه الميزات بل اعتمد مع كل هذا على أصل ثابت وركن ركين لا يحتمل الخطأ , ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فبعد أن عرضنا لفهم حسن البنا للفكرة الإسلامية وأوضحنا تصوره لأبعادها نعرض لتصوره للوحدة القومية والوحدة العربية والوحدة الإسلامية .. وقد تولي هو بنفسه توضيح ذلك بأجلي عبارة – لما كان يعلم من أهمية هذا التوضيح في بيانه الذي ألقاه في المؤتمر الخامس فقال:
" كثيرا ما تتوزع أفكار الناس في هذه النواحي الثلاث : الوحدة القومية , والوحدة العربية , والوحدة الإسلامية , وقد يضيقون إلى ذلك الشرقية . ثم تنطلق الألسنة والأفكار بالموازنة بينها وإمكان تحقيقها أو صعوبة ذلك الإمكان ومبلغ الفائدة أو الضرر منها . والتشيع لبعضها دون البعض الآخر .. فما موقف الإخوان المسلمين من هذا الخليط من الأفكار والمناحي ؟ ولا سيما وكثير من الناس يغمزون الإخوان المسلمين في وطنيتهم ويعتبرون تمسكهم بالفكرة الإسلامية مانعا إياهم من الإخلاص للناحية الوطنية.
الجواب على هذا أننا لن نحيد عن القاعدة التي وضعناها أساسا لفكرتنا وهي السير على هدى الإسلام وضوء تعاليمه السامية – فما موقف الإسلام نفسه من هذه النواحي؟
• الوطنية أو القومية الخاصة :
إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها , أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفاني في خدمته وأن يقدم في ذلك أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها وأن يقدم الأقرب فالأقرب رحما وجوارا , حتى إنه لم يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر إلا لضرورة إيثار للأقربين بالمعروف . فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه .. ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعا لمواطنيه – لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين – وكان الإخوان المسلمون أشد الناس حرصا على خير وطنهم , وتفانيا في خدمة قومهم . وهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة المجيدة كل عزة ومجد , وكل تقدم ورقي وكل فلاح ونجاح , وبخاصة وقد انتهت إليها رياسة الأمم الإسلامية بحكم ظروف تضافرت على هذا الوضع الكريم .. وإن حب المدينة لم يمنع رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يحن إلى مكة وأن يقول لأصيل وقد أخذ يصفها :" يا أصيل دع القلوب تقر" وأن يجعل بلالا يهتف من قرارة نفسه :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
- بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنه
- وهل يبدون لى شامة وطفيل ؟
فالإخوان المسلمون يحبون وطنهم , ويحرصون على وحدته القومية بهذا الاعتبار , ولا يجدون غضاضة على أى إنسان أن يخلص لبلده , وأن يفني في سبيل قومه , وأن يتمنى لوطنه كل مجد وفخار .. هذا من وجهة القومية الخاصة "
وتعليقا على حديث حسن البنا رحمه الله عن الوطنية أو القومية الخاصة أحب أن أذكر أنه لولا أن طبيعة دعوة الإخوان المسلمين تقوم على أساس من التربية الروحية الإسلامية , حيث يطالب العضو فيها بدراسة عقيدة معينة وأداء عبادات محددة – مما لا يجوز أن يطالب به غير المسلم – لولا هذا لفتح حسن البنا باب العضوية في جماعته لغير المسلمين من المصريين .
ولذا فقد كان له – رحمه الله – أصدقاء من مفكرى الأقباط وذوي الثقافات الواسعة منهم حتى أنه لما كون في عام 1946 لجنة استشارية للشئون السياسية للإخوان المسلمين ضم إلى أعضائها بعض كبار الساسة من الأقباط وكان منهم الأستاذ وهيب دوس عضو مجلس الشيوخ آنذاك .
• القومية العربية :
واستأنف حسن البنا حديثه فقال :
"ثم إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربيا, ووصل إلى الأمم عن طريق العرب, وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين ,وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين وقد جاء في الأثر :" إذا ذل العرب ذل الإسلام " وقد تحقق هذا المعني حين دال سلطان العرب السياسي , وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه ..
وأحب هنا أن أنبه إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه " ألا إن العربية اللسان . ألا إن العربية اللسان " ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لابد منه لإعادة مجد الإسلام , وإقامة دولته , وإعزاز سلطانه . ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها . وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية .
• الوحدة الإسلامية تمهيدا للوحدة العالمية :
ثم انتقل إلى الوحدة الإسلامية فقال :
" بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية والحق أن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة هو وطن وجنسية وأنه قد قضي على الفوارق النسبية بين الناس فالله تبارك وتعالي يقول : ( إنما المؤمنون إخوة ) ( الحجرات : 10) والنبي صلي الله عليه وسلم يقول :" المسلم أخو المسلم " و" المسلمون تتكافأ دماؤهم , ويسعي بذمتهم أدناهم ,وهم يد على من سواهم ".
فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة , ويعتبر الوطن الإسلامي وطنا واحدا مهما تباعدت أقطاره ,وتناءت حدوده . وكذلك الإخوان المسلمين يقدسون هذه الوحدة ويؤمنون بهذه الجامعة ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام . ينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
ثم يختتم – رحمه الله – هذا البيان الرائع المحدد الواضح الصريح بقوله :
- "وضح إذن أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود . ولا يرون بأسا بأن يعمل كل إنسان لوطنه , وأن يقدمه في الوطن على سواه . ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في هذا النهوض ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام – ولي أن أقول بعد هذا : أن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية , لأن هذا هو مرمي الإسلام وهدفه ومعني قول الله تبارك وتعالي ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء : 107) .
وأنا في غني بعد هذا البيان عن أن أقول أنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار وبأن كلا منها تشد أزر الأخرى , وتحقق الغاية منها . فإذا أراد قوم أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة سلاحا يميت الشعور بما عداها فالإخوان المسلمون ليسوا منهم .ولعل هذا هو الفارق بيننا وبين كثير من الناس".
وبعد ما نقلناه إلى القارئ من هذا البيان الشامل الواضح نقول : لعل قد صار جليا أن حسن البنا لا يري الوحدة القومية أو القومية الخاصة في الانتماء 0 على سبيل المثال – إلى الفراعنة ولا إلى الفينقيين ولا إلى الآشوريين فيتعالي المنتسبون إلى الفراعنة وهكذا ..
ولا يري الوحدة العربية في الانتماء إلى يعرب بن قحطان , ولا الانتماء إلى مكان محدد أو زمان معين , فيتفاخر سكان إقليم على سكان أقاليم أخرى.. أو يستطيل الأقدمون عهدا بالعروبة على الأحدثين عهدا بها .. بل يري أن اللسان العربي هو مقياس العروبة , فالمتكلمون باللسان العربي حيثما كانوا هم عرب وكلهم سواء .
كما أنه لا يري أن الوحدة القومية الخاصة والوحدة هما في ذاتهما غايتان , بل هما وسيلتان وخطوتان في سبيل تحقيق الهدف الأصيل وهو الوحدة الإسلامية تلك الوحدة التي يقربنا تحقيقها من تحقيق الوحدة العالمية .
• حسن البنا والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية :
وقد يختلج في صدور بعض القراء سؤال عن موقف حسن البنا فيما يتصل بالمبادئ السايسية والاقتصادية والاجتماعية المتصارعة والتي تتجاذب الشعوب في عصرنا هذا من رأسمالية وشيوعية واشتراكية . فنقول : إنه كان رحمه الله يري في الفكرة الإسلامية غناء عن كل ما في هذه الأفكار من مزايا مع تنزه الفكرة الإسلامية عما يشوب هذه الأفكار والمبادئ من عيوب .
أما أسلوبه في مواجهة هذه المبادئ والأفكار فكان أسلوبا يبدو للنظر السطحي كأنه أسلوب سلبي إذ هو لا يهاجم هذه المبادئ وإنما يفرغ جهده كله في نشر فكرته في أوسع نطاق وفي تعميق معانيها وأهدافها ومراميها في نفوس أكبر عدد ممكن من أفراد الشعب وهو بذلك يري أنه قد أوصد الأبواب في وجه هذه المبادئ وفي وجه كل فكر دخيل ..
وما من شك في أن أسلوبه هذا الهادئ الرزين قد أثمر وأينع الثمر , وآتي أكله وحقق ما كان يرجو منه. فلقد أحس أصحاب هذه المبادئ الدخيلة فعلا أن الطريق أمامهم مسدود وقد حاقت بهم خسائر جسيمة .. والأمر الذي حملهم – مع ما بينهم من تناقض كبير – على أن يتحدوا ضد هذا الداعية الصامت الجسور ..
على أن المبدأ الذي كان متسلطا على مصر في تلك الحقبة من الزمن من هذه المبادئ الثلاثة كان الرأسمالية حيث الإقطاعات الزراعية الشاسعة والمصانع الضخمة والإسلام لا يمنع الاقتناء والتأثل ولكنه لا يرضي عن الظلم..
وليس معنى أن أسلوب حسن البنا في مواجهة هذه المبادئ كان أسلوب هادئا أنه لم يكن هناك احتكاك واصطدامات في مواطن تجمعات العمال في مصانع الإسكندرية وشبرا الخيمة وفي بعض الإقطاعات الزراعية الواسعة في الريف المصري ..ولكن الاحتكاك في كل هذه المواطن لم يكن من جانب معسكر حسن البنا وإنما كان دائما من جانب المعسكر الآخر .. فالمعسكر الآخر يعتبر مجرد استجابة نفر من العمال العاملين في إحدي وساياه أو في أحد مصانعه إلى دعوة الإخوان المسلمين والتفافهم حول فكرتهم يعتبرون ذلك تحديا لسلطتهم وتقويضا لنفوذهم فيشنون على هؤلاء العمال حربا لا هوادة فيها ,ويستعدون عليهم سلطات الحكومة التي كانت في ذلك الوقت طوع إشارتهم , خادمة لمصالحهم ..
ومن شاء أن يقرأ عن هذه الاصطدامات فليرجع إلى صحف تلك الأيام وإن كان العرف عند هؤلاء القوم في تلك الأيام أنهم كانوا يعتبرون المظلوم ظالما والظالم مظلوم .
ومن هذا القبيل ما جاء في المذكرة التفسيرية للأمر العسكري رقم63 لسنة 1948 بحل الإخوان المسلمين في البنود " عاشرا وحادي عشر وثاني عشر " فليرجع إليها القارئ إن شاء ثم ليرجع إلى ما جاء عنها من تفنيد في مذكرة الأستاذ الإمام في الرد عليها .
ونحب أن نلفت النظر إلى أن موقف حسن البنا من هذه المبادئ وقد احتك بها أو بتعبير أدق احتكت هي به احتكاكا شديدا – وإن كانت فترة الاحتكاك على شدته لم تطل إذ عاجلته المنية – لم كين هدفه من ذلك الاحتكاك مجرد القضاء على هذه الأفكار ثم يجلس بعد ذلك يبحث عن بديل – كما فعل غيره – بل إن البديل بكل قواعده وأصوله وتفاصيله كان بيده ..ولم يكن هذا البديل ملفتا ولا مستعارا كما أنه لم يكن فكرة مخترعة لم يسبق لها أن وضعت موضع التجربة ..وإنما كان البديل الذي بيده كاملا شاملا مجربا مضمون النجاح , وفضلا عن ذلك فإنه بديل قريب إلى النفوس تنبض له القلوب و شك في أن القوي العالمية صاحبة هذه المبادئ والأفكار , متضافرة مع القوي المصرية حاملة نفس هذه المبادئ والأفكار – هي التي دبرت المؤامرة التي راح ضحيتها حسن البنا .
الفصل الثالث حسن البنا والطائفة الخامسة أو موقفه من الساسة والحكام
• نوع السياسة الذي كان سائدا في مصر :
قامت دعوة الإخوان المسلمين منذ قامت ومقاليد الأمور في البلاد في أيدي طبقة من الساسة والحكام يتداولونها بينهم , فيختلفون حولها تارة ويتفقون أخري. ولكن لهم سمة عامة تميزهم عن بقية طبقات الشعب إنهم أشبه بالأجانب المستعمرين منهم بأهليهم وشعبهم . فهم لا يعرفون عن تاريخ قومهم مثلما يعرفون عن تاريخ هؤلاء الأجانب من الأوربيين . ويجيدون الحديث بلغات هؤلاء الأوربيين في الوقت الذي يجهلون فيه لغة بلادهم ويعتقدون أنهم خلقوا ليكونوا هم وشعوبهم مسودين وأن هؤلاء الأوريين خلقوا ليكونوا سادة .. ولا يشعرون في ذلك بغضاضة .
ولقد لقنهم هؤلاء المستعمرون فيما لقنوهم أن الدين معوق للتقدم عدو للحضارة والرقي .. ولذا فالدين – إن كان لابد من تدين – ينحصر في نظرهم بين جدران المساجد, وللطبقة من الناس الذين انقطعت بهم السبل . ولا يجوز للدين أن يخرج عن هذه الحدود ليتصل بأمور الدنيا فللدنيا قوانينها التي سنها هؤلاء السادة الغربيون ...
وإذا كان الغربيون معذورين في فهم الدين على هذه الصورة لطبيعة دينهم ولما عانوه في خلال تاريخهم الطويل من عنت الكنيسة وتدخلها في شئون الناس بغير مبرر. ومحاولة رجال الدين عندهم أن يحملوا الناس على أرائهم الشخصية بعد أن يلبسوها مسوح القداسة فوقفوا بذلك حائلا بين الغرب وبين نور العلم بضعة قرون ولم يستطع نور العلم أن ينفذ إليهم إلا بعد حروب ضروس شنوها على الكنيسة حتى قضوا على نفوذها وألزموها حدودها التي حددتها المسيحية لها.
إذا التمسنا للغربيين العذر بعد كل هذه المعاناة أن ينظروا لدينهم هذه النظرة فما عذر هؤلاء الساسة المسلمين في انتحالهم هذه النظرة نفسها إلى الإسلام وطبيعة الإسلام تختلف عن طبيعة المسيحية ؟ والإسلام هو الدين الخاتم الذي جاء بعد أن بلغت الإنسانية رشدها لينظم للناس حياتهم تنظيما يربط بين الدنيا والآخرة , وهو دين العلم والحضارة والحياة ويشهد بذلك تاريخه على مدى ألف عام , وكتابه الذي نزل من عند الله على قلب محمد صلي الله عليه وسلم ليكون دستورا مهيمنا على كل شئون الحياة ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ( النساء : 105) ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ( المجادلة : 11) .
قام حسن البنا بدعوته والوضع في أمر السياسة والحكم على ما وصفنا . فسلك بدعوته الطريق الذي واجه فيه طوائف الشعب الأربع بالأسلوب الذي كفل لها السلامة والنجاح والتفوق مع جمع الشمل .. والطائفة المترفة - طائفة الساسة والحكام .. فماذا كان له معهم من موقف ؟ لم يخرج في موقفه عن أسلوبه الذي أتبعه مع الطوائف الأخرى .. موقف من يريد تقويم الإعوجاج , وتصحيح النظرة وتطهير النفوس مما علق بها من النفاق والضعف والأنانية والتخاذل .. وإذا كان قد توجه بهذا الأسلوب إلى طوائف الشعب الأربع الأخرى فإن توجهه به إلى طائفة الساسة والحكام أدعي وألزم .. فبقاء نفوس هذه الطائفة على فسادها قد يحبط كل ما تم من إصلاح في نفوس بقية الشعب , إذ أن هذه الطائفة – على قلة عددها – بيدها أن تغرق السفينة بكل ما فيها ومن فيها , فهي التي تتحكم في توجيهها حيث شاءت لأنها هي التي تسمك بدفتها وتقبض على زمامها .
وتوضيحا لما أشرنا إليه من أخلاق هذه الطائفة من الساسة في ذلك الوقت نقتبس سطورا من مقال كتبه الأستاذ مصطفي صادق الرافعي – رحمه الله – يصف فيه هؤلاء الساسة فيقول :
" كان (م) باشا - رحمه الله – داهية من دهاة السياسة المصرية يلتوي في يدها مرة التواء الحبل ويستوى في يدها مرة استواء السيف . ولا يرى أبدا إلا منكمشا متحرزا كأن له عدوا لا يدري أين هو ولا متى يقتحم عليه . ولكنه كغيره من الرؤساء الذين كانوا آلات للكذب بين طالب الحق وغاصب الحق – يعرف أن عدوه كامن في أعماله .
وكان ذكيا أريبا غير أن ملابسته للسياسة الدائرة على محورها جعلت نصف ذكائه من الذكاء ونصفه من المكر , فكان في مراوغته كأن له ثلاثة عقول :
أحدها مصري والآخر إنجليزى والثالث خارج من الحالين .
وبهذا تقدم وعاش أثيرا عند الرؤساء من الإنجليز واستمرت مجاريه مطردة لديهم حتى بلغوا به الوزارة إذ كان حسن الفهم عنهم سريع الاستجابة إليهم يقهم معني ألفاظهم ومعني النية التي تكون وراء ألفاظهم ومعني آخر يتبرع هو به لألفاظهم ..
فكان هو وأمثاله في رأي تلك السياسة القديمة رجالا كالأفكار : يوضع أحدهم في مكانه من الحكم كما توضع صيغة الشك لإفساد اليقين أو صيغة الوهم لتوليد الخيال أو صيغة الهوى لإيجاد الفتن .
وكان صديقي ( فلان ) رحمه الله صاحب سره ( سكرتيره ) وقد وثق به الباشا حتى أنه كان يعالنه بما في نفسه ويبثه همومه وأحزانه ويري فيه دنيا حرة يخرج إليها كلما ضاقت به دنيا وظيفية. ويستعير منه اليقين أحيانا بأنه لا يزال مصريا لم يتم بعد تحويله في الكرسي ".
• نوع السياسة الذي دعا إليه حسن البنا :
أراد حسن البنا أن يدعو إلى سياسة تقوم على أساس وطيد من القوة والصراحة والطهر والشرف والكرامة وعلى المبادئ الخلفية الرفيعة – سياسة تقوم على التضحية والبذل من قبل الحاكم لا على الاستغلال والتأثل – سياسة كتلك التي سأل النبي صلي الله عليه وسلم أحد عماله ( حكام الأقاليم ) عن مال عنده فقال : أنه مال أهدى إلى فأمر بعزل وقال قولته لتي وضع بها قاعدة الحكم الصالح :" لو قعد أحدكم في بيت أمه هل كان يهدى إليه ؟"
سياسة لا تجامل في الحق , ولا تتهاون في العدل , ولا تخشي في الله لومة لائم – سياسة يحكمها دستور منزل من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا يرضي للمؤمنين به الذل , ولا يقر أحدا أيا كان على الظلم , وينعم الجميع في ظله حتى غير المؤمنين به ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) ( الممتحنة : 8) فغير المسلمين من المواطنين متساوون في الحقوق مع المسلمين بحكم القرآن لا على أسس من النفاق السياسي والأهواء والمداهنة. فإذا رضي حاكم أنصفهم وإذا غضب عليهم سلبهم حقوقهم – وإذا قامت الدولة على قواعد مقررة بصريح القرآن – وهو الدستور المحفوظ والمقروء والمسموع في كل بيت وفي كل يوم – سادها الأمن والطمأنينة والاستقرار والسلام الاجتماعية المنشود – وليس سلام اجتماعي يقرره القرآن الكريم . وكذلك السلام الاجتماعي الذي قرره بشر تكتنفه الأهواء من كل جانب .
سياسة لا تقبل أن يعطي المسلم الدنية في دينه ولا في وطنه مهما اقتضاه ذلك ممن تضحيات براحته وماله ومصالحه ودمه ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتها جروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) ( النساء :97)
ولسائل أن يسأل : لما كان حسن البنا يعلم من خطورة بقاء هذه الطائفة على فسادها ما يعلم فلم لم يسارع بالتوجه بدعوته إليها من أول يوم .
فنقول : أنه كان يعلم هذا ولم يتوان عن توجيه الدعوة إليها في كل مرحلة من المراحل , ولكنه حين كان يفعل ذلك كان يفعله لمجرد الأعذار إلى الله وإقامة الحجة عليهم فإنه كان يعلم أن قوة صوته مرهونة بقدر القطاع الشعبي الذي يتكلم بإسمه ويعبر عن مشاعره – فكان صوته في أول الأمر يصل إلى هؤلاء السادة في بروجهم المشيدة خافتا ضعيفا لا يكاد يسمع ثم أخذ في الارتفاع حتى صار آخر الأمر قويا مجلجلا. وكان هذا هو السبب في تساؤل كثير من الناس لم سكت حسن البنا عن التوجه بدعوته إلى هذه الطائفة البالغة الأهمية طيلة هذه المدة الكبيرة ؟ فهؤلاء الناس لم يسمعوا صوته موجها إلى هؤلاء إلا يوم قوي صوته فأسمعهم وأسمع الجميع معهم فظنوا أنه قصر في الاتصال بهم حتى اتصل بهم فجأة آخر الأمر .
• من مراحل توجيه الدعوة إلى هذه الطائفة :
فمنذ لم تكن دعوته شيئا مذكورا عمل على الاتصال بهذه الطائفة .. منتهزا الفرص العارضة والمناسبات .. ونأخذ إن شاء الله في عرض صور من هذه الاتصالات مؤيدة بتواريخها.... وقد يلاحظ القارئ أن كل صورة من هذه الصور مرتبطة بزمنها معبرة عن مرحلتها .
1- المطالبة ببناء مسجد للبرلمان :
في 17/ 11/1934 أرسل بإسم الجماعة خطابا إلى رئيس الوزراء ووزير الأشغال يستنكر فيه " انصراف النية عن بناء مسجد البرلمان الذي قد قرر إنشاؤه " فرد عليه وزير الأشغال بأن الوزارة قررت بناء المسجد المذكور , وأعطت المقاولة إلى عبد الحميد محمد عبد الله المقاول بتاريخ 30/11/1934.
2- احتجاج على النحاس باشا لتأييده أتاتورك:
وفي 14/6/1936 أرسل إلى مصطفي النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء خطابا يحتج فيه على تصريحه الذي نشره بجريدة " الأهرام " والذي يقرر فيه " إعجابه بلا تحفظ بكمال أتاتورك الذي صاغ بعبقريته تركيا الحديثة " ويقول في سياق إعجابه :" ولست أعجب فحسب بعبقريته العسكرية بل أعجب أيضا بعبقريته الخالصة وتفهمه لمعني الدولة الحديثة التي تستطيع وحدها في الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وأن تنمو ". وفي سياق خطاب الاحتجاج يقول حسن البنا :
" وبعد.. فدولتكم أكبر زعيم شرقي عرف الجميع فيه سلامة الدين وصدق اليقين. وموقف الحكومة التركية الحديثة من الإسلام وأحكامه وتعاليمه وشرائعه معروف في العالم كله لا لبس فيه , فالحكومة التركية قلبت نظام الخلافة إلى الجمهورية , وحذفت القانون الإسلامي وحكمت بالقانون السويسري مع قوله تعالي ( من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( المائدة : 44) وصرحت في دستورها بأنها حكومة لا دينية , وأجازت بمقتضي هذه التعاليم أن تتزوج المسلمة من غير المسلم ,وأن ترث المرأة مثل الرجل واصطدمت في ذلك بقوله تعالي : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ( النساء : 11) وهذا قليل من كثير من موقف الحكومة التركية من الإسلام .
وأما موقفها من الشرق فقد صرحت في وقت من الأوقات بلسان وزير خارجيتها بأنها ليست دولة شرقية وقد قطعت صلتها بالشرق حتى في شكل حروفه وفي أزيائه وعاداته وكل ما يتعلق به .
ثم يقول حسن البنا : لهذا كان وقع تصريح دولتكم للمراسل الخاص لوكالة الأناضول التلغرافية بالقاهرة غريبا على الذين لم يعرفوا دولتكم إلا زعيما شرقيا مسلما فخورا بشرقيته متمسكا بإسلامه في أمه تعتبر زعيمه الشرق جميعا . ولقد أخذ الكثير ممن طالعوا هذا التصريح يتساءلون: هل يفهم من هذا أن دولة النحاس باشا وهو الزعيم المسلم الرشيد يوافق على أن يكون لأمته – بعد الانتهاء من القضية السياسية – برنامج كالبرنامج الكمالي يتولى كل الأوضاع فيها , ويفصلها عن الشرق والشرقيين ويسقط من يدها لواء الزعامة ؟ - إنا لنعيذ دولة الرئيس من هذا المقصد الذي نعتقد أنه أبعد الناس عنه .
لهذا يا صاحب الدولة .. نتوجه إليكم بهذه الكلمة , وهي كلمة الولاء المحض والنصح الخالص والإشفاق الكبير رجاء أن تتفضلوا بإلحاق هذا التصريح بما يطمئن نفوسا قلقة ويقر أفئدة مضطربة ويسد الطريق أمام الظنون والأوهام ".
3- معارضة المعاهدة ومطالبة الحكام بالرجوع إلى الإسلام .
لما وقعت المعاهدة بين مصر وبريطانيا في أغسطس 1936 وقف الإخوان منها موقف المعارضة ولما كانوا في ذلك الوقت لا يزالون نبتة صغيرة فقد اكتفوا بمجرد المعارضة . واتجهوا إلى الإصلاح الداخلي باعتباره أساس بناء الأمة فوضع حسن البنا رسالة نحو النور " وبعث بها إلى الملك وإلى رئيس الوزراء والوزراء وإلى أعضاء مجلس النواب والشيوخ وإلى ملوك وأمراء وحكام العالم الإسلامي وإلى كثير من كبار المسئولين في مصر وفي خارج مصر .. يطالبهم فيها بالعودة إلى نظام الإسلام .
ورسالة " نحو النور " هي أولي الرسائل التي خاطب فيها حسن البنا الحكومة ببرنامج كامل للإصلاح في جميع مرافق الحياة .. بدأها بهذه العبارة :
يا صاحب ..
إن الله وكل إليكم أمر هذه الأمة وجعل مصالحها وشئونها وحاضرها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم وأنت مسئولون عن ذلك كله بين يدى الله تبارك وتعالي .. ولئن كان الجيل الحاضر عدتكم فإن الجيل الآتي من غرسكم . وما أعظمها أمانة وأكبرها تبعة أن يسأل الرجل عن أمة : " وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " وقديما قال الإمام العادل :
لو عثرت بغلة العراق لرأيتني مسئولا عنها بين يدى الله تبارك وتعالي لم لم أسو لها الطريق ؟ وصور الإمام عمر بن الخطاب عظيم التبعة في جملة فقال :" لوددت أن أخرج منها كفافا لا لى ولا علي ".
• من مزايا النظام الإسلامي :
ويعد أن أشار إلى أن هذه الفترة من تاريخ الأمة هي فترة انتقال وهي من أخطر الفترات في حياة الأمم بين أن أمام الأمة أحد طريقين إما طريق الإسلام وإما طريق الغرب . ثم أخذ في توضيح مزايا الأخذ بنظام الإسلام فقال :" وأننا إذا سلكنا بالأمة هذا المسلك استطعنا أن نحصل على فوائد كثيرة منها أن المنهاج الإسلامي قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته , وأخرج للناس أمة من أقوي الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الإنسانية جميعا وله من قدسيته واستقراره في نفوس الناس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه فضلا عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة إذ أننا نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي .
وفي السير على هذا المنهاج تقوية للوحدة العربية أولا ثم للوحدة الإسلامية ثانيا , فيمدنا العالم الإسلامي كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده ويرى فينا إخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه وفي ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل .
وهذا المنهاج تام شامل كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة في الأمة عملية وروحية وهي هي الميزة التي يمتاز بها الإسلام فهو يضع نظم الحياة للأمم على أساسين مهمين أخذ الصالح وتجنب الضار .
فإذا سلكنا هذه السبيل استطعنا أن نتجنب المشكلات الحيوية التي وقعت فيها الدول الأخرى التي تعرف هذا الطريق ولم تسلكه , بل استطعنا أننحل كثيرا من المشكلات المعقدة التي عجزت عن حلها النظم الحالية وإنا لنذكر هنا كلمة برناردوشو :" ما أشد حاجة العالم في عصره الحديث إلى رجل كمحمد يحل مشكلته القائمة المعقدة بينما يتناول فنجانا من القهوة ".
ويعد ذلك كله فإننا إذا سلكنا هذا السبيل كان تأييد الله من ورائنا يقوينا عند الوهن وينقذنا في الشدائد, ويهون علينا المشاق , ويهيب بنا دائما إلى الأمام ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ) (النساء : 104) .
• الدور الآن دورنا :
وبعد أن تحدث عن المدنية الغربية وفشلها في إسعاد أهلها قال :" لقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية, ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلى الشرق مرة ثانية ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة فكانت سنة الله التي لا تتخلف وورث الغرب القيادة العالمية .. وها هو ذا الغرب يظلن ويجور , ويطغي ويحار ويتخبط فلم يبق إلا أن تمتد يد " شرقية " قوية يظللها لواء الله ,وتخفق على رأسها راية القرآن ويمدها جند الإيمان القوى المتين , فإذا بالدنيا مسلمة هانئة وإذا بالعوالم كله هاتفه ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ( الأعراف : 43 ) .
ليس هذا من الخيال في شئ , بل هو حكم التاريخ الصادق , إذا لم يتحقق بنا ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ( المائدة : 54 ) بيد أننا نحرص على أن نكون ممن يحوزون هذه الفضيلة ويكتبون في ديوان هذا الشرف ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) ( القصص : 68) .
• الإسلام يمد الأمة بكل ما تحتاج إليه :
ثم أخذ في إثبات أن الإسلام كفيل بإمداد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه فهو يمدها بالأمل ويبعث فيها العزة القومية ويبث فيها روح القوة والجهاد ويحثها على تصحيح الأبدان كما يدفعها إلى التزود بالعلم ويغرس في نفوسها الأخلاق وينظم اقتصادها وينشر الرخاء في ربوعها
• الإسلام والأمل :
فتحدث عن الإسلام والأمل فذكر قول الله تعالي ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .ونمكن لهم في الأرض ) ( القصص : 5: 6 ) وقوله تعالي : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ( الحشر:2) ... إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية لابد أن تخرج بعد ذلك أقوي الأمم إيمانا وأرواحا , ولابد أن تري في هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت حتى تظفر بما تصبوا إليه من كمال .
• الإسلام والعزة القومية :
ثم تحدث عن الإسلام والعزة القومية وذكر أن ادعاء الأمم المختلفة بأنها أعظم الأمم وشعار كل جنس أنه " فوق الجميع " هو تعصب للجنس وفخر كاذب ليس له ما يسنده , لكن الأمة الإسلامية إذا هي حققت الأهداف الإسلامية متسامية في شعورها عن التراب والجنسية فإنها نستحق أن تكون بحكم الله خالق الناس ( خير أمة خرجت ) ( آل عمران : 11)
• الإسلام والقوة والجندية :
ثم تحدث عن الإسلام والقوة الجندية فذكر قوله تعالي ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ( الأنفال : 60) وقوله تعالي ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( البقرة : 216).. ويوضح شرف غاية الجندي المسلم ودناءة غاية الأعداء فيقول : ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) ( النساء :76 )
ثم يوضح أن ثمن النصر للمسلمين ليس استعباد الناس بل هو نشر لواء الفضيلة فقال : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز . والذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) ( لحج: 40,41 )
• الإسلام والصحة :
ثم تحدث عن الإسلام والصحة العامة فذكر الأسس التي وضعها القرآن لاختيار القواد والزعماء فقال : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم و الجسم ) ( البقرة : 247) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :" المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف ) وقوله :" إن لبدنك عليك حقا " كما أن تعليماته صلي الله عليه وسلم في تناول الطعام والشراب تضمن للمسلم الصحة والعافية وكذلك حثه على السباحة والفروسية.
• الإسلام والعلم
ثم تناول الحديث عن الإسلام والعلم فذكر قول الله تعالي : ( هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ( الزمر :9) ثم إن الإسلام قد وزن مداد العلماء بدم الشهداء. ثم لفت النظر إلى أن القرآن لا يفرق بين علم الدنيا وعلم الدين بل أوصى بهما جميعا وجمع علوم الكون في آية واحدة وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته فذلك قوله تعالي : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ) ( فاطر :27) وفي ذلك إشارة إلى الهيئة والفلك وارتباط السماء بالأرض . ثم قال : ( فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ) ( فاطر : 27) وفي ذلك الإشارة إلى علم النبات وغرائبه وعجائبه وكيميائه . ثم قال : ( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) ( فاطر : 27) وفي ذلك الإشارة إلى علم الجيولوجيا ثم قال : والحيوان بأقسامه من إنسان وحشرات وبهائم فهل ترى هذه الآية غادرت شيئا من علوم الكون؟
ثم يردف ذلك كله بقوله تعالي في نهاية الآية : ( إنما يخشي الله من عباده العلماء ) ( فاطر : 38)
• الإسلام والخلق :
تكلم بعد ذلك عن الإسلام والأخلاق فذكر قول الله تعالي ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ( الشمس : 9, 10) وقد جعل القرآن تغيير حال الأمم متوقفا على تغيير أخلاقها وصلاح نفوسها فقال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( الرعد: 11) وليس كالإسلام عاملا على إيقاظ الضمير وإحياء الشعور وإقامة رقيب على النفس من لنفس وذلك خير الرقباء وبغيره لا ينتظم قانون ما إلى أعماق السرائر وخيفات الأمور .
• الإسلام والاقتصاد :
وانتهى بالحديث عن الإسلام والاقتصاد فذكر قوله تعالي : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل لكم قياما ) ( النساء : 5) ويقول في موازنة الإنفاق والدخل : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ( الإسراء : 29) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :" نعم المال الصالح للرجل الصالح " ويقول :" اما عال من اقتصد".
وبعد أن انتهي من توضيح مزايا النظام الإسلامي أخذ في تحذير الساسة من الانحراف عن الإسلام واختيار تقليد الغرب . وشرح لهم أن الإسلام يحمي الأقليات ويصون حقوقه الأجانب ولا يعكر صفو العلاقات مع الغرب كما شرح لهم كيف أن أصول النهضة في الشرق غير أصولها في الغرب وأومأ إلى الفرق بين دين الغرب والدين الإسلامي وأن رجال الدين غير الدين نفسه.
وانتهي من ذلك إلى حث هؤلاء الحكام والمسئولين في مصر وفي العالم الإسلامي كله على المبادرة باتخاذ الخطوة الجريئة في اختيار المنهج الإسلامي القويم لحكم البلاد.
وحتى لا تكون الرسالة مجرد مقال إنشائي فقد ذيلها بخمسين مطلبا عمليا تطبيقيا من مطالب الإصلاح الداخلي : عشرة منها تناولت الناحية السياسية والقضائية والإدراية وثلاثون منها تناولت الناحية الاجتماعية والعلمية والعشرة الباقية تناولت الناحية الاقتصادية .
وقد ختم حسن البنا الرسالة بهذه العبارة " وبعد .. فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وما نملك تحت تصرف أية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة الإسلام نحو الرقي والتقدم نجيب النداء , ونكون الفداء, ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا, و الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل ".
وفي خلال هذه المراحل الثلاث التي أتينا على صور مصغرة لكل منها لم ينقطع عن حث الحكومات المتتالية على مساندة قضية فلسطين مساندة فعالة,وعلى الوقوف بجانب قضايا الشعوب الإسلامية في المغرب العربي والمشرق العربي عن طريق الخطب والمحاضرات والخطايات والمنشورات والمقالات التي تملأ صفحات ما كان يصدره الإخوان من مجلات وكتب ونشرات .
ولكن هل كان لهذه التوجيهات من أثر في اتجاه هؤلاء الساسة والحكام ؟
الواقع التاريخي يلزمنا أن نقرر أنه حتى هذه المرحلة من مراحل الدعوة لم يكن لنداءات حسن البنا بمختلف صورها من أثر يذكر في اتجاه الحكومات المتتالية التي كان يتداولها الساسة المصريون .
4- المؤتمر الخامس أو من أعلي مئذنة :
ولكن حين قويت شوكة الدعوة,واشتد ساعدها ساعدها بعد أن دارت رحي الحرب العالمية الثانية كما بينا من قبل – أخذ صوت حسن البنا يجلجل فأيقظ النائمين وأقض مضاجع السادة المترفين .. لأول مرة اخترق صوته آذانهم حين وقف على منصة المؤتمر الخامس بسراي آل لطف الله بالجزيرة في عام 1357هـ الموافق 1938 م يلقي بيانه الذي وضح فيه موقف الإخوان المسلمين من جميع الجهات والأفكار والهيئات في الداخل والخارج وتعرض فيه للساسة المصريين فقال :
- " والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب المصرية جميعا قد وجدت في ظروف خاصة ولدوافع أكثرها شخصي لا مصلحي,وشرح ذلك تعلمونه حضراتكم جميعا ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن فكل منا سيدعي أنه يعمل لمصلحة الأمة في كل نواحي الإصلاح, ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال ؟ وما وسائل تحقيقها ؟ وما الذي أعد من هذه الوسائل ؟ وما العقبات التي ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ ؟ وماذا أعد لتذليلها ؟ كل ذلك لا جواب عليه عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم , وتسخير كل دعاية حزبية وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الله الوصول إليه .
ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم وعطلت مصالحهم وأتلفت أخلاقهم ومزقت روابطهم وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر "
ثم قال :" أن الإخوان لا يضمرون الحزب من الأحزاب أيا كان خصومة خاصة به ولكنهم يعتقدون من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم , " وبهذه المناسبة أقول أن الإخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب ويعتقدون أنها مسكن لا علاج وسرعان ما ينقض المؤتلفون بعضهم على بعض فتعود الحرب بينهم جذعة على أشد ما كانت عليه قبل الائتلاف – والعلاج الحاسم ناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها وانتهت الظروف التي أوجدتها ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون , ثم تناول بعد ذلك موقف الإخوان من الدول الاستعمارية فقال :
" الإسلام كما قدمت يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضا في الآلام والآمال , وأن أى عدوان يقع على واحدة منها أو على فرد من المسلمين فهو واقع عليهم جميعا – أضحكني وأبكاني حكم فقهي رأيته عرضا في كتاب " الشرح الصغير " على أقرب المسالك , قال مؤلفه "مسألة امرأة مسلمة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها وافتداؤها ولو أتي ذلك على جميع أموال المسلمين " ورأيت مثله قبل ذلك في كتاب " مجمع الأنهر في شرح ملقتي الأبحر " نقلا عن كتاب " البحر " في مذهب الأحناف – رأيت هذا فضحكت وبكيت. وقلت لنفسي : أين عيون هؤلاء الكاتبين لتنظر المسلمين جميعا في أسر غيرهم من أهل الكفر والعدوان ؟.
" أريد أن أستخلص من هذا أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ ,وأن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله هذه واحدة... والثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم سادة في أوطانهم. بل ليس ذلك فحسب بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم والاهتداء بأنوار الإسلام التي اهتدوا بها من قبل .
- " ومن هنا يعتقد الإخوان المسلمون أن كل دولة اعتدت وتعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة لابد أن تكف عن عدوانها ولابد من أن يعد المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين متحدين على التخلص من نيرها ".
وبعد أن تناول الدول المستعمرة دولة دولة وما فعلته كل منها بالمسلمين ختم هذا الموضوع بالعبارة الآتية :
" أيها الإخوان المسلمون – هذا كلام يدمي القلوب ويفتت الأكباد , وحسبي هذه الفواجع في هذا البيان فتلك سلسلة لا آخر لها وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه لناس وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضي من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلا عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال فالموت خير من هذه الحياة : حياة العبودية والرق والاستذلال . وأنتم إن فعلتم ذلك وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) ( المجادلة : 21 )
5- بيان أشبه بإنذار في المؤتمر السادس :
وبعد المؤتمر الخامس بسنتين أى في عام 1941 عقد حسن البنا المؤتمر السادس . وقد وعدنا الإخوة القراء – في الجزء الأول من هذا الكتاب في سياق الحديث عن مؤتمرات الإخوان – أنه إذا يسر لنا الحصول على مرجع للمؤتمر السادس سننقل لهم فقرات مما جاء في كلمة الأستاذ الإمام فيه ... وقد يسر لنا ذلك والحمد لله.. فهاكم هذه الفقرات :
• يقول – رحمه الله – في مستهل خطابه :
" واذكروا جيدا أيها الإخوة أن دعوتكم أعف الدعوات , وأن جماعتكم أشرف الجماعات وأن مواردكم من جيوبكم لا من جيوب غيركم : ونفقات دعوتكم من قوت أولادكم ومخصصات بيوتكم . وأن أحدا من الناس أو هيئة من الهيئات , أو حكومة من الحكومات أو دولة من الدول ...لا تستطيع أن تجد لها في ذلك منة عليكم. وما ذلك بكثير على دعوة أق ما يطلب من أهلها النفس والمال ( إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) ( التوبة : 111).
• ويعرض لغاية الإخوان المسلمين فيقول :
- " يعمل الإخوان المسلمون لغايتين : غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها لأول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة .. وغاية بعيدة لابد فيها من ترقب الفرص وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين.
فأما الغاية الأولي فهي المساهمة في الخير العام أي كان لونه ونوعه والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف .
أما غاية الإخوان الأساسية .. أما هدف الإخوان الأسمى .. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيئون له أنفسهم .. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعا , وتتجه نحوه الأمة جميعا ,ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل .
إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة , ويؤمنون بمنهاج , ويناصرون عقيدة , ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي يتناول شئون الحياة جميعا اسمه ( الإسلام ) .
والإخوان المسلمون يعملون ليتأيد النظام بالحكام ولتحيا من جديد جولة الإسلام لتشمل بالنفاذ هذه الأحكام ولتقوم في الناس حكومة مسلمة تؤيدها أمة مسلمة تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه صلي الله عليه وسلم في كتابه حيث قال : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ) ( الجاثية : 18, 19) .
ثم أخذ – رحمه الله – في تناول النظام الاجتماعي في مصر وما فيه من فساد مستعرضا بعض نتائج هذا الفساد.. وهنا نلفت نظر السادة القراء إلى أن الأستاذ الإمام كان يلقي هذا الخطاب في عام 1941 فهو يصف ما كان موجودا في ذلك الوقت مما كان يجهله الشعب كل الجهل ولا يعلم عنه شيئا – وهذا الجزء من كلمة الأستاذ – رحمه الله – هو الذي استغرق تحضيره جهدا كبيرا وبحثا مستفيضا ووقتا طويلا أياما ذات عدد إذ تمكن من الحصول على مظان ومراجع لم تكن متداولة بين عامة الناس وقال رحمه الله :
بعض نتائج فساد النظام الاجتماعي ( الحالي ) في مصر
أيها الإخوان ...
- أننا في أخصب بقاع الأرض ,وأعذبها ماء , وأعدلها هواء , وأيسرها رزقا , وأكثرها خيرا , وأوسطها دارا, وأقدمها مدنية وحضارة وعلما ومعرفة ,وأحفلها بآثار العمران الروحي والمادي والعلمي والفني , وفي بلدنا المواد الأولية والخامات الصناعية والخيرات الزراعية وكل ما تحتاج إليه أمة قوية تريد أن تستغني بنفسها وأن تسوق الخير إلى غيرها وما من أجنبي هبط هذا البلد الأمين إلا صح بعد مرض ,واغتني بعد فاقه , وعز بعد ذل, وأترف بعد البؤس والشقاء .
فماذا أفاد المصريون أنفسهم من ذلك كله ؟ لا شئ .. وهل ينتشر الفقر والجهل والمرض والضعف في بلد متمدن كما ينتشر في مصر الغنية مهد الحضارة والعلوم وزعيمه أقطار الشرق غير مدافعة ؟!
إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة إن لم يتداركنا الله فيها برحمته فسيكون لها أفدح النتائج وأفظع الآثار :
1- الفلاحون في مصر يبلغون ثمانية ملايين , والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان . فإذا لاحظنا إلى جانب هذا أن الأرض المصرية تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد , وأنها لهذا السبب تأخذ من السماد الصناعي أضعاف غيرها من الأرض التي تقل عنها جودة وخصومة وأن عدد السكان يتكاثر تكاثرا سريعا , وأن التوزيع في هذه الأرض يجعل من هذا العدد أربعة ملايين لا يملكون شيئا , ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان ومعظم الباقي لا يزيد ملكه على خمسة أفدنة .. علمنا مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة انحطاط مستوى المعيشة درجة ترعب وتخيف ...
إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشا في الشهر إلا بشق النفس , فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل في الأسر المصرية عامة.. كان متوسط ما خص الفرد في العام جنيهين , وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار, فإن الحمار يتكلف على صاحبه ( 140 قرشا خمس فدان برسيم , 30 قرشا حملا ونصف الحمل من التبن و150 قرشا أردب فول , 20 قرشا أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشا ) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الأدميين في مصر . وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان .
ثم إذا نظرت إلى طبقة الملاك وجدتهم مكبلين بالديون أذلاء للمحاكم والبنوك إن البنك العقاري وحده يحوز من الرهون قريبا من نصف مليون فدان .ويبلغ دينه على الملاك المصريين 17 مليونا من الجنيهات إلى أكتوبر سنة 1936 وهذا بنك واحد.
وقد بلغ ثمن ما نزعت ملكيته للديون من الأرض والمنازل في سنة 1939 (256,346) فعلي أى شئ تدل هذه الأرقام ؟
2- العمال في مصر يبلغون ( 127, 718, 5) أى نحوا ستة ملايين عامل , يشكو التعطل منهم (119’ 511) أى أكثر من نصف مليون لا يجدون شيئا , وهناك الجيوش من حملة الشهادات العاطلين.
فكيف يشعر إنسان هذه حالة بكرامته الإنسانية أو يعرف معني العاطفة القومية والوطنية وهو في بلد لا يستطيع أن يجد فيه القوت ؟ ولقد استعاذ النبي صلي الله عليه وسلم من الفقر وقديما قيل : يكاد الفقر أن يكون كفرا .. فضلا عن أن المشتغلين من العمال مهددون باستغلال أصحاب رأس المال وضعف الأجور والإرهاق في العمل. ولم تصدر الحكومات بعد التشريع الكافي لحماية هؤلاء البائسين. وقد ضاعفت حالة الحرب القائمة هذا العدد من المتعطلين وزادت العاملين بؤسا على بؤسهم.
3- شركات الاحتكار في مصر قد وضعت يدها على مرافق الحياة والمنافع العامة فالنور والمياه والملح والنقل ونحوها كلها في يد هذه الشركات التي لا ترقب في مصري إلا ولا ذمة والتي تحقق أفحش الأرباح وتضن حتى باستخدام المصريين في أعمالها .
لقد بلغت أرباح شركة المياه بالقاهرة منذ تأسست في 27 مايو سنة 1865 إلى سنة 1933 عشرين مليونا من الجنيهات . وقد بلغ التفريط والتهاون بالحكومة المصرية أن باعت حصتها من أرباح الشركة في عهد وزارة رياض باشا ( وكان ناظر الأشغال حينذاك محمد زكي باشا ) بمبلغ 20 ألفا من الجنيهات مع أن حصيلتها في صافي الربح من تاريخ البيع وهو 10 يوليو سنة 1899 إلى سنة 1934 فقط ونصف مليون من الجنيهات .
إن في مصر 320 شركة أجنبية تستغل جميع مرافق الحياة . وقد بلغت أرباحها في سنة 1938 الماضية ( 482, 637, 7) جنيها كلها من دم المصريين الذين لا يجد نصفهم القوت ولقد ربحت شركة مياة الإسكندرية وحدها سنة 1938( 850, 122 جنيها ) وشركة مياه القاهرة ( 892,284جنيها ) وهذه الشركات جميعا تخالف نصوص العقود في كثير من التصرفات ثم لا يكون التصرف معها إلا متراخيا ضعيفا يفوت الفائدة على الحكومة وعلى الجمهور معا .
ولعل من الظريف المبكي أن نقول أن عدد الشركات المصرية إلى سنة 1938 بلغ إحدى عشرة شركة فقط مقابل 320 ثلاثمائة وعشرين شركة أجنبية.
4- لقد استقبلت العيادات الحكومية سنة 1943(383, 421, 7 ) مريضا. منهم مليون بالبلهارسيا , وأكثر من نصف مليون بالإنكلستوما , ومليون ونصف بالرمد, وفي مصر 90 في المائة مريض بالرمد والطفيليات وفيه ( 575, 55) من فاقدي البصر ,ويكشف لنا الكشف الطبي في المدارس والمعاهد والجامعة ومنها كلية الحربية – حقائق عجيبة عن ضعف بنية الطلاب وهم زهرة شباب الأمة .. وكل ذلك في أمة علمها نبيها أن تسأل الله أن يعافيها في أبدانها وفي سمعها وفي بصرها .. ثم عرض بعد ذلك – رحمه الله – للأمية ومدى تفشيها وعن انحطاط المستوى الخلقي وانتشار الجرائم التي يعاقب عليها القانون والجرائم التي لا يعاقب عليها القانون مما يخالف تعاليم الإسلام كشرب الخمر والقمار واليانصيب والسياق والعبث وغيرها . ثم قال :
• الداء والدواء
أيها الإخوان .. هذه لغة الأرقام وهذا قليل من كثير من مظاهر البؤس والشقاء في مصر .. فما سبب ذلك ؟.... ومن المسئول عنه ؟.. وكيف نتخلص منه وما الطريق إلى الإصلاح ؟...
أما سبب ذلك ففساد النظام الاجتماعي في مصر فسادا لابد له من علاج فقد غزتنا أوروبا منذ مائة سنة بجيوشها السياسية وجيوشها العسكرية وقوانينها ونظمها ومدارسها ولغتها وعلومها وفنونها , وإلى جانب ذلك بخمرها ونسائها ومتعها وترفها وعاداتها وتقاليدها , ووجدت منا صدورا رحبة وأدوات طيعة تقبل كل ما يعرض عليها . ولقد أعجبنا نحن بذلك كله , ولم نقف عند حد الانتفاع بما يفيد من علم ومعرفة وفن ونظام وقوة وعزة واستعلاء . بل كنا عند حسن ظن الغاصبين بنا فأسلمنا لهم قيادنا ,وأهملنا من أجلهم ديننا, وقدموا لنا الضار من بضاعتهم فأقبلنا عليه , وحجبوا عنا النافع منها وغفلنا عنه وزاد الطين بلة أن تفرقنا على الفتات شيعا وأحزابا يضرب بعضنا وجوه بعض وينال بعضنا من بعض لا نتبين هدفا ولا نجتمع على منهاج .
أما المسئول عن ذلك فالحاكم والمحكوم على السواء ,والحاكم الذي لانت قناته للغامزين وسلس قياده للغاصبين وعنى بنفسه أكثر مما عنى بقومه حتى فشت في الإدارة المصرية أدواء عطلت فائدتها وجرت على الناس بلاءها . فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز والتكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة في الإدارة المصرية – والمحكوم الذي رضي بالذلة وغفل عن الواجب وخدع بالباطل وانقاد وراء الأهواء وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة فأصبح نهب الناهبين وطمعة الطامعين .
أما كيف نتخلص من ذلك فبالجهاد والكفاح . ولا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة فنتخلص من ذلك كله بتحطيم هذا الوضع الفاسد وأن نستبدل به نظاما اجتماعيا خيرا منه , تقوم عليه وتحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وتعمل جاهدة لإنقاذ شعبها .. ولئن فقدت الأمم مصباح الهداية في أدوار الانتقال فإن الإسلام الحنيف بين أيدينا مصباح وهاج نهتدي بنوره ونسير على هداه .
ثم تحدث – رحمه الله – عن وسائل الإخوان العامة وذكر أنها تتخلص في الإقناع ونشر الفكرة الإسلامية بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام يناصرها عن عقيدة وإيمان ثم النضال الدستوري ثم قال :
" أما ما سوي ذلك من وسائل فلن نلجأ إليه إلا مكرهين . ولن نستخدمه إلا مضطرين. وسنكون حينئذ صرحاء شرفاء لا نحجم عن إعلان موقفنا واضحا لا لبس فيه ولا غموض معه . ونحن على استعداد تام لتحمل نتائج عملنا أيا كانت لا نلقي التبعة على غيرنا ولا نتمسح بسوانا ,ونحن نعلم أن ما عند الله خير وأبقي وأن الفناء في الحق هو عين البقاء وأنه لا دعوة بغير جهاد , ولا جهاد بغير اضطهاد , وعندئذ تدنو ساعة النصر ويحين وقت الفوز , ويتحقق قول الملك الحق المبين : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) ( يوسف : 110)
ثم تحدث – رحمه الله – بعد ذلك عن الإخوان المسلمين والسياسة ووضح نوع السياسة الذي يباشره الإخوان ثم أخذ في توضيح موقف الإخوان من الهيئات والأحزاب والحكومات المصرية , ونجتزئ بفقرات من مما جاء في خطابه عن موقف الإخوان من الحكومات المصرية حيث هو عنوان هذا الفصل وهو القضية التي نحن بصدد معالجتها مما اقتضاها أن نذكر ست مراحل لحظنا فيها مدى عناية الإخوان المسلمين بتوجيه الدعوة إلى الطائفة الخامسة وهم الساسة والحكام .وكان سادس هذه المراحل هو عقد المؤتمر السادس وخطاب المرشد العام فيه . وإليك فقرات من الخطاب مما جاء بهذا الصدد..
" فأما موقفنا من الحكومات المصرية على اختلاف ألوانها فهو موقف الناصح الشفيق, الذي يتمنى لها السداد والتوفيق , وأن يصلح الله بها هذا الفساد . وإن كانت التجارب الكثيرة كلها تقنعنا أننا في واد وهي في واد ويا ويح الشجي من الخلي . لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا من مناهج الإصلاح . تقدمنا لكثير منها بمذكرات ضافية في كثير من الشئون التي تمس صميم الحياة المصرية ..
لقد لفتنا نظرها إلى وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها باختيار الرجال وتركيز الأعمال وتبسيط الإجراءات ومراعاة الكفايات والقضاء على الاستثناءات.
وإلى إصلاح منابع الثقافة العامة بإعادة النظر في سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة , واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة ...
وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام ومحاربة المنكر ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة .
وتوجيه لشعب وجهة صالحة بشغله النافع من الأعمال في أوقات الفراغ ..
فماذا أفاد كل ذلك ؟ .... لا شئ .. وستظل ( لا شئ ) هو الجواب لكل المقترحات ما دمنا لا نجد الشجاعة الكافية للخروج من سجن التقليد والثورة على هذا " الروتين العتيق " وما دمنا لم نحدد المنهاج ولم نتخير لإنفاذه الأكفاء من الرجال .. ومع هذا فسنظل في موقف الناصحين حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين .
ثم نختم مقتطفاتنا من هذا الخطاب القوي الجامع بفقرة عنونها – رحمه الله – " بكلمة حق " وهي كلمة أراد أن يؤكد بها ما بدأ به خطابه وما كان هو أشد الناس حرصا عليه وهو سلامة بناء الدعوة وطهارته وتساميه عن كل ما يشوب الهيئات والدعوات فقال : • كلمة حق :
نحب بعد هذا أن نقول كلمة صريحة لأولئك الذين لا زالوا يظنون أن الإخوان يعملون لحساب شخص أو جماعة : اتقوا الله أيها الناس , ولا تقولوا ما لا تعلمون . واذكروا قول تعالي ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) ( الأحزاب :58 ) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :" وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة المشاءون بالنميمة, المفرقون بين الأحبة , الملتمسون للبراء العيب " وليعلموا تماما أن اليوم الذي يكون فيه الإخوان المسلمون مطية لغيرهم أو أداة لمنهاج لا يتصل بمنهاجهم لم يخلق بعد.. وأذكر أنني كتبت في إحدى المناسبات خطابا لأحد البشوات جاء في آخره :
" إن الإخوان المسلمين يا رفعة الباشا لا يقادون برغبة ولا برهبة.ولا يخشون أحدا إلا الله, ولا يغريهم جاه ولا منصب , ولا يطمعون في منفعة ولا مال , ولا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض هذه الحياة الفانية , ولكنهم يبتغون رضوان الله ويرجون ثواب الآخرة ويتمثلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالي ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) ( الذاريات :50)
فهم يفرون من كل الغايات والمطامع إلى غاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان الله . وهم لهذا لا يشتغلون في منهاج غير منهاجهم ولا يصلحون لدعوة غير دعوتهم .ولا يصطبغون بلون غير الإسلام ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) ( البقرة : 138)... فمن حاول أن يخدعهم خدع , ومن أراد أن يستغلهم خسر . ومن طمع في تسخيرهم لهواه أخفق . ومن أخلص معهم في غايتهم ووافقهم على متن طريقهم سعد بهم وسعدوا به , ورأي فيهم الجنود البسلاء والإخوة الأوفياء . يفدونه بأرواحهم , ويحيطونه بقلوبهم , ويرون له بعد ذلك الفضل عليهم ..
اكتب لكم يا رفعة الباشا لا رجاء معونة مادية لجماعة الإخوان المسلمين , ولا رغبة في مساعدة نفعية لأحد أعضائها العاملين, ولكن لأدعوكم إلى صف هؤلاء الإخوان بعد دراستهم دراسة جدية صحيحة تقنعكم بمنهاجهم ,تنتج تعاونكم معهم في إصلاح المجتمع المصري على أساس متين من الخلق الإسلامي وتعاليم الإسلام ( لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم )( الروم : 4, 5)
بمثل هذا الأسلوب نخاطب الناس , ونكتب لرفعة النحاس باشا ومحمد محمود باشا وعلى ماهر باشا وحسين سري باشا وغيرهم ممن نريد أن نعذر إلى الله بإبلاغهم الدعوة وتوجيههم إلى ما نعتقد أن فيه الخير والصواب لهم وللناس .
أفيقال بعد هذا أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب شخص أو هيئة كبر ذلك أم صغر ؟ قل أم كثر ..( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ) ( الأحزاب : 12 ) ومعاذ الله أن نمون في يوم من الأيام لغير دعوة القرآن وتعاليم الإسلام ".
وبعد أن أنهينا مقتطفاتنا من الخطاب نقول : إن بيان حسن البنا في هذا المؤتمر كان شواظا من نار , حيث تحدث لأول مرة – بتفصيل مثير –عن الاستعمار الاقتصادي في مصر . فكشف بذلك من عورة الاستعمار ما كان بواجهة مصطنعة من ساسة مصريين .
والمستعمرون قد يسكتون وقد يتغافلون وقد يغفرون .. إذا هاجمهم مهاجم في سياستهم الاستعمارية فيما يمس الحريات .. بل إنهم قد يتحملون إذا هاجمهم المهاجم في احتلال جيوشهم أرضا غير أرضهم .
أما الذي لا يتحمله المستعمرون ولا يتغاضون عنه ولا يسكنون عليه ولا يغفرونه فهو أن يهاجموا في استغلالهم الاقتصادي .. إنهم حينئذ يحسون أنهم قد طعنوا في سويداء قلوبهم ويشعرون أنهم أصبحوا في موقف من يدافعون عن حياتهم .. فيستبيحون جميع الوسائل المتاحة لهم للتعجيل بضرب هذا المهاجم والقضاء عليه قبل أن يقضي عليهم .
ذلك أن جميع أساليب الاستعمار ووسائله من احتلال الأرض , وإفساد الخلق , وبث الفرقة, وشراء الضمائر وحجب العلم , ونشر الجهل والمرض والإذلال.. وكل هذه الأساليب والوسائل ما هي إلا مقدمات ومهدت وخدما للوصول إلى الغرض الأصيل من الاستعمار .. وهو وضع يد المستعمر على مقدرات البلاد. والتمكن من استنزاف خيراتها وحرمان أهلها منها .
لقد صبر المستعمر على حسن البنا حين هاجم من قبل في اعتدائهم على حريات الشعب واحتلالهم لأرضه وإفسادهم الذمم والأخلاق مع إشارة مجملة إلى استغلالهم الاقتصادي.. واقتصر ردهم عليه على الحد من حريته ووضع العراقيل في طريقه – أما حين سمعوه في المؤتمر السادس يهاجم استغلالهم الاقتصادي بتفصيل يفهمه ويتأثر به جميع الناس حتى العوام منهم – مما كانوا حريصين أشد الحرص على حجبه عن سائر الشعب – العالمية الثانية فيما بينهم ألا مناص من وضع خطة للقضاء على ضخه – ولكن الحرب العالمية الثانية كانت تستغرق كل جهدهم مما لا يدع لهم فرصة التفكير فيما سواها فأجلوا وضع الخطة وتنفيذها حتى تضع الحرب العالمية أوزارها .
5- زيادة الزحف الشعبي ضد الاستعمار :
وما كادت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها – بعد أن حاول دخول مجلس النواب مرتين – حتى رأوا أن حسن البنا يتقدم صفوف المطالبين بحرية مصر واستقلالها , ويتزعم حركة مواجهة صريحة لا تعرف هوادة ,ثم رأوا يقتحم على اليهود في مستعمراتهم المغتصبة ويذيقهم بأيد رجاله ما أذيق آباؤهم من قبل بأيدي الرعيل الأول من الصحابة الكرام في حواري يثرب وأزقتها حين خانوا ونكثوا العهود.
تلقي العالم الغربي بياني حسن البنا في المؤتمرين الخامس والسادس على أنهما إعلان حرب مقدسة عليه وعلى ما هو مستمتع به من نفوذ في العالم الإسلامي المستكين المهلهل المقطع الأوصال.. وأثبتت لهم الأحداث بعد ذلك أنه كان جادا في كل كلمة أعلنها .
كما وقعت هذه البيانات وما صحبها وتلاها من خطوات عملية من الساسة المحلين موقع الصاعقة المزلزلة حيث هددت بنسف مطامعهم وفضح تواطئهم .. فوافق شن طبقه كما يقول المثل , وتلاحمت مصالحهم مع مصالح سادتهم المستعمرين واتحدت إرادتهم جميعا على سحق هذه الدعوة ومحو قائدها من الوجود ..وكانت المؤامرة العالمية التي أتينا في الفصول السابقة على ملامح منها .
• وبعد :
فعودا إلى السؤال الذي قد يتلجلج في صدور كثير من الناس والذي وضعناه في أول هذا الفصل ونصه : لما كان حسن البنا يعلم من خطورة بقاء هذه الطائفة ( الساسة والحكام ) على فسادها ما يعلم , فلم لم يسارع بالتوجه بدعوته إليها من أول يوم ؟
نقول : بعد أن يستعرض السائل المراحل الست التي أتينا على لمحات خاطفة مما قام به حسن البنا من جهود في خلالها .. هل يجد السائل بعد ذلك في نفسه حرجا من أن حسن البنا قد أولي هذه الطائفة من العناية ما هي جديرة به وهل كان هناك فضل من عناية أو مزيد من جهد حتى يكون قد أعذر إلى الله في شأنها ؟
إن جهود حسن البنا حيال هذه الطائفة من الساسة والحكام تذكرنا بقول الله عزوجل في كتابه الكريم : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) ( النساء : 165 ).
الفصل الرابع آخر ما كتبه حسن البن بخط يده للنشر
نشرت جريدة " المصري " في عددها الصادر في أول أكتوبر 1949 وبملء صفحتها الأولي حديثا تحت العنوان التالي : الحديث الذي أدلي به الشيخ حسن البنا
بعد حل الجمعية ومقتل النقراشي باشا وقبيل مقتله ببضعة أيام
وتحت هذا العنوان كتبت :" صادف قيام حرب فلسطين سلسلة من الانفجارات الداخلية والحوادث أدت إلى توتر الحالة في مصر . وانتهت بأن أصدر المغفور له دولة النقراشي باشا أمرا عسكريا بحل جمعية الإخوان المسلمين ..
وزاد الأمر العسكري الحالة توترا , وباتت البلاد ونذر الشر تخيم عليها , وإذا بحادث أليم يقع فيهز أركان الوادي وهو حادث اغتيال دولة النقراشي باشا .
وجاء هذا الحادث ليزيد الأمور تعقيدا . وأشيع في هذه الآونة أن الأستاذ الشيخ حسن البنا مهدد بالاغتيال , ولذلك رأي " المصري " أن يستوضح فضيلته رأيه في موقفه وموقف جمعية الإخوان المسلمين بعد حلها وما يتبع الحل من حوادث جسام . فأدلي إلينا رحمه الله بالحديث الخطير التالي مكتوبا بخطه, ووقع فضيلته على كل إجابة . وقد امتنعنا عن نشره في حينه لظروف لعلها لا تغيب عن ذهن كل قارئ ".
وجاءت الجريدة في صدر الصفحة الأولي بنص سؤال منقول بالزنكوغراف وإجابة الأستاذ المرشد عليه , والإجابة مكتوبة فعلا بخط يده وخطه ليس غريبا وبجانب التوقيع 9/1/ 1949 .
وقد نشرت " المصري " في عددها الصادر يوم 2 من أكتوبر ( اليوم التالي ) أن الرقابة أرسلت مندوبا بعد أن أرسلت أعداد أول أكتوبر إلى المحطات لشحنها إلى البلاد – لمصادرة الذي طبع . ومع أن " المصري " أستصدر أمرا من النيابة بإلغاء أمر الرقابة , فإن أكثر الأعداد لم تصل إلى البلاد وتسبب ذلك في خسائر فادحة وقد أبرقت " المصري" إلى رئيس الحكومة محتجة .
نص الحديث
• السؤال الأول :
كان لما حدث للإخوان المسلمين أخيرا صداه في مختلف الدوائر السياسية التي كانت ترقب باهتمام حركات الجماعة وآثارها في مختلف الشئون الإسلامية والعالمية – لذلك رأينا أن نستوضح فضيلتكم في الأسباب التي دفعت بالمسئولين في مصر إلى اتخاذ تلك الإجراءات ؟
• الإجابة :
لا يمكن بالتحديد أن أحصر الأسباب التي دعت الذين أصدروا هذا القرار إلى إصداره ولكن يقال أن من هذه الأسباب التحول الذي طرأ أو في النية أن يطرأ على اتجاهات السياسة البريطانية في الشرق , ومن المعلوم أن بريطانيا تعتبر الإخوان المسلمين قوة وطنية متطرفة . وتعزو إلى دعاتيهم تعطيل مشروعات الاتفاق بينها وبين مصر .
كما يقال أن من هذه الأسباب العوامل لحزبية التي تصاحب قرب موعد الانتخابات النيابية , إذ أنه من المعروف أن الحزب السعدي يريد أن يظفر بأغلبية برلمانية تمكنه من الاستمرار في الحكم , ومن المعروف أن الإخوان المسلمين هم قوة شعبية ينتظر منها الصمود في هذا الموقف , فمن التكتيك الحزبي أن يشوه موقفهم بمثل هذا العمل قبل حلول موعد الانتخابات الذي سيكون في أكتوبر1949 ما لم تطرأ عوامل على الموقف . ويقال أيضا أنه كان هناك من الضغوط الأجنبية ما لم تستطع معه الحكومة المصرية إلا أن تتخذ هذا الإجراء .وعلى كل حال فهو موقف يؤسف له , وقد أدي إلى عكس المقصود منه , وما لم يعدل في وقت قريب فإن الأمور في الداخل والخارج لا يمكن أن تستقر على هذا الأساس من الضغط والظلم والتحدي والإرهاق .
• السؤال الثاني :
هل تنتظرون فضيلتكم أن تقتدي الحكومات الإسلامية الأخرى بمصر في اتخاذ إجراءات مماثلة مع فروع الجماعة ومنظماتها في شعوبها أم أنها هي إجراءات محلية لا تمتد إلى الإخوان المسلمين بصفتها هيئة عالمية ؟
• الإجابة :
لا أنتظر ذلك , فإن الإخوان المسلمين يقومون في كل حكومة من هذه الحكومات ولكل شعب من هذه الشعوب بأجل الخدمات . ولولا أن لطبيعة دولة النقراشي باشا رحمه الله ولبعض العوامل النفسية والتصورات الخاصة التي استولت عليه أكبر الأثر في هذا العمل لما حدث في مصر نفسها ,ولهذا أعتقد إجراءات محلية بحتة , وسوف لا تلبث أن تول وبإذن الله .
• السؤال الثالث :
هلترون أن الإجراءات التي اتخذت كانت من وحي تفكير مصري خالص أو أن هناك يدا أجنبية كان لها في ذلك تأثير . وإذن فلمن تكون هذه اليد؟
• الإجابة :
يقال أن هناك ضغوطا أجنبية دفعت الحكومات المصرية . وأنه كان للسفير البريطانية والسفير الفرنسي القائم بأعمال السفارة الأمريكية أثر في ذلك.. وإن كانت الحقيقة أن الإخوان المسلمين لا يضمرون لدولة من الدولة ولا لشعب من الشعوب ولا لطائفة من الطوائف عدا الصهيونيين المحاربين إلا الخير.
• السؤال الرابع :
ما هو مصير قوات الإخوان المسلمين المجاهدة في فلسطين فيما لو قررت الحكومات العربية الانسحاب منها ومهادنة اليهود أو مصالحتهم , وهل تحارب هذه القوات تحت إشراف قوة من قوى الدول العربية أم تعمل مستقلة ؟
• الإجابة :
لا تزال القوات تجاهد في مراكزها ببسالة وشجاعة وإيمان . وهي تحارب الآن تحت إشراف الجامعة العربية ولا يمكن الآن تحديد موقفها في المستقبل وإن كانت القاعدة العامة أن الإخوان المسلمين جميعا قد عاهدوا الله على أن يظلوا مجاهدين في سبيله حتى تحرر فلسطين من عصابات الصهيونية المعتدية وتعود إلى أهلها العرب .
• السؤال الخامس :
يشيع خصومكم في الأوساط السياسية أن للإخوان المسلمين بالشيوعيين ويستدلون على ذلك بالتشابه الموجود بين بعض التشكيلات والاتجاهات في كلتا الهيئتين. فما هو نصيب ذلك من الصحة ؟وفيما يزعم البعض من أن دولة أجنبية تساعد الإخوان ماديا ؟
• الإجابة :
لقد قيل مثل هذا كثيرا واتهم الإخوان بأنهم على صلة بالنازية من قبل , وأن شبابهم منظم على نسق شباب هتلر , وأن بعض تشكيلاتهم تشبه هذه التشكيلات الخ. .. ولكني أؤكد كل التأكيد أن الإخوان لم يتصلوا بأحد ولم تساعدهم أية دولة أجنبية بشئ مادي أو أدبي , وأنهم يسيرون على نمط إسلامي عربي مبين , ويعتمدون على إيمانهم ومواردهم الخاصة. وهذا هو في الحقيقة سر نجاحهم وثبات دعوتهم وجماعتهم للعواصف والأعاصير.
• السؤال السادس :
بعد الحوادث الأخيرة هل جرت اتصالات من جانبكم أو من جانب خصومكم لتسوية الموقف وهل أنتم مستعدون للإستجابة بشئ من ذلك؟ وما هي الأسس التي ترونها لازمة لتسوية الموقف ؟
• الإجابة:
نعم جرت اتصالات بيننا وبين الحكومة المصرية – ولا أقول خصومنا – فإننا لم نفكر في يوم من الأيام بعقلية تستسيغ إشعال العداوة بين الوطنيين , وكل الذي نطلبه هو رفع هذه المظالم عن الإخوان ,والسماح لهم بمزاولة نشاطهم المشروع بالأسلوب الذي يستفيد منه الوطن ويخدم الإسلام وأظن أن الاستعداد من جانب الحكومة المصرية لا بأس به , إذ إن في هذا الطريق وحده استقرار الأمور , وبعث الطمأنينة في نفوس الأجانب والوطنيين على السواء .
وأحب أن أنتهز الفرصة فأوجه لنزلاء مصر من الأجانب المدنيين والسياسيين منهم هذه الكلمة : " إنهم يخطئون أشد الخطأ حين يعتقدون أن الإخوان خصوم لهم أو يتعصبون عليهم أو يريدون بهم شرا أو سوءا . وكل هذه دعايات سخيفة باطلة لأن دعوة الإسلام تتنافي مع التعصب والاعتداء – ودعوة الإخوان هي دعوة الإسلام .. وكل ما هنالك أن نشوب الحرب بين مصر وبين الصهيونيين – وموقف الكثير من اليهود المصريين أو الأجانب المقيمين في مصر من هذه الحرب وما تميز به من برود وشماتة ووقوف عن المساعدة – أحدث حالة من التوتر بين الإخوان المتحمسين للجهاد وبين هؤلاء اليهود الذين يصرون على مساعدة الصهيونية ويطعنون مصر في ظهرها وهي تحارب ..
أما من عداهم من الأجانب أو الوطنيين غير المسلمين مهما – كانت عقيدتهم – فلم يفكر أحد في أن يمد إليهم يده أو لسانه بسوء .. على هذا فمن الخير لهؤلاء الأجانب أنفسهم أن يكونوا عوامل وفاق لا عوامل خصومة وخلاف بين الحكومة والإخوان . وفي هذا الخير للجميع ..
• السؤال السابع :
ماذا تنوون عمله في المستقبل ؟ وهل تعتقدون أنه من الممكن أن يرجع الإخوان إلى صيغتهم الشرعية ونشاطهم العلني السابق ؟
• الإجابة :
من الممكن جدا والميسور جدا كذلك أن يعود الإخوان إلى صيغتهم الشرعية ونشاطهم العلني بإذن الله وسيكونون حينئذ من أقوي العوامل في تربية الشعب المصري تربية فاضلة ناضجة تقوم على أساس الإيمان الصافي وتقدير الواجب ومعرفة الحقوق والتمسك بالفضيلة والمثل الإنسانية العليا المستمدة من الإسلام الحنيف ,وهو خلاصة ما جاء به الأنبياء والمرسلون والكتب من شرائع وتعاليم .
• السؤال الثامن:
ماذا تنتظرون من آثار في قضية فلسطين لما انكشف للحلفاء الغربيين أخيرا وكان له تأثير على الرأي العام في الشعوب الديمقراطية من مساعدة الروسيين ومن يدور في فلكهم اليهود بالمال والسلاح؟
• الإجابة :
نتنظر أن تعدل حكومات الغرب عن خطتها في معاونة الصهيونيين, ولو أن هذا التنبيه جاء بعد فوات الفرصة . وهذا إذا كان المنطق والمصلحة الحقيقية- لا الدعايات الصهيونية وإغراءات اليهودية العالمية المختلفة – هما اللذان يؤثران في هذه الحكومات .
• السؤال التاسع :
حدثت تغييرات في الحكومات العربية أخيرا في وقت كان المنتظر فيه استقرار الحكم في البلاد العربية . فما رأيكم في ذلك ؟ وعلام يدل ؟ • الإجابة :
أظن أن ذلك من الأمور الطبيعية في مثل هذه الظروف , فإن تطورات قضية فلسطين ومفاجأتها وشدة حساسية الشعوب بكل ما يطرأ من هذه التطورات , مع مفاجآت السياسة البريطانية الدائبة – كل ذلك يجعل مثل هذه التغيرات أمورا عادية . وهو لا يدل على شئ فيما نعتقد إلا على أن سياسة الحكومات العربية ما زالت إلى حد بعيد مرتجلة , وخاضعة للتأثير البريطاني بعيدة عن مطالب الشعوب ومشاعرها الحقيقية ..وهو ما يؤسف له . ولابد من النظر في علاجه بوضع سياسات ثابتة مستقرة تستمد من روح الشعب وحسن توجيهه والاعتماد عليه ".
الفصل الخامس حسن البنا وكبار الدعاة في العالم الإسلامي في العصر الحديث
لا ينبغي في إلقاء نظرتنا الأخيرة على حسن البنا أن نغفل أمرا ذا بال . هو أن نقيم أسلوبه في الدعوة مقيسا بأساليب كبار الدعاة الذين قاموا بأعباء الدعوات في أنحاء العالم الإسلامي في خلال هذا القرن الذي نعيشه ..وقد يكون أبرز هؤلاء الدعاة هم:
- أولا – السيد جمال الدين الأفغاني :
وهو رائد الدعاة في هذا القرن , وأحد أفذاذ العلماء وأئمة الدعاة – نشأ في القطاع غير العربي من العالم الإسلامي , وحمل لواء الفكرة الإسلامية إلى كثير من الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية – وحضر إلى مصر وأقام بها مدة..وتتلمذ على يديه , تلقي عنه فكرته رعيل من كبار المفكرين وعليه القوم , منهم الشيخ محمد عبده وسعد زغلول والأمير محمد توفيق الذي صار بعد ذلك خديو مصر وتنكر لأستاذه وناصبه العداء وأخرجه من مصر.
وانتقل السيد جمال الدين أخيرا إلى الأستانة حيث يقال أنه قد دس له السم في طعامه بتدبير من الطبقة الحاكمة فذهب إلى ربه يشكو ظلم الظالمين ..وكان – رحمه لله – آية من آيات الله حاد الذكاء , قوى الحجة , سريع الخاطر , عميق الإيمان بفكرته – وقد أصدر مجلة" العروة الوثقى " التي جعل تلميذه محمد عبده رئيسا لتحريرها .
- ثانيا – الشيخ محمد عبده :
وإذا ذكر الشيخ محمد عبده لزم ذكر الثورة العرابية , فلقد كان أحد أركانها , وقد نفي مع من نفي من قادتها إلى خارج مصر – واشتراك محمد عبده في ثورة عرابي يدل على أن الفكرة التي تلقاها تلامذة السيد جمال الدين منه عن شمول الفكرة الإسلامية لكل شئون الحياة هي التي جعلت هؤلاء التلاميذ يرون أن الشئون العسكرية جزء من هذه الفكرة .
ولا شك في أن الثورة العرابية في ذاتها لم تكن إلا ثمرة من ثمرات التعاليم الإسلامية التي بثها السيد جمال الدين في أذهان الصفوة من القادة الذين كانوا يلوذون به ويستمعون إلى أحاديثه . وهذه الثورة بعد أن فشلت – لأسباب ليس هنا موضع ذكرها – قد تناولها الكتاب والمؤرخون تناولا مشبوها , إذ أخذوا ما أخذوا عنها من أفواه الأعداء المغرضين , الذين كان همهم الأول أن يفصلوا هذه الثورة عن الفكرة الإسلامية التي أوحت بها .. مع أن قائد هذه الثورة – أحمد عرابي – قد وضع كتابا سجل فيه أطوار حياته منذ ولد..وقارئ هذا الكتاب حين يقرأه يشعر بأن الفكرة الإسلامية كانت قوام حياة هذا الرجل , وبأن كل ما تمخضت عنه حياته من أ‘مال لم تكن إلا من وحي هذه الفكرة. وحسب القارئ أن يعلم أن الكلمة التي أثرت عن أحمد عرابي والتي أجمل فيها كل ما يضطرم في نفسه ( كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) وهي هي نفس الكلمة التي قالها عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص أمير مصر حين ضرب ابنه ابن المصري بغير جريرة.
ونرجع إلى السياق فنقول : إن محمد عبده – بعد أن عاد من منفاه – عاد بفكرة جديدة , متأثرة بما لقيه في منفاه من إذلال وإعنات , تلك أنه صار يري أن السبيل الأقوم لتحقيق الفكرة الإسلامية هو تعليم الشعب وتربيته دون أقتحام ميادين أخرى ..وأخذ في العمل لهذه الفكرة حيث أنشأ هو وتلميذه السيد محمد رشيد رضا مجلة " المنار " التي أدت دورا لا ينكر في توضيح الفكرة الإسلامية , وتثقيف طبقة من الشعب ثقافة إسلامية مستنيرة .
كما حاول إصلاح الأزهر بإخراجه عن جموده في بعض مناهجه الدراسية التي كادت تقطع الدارسين فيه عن المنابع الأصيلة من القرآن والسنة والوقوف بهم عن آراء المتأخرين ومؤلفاتهم ..وقد أتت هذه المحاولة بعض الثمار .
- ثالثا – مصطفي كامل :
أنشأ مصطفي كامل " الحزب الوطني" الذي – مهما اختلفت الصور التي في أذهان الناس عن فكرته – فإن فكرته الأصيلة التي قام على أساسها , وظل مصطفي كامل – ما عاش – ملتزما بها , لا يحيد عنها – هي الفكرة الإسلامية ..وقد أشرت إلى ذلك ببعض التوضيح في موضع سابق من هذا الكتاب .
وبدأ مصطفي كامل في تنفيذ بجمع أكبر عدد من كبار الوطنيين في القاهرة حيث كون منهم إدارة الحزب واعتمد على خطب قوية رنانة واجه فيها الاستعمار مواجهة
صريحة لا هوادة فيها ,وعلى مقالات نارية صدي لهذه المواجهة في جريدة اللواء التي أنشأها – كما أنه اعتمد أيضا على جولات له في فرنسا وبعض البلاد الأوربية ألقي خلالها خطبا مثيرة عن فضائح الاستعمار البريطاني أملا في كسب رأي عام للقضية المصرية ضد إنجلترا.
ولم تتح له – رحمه الله – فرصة أن يولي مختلف أقاليم البلاد نفس العناية التي أولاها العاصمة ... ومع ذلك فقد كان لخطبه ومقالاته وجريدته تأثيرا كبيرا في الرأي العام في الأقاليم . ولكن هؤلاء المستجيبين والمعجبين لم جدوا من ينظم صفوفهم , ويثقف عقولهم , ويتعهد نفوسهم , ينشئ منهم أمة متراصة واعية ذات عقيدة راسخة .. فلما مات مصطفي كامل أو بالأحرى لما اغتاله الاستعمار في عنفوان شبابه لم يجد أتباعه ومحبوه ما يعتصمون به من فكرة بلغت من نفوسهم مبلغ العقيدة .. فتفرقوا وتوزعتهم الأفكار الأخرى والمبادئ البراقة المزيفة .
- رابعا – سعد زغلول :
وهو ممن تلقوا عن السيد جمال الدين أيضا غير أنه اتخذ لنفسه أسلوبا بعد به عن فكرة أستاذه حيث اكتفي بالناحية السياسية المجردة منفصلة عن الدين – مع أن سعدا كان أزهريا _ ففقدت هذه الناحية بذلك روحها ومسخت .. فبعد أن كانت السياسة نضالا ومواجهة وتضحية صارت استجداء وقناعة بفتات موائد العدو – وقد سبق أن جلينا وصف هذا الانحراف في فصول سابقة .
- خامسا – الدعوة الوهابية
وقد قام بأعبائها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد بالجزيرة العربية .وقد رأي أن الناس في العالم الإسلامي قد انتشرت بينهم البدع والخرافات حتى كادت تحجب حقيقة العقيدة الإسلامية وتذهب بوضاءتها وكادت تنحرف بهم إلى الشرك.. فدعا إلى الرجوع للكتاب والسنة وإلى تطهير العقيدة الإسلامية مما علق بها من خرافات . فاستجاب له خلق كثيرون من أهل نجد.. وكان ممن استجابوا له أمير نجد في ذك الوقت وكان من آل سعود الذين آل إليهم بعد ذلك ملك الجزيرة العربية .. فاكتسبت دعوته بذلك قوة إذ صارت لها دولة تقوم على أساس من فكرتها .
ومع أن فكرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكرة سليمة فإن ما نهجه قلة من غير الناضجين من دعاتها من وسائل تجنح إلى التغالي في بعض الأحيان وإلى التطرف وعدم سلوك أساليب تقوم على التفاهم والود ..قد نفر الكثيرين منها في أول الأمر حتى رمي بعضهم بعضا بالفكر ومما يؤسف له أن القلة لمترطفة تجني دائما على الدعوة لمنتسبة إليها وتشوه سمعتها وتكون حائلا بين الناس وبين معرفة حقيقة الدعوة .. ولكن بمرور الأيام تضاءلت هذه القلة غير الناضجة حتى لم يعد لها وجود الآن بين الدعاة .
- سادسا – الدعاة في المغرب العربي :
في الوقت الذي كان المشرق العربي تتنازعه تعاليم الأفغاني من ناحية وإغراء الحضارة المادية الأوروبية من ناحية أخرى تحت وطأة الاحتلال البريطاني في مصر والسودان و العراق والاحتلال الفرنسي في بلاد الشام – كان المغرب العربي يرزح تحت وطأة أقدام ثقال من احتلال فرنسي وإيطالي غاشم مصر على القضاء على الإسلام عن طريق قطع الصلات بين هذه الشعوب المسلمة وبين القرآن والتراث الإسلامي وبإنشاء هذه الشعوب اللغة العربية وإحلال اللغتين الفرنسية في الجزائر وتونس ومراكش والإيطالية في ليبيا .. فقام مصلحون لمقاومة هذا التيار المخرب وكان على رأسهم ..
1- في الجزائر : عبد الحميد بن باديس :
كانت وسيلته إنشاء المدارس لتعليم الشعب اللغة العربية والقرآن – وقد لقي هو وأعضاء الجمعية التي يرأسها – في سبيل النهوض بهذا المشروع – عنتا وظلما ومطاردة من السلطة الفرنسية ..ولكنهم بثباتهم ومواصلة الجهود والتضحيات استطاعوا أن يحفظوا لهذا الشعب المغربي هويته وعروبته وشخصيته الإسلامية ..
وقد يجهل أكثر القراء اسم عبد الحميد بن باديس ولا يعرفون إلا أسماء أحمد بن بيلا وبومدين وإخوانهم ..وهؤلاء ممن لا يجحد فضلهم في تحرير الجزائر ..ولكن هؤلاء جميعا قد نشأوا في مدارس عبد الحميد بن باديس وأشربوا الروح الإسلامية فيها . ولولا تنشئتهم في هذه المدارس لما أحسوا بالانتماء إلى الإسلام والعروبة .. هذا الانتماء الذي كان المحرك الأول للثورة .ولولا هذه التنشئة لفقدوا هم وجيلهم الشخصية المستقلة عن فرنسا وإن كان بن بيلا وبومدين قد حادا بعد ذلك عن الطريق الصحيح واتجها نحو دخيلة سموها الاشتراكية .
2- في ليبيا – الدعوة السنوسية :
قامت في ليبيا الدعوة السنوسية , وهي في مظهرها طريقة صوفية تأخذ المنتسب إليها بأسلوب يجمع بين التربية الروحية والتربية العسكرية. وتقوم بإنشاء " زوايا "وهي مساجد صغيرة في الأماكن النائية وخارج المدن..وفي هذه الزوايا يتلقي المريدون عن شيوخهم البرامج المعدة لتربيتهم التربية التي أشرنا إليها.
وقد انتشرت هذه الزوايا في أنحاء ليبيا انتشارا أقض مضاجع المستعمرين الإيطاليين الذين كانوا يستظلون في احتلالهم هذه البلاد بظل وارف من الرعاية البريطانية المجاورة لهم في مصر, فقام الاستعماران الإيطالي والبريطاني بشن حرب غادرة على هؤلاء المجاهدين حتى قضوا عليهم , بعد أن استباحوا الحرمات وارتكبوا أفظع الجرائم الوحشية ..وقد أبلي المجاهدون في خلال هذه الحرب غير المتكافئة أعظم البلاء. وسجل التاريخ لهم بطولات خارقة .
وكان أشهر رجال الأسرة السنوسية التي أنشأت الدعوة وخرجت هؤلاء الأبطال السيد أحمد الشريف السنوسي الذي كان الاستعمار البريطاني يعتبره في ذلك الوقت ألد أعدائه.
• موقف حسن البنا من هؤلاء الدعاة:
ليست القيادات التي أتينا على ذكرها في هذه العجالة هي كل القيادات التي حملت اللواء في العالم الإسلامي خلال هذا لقرن . بل هناك قيادات أخرى لها وزنها قامت بحركات عظيمة في المغرب وإيران والهند والقارة الأفريقية ..ولكننا اجتزأنا بمن ذكرنا من قيادات باعتبار أن الأماكن التي قامت فيها هذه القيادات هي منابر ترنو إليها أنظار العالم الإسلامي كله , ولها صدى في آذان المسلمين في كل مكان .
والآن . وعلى ضوء ما ألمحنا إليه من هذه الدعوات والأفكار والأساليب نستطيع أن نتبين أين هي دعوة حسن البنا بين هذه الدعوات وما وضع شخصيته بين هذه الشخصيات .. إنه عاصر بعضها في صغره . وقرأ عن البعض الآخر , ودرس هذه وتلك دراسة عميقة واعية , بعقلية الداعية المؤهل الموهوب فعرف مواطن القوة في كلمنها وألم بمواطن الضعف ..وأخذ بعد ذلك في تحديد خطته مستلهما توجيه القرآن وخطوات النبي صلي الله عليه وسلم غير متجاهل الأوضاع العالمية وواقع الشعب الذي يعيش فيه فتجنب في خطته التي رسمها مواطن الضعف في تلك الدعوات وأخذ بنواحي القوة فيها ..وقد نستطيع تصوير هذه الخطة في النقاط التالية :
الأولي – وجد أن اقتصار السيد جمال الدين – في توجيه دعوته – على القادة وكبار القوم دون توجيهها إلى جماهير الشعب , قد جعل نجاح دعوته أو فشلها متوقفا على مزاج هؤلاء القادة والكبراء الذين يعيشون – عادة – في حمأة الفتنة : أما تلويح المستعمر لهم بإغراء المناصب والمال وبعصا الإنذار والإرهاب . وقلما يستطيع الفرد منهم – في بلد مستعمر – أن يتحرر من هذا الشعور المسلط عليه بين آونة وأخرى..وقد وضح ذلك في انقلاب الأمير محمد توفيق على السيد جمال الدين بعد أن خلع الإنجليز والده إسماعيل عن العرش ونصبوه بعده – كما وضح في انحراف سعد زغلول عن خطة أستاذه حين بهرته أبهة الزعامة فهادن العدو وميع قضية الاستقلال .
وتوجيه الدعوة إلى القادة والكبراء ليس مما يعاب على السيد جمال الدين فكل صاحب دعوة يتمني أن يختصر الطريق, ويتصور أنه إذا أقنع عليه القوم فقد أقنع من وراءهم . حتى رسول الله صلي الله عليه وسلم
تمنى ذلك وحاوله حتى عاتبه القرآن في اهتمامه بالكبراء وتقديمهم على الضعفاء من غمار الناس بقوله تعالي ( عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكي. أو يذكر فتنفعه الذكرى . أما من استغني . فأنت له تصدي . وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى . وهو يخشى . فأنت عنه تلهى. كلا أنها تذكرة فمن شاء ذكره ) ( عبس :1- 12)
فخالق الناس يعلم أن الاعتماد على الكبراء – مع ما يتنازعهم من أهواء وآمال وفتن – لا يحقق ما يتمناه الدعاة إلى الخير من اختصار الطريق في نشر دعوتهم بل قد يؤدي إلى عكس ما يتمنون .
لهذا ركز حسن البنا جهوده على الاتصال بالجماهير فوجه الدعوة إليهم وخالطهم وتفاهم معهم وأقنعهم وامتزج بهم وكون منهم قاعدة عريضة لدعوته .. وإذا كانت سيطرة المستعمر وعملائه على الكبراء وذوي المناصب سهلة المنال , فإن هؤلاء المستعمرين قد يعجزون عن بسط سيطرتهم على هذه القطاعات العريضة من الجماهير في مختلف البلاد ومختلف الطبقات .
الثانية – لم يقتصر في اتصاله بالجماهير على أسلوب الخطابة الذي – مهما كان بليغا – فإن أثره لا يعدو أن يكون سطحيا ومؤقتا بل قد أولي الجانب الأكبر من اهتمامه أسلوب الاتصال الشخصي بأولئك الذين تأثروا بخطابته , فجلس معهم وتناقش وإياهم وتوضع في الحديث معهم وآخي بينهم وربطهم بمكان يجتمعون فيه ومواعيد يلتقون فيها – فعالج بذلك النقص الذي فكك أوصال الحزب الوطني بعد وفاة مؤسسه مصطفي كامل ..ولا ننسى أن نذكر أن برنامج مصطفي كامل رحمه الله وإن كان هدفه إسلاميا فإنه لم يكن للتربية الروحية فيه الموضع الذي يتناسب مع أهميتها .
الثالثة _ لم ير حسن البنا في أسلوب التعليم والتثقيف الوسيلة الوحيدة للنهوض بأعباء الدعوة الإسلامية , بل اعتمده ضمن مجموعة من الأساليب التي لاغني عنها فقد رأي في الاقتصار على هذه الناحية دون المشاركة في جميع مسئوليات الأمة ومشاكلها في مختلف الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جنوحا بالثقافة والعلم إلى الفلسفة والعقم وحرمانا للأمة من جهود أبنائها في مطالبها الملحة – فخالف في ذلك الشيخ محمد عبده بعد رجوعه من المنفي .
ويجدر بنا هنا أن نلفت نظر القارئ إلى أن حسن البنا حين أختلف مع محمد عبده في اقتصاره على أسلوبه التعليمي لم يكن متناقضا مع نفسه حين أيد عبد الحميد بن باديس في أسلوبه التعليمي ذلك أن الظروف في الجزائر كانت مختلفة عن الظروف في مصر .. فقد كان الاستعمار الفرنسي يحاول فرنسة الشعب الجزائري وجعله جزءا من الشعب الفرنسي وأن تكون الجزائر امتدادا أرضيا لفرنسا . ورأي هذا الاستعمار أن السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف لا يمكن إلا القضاء على اللغة العربية وإحلال اللغة الفرنسية محلها باعتبار اللغة العربية هي لغة القرآن فإذا قضي عليها انقطعت الصلة بين الشعب الجزائري وبين القرآن وهنا تسهل الفرنسة .
وأمام هذا الأسلوب وهذا الهدف كانت الوسيلة الوحيدة لعرقلة الأسلوب الفرنسي وإحباطه هي العمل على نشر اللغة العربية , وتعليمها للشعب بإنشاء المدارس لهذا الغرض . وهو ما فعله عبد الحميد باديس وواجه في سبيله الأهوال ولكنه نجح فيه واستطاع أن يحفظ بذلك للشعب الجزائري عروبته وإسلامه.
ولهذا فإن حسن البنا كان يؤيد هذه الخطة في الجزائر وكثيرا ما بعث بالرسائل والبرقيات لشد أزر السيد عبد الحميد كما كان يكتب المقالات الضافية في مجلة الإخوان لهذا الغرض ويعلن الاحتجاجات على السلطات الفرنسية لمصادرتها لمدارس السيد عبد الحميد واضطهاد رجاله العاملين معه ..وفي ذلك الوقت لم يكن أحد من المصريين شعبا وحكاما يحس بما يجري في الجزائر ولا يعير ذلك أدني اهتمام وغنى عن الذكر أن نقول أن الأسلوب البريطاني في استعماره لمصر كان مغايرا للأسلوب الفرنسي في الجزائر , إذ كان الأسلوب البريطاني يولي جل اهتمامه إلى تغيير النفس المصرية من داخلها بطرق مغرية هادئة تتسرب إليها دون أن تحس ودون أن تشعر هي ولا غيرها بقهر و إرغام .. وهذا الأسلوب البريطاني يولي جل اهتمامه إلى تغيير النفس المصرية من داخلها بطرق هادئة تتسرب إليها دون أن تحس ودون أن تشعر هي ولا غيرها بقهر أو إرغام.. وهذا الأسلوب أخطر في آثاره من الأسلوب الفرنسي ومقاومته أصعب بكثير من مقاومة الأسلوب الفرنسي .
الرابعة –تجنب حسن البنا الفصل بين السياسة والدين لا تتحول السياسة إلى أشكال ومظاهر قائمة على أهواء الزعماء وأغراض الحكام. بل جعل السياسة نابعة من الدين , متفرعة عنه . فحاطها بذلك بسياج متين كان وقاية لها من الانحراف والتفريط والخداع , فصارت السياسة بذلك سياسة ذات حدود وأخلاق, ولا تعطي الدنية في الدين ولا في الأهل ولا في الوطن – فعدل بذلك مسار السياسة – بعد أن انحرف بها سعد زغلول – فصارت مع العدو مواجهة وعداء بعد أن كانت تذللا واستجداء .
الخامسة – سبق أن تحدثنا عن موقف حسن البنا من موضوع البدع وطريقته في تنقية الدين منها بالالتفاف حولها وتطويقها من باب خلفي , دون الوقوف من أصحابها موقف التحدي والرمي بالشرك والنعت بالكفر الذي يخلق العناد والتعصب ويقطع الصلة ويقضي على فرص التفاهم بينهما – بذلك تجنب العيب الذي شاب طريقة بعض دعاة الوهابيين التي أوجدت دعوتهم عند كثير من الناس حجبهم هذا الفوز عن أن يدرسوا هذه الدعوة ليعرفوا حقيقتها .
السادسة – أخذ من الطريقة السنوسية أسلوبها في التربية الروحية الممزوج بروح الفتوة والقوة. أو بمعنى آخر بأسلوب تربوي, يطهر النفس ويزكيها تطهيرا يعدها لحمل أثقل التبعات , ويؤهلها للتضحية بالنفس والمال في سبيل الله .
السابعة – بقي أن نقول أن هناك طائفة من أرباب اللسان والقلم الذين ألهبوا المجتمعات بخطابتهم ودبجوا المقالات وألفوا الكتب وأنشدوا القصائد التي أذكت نار السخط على المستعمرين فقامت ثورات وهبت انتفاضات في عدة أنحاء من العالم الإسلامي وكان على رأس هؤلاء محمود سامي البارودي والأمير شكيب أرسلان ومحمد إقبال ورفيق العظم وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفي لطفي المنفلوطي وعبد الله النديم وعلى الغاياتي ومصطفي صادق الرافعي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأبو القاسم الشابي .
وهؤلاء وإن استطاعوا إشعال هذه الروح فترة من الزمن فإنهم كانوا مجرد عنصر ساعد لا قادة بالمعني المفهوم , فكان هؤلاء عادة يعملون في ركاب كبار الدعاة باعتبارهم أحد العناصر الفعالة في نشر الأفكار وإثارة العواطف وإعداد النفوس والعقول لتلقي التوجيهات والأخذ بالبرامج التي تصدر عن القادة .
وعناية حسن البنا بهذه الطائفة كانت عناية فائقة , فهو نفسه كان خطيبا مفوها وكاتبا مبينا وأديبا مفتنا . وقد طالع ما كتبه هؤلاء الرجال ودرس ما تركوه من آثار ثم جعله ضمن برنامج الدراسة لأعضاء كتائب الإخوان ..
وقد نشأ في ظل دعوة الإخوان المسلمين جيل لا حصر له من الكتاب والخطباء والشعراء , ولا أعتقد أن دعوة من الدعوات أيا كان هدفها قد أثرت بمثل هذا العدد الذي بلغ الشأة في فنون الأدب بأنواعها , ولم يكن ذلك كله إلا بوحي من هذه الدعوة التي ملكت على المؤمنين بها مشاعرهم .. وقد أظلم نفسي وأظلمهم إذا أنا حاولت أن أسرد أسماءهم في هذه العجالة.. وإذا كانت الدعوات الأخرى قد اقتصر وجود طائفة أرباب القلم واللسان فيها على القاهرة ودمشق والإسكندرية وغيرها من العواصم فإن هذه الطائفة في دعوة الإخوان المسلمين قد نبتت وأينعت وأثمرت في كل مكان نفذت إليه أشعة هذه الدعوة حتى في أحشاء القرى والدساكر .. وما أجوخ هذه الطائفة إلى من يجمع ثمرات قرائحها وينشرها كما نشرت ثمرات قرائح سابقيهم وهكذا جاءت دعوة حسن البنا مزيجا من محاسن كل ما سبقها من دعوات متجنبة كل مواطن الضعف فيها . فكانت دعوته كما وصفها بنفسه في خطابه في المؤتمر الخامس عام 1938 .
" دعوة سلفية , وطريقة سنية , وحقيقة صوفية , وهيئة سياسية , وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية , وشركة اقتصادية , وفكرة اجتماعية".
موجهة إلى جماهير الشعب , وقائمة على أساليب من التفاهم والتآخي والإعداد والتكوين والتوجيه .
• أسلوب عف كريم :
وقد يلتحق بهذا الفصل أن نشير إلى أن أسلوب حسن البنا في التعامل مع سلف هذه الأمة الإسلامية من القادة فنقول أنه – رحمه الله – لم يكن ممن يحرصون على تتبع عورات الرجال , ولا ممن يسعون إلى عد مساوئ الناس وكانت نظرته إلى هؤلاء السلف من الدعاة النظرة العامة المجملة فيأخذ الرجل منهم بمجمل حياته لا بتفاصيلها أعني بذلك أنه كان حين يعلم بموطن ضعف في أحدهم لا يتخذ ذلك ذريعة إلى التشهير به والتنديد بهذا الموطن فيه ,وإنما هو يتجاوز ذلك مبرزا مواطن القوة ونواحي الخير فيه .. أخذا بما جاء في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم من قوله :" من ستر مسلما ستره الله " وقوله :" من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته " وقول الشاعر الحكيم :
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها
- كفي المرء نبلا أن تعد معاييه
ومما لا حاجة بنا إلى التدليل عليه , وأن إنسان أيا كان ذلك الإنسان لا تخلو حياته من مواطن الضعف . ولولا أن الأنبياء قد عصمهم الله لما خلوا من ذلك .. فحسب الذين يبحثون في تاريخ الأمم – والأمر كذلك – أن يأخذوا رجالات هذا التاريخ بمجملهم لا بتفاصيل حياتهم ودفائن خصوصياتهم , حتى لا يخرجوا من بحوثهم صفر اليدين . وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول :" لو تكاشفتم ما تدافنتم ".
إن النظرة المسددة إلى المساوئ المتتبعة المستقصية في حياة الرجال . تدمر التاريخ وتحطم بنيان الأمم.. وما أيسر الهدم ولكن ما أخطر عواقبه ..وإن القرآن الكريم ليفترض وجود مواطن الضعف في كل إنسان حتى في المؤمنين فحين يشيد بالإخوة بين المؤمنين فيقول ( إنما المؤمنون إخوة ) ( الحجرات : 10) لا يقف عندها حتى يذكر بهذه المواطن فيلحق الإشادة إلحاقا مباشرا بقوله : ( فأصلحوا بين أخويكم ) الحجرات : 10) والإصلاح لا يطلب إلا لتلافي خلل موجود .
وقد يكون تتبع عورات رجال التاريخ – في بعض الأحيان – وإطالة البحث عن مثاليهم , والتشهير بهم , نوعا من أنواع التمرد النفسي ينتاب الأجيال الصالحة التي تعاني من افتقاد قيادة صالحة ولا يجدون بين أيديهم إلا قيادات تافهة مغرضة متقلبة مزدوجة الشخصية ..
فهذا الافتقاد وهذه المعاناة تبعث في نفوس هؤلاء الصالحين من هذه الأجيال سوء الظن بالقيادات تؤجج في صدورهم نار التمرد والغضب وتطبعهم بطابع التبرم والتشاؤم .
ونحب أن نلفت النظر إلى أن هذه النغمة التي يضرب على أوتارها هؤلاء المتشككون هي نقمة يطرب لها الكائدون للتاريخ الإسلامي لأنهم هم مخترعوها ومؤلفوها وهم مروجوها وهم صانعوا أوتارها – ويسعدهم كل السعادة أن يروا من يضرب على أوتارها مأجورا أو متطوعا فإذا كان الضارب متطوعا طاروا فرحا لأن هذا معناه أن فكرتهم المسممة التي سهروا على بثها قد تسللت حتى وصلت إلى عقول صالحي المسلمين وأفئدتهم فتبنوها وهم لا يشعرون – وهل كان لهؤلاء الكائدين من هدف إلا هذا الهدف ,ولا من أكل إلا هذا الأمل ؟!
على أننا حين ننعي على الذين يذيعون بمثالب القيادات لا نقصد بذلك تلك المثالب التي هي نفسها قد أعلنت نفسها على حد قول رسول الله صلي الله عليه وسلم :" كل أمتى معافي إلا المجاهرين " وإنما نقصد المثالب التي يبذل الباحث وراء الوصول إليها جهدا والتي يتصيد الشبه من هنا وهناك ليجمع منها دليلا عليها , والتي يحاول تأويل المواقف والألفاظ والعبارات حتى تشير إليها .
مزيد بيان وتحذير من تدبير خطير
تجريح قادة الدعوة الإسلامية
أسلوب خبيث لهدم هذه الدعوة في نفوس المسلمين
ولما كان لهذا الموضوع شأن خطير فيما نحن بصدده من بحث فقد يقتضي المقام أن نريده توضيحا مستطردين فنقول :
هناك قوم قد أعدوا أنفسهم , وأعدتهم أجهزة خاصة في حكوماتهم . للبحث عن أشد الأساليب فعالية في هدم الإسلام في نفوس أهله , وتقويض أسسه باعتباره دعوة قائمة.. على أن يتوخوا في هذه الأساليب المناخ ذا السمة العلمية – وهؤلاء القوم , والذين سموا بالمستشرقين لأن إعدادهم لهذه المهمة التخريبية اقتضي تعليمهم اللغة العربية , وإيفادهم لقضاء فترة من حياتهم وسط هذه الشعوب لدراسة معتقداتها وعاداتها ومواطن القوة والضعف فيها .
هؤلاء المستشرقون .. انتهزوا فرصة إنشاء الجامعة المصرية , وتطلع الأجيال الأولي من الدارسين فيها إلى الاستزادة من العلم لا سيما في التاريخ الإسلامي ..ولما كانت أمهات الكتب التي بين يدى هؤلاء الدارسين من ثلاث الأمة الإسلامية في التاريخ لا نعري بالقراءة لأنها ليست سهلة المأخذ ولا قريبة التناول .. فقد وضع هؤلاء المستشرقون مؤلفات تناولت هذا التاريخ بأسلوب عصري أكثروا فيها من التعليق والتحليل ..وقد أذابوا في هذا التعليق والتحليل كل ما في نفوسهم من حقد وضعته على نبي الإسلام وصحابته وعلى البطولات الإسلامية التي هي مفخرة المسلمين .
ولما كانت أحداث التاريخ مما لا يسهل تناوله بالتغيير والتبديل فقد لووا منها ما تمكنوا من ليه , وحرفوا منها ما استطاعوا تحريفه ..وما لم يستطيعوا ليه ولا تحريفه وجدوا مجالهم فيه في التعليق والتحليل ..ولكن هذا كله صاغوه في مجلدات ناصعة أنيقة ’ وفي أسلوب طلي لبق رشيق, تغطي فيه مهارة الكاتب ومقدرته الأدبية على ما دسه في سطوره من زيف وسموم .
وأقل المتطلعون لدراسة التاريخ الإسلامي على هذه المؤلفات , سواء منهم من تلقوها عن مؤلفيها أنفسهم في بلادهم حين أوفدوا في بعثات علمية إليها , ومن درسوها هنا على يد من تلقوها عن مؤلفيها ولقد أغراهم بها أسلوبها التحليلي الذي يجمع بين الطرافة والجدة والتشويق .
ونجحت خطة الاستشراق بهذا الأسلوب ردحا من الزمن , حين صارت مؤلفاتهم مرجعا يتباري دارسو التاريخ الإسلامي في الاقتباس منه وفي حمل أفكارهم والتباهي بها وإذاعتها والدعوة إليها.. وتسرب هذا الزيف إلى الكثيرين من المثقفين عن طريق الصحف والمجلات والندوات والمحاضرات .. وقد لا ننكر أن قليلا من هؤلاء الحملة كانوا يحملون هذه الأفكار عن غفلة وحسن نية إذ لم تكن لهم خبرة سابقة بالتاريخ الإسلامي واعتقدوا أن الأمانة العلمية أقدس من أن يجرؤا عالم على تخطي جيدها واستغلالها في غرض دنئ .
ثم نبت البعث الإسلامي من جديد بعد غيبة طال أمدها , وكان متمثلا هذه المرة في دعوة الإخوان المسلمين – ولقيت هذه الدعوة في إبانها عنتا شديدا على يد هذا الرعيل الحامل لهذا الزيف .. وكانوا هم وتلامذتهم عقبة كأداء في سبيل هذه الدعوة ..ولكن ثبات هؤلاء الدعاة . وأصالة الأمة الإسلامية , سرعان ما كشف القناع عن وجه هذا الزيف وأبرزه على الملأ عاريا كالحا بشعا على حقيقته .
وبدأ المستشرقون يشعرون بحرج موقفهم ,وبأنهم لم يعودوا صالحين للظهور بعد ذلك أمام العالم الإسلامي بالمظهر الذي انتحلوه لأنفسهم أمامه من قبل باعتبارهم علماء يتوخون الحقيقة ليس لهم من رائد سواها . فماذا فعلوا ؟...
• بدائل المستشرقين
لقد فعلوا ما أثبت أنهم كانوا جديرين لما انتدبوا له من تخريب إنهم اعترفوا بالأمر لواقع ويطغيان الموجه الإسلامية على باطلهم , وانتحوا جانبا بعيدا عن الأنظار, وكفوا عن أسلوبهم الذي انكشف , وشرعوا يبحثون عن أسلوب آخر يتناسب والبيئة الجديدة,والجو الإسلامي الغامر الجديد..ولكنه يؤدي نفس الدور ويحقق إصابة الهدف التخريبي العتيد الذي رصدوا له جهودهم ووقفوا عليه حياتهم .
أخذوا يرقبون في حذر ومن وراء ستار الجيل الذي منه دعاة الدعوة الإسلامية النابتة – وكان أكثرهم في ذلك الوقت طلابا بالجامعة – وأخذوا يتتبعون أفرادا من هذا الجيل رأوا أن فيهم من الصفات والأخلاق ما يؤهلهم لأن يحملوا عنهم هذا العبء.. على أن يكونوا من ورائهم يمدونهم بالأفكار , ويتعهدونهم بالرعاية من وراء ستار فيهيئون لهم الطريق حتى يتبوأوا مناصب تثقيفية مرموقة تتيح لهم أن يصدروا تحت أسمائهم مؤلفات تؤدي المهمة التي كانوا يؤدونها هم من قبل .. ولكن هذه المؤلفات الجديدة ستكون أوقع في النفوس وأقرب إلى أن تسيغها العقول , وأبعد ما تكون عن الشبهات لأنها صادرة من أستاذة مسلمين يشغلون أعلي المناصب التوجيهية.
ولقد استطاع المستشرفون أن يعثروا على طلبتهم دن مشقة , إذ كان مجال الاختيار منحصرا في مكان محدود من السهل مراقبته .. ذلك هو الجامعة المصرية التي كانت وحيدة في ذلك الوقت.
ومن حق القارئ لا أكتمه أنني أنا نفسي – بعد أن دار الزمان دورته وشبت أجيال جديدة سمعت من أصلح صلحائها آراء ذهلت لسماعها وكادت لخطورتها تهصر قلبي هصرا .. وعجبت كيف يحمل هؤلاء الصالحون هذه الآراء التخريبية التي تقوض الدعوة الإسلامية من أساسها ..
فتجريج قادة الدعوة الإسلامية واحدا واحدا ورميهم بالانتساب إلى شئ سري مجهول يسهل نسبة أى إنسان إليه .. وافتقاد المسلمين بهذه الطريقة – الثقة في قادتهم .. يهدم الدعوة الإسلامية , ويحيلها إلى مجرد فكرة لا فاعلية لها .. وهذا تحقيق للحلم الذي طالما بات أعداء الإسلام يحلمون به ويخططون لتحقيقه أن يحولوا الإسلام إلى فكرة مجردة يستنفد صالحوا المسلمين جهودهم وأعمارهم في التوسع في دراستها , والهيمان بها في آفاق الفلسفة والخيال وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. ولقد جاء على أسلافنا من المسلمين حين من الدهر فعلوا بإسلامهم مثل ذلك – ولكن المؤرخين قد التمسوا لهم بعض العذر فلقد فعلوا ذلك حين بلغت دولتهم من الازدهار والتمكن في الأرض ما لم تبلغه دولة من قبل .. فإذا ركنوا إلى الدعة ونسوا أن الإسلام دعوة قائمة وهداية نابضة وشعلة مضيئة في حاجة إلى من يحملها إلى المحرومين من النور في أنحاء الدنيا إلى يوم القيامة – إذا نسوا ذلك في تلك الظروف ونظروا إلى الإسلام نظرة علمية بحتة فتوفروا على دراسته وقضوا أعمارهم في فلسفة نظرياته ..وأنتجوا في هذا الميدان إنتاجا كان بعضه كافيا لسد نهر دجلة . . ولكن هذا الإنتاج – مع التقاعس عن حمل لواء الدعوة الإسلامية – لم يغن عنهم شيئا في أول صدام مع الباطل يوم أغارت عليهم جيوش التتار .. فكيف يكون حال المسلمين إذا هم فقدوا ثقتهم في قيادات الدعوة الإسلامية فأسلمهم ذلك إلى الدوران حول أنفسهم وانتهوا من ذلك إلى العكوف على الدراسة والاطلاع والتزود من ذلك لمجرد النقد والتشكيك والتجريح .. هذا في الوقت الذي لا زالت الأمة الإسلامية فيه تحاول أن تنفض عنها غبار نوم ثقيل طويل ؟!
وأصدق القارئ القول فأقول أنني لم أفق من ذهولي من سماع هذه الآراء المخربة الهدامة إلا حين علمت من هؤلاء الصالحين المصادر التي استقوا منها هذه الآراء ... فقد ذكرتني هذه المصادر بزملاء كانوا معاصرين لنا بالجامعة ..وكانوا بطبيعة نشأتهم وبما عرف عنهم من شذوذ في الخلق والسلوك , وكانوا أعداء حقراء للدعوة الإسلامية وللإسلام المجرد وللأخلاق والفضائل في ذاتها .. وكانوا بذلك أهلا لأن تهيئهم الأيدي الخفية التي أشرنا إليها لحمل أعباء العملية التخريبية بالنيابة عنها .
ولما كانت هذه الأجيال الجديدة لا تعرف شيئا عن تاريخ هؤلاء إلا ما يرونه بين أيديهم منا صب لامعة ومؤلفات فخمة ضافية وأساليب معسولة رتبت بطريقة تستهوي الصالحين من هذه الأجيال .. لهذا راجت بينهم هذه المؤلفات وأحسنوا الظن بها ووقعوا ضحايا سمومها .
فالصائد الماهر الحريف هو الذي يعد لكل نوع من الأسماك طعما خاصا به عرف الصائدون بالتجربة أنه يشتهيه ويجذبه إلى آلة الصيد – فيقبل على الطعم ويلتهمه عن آخرون حتى إذا فرغ من التهامة أسلمة هذا الطعم الشهي إلى آلة الصيد نفسها ليكون تحت رحمة الصياد يفعل به ما يشاء .
وارتداء مسوح الرهبان لا يغير من نفوس المرتدين بهذه المسوح قليلا ولا كثيرا , ولكنه قد يفتن الكثيرين ممن يجهلون هؤلاء المرتدين .. وهؤلاء الذين فتنتهم المسوح لا يزالون معذورين حتى يصادفوا خبيرا بحقيقة المرتدين , يفتح عيونهم على ما تحت هذه المسوح من ذئاب كاسرة ضاربة .
أما نحن وقد جربنا بأنفسنا .. ورأينا كيف يجترئ أناس – وهم متسلمون أعلي مراكز التوجيه في بلادنا – على الحق وعلى التاريخ , ويستحلون الكذب والاختلاق , وينسجون من خيالهم وقائع وأحداثا ينسبونها – زورا وبهتانا ووقاحة – إلى حسن البنا - .. وتنشر الصحف هذه الأكاذيب وتقدمها للشعب على أنها حقائق ... ومع ذلك فلا يزال هذا الشعب ينظر إلى هؤلاء الكاذبين نظرة الإجلال والأكبار ..وما عباس محمود العقاد في هذا المجال عنا ببعيد .
بعد أن جربنا ذلك بأنفسنا لم نعد فريسة سهلة لأولئك الكذابين الجدد الملتمسين للبرءاء العيب .. مهما جاءونا اليوم يزجون الثناء العاطر لحسن البنا ولدعوته مقدمة يستدرجوننا بها لتقبل ما هدفوا إليه ووضعوا مؤلفاتهم من أجله مما يقوض ثقتنا في كل من سوى حسن البنا من قادة الدعوة الإسلامية.
وإذا سمح بعضنا اليوم لأنفسهم أن يتقلبوا هذه القرى على هؤلاء القادة السابقين فلا يلومن هؤلاء المتقبلون أجيالا تأتي من بعدهم تتلقي ما اختلق على حسن البنا من افتراءات بالتصديق والقبول .
• مرونة وسعة أفق وسعت الجميع :
ونرجع إلى ما كنا بصدده من الحديث عن حسن البنا فنقول : وكما أن هذا كان أسلوب حسن البنا – رحمه الله – مع من سبقه من القادة فقد كان هذا أيضا أسلوبه مع سائر الناس .. فلقد كان له من الفطنة ونفاذ البصيرة مالا تخفي عليه معهما حقائق الأشخاص ودخائل نفوسهم كالذي قال فيه الشعراء :
الألمعي الذي يظن بك الظن
- كأن قد رأي وقد سمعا
ولكنه مع ذلك كان قديرا على ألا يجعل لما كشفته فطنته أثرا يقعد به عن الاقتراب من هؤلاء الأشخاص والاتصال بهم .. وحين يتصل بهم ويتحدث إليهم لا يجدون في حديثه ما يشعرون منه أنه مطلع على عورات منهم ولا أنه على علم بما هم متورطون فيه من مساوئ .. إنه كان يجالس هذا النوع من الناس , ويقبل عليهم ويفسح لهم في مجلسه , ويخصهم بمجاملات ترضي عواطفهم لا يتحدث إليهم ويتلطف معهم في الحديث, ولا يهاجم مواطن الضعف فيهم , ولا يمس شعورهم من قريب ولا من بعيد.. ولكنه يريهم من تصرفاته وتصرفات إخوانه من أدب الإسلام وسعة صدره ورحابه أفقه, ما يشوقهم إلى هذا الإسلام الرقيق الحاشية الجديد الذي لا عهد لهم بهذه الصورة المشرقة فيه من قبل .. فيخلو هؤلاء إلى أنفسهم حين يخلون فسيستعرضون ما رأوا وما سمعوا فيسلمهم هذا الاستعراض إلى لون من النقد الذاتي , الذي ينتهي بهم عادة - بعد تكرر الزيارات وتعدد الجلسات .. إلى أن يجد الواحد منهم نفسه وقد حملته قدماه – دون أن يدري – إلى حيث يقدم نفسه إلى حسن البنا خلقا آخر قد تنزه عن كثير مما كان متلطخا به من مساوئ .
لقد أفاد حسن البنا لدعوته بهذا الأسلوب أعظم إفادة . فقد أصلح الكثيرين من المنحرفين دون أن يهاجم معتقداتهم أو ينتقد مسالكهم فيقطع خط الرجعة عليهم . بل تركهم لأنفسهم فراجعوا أنفسهم بأنفسهم وأتوا تائبين .. وبعد أن كانوا عقبة في سبيل الدعوة صاروا لبنات في بنائها , وصدق الله العظيم ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ( آل عمران : 159 ).
كان حسن البنا يرضي من العاملين معه في ميدان الدعوة من يعطى الدعوة كل نفسه ومن يعطيها نصف نفسه , ومن يعطيها ربع نفسه , ومن لا يعطيها شيئا إلا مجرد الابتسامة والإعجاب ... ولا يشعر إنسانا من هؤلاء بشئ من التبرم به أو الضيق بوجوده , بل يفسح لهم جميعا مجالا من نفسه ومجالا من الدعوة , بحيث يشعرون جميعا بالرضا والسرور, مما ينقل الواحد منهم دون أن يشعر من درجة من درجات الإيمان إلى ما هو أعلي منها.
وشعوره بأنه داعية لفكرة هو مؤمن بها أعمق الإيمان , ومقتنع بسلامتها وجدارتها وتفوقها , جعله مستعدا دائما بل متشوقا لاستقبال كل ذي فكرة مهما اختلفت عن فكرته وللسعي إليهم , ولا يجد في نفسه حاجبا نفسيا يحجبه عن الاتصال بكل إنسان – مهما كان موقف هذا الإنسان – ذلك أنه يعتقد أن في كل إنسان جانبا من الخير يحتاج إلى من يكشف عنه ويحركه ويبعث طاقته الكامنة , وقد يأثم الداعية إذا هو تخلف عن الكشف عن هذا الخير وإطلاق هذه الطاقة ..
ومن هنا كان اتصاله بمن اشتهر عنهم أنهم أعداء للفكرة الإسلامية .. وكان يرضي من هؤلاء بعد لقائه معهم مجرد عدولهم عن خططهم المعادية حتى ولو لم يلتزموا بعد ذلك بالخط الإسلامي الواضح .. فهو يحمد لهم هذا الموقف , وينسي لهم سابق تاريخهم ويحب أن يكون هذا موقف الإخوان منهم , ويعد ذلك نوعا من النصر للدعوة يجب أن يحرص عليه .
هذا هو أسلوبه فيما يتصل بالأشخاص , أما أسلوبه فيما كانت تتخذه الحكومات المتعاقبة مما كانت تسميه إصلاحيات , فإنه كان يعتبر هذه الإصلاحات علاجات جزئية وبتقبلها على أنها إسعاف مؤقت لمجرد الاحتفاظ برمق الحياة .. أما العلاج عنده فهو معرفة أصل الداء الذي تفرغت عنه كل الأمراض التي استشرت في جسم الأمة حتى شلت جميع الأعضاء ,ثم إعداد العدة الكافية لاستئصال أسبابه , ثم يوضع المريض أمام العلاج الشامل وهو المنهج الإسلامي الكامل . وإعداد العدة هو نشر لواء الفكرة الإسلامية وتثبيتها في نفوس الشعب حتى تنبثق عن هذه النفوس حكومة تضع المنهج الإسلامي في جميع مرافق الحياة موضع التنفيذ .
• أسلوبه في المناقشة :
وكان رحمه الله ذا مقدرة فائقة في مناقشاته ألا يدع لمناقشة فرصة ينقل فيها المناقشة من الموضوع الأصيل في نظره وهو صلب الدعوة الإسلامية إلى نقط خلافية فرعية تافهة ..
وتذكر في هذا المقام لقاءه مع الصحفي البارع المبتكر مصطفي أمين في أواسط الأربعينيات بالمركز العام بالحلمية الجديدة , حين أراد مصطفي أمين بمهارته الصحفية أن يوجه المناقشة ويحدد موضوعها بأن استهل اللقاء بتقديمه سيجارة إلى حسن البنا وهو يعلم أنه سيرفضها وكان قد رتب في خاطره نقاشا يديره معه على أساس التحليل والتحريم يبني على نتائجه رأيا عن مدى تزمت الإخوان المسلمين .
لكن الذي حدث هو أن حسن البنا بفطنته وألمعيته تنبه إلى ما رتبه زائره في خاطره. ففاجأه برد لم يكن يتوقعه ولم يخطر له على بال إذ رفض السيجارة معتذرا شاكرا قائلا : أنني لا أدخن عادة ولا عبادة – فسلبت هذه المفاجأة مصطفي أمين ميزة المباداة ونقلتها إلى يد حسن البنا الذي أدار المناقشة على الوجه الذي يريده.
وقد عبر مصطفي أمين في ذلك اليوم عن فهمه لدعوة الإخوان المسلمين بما نشره في " أخبار اليوم " فقال :" إن حسن البنا قد استجاب له مئات الألوف في أنحاء القطر وقد استطاع أن يؤاخي بينهم بحيث لو عطس عضو منهم في الإسكندرية قال له عضو في أسوان " يرحمك الله ".
• مقدرته الخارقة على الإقناع :
أما قدرته الخارقة على الإقناع فحسب القارئ أن أقص عليه بصددها ما سمعته قريبا في جلسة عارضة ضمت مجموعة من ذوي الثقافات العالية . وكان أحد حاضريها اللواء شرطة بالمعاش سيد عبد النبي الذي قص علينا القصة التالية :
قال : كان الأستاذ محمد حياتي ياورا للنقراشي باشا حتى أواخر عام 1947 ثم استبدل به الأستاذ إسماعيل المليجي شقيق إبراهيم عبد الهادي باشا . وظل الأستاذ حياتي يعمل في وزارة الداخلية حتى جاءت وزارة الوفد سنة 1951 فقررت التخلص من موظفي عهد السعديين الذين يشغلون وظائف حساسة فقررت نقل الأستاذ محمد حياتي نائب لمأمور إيتاي البارود .
يقول اللواء سيد عبد النبي : وكنت في ذلك الوقت معاونا لمركز إيتاي البارود – وكنا بحكم الزمالة في العمل نتحدث معا في مختلف الشئون لا سيما فيما يتصل بالأحداث التي وقعت بعد حل الإخوان المسلمين حيث كان الأستاذ حياتي أقرب الناس من هذه الأحداث – وكان مما حدثنا به الأستاذ حياتي في هذا الصدد قوله :
قبل صدور أمر حل الإخوان سنة 1948 – لما شعر الأستاذ البنا بأن أمر الحل يعد فعلا حاول مقابلة النقراشي باشا , فقابل عبد الرحمن عمار بك وكيل الداخلية وطلب منه مقابلة النقراشي باشا فاعتذر له عمار بك بمشغولية النقراشي , فكلفه بتحديد ميعاد فتظاهر عمار بك بالاستجابة ولكنه بعد خروج الأستاذ البنا فهمنا منه أنه لن يتيح للأستاذ البنا هذه المقابلة .
يقول الأستاذ حياتي : وكنت حاضرا وسمعت ما تم بين الاثنين وما كان من عمار بك... فسألته لم كان منه هذا التصرف ؟ فقال : إحنا لو تركنا الأستاذ البنا لمقابلة النقراشي باشا فلن يصدر أمر الحل لأن هذا الرجل قادر على إقناع النقراشي باشا , وبذلك تحدث أزمة بين الحكومة والسراي .
وتعقيبا على هذه القصة أقول : إن حسن البنا كان من اتساع الأفق بحيث لا يعدم أن يجد بديلا مهما بدا لجميع الناس أن الأمور قد ضاقت واستحكمت حلقاتها حتى صار الطريق مسدودا لا منفذ فيه – وكان هذا هو السبب في أن كثيرين من أعدائه كانوا يتحاشون لقاءه, لأنهم كانوا واثقين من أنه سوف يلزمهم الحجة ويكسبهم إلى جانبه وهم لا يريدون ذلك حسدا من عند أنفسهم .
• حسن البنا في صلواته :
كان حسن البنا رحمه الله داعية يلتزم أسلوب الداعية في كل تصرفاته مع نفسه ومع الناس حتى في صلاته – فلقد كنت – كما قدمت من قبل في أوائل أيام اتصالي بالإخوان المسلمين حريصا على مراقبة كل ما يدور في مركزهم العام لا سيما ما يصدر من مرشدهم من حديث وأعمال وتصرفات .. وقد لفت نظرى أن صلاة المرشد – وكان دائما هو الإمام – لا تكاد تختلف عن صلاة كثير من الناس , فهي وإن كانت صلاة خاشعة مطمئنة لكن رائيها لا يمكن أن يصفها بأنها صلاة مطولة كتلك التي تمارس في مساجد بعض الجمعيات .. وكان اعتقادي أ هذا الرجل ذو اللحية السوداء لابد أن يكون ملتزما في صلاته ما يلتزمه أصحاب اللحي من المنتسبين إليه هذه الجمعيات .
ولقد تقدمت إليه وسألته في ذلك سؤالا مباشرا فأجابني قائلا : إنني حريص على ألا أطيل في الصلاة حتى لا أدع الفرصة لمن خلفي أن تشرد أفكارهم .
وقد ناقشت نظرته هذه مع نفسي فوجدت أنه فعلا مصيب كل الإصابة وخبير بطبيعة النفوس وبطبيعة المجتمع الذي يتعامل معه وأنه طبيب يعطي مريضه الدواء بالقدر الذي لو تجاوزه لأضر به . فالمأمومون – وإلمامهم عادة بالقرآن قليل – إذا قرأ الواحد منهم سورة من قصار السور التي يحفظها ثم انتظر ساكتا حتى يفرغ أمامه من قراءة الكثير الذي يحفظه من القرآن .. ماذا يكون منه في الوقفة الطويلة التي هي بالنسبة له فراغ إلا أن يفلت منه الزمام فيشرد فكره في مختلف الشئون ؟.
أما في الصلوات الجهرية فكان له فيها رحمه الله أسلوب آخر .كان يطيل فيها من قراءة القرآن .. ولكن هذه الإطالة لم تكن مجرد إطالة ولا القراءة مجرد قراءة وإنما كانت قراءة هادفة . كانت قراءة من مواضع مختارة .. يتناول في كل صلاة منها معالجة موضوع معين من المواضيع الحساسة التي تمس النفوس وتعالج مشاكل المجتمع .
ففي صلاة يستعرض على المأمومين أصناف الناس , وفي صلاة أخرى يستعرض طبائع النفوس وفي ثالثة يعرض صورة لغرور السلطة وعواقبه , وفي رابعة يستعرض مواقف الحق الأعزل من الباطل المسلح وفي خامسة يستعرض دلائل قدرة الله من مخلوقاته وهكذا من المواضيع التي يخرج المأمومون من كل منها بتوجيهات محددة وتعاليم معينة .
وغير خاف على القارئ المجرب أن سماع المؤمن القرآن وهو واقف في الصلاة بين يدي الله ذو أثر في النفس أشد عمقا وأعظم وقعا من سماعة القرآن في غير هذا الوضع.. وقد يفهم من القرآن في هذا الموقف ما لا يفهمه منه في غيره من المواقف ..لا سيما إذا كان القارئ أستاذا مريبا يفهم ما يقرأ ,ويعرف كيف يتلو الآية تلاوة تبرز ما خفي من معانيها فهو يعرف كيف يكون الوقف ويعرف كيف يكون الوصل .. ولا يمر بأية وعيد وعذاب إلا استعاذ في سره الله ولا يمر بآية من البشريات إلا طلب في سره من الله المزيد- وهكذا كانت الصلاة إحدي وسائل حسن البنا في تثبيت أفكار دعوته في النفوس وفي تربية من وراءه وتوجيههم .
وعلى العموم , فقد كنا نعتبر صلاة حسن البنا الجهرية بنا تكملة لدروس التكوين التي كنا نتلقاها على يديه والتي أشرنا إليها في الجزء الأول من هذا الكتاب .
وينبغي هنا أن أكاشف القارئ بشعور داخلي خاص انتابني وأنا أكتب مسودة هذه السطور التي يقرأها الآن , فقد كان في خاطري – كما هي طبيعة الكتابة عن عادات الزعماء وأساليبهم في الحياة –أن يكتب الكاتب عن أساليبهم مع المجتمع , ثم يكتب عن أساليبهم في حياتهم الخاصة .واندفاعا بهذا الشعور وصفت صلاته التي كان يؤديها أمامنا .. ثم تهيأت للكتابة عن صلاته الخاصة التي كان يؤديها وحده بعيدا عن أعين الناس , وفي هدأة الليل , بين جدران منزله .. ففوجئت بأنه – رحمه الله – لم تكن له حياة خاصة أمام تكاليف الدعوة التي لم تدع له فرصة من ليل أو من نهار دون أن تشغلها , فإذا كان في القاهرة فهو في المركز العم , في لقاءات واجتماعات ودروس ومحاضرات وندوات وجلسات إدارية وتربوية .. حتى إذا انتصف الليل , فإذا كانت هناك كتيبة في المركز لعام أو في إحدى شعب القاهرة أكمل معها بقية الليل , وإذا لم تكن وقلما لا تكون – كان آخر من يغادر المركز العام إلى بيته لينام ساعتين أو ثلاثا ثم يقوم لصلاة الفجر ليبدأ الإعداد ليومه الجديد ليكون أول قادم في الصباح الباكر إلى المركز العام الذي كثيرا ما كانت يبيت فيه وان كان خارج القاهرة فهو مع الإخوان لا يفارقهم ولا يفارقونه9 لحظة من ليل أو نهار حتى يغادرهم إلى بلد آخر ... فأني لمثل هذا أن تكون له حياة خاصة ؟
لقد أتيحت هذه الحياة الخاصة لقوم من أئمة هذا الدين فسعدوا بساعات طوال في بطون الليالي تفرغوا فيها للعبادة ولمناجاة ربهم فرووا – بهذه المناجاة ظمأ نفوسهم كالذي أثر عن الإمام أبي حنيفة أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء ..وكالذي أثر عن الإمام على كرم الله وجهه حسن كان يقف في سكون الليل في محرابه يناجي ربه ويقول للدنيا : يا دنيا غري غيري ... إلى تعرضت .. أم إلى تشوقت .. لقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها .. ولكن لله في خلقه شئون .. لقد شاءت إرادة الله أن ترشح حسن البنا لدور يحرم فيه حتي لذة الظفر بمثل هذه الليالي ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة )
(القصص :68) ورحم الله الرجل الصالح الذي قال : إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب, من الشهوة الخفية ..وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في الجريد , انحطاط عن الهمة العالية .
وخلاصة القول ,أنني نظرت فإذا الرجل لم تكن له حياة خاصة حتى أصف عبادته فيها كما وصفت عبادته وسط المجتمع .. على أنني لا أذكر أنه كان من فرص أو أرضي فيها بعض ما كانت تتوق إليه نفسه من استمتاع بإطالة في الصلاة إلا ما كان يؤيده في شهر رمضان وفي المركز العام عادة من صلاة القيام التي كان يقرأ فيها كل يوم بجزء من القرآن بحيث يتم القرآن بتمام رمضان .
خاتمة الباب موقف من اللغات ذو دلالة
هناك ناحية في حياة حسن البنا ينبغي أن توضع بين يدي القراء موضع البحث والتأمل , تلك هي نظرته إلى اللغات وموقفه منها , فهؤلاء القادة الذين أتينا على ذكرهم في هذه العجالة منذ قليل , والذين كانوا حملة الشعلة في العالم الإسلامي خلال قرنهم كانوا جميعا ملمين بمختلف اللغات . فالسيد جمال الدين الأفغاني كان يتقن التحدث بجميع لغات الدنيا الحية في أيامه تقريبا , والشيخ محمد عبده وسعد زغلول وهما أزهريان درسا اللغة الفرنسية دراسة خاصة حتى أجاداها , ومصطفي كامل كانت دراسته الحقوقية دراسة فرنسية والدعاة الذين قاموا بالمغرب كانوا بحكم الاستعمار على معرفة بلغة المستعمر – ومن المألوف والمسلم به أن على كل من يهيئ نفسه للقيادة في الشرق العربي أن يتزود أول ما يتزود بدراسة لغة أجنبية أو أكثر باعتبار ذلك مؤهلا لابد منه بل سلاحا يتسلح به في نشر أفكاره .
ولكن حسن البنا لم يكن ملما بلغة من اللغات إلا اللغة العربية .وليس هذا هو موضع الاستغراب ..ولكن موضع الاستغراب أن حسن البنا كان أقدر الناس على تعلم اللغات فلقد كانت مواهبه النادرة تسعفه أن يتعلم أصعب اللغات وأن يجيدها ويتحدث بها كما يتحدث أهلها في أشهر معدودات .. غير أنه مع ذلك لم يتعلم أية لغة من اللغات ..
فهل كان هذا مقصودا أم جاء عفوا ؟
لقد كان حسن البنا يحث أتباعه على تعلم اللغات وإجادتها والتضلع منها, ولكنه هو لم يول هذه الناحية في نفسه أدني اهتمام, وكان يقرأ أكثر ما يترجم إلى اللغة العربية من مؤلفات كتاب الغرب لا سيما في علوم التربية .
فهل كان ضيق وقته هو الذي حال دون تعلمه اللغات ؟!
أم أنه كان يري لنفسه شخصيا أن الاعتصام باللغة العربية وحدها هو شعار له معناه وله مغزاه ذلك المغزي الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام على ترجمة القرآن الكريم .. إنه كان يري أن يترجم الدنيا بما فيها من شعوب وأمم إلى القرآن وإلى لغة القرآن .
إنه كان يعلم أن الغرب لن يقيم وزنا لأية دعوة في الشرق مهما ملأت الدنيا كلاما مكتوبا ومسموعا بكل لغات الدنيا ولكنه يقيم وزنا للدعوة التي تستطيع أن توقظ الشرق من سباته وتبعثه من رقاده وتقوده لاستخلاص حقه. وتخلق من شعوبه جيلا يسترخص الحياة في سبيل الكرامة الإنسانية وفي سبيل استرداد الحقوق المغتصية.. مهما اقتصرت هذه الدعوة على لغة بلادها .
إن هذا الغرب المتعجرف لا يفهم إلا لغة القوة ولا يسمع إلا صوت الأقوياء .. ولقد كان حسن البنا – رحمه الله – كثيرا التمثل ببيتين لمصطفي صادق الرافعي وكثيرا ما كان يرددهما :
لو كل مزمار لهو عندنا خنث
- لنا به مدفع فنانه بشع
إذن لكانت لنا بين الورى لغة
- متى تقل قولها في العالم استمعوا
لقد استطاع حسن البنا بلغته العربية وحدها أن ينشر دعوته في أرجاء العالم الإسلامي وسالت أنهر الصحف في أوروبا وأمريكا بالكتابة عن دعوته , وأرسلت هذه الصحف مندوبيها للحصول على أحاديث منه , وعقدت المؤتمرات بين أساطين السياسة الأوروبيين والأمريكيين لدراسة هذه الأحاديث وتخصص الدارسون الأوروبيون والأمريكيون في دراسة دعوته , فحضروا إلى القاهرة وأقاموا بها شهورا , وحصلوا بذلك على الدرجات العلمية العليا في جامعاتهم . ولا زالت دعوته هذا وضعها في لجامعات الأجنبية كما أنها صارت عنصرا أصيلا يحسب حسابه ساسة أوروبا وأمريكا وروسيا حين يخططون لسياستهم في الشرقين العربي والإسلامي .. كل هذا قد تم دون أن يحتاج حسن البنا إلى التحدث بلغة غير لغته العربية .
ولقد أدي محمد صلي الله عليه وسلم رسالته التي قلبت موازين العالم كله , ولا زالت رسالته سارية حتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة .. دون أن يتحدث بغير لغته العربية ..
حقا .. لقد كان حسن لغز هذا الزمان وأعجوبته.. كان رجلا .. ولكنه كان أعلي من أهل زمانه فكرا , وأوسع منهم أفقا ,وأرحب منهم أملا .. لا تستعصي عليه معضلة مهما بلغ تعقدها , ولا تعجزه مشكلة مهما أظلمت جوانبها .. كان أقوي شكيمة , وأصلب عودا من أحداث الزمان , فهي لا تقوي على قهر نفسه مهما أدلهما ظلماتها , وأحاطت خطوبها وتفاقمت مصائبها .. فهو كالشعلة مهما نكستها تصوبت حتى تحرق اليد التي نكستها وتظل هي مشتعلة مصوبة .. انظر إليه حين يبدي شاعر الشبان المسلمين محمود جبر إشفافه عليه ,وتخوفه على حياته وقد تعاظمت الأحداث من حوله وأحاطت به من كل جانب قبيل استشهاده بأيام فيرد عليه مبتسما ويقول :
إني لأرنو إلى الأحداث مبتسما
- والبحر حين يري الأحداث يبتسم
وانظر إليه حين سأله وكيل قضاياه الدكتور عزيز فهمي المحامي- وكان هو الآخر وطنيا من فلتات الأيام – أين سلاحك ؟ فيجيبه : السلاح أخذوه والأخ الشقيق اعتقلوه .. فيبدي لدكتور عزيز جزعه وهلعه وبالغ ارتيابه وكأنه يقول له : وكيف تأمن على نفسك بعد هذا وتخرج من بيتك ؟ فيرد عليه متمثلا بما تمثل به في مثل هذا الموقف الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه :
أى يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
لقد حير حسن البنا أعداء الإسلام, فلم يجدوا في دعوته ولا في شخصه ولا في بنائه الذي شيده مغمزا يغمزونه منه , ولا ثغرة ينفذون منها فقرروا في شأنه ما قرره عتاة كفار قريش في شأن صاحب الدعوة الأولي صلي الله عليه وسلم ولكن صاحب الدعوة الأولي كان قد تكفل لله عزوجل له بقوله ( والله يعصمك من الناس ) (المائدة:67) .
الباب الخامس الدعوة في مهب الرياح
- • الدعوة تنبت من جديد
- • شبهة خطرة ماكرة
- • عقبات من أولي القوة.
- • شبه تثار حول المرشد العام الجديد .
الفصل الأول الدعوة تنبت من جديد
ظلت الدعوة بعد اغتيال الإمام الشهيد عامين كاملين بغير مرشد عام.. وهذه الفترة هي التي اخترنا لها عنوان هذا الباب , لأنها كانت فترة حرجة امتازت بسمات خاصة وكانت الدعوة في خلالها في مهب الرياح.. وهذه الفترة هي التي كان أعداء الإسلام يعولون عليها في أن تنتهي بالإخوان إلى التشتت والتناحر والزوال – فإذا تذكرنا خطتهم الإجرامية التي قدموها بين يدى هذه الفترة حكما – بحسب التقدير البشري – بنجاح تخطيطهم ويزوال الدعوة الإسلامية من الوجود – ولكن هذه الدعوة متصلة بالخالق الذي تكفل لها بالبقاء " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . أنهم لهم المنصورون . وأن جندنا لهم الغالبون " فإنها خيبت آمال أعدائها , وأفسدت عليهم حساباتهم وخلق الله لها من الأسباب ما لم يدر بخلدهم ولم يخطر ببالهم .
فوجئ المخططون بعد سقوط عبد الهادي بأن الدعوة أخذت تلم شعثها من جديد وكان شيئا مما حدث لها لم يحدث وبدأت تزاول نشاطها بحيويتها التي هي سمة من سماتها , ولم يعد ينقصها إلا مرشد عام يقودها, وإلا دورها التي اغتصبتها الدولة .
كانت هذه أول تجربة لهؤلاء المخططين الصغار , ومن ورائهم أصحاب المسرح – المخططون الكبار – الذين يباشرون دورهم – في عجلة الزمن الدائرة –في تخطيط العالم بالصورة التي يريدونه عليها .. وهي صورة مشوهة المعالم كريهة المنظر لأن أسس تخطيطها أسس جشعة دنيئة نابعة من المطامع والاستغلال .. والهدف منها هو إخضاع العالم تحت أقدامهم – ولعلهم بهتوا حين رأوا الإخوان المسلمين بعد أن طحنوا في سجون الظلم وتحت كلاكل الإرهاب يخرجون ويتجمعون ويعيدون الكرة دون تأفف أو ضجر ودون ذكر لما أصابهم أو شكوى مما ألم بهم .
ولعل فشلهم هذا فيما خططوه جعلهم يعيدون النظر في هذه الخطط بحثا عن مواطن الضعف فيها ليتلافوه فيما بعد.
وقد هيأت مجموعة القيادة المؤقتة في ذلك الوقت رابطتين يتجمع الإخوان حولهما هما :رابطة الكلمة المسموعة ورابطة لكلمة المقروءة – إذ قلنا "هيأت " فإن في هذا القول بعض التجاوز لأن التهيئة إنما كانت في حقيقة أمرها هداية من الله وتوفيقا , لا تدرى كيف هيئت وكيف تمت ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ) ( يونس :9)
• رابطة الكلمة المسموعة :
كان الإخوان – المطلقو السراح منهم والمفرج عنهم من المعتقلات – في فترة الفراغ هذه دائبي البحث عن شئ يجتمعون حوله , ويكون بمثابة معلم يأتون إليه من كل صوب ... ولما كانت هذه الدعوة تحمل حيويتها في نفسها ومعالمها هي جزء منها لا ينفصل عنها , فإن هذا المعلم الذي تطلع إليه هؤلاء الإخوان كان قريب المنال , فإن بيوت الله هي معالم هذه الدعوة لا تنفصل عنها ولا يحاول فصلها إلا ظالم ولأمر ما كان قوله تعالي ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) ( البقرة : 114) .. ولذا كانت بيوت الله في كل مكان هي مثابتهم .
ولو أن ما تعرض له الإخوان من القهر والإرهاب تعرض له أصحاب الدعوات الأخرى ذات الأفكار البشرية لزالوا من الوجود , لأن وجودهم مرهون بمكان يجمعهم فإذا زال المكان زالوا ,وإذا طال عليهم الأمد نسوا أنفسهم ونسيهم غيرهم .
ولما كانت القاهرة قلب البلاد, فكان لابد من مثابة القاهرة وما أكثرت بيوت الله فيها .. لكن المثابة التي يتطلع الإخوان إليها لا يكفي أن تكون بيتا من بيوت الله دون أن يكون فيها لسان رطب بذكر الله , مردد لكلمات الله , مناد بحكم الله , حتى يؤدي هذا البيت دوره الذي يرتضيه صاحبه جل ذكره .. ولم يحرم الله دعوته من هذا اللسان الرطب . وهذا الصوت الجهوري , فقد كان ممن أفرج عنهم أخ كريم وداعية واع مؤمن, هو الأخ الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي, الذي كان صداح الدعوة في مسجد المنيرة الذي صار كعبة الإخوان في القاهرة , لا يفد إليه الإخوان من أنحاء القاهرة فحسب , بل يفدون إليه من أنحاء القطر كله .
كانت صلاة الجمعة في هذا المسجد مؤتمرا إسلاميا جامعا يحيي موات القلوب ويبعث في النفوس القوة والحياة وكانت خطب الشرباصي شواظا من نار يلهب ظهور محترفي الإجرام من الحكام ويفضح جرائمهم ..حتى إذا قضيت الصلاة رأيت الألوف من المصلين يعانق بعضهم بعضا , ويقبل بعضهم بعضا ثم تري الإخوة المسئولين في القاهرة يتعرفون أحوال إخوانهم في الأقاليم من مندوبين يفدون كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة ولسماع الشيخ الشرباصي وللقاء إخوانهم الوافدين من الأقاليم الأخرى , ثم لقاء الإخوة المسئولين في القاهرة وتبادل الأنباء وتلقي التعليمات .
إنه مسجد واحد وليس من أكبر مساجد القاهرة ولا أشهرها ولكنه كان في دعوة الإخوان المسلمين معلما من أعظم معالمها وقد أدي في خلال هذه الفترة دورا خطيرا...
ولولا أن الطغمة الحاكمة كانت قد استغرقت جهدها كله حتى لم يبق منه شئ لأطبقت على هذا المسجد من كل جانب وبطشت بخطيبة وأغلقته بالشمع الأحمر , لأنه كان غصة في حلقها وصداعا مستمرا في رأسها وتحطيما متجددا لأعصابها ,وعنوان فشل وإخفاق لسياستها وجهودها , وبرهانا على خطأ نظرياتها وتصوراتها .. كان البوليس السياسي يحيط بالمسجد, ويحاول الاندساس بين المصلين.. ولكن لأن دعوة الإخوان أساسها التآخي, والتآخي أساس التعارف فكل أخ يعرف إخوانه , فكان رجال البوليس في هذا الوسط المتعارف مفضوحا أمرهم .
• رابطة الكلمة المقروءة:
أما الكلمة المقروءة ففي الوقت الذي كانت تؤدي ذلك فيه مجلة " المباحث القضائية " التي استأجرها الإخوان لإصدارها في خلال هذه الفترة , ورأس تحريرها الأخ الأستاذ صالح عشماوي وظلت تصدر من أول يونيو 1950 حتى 23 يناير 1951 – في هذا الوقت نفسه .. تطوعت جريدة " منبر الشرق " للأستاذ على الغاياتي أن تكون لسان حال للإخوان ومعبرة عنهم في خلال هذه الفترة العصبية .. والأستاذ على الغاياتي مجاهد قديم من الرعيل الأول الذين فهموا معني الوطنية – في بلد محتل – على أنها تضحية وفداء , فلم يبخلوا بشئ في سبيل بلادهم , فواجه بقلمه الحر صنيعة المستعمر الجالس على العرش مواجهة ألقت به في غياهب السجن , فكان بذلك من شباب الحزب الوطني الذين جعلوا لهذا الحزب في التاريخ ذكرا , وخرج على الغاياتي من مصر مطاردا وهو شاب ورجع إليها وهو شيخ . ويبدو أنه حين رجع إلى مصر أخذ يبحث عن ميدان يواصل فيه جهاده فلم يجد إلا رجالا وراء أسوار السجون والمعتقلات ديست كرامتهم بالنعال .. ولكن بنعال من ؟ إنها بنعال من قال فيهم المتنبي –كما قدمنا :- وإذا أتتك مذمتى من ناقص فهي الشهادة لى بأني كامل
كان الذين هم وراء الأسوار هم طلبته التي كان عليه أن ينتظرها حتى إذا لاح بصيص ضوء تلقاهم بالترحاب تلقي الحبيب لحبيب طال غيابه .
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا
ووضع نفسه وجريدته في خدمة الدعوة المضطهدة المطاردة وهو يعلم أنه يراهن ماديا على الفرس الخاسرة , فالإخوان أفقر الناس جيبا,وأبغضهم إلى رجال المال والأعمال الذين كانوا إذ ذاك صنائع المستعمر . فمن أين لجريدة وضعت نفسها في خدمة هؤلاء المضطهدين أن تجد لنفسها إيرادا ؟ ومع ذلك رضي الرجل كل الرضا , بل كان يحس بسعادة غامرة أن تحقق له – وإن كان في آخر أيامه – أمل طالما راوده الاشتياق إليه .
وقد أنشأ جريدته هذه " منبر الشرق" في جنيف عام 1922 وخصصها " للدفاع عن الشعب الناهض " وجعل شعارها بيتين من قصيدة له كتبهما وجعلهما ملازمين لاسم الجريدة وهما :
باسم الكنانة باسم شعب ناهض
- لا باسم أحزاب ولا زعماء
كل يزول وينقضي إلا الحمى
- فوديعة الآباء للأبناء
لعبت "منبر الشرق " هذه دورا أساسيا في ربط الإخوان بعضهم ببعض , وأبرزت صورتهم ,وأسمعت الرأي العام الداخلي والخارجي صوتهم.. وأخذ " على الغاياتي" رحمه الله يدبج بقلمه مقالات ينتصف فيها للدعوة المظلومة من ظالميها , ويهاجم الظلم الحكومي والإرهاب ولكن بأسلوب الرجل المؤمن الثائر المجرب الحريص على أن يظل هذا اللسان قائما بمهمة الدفاع عن الحق دون توقف , راضيا بما يحيث به من خسائر مادية , متغاضيا عما يوجه إليه من إنذارات حكومية تتهدد جريدته وشخصه .
هذا وقد ظلت " منبر الشرق " بجانب " المباحث القضائية " هما الكلمة المقروءة للإخوان حتى أصدر الإخوان في 30 يناير 1951 مجلة خاصة بهم هي " مجلة الدعوة ".
الجو السياسي خلال هذه الفترة
وقعت جريمة حل الإخوان المسلمين وما سبقتها من مقدمات وما تلاها من مؤامرات في أثناء حملة حزب الوفد على الإخوان حملة وصفنا طرفا منها . وكان المتوقع أن يواصل الوفد حملته بعد أن أوقع بالإخوان ..ولكن الذي حدث كان غير ذلك, إذ أمسك الوفد عن مهاجمة الإخوان وتوقف عن حملته عليهم , ولست أدرى ما الذي دفع الوفد إلى اتخاذ هذا القرار .. أهو النبل أم هو دافع آخر ؟ ولا زال الدافع إلى ذلك سرا لا يعرفه كان الدافع إليه .. ولقد كان لهذا الموقف أثره حين أجريت انتخابات عامة سنة 1950 جاءت بالوفد إلى الحكم .
• لماذا غير الملك موقفه ؟
ولابد في هذا المقام من إثارة موضوع هام هو الانقلاب الذي أتقلبه الملك على أنصاره السعديين في أيام حكم زعيمهم إبراهيم عبد الهادي ثم تدرجه في إسناد الحكم إلى أشخاص ممن يسمون بالمستقلين وإن كانوا يدينون له بالولاء حتى انتهي في تدرجه إلى الوفد .. ما السر في هذا الانقلاب المفاجي ؟ أهو كشفه أن السعديين خونة ؟ أهو أمر جاءه على سبيل النصيحة من الإنجليز؟ أهو اعتقاده أن الإخوان المسلمين – وقد صاروا من غير قيادة – أصبحوا جماعة لا يخشي بأسها ؟ أهو مراجعته نفسه حين فعل بالإخوان ما فعل واغتال مرشدهم – ثم رآهم بعد ذلك كله قوة متماسكة لم ينل من قوتها كل ما فعل – وهو أقصي وأقسي ما يستطيع أن بفعل – فأراد التقرب إليهم ملصقا كل ما اتخذه ضدهم من إجراءات ظالمة بالسعديين الذين طردهم من الحكم شر طردة ,مدعيا أنهم خانوه بما فعلوا بالإخوان ؟
قد يكون السر واحدا من هذه الفروض أو هو خليط مما حوته هذه الفروض .. ولكن الأرجح هو ن الفرضيين الأخيرين قد غره أولهما فتعلق به وظل متعلقا به حتى وجد نفسه بعد غير كثير من الزمن وجها لوجه أمام الفرض الأخير .
• لماذا غير الوفد موقفه ؟
أما من ناحية الوفد نفسه فموقفه من الإخوان في هذه الفترة يستحق البحث والتمحيص. فهو بعد أن تولي الحكم نكث بوعوده للناخبين وجرب أسلوب التحدي مع الإخوان في صورة قانون تنظيم الجمعيات وأسلمته تجربته إلى الفشل فنبذ هذا الأسلوب وأخذ التقرب والتصالح ..
فهل نسي الوفد أنه قبل سنتين كان قد أعلن الحرب على الإخوان حربا لا هوادة فيها , ولا ترعى إلا ولا ذمة ؟... ما هذا التطور الذي طرأ على سياسة الوفد إزاء الإخوان ؟ ما هي المهادنة ؟
صحيح أن فؤاد سراج الدين كان ينتهج سياسة تتسم بشئ من التجديد والمرونة وكان هدفها أن يحتوى ما يستطيع احتواءه من الأشخاص والحركات واستطاع أن يحتوى فعلا بعض الهيئات التي كانت موجودة إذ ذاك في الحقل السياسي . فهل كان اتجاه سراج الدين نحو الإخوان المسلمين هو نفس الاتجاه وبنفس الهدف ؟ إذن يكون أشبه بالفأر الذي يحاول أن يبتلع قطا بل نمرا .. ومثل هذا لا يخطر ببال رجل عاقل مثل سراج الدين مهما اتسع أفق آماله.. ولكن الذي أرجحه هو أن سراج الدين كان واقعيا , حين قيم الإخوان حق التقييم فرآهم على حقيقتهم التي أثبتتها الأحداث – سلمها وحربها -.... رآهم هيئة ذات عقيدة في قلوب معتنقيها أثبت من الجبال الرواسي , وأن هذه الهيئة من القوة الذاتية بحيث لا تقهر وأن كسب ودها أنفع له ولحزبه من معاداتها وقطع الحبال بينه وبينها .
وكان الصراع الحزبي حافزا لجرائد الوفد أن تسيل أنهارها بالكتابة عن الإخوان وما لا قوة على يد السعديين من اضطهاد وتعذيب . وكانت المادة التي تعتمد عليها في ذلك قضايا الإخوان التي كانت في ذلك الوقت تعرض على القضاء وتتكشف عن مخازي حكومة السعديين .. وقد أنشأ الوفد في ذلك الوقت جريدة أسبوعية سماها " الجمهور المصري " كان رئيس تحريرها أبو الخير نجيب وتكاد تكون هذه الجريدة قد خصصت لهذا الموضوع. وكان لها تأثير عميق في نفوس الناس الذين كان محولا بينهم وبين معرفة الحقائق طيلة عام أو أكثر .
• حيرة :
لست أدرى حتى الآن هل كان حسن البنا – رحمه الله – مؤسس هذه الدعوة ومرشدها العم – يعتقد أن ستكون نهاية حياته في هذه الدنيا على الصورة التي انتهت عليها , وأن ستكون النهاية قريبة إلى هذا الحد حيث انتقل إلى جوار ربه ولما يبلغ الخامسة والأربعين ؟
إنه كان كثير التبصير للإخوان في مواقف كثيرة بما ينتظرهم من أوقات عصيبة يحال فيها بينه وبينهم .. وبأهوال سيخوضونها مع أهل الباطل .. ويدعوهم إلى الصبر والثبات حيث العاقبة لهم . ولكن ذلك التبصير والحيلولة بينه وبينهم .. هل كان يتصورها على الصورة التي تمت بها حيث صارت حيلولة مفاجئة ليست كحيلولة السجن والاعتقال ؟
إن ثقة حسن البنا في الله كانت ثقة لا حدود لها . فلم يكن يهاب الموت ولا يرهبه وقد كانت لى معه تجربة في هذا الصدد في أوائل أيامنا بالدعوة أشرت إليها في الجزء السابق وقد أذهلتني هذه التجربة لأنني لم أكن أتصور إنسانا يستهين بالموت كما رأيته يستهين به ويقدم عليه.. ولكن هل معنى هذا أنه كان يتوقع أنتكون نهاية حياته على الصورة التي انتهت بها ؟
لا أعتقد لأنه لو توقع ذلك لأعد للإخوان ما يعينهم على اختيار من يخلفه.. وهو الإنسان الذي يخطط للمستقبل – بإلهام من الله وتسديد – كما يخطط للحاضر الذي بين يديه .. ولا تجد في تخطيطه ثلمه تنفذ منها إلى الخطأ , ولا تعثر على خطوة أخرها يتبين أن الخير كان في تقديمها , ولا على خطوة قدمها يتبين أن الخير كان في تأخيرها فهو المسدد دائما كما جاء في قوله تعالي ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) ( الأحزاب :70).
فمثله لو أنه توقع لخطط للاستخلاف أو على الأقل لأنار لمن بعده الطريق ..فإذا أضفت إلى ذلك كله شدة حرصه على دعوته , فهي عنده آثر من أبنائه وأحب وأقرب ..
والمرء حين يتوقع لنهاي يوصي أبناءه أو يوصي بأبنائه .. ولو أن رضي الله عنه توقع لأوصي أبناءه في الله ولأوصي بهم.
ولكنه – رحمه الله وعوض العالم فيه خيرا – مع ما كان يعرفه عن أعداء الدعوة من سوء الخلق وموت الضمير , فإنه لم يكن يجردهم من الإنسانية أو يضعهم في مصاف الوحوش الكاصرة بل كان دائم الأمل في أن يستطيع في يوم من الأيام أن يحرك بقية من إنسانية في نفوسهم لعلها توقظ ضمائرهم فيستجيبوا إلى ما ينفعهم .. وقد جرب نفسه مع كثيرين من كبار الأشقياء وعتاه المجرمين فاستطاع بفضل الله أن ينقلهم من حضيض الضلال إلى سماء الهدى والنور وأن يجعل منهم أبطالا يحمون ذمار الحق وأئمة يهدون بأمر الله .
ما كان يغيب عنه رحمه الله أن تكون نهايته كنهاية سابقيه من أصحاب الدعوات أمثال ابن تيمية والأفغاني وكثيرا ما كان يردد ذكرهم ويذكر نهايتهم وهو سعيد بهذه الشهادة التي هي أمل كل مؤمن ..ولكن النهاية التي انتهت بها حياة هؤلاء الرجال لم تكن كالنهاية التي انتهت بها حياته .. كان يتصور أن يعتقل وأن يسجن وأن يطول اعتقاله وسجنه ويتصور أن تلفق له تهمة ليتخلص منه فيقدم إلى القضاء ويؤتي بشهود الزور ويحكم عليه بالإعدام .. كل هذا يتصوره وكان يتوقعه .. ولكن هذا كله وأعنف منه لم يكن ليحول بينه وبين أن يستخلف أو يشير بشئ يعين على اختيار من يخلفه .. لم يكن الرجل يحسن الظن بخصوم الإسلام , ولا يهون من كيدهم ومكرهم ولكنه كان يعتقد مع ذلك أن ستكون لديه الفرصة الكافية لوصية تنير الطريق ..
لكن النهاية جاءت مخلفة كل ظن, مناقضة لكل تصور , مباغتة للعقل والمنطق والقياس والنظر بل والخيال أيضا ..لم تكن لها سابقة تقاس عليها ولم يحدثنا التاريخ عن مثيل لها حتى كنا أدخلناها في خيالنا , ولكنها كانت نسيج وحدها وأعجوبة زمانها بل وزمان غيرها .. ولا ننكر أن الظلم كان موجودا في كل زمان وكل مكان, وأن الطغاة والظالمين لم يخل منهم زمان ولا مكان . ولكن هؤلاء كانوا إذا ارتكبوا جريمة القتل ضد أعدائهم ارتكبوها جهرا وعلانية كما كان يفعل الحجاج بن يوسف الثقفي, أو كانوا يستغلون القضاء , أو أن يسجنوا عدوهم حتى يموت في السجن مثلا .. أما أن تقوم الحكومة بجميع سلطانها بدور المتآمر الذي يبيت الجريمة في خفاء ويحاول الاستخفاء في الظلام, وتقتل عدوها الأعزل غيلة وقد أعطته الأمان .. فهذا ما ليس له في التاريخ مثيل وهذا عار قد يأباه حتى الطغاة المستبدون .
على أى حال .. فإن الجريمة وقعت .. وكان خروجها عن المألوف وبعدها عن تصور العقل وتخيل الخيال حائلا بين الرجل وبين أن يعين من بعده فيما كان هو بغير شك حريصا على إعانتهم فيه .. وهذا هو ما جعلهم في حيرة من أمرهم .
• قيادة مؤقتة :
كان التصرف الطبيعي وقد غاب قائد الدعوة أن تتصدي لقيادتها المؤسسات التي كانت تعاونه في القيادة وهي مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية ..ولما كان أكثر أعضاء هاتين المؤسستين في المعتقلات , فقد تولي هذه المهمة الأعضاء الذين أطلق سراحهم ثم صار ينضم إليهم من يطلق سراحه . وقد باشر هذه المهمة منهم الأعضاء المقيمون في القاهرة خير قيام , وكانوا يتخذون من منزل الأخ الكريم الأستاذ منير الدلة مكانا لاجتماعاتهم . وينبغي أن نشير هنا إلى الدور الذي أداه الأخ الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان عضوا بمكتب الإرشاد العام والذي كان الأستاذ الإمام رحمه الله يخصه بكثير من الحب مع ما كان يعرف من شطحاته .. كانت ظروف الباقوري – التي أشرت من قبل إلى طرف منها – قد أعفته من أن يعتقل أو أن يحجر على حريته , وكان ذلك نافعا للدعوة في هذه الظروف العصيبة .
فهيئة قيادة الدعوة في خلال تلك الفترة كانت مجموعة من الشباب , متقاربة لسن, متقاربة الثقافة, متقاربة لمنزلة الاجتماعية , ليس لها من الخيرة نصيب ذوبال إذا قيس بما كان لقائدهم منها ..وقد ترك القائد الدعوة وهي في أحرج مواقفها .. في موقف لا تحسد عليه أخطاء من داخلها أعطت لأعدائها سلاحا بتارا
أغمدوه في ظهرها,وأحقاد من حكام هذا البلد استغلها من الخارج دول كانت تتربص بهذه الدعوة الدوائر..
وقد استطاعت هذه القوى الداخلية والخارجية أن تشوه وجه الدعوة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي..وهذا أسلوب أخطر على الدعوة من أسلوب القتل والاعتقال والسجن والتشريد .. وهو ما سوف نتناوله بالحديث والمناقشة في فصل قادم إن شاء الله .
• تياران:
إذا كانت الدعوة الإسلامية بعد قائدها الأول صلي الله عليه وسلم – مع أنه قبل اختياره الرفيق الأعلى قد أنار لمن بعده الطريق إلى حد ما – قد تعرضت لتيارات متناقضة متعارضة كادت تعصف بها ولولا لطف الله وحصافة أبي بكر وعمر ومع إيمان كان لا يزال غضا يعمر القلوب .. كان هذا والناس بعد قريبو عهد بالوحي ينزل بينهم .. فما بالك بالدعوة نفسها بعد ثلاثة عشر قرنا وقد حالت الظروف دون أن ينير قائدهم لهم الطريق لاستخلاف من يلي الأمر فيهم ؟... إنهم لمعذورون إذا اختلفوا وتضاربت آراؤهم وتوزعهم الآراء والاتجاهات .. ولكنهم مع ذلك قد عصمهم الله , وربط على قلوبهم فلم يطف على سطح هذا الخضم الملاطم إلا التياران اللذان انتابا الدعوة الأولي .
• التيار الأول – أولو القربي :
أول ما يتبادر إلى أذهان الناس عادة أن أحق الناس بخلافة قائد دعوة ما بعد وفاته هم أهله وعشيرته ..وقد يكون الأهل والعشيرة أشد الناس إيمانا بهذه النظرية باعتبارها حقا شرعيا كالميراث الشرعي في المال , لا سيما إذا كان منهم من كان في طليعة العاملين في الدعوة ومن ذوى السابقة والبلاء فيها ..وإذا ما أخطأهم الاختيار وأسند الأمر إلى غيرهم اعتبروا ذلك هضما لحقوقهم وتخطيا لرقابهم .
وكان من أكرم العاملين في دعوة الإخوان وذوي السبق والبلاء فيها اثنان من أهل الأستاذ الإمام رحمه الله وعشيرته هما الإخوان عبد الرحمن الساعاتي ( البنا) وعبد الحكيم عابدين – الأول شقيقه والآخر زوج شقيقته أما عبد الحكيم عابدين – بما يغلب عليه دائما من صيغة صوفية نشأ في أحضانها منذ صغره – فقد كان عازفا عن ذلك وأعلن أنه لا يؤمن بهذه النظرية من حق ذوي القربي .. وأما الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي – بما كان يغلب عليه من تشيع لأهل البيت رضوان الله عليهم ومن مغالاة في هذا التشيع – فإنه رأي نفسه ورآه آشقاؤه وبعض أهله وعشيرته أحق الناس بمكان أخيه وشقيقه في الدعوة .. ومع أن الأستاذ عبد الرحمن كان يري هذا الرأي ويعلنه فإنه لم يرفع راية العصيان في وجه الجماعة حين رأت غير رأيه . وإن كان بعض من لا دور لهم في الدعوة قد شغبوا فلم يجدوا أذنا واحدة صاغية .
• التيار الآخر – أولو القوة :
ولم يكن بروز هذه الفئة من رجال الدعوة في المطالبة بهذا المنصب بدعا فقد وقف أمثالهم بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم يطالبون بأن تكون الخلافة فيهم .. والأنصار في الرعيل الأول من الدعوة الإسلامية إنما هم الفئة التي بايعت على حماية الدعوة وحماية صاحبها بالسيف من أى اعتداء عليها ..وقد كان إخواننا العاملون في – النظام الخاص " في دعوة الإخوان يرون أنفسهم يمثلون فريق الأنصار رضوان الله عليهم في الرعيل الأول .. ولذا فقد رأوا أنفسهم أحق الناس بأن يكون صاحب هذا المنصب بترشيحهم .
وقد رجع الأنصار بعد قليل إلى إيمانهم , واقتنعوا بأن دعاءهم هذا الحق هو نوع من النكوص في بيعتهم التي لم تكن الدنيا ولا لمناصب غايتها ولا هدفها فنزلوا – راضين على ما استقر عليه رأي المسلمين في اختيار أبي بكر رضي الله عنه وسمعوا له وأطاعوا .. أما إخواننا هؤلاء فقد اتخذوا موقف نتناول الحديث عنه بعد قليل إن شاء الله .
الفصل الثاني شبهة خطرة ماكرة
يتشعب التخطيط الدولي في حبك المؤامرات تشعبا عجيبا فبينما يهيئ أسبابا للإيقاع بين الهيئة لتي يتآمر عليها وبين حكومة بلدها فتضربها الحكومة بكل قوتها لتشتت شملها وتضغضغ قوتها , مما قد يرضي أعداءها من بين فئات الشعب – يتجه التخطيط في الوقت نفسه إلى محبي هذه الهيئة والمتعاطفين معها من بين فئات الشعب فيلقون بذور الشك في نفوسهم تجاه الهيئة بأسلوب يحار اللب فيه ويدل على براعة أولئك المخططين , وعمق تفكيرهم وواسع درايتهم بالخصائص النفسية للأمم التي يخططون لها .
وإذا كان الإيقاع بين الإخوان وبين الحكومة قد أسفر عن تضحيات وخسائر لمسها القارئ في سياق الأبواب والفصول السابقة , فإن إصلاح ما أفسده الإيقاع أمر يسير متدارم تكفلت به أحكام القضاء – أما إلقاء بذور الشك في نفوس محبي الإخوان والمتعاطفين معهم بالأسلوب البارع الذي يتسرب إلى النفوس دون أن تشعر كيف تسرب إليها بحيث يجدون أنفسهم وقد تغيرت نظرتهم إلى الإخوان المسلمين فبعد أن كانوا سعداء بهم مفاخرين بقيادتهم , مباركين خطواتهم.. إذا بهم وقد صاروا متشككين في توفيق قيادتهم مرتابين في أهدافهم معترضين على تصرفاتهم .
إن الأسلوب الذي بث به التخطيط الدولي الشك في نفوس صالحي المسلمين في كل بقاع الأرض لم يتعرض لدعوة الإخوان المسلمين بذم ولم ينتقص من قيمة الإخوان وتفانيهم وشجاعتهم ولكنه يقرر – آسفا حزينا متحسرا على هذه الهيئة العظيمة – أن قيادة الإخوان قد تسرعت في خطاها أخيرا إذ تعجلت قطف الثمرة قبل تمام نضجها, بتدخلها في السياسة . فحدث لها مع الحكومة ما يحدث لكل متعجل .. ولو أنها صبرت وتركت السياسة في ذلك الوقت لأربابها لما حدث لها ما حدث ..
ونجح هذا الأسلوب أيما نجاح ,وغزا العقول والنفوس والقلوب , فكنت لا تسمع من أقرب الناس للإخوان إلا هذه النغمة من العتب الشديد , واللوم اللازع والتقريع العنيف .. لماذا تسرعتم ؟.. لماذا تعجلتم ؟.. لقد أضعتم الدعوة وقضيتم عليها بهذا ما كدنا نخرج من محنتنا التي عصرتنا عامين كاملين حتى فوجئنا بأهلينا وأصدقائنا باستقبال حافل باللوم والتقريع فكن هذا الاستقبال أشد على نفوسنا من كل ما لقينا في محنتنا .
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة
- على النفس من وقع الحسام المهند
وخطورة هذا الأسلوب أنه أفقدك ثقة الناس فيك .. وأنك مضطر – لكي تستعيد ثقتهم - إلى أن تبدأ محاولات لإقناعهم من جديد .. وقد يكون إقناع خلال الأذهان أيسر من إقناع أمثال هؤلاء ..ولهذا فقد كان نجاح المتآمرين في بث الشك في النفوس عقبة كأداء أمامنا – نحن دعاة الإخوان – في تلك الفترة الحرجة وكان علينا أن نذللها قبل كل شئ حتى نسوى الطريق بين يدي الدعوة لتنطلق فيه إلى سابق مسارها ..
ولا شك في أن محاولة إخراج شعب من أميته في شئون الحياة , وتبصيره بما يدبر له أمر من أشق الأمور , فإذا كانت هناك عوامل قوية دائبة النشاط مهمتها أن تعمل على إحباط هذه المحاولة – فإن نجاح المحاولة يحتاج إلى أضعاف لوقت وأضعاف الجهد. وقلما تصل المحاولة إلى نهايتها إلا إذا كان المحاول مستميتا لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلا .
وكان هو هذا حال الإخوان مع هذا الشعب المسكين الذي طال رقاده , وطال أمد تشربه أفاويق الخداع والتضليل, فبات وعلى بصره أسداف من الغشاوات كلما رفع الإخوان غشاوة وجدوا تحتها آخري, فلما صاروا قاب قوسين أو أدني من كشفها جميعا, أطفأ حكام مصر الأنوار وتركوا الشعب يعيش في ظلام دامس, فهو يسمع ولا يري – وبتكميم أفواه الإخوان بإلقائهم خلف الأسوار لم يعد الشعب يسمع إلا نعيق هؤلاء الحكام, وما زيفوه عليه من أنباء, وما قلبوه من حقائق , وملأوا به سمعه من أكاذيب ومفتريات .
سنة كاملة اعتقلت خلالها الألسنة ,اجمت الأفواه وحطمت الأقلام . ولم يعد الشعب المصري والعربي والإسلامي في أنحاء العالم يسمع أو يقرأ إلا تهما تختلق وأكاذيب تنمق, حتى شك المؤمنون في إيمانهم , وارتاب الناس في أقرب الأقربين إليهم وسرت موجة الشك هذه في أوساط الأمية الإسلامية , فأخذت تعيد النظر في تقييم الإخوان ودعوتهم ومدى التزامهم بأهداف الدعوة ووسائلها على ضوء الشكوك والريب التي تسربت إلى نفوسهم .
صار أقرب الناس إلى الإخوان يعتقدون أن الإخوان قد اعتسفوا الطريق وتسرعوا فخرجوا عن الجادة وعزوا ما ووجه به الإخوان من ظلم وقهر وأذي إلى أنه جزاء وفاق للتسرع والتعجل.
وإذا سألت أحد المعتضرين عما يراه خروجا من الإخوان عن جادة دعوتهم أجابك قائلا : إنهم تدخلوا في السياسة فإذا سألته إذن فماذا كنت تريدهم أن يفعلوا ؟ قال : كان عليهم أن يكتفوا بالدعوة إلى العبادات والأخلاق .. وأن يرجئوا ما سوى ذلك إلى وقت آخر... فإذا ما سألته : ومتى يأتي هذا الوقت الآخر ؟ ارتج عليه واعتصم بالصمت , لأنه قد وصل إلى طريق مسدود.
• دحض هذه الشبهة :
ولما كانت هذه الشبهة المضلة مما تتعرض له الدعوة على مر الأيام حين تصطدم مع هوى الحاكمين , فقد رأينا أن نتصدي لها فكريا مستمدين أسلحة هذا التصدي من صميم الفكرة الإسلامية ومن واقع الحياة العامة التي تعمل فيها هذه الفكرة باعتبارها دعوة : فتقول :
أولا – أن الإخوان منذ اليوم الأول لقيام دعوتهم كانوا يقدمون دعوتهم للناس , ويحرصون على إبراز معنى شمول الإسلام لكل نواحي الحياة من عبادية واجتماعية واقتصادية وسياسية وأن الإسلام دين ودولة ..وإبراز هذا المعنى الشمولي للإسلام كان هو الدافع الوحيد لقيام حسن البنا بالدعوة ..وإلا فما كان هناك ما يدعو لقيامه , فقد كانت مصر وغيرها من الدول الإسلامية تعج بالجمعيات والهيئات التي تدعو إلى الإسلام ولكن بمعناه المبتور ..وتحت يدنا مطبوعات كنا نوزعها على طلبة الجامعة في عام 1936 تدعو بأصرح عبارة إلى نفس ما كان يدعو إليه الإخوان في أعوام 1946, 1947, 1948.
ثانيا – أن الإخوان يوم قرروا النهوض بأعباء الدعوة إلى الإسلام بمعناه الشامل كانوا يعرفون أن إبراز الإسلام بمعناه الشامل لن يرضي المستعمر ولا تابعيه من الحكام لأن ذلك سيحد من سلطتهم ويقضي على أطماعهم .
ثالثا – أن حسن البنا لتيقنه من ذلك كان حريصا على أن يطمئن هؤلاء الحكام بين الفينة والفينة وفي مختلف المواقف إلى أن الإخوان ليسوا طلاب حكم , ولكنهم أصحاب فكرة يقدمونها إلى الحكام المنتسبين إلى الإسلام ليحكموا على أساسها , وسيكون الإخوان في هذه الحالة في ركابهم , وعلى حد قوله :" يغسلون على أيديهم "... وقد وصل في حرصه على طمأنة الحكام إلى ذلك أن أعلن في المؤتمر السادس – وكان الإخوان في أوج قوتهم أن الإخوان ليسوا أعداء الملك , وإنما هم أصحاب دعوة في الحكم بها إنقاذ البلاد وصلاح العباد.. يتقدمون إليه بها لتكون دستور الحك. واستشهد رحمه الله في ذلك بقول الإمام مالك بن أنس : لو كانت لى دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان فإنه إذا صلح صلح بصلاحه خلق كثير.
رابعا – أن الإخوان حين أعلنوا شمول دعوتهم من أول يوم حتى آخر يوم لم ينقصوا من شمولها شيئا ولم يزيدوا عليه شيئا .. إلا أن صوتهم في هذا الإعلان كان متناسبا في درجة إسماعه للآخرين مع ما وصلوا إليه من قوة , فليس صوتهم في الأسماع وهم مئات كصوتهم وهم ألوف وليس صوتهم وهم ألوف كصوتهم وهم عشرات الألوف هكذا .
وكلما ازداد صوت التحذير قوة صار أشد إزعاجا للصوص وهم يسرقون في هدأة الليل وسكون الظلام ..وقد يدعو هذا اللصوص إلى انتضاء السلاح ..وإذا بلغ بهم الإزعاج كل مبلغ تركوا المتاع الذي يسرقونه وتفرغوا أولا للقضاء على مصدر الإزعاج ليباشروا بعد ذلك سرقاتهم في أمان واطمئنان .. مع علمهم بأن هذا المصدر لا يهدف من وراء إزعاجهم إلى فوزه بنصيب مما يسرقون – وقد كان يسعدهم أن يشركوه معهم لو كان في إشراكه ما يقنعه ويوقفه عن الإزعاج – ولكنهم تيقنوا من أن هدفه الوحيد من وراء الإزعاج هو إيقاظ أصحاب المتاع للحيلولة دون سرقة متاعهم .
هل كان أمام الإخوان مندوحة تعفيهم من المسئولية أمام الله والناس والتاريخ إذا هم تعاموا عما يرون وادعوا الصمم عما يسمعون , وسكتوا لتتم السرقة تحت سمعهم وبصرهم..إن أيسر الطرق أمامهم كانت هي هذه الطريق , أن يسكتوا ..ولكن ليست أيسر الطرق دائما هي الطريق القويم ... نعم لقد أثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ..ولكن أليس السكوت في هذه الحال إثما ؟... إنه إثم كبير لا حدود لكبره ..
ثم أين تجد هذه الآية الكريمة من يحققها في مثل هذه الحال حين يقول الله تعالي :
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)( أل عمران: 104) إذا لم يلبها الإخوان وهم الذين قاموا من أول يوم يدعون الناس إلى تحقيق هذا الأمر الإلهي .... أحين يجد الجد, ويصبح السكوت إهدارا لحقوق الشعب في الحرية والاستقلال . ينكصون على أعقابهم ويعتصمون بالصمت ويلجأون في تبرير نكوصهم إلى أضاليل يغشون بها الناس فيحق عليهم قول الله تعالي : (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون .كبر مقتا عند الله أن تكون أن تقولوا مالا تفعلون ) ( الصف : 2,3) ؟!
خامسا- أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كان أعرف الناس كيف يضع الشئ في موضعه أو كما يقولون " يضع الهناء مواضع النقب "... لم يكن رحمه الله ممن يرمون بالتسرع في أية مرحلة من مراحل الدعوة , بل إنه كان لشدة توخيه الأناة, ولشدة حرصه على أن يقدر لرجله قبل الخطو موضعها – كان منافسوه يرمونه بإيثار العافية , وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في الحديث عن " الإخوان ومصر الفتاة " وفي الحديث عن بعض مواقفه مع حزب الأحرار الدستوريين وحزب الوفد..
وما كانت " الفتنة الأولي " التي أفضنا في الحديث عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب , والتي كادت تستأصل الدعوة من جذورها وفقدت الدعوة من جرائها عددا كبيرا من أكرم الإخوان .. ما كانت إلا احتجاجا على التباطؤ في خطوات الدعوة والتقاعس – في عرفهم – عن العمل الجرئ الشجاع الذي كانوا يصرون عليه ..ولقد أشار الأستاذ الإمام إلى ذلك وقرر استمساكه بهذا الأسلوب مهما رمي بالضعف والتخاذل , ومهما خرج عليه الخارجون . فقال في المؤتمر الخامس الذي عقد بعد هذه الفتنة بأكثر من سنتين " أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحسمون المتعلجوان منكم: اسمعوها منى كلمة داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع – إن طريقكم هذا مرسومة خطواته , موضوعة حدوده ,لست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول .. أجل .. قد تكون طريقا طويلة . ولكن ليس هناك غيرها – وإنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب . فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال . وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيره من الدعوات – ومن صبر معي حتى تنمو البذرة , وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله , ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة ".
أفمثل هذا الرجل يرمي أخيرا بالتسرع الذي هو ليس من طبيعته ,وليس من دأبه , بل ويتعارض مع ما جبل عليه من الأناة والحرص والحذر والمرونة وبعد النظر وحسن التقدير ولكن ما ذنب الحمل إذا كان الذئب قد قرر افتراسه فادعي أنه عكر عليه ماء البحر الذي لا يعكره ألف حمل ؟..
سادسا – لقد كان حسن البنا – رحمه الله – أبخل الناس بدم الإخوان ووقتهم – وفي مواقف كثيرة كان يتصرف فيها تصرفا يصادم عواطف الإخوان, حيث كانوا يرون في أنفسهم القوة الكافية لقهر الموقف ..ومع ذلك يرونه يتفاداه.. وكان يشرح لهم خطته التي تتلخص في أنه أضن الناس بقطرة من دم الإخوان أو بدقيقة من وقتهم ما لم يكن ذلك أمرا لا مفر منه .. لكن ما دام أمامه مندوحة لتفادي ذلك فسيتفاداها مهما رمي بالضعف والمسالمة .. فهل إنسان كهذا يرمي بالتسرع وتعجل النتائج ؟
سابعا – كان من المأثور عنه في خطبه العامة وفي دروسه الخاصة أنه كان يقول:
نحو الإخوان ليس هدفنا نصرة الإسلام ,وإنما هدفنا الحصول على رضا الله عزوجل . ولولا أن الحصول على رضا الله عزوجل هو في نصرة الإسلام لما عملنا على نصرته .
إنسان هذه عقيدته وهذا هدفه,عقيدة وهدف استبعدا كل ما يحجب صاحبهما عن وجه ربه من بريق لحلاوة النصر أو تطلع إلى العلو في الأرض فهو لا يرى دائما إلا وجه ربه الكريم .. ومن علامات اعتصام إنسان بمثل هذه العقيدة أنك تراه مهم وأتته الظروف , وأفسحت له الأيام من سعتها , ثابتا على ما ألزم به نفسه من أول يوم من عيشة الكفاف والبعد عن الرفاهية والمتع ..وهذا الرجل كان يعيش في آخر عهده بالحياة الدنيا – وقد صار أتباعه بمئات الألوف وصار اسمه تهتز له العروش , وصار يجري بين يديه مئات الألوف من الجنيهات – نفس عيشة الكفاف التي كان يعيشها وهو شاب مجهول لا يعرفه أحد ولا يجري بين يديه إلا اثنا عشر جنيها هي مرتبة في الشهر .
ولو كان الرجل يميل إلى الاستمتاع بالمال أو يتشوف إلى الاستئثار بالسلطة لكان أمامه مندوحة فكل ذلك كان متاحا له ما لم يكن متاحا لرئيس حكومة ولا لملك ..ولكنه رحمه الله كان يؤثر عيشة الكفاف ويزهد في السلطة ويري سعادته في الجلوس بين إخوانه على الأرض , يؤاكلهم أخشن الطعام ,ويلبس أخشن الثياب وأرخصها ثمنا ويبادلهم الرأي كأحدهم ولا يحملهم على رأيه بل يحاول إقناعهم بالحجة والبرهان – مع أنه لو أمر لسارع الجميع إلى طاعته ولكن شهوة الحكم والتسلط لم يكن لها في نفسه مكان .
وكان إذا سافر من بلد إلى آخر ركب في الدرجة الثالثة من القطار , مع أن الذين ينتظرونه على محطة الوصول أكثر عددا ممن ينتظرون رئيس حكومة والذين يودعونه عند العودة مثل مستقبلية عددا والكل مدفوع إلى ذلك – لا خوفا من بطش ولا أملا في غنم بل حب وتقان وإخلاص وإيمان .
فهل مثل هذا الإنسان يرمي بالتهالك على مظاهر الحكم والتعجل في الجرى وراء المغانم ؟!
• من واقع الأحداث:
قد تكون النقاط السبع الماضية التي ناقشنا فيها هذه الشبهة الزائفة تجنح المناقشة في أكثرها إلى الناحية النظرية مما يتصل بطبيعة الفكرة وخصال الداعية الذي كان يقود مسيرتها ويرتاد لها الطريق . ونري أن إتمام المناقشة يقتضي أن نشفع ذلك باستنطاق الأحداث البارزة التي شغلت أكثر الوقت من الفترة التي هي موضع العتب ,ومحل اللوم, ومثار الشبهة ومبعث الأقاويل .
ومع أن هذه الأحداث قد ناقشناها من قبل في مواضعها على أوسع نطاق فإننا هنا وفي هذا السياق نمل مناقشتها على ضوء الشبهة المفتراه فنقول: • المواقف التي أبرزت الإخوان في المجتمع الدولي :
يمكن إجمال المواقف التي أبرزت الإخوان في المجتمع الدولي في هذه الفترة في ثلاثة مواقف :
- (أ) موقفهم من ثورة اليمن .
- (ب) موقفهم من حرب فلسطين.
- (ت) موقفهم من تطورات الأحداث في مصر.
لا نري داعيا لإعادة القول في اليمن وطريقة حكم الإمام يحيي فيه والحياة التي كان يعيشها الشعب اليمني التي جعلت كتاب للغرب الذين زاروا اليمن في ذلك الوقت يقولون أن اليمن يعيش في عهد ما قبل الثورة.. فهل إذا قام أحرار من مثقفي أهل اليمن بثورة على هذه الأوضاع التي يأباها الإسلام وتنفر منها الإنسانية وقد بايع الشعب هؤلاء المثقفين – واستغاث هؤلاء المثقفون بالإخوان باعتبارهم الهيئة الإسلامية المستنيرة التي تدعو إلى الحكم الإسلامي الصحيح , ويطلبون منها معاونتهم في إرساء حكم إسلامي في بلادهم - وهم حكومة بيدهم مقاليد الأمور- فهل يتنكر الإخوان لدعوتهم ويتقاعسون عن إعانتهم وهم أقدر الناس على هذه الإعانة ..وهم لم يطلبوا من الإخوان جيشا ولا أسلحة وإنما طلبوا منهم تأييدا معنويا , ومعاونة بالرأي في تدبير الأمور على أساس من النظام الإسلامي ؟
وينبغي هنا أن يتذكر القارئ ما جاء في ختام رسالة " نحو النور " التي بعث بها الإخوان في عام 1937 إلى حكام الدول الإسلامية وأصحاب الرأي فيها إذ يقول الإخوان " وبعد .. فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها ,وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة إسلامية نحو الرقي والتقدم نجيب النداء , ونكون الفداء , ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا , والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل ".
لقد كان الإخوان مخيرين بين أمرين لا ثالث لهما إما أن يستجيبوا لطلبهم وفي ذلك إرضاء لله ورسوله وإنقاذ لشعب مسلم مغلوب على أمره , وفي ذلك أيضا تجاوب مع دعوتهم وصدق لما عاهدوا الله عليه , وإغاثة الملهوف هي أدني ما يطلب من المسلم للمسلم بل من المسلم لأي ملهوف .. هذا لإنقاذ فرد .. فما بالك إذا كانت الإغاثة لإنقاذ شعب بأسره ؟.... وإما أن يقعدوا عن إجابة طلبهم ,ويتخاذلوا عن إغاثتهم – كما فعلت الجامعة العربية والمسيطرون عليها في ذلك الوقت – فيكون في ذلك ما يثبت للناس وللإخوان أنفسهم أنهم كانوا كاذبين في ادعائهم حمل لواء الدعوة الإسلامية .
ولو أنهم فعلوا ذلك لفقد الناس ثقتهم فيهم ,ولفقد الإخوان ثقتهم في أنفسهم, وقضوا بذلك على الدعوة الإسلامية بتقاعسها عن إجابة أول نداء وجه إليها وفشلها في أول تجربة تعرضت لها .. والقضاء الحقيقي على أية فكرة أو دعوة – كما قدمنا – هو القضاء عليها في نفوس الناس ..وكل الخطوب تهون أمام هذا الخطب .
- • موقف الإخوان من حرب فلسطين :
وقد لا يحتاج الإخوان إلى من يجادل عنهم في هذا الموقف ولا إلى مزيد بيان , فإن هذه الحرب لا تزال هي موضوع الساعة في مصر وفي البلاد العربية وفي العالم كله..
وإذا كان تطوعهم للدفاع عن فلسطين واستبسالهم في الذود عنها قد أظهر للعالم بطولات قلما يجود الزمن بمثلها وصارت حديث الأعداء قبل الأصدقاء ..وإذا كان ذلك قد أحنق حكاما وأصحاب عروش في قلوبهم مرض , فنظروا إلى هذه البطولات نظرة حقد وضغينة.. فما ذنب الإخوان في ذلك وهم يؤدون واجبا ما تخلفوا عن أدائه يوما من الأيام ؟
على أن المجد الذي اكتسبه الإخوان من هذه الحرب لم يكن هو هدفهم يوم تطوعوا لها وتركوا وظائفهم وأعمالهم وبيوتهم وتجارتهم وأولادهم ..وإنما كان هدفهم أداء الواجب , وتحقيق أمل طالما تعشقوه وهو أن يحوزوا شرف الموت في سبيل الله .
وإذا كانت هذه الحرب لم تحقق ما كان يأمله كل عربي ومسلم من تحرير الأرض المقدسة من دنس الصهيونية وكانت الهزيمة لأسباب لم يكن للإخوان يد فيها , ولم يكن في استطاعتهم دفعها , فإن تقدم الإخوان الصفوف قد هز مشاعر المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية وأحرج صدور المستوزرين وأصحاب السلطة والنفوذ في الحكومات العربية .
وعلى المعترضين على تطوع الإخوان في فلسطين – ناسبين كل ما حدث من تألب أصحاب النفوذ في العالم عليهم إلى بروزهم في هذه الحرب – على هؤلاء المعترضين أن يتعرضوا تاريخ هذه القضية , وكيف استطاع الإخوان أن ينقلوها من عالم المجهولات في أوائل الثلاثينات إلى قمة المعلومات في أواخر الأربعينات ...وما كانوا ليحققوا ذلك بالجلوس في بيوتهم ونواديهم وإرسال الحسرات على فلسطين وأهلها كما كان يفعل أخلص المخلصين من غير الإخوان.
ماذا كان يريد اللائمون أن يكون موقف الإخوان إزاء هذه القضية غير ما كان لهم من موقف ؟.. هل كانوا يريدونهم أن يقفوا موقف الجبن والتخاذل خوفا من أن يزداد الملك وذيوله والمستعمرون من ورائهم حقدا عليهم ؟... إنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي حفر لنفسه قبرا ووأد نفسه فيه خشية أن يراه أعداؤه ومنافسوه فيحقدوا عليه ويحسدوه .. ولكن الإخوان قد استجابوا لنداء الواجب ووطنوا أنفسهم على تلقي ضربات الحاقدين موقنين بأن لكل تضحية ثمنا في الدنيا والآخرة وبأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين .. فضحوا بأعز ما يملكون , فأحيت هذه التضحية قضية فلسطين حياة لن تموت بعدها .. أحيتها في ضمائر جيل يورثها الأجيال من بعده ..وأحيت الفكرة الإسلامية وخلدتها بحيث صارت واضحة في نفوس الناس وعقولهم وبحيث صارت الثقل الراجح في ميزان السياسية العالمية.. وعن طريق هاتين تمخض تاريخ هذه البقعة من العالم عن أحداث جسام لا زلنا نعيش حتى اليوم في حلقة من حلقاتها .
وقد جلينا الكثير من هذا الموقف وأفضنا في الحديث عنه من قبل , ونستطيع الآن أن نوجزه إذا تصورنا أن محاور هذه الأحداث كانت ثلاثة هي الإنجليز والملك والأحزاب. أما الإنجليز فقد كان الإخوان يعلمون أنهم أصل البلاء وأنهم من وراء كل فساد وإضلال وخيانة ومحاولات للقضاء على القيم وطمس معالم الدين كما كان الإخوان يعلمون أن الإنجليز من أقدر الناس على بث الدسائس وحبك المؤامرات.. فكانت سياسة الإخوان قائمة على أساس من الاستخفاء بالدعوة طالما هي في مهدها , حتى لا تتنبه لها عيون الإنجليز فتقضي عليها قبل أن ترى نور الحياة , فلما شبت الدعوة واشتد عودها انتبه الدس الإنجليز لأول مرة فرأوها في طور لا يسهل إقتلاعها فيه , فلجأوا إلى أساليب أخرى من الدس والوقيعة والضرب بيد الغير , ولكن الإخوان كانوا في يقظة فلم تفلح مكايد الإنجليز ولم يستطيعوا أن ينالوا من الإخوان نيلا يوقف تيار دعوتهم أو يحد من مدها الغامر .
وهنا فوضوا صديقهم المقرب في ذلك الوقت – أمين عثمان باشا وكيل وزارة المالية – في الالتقاء بالمرشد العام . وبناء على طلب أين عثمان تم اللقاء وكان لقاء في منتهي الوضوح والصراحة من الجانبين. فقال أمين عثمان : أن الإنجليز قوم عمليون . فهم قد خدعوا بقيام دعوة الإخوان في غفلة منهم وقد أصبحت هذه الدعوة امرا واقعا لا يمكن تجاهله .. فهم يريدون أن يتفاهموا مع هذه .. فماذا يريد الإخوان ؟ وكان رد الأستاذ البنا هو أن الإخوان ليسوا طلاب حكم , ولا هواة مناصب ,وإنما هم أصحاب فكرة لهم برنامج محدد. وليس هذا البرنامج من وضعهم حتى يستطيعوا أن يعدلوا فيه أو ينقصوا منه أو يزيدوا عليه – لأنه من وضع الله خالق الكون .. وشرح الأستاذ البنا هذا البرنامج بإيجاز . وقال لأمين عثمان : أنك بلا شك قد لاحظت أن هذا البرنامج لا يهدف إلا إلى إصلاح الناس وخير الإنسانية ,وأنت باعتبارك مختلطا بالإنجليز سمعتك تقول إنهم يريدو الخير والإصلاح , فماذا يضيرهم أن تأخذ الدولة في مصر بهذا البرنامج ؟
ولما كان قصد الإنجليز من التفاهم هو التلويح بمناصب الحكم , باعتبار أن هذه المناصب هي أسمى ما يتطلع إليه الزعماء ,وأن مجرد بريقها والتلويح بها كاف لإسالة لعاب أعظم الزاهدين ... ولما كان الأستاذ البنا يفهم قصد الإنجليز, فقد جاء رده جامعا مائعا كما يقولون أو بمعني أدق جاء رده مؤئسا فلم يجد الإنجليز ثلمة يدخلون منها إلى البناء الإخواني ليخرجوه من داخله وهي الوسيلة التي يعلم دهاة الإنجليز أنها الوحيدة التي يمكن عن طريقها إحداث التخريب الذي يستحيل معه الإصلاح .. وكان هذا هو هدفهم من طلبهم التفاهم مع الإخوان .
ومنذ ذلك اليوم – وقد يئسوا من الحصول على فرصة تخريب الإخوان من داخلهم – وضع الإنجليز خطة جديدة على أساس الواقع الذي لمسوه – على حد القول السائر : ما لا يدرك جله لا يترك كله .. وإذ فاتتهم فرصة التخريب من الداخل..وهي الفرصة المثلي فلا يفوتهم قرص التخريب من الخارج , وإن كانت ليست حاسمة ولا قاصمة لكنها معرقلة ومعوقة... وقد استطاع الإنجليز عن هذا الطريق وضع العراقيل – كما شرحنا ذلك من قبل – في طريق مشروعي الجريدة اليومية و المطبعة وبأساليب التآمر الأخرى وأصروا على إبقاء جيش احتلال لهم في قلب القاهرة .. ورد الإخوان على ذلك كله بأعمال إيجابية أشرنا إليها أيضا مما اضطر الإنجليز أخيرا إلى سحب جنودهم من القاهرة إلى ثكناتهم الضخمة في القتال .. فتتبعهم الإخوان بغارات على هذه المعسكرات أشاعت القلق فيهم , وبثت الرعب في جنودهم وجعلتهم يشعرون لأول مرة أنهم مهددون غير مستقرين .. وهذا الشعور أوجد عندهم استعدادا للتفاهم على الجلاء..
ومن هنا يتبين أن النضال بين الإخوان وبين الإنجليز ليس وليد أعوام 1946, 1947, 1948 كما يعتقد كثير من الناس وإنما هو قد بدأ بصورة جدية في أوائل الأربعينات حين يئس الإنجليز من اصطياد الإخوان والإيقاع بهم في شرك مناصب الحكم التي أوقعوا فيه كل زعماء البلاد.. وكان النضال من جانب الإخوان في صورة نشر الوعي الوطني والإسلامي في جميع الأوساط الشعبية , في صورة توضيح القضايا التي تعاني منها الشعوب الإسلامية في أنحاء العالم ,وتجميع القوى الشعبية من ورائها , وفي صورة فضح أساليب الاستعمار البريطاني في المشرق العربي ,وأساليب المتابعة التي وضحناها من قبل .
أما نضال الإنجليز ضد الإخوان فكان في صورة دسائس ومؤامرات لا تكاد تفشل واحدة حتى تتبعها بأخري مستخدمة في ذلك صنائعها من حكام مصر .
فلما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945 وكانت الفرصة التي لا تعوض لمطالبة كل شعب بحقوقه المسلوبة ..وجاء دور المطالبة بحقوق مصر في الحرية والاستقلال انتظم الإخوان في صف المناضلين عن هذه الحقوق .
فهل كان يريد اللائمون أن يقف الإخوان من الإنجليز غير هذا الموقف ؟ هل كان على الإخوان أن يسالموا الإنجليز أو يهادنوهم ؟ وطبيعة الإنجليز التي وصفهم بها أحد كبار ساستهم أنهم إذا احتلوا بلادا لم يغادروها إلا إذا وجدوا أن خسائرهم فيها تفوق مكاسبهم منها ؟
إن الإخوان لو كانوا فعلوا ذلك لكانوا خونة لدعوتهم ولبلادهم ولكانت جريمتهم في ذلك تكون جريمة تاريخية يرويها التاريخ مثالا للجبن والنفاق والتخاذل والتفريط .
هذا ما كان من شأن الإخوان مع الإنجليز ... أما الملك والأحزاب – ولقد أشبعناهما من قبل درسا وتمحيصا – فإن إيجاز موقف الإخوان منهما يتلخص في أن الإخوان لم يقفوا منهما في يوم من الأيام موقف المهاجم لكنهما مع ذلك اعتبرا مجرد وجود دعوة الإخوان هجوما عليهما , على حد القول المأثور :" يكاد المريب يقول خذوني ".
وكم يكون جميلا من إخواننا الذين يعتبون على الإخوان أنهم تسرعوا .. أن يراجعوا صفحات التاريخ ,وليس هذا التاريخ ببعيد ثم يخبروننا : هل هاجم الإخوان الملك أو الملكية في جرائدهم أو في منشوراتهم أو خطبهم ؟ هل وجهوا إلى الملك شتما أو سبا أو أوعزوا إلى من يسبه كما فعل آخرون ؟... إن شيئا من ذلك لم يحدث , وما كان ليحدث من دعوة تقوم على عفة اللسان وطهارة القلب والجوارح.
كما أرجو أن يراجعوا صفحات التاريخ ليبحثوا هل هاجم الإخوان حزبا معينا ؟... إنهم لن يجدوا هذا الهجوم قط, لأن الإخوان دعاة بناء لا دعاة هدم.. كل جهودهم موجهة إلى توضيح فكرتهم لينضم إلى صفوفهم من يقتنع بها ..وكانوا يتمنون أن تقنع هذه الأحزاب بالفكرة الإسلامية فيكونوا عوامل بناء وإصلاح .. فلما يئس الإخوان من إقناعهم توجهوا بفكرتهم إلى أفراد الشعب فاستجاب لهم الكثيرون ..وقد اعتبرت الأحزاب هذه الاستجابة من أفراد الشعب إلى دعوة الإخوان هجوما عليهم .
فهل كان على الإخوان أن يصدوا الناس عن دعوتهم لإرضاء هذه الأحزاب ؟
وهل إذا آنس أحد السياسيين المحترفين في الإخوان قوة تحمى فالتجأ إليهم طالبا حمايتهم معاهدا على أنه حين يتولي الوزارة سيطالب الإنجليز بالجلاء , وإذا لم يستطع إجلاءهم فإنه يستقيل... هل إذا طلب مثل هذا السياسي الحماية من الإخوان على هذه الشروط يرفضونه ويتخلون عنه أم يمنحونه فرصة يتبين في خلالها صدقة من كذبه ؟... هذا ما فعله الإخوان مع إسماعيل صدقي .. ويوم تبين لهم أنه لم يف بما تعهد به وأنه يريد التشبث بأهداب الحكم وأرغموه على تركه .
هل يعد هذا مأخذا يواخذ به الإخوان والله تعالي يقول : ( ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ) ( النساء : 94) فالإخوان ليسوا طلاب مناصب ,ولا هواة سلطة ,وإنما هم من وراء كل من يعمل على تحرير البلاد من ربقة الاستعمار أيا كان هذا العامل .
ويعد.. فلعل هذه المناقشة السريعة قد أوضحت بأجلي بيان أن الإخوان حتى آخر يوم قبل الحل كانوا يسيرون في حدود الطريق الذي رسموه لدعوتهم منذ كانت مجرد أمل في النفوس و لم يحيدوا عن هذه الحدود ولم يقصروا عنها, ولم يقفزوا فوقها شبرا واحدا ولا قيد أنملة , وإنما كان التشكيك في هذا الالتزام هو من حبائل الشياطين ومكايدهم – شياطين الإنس الذين تفوقوا في دسائسهم ووساوسهم على شياطين الجن. ( وكذلك جعلنا لكي نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) ( الأنعام : 112) .
حتى أئمة الدعوة الإسلامية في أقاصي الأرض
حاصرتهم الشبهة اللعينة
كان هذا في النصف الأخير من عام 1950 حين يسر الله لى أن أؤدي فريضة لحج في رفقة والدي ووالدتي وسيدة كانت صديقة لوالدتي .
• من مشاهداتي في رحلة الحج.
وهنا أبيح لنفسي – قبل أن أواصل الحديث فيما نحن بصدده , والشئ بالشئ يذكر – أن أستطرد قليلا فأعرض على القارئ بعض مشاهداتي في هذه الرحلة المقدسة فأقول :
أن استعداد المسلم لأداء فريضة الحج , وتوفر كل أسبابه لديه, لا يكفي وحده لأدائها إلا أن يشاء الله .. فقد كنت أحد أفراد أول بعثة أوفدتها الجامعة المصرية في عام 1937 لأداء فريضة الحج, وقدمت إلى إدارة البعثة ما حددته من رسوم ,وأعددت كل ما يلزم الحاج في رحلته من لوازم , ولكن لم يشأ الله أن أؤدي الفريضة لسبب غاية في الغرابة ليس هنا مجال الإشارة إليه .
ولكنني في عام 1950 بعد أن أنهيت عملي في موسم القطن في الصعيد نزحت إلى بلدتي رشيد لقضاء فترة من أجازة الصيف , ففوجئت حين وصلت بوالدي وقد أعدا نفسيهما للحج, وطالبا أن أرافقهما فقبلت في الحال - وما كان لى أن أتخلف عنهما ..
غير أني باعتباري داعية من دعاة الفكرة الإسلامية لم يكن هدفي مجرد أداء الفريضة وإنما كان هدفي أبعد من ذلك مدى . فقد عزمت على استغلال هذه الرحلة المقدسة في دراسة المجتمعات الإسلامية التي تكاد تجتمع كلها في خلالها .
وكان السفر عن طريق البحر ..وقد رغبنا في حجز أمكنة لنا في الدرجة الثانية على السفينة , ولكن يبدو أننا تأخرنا في طلب هذه الأماكن فقد حجزت جميعا , ولم يكن بد من السفر في الدرجة الثالثة . وكان هذا متوائما مع هدفي الذي أشرت إليه .. ففي الدرجة الثالثة تستطيع أن ترقب القلة القليلة من أهل الدرجتين الأولي والثانية , وكذلك تختلط وتعيش مع الغالبية الغالبة وهم أهل الدرجة الثالثة الذين يمثلون جمهور الشعب بكل ما فيه .
وإلى القارئ بعض ما صادفني في هذه الدراسة:
أولا – بعد أن تقدمنا بطلب التصريح لنا بالحج , بلغني أن بعض المسئولين من رجال الإدارة يتقاضون رشوة في مقابل إدراج الطلب المقدم ضمن الطلبات المصرح لها..فساءني ذلك, وأعلنت أمام الناس أنني لن أدفع رشوة ولو أدى ذلك إلى سحب طلباتنا – ويبدو أن إعلاني ذلك بعث الخوف في نفوس المرتشين فمرروا طلباتنا دون رشوة .. ولعمرى إنها لكارثة أن يبدأ المسلم عبادته بارتكاب إثم عظيم .
ثانيا – لما كانت هذه هي المرة الأولي التي نقوم فيها بهذه الرحلة المقدسة ,فقد رأينا أن نستأنس بمصاحبة بعض ممن سبق لهم القيام بها من قبل , فتعرفنا على ثلاثة أشخاص من أهل الإسكندرية سبق أن حجوا ثلاث مرات ,وكانت تربطنا بأحدهم صلة نسب .
وقد أثبتت لنا هذه الرحلة أن الاختبار الصحيح الذي يكشف حقيقة الأصدقاء هو مرافقتهم في رحلة شاقة وطويلة , فإنك تسمع من أكثر الناس ما يثير إعجابك , وما يثلج صدرك .. حتى إذا جمعت بينك وبينهم رحلة شاقة سقطوا من عينك واحدا بعد الآخر , ولم يثبت في مكانه منهم إلا أقل القليل .. فهؤلاء الثلاثة الذين ملأوا الدنيا وعودا أنهم سيحملون عنا كل الأعباء طول فترة الحج تخلوا عنا من أول يوم أقلتنا وإياهم السفينة .
وقد ساءنا هذا لكنه عاد علينا بفوائد كبيرة , فإن تحمل المرء مسئولية نفسه يبعث فيه قوة يواجه بها المواقف ,ويجابه بها المشاكل وينتصر عليها ..وإن كان في ذلك اقتطاع من الوقت والجهد إلا أن الإنسان يشعر بلذة وسعادة تعوض هذا الوقت وتنسي هذه المشقة إذ يخرج بحصيلة من فهم للأمور , وكسب لأصدقاء وبث لأفكار .. وقد كان لى ذلك كله والحمد لله .
حتى أئمة الدعوة الإسلامية في أقاصي الأرض
حاصرتهم الشبهة اللعينة
كان هذا في النصف الأخير من عام 1950 , حين يسر الله لى أن أؤدي فريضة الحج في رفقة والدي ووالدتي وسيدة كانت صديقة لوالدتي .
• من مشاهداتي في رحلة الحج:
وهنا أبيح لنفسي – قبل أن أواصل الحديث فيما نحن بصدده ,والشئ بالشئ يذكر – أن أستطرد قليلا فأعرض على القارئ بعض مشاهداتي في هذه الرحلة المقدسة فأقول:
أن استعداد المسلم لأداء فريضة الحج , وتوفر كل أسبابه لديه , لا يكفي وحده لأدائها إلا أن يشاء الله . فقد كنت أحد أفراد أول بعثة أوفدتها الجامعة المصرية في عام 1937 لأداء فريضة الحج, وقدمت إلى إدارة البعثة ما حددته من رسوم ,وأعددت كل ما يلزم الحاج في رحلته من لوازم , ولكن لم يشأ الله أن أؤدي الفريضة لسبب غاية في الغرابة ليس هنا مجال الإشارة إليه .
ولكنني في عام 1950 بعد أن أنهيت عملي في موسم القطن في الصعيد نزحت إلى بلدتي رشيد لقضاء فترة من أجازة الصيف , ففوجئت حين وصلت بوالدي وقد أعدا نفسيهما للحج , وطالبا أن أرافقهما فقبلت في الحال – وما كان لى أن أتخلف عنهما .. غير أني باعتباري داعية من دعاة الفكرة الإسلامية لم يكن هدفي مجرد أداء الفريضة وإنما كان هدفي أبعد من ذلك مدى , فقد عزمت على استغلال هذه الرحلة المقدسة في دراسة المجتمعات الإسلامية التي تكاد تجتمع كلها في خلالها .
وكان السفر عن طريق البحر . وقد رغبنا في حجز أمكنه لنا في الدرجة الثانية على السفينة, ولكن يبدو أننا تأخرنا في طلب هذه الأماكن فقد حجزت جميعا,ولم يكن بد من السفر في الدرجة الثالثة . وكان هذا متوائما مع هدفي الذي أشرت إليه ... ففي الدرجة الثالثة تستطيع أن ترقب القلة القليلة من أهم الدرجتين الأولي والثانية, وكذلك تختلط وتعيش مع الغالبية الغالبة وهم أهل الدرجة الثالثة الذين يمثلون جمهور الشعب بكل ما فيه .
وإلى القارئ بعض ما صادفني في هذه الدراسة :
أولا – بعد أن تقدمنا بطلب التصريح لنا بالحج بلغني أن بعض المسئولين من رجال الإدارة يتقاضون رشوة في مقابل إدراج الطلب المقدم ضمن الطلبات المصرح لها .. فساءني ذلك, وأعلنت أمام الناس أنني لن أدفع رشوة ولو أدى ذلك إلى سحب طلباتنا – ويبدو أن إعلاني ذلك بعث الخوف في نفوس المرتشين فمرروا طلباتنا دون رشوة ..ولعمري إنها لكارثة أن يبدأ المسلم عبادته بارتكاب إثم عظيم .
ثانيا – لما كانت هذه هي المرة الأولي التي نقوم فيها بهذه الرحلة المقدسة فقد رأينا أن نستأنس بمصاحبة بعض مما سبق لهم القيام بها من قبل , فتعرفنا على ثلاثة أشخاص من أهل الإسكندرية سبق أن حجوا ثلاث مرات وكانت تربطنا بأحدهم صلة نسب .
وقد أثبتت لنا هذه الرحلة أن الاختبار الصحيح الذي يكشف حقيقة الأصدقاء هو مرافقتهم في رحلة شاقة وطويلة , فإنك تسمع من أكثر الناس ما يثير إعجابك ,وما يثلج صدرك.. حتى إذا جمعت بينك وبينهم رحلة شاقة سقطوا من عينك واحدا بعد الآخر , ولم يثبت في مكانه منهم إلا أقل القليل .. فهؤلاء الثلاثة الذين ملأوا الدنيا وعودا أنهم سيحملون عنا كل الأعباء طول فترة الحج تخلوا عنا من أول يوم أقلتنا وإياهم السفينة .
وقد ساءنا هذا لكنه عاد علينا بفوائد كبيرة , فإن تحمل المرء مسئولية نفسه يبعث فيه قوة يواجه بها المواقف , ويجابه بها المشاكل وينتصر عليها ..وإن كان في ذلك اقتطاع من الوقت والجهد إلا أن الإنسان يشعر بلذة وسعادة تعوض هذا الوقت وتنسي هذه المشقة إذ يخرج بحصيلة من فهم للأمور , وكسب لأصدقاء , وبث لأفكار ,.. وقد كان لى ذلك كله والحمد لله .
ثالثا – قطعت بنا السفينة المسافة بين السويس وجدة في ثلاثة أيام قضيتها – إلا فترات النوم – على ظهر السفينة اتصل بجميع الراكبين , أغشي مجالسهم , وأستمع إلى أحاديثهم وأنتقي منهم من أتوسم فيه الخير فأنتحي به جانبا , وأعقد معه ما يشبه الصداقة .
رابعا – كان أحد الذين انتقيتهم رجل فارع الطول , عريض المنكبين جهورى الصوت , مرهوب الجانب لكنني أحسست أن هذه الهيئة المتسمة بالعنف إنما تطوي على قلب سليم .. وحين جلست إليه أخبرني بإسمه الذي نسيته الآن وأخبرني أنه تاجر مواش من طنطا .. وفهمت منه أنه لا يعرف من أمور الدين شيئا وأنه يقوم بأداء الحج كما يقوم زملاؤه حتى لا يكون أقل مكانة منهم في نظر أهل بلده – وكانت صراحته معي دليلا عندى على أنه منطو على قلب سليم . وهذا الصنف من الناس هم كالخامة الثمينة ألقيت في القذر حتى تلوثت وطمس جمالها وشاهت وبدت بشعة مرذولة , تعافها النفوس فإذا وجدت من تحامل على نفسه , ويغالب اشمئزازه فيتناولها ويزيل ما عليها من القذر فإنه سيكشف عن حقيقتها ويبرز معدنها فتبدوا متألقة أخاذة .
وهكذا كنت مع هذا " الحاج" ما كدت أتحدث إليه في شأن الحج ومعانيه حتى أقبل عل , وتعلق بي إلى حد أنني كنت إذا غبت عنه بحث عني ليستمع إلي .. ولم أكن في كل مرة أطيل معه الحديث عملا بما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم من قولهم :" كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة "... وقبل أن تصل السفينة إلى الشاطئ في جدة – حيث يفترق الحجيج – عاهدني الرجل على التوبة.
خامسا – مكثنا في المدينة أسبوعين قبل الحج , وكانت دورة المياه الخاصة بالحرم النبوي منفصلة عنه ولكن مبناها قريب من مبني الحرم . ولم أكن دخلت هذه الدورة طول مدة إقامتنا بالمدينة فرأيت في آخر يوم أن ألقي نظرة على هذه الدورة – ودخلتها فإذا هي محتشدة – وبينما أنا واقف أقلب نظرى في الناس إذا بصوت ضعيف ينادي باسمي , وكأن الذي ينادي ينادي من قريب . ولما كان اسم " محمود " من الأسماء المنتشرة بين المسلمين ونظرت فإذا المنادي شخص لا أعرفه,فقد اعتقدت أنه ينادي شخصا عيرى .. وكرر المنادي النداء ولم أرد عليه , حتى رأيته يتجه نحوي حتي صار قبالتي, ومد يده إلى مصافحا فصافحته وأنا لا أعرفه . فقال : ألا تعرفني ؟ فلما رأي في وجهي علامة الاستغراب قال : أنا أعذرك في عدم معرفتك إياى فقد تغيرت تغيرا تاما .. إنني أنا فلان – فإذا هو صديقي تاجر المواشي غير أنه قد انتحل جسمه حتى صار جلدا على عظم , وشحب لونه , برزت عظامه ...فهالني ما به ولكنه سارع قائلا :
لا تحزن لما حل بي , فوالله أنني أسعد الناس بهذا .. فبعد أن افترقنا في جدة ودخلت المدينة, دخلتها وأنا عازم على التوبة ..ولم يمر على بعد ذلك يوم واحد حتى مرضت واشتد على المرض حتى فقدت وعي ويئس زملائي مني بعد أن بذلوا جهدهم في علاجي , وظللت أغالب سكرات الموت أياما , ويغمرني شعور بالسعادة أن ألقي ربي تائبا .. ولم تكن لى أمنية إلا أن أراك قبل أن أموت لأنك صاحب الفضل في هدايتي ..
ولكنني كنت يائسا من تحقيق هذه الأمنية .. وشاء الله أى أن أبرأ من المرض منذ يومين, فعزمت على أداء الصلاة في الحرم .. فإذا بأمنيتي تتحقق وألقاك الآن.
فقلت له : أبشر ذكرتني هيئتك التي أنت عليها الآن بالحديث القدسي الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ربه :" إذا مرض عبدي فلم يشكني إلى عواده, فلا بدلنه لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه " قال الصحابة :وما لحم خير من لحمه ودم خير من دمه ؟ قال : لحم لم يذنب ودم لم يذنب".
سادسا – قفلنا إلى مكة لنقيم بها حتى يحين موعد الحج, ونزلنا في منزل المطوف وهو منزل كبير به أكثر من خمسين حاجا من مختلف بلاد مصر .. فرأيت في خلال فترة إقامتنا هذه عجبا .. رأيت من هؤلاء الحجاج الذين حجوا المرات ذات العدد من يسبون الدين , ورأيت منهم من لا يؤدي الصلاة , ويقضون أوقاتهم في الطعام والشراب واغتياب الناس والتنابز بالألقاب والتباهي بعدد الحجات.
أما خارج بيت المطوف وفي شوارع مكة فقد كنت أري صعاليك المصريين يتطاولون على الحجاج الهنود ويسخرون منهم ويتغامزون عليهم ذلك أن الحجاج الهنود يأخذون بالطريق الأشد فيهلون – عند وصولهم من بلادهم لأول ميقات – يهلون بالحج ومعني ذلك أنهم يدخلون لأول حضورهم من بلادهم – مكة محرمين , ويظلون ملتزمين بشروط الإحرام مدة تزيد عن الشهر قبل أن يحل موعد الحج , فتطول شعورهم وتغظم لحاهم وتتشعث, وتتسخ ملابس إحرامهم – قاصدين بهذا التقشف والحرمان وجه الله .. فلا يكون من سفهاء المصريين الذين لا يفهمون معني الحج إلا التندر عليهم والسخرية منهم ورشقهم بألفاظ نابية .. وحتى الحجاج الهنود أو الماليزيون غير المحرمين – وملابسهم الوطنية تختلف عن ملابسنا – لا يسلمون من ألسنة الحجاج المصريين الجهلة فلقد كنت واقفا مع وكيل وزارة التعليم في باكستان اتحدث معه فمر بنا نفر من هذا الصنف أخذوا يستهزءون بالرجل ويضحكون منه معتمدين على أنه لا يفهم ما يقولون .
سابعا – كان أكثر همي منصبا على الاتصال بالحجاج من البلاد الإسلامية غير العربية لا سيما الباكستان التي كانت في ذلك الوقت دولة ناشئة لم يمض على إنشائها إلا نحو ثلاثة أعوام .. وقد أتيح لى الاتصال بحجاج باكستانيين من مختلف الطبقات وقد فهمت من لقائي معهم وحديثي إليهم عن حقيقة أحوال بلادهم ما لم أفهمه من قراءاتي ومطالعاتي في الصحف والمجلات . ومما كان يقربني إلى نفوس هؤلاء القوم من المسلمين غير العرب ويفتح لى قلوبهم أنني في خلال حديثي إليهم باللغة الإنجليزية كنت أصدع بالآية والآيتين من كتاب الله – باللغة العربية طبعا – فألمح في بريق عيونهم وتألق جبينهم حين يسمعونها كل معاني الإخوة والمودة والحب – وكان هذا مصداق ما حدثنا به أستاذنا الإمام – رحمه الله – مرجعه من حجته الأولي عام 1936 وأشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب من أن بقاء القرآن الكريم بألفاظه العربية صار هو الرباط الوحيد بين المسلمين في أنحاء الأرض مهما اختلفت ألسنتهم وتعددت ألوانهم وتباينت لغاتهم وهو الرابط الوحيد الذي أعيي المستعمرين بعد أن قطعوا أوصال الأمة الإسلامية ولم يبقوا منها على شئ .
ثامنا – لاحظت أن أكثر الذين يعزمون على أداء فريضة الحج يستعدون لذلك ويعدون لها كل ما يلزم الحاج من زاد وعتاد مادى فهو يحضر النقود التي يحتاجها السفر والانتقال والسكن وشراء الهدايا ويعد الملابس التي يرتديها هناك من زى عادي وملابس للإحرام وربما أعد لنفسه زادا من الطعام يكفيه طيلة الرحلة ..ولكن لا يخطر بباله أن يعد نفسه روحيا لهذه الرحلة المقدسة التي هي من أولها لآخرها رحلة روحية عبادية..
فأكثر الحجاج المصريين الذين قابلتهم لا يعرفون من مناسك الحج شيئا ويعتمدون في ذلك على من يسمون في مكة والمدينة " بالمدعين أو المطوفين " الذين يقودونهم لأداء المناسك كما يقاد القطيع .. ولكثرة عدد هذا النوع من الحجاج الذين يفدون إلى مكة وإلى المدينة أعتقد المطوفون الجهل في جميع الحجاج .
ولا أنسي أننا حين نزلنا من المدينة إلى مكة محرمين . دخلنا مكة في ساعة متأخرة من الليل فلما دخلنا منزل المطوف سألته عن الطريق الموصل إلى البيت الحرام فلم يرد على سؤالي ونادي على احد موظفيه وهو شاب يكاد يكون أميا وقال لى : سيروا خلفه ورددوا كل ما تسمعون منه . فأغضبني كلام الرجل وقلت له : يا سيدي لسنا جهلة حتى نحتاج كل ما تسمعونه منه فأغضبني كلام الرجل وقلت له : يا سيدي لسنا جهلة حتى نحتاج إلى مثل موظفك هذا وليعلم موظفك هذا أن مهمته تقتصر معنا على أن يدلنا على طريق البيت الحرام , أما المناسك وأما الأدعية فنحن أعلم بها منه .
تاسعا – لا زالت تطن في أذني حتى اليوم عبارة كررها والدي – رحمه الله – على سمعي مرات كثيرة في أثناء قيامنا بأداء مناسك الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي للجمرات .. تلك هي قوله لى : يا محمود أنا لم أندم على شئ كما ندمت على أن أجلت أداء هذه الفريضة حتى كبرت ووهن عظمي فإن الحج عبادة الأقوياء
عاشرا – عندما عاد الأستاذ الإمام – رحمه الله – من الحج أخذ يصف لنا المواقف التي وقفها ,وكان الموقف الذي أسهب في وصفه , وأطال الحديث عنه , وحلق بأرواحنا في سماء شعوره , موقف صعوده على جبل الرحمة بعرفات , حين أخذ يدعو ربه , ويبتهل إليه , ويستمطر فضله .. حتى قال لنا : إنني أحسست برحمة الله ورأيتها بعيني ولمستها بيدي ..
وقد وقع منا هذا الوصف إذ ذاك موقع الاستغراب .. فإننا لم نجرب في الأستاذ المبالغة ولا الادعاء ولكننا لم نتصور ما يقول ..ولهذا كنت شديد الشوق إلى رؤية هذا الجبل , وإلى صعوده وإلى مناجاة الله عزوجل والابتهال إليه وأنا على قمته ..
فلما انتقلنا إلى عرفة وقاربت الشمس الغروب , صعدت على هذا الجبل الصخري الوحيد في أرض عرفات الرملية المنبسطة الشاسعة حتى صرت على قمته وأخذت أدعو وأبتهل وألجأ إلى الله وأستمطر رحمته , وأرجو فضله حتى غمرني ما غمر الأستاذ رحمه الله ولمست ما لمس , وأحسست بما أحس به , ونعمت بما نعم به " وما رأي كمن سمعا".
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
• بيت القصيد:
الحادي عشر – وهو بيت القصيد فيما قصدنا إليه من عنوان هذا الموضوع ..
فبعد أن سعدنا بزيارة النبي صلي الله عليه وسلم بالمدينة المنورة استقر بنا المقام في مكة المكرمة قبل الوقوف بعرفة بنحو شهر استمتعنا في أوله أياما بما يطمح إليه كل حاج من ملازمة المسجد الحرام ودوام الطواف ثم ابتلينا بمرض أصاب الرفقاء جميعا سواي فكان على أن أقضي في تمريضهم طوال اليوم , فكنت لا أكاد أسعد بالصلاة في المسجد الحرام إلا صلاتي المغرب والعشاء.. واستمر هذا الحال حتى انتهي الحج ورجعنا إلى ديارنا .
وقد لاحظت في أيام متتالية بعد صلاة المغرب أن أفرادا من الحجاج يلقون دروسا ويلتف بعض الحجاج حولهم يستمعون لما يقولون ويتقدمون إليهم بالأسئلة في نهاية الدرس فيجيبون عليها . وكل محاضر يتخذ له عمودا من أعمدة المسجد يجتمع بالناس حوله .. ورأيت في ليلة من الليالي أن استمع إلى درس من هذه الدروس .وكان الذي يلقيه شابا هنديا يتكلم العربية الفصحي " وقد راعني ولفت نظري أن أسلوبه في الحديث وأهدافه التي يهدف إليها قريبة جدا من أسلوب الإخوان وأهدافهم .. حتى إذا انتهي من درسه أبدى استعداده للإجابة على أسئلة الحاضرين وسأله أكثر من واحد وأجابهم ثم تقدمت إليه بسؤال فالتفت إلى قائلا إنني لا أستطيع الإجابة على سؤالك هذا فرجائي أن نلتقي بعد صلاة العشاء لأقابلك بمن هو أوسع منى علما من إخواني ليجيبك على سؤالك وبعد صلاة العشاء قابلني الشاب المحاضر بشاب أكبر منه سنا , ذي لحية , يرتدي بزي العلماء الأزهريين وعرفني به وقال لى إنه أمير جماعتنا في فترة الحج . ودار الحديث بيننا طويلا ثم قال في نهاية اللقاء : يا أخي .. إن سؤالك هذا ينبيء عن أن السائل ليس شخصا من غمار المسلمين وإنما هو صاحب دعوة وإنسان له دراية وتاريخ ولسنا جميعا هنا إلا تلاميذ لا ينبغي لنا أن نتصدي لمناقشة أساتذة ..وسيحضر أستاذنا الأكبر في يوم كذا ( حدده) إن شاء الله , وسنقدمك إليه لتناقشا معا – ثم طلب إلى أن أقوم بإلقاء درس كما يقومون , فاتخذت لى عمودا وصرت ألقي درسا حوله كل ليلة .
وفي إحدي الليالي بعد انتهائنا من صلاة العشاء أخبروني بأنهم سيقومون برحلة دعوة في صباح اليوم التالي إلى ضاحية من ضواحي مكة تسمى " وادى فاطمة " وطلبوا إلى أن أرافقهم فاعتذرت بالظروف التي أشرت إليها آنفا . وسألتهم عن وادي فاطمة هذا فقالوا : إن سكان هذه الضاحية – بالرغم من مجاورتها لمكة – خلاة الأذهان عن أبسط قواعد الإسلام , حتى إن كثيرين منهم يعتقدون أن محمد صلي الله عليه وسلم هو الإله . وقالوا – عن تجربة لهم سابقة في هذه الضواحي – إن أهل هذه الضواحي في أمس الحاجة إلى ما ينشر الإسلام بينهم كأنهم من أهل الفترة .
• السيد أبو الحسن على الندوي
وفي الليلة التي تعرفت على أمير الجماعة أعطاني مجموعة من الرسائل المطبوعة. وقال لأى أنها من وضع أستاذهم وهي رسائل صغيرة الحجم لا تعدو الواحدة منها بضع ورقات . وقد طالعت هذه الرسائل فوجدتها قريبة الشبه برسائل الإخوان في الأسلوب والهدف والروح , منها رسالة بعنوان " الإنسانية وأصدقائها " وأخري بعنوان " بين الصورة والحقيقة " وثالثة بعنوان " معقل الإنسانية فزادني ذلك شوقا إلى لقاء هذا الأستاذ.
لا سيما وقد لمحت في أتباعه وتلامذته روح الإخوان فهم مجموعة من الشباب طلاب الجامعات في الهند يتدفقون حماس وإيمانا ..
وفي اليوم المحدد لحضور " الأستاذ " بادرت بالذهاب إلى المسجد للالتقاء به ..وحين أقبل رأيت شابا في سن الأستاذ الإمام رحمه الله ذا لحية غير كثيفة يرتدى بعباءة سوداء وهو نحيل الجسم , يبدو عليه آثار السهر والجهد وطول العبادة ومع كل هذا ينبثق من بين عينيه شعاع من نور وذكاء وفطنة وقد استقبلني بالعناق , ثم صعدنا إلى طابق علوي( كان يتصل بالمسجد في تلك الأيام بيوت من عدة طوابق أبوابها من داخل المسجد يسكنها المجاورون وبها مكتبة المسجد الحرام ومرافق أخرى )في بيت من البيوت المتصلة بالمسجد . وكان الإخوة تلامذة الأستاذ قد صفوا مقاعد في ردهة فسيحة وامتلأت الردهة , ووقف السيد أبو الحسن على الندوى فتحدث بالعربية الفصحي حديثا رائعا كدت أحس معه أنني أستمع إلى حسن البنا فهو يستشهد بآيات القرآن في مواقعها لا يتلعثم .. يتدفق تدفق القلب المفعم يفيض من أحاسيسه على سامعيه .. إنسان ملك الإسلام عليه لبه فقرأ القرآن وحفظه وتغلغل في بحار معانيه وتشربته نفسه حيث صادف قلبا ذكيا ودرس التاريخ الإسلامي والأدب العربي فتسمعه كما كنت تسمع حسن البنا ينشد من الشعر القديم البيت أو البيتين فكأنما يضرب أوتار قلبك .
وبعد انتهاء خطابه قام جميع الحاضرين فصافحوه وانصرفوا لكنه استبقاني ثم جلسنا معا هو وأنا وحدنا دون أحد من تلاميذه وأخذنا في الحديث فقال لى : إن إخواني حدثوني عنك حديثا فهمت منه من أنت فقلت له : وماذا فهمت ؟ قال : فهمت أنك من قادة الإخوان المسلمين في مصر . فقلت : نعم .. قال إننا في الهند كنا نتابع الإخوان في مصر , ونعتبرهم قيادة وأملا , وقد كنت حريصا على أن ألتقي بالأستاذ البنا للتعارف ولإيجاد صلة بين حركتنا في الهند وبين الإخوان في مصر ولكن الظروف الأخيرة وما حدث للإخوان في مصر كان صدمة لنا .
قلت : وما رأيكم في هذه الأحداث ؟
قال : إن الإخوان تسرعوا, وما كان لهم أن يتسرعوا وهذا التسرع هو لذي أوردهم هذا المورد وحرم العالم الإسلامي من أعظم هيئة كان يعقد آماله عليها .
فقلت : لقد كنت حريصا أن أسمع منك هذا الكلام وإذا كان هذا الذي تقوله يقوله المقيمون في مصر فما كان لإنسان بعيد كل البعد عن مصر ولم تتح له فرصة واحدة للالتقاء بالإخوان – إلا أن يتكلم بما وقع عليه بصره في الصحف أو قرع سمعه في الإذاعات وكل هذا المقروء والمسموع هو من طرف واحد ..وإذا كان المقيمون في مصر لا يكادون يعرفون حقيقة ما جري في بلادهم فأنتم – وبيننا وبينكم آلاف الأميال – معذورون ألا تعرفوا حقيقة ما يجري في بلادنا .
ثم أخذت أشرح له أطوار الدعوة في مصر وحقائق المواقف بها وناقشت معه كل موقف منها .. ثم أخذ هو يشرح لى أسلوبهم في الدعوة في الهند وأنه أسلوب هادئ ولا يمضي يوم إلا ويدخل في الإسلام عشرات ومئات من غير المسلمين – فقلت له : إن وضعكم في الهند لا يقتضي أكثر من ذلك , لأنكم أقلية وسط أكثرية من غير المسلمين أما الإخوان في مصر فهم مسلمون في بلد مسلم , ثم إن هذا البلد هو طليعة البلاد الشرقية والإسلامية عل الإطلاق ..وطال الحديث بيننا حتى انتهي باقتناع الرجل يعد أن تكشفت له الحقائق التي طمسها المغرضون .
وبعد أن استعرضنا معا أحوال العالم الإسلامي واتفقت وجهتا نظرنا إزاء كل مشكلة من مشاكله .. رأيت في الرجل من صفات القيادة الإسلامية ومؤهلاتها ما قد يندر وجوده ولم نكن بعد في مصر قد انتهينا إلى رأي في هذا الموضوع – فعرضت عليه فكرة ترشيحه لمنصب المرشد العام للإخوان المسلمين فشرح لى وجهة نظره في هذا الموضوع شرحا مستفيضا وهي تدور حول النقاط التالية :
- أنه غريب عن مصر ,وليس ملما بأحوال أهلها ولا بظروف الحكام ولا المحكومين .
- أن الظروف الحاضرة في مصر لا تسمح لرجل مثله باقتحامها.
- أن الدعوة في الهند في أمس الحاجة إلى قيادة بل إلى أكثر من قيادة لاتساع رقعة البلاد وكثرة الناس .
- أن انتقاله إلى مصر في مثل هذه الظروف ربما كان ذا أثر سئ على سير الدعوة في الهند في الوقت الذي لا يضمن أن تواتيه الظروف في مصر .
- وقد وافقته على ملاحظاته , ولكنني طلبت إليه أن يحضر إلى مصر ليتصل بالناس فيها وليعرف أحوالها عن قرب , وقلت له . إننا نحن الإخوان سنكون بمنأى عنك حتى لا تقيد خطواتك أو تمنع من البقاء فيها ... وقد وفي الرجل بوعده وحضر فعلا إلى مصر , واتخذ مقره دار الشبان المسلمين بالقاهرة , وألقي بها عدة محاضرات جذبت إليه أنظار الكثيرين . وأذكر أنه طبع في فترة إقامته بها – كتابة الذي سماه " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ".
الفصل الثالث الاتجاه إلى الأستاذ الهضيبي
" أدت بحوث إخوان مكتب الإرشاد المتواصلة الدائبة إلى العثور على الضالة المنشودة, والشخصية المثالية المفتقدة التي تحقق كل الآمال وتسد جميع الثغرات في البناء الإخواني وفي علاقاته مع المجتمع المصري , وكانت هذه الشخصية هي الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي ..وقد أيد الإخوان في جميع نواحي القطر عن طريق مندوبيهم الذين كانوا يفدون إلى القاهرة كل أسبوع.
لقي هذا الاتجاه ارتياحا من جماهير الإخوان لأنهم نع اقتناعهم بجدارة الرجل باعتباره رجلا ذا تاريخ ناصع وله مواقف مشرفة في الدفاع عن الإسلام والشريعة الإسلامية فإنهم كانوا يرون في اختياره مصالحة مع القضاء الذي يعتبرون التصالح معه رد اعتبار للدعوة وتصحيحا لوضعها أمام الناس .
وكان الأستاذ الهضيبي إذ ذاك مستشارا بمحكمة النقض والإبرام وفي السنتين الأخيرتين له قبل الإحالة إلى المعاش . وكان قد أصيب بانفجار في شرايين المخ وعولج منه لكن زملاءه أعفوه من العمل الشاق حتى لا يعاوده المرض إذا أرهقه العمل .
وقد اتصل به بعض أعضاء مكتب الإرشاد وفاتحوه في الموضوع فاعتذر بحالته الصحية ومع تقديرهم لظروفه الصحية فإنهم يرون أنه مع ذلك هو أنسب من يصلح لهذا المنصب , ولذا فإنهم ظلوا على اتصال به , وجمعوا بينه وبين مجموعات من مختلف المستويات في الإخوان بعضهم من القاهرة وبعضهم من إخوان الأقاليم محاولين بذلك التقريب بينه وبينهم وإطلاعه على وقع الإخوان ..وقد حضرت – عرضا – إحدى هذه اللقاءات في الدار التي أشرت إليها بحي العباسية أو بحي الظاهر على الأدق ويبدو أن هذه الزيارة كانت الزيارة الأولي لهذه الدار وكانت عقب جلاء إخوان الجهاز عنها - وأحسست بأن الرجل كان سعيدا بهذا اللقاء .. لكنني أخبرت بعد ذلك أنه أصر على الاعتذار وأن إصراره هذا لم يكن للقاءاته الكثيرة مع جمهور الإخوان وإنما كان صدي لاجتماعه بأعضاء مكتب الإرشاد الذي كانت آثار التيارين اللذين نوهنا عنهما بادية فيه مسيطرة على مناقشاته .
• في بيته بالإسكندرية :
عجز إخواننا المتصلون بالأستاذ الهضيبي من أعضاء مكتب الإرشاد عن أن ينهنهوا من غرب إصراره . وشاع نبأ هذا الفشل بين جماهير الإخوان في كل مكان . وكان لهذا النبأ أسوأ الأثر في نفوس الإخوان لأن ترك هذا المنصب شاغرا يتيح الفرص لفتن لا يعلم مداها إلا الله وسيؤوله جمهور الشعب بأن القضاء يري هذه الدعوة غير جديرة بتقديره .
وكان الوقت صيفا, والتقيت في الإسكندرية بمجموعة من أكرم الإخوان من مختلف البلاد .. ولا أدرى والله كيف اتفق لهذه المجموعة أن تلتقي قي وقت واحد وفي مكان واحد إلا أن تكون تفسيرا لقول الحق تبارك وتعالي : ( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) ( الأنفال : 42) نعم إنه التوفيق الذي جاء على لسان شعيب عليه السلام حين قال ( ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) ( هود :88 ) .
أراد لله للدعوة أن تخرج من ورطتها فوفق لهذا اللقاء , وكان العدد غير قليل فقد كنا نحو العشرين , ولكنني لا أكاد أذكر منهم الآن إلا أفرادا قلائل منهم الإخوة عبد العزيز عطية ومختار عبد العليم وعبد القادر عودة ويوسف طلعت وعبد العزيز كامل . وقد قررنا أن نذهب بجمعنا هذا إلى بيت الأستاذ الهضيبي بالمندرة .
وتلقانا الرجل وأبناءه بالترحاب , ثم أخذنا في الحديث معه فتكلم الإخوان عبد العزيز عطيه وعبد القادر عودة , وشرحا الظروف المحيطة بالدعوة وشدة حاجتها إلى قيادته وتحدث كثير من الحاضرين من مختلف البلاد معبرين عن رغبة بلادهم في قيادته .. ثم تكلم هو فشرح حجته في أنه لا يستطيع أن يتسلم قيادة دعوة , وأقرب معاونيه فيها متفرقوا القلوب والأهواء وضرب لذلك أمثلة لا داعي لذكرها الآن – ولكن تبين فيما بعد ا،ه كان ملهما وكان بعيد النظر – ثم قال : إنني مريض ولا أستطيع تحمل مسئولية دعوة كهذه وأنا في الحالة التي وصفتها لكم ..
وكانت بعد ذلك هدأة .. هي هدأة الخيبة واليأس الذي أحسسنا جميعا بمرارته في حلوقنا .. وما أجمل أن يذكر اليائسون وهم في حمأة اليأس قول الله تعالي ( فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا ) ( الشرح : 5, 6) فإذا بنا ونحن في هذه الحال نسمع صوت أخ منا ينطلق صارخا باكيا هو الأخ الكريم يوسف طلعت يقول للأستاذ الهضيبي :
" إننا نعلم ما تعانيه ولكن الدعوة أعز علينا وعليك من أن نتركها بلا قيادة . وقد اتفقنا على أن تكون قائدها . وإذا كنا قد بايعنا على أفتدائها فلتفتدها أنت كذلك . والله قادر على شفائك إذ استجبت لدعوته .. ولن نخرج من هذا المكان إلا بنزولك على رأي الإخوان الممثل فينا ".
ولقد كانت لكلمات الأخ يوسف ولدمعه المنهمر فعل السحر في قلب الأستاذ الهضيبي وقلوبنا , حتى إننا انهمرت دموعنا , ووجدنا أنفسنا قد انتقلنا إلى جو روحي غامر , لم يملك معه الأستاذ الهضيبي إلا أن يبتسم والدموع تترقرق في عينيه ويقول :" ولقد نزلت على رأيكم – وأسأل الله تعالي أن يعنني ".
وقمنا جميعا نعانق كل منا أخاه .. وكانت جلسة قصيرة عابرة ولكنها كانت جلسة تاريخية فاصلة لها ما بعدها .
الفصل الرابع شبه تثار حول المرشد الجديد
يبدو أن الذين كان لهم رأي يخالف رأي الجماعة في اختيار المرشد الجديد, أخذوا إثارة الشبه حول الرجل الذي أجمعت عليه الجماعة . وقد يسر لهم ذلك أن الناس في ذلك الوقت لم يكونوا يعرفون عن الرجل شيئا أكثر من أنه قاض كبير . وهذه المعلومات وحدها لا تكفي أن تكون كل المؤهلات لرجل يقود أعظم دعوة في العالم الإسلامي وجاء ليخلف حسن البنا الذي كان أقوي زعيم في الشرق , بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء ونري لزاما علينا إزاء هذه الشبه المثارة ,والتي وجدت من بعض الناس آذانا صاغية , وأن نكشف للناس عن حقيقة هذا الرجل وعن مؤهلاته الإسلامية والعلمية والاجتماعية والسياسية التي لم يكن الرجل حريصا على الكشف عنها إيثار لما عند الله وحده . الذي كان هو هدف وغايته ومبتغاه في كل قول يقوله وكل عمل يعمله .
وقد تناولت الشبه المثارة شخصية الرجل في نواح ثلاث هي :
- خبرته في الشئون السياسية والاجتماعية .
- مدى اتصاله ومدى سابقته في الدعوة .
- مدى استعداده الخطابي أو اللساني .
أولا – خبرته في الشئون السياسية والاجتماعية
كان الأستاذ حسن الهضيبي مستشارا بمحكمة النقض والإبرام وكان من القلائل الذين اشتهروا بين رجال القضاء بالجمع بين العلم والنزاهة والحصافة وقوة الشخصية وبعد النظر .. وله تاريخ عريق في المطالبة بجعل الشريعة الإسلامية قانون البلاد, ولا زالت مضابط مجلس الشيوخ المصري تسجل أروع دفاع له عن التشريع الإسلامي أمام أساطين علماء القانون في مصر الذين كان يضمهم هذا المجلس – حين كان المجلس في صدد مناقشته تعديل القانون المدني وانتدب اثنين من كبار رجال القضاء للاشتراك في هذه المناقشة فانتدب رئيس محكمة النقض والأستاذ حسن الهضيبي وكنت أحتفظ فيما أحتفظ به بنسخة من مضبطة هذا المجلس بها جزء مما دافع به هذا الرجل عن الشريعة الإسلامية .. وقد كان جل همه أن يقنع المجلس بأن التشريع الإسلامي هو أوفي تشريع بمصالح الناس وأنه يجب أن يكون هو تشريع البلاد ..
ومما يجب أن يستحضره القارئ في خاطره إذ يقرأ هذا الذي أكتبه الآن أن مجرد الحديث في ذلك الوقت عن التشريع الإسلامي كان أمرا مستغربا , بل أستطيع أن أقول أنه كان أمرا مستهجبنا, لأن الفكرة الإسلامية بوجه عام كانت لا تزال فكر مشوهة في أذهان الناس عامة وفي أذهان قادة البلاد خاصة , نتيجة الجهود المتواصلة التي بذلها المستعمر طيلة ما يقارب القرن من الزمان .. ولذا كان حديث الأستاذ الهضيبي في مجلس الشيوخ يعده الأكثرون في ذلك الوقت ضربا من الخرافة والرجعية , ولولا أن الرجل كان على إيمان راسخ بما يقول , ولولا أنه كان شخصية قوية ما استطاع أن يجهر بهذه الآراء .
والأستاذ الهضيبي ينحدر من أسرة عربية تقطن في مركز شبين القناطر . وقد تدرج في السلم القضائي من أول درجة فيه حتى وصل إلى أعلي درجاته , وقد أثرت عنه مواقف قضائية مشرفة في مختلف هذه الدرجات ,وقد وضع الأستاذ محمد شوكت التوني – وهو محام كبير – كتابا يعد الفريد في بابه ولعله أول كتاب باللغة في موضوعه , وهو كتاب " المحاماة فن رفيع " وقد أتيحت لى فرصة قراءته في الأيام الأخيرة من معتقل سنة 1954 ,وهو يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير , وقد استعرض كل ما يتصل بالمحاماة التي سماها القضاء الواقف في جميع دول العالم كما تحدث بإفاضة عن القضاء الجالس ..وكانت الشخصية الوحيدة التي اتخذها مثالا لأسمي صور العدالة والنزاهة والشجاعة والأدب والعلم وبعد النظر وسعة الأفق هي شخصية الأستاذ حسن الهضيبي .
وقد سجل في نفسي أول لقاء مع هذا الرجل – وكان ذلك في الجلسة التي كانت في بيته في المندرة والتي أشرت إليها آنفا – أن هذا الرجل يجمع في شخصيته صفتين هما أشبه بما وصف به المؤمنون الأقوياء من أنهم " رهبان بالليل فرسان بالنهار " فقد كان هذا الرجل مع صلابة عزمه رقيق القلب سريع الاستجابة للضعفاء بقدر ما هو عنيد لا ينثني أمام الأقوياء فلقد طأطأ ونسي عناده وانثني أمام دموع يوسف طلعت بعد أن كان مصرا على عناده أمام إخوان القاهرة وأعضاء مكتب الإرشاد حتى أدخل اليأس في قلوبهم .
ومعلوماتنا عن هذا الرجل في مدى احتكاكه بالأحداث الاجتماعية والسياسية لبلاده قد استقيناها من مصادر مختلفة بعضها وثائق مطبوعة , وبعضها الآخر من زملاء له وأصدقاء .. أما الرجل نفسه فقد كان حريصا على أن تظل هذه المعلومات في طي الكتمان لأنه قد يري في الإفضاء بها نوعا من التباهي والتفاخر الذي كان يتجافي عنه ويكرهه .
وقد كنت في مسودة هذه المذكرات قد سردت هذه المعلومات سردا , ولكن لما حان وقت تبييض هذه المسودات كان قد ظهر في السوق كتاب الأستاذ مصطفي أمين " سنة ثلاثة سجن " قرأت فيه بابا ضم هذه المعلومات نفسها لكن ميزته أنه أوردها عن لسان المرشد العام نفسه . فآثرت أن أوردها كما جاءت عن لسانه حيث جاءت أوضح وأكثر تفصيلا .
ولقد عجبت كيف استطاع مصطفي أمين أن ينتزع هذه المعلومات من بين شفتي الرجل الكتوم الشديد الحرص على ألا يبوح بشئ يتصل بنفسه ولكن يبدو أن براعة مصطفي أمين الصحفية بالإضافة إلى الظروف التي كانت محيطة بهما في السجن من طول المدة والفراغ الذي لا حدود له هي التي هيأت الفرصة للحصول على هذه المعلومات الدفينة في أعماق النفس .
وإلى القارئ نص ما نقله الأستاذ مصطفي أمين عن لسان الأستاذ الهضيبي في هذا الشأن تحت عنوان :
السر الذي أخفاه المرشد العام الجديد ليمان طره في 8 سبتمبر سنة 1967.
أمضيت وقتا طويلا مع الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وجاري في الزنزانة. وتحدث عن رأيه في الاغتيال السياسي فقال : إنه من حق الشعب عندما يحتله جيش أجنبي أن يقاومه بالرصاص ولكنه لا يوافق على أن يقتل الناس خصومهم في الرأي . وروي لى أنه دخل الأزهر ومكث فيه سنة واحدة ولم يستفد شيئا . ثم دخل مدرسة باب الشعرية الابتدائية ثم مدرسة الخديوية الثانوية . وكان في أول الأمر تلميذ منطويا على نفسه , يتفرج على الأحداث ولا يشترك فيها .
وبعد أن حصل على شهادة البكالوريا التحق بمدرسة الخديوية , وقد سميت كذلك نسبة إلى الخديوي عباس . وذات يوم اتصل به زميله الطالب أمين صدقي وحدثه عن دخول جمعية سرية تعمل ضد الإنجليز . ورحب بأن يدخل الجمعية وأقسم على القرآن والمسدس ألا يفشي أسرارها لأى مخلوق . وكانت هذه الجمعية تنقسم إلى عدة خلايا وكانت الخلايا لا تعرف بعضها . وكانت الخلية السرية مؤلفة من خمسة أشخاص : رئيس وأربعة أعضاء . وكان زملاء الهضيبي في الخلية الطالب حسن مختار رسمي الذي أصبح فيما بعد وكيلا لوزارة المالية ورئيسا لمجلس إدارة شركة غزل المحلة , والطالب مغازي البرقوقي الذي أصبح بعد ذلك قاضيا ونائبا وفديا ووكيلا لمجلس النواب ,وأمين صدقي الذي أصبح بعد ذلك محاميا وحصل على دكتوراه في الحقوق , والطالب عبد الخالق عطية الذي أصبح وكيلا لمجلس النواب .. وكان الزعيم محمد فريد هو رئيس الجمعية السرية .
وكان كل عضو من أعضاء الجمعية السرية مكلفا بأن يجند عضوا آخر , وكان لحسن الهضيبي زميل في الفصل يأتمنه ويثق به فعرض عليه الأمر أن ينضم للجمعية السرية فوافق بعد أن سأل عن غرضها , فقال له الهضيبي : إن غرضها قتل الإنجليز وعملاء الإنجليز ورحب الصديق بالفكرة , ولكنه في اليوم التالي عاد يقول أنه رأي نفسه في المنام في الليلة السابقة يخنق أخته ففزع ,ولهذا فهو قد عدل عن الانضمام إلى الجمعية السرية – وأسقط في يد الهضيبي وأسرع إلى رئيس خليته يبلغه ما حدث . وأسرع رئيس الخلية إلى قيادة الجمعية يبلغها بما جري . وعقدت القيادة محكمة لمحاكمة حسن الهضيبي .. أخذوه إلى شقة في بيت مهجور في حي سحيق وأدخلوه غرفة مظلمة..وجلس ثلاثة شبان إلى مائدة فوقها قرآن ومسدس وبدأ القضاة السريون يحاكمون حسن الهضيبي, يوجهون إليه أسئلة ويجيب عليها .. ثم أصدروا حكمهم أنهم تبينوا من التحقيق الذي أجروه أن حسن الهضيبي لم يفش لصاحبه سر الجمعية , وأنهم لو كانوا شعروا من المحاكمة بأنه أفشي أسرارها لقتلوه على الفور رميا بالرصاص , وأنهم لهذا يصدرون عليه حكم البراءة .
وتنفس الهضيبي الصعداء . وكان من حسن حظه أن زميله كان كتوما فلم يفش سر صاحبه لأحد. ولكن الهضيبي تعلم من هذا درسا لم ينسه طوال حياته . أن يكون حذرا وأن يكون كتوما .
وذات يوم أصدرت قيادة الجمعية أمرا إلى الخلية السرية بأن تستعد للقيام بعملية هامة وهي الهجوم على قسم شرطة السيدة زينب والاستيلاء على كل ما فيه من أسلحة وتسليمها إلى قيادة الجمعية .
وعقدت الخلية السرية اجتماعا وضعت فيه خطة الهجوم على قسم الشرطة ووزعت على أفرادها الأدوار التي سيقوم بها كل واحد منهم . وذهب أعضاء الخلية وعاينوا مكان القسم واختاروا الوقت الملائم للهجوم وهي الساعة التي عرفوا أن عدد الجنود في القسم فيها يقل إلى حده الأدني . وتحددت ساعة الصفر للانقضاض .. وقالت لهم الجمعية إنها عملية انتحارية وقد يموتون فيها جميعا . وعاد الهضيبي ليلتها إلى بيته في حارة سليم بالسيدة زينب وأحرق كل أوراقه , وبدأ يصلي استعدادا لكي يموت شهيدا .
وعند منتصف الليل دق الباب , وتصور الهضيبي أن المؤامرة انكشفت وأن البوليس جاء ليقبض عليه... وتقدم إلى الباب ليفتحه وإذا بأحد زملائه أعضاء الخلية السرية يبلغه أن قيادة الجمعية قررت تأجيل العملية الانتحارية .. وسأل عن السبب فقيل له أنه ليس من حقه أن يسأل عن السبب . وسأل عن موعد التنفيذ فقال له صاحبه أن الأوامر ستصدر في الوقت المناسب .
وبعد ذلك أطلق إبراهيم الورداني الرصاص على بطرس باشا غالي رئيس الوزراء لأنه اتفق مع الإنجليز على الحكم الثنائي في السودان وأراد تجديد اتفاقية قناة السويس .
وسقط رئيس الوزراء قتيلا , وقبض على عدد من أعضاء الجمعية ... وعرف الهضيبي عندئذ أن جمعيته هي التي اغتالت بطرس غالي .. فهل كانت الفكرة في أول الأمر هي مهاجمة قسم السيدة زينب والاستيلاء على أسلحته ليستعملها أعضاء الجمعية في هجوم جماعي على مجلس الوزراء يقتلون فيه رئيس الوزراء عند خروجه من رياسة مجلس الوزراء وحده بدل عشرة أشخاص كان المفروض أن يقوموا معا بهذه العملية .. أن حسن الهضيبي لم يعرف هذا السر أبدا . وكل ما يعرفه ان أحد أعضاء جمعيته قتل رئيس الوزراء وأن العملية الانتحارية التي كان مكلفا بها لم تتم.
ولم يقبض البوليس على حسن الهضيبي بين عشرات من أعضاء الجمعية الذين قبض عليهم للإشتباه , ولم يتطرق الشك إلى أحد أن هذا التلميذ المنزوي الطيب المطيع هو عضو في الجمعية السرية التي أمر الإنجليز بالقبض على جميع أعضائها .
وانفرط عقد الجمعية , ولم يعرف الهضيبي كيف انفرطت , ولماذا انفرطت ولكنه عرف أن خليته لم تعد تتلقي أوامر أو تعليمات .
ثم حدث أن حكمت المحكمة بالسجن لمدة ستة أشهر على الزعيم محمد فريد لأنه كتب مقالا هاجم فيه الخديو والإنجليز . وهرب محمد هرب فريد إلى أوروبا. واختلف رأى الشبان في قرار الزعيم الوطني . كان من رأى فريق أنه بعد أن قيدت الصحافة عقب مصرع بطرس غالي , وبعد أن بدأت مطاردة الوطنيين – أصبح مجال العمل ضيقا أمام محمد فريد , فهو سوف يكون في أوروبا مطلق اليدين , يهاجم الاحتلال البريطاني والخديوي كما يشاء ويقلب العالم ضد الاحتلال والفساد في مصر.
وفريق آخر كان يري أن واجب محمد فريد كان يقضي عليه أن يدخل السجن ولا يتخلى عن مكانه المعركة, وأن يبقي ليقاوم ويؤلب الشعب على الاحتلال .
وكان الهضيبي يؤيدها هذا الرأي الأخير .. فقد شعر أن الجيش أصبح بلا قائد , وأن العلم الذي كان يجمعهم اختفي فجأة. وزاد في إيمانه أنه رأي أفراد خليته السرية حياري تائهين ثم لم يلبث أن رآهم تفرقوا , لا يجتمعون ولا يتناقشون.. كأن محمد فريد عندما خرج من مصر أخذ مع حقائبه روح مصر.
وفي سنة 1914 أعلن الإنجليز الحماية على مصر , وخلعوا الخديو عباس حلمي وأعلنوا الأمير حسين كامل سلطانا على مصر . وشعر الهضيبي كأن خنجرا أغمد في ظهره, ثم ما لبث أن أحسن أن خنجرا أكبر في قلبه .. أعلن الإنجليز الحماية على مصر.. ولم يتحرك أحد من المصريين , لم تقم مظاهرة واحدة , لم يلق حجر واحد على الجنود الإنجليز الذين ساروا في موكب من قشلاق قصر النيل إلى قصر عابدين يزفون السلطان الجديد إلى عرش مصر على أسنة حراب الاحتلال.
وأسرع الهضيبي إلى زملائه أعضاء الخلية السرية وإذا بالفجيعة تمزق قلوبهم , العمل الوحيد الذي قام به بعض المتحمسين منهم أن وضعوا في عنقهم أربطة سوداء .. كانت الكرافتة السوداء هي العلم الوحيد الذي رفعوه. شعر الشباب المصري في تلك الأيام المريرة بالشقاء والذل والخزي والعار . وأحسوا أن شرف كل واحد منهم لطخ بالوحل والطين .. أحذية الجيش البريطاني داست على رءوسهم جميعا.. أحسوا أكثر بالحاجة إلى القائد .. راحوا يقولون : لو كان محمد فريد موجودا في مصر لعرف كيف ينظم المقاومة وكيف يرد على صفعة الاحتلال .
وأوقف أمين الرافعي إصدار جريدته فضل أن يحطم قلمه على أن ينشر في جريدته نبأ أن مصر أصبحت تحت الحماية البريطانية .. أما جريدة المقطم التي كان يصدرها الدكاترة فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاربوس فقد أصدرت ملحقا بعناوين ضخمة في الصفحة الأولي " بشري للأمة المصرية .. إعلان الحماية البريطانية على مصر " وكان هذا العنوان المخزي أشبه بكفن وضعت فيه جريدة المقطم جثة الشباب الوطني في مصر .. ولكن شباب مصر دفن ولم يمت .. الصدمة المفاجئة جعلته يتسمر في مكانه بلا حراك ..واختفاء محمد فريد من مصر كان أشبه باختفاء المنارة التي كانت تضئ للسفن الهائمة في أثناء العاصفة .
وأعلن السلطان الجديد تغيير اسم مدرسة الحقوق الخديوية إلى اسم " مدرسة الحقوق السلطانية ".. وأذاع قصر عابدين أن عظمة السلطان قرر أن يشرف مدرسة الحقوق السلطانية بزيارته – وكان بناء مدرسة الحقوق مجاورا لقصر عابدين . وتحدد يوم الزيارة .. وفرشت ممرات المدرسة بالرمل الأحمر , ورفعت الأعلام استعدادا لمقدم السلطان .
وفي يوم الزيارة تلقي طلبة مدرسة الحقوق بطاقة مطبوعة بأن فلانا الطالب بالمدرسة توفي إلى رحمة الله وستشيع جنازته من منزله رقم 11 شارع المناخ في الساعة الحادية عشرة صباحا , وعلى جميع الطلبة الاشتراك في تشييع الجنازة .
وكانت الساعة الحادية عشرة هي الموعد المحدد لزيارة السلطان .
وكان العنوان المكتوب في البطاقة هو عنوان محل جروبي في شارع عدلي الآن .
وترك الطلبة المدرسة وذهبوا لتشييع الجنازة الوهمية وفي جروبي تناولوا الجاتوه والحلوى على روح الفقيد المرحوم .. ودخل السلطان حسين إلى المدرسة فلم يجد فيها طالبا واحدا.
وجن جنون السلطان وهاج وماج وثار ... وعرف أن طلبة أكبر مدرسة عالية في مصر في ذلك الوقت أرادوا أن يلطموا السلطان لطمة علنية عقابا له على توليه عرش مصر في ظل الحماية البريطانية .
وقام السلطان ولم يقعد وقام الإنجليز ولم يقعدوا وقامت الحكومة ولم تقعد..
هذه ثورة ضد السلطان وضد الإنجليز وضد الحكومة . وقبض على عدد كبير من طلبة مدرسو الحقوق, وقبض على صاحب المطبعة الذي طبع بطاقة الدعوة لحضور الجنازة .
وعرض النائب العام على صاحب المطبعة كل طلبة مدرسة الحقوق ليتعرف على الطالب الذي طبع بطاقة الجنازة ..ولم يتعرف صاحب المطبعة على واحد منهم وقال أن الشخص الذي جاء لطبع البطاقة كان أكبر عمرا من هؤلاء الطلبة .. وهنا عرضت النيابة أساتذة مدرسة الحقوق على صاحب المطبعة فقال أن المجرم الأثيم ليس واحد منهم .
والواقع أن المجرم الأثيم لم يكن طالبا ولا مدرسا في مدرسة الحقوق وإنما كان عربجيا . كان العربجي الذي يقود العربة الحنطور التي تملكها أسرة الطالب فؤاد حمدى وتحمله كل يوم إلى المدرسة.
وأصدرت الحكومة قرارا بفصل عدد من طلبة الحقوق نهائيا , وعدد آخر لمدة عامين وعدد ثالث لمدة سنة واحدة . وكان حسن الهضيبي أحد الذين فصلوا لمدة سنة واحدة .
وحاول الطلبة أن يتظلموا فوجدوا أن كل الأبواب مغلقة في وجوههم . لا أحد يجرؤ على أن يتوسط لهم والسلطان ثائر , والإنجليز حانقون والحكومة غاضبة.. سمع الهضيبي من زملائه المفصولين أن سعد زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية التي عطلها الإنجليز يتعاطف معهم . وذهب مع بعض زملائه وقابلوه , فإذا به يهنئهم لأنهم أعادوا الاعتبار للشعب المصري عندما لطمه السلطان .. ولكنه يعتبر نفسه ممثل الشعب الذي انتزعت سلطاته بإعلان الحماية .. ودهش الهضيبي لأن رجلا في الستين من عمره يتكلم بلغة الشباب ..وبعد خروجه من بيت زغلول قال لزميل له هذا الرجل يستطيع أن يقود مصر بدلا من محمد فريد..
قال له زميله : مستحيل ... مستحيل .
وبعد أربع سنوات قامت ثورة سنة 1919 بقيادة سعد زغلول وصدقت نبوءة الهضيبي .. وكان طلبة الحقوق المفصولون هم أول الذين مشوا وراء زغلول وأشعلوا الثورة .
ثانيا – هل الهضيبي طارئ على الدعوة ؟

أن الذين يريدون أن يقصروا صفة الإخوان المسلمين على الأشخاص الذين ضمت سجلات العضوية الرسمية أسماءهم والذين يؤدون اشتراكاتهم والذين ينتظمون في تشكيلاتهم – يريدون أن يضيقوا واسعا ويحجروا سهلا ميسورا .. فالإخوان المسلمون ليسوا شيئا مخترعا, ولا فكرا مبتكرا ولا دعوة مبتدعة – وإنما هي الفكرة الإسلامية : من اعتنقها وعمل لها وجاهد في سبيلها فقد صار من الإخوان المسلمين , له كل حقوقهم ..
وعلى هذا الأساس من المعنى الفسيح الذي أرساه القرآن الكريم بقوله : ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات : 10) تحدثت في مكة المكرمة – كما سبق أن ذكرت – إلى السيد أبي الحسن على الندوي في أخطر ما يتصل بالإخوان المسلمين ..ولم يشعر الرجل بغرابة في حديثي معه في هذا الشأن لأن هذا المعني الفسيح الرحب الجامع للإخوة الإسلامية هو أمر مقرر في نفس كل من فهم الإسلام وهو إحدي البديهيات فيه.
وقد أثبت في الصفحات السالفة كيف كان الأستاذ حسن الهضيبي عريقا في فهمه للفكرة الإسلامية وفي جرأته في التقدم بها وفي شرحها وفي الدفاع عنها أمام أعلي هيئة تشريعية في البلاد .. فهل يكون رجل كهذا غريبا على الدعوة الإسلامية , دخيلا على الجماعة التي رصدت نفسها لنفس الفكرة ولشرحها والدفاع عنها .. وإذا كان مثله يعد دخيلا فمن إذن يكون فيها أصيلا ؟.
ومع ذلك فقد أثبتت الأحداث أن الأستاذ الإمام كان نقادا ماهرا , وكان قديرا في وزن الرجال ووضعهم في مواضعهم فقد رأي أن الأستاذ حسن الهضيبي كنز ثمين يجب الحرص عليه والانتفاع به .. ولكنه رحمه الله كان يراعي ظروف بعض ذوي الوظائف الحساسة فيعفيهم من الظهور في أوساط الإخوان , ويجعل اتصاله بهم اتصالا شخصيا , فهو يتبادل معهم الرأي ويشاورهم في الخطير من الأمور , ويظهرهم على مواقف الدعوة وما يحيط بها من ظروف .. وان هذا هو دأبه مع الأستاذ الهضيبي .. ولذا فلم يكن يعرف علاقة الأستاذ الهضيبي بالإخوان إلا من كانت الظروف تدعو إلى هذه المعرفة من قلة من الإخوان . كما كان يعرف هذه العلاقة قلة من غير الإخوان .
فلقد قرأنا في ثنايا أحداث الأيام السوداء من عهد إبراهيم عبد الهادي أن الأستاذ الهضيبي كان الرجل الوحيد الذي كان بجانب الأستاذ الإمام في أشد هذه الأيام حلوكة وأن الأستاذ الإمام قد اتخذه صفية ومستشاره وموضع سره , فقد كانا يجلسان معا في دار جمعية الشبان المسلمين على انفراد ..ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أفضي إليه بكل ما عنده وشرح له جميع المواقف , وحلل له كل الشخصيات , بدليل أنه منذ أول يوم فوتح فيه في خلافة الأستاذ الإمام تحدث عن بعض شخصيات الإخوان حديث العليم الخبير , مع أنه لم يسبق له اتصال بهم .
وأنقل للقارئ في هذا الشأن فقرة جاءت عرضا في شهادة الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين أمام محكمة الجنايات في أثناء نظر قضية اغتيال الأستاذ الإمام وذلك في يوم 11/11/1953 حيث قال :
" ولما أحس البوليس السياسي بأن الشيخ البنا يتردد على الجمعية أخذ يراقبه لمعرفة المتصلين به .. وكنا قد اتفقنا على رموز للتفاهم بها .. حتى إنه حدث أن حضر الأستاذ الهضيبي, ونظرا لعدم معرفتي به أنكرت معرفتي بالشيخ البنا لاعتقادي أنه من البوليس السياسي .. وعرفت أخيرا من الشيخ البنا أنه هو الأستاذ الهضيبي ".
وفي 18 / 11/ 1953 وفي أثناء شهادة الأستاذ مصطفي مرعي أمام نفس المحكمة وفي نفس القضية , وجه إليه الأستاذ عبد القادر عودة – أحد أفراد هيئة الدفاع – سؤالا ودار النقاش على الوجه الآتي :
الدفاع – ألم تفهم الأسباب التي من أجلها كان الشيخ البنا يمهلك في الرد عليك ؟
مصطفي مرعي – كان لديه مستشار .
المحكمة – من المستشار ؟
مصطفي مرعي – الأستاذ الهضيبي .
هذا هو الأستاذ حسن الهضيبي الذي أشاع المغرضون أنه غريب عن الإخوان المسلمين
ثالثا – المقدرة الخطابية أو بين عهدين
لقد وضح تمام الوضوح أن الله تعالي يصنع لدعوته – وهو أعلم بما يصلح لها – فلقد علم أن هذه الدعوة في العشرينات والثلاثينيات قد طمست معالمها , وشوه وجهها, وغابت تحت الأضاليل قسماتها وحتى أضحت غريبة على أهلها , ومجهولة لأقرب الناس إليها – فاختار لها داعية من الشباب قوى البدن ذكي الفؤاد ذلك اللسان , ذا بسطة في العلم والجسم . لا يمل ولا يكل . فهو واعظ وكاتب وقائد ومعلم ومتنسك وفارس وخطيب .. إذ كانت الدعوة في ذلك الوقت في حاجة إلى من يجالس الناس في المقاهي , وإلى من يربي من يستجيب له تربية حانية في خفاء , وإلى من يؤم الناس في المسجد , ويخطب فيهم خطبة الجمعة والعيدين وإلى من يكتب للناس شارحا دعوته مفندا ما علق بالإسلام من شوائب..وإلى من يبث في الشباب روح الفداء يرتدي الملابس العسكرية ويقف معهم في الصف ويقودهم في الطابور .
كانت الدعوة في حاجة إلى من يواصل في سبيلها الأسفار , فهو كل يوم في بلد وكل أسبوع في مدينة يغشي مجالس الناس , ويجلجل صوته وسط جموعهم , بأساليب تناسب هذه الجموع ... ففي جمع من هذه الجموع يناقش شئون الدولة العليا على ضوء الفكرة الإسلامية .. وفي جمع آخر يخاطب الناس فيقول : إن الناس قد فشا فيهم الجهل بالدين حتى إن رجلا مسلما كان يقرأ الفاتحة فيقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين , إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم) الفاتحة :1-6 . ويعلق على لفظ " اهدم " تعليقا يجعل هذه الجموع تضحك ملء أشداقها ..فيقودهم وقد تفتحت قلوبهم بهذا الضحك إلى معالجة هذا الجعل بالإقبال على كتاب الله وهو ما يدعو إليه الإخوان ..
وهكذا فهو يخاطب كل قوم بأسلوبهم .. وقد يضطر في جمع واحد أن يخاطب في حديث واحد كل الحاضرين بمختلف مستوياتهم الثقافية بحيث لا يشعر أى منهم أنه غريب وسط هذا الجمع .
كانت الدعوة بادرة صغيرة , ونبتة ضعيفة في أمس الحاجة إلى من يحوطها ويطرد عنها الهوام والحشرات والحيوان من حولها حتى لا يفتك بها أو يفترسها .. كانت في أمس الحاجة إلى من ينكفئ فوقها .. يداريها من الرياح والعواصف والحر والبرد والصقيع .
كان حسن البنا هو الداعية الذي أهله الله تعالي بكل هذه المؤهلات .. فأدي دوره أحسن أداء , ثم ذهب إلى ربه بعد أن بهر العالم بإيمانه وصبره ولسانه وقلمه وعلمه وسعة أفقه وقدرته على التكوين وصنع الرجال – وترك وراءه دعوة قد اكتمل شبابها ورسخت أقدامها وآتت أكلها كل حين بإذن ربها .
لم تعد الدعوة في حاجة إلى كبير عناء لشرحها للناس فقد فهمها الجميع لكثرة ما خوطبوا بحججها باللسان والقلم , ثم اقتنعوا بها بعد أن رأوا بأعينهم الفاسدين من الشباب وقد صلحوا ,والهازلين وقد جدوا والجاهلين وقد تعلموا وبعد أن رأوا في نهاية الأمر رعيلا كالرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلي الله عليه يتسابقون إلى الموت هاتفين ( وعجلت إليك رب لترضي ) ( طبه: 84) .
لم تعد الدعوة في حاجة إلى من يذرع البلاد شرقا وغربا , ويجوبها شمالا وجنوبا, لا يبيت في بيته قدر ما يبيت في القرى والمدن فلقد استجابت البلاد للدعوة من أقصاها إلى أقصاها . ولم تعد فيها مدينة ولا قرية ولا عزبة إلا وفيها شعبة الإخوان , وفيها قلوب تنبض بحب الدعوة وتفتديها . لم تعد الدعوة في حاجة إلى ما كانت تحتاج إليه من قبل من حماية , ولكنها وقد أزهرت وبانت ثمارها جنية شهية تسيل اللعاب .. أضحت في حاجة إلى من يكف أصحابها أنفسهم عنها من أن يسيل لعابهم فيمدوا أصابعهم إلى ثمارها ليقطفوها للاستمتاع الشخصي بها أضحت في حاجة إلى من يقنع الإخوان أنفسهم بأن يعلموا أن ثمار هذه الدعوة ليست ملكا لهم يستمتعون به, وإنما هي من حق الأمة الإسلامية جمعاء ..وإلا لما كان هناك داع لتقديم الدماء والأرواح التي قدمت عن رضا وطواعية لتروى هذه الشجرة العزيزة .
ما أشبه الدعوة في عديها بالدرجتين العليين المشهورتين : الفقير الصابر والغني الشاكر .. الأول كان في حاجة إلى كفاح مستمر , وكد متواصل , وجهد لا يفتر ومواصلة الليل بالنهار للحصول على الرزق الكفاف الذي يحفظ عليه الحياة – أما الآخر فقد توفر له الرزق بكل أشكاله وألوانه , تجبي له الثمرات من كل مكان, فهو لا يحتاج إلى كد ولا كفاح ولا سعي , لكنه يحتاج إلى أن يكف شهواته عن الانطلاق ,وإلى أن يكبح جماع نفسه ويقف بها عند الحدود .
وقد استطرد فأقول, أن نمو الدعوات لا يعمل فيه الزمن عملا متناسقا مطردا – كما قد يخطر بالبال – فتنمو الدعوة في سنتين ضعف نموها في سنة وفي ثلاث سنوات ثلاثة أمثال وهكذا .. بل إن من السنين ما يوقف النمو ومنها ما يضاعفه أضعافا مضاعفة .. ففي السنتين الأخيرتين قبل استشهاد الأستاذ الإمام انطلقت الدعوة انطلاقا لم نعد نستطيع معه ملاحقتها كأنما نشطت من عقال ..ولعل هاذ كان هو الذي دفع بالمستعمرين وأذنابهم إلى التعجيل بخطتهم للقضاء عليها .
وأذكر أنه قبيل السنتين الأخيرتين هاتين كنت مع الأستاذ الإمام فقال لى : " يا محمود .. لقد شارفت الأربعين ..وأن لكم أن تتولوا عني الكثير مما أقوم بها .. فحسب صاحب الأربعين أن يكون مرجعا يشير بالرأي ويشترك بالتوجيه ". وقد رأيت إثبات أن يكون لأبين أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كأن يتأهب لدور هو أشبه بالدور الذي تقلده ونهض به الأستاذ الهضيبي .. ولا شك في أن الدعوة يوم تسلم قيادتها الأستاذ الهضيبي كانت قد وصلت إلى الوضع الأمثل لهذا الدور .
وأعتقد لو أن حسن البنا – أوسع الله له في جناته – كان على قيد الحياة في سني الخمسينيات ما واصل النهج الذي كان ينتهجه بل كان يعدل عن كثير من هذا النهج , ولسلك نفس الأسلوب الذي سلكه الأستاذ الهضيبي , فما عادت الدعوة محتاجة من قائدها إلى خطب ومحاضرات بقدر حاجتها إلى قائد قادر على اتخاذ القرار.
والهضيبي وأن لم يكن من أ÷ل الخطابة واللسن – وعد بعض البسطاء هذا عيبا فيه –فإن الإخوان المسلمين – وهم أدرى الناس بما تفتقر إليه دعوتهم – لم يروا ذلك عيبا فيه ..
بل أحسوا بأن هذا الرجل بعزوفه عن الكلام , مع مقدرته الفائقة على اتخاذ القرار , وجرأته في الحسم وجلاء بصيرته في النظر إلى الأمور, وبعد نظره في الحكم عليها ..
أحسوا بأن هذا الرجل هو رجل الساعة لأن الظروف التي أحاطت بالدعوة في تلك الحقبة من الزمن كانت أحوج إلى تلك الصفات في القيادة منها إلى ذلاقة اللسان وبراعة البيان لا سيما وجماهير الإخوان كانت تعج بالخطباء والشعراء والكتاب والمحاضرين الذين لا يشق لهم غبار . ومما يعد برهانا على أصالة هذا الرجل في الدعوة الإسلامية , وعلى اكتمال عناصر القيادة فيه , أنه في خلال أقل من عام استطاع أن يحتل قلب كل أخ مسلم, لا في مصر وحدها بل في أنحاء العالم العربي والإسلامي ..ومحال أن يستطيع ذلك إنسان عادي أو إنسان مخادع أو إنسان ضعيف الشخصية أو إنسان تنتابه نوبات الأثرة والأنانية , أو تتجاذبه رياح الأهواء والشهوات.. لا سيما وجمهور الإخوان المسلمين – مع اتساع نطاقه وكثرة عدده واختلاف مستوياته المادية والاجتماعية – جمهور يقظ مستنير ليس من السهل خداعه ولا التمويه عليه..
• هل سخر الهضيبي الدعوة لأغراضه الشخصية؟
وقد أثار المغرضون حول هذا الرجل أخيرا أنه رجل سياسي استغل الدعوة للوصول إلى كراسي الحكم ..وسوف يرى القارئ إن شاء الله في سير الأحداث التي عاشها هذا الرجل , ومواقفه فيها ما يدحض هذه المفتريات ويقوضها من أساسها , وما يكشف عن حقيقة التي كان هو حريصا على إخفائها , ولكن الأيام تكفلت بإظهارها, وأثبتت أن الرجل كان من أزهد الناس في دنيا الناس .
وإلى هؤلاء المغرضين الذين رموا الرجل بأنه سخر الدعوة لأغراضه السياسة الخاصة نسوق القول فنقول : إن الطريق الذي سلكه حسن الهضيبي كان هو نفس الطريق الذي سلكته الدعوة من قبل , لا في أواخر أيام حسن البنا فحسب , بل منذ أوائل أيامها .. ففي عام 1939 ورد في البيان الذي ألقاه حسن البنا في المؤتمر الخامس ما يلي :
" إن انجلترا لا تزال تضايق مصر رغم محالفتها إياها . ولا فائدة في أن نقول أن المعاهدة نافعة أو ضارة أو ينبغي تعديلها أو يجب إنفاذها . فهذا كلام لا طائل تحته , والمعاهدة غل في عنق مصر , وقيد في يديها ما في ذلك شك.. وهل نستطيع أن نتخلص من هذا القيد إلا بالعمل وحسن الاستعداد ؟ فلسان القوة هو أبلغ لسان فلنعمل على ذلك ولنكتسب الوقت إذا أردنا الحرية والاستقلال ".
وفي رسالة وجهها الأستاذ الإمام في منتصف الأربعينات إلى رئيس الحكومة وأعضاء الهيئات النيابية ورؤساء الهيئات الشعبية السياسية والوطنية والاجتماعية وإلى الأمة تحت عنوان " مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي " جاء فيها :
" لقد فاوضنا فلم نصل إلى شئ لتعنت الإنجليز وتصلبهم ومناورتهم ..واحتكمنا فلم نصل إلى شئ كذلك أمام تغليب المصالح والمطامع الاستعمارية .ولقد قال لى كاتب فاضل : إننا وصلنا إلى كسب أدبي عظيم بالدعاية الواسعة لقضيتنا بطرحها أمام العالم كله , وإخراجها من حيز التفاهم الثنائي الضيق إلى حيز التحاكم الدولي الواسع .. وذلك صحيح – ولكن هذا الكسب الأدبي لن يغني عن الحقيقة الواقعة شيئا وهي أننا مازلنا مع الإنجليز حيث كنا لم نتقدم خطوة , بل إن هذا الركود مدعاة إلى التساؤل والبلبلة .
لم يبق إذن إلا " النبذ على سواء " بأن نعلنهم بالخصومة الصريحة السافرة , ونقرر في صراحة إلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات واتفاقات , ونعلن اعتبار أمة الوادي معهم في حرب – ولو سلبية – وتنظيم حياتنا على هذا الاعتبار : اقتصاديا بالاكتفاء والاقتصار على ما عندنا وعند إخواننا العرب والمسلمين والدول الصديقة – إن كانت – واجتماعيا حتى يأتي أمر الله, وتهيأ نفوس الشعب لذلك بدعاية واسعة تامة كاملة تفعل الأمم إذا واجهت حالة الحرب الحقيقية , وتتغير كل الأوضاع الاجتماعية علي هذا الأساس .
وهذا العمل لا يتسني للأفراد ولا للهيئات ابتداء ولكن الحكومة هي المسئولة عنه أولا وأخرا . والعجيب أن رئيس الحكومة ( النقراشي ) أعلن هذا صراحة في مجلس الأمن ثم عاد فلم يعمل شيئا , ولم يتقدم في هذا السبيل خطوة ..وهذا واجب الحكومة قطعا, وأما الشعب فنحن نقولها في صراحة ووضوح وثقة ,إنه على أتم استعداد لبذل كل شئ لو سلكت الحكومة هذا السبيل .. إنه مستعد ليجوع وليعري وليموت ويناضل ويكافح بأشد أنواع النضال والكفاح . ولكن على شريطة أن يكون ذلك في سبيل حريته واستقلاله لا في سبيل ارتباك اللجان الحكومية وضعف الوسائل الإدارية , والتخبط في السياسة الاقتصادية ,والوقوف أمام مكايد الإنجليز وضغطهم موقف المستسلمين العاجزين .
لقد سمعت عاملا فقيرا يقول حين صدرت الأوامر بخلط الخبز: إنني مستعد أنا وأولادي أن نأكل كل يوم مرة واحدة , إذا وثقنا من أن هذا في سبيل الحرية والتخلص من الإنجليز ..
فالشعب على أتم استعداد للبذل , ولكن في طريق واضحة مرسومة تؤدي إلى الحرية أو الشهادة بقيادة حكومة حازمة ترسم له في قوة وإخلاص مراحل هذا الطريق – أما إذا استمرت الحكومة في ترددها وتراخيها واضطرابها فلن يؤدي ذلك بالشعب إلا إلى أحد أمرين : إما أن يثور وإما أن يموت . وكلاهما جريمة وطنية لا يغتفرها أبدا التاريخ .
" هذه هي الطريق فاسلكوها في ضوء الإسلام والله معكم ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد".
ليت شعرى أليس هذا هو كلام حسن البنا , أو ليست هذه هي الطريق التي شرحها وفصلها وطلب من الإخوان المسلمين سلوكها ؟.. فهل سلك الهضيبي سبيلا غير هذا السبيل ؟ أم كان كل ما عمله هو مواصلة السير في نفس الطريق دون أن يحيد عنها ؟!
على الذين يتهمون الرجل بأنه خرج بالدعوة عن مسارها الذي رسمه لها قائدها الأول وبأنه حاد بها عن هذا المسار , وسلك بها نهجا مبتدعا لأطماعه الشخصية .. على هؤلاء أن يقرأوا ما اقتطفناه من توجيهات القائد لأول ليعلموا أن الهضيبي لم يكن في قيادته للدعوة إلا مواصلا للخط الذي رسمه هذا القائد الأول لم يحد عن ذلك قيد أنملة .
وسوف يرى هؤلاء – بعد قليل إن شاء الله – أنه – بمواصلة هذا الطريق المرسوم – قد وصل بالدعوة إلى الوضع الذي صارت فيه مناصب الحكم لا في قبضة يده فحسب بل صارت تحت أقدامه ولكنه عزف عنها , وترفع بالدعوة الطاهرة عن أن يلحق بها دنس الحكم في ظل عرش آثم ..وليس هذا فحسب , بل إنه – مبالغة منه في الاحتفاظ للدعوة بنقائها وبعدا بها عن مواطن الشبهات – قرر منع الإخوان من الاشتراك في الانتخابات منعا قاطعا مع أن فوز الأكثرين منهم كان مضمونا.
فهل مثل هذا الرجل يرمي بأنه حاد بالدعوة عن طريقها المرسوم وسلك بها طريقا آخر سخرها فيه لمآربه الشخصية وجريا وراء مناصب الحكم؟ ... ألا فليتق الله , وليرعوا أولئك الذين لا هم لهم إلا أن يتلمسوا للبرءاء العيب .
الباب السادس المرشد العام الجديد يتبوأ منصبه والبلاد أمام تطورات جديدة
- المرشد العام الجديد يتبوأ منصبه والبلاد أمام تطورات جديدة الدعوة تحتل مكان الصدارة
- • الضغط الشعبي للإخوان يبلغ أقصي مداه.
- • الحكومة تلغي معاهدة سنة 1936.
- • مقابلة الملك للمرشد العام الجديد.
- • حريق القاهرة أو لخطة الجهنمية لإحباط المقاومة .
- • الشعب يفيق من الضربة الجنهمية ويستأنف جهاده .
مقدمة
كان مفروضا أن يكون أول عمل يستهدفه المرشد العام الجديد حين يتولى قيادة الدعوة أن يتفرغ تفرغا تاما لإعادة تنظيم صفوف أتباعه وجنوده ,بعد أن عدت عليهم يد الظلم وعملت بكامل طاقتها على تشتيت شملهم,وتفريق جمعهم وتقطيع أرحامهم وتمزيقهم كل ممزق .. وقد يستغرق ذلك في الدعوات الوضعية أقصد الدعوات غير الربانية الأعوام والسنين حتى يلم الشعث وترتق الفتوق , وتضمد الجروح , ويرمم ما تهدم ويرفع البناء .
والمرشد العام حين ألقيت إليه مقاليد الأمور , وجد نفسه أمام سيل جارف من المطالب الخطيرة تلح عليه بنداءت مدوية من كل جانب .. كلها بنت ساعتها لا تحتمل التأجيل ولا تقبل التأخير .. فاسترداد سمعة الدعوة التي لطخها المفترون والحشد الكبير من الشباب الذين ألقي بهم عهد الظلم في غياهب السجون , ومنشآت الدعوة ومؤسساتها في آلاف الشعب من دور ونواد رياضية ومدارس ومعاهد ومساجد ومطابع وصحف ومستوصفات وأراض زراعية ومناجم ومحاجر وغيرها .. وقد اغتصبتها السلطات الغاشمة ودمرت أكثرها ..
لكن نداء واحدا جد أخيرا وكان في سمع المرشد العام أعلى صوتا , وأقوى دويا من كل النداءات لأنه صادر من الوطن المسلوب الحرية المهضوم الحقوق المقهور الشخصية وقد استيقظ أخيرا حراسه الرسميون بعد أن فرطوا طويلا في حقه أدى هذه النداءات يجيب ؟
أما الإخوان المثخنون بالجراح من أثر المحنة الجائحة فقد اعتادوا أن يضمدوا جراحهم أيديهم فأتاحوا بذلك لمرشدهم الجديد أن يستجيب للنداء الطارئ الجديد.
والمرشد العام الجديد رجل يميل بطبيعته إلى الهدوء والتنسك ومناجاة ربه . وكان يحلم بتلك الأيام التي ينهي فيها عمله بالقضاء لينعم بما حرمه منصبه القضائي منه طول حياته – بالانتظام في كتائب الإخوان في الجو الروحي الخالص , ويستمتع بالليالي الربانية التي تذوب فيها متاعب الحياة وتتلاشي في بحار القرب من الله والتضرع إليه في وقت السحر مع هذه الصفوة المختارة الذين يقضون هذه الليالي بين راكع وساجد وضارع وخاشع .. لقد كان الرجل يحلم بتلك الأيام, وجاءت تلك الأيام ولكن الحلم لم يتحقق فما كادت تتاح له الفرصة حتى وجد نفسه أمام أمور جسام لم تمهله لحظة .. رأي نفسه مطالبا بأداء حقوق نحو الوطن الغالي الذي يهتف كل أخ مسلم مهما ناله من ظلم بقول الشاعر :
بلادي وإن جارت على عزيزة
- وقومي وإن ضنوا على كرام
وهكذا نزل الرجل إلى الميدان من أول يوم , ونفسه تائقة إلى الجو الروحاني الغامر .. ولكن الميدان لم يدع له فرصة إلى ما تتوق إليه نفسه إلا خلسا .. أما المتلمسون للبرءاء العيب , والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فيرمون الرجل بأنه قد نقل الإخوان من صميم دعوتهم إلى ميدان السياسة ..ويستدلون على ذلك بأنه منذ اليوم الأول لتوليه منصب المرشد العام قد نزل بالإخوان إلى ميدان السياسة ولم يدعها لحظة من نهار .
وإلى هؤلاء نعيد توجيه القول فنقول : ماذا كنتم تريدون أن يكون موقف الإخوان - وقد كانوا يحثون الحكام دائما على منابذة المستعمر العداء – وجاءت حكومة آخر الأمر وأخذت بنصيحتهم, ودعوتهم إلى المشاركة في حمل العبء معها في نتائج هذه المنابذة.. هل كنتم تريدون أن يتخلف الإخوان ويتنكروا لدعوتهم ويقولوا للحكومة : دعونا نعكف على الخطب والمحاضرات والعبادة واذهبوا أنتم وحدكم واجهوا العدو..؟!
وقد نكون في غني عن أن نذكر هؤلاء وغيرهم بأن العمل على تحرير البلاد من ربقة الاستعمار – بالنسبة لدعوة تريد للبلاد أن تحكم حكما إسلاميا – هو الخطوة الأولي التي لابد منها ولا مفر من العمل على تحقيقها لسبين :
الأول – أن الإسلام دين لا يرضي للمنتسبين إليه أن يعيشوا تحت سيطرة غيرهم من الأمم ,وإلا كانوا آثمين ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنت مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) ( النساء : 97) .
الثاني – أن المستعمر بطبيعة هدفه من الاستعمار يحتل البلاد التي يحتلها ليستغل خيراتها لنفسه , وليسخر أهلها لخدمة أغراضه .. ولا يتأتي له ذلك إلا بحجب أسباب القوة عن هذه البلاد, وينشر وتمكين أسباب الضعف فيها من فقر وجهل ومرض وفساد حتى لا تقوى في يوم من الأيام فتفكر في مقاومته – والمستعمرون على اختلاف نزعاتهم الاستعمارية يحولون بكل الوسائل بين الشعوب الإسلامية التي يستعمرونها وبين الحكم الإسلامي .
لهذا فإن دعوة الإخوان المسلمين – بعد أن استوي صفها واكتملت تكويناتها – قد جعلت أول خطوة تخطوها لتحقيق برنامجها الإسلامي وهي تحرير الوطن الإسلامي من ربقة الاحتلال وإطلاقه من أسر الاستعمار .
ثم نرجع إلى ما كنا بصدده من مواجهة العائبين بالموقف الذي وجد المرشد العام الجديد نفسه أمامه فنسألهم هل كان أمام الرجل من خيار وقد وجد نفسه في هذا الموقف من أول يوم .. وظل هذا الموقف على أشده أعواما متتالية لم يهدأ له أوار ..وإذا كان من وجه للعجب أن رجلا أبل من مرض خطير وهو في سن ما بعد السنين استطاع أن يتحمل هذا العبء الثقيل , ويضطلع بهذا الجهد المضنى المتصل طيلة تلك المدة دون كلل أو إعياء .
الفصل الأول الضغط الشعبي للإخوان يبلغ أقصي مداه
الحكومة تلغي معاهدة سنة 1936
اقترن انتخاب المرشد العام الجديد انتخابا رسميا بحدث جلل في تاريخ مصر السياسي هو إعلان الحكومة المصرية إلغاء معاهدة 1936. فقد أعلنت الحكومة إلغاء المعاهدة يوم 10/ 10 / 1951 وأعلن انتخاب المرشد العام يوم 19/10/1951... فهل كان لهذا الاقتران مدلول أم أنه جاء بمحض المصادفة ؟
والذي نعلمه – وقد علمه القراء من الفصول السابقة – أن حكومة الوفد منذ وليت الحكم وهي دائبة البحث عن وسائل التعويق وأساليب المماطلة لتسد بها الطريق أمام استرجاع الإخوان المسلمين حقوقهم القانونية التي سلبهم إياها أمر الحل الغاشم.. وكانت هذه الحكومة في خلال تلك المدة منذ آل إليها الحكم في منتصف يناير سنة 1950 حتى هذا التاريخ يداعبها الأمل في أن تستطيع الحصول على حقوق البلاد في الحرية والاستقلال بطريق التفاهم والمفاوضة مع الإنجليز ولكنها وصلت آخر الأمر إلى طريق مسدود.
ولم يعد أمامها إلا طريق انتزاع هذه الحقوق انتزاعا .. ولما كان لكل ميدان رجال , فقد صارت الاستعانة بالإخوان المسلمين أمر لا مفر منه .. وإذن فليخطبوا ودهم .
هذا من جانب الحكومة . أما من جانب الإخوان فإنهم ما كادوا يلمحون في الحكومة الاتجاه الجاد إلى نبذ المفاوضة مع الغاصب – وهو مطلب طالما طالبوا به كل لحكومات السابقة – حتى نسوا مواقف هذه الحكومة منهم , وهبوا لهذا الاتجاه مؤيدين.. فنشرت الصحف في اليوم التالي لإعلان إلغاء المعاهدة ما يلي :
" يسر الإخوان المسلمين أن تنجز الحكومة وعدها في إلغاء المعاهدة , ويستقلون بالتقدير تلك الخطوات المباركة التي تتمثل في مراسيم إلغاء المعاهدة واتفاقيتي السودان وفي إصدار الدستور السوداني وتغيير لقب الملك إلى ملك مصر والسودان.
وينتظر الإخوان المسلمون كما تنتظر الأمة جمعاء لخطوات الإيجابية الحاسمة التي ينبغي أن تسارع الحكومة إلى اتخاذها لصيانة الاستقلال وتحقيق آمال البلاد , مؤكدين لها أن الشعب كله من ورائها يشد أزرها في الجهاد المقدس لتطهير البلاد من آخر أثر الاحتلال".
ثم عقدوا مؤتمرا بدارهم المؤقتة بحي الظاهر للطلاب بمناسبة بدء العام الدراسي . ونشرت الصحف عن هذا المؤتمر قائلة : إنهم أصدروا قرارات بصدد إلغاء المعاهدة واتفاقيتي السودان .
وفي 19 من الشهر نفسه , وفي نفس يوم انتخاب المرشد العام أصدرت الهيئة التأسيسية البيان التالي :
" بسم الله الرحمن الرحيم ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) ( آل عمران : 173, 174 ).
يؤكد الإخوان المسلمون ما جاء في بيانهم السابق من تقدير للخطوات الوطنية المباركة التي تتمثل في مراسيم إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي السودان , ولما كانت الحكومة بسبيل اتخاذ إجراءات إيجابية لتنفيذ هذه المراسيم , والرد على اعتداءات الإنجليز الأخيرة , فإن الإخوان المسلمين يعلنون استعدادهم التام المؤازرة الحكومة والتعاون معها في كل عمل إيجابي يؤدي إلى الاستقلال ووحدة الوادي والتخلص من كل آثار الاستعمار .
وإن الإخوان يحثون الشعب على أن يثق بنفسه , ويؤمن بحقه , ويعلم أن مستقبله بيدع لا بيد غيره , وأن التضحية والجهاد هما طريق الحرية ,وأن الاتحاد والتعاون هما السبيل إلى الغاية , وأن التنازع والفرقة يبددان قوى الأمة ويذهبان بريحها ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ( الأنفال : 46).
والإخوان يدعون الأمة إلى التذرع بالجلد والحكمة واجتناب الحركات الفردية وغير المنظمة , فإنها لا تؤدي إلى خير . وما ينفع الأمة في هذا الموقف العصيب إلا الروية والإعداد والتنظيم ووقوف الحكومة والشعب صفا واحدا .
ألا وأن الإخوان ليهيبون بالأمة والحكومة أن ترجع إلى الله وتعلم أن ما عنده من النصر لا ينال بالمعاصي ولا يدرك بالقعود , وأن تستمد منه العون فيما اعتزمته من جهاد صادق وكفاح مرير .
( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز , الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( الحج : 40,41 )
رحم الله إمامنا الشهيد وشهداء الأمة جميعا ,وأيد بالقوة والعافية جرحانا وأثابنا فتحا قريبا ".
وبعد يومين أى في 21 / 10/1951 ظهرت جريدة المصري وفي صدرها العنوان التالي :
المرشد العام للإخوان المسلمين يتحدث إلى " المصري " الظروف الحاضرة تستوجب الإفراج عن المسجونين السياسيين فقد كان سبب سجنهم هو العداء المباشر للإنجليز
قال المرشد العام : وجهه نظرنا في أننا نرى أن الظروف التي تجتازها البلاد تستوجب أن تصدر الحكومة عفوا عن المسجونين السياسيين فالقانون يبيح العفو عن المسجون بسبب أى جريمة – ومع ذلك فقد كان عداء هؤلاء المسجونين للإنجليز هو السبب المباشر للحكم عليهم بالسجن ..ونحن لا نريد أن نلح على الحكومة في ذلك لأن الإلحاح فيه ينقص من الشعور بإدراكها لهذه الحقيقة .
• الإخوان تعودوا النظام :
وسأله المندوب عن حمله الصحف الإنجليزية على الإخوان المسلمين وتحميلها إياهم مسئولية الحوادث التي وقعت بالقنال فقال ك نحن لا نهتم بما تنشره الصحف الإنجليزية لأنه بعيد عن الحق . وقد عمل الإنجليز دائما على محاربة الإخوان .. وعلى أى حال فإن موقف الإخوان من الحالة الحاضرة مبين في القرارات التي صدرت عن المركز العام والتي تتلخص في أننا نؤيد الحكومة فيم أصدرته من مراسيم ونحن ننتظر الخطوات التي ستتخذها في سبيل تحقيق الغاية المرجوة ..وما زلنا ننتظر – أما ما وقع في الإسماعيلية وبور سعيد فلم يصدر أصلا عن الإخوان . وحسبك أنك لا تجد في المعركة جريحا واحدا أو حتى ذا ثوب مقطوع من الإخوان .. والإخوان المسلمون تعودوا النظام ولا يمكن أن يصدر عنهم حركة طيش أو تسرع .
• في انتظار ما تقرره الحكومة
يقول المندوب : وقد أجاب على سؤال وجهته إليه عما إذا كان الإخوان يستعدون لكفاح عملي ضد الإنجليز كما حدث في حرب فلسطين قائلا : نحن في انتظار ما تقرره الحكومة . والكفاح العملي قد يأخذ صورا مختلفة غير القتال , كالمقاطعة الاقتصادية .. وإنما إذا قررت الحكومة القتال فالأمة كلها من ورائها ولن يحيد الإخوان بطبيعة الحال.
• لا كتائب حتى الآن:
وسألته عما إذا كانوا ينوون تكوين كتائب أسوة بما فعلته الهيئات الأخرى فكان رده ليس عندنا كتائب , ولم ندرس بعد هذه المسألة .
• لا اعتماد على الدول الأجنبية :
ثم وجهت إليه سؤال عما أبداه البعض من رأي بشأن الاستعانة بدول أجنبية في كفاحنا ضد الإنجليز فقال : إننا لا نؤمن بمعاونات من الدول الأجنبية لأنها جميعا ذات مصالح ورأينا أن تعتمد الأمة على نفسها فقط . واستطرد سعادته يقول : إنه كان من الواجب ألا يعاون المصريون الإنجليز منذ تاريخ احتلالهم لبلادنا , وألا يعمل مصري واحد في معسكراتهم , فقد أدى ذلك إلى رسوخ أقدامهم في البلاد وامتناعهم عن الجلاء على وجه الاطلاق .. ولكن مع ذلك فإن الأمر لا يزال في أيدينا .. ونستطيع أن نمنع عنهم جهود عمالنا , ونقطع عنهم جميع معاوناتنا الاقتصادية , وأن نتبع دستور القرآن ففيه كل وسائل حريتنا .
وفي 22 / 10/ 1951 نشرت " المصري " ما يلي تحت هذا العنوان :
جواسيس انجليز لمراقبة الإخوان
الإسماعيلية – لمندوب المصري – علمت أن السلطات الإنجليزية في الإسماعيلية قد أوفدت جواسيس إلى القاهرة مهمتهم الوحيدة هي تقصي أنباء الإخوان المسلمين وجمعها ورفعها في تقارير إلى مركز القيادة العسكرية . وقد عاد أحدهم اليوم بعد أن جمع المعلومات وكان ضمن ما قام به من جولات زيارة منطقة جبل الجيوشي .
وفي 27/11/ 1951 نشرت " المصري " عنوانا بعرض صفحاتها الأولي هذا نصه :
كتائب الإخوان المسلمين تخوض المعركة في الإسماعيلية
وكتبت تحته ما يلي :
أذاعت وكالة الاسوستيدبوس العالمية نبأ من الإسماعيلية تقول فيه :
قيل اليوم إن الإخوان المسلمين بدأوا يشتركون في المعركة بدليل أن بعض الفدائيين كانوا يتكلمون اللغة الإنجليزية بطلاقة لا يمكن أن تتوفر لجمهور الشعب .
وقد أوردت هذه المقتطفات مما نشر بالصحف في تلك الحقبة من الزمن لا سيما ما نشر في جريدة " المصري " لسان" حال الحزب الحاكم , لأنقل إلى القارئ إحساس الحكومة وإحساس الشعب وإحساس المستعمر نحو الإخوان المسلمين باعتبارهم معقد الرجاء ومناط الأمل والعنصر الفعال . فالمستعمر قد عرف قوة الإخوان من قبل في فلسطين وحجم عودهم , فهو عليم بأنهم العنصر الوحيد الذي يخشي بأسه , ويرهب جانبه , لأنهم فدائيون حقا لا يبالون بالموت , ولا يعرفون النكوص على الأعقاب .
• موقف ساذج للحكومة:
ولما كانت الحكومة حديثة عهد بمواجهة مثل هذا الموقف الذي وجدت نفسها فيه فجأة نتيجة إعلانها إلغاء المعاهدة فإنها ظنت أن على القوات الشعبية أن تحشد نفسها حشدا لتقف مع الجيوش البريطانية في القنال وجها لوجه .. ولكن تجارب الإخوان أثبتت أن المناوشة وحرب العصابات هي مهمة القوات الشعبية ,وإذ صارت الحكومة على رأس قوى النضال فعليها أن تخطط لهذه القوى وتنظمها ..وهذا هو ما أشار إليه المرشد العام في حديثه إلى جريدة " المصري " وهو نفس ما أشار به الأستاذ الإمام ونقلناه عنه في آخر الباب السابق .. وقد أدي عدم فهم الحكومة لدورها هذا وعدم قيامها بهذا التنظيم إلى سلوك بعض هذه القوى سلوكا معيبا شكا منه الأهلون .
وكان المستعمر يريد أن يستدرج الإخوان ويستغل حماسهم ويستغل جهل الحكومة بطرق المقاومة .. فالحكومة – بسذاجة منها وعن طريق صحفها – تحرج الإخوان فينزلون إلى ميدان المعركة نزول جيش لجيش فتحصدهم مدافع الجيش البريطاني حصدا .
ويتخلص الإنجليز بذلك من العنصر الخطير – كما حدث حين تركت الحكومة قوة الشرطة بالإسماعيلية بسلاحها العاجز البدائي طعمة لنيران العدو فحصدتهم دون رحمة – ولكن المرشد العام كان أحصف من أن تجوز عليه هذه الخدعة وأصر على مواصلة المقاومة بطريقة حرب العصابات التي كان ضحاياها أقل عدد ممكن ولكنها سببت للقوات المحتلة أفدح الخسائر, وسلبتهم الشعور بالأمن , وشتت النوم من عيونهم حتى اضطروا إلى ترحيل أسرهم .
ودعا المرشد العام في نفس الوقت إلى تنظيم عملية هي في ظاهرها سلبية , لكنها أدت بهذه القوات إلى الشعور لأول مرة بالحرمان والإرهاق والجوع , وهي تتلخص في حث الشعب على عدم التعاون مع قوات الاحتلال ... وكان دور الحكومة في هذا الحث أن تتكفل بإلحاق من يستجيب لهذا الحث من العمال والمقاولين بأعمال في دوائر الحكومة .
وموقف متناقض أيضا :
وكان المتبادر إلى الخاطر أن الحكومة – وقد اتجهت اتجاها جادا – أن يكون اتجاهها هذا اتجاها متوائما مع روح الدين وخلقه فتغلق أماكن العبث واللهو الحرام , وتأخذ بالأحكام الإسلامية في المال والعرض والنفس , حتى يزول من الصدور الحرج من التناقض الصارخ في الحياة المصرية فبينما شباب يركبون الخطر , ويواجهون الموت في ساحات القتال مع العدو يرى آخرون يتمرغون في أعطاف اللهو والمجون .
ولقد شيع الإخوان في خلال الخمسة عشر يوما الأولي من شهر يناير 1952 ثلاثة شهداء من طلبة الجامعات هم " عادل محمد غانم " الطالب بكلية طب عين شمس و" عمر شاهين" الطالب بآداب القاهرة , و" أحمد المنيسي" الطالب بطب القاهرة - وكان تشييع جنازة الشهيدين الأخيرين في مدينة الزقازيق.. وأترك الجريدة " المصري " بعد أن وصفت روعة الجنازة ,اشتراك جميع الطوائف فيها.. ونشرت صورة للمشيعين يتقدمهم المرشد العام أترك لها أن تذكر ما حديث في أثناء سير الجنازة إذ قالت :
" ومن المفارقات أنه في أثناء تشييع الجنازة في الزقازيق .. والجنازة الجليلة تسير الهويني لتوديع الشهداء الأبطال إلى مكونهم في الخالدين – حدث أن دخل إلى الصفوف عمال إحدي السينمات لتوزيع إعلانات عن عرض الأفلام بها .
وإذا كان القارئ الآن قد امتلأ حقدا على هؤلاء العمال وعلى الذين أرسلوهم لتوزيع الإعلانات في هذه اللحظات الخاشعة , فإنه لا محالة يعذر المشيعين إذا كانوا قد اعتدوا على هؤلاء العمال بالضرب وعلى دار السينما ببعض التلف ".
هذا هو ما كتبته الجريدة .. ونحن لا ننظر إلى الحادثة في ذاتها , وإنما ننظر إلى ما توحي به إلى النفوس من معان تثبط الهمم وتهد العزائم... وإذا كان هذا هو ما يحدث في الأقاليم – التي من طبيعتها التمسك إلى حد ما بالقيم – فما بالك بما يحدث في القاهرة والإسكندرية في نوادي القمار ودور السينمات والمسارح والكباريهات ؟!
وإذا لم تذكر المحن القاسية الشعب والحكومة بالله الذي بيده وحده النصر فمتى يذكرون الله ويرجعون إليه ومتى يحكمون شريعته ومتى يلتزمون حدوده ؟ المرشد العام يضبط المشاعر ويحدد الموقف بحزم؟
والإخوان بطبيعتهم – كما قدمنا – إذا ذكر الجهاد والاستشهاد نسوا كل شئ وخفوا إلى ساحة الموت .
ركضا إلى الله بغير زاد
- إلا التقي وعمل المعاد
ولكن المرشد العام – وهو الرجل الذي حنكته التجارب , والذي اجتمعت في يديه كل الخيوط – كان هو الرجل القادر على ضبط هذه المشاعر وحسن توجيهها , فهو لا ينسي أنه – قبل كل شئ – صاحب دعوة شاملة هدفها إرساء قواعد الحكم الإسلامي في البلاد, ولا ينسي أن القابضين على زمام الأمور في البلاد لا زالوهم أعداء هذا الهدف ,والغارقين في بحار اللهو والعبث والمجون .. وفي الوقت الذي يرى أن دعوته تلزمه بإجلاء المستعمر عن البلاد يري أنها تلزمه أيضا بتطهير أداة الحكم من أئمة الفساد والمجون .
فبينما كان كل أخ من الإخوان المسلمين يتحفز فرحا وجذلا للذهاب إلى الميدان , كان المرشد العام مشغولا بإيجاد حل لهذه المعادلة الصعبة التي تجمع بين الاحتلال الخارجي والفساد الداخلي وكيفية التخلص منهما معا.. والمشقة الكبرى أمام الرجل كانت تتمثل في أنه يعد العدة فعلا لحل المعادلة ولكنه لا يستطيع أن يبوح لأحد بما يعد , ولا حتى للإخوان أنفسهم .
واكتفي هنا بهذه الإشارة العابرة فتوضيح هذا الموضوع ليس هذا موضعه وإنما يأتي موضعه في الجزء الثالث من هذه المذكرات إن شاء الله .. ولكنني أورد هنا بعض نصوص نشرت في صحيفة " المصري " في تلك الحقبة قد تلقي قراءتها بعض الضوء على الموضوع لا سيما بعد أن تكشفت الأمور وقعت الأحداث التي كان يحضر لها المرشد العام وأصبحت بالنسبة للناس الآن تاريخا يدرس – وإن كان محرفا – بعد أن كانت في الوقت الذي نؤرخ له آمالا في ضمير الغيب .
وهذه النصوص تتصل في مجموعها بأمر كان يشغل بال الشعب والحكومة والمحتل نفسه , وهو إبراز موقف الإخوان المسلمين محددا مفصلا من أحداث الساعة .. وقد تصدى بعض الإخوان المسئولين لتحديد هذا الموقف : بعضهم مدفوع بالتشوف الملح إلى إحراز الشهادة . والبعض الآخر – ممن يعيشون في معمعة المعركة ورأوا بأعينهم المآسي الدامية التي خلفها الاعتداء البريطاني الآثم على السويس – مدفوع بالأمل في منح فرصة للمنكوبين من أهل تلك المدينة وضواحيها لإصلاح بعض شأنهم وإعداد أنفسهم ليكونوا في مواقف أفضل للدفاع عن أنفسهم .
وقد نشرت الصحف رأي الأستاذ محمد طاهر منير رئيس شعبة الإخوان بالسويس وهو يمثل نظرة أهل المنطقة التي جنت عليها نظرة الحكومة الساذجة لطريقة المقاومة وتركها الحبل على الغارب للأهالي العزل المجردين من كل سلاح ومن كل خبرة لمواجهة جيوش الاحتلال المجهزة بأحدث وسائل التجهيز..
ثم نشرت بعد ذلك رأي الأخ الشيخ محمد الغزالي عضو مكتب الإرشاد في ذلك الوقت وهو يمثل الفئة الأخرى في كلمة له بعنوان " لن تبلغ أمة هدفها إلا إذا نظفت جبهتها الداخلية – رأي الإخوان المسلمين في الموقف " هذا نصها : " إن الإسلام الذي يعمل الإخوان المسلمون في حدود , له توجيهات واضحة بإزاء الموقف الحاضر . فلأول مرة التقي القانون الشرعي والقانون الوضعي على اعتبار الإنجليز في هذا الوادي محاربين لا أمان لهم ولا عهد . وكان من بشائر الخير أن اتفقت الحكومة والشعب على تحمل هذا الموقف , ومواجهة تبعاته بروح من الإصرار الواجب والكفاح المحمود , والإسلام لا يظاهر هذه الحركة فحسب بل يؤجج نارها , ويرمي لها بوقودها من الفدائيين والشهداء .
ويجب أن يعلم أن الإسلام كما تقوم على كلمة التوحيد يقوم كذلك على توحيد الكلمة . ولن تبلغ أهدافها إلا إذا نظفت جبهتها الداخلية من المنتهزين والمصطادين في الماء العكر , فإن الالتواء بعناق الأمة عن غايتها التي أتحدث عليها قد يصيب نهضتها بانتكاس وخيم العاقبة . ولذلك وضع الإسلام له أشد العقاب , قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ": من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان ".
وفي حدود تعاليم الإسلام السابقة يمكن أن نعرف حقيقة السياسة التي لا يتخلي عنها الإخوان المسلمون غير ناظرين إلى أحزاب أو أشخاص .. ومن الحقائق المقررة في أذهان الإخوان المسلمين جميعا :
- أنه لا يجوز بقاء أى جندي إنجليزي لا في مصر وحدها , بل في ربوع العالم الإسلامي كله .
- أن الإخوان المسلمين يسوون في نظرهم بين أخطار الشيوعية الوافدة , والخلل الاجتماعي القائم , لأنهم ينادون بالاشتراكية الإسلامية وفيها وحدها الإنقاذ مما نعانيه ومما نتوقعه.
- ولما كانت مصر طليعة الكتلة الإسلامية التي يدور النزاع العالمي على استغلالها, فإن الإخوان يرفضون الارتباط بأية كتلة معتدية وهم يحاربون فقط من يعتدي على أرضهم .
ذلك ومن البديهي أن الإخوان الداعين إلى تحكيم كتاب الله ليسوا هم الذين يشاركون في الحكم بغير ما أنزل الله. وقد أدي الإخوان واجبهم في معركة القنال . وللأمة أن تعتمد على رجولتهم دائما في رد الأذي ودفع العدوان .
وقد يلحق بهذا المعنى الذي نحن بصدده مقال للأستاذ إحسان عبد القدوس نشره في مجلة روز اليوسف في نفس هذه الفترة نقتطف منه الفقرات التالية :
" لا أستطيع أن أتحدث عن القوى الشعبية , وأنسي جماعة الإخوان المسلمين ..وأنا أحد المؤمنين بأن الدعوة الدينية هي أقرب الدعوات إلى نفوس الطبقة الشعبية..
والإخوان المسلمون اليوم – كانوا بالأمس – هم الذين يمثلون دعوة الدين إلى الجهاد , وبفضل دعوتهم هذه شهدت ساحات فلسطين أبطالا منهم وقفوا وقفة العمالقة وهتفوا باسم الله , فإذا بالبطل منهم وفي صدره عشرة أبطال .. ولا يستطيع ضابط ممن اشتركوا في حملة فلسطين أو مراقب ممن راقبوا معاركها , أن ينكر فضل متطوعي الإخوان المسلمين فيها , أو ينكر بطولتهم وجسارتهم على الموت والعبء الكبير الذي تحملوه منها راضين فخورين مستشهدين في سبيله .
أين هم اليوم في ساحات القنال ؟... لنكن منصفين.. لقد عاد الإخوان من حملة فلسطين وفي ظهر كل منهم خنجر مسموم .. عادوا ليشردوا ويعتقلوا وليروا رجلهم الأول يغتال في ظلام – فهل تتكرر عليهم المأساة لو اشتركوا في حرب التحرير ؟ وهل من حقهم أن يسألوا أنفسهم مثل هذا التساؤل ؟
وهل كفر نبي بدينه وتخلي عن دعوته لمجرد أنه خدع في فريق من أنصاهر ,أو أوذي من بني قومه ؟ أقولها وفي القلب أمل لا يزال قويا ... فيوم أن يتحرك الإخوان المسلمون ويعرفون كيف يتحركون وإلى أين فيومئذ اكتملت لمصر قواها الشعبية وضمنت لأيام الجهد الاستمرار ". ولما كانت الصورتان اللتان أبرز الفريقان موقف الإخوان فيهما ونشرتهما الصحف يبدوان كأنما هما مختلفتان .. فقد أشفق بعض محبي الإخوان عليهم وكتبوا يريدون أن يسمعوا من المرشد القول الفصل .
وهنا تقدم الأستاذ سيد قطب – وكان حتى ذلك الوقت لا يزال في صفوف المتعاطفين مع الإخوان – تقدم بطلب الكلمة الفاصلة من المرشد العام فنشر له " المصري " في أول يناير 1952 الكلمة التالية تحت عنوان " رأي الإخوان ورأي الإسلام " وهذا نصها :
" سرني أن أقرأ في " المصري " أمس كلمة الأخ الأستاذ محمد الغزالي عن موقف الإخوان المسلمين من الكفاح الشعبي في هذه الأيام بعد ذلك اللبس الذي وقع عند الكثيرين من قراءة كلمة الأخ الحاج طاهر منير رئيس شعبة الإخوان بالسويس والتي أشار فيها إلى السلم لو جنح الإنجليز إلى السلم.
إن حساسية الناس شديدة في هذه الأيام ..وكل إشارة إلى مسالمة الإنجليز ولو كانت مشروطة بشرط أن يكفوا هم عن العدوان بالجلاء عن البلاد – تقابل من الناس بالتشكك وعدم القبول مما يدل على عزيمة هذا الشعب أن يكافح إلى النهاية وبلا هوادة .
ولكن هناك كلمة صريحة يجب أن تقال للإخوان المسلمين . وأحسبني أقدر الناس على أن أقولها لهم بحكم ما بيني وبينهم من صداقة وثقة وتعاون .
أنه لا الأخ الحاج طاهر منير رئيس شعبة الإخوان بالسويس ولا الأخ الأستاذ محمد الغزالي عضو مكتب الإرشاد يملك أن يقول كلمة الإخوان الرسمية . فقانون الإخوان يجعل هذه الكلمة الرسمية من حق المرشد العام . وهذه الكلمة الصريحة الواضحة التي قالها الأستاذ الغزالي كان يحسن أن تكون هي الكلمة الرسمية التي يقولها الإخوان , فالناس في حاجة ماسة إلى كلمة صريحة واضحة رسمية من الإخوان في هذه الأيام , لأن هناك ما يدعو إلى قولها ..وأصدقاء الحركة الإسلامية من أمثالي هم أحرص على سماع هذه الكلمة فيما تواجهه البلاد من أحداث .
إن دور الإسلام في الكفاح الشعبي دور إيجابي دائما .. والشعب يكافح اليوم من أجل غايتين جليلتين : التحرر المطلق من كل استعمار أجنبي . و العدالة الاجتماعية المطلقة من كل استغلال .ورأي الإسلام في هاتين الغايتين واضح .. فما هو رأي الإخوان ؟
ومعذرة إذا سألت هذا السؤال فإن رأي الإخوان يجب أن يكون واضحا في مناهج وبرامج محدودة لا يحيل إحالة غامضة إلى رأي الإسلام بل أن تقول وتعلن : ما هو رأي الإسلام الذي يراه الإخوان .
إن الإسلام ليس هو الاشتراكية وليس هو الشيوعية كما أنه بكل تأكيد ليس هو الرأسمالية. وعندما توازن هذه المذاهب بالنظرية الإسلامية تبدو محاولات صغيرة قاصرة , وأوضاعا وقتية محدودة فهي لا تعالج إلا الجانب المادي في حياة الإنسانية بينما يتولي الإسلام علاج البشرية بكل مقوماتها الإنسانية .
غير أن آراء الإسلام في كل حقل من حقول الحياة يمكن أن تصور تصويرا مغرضا مشوها إذا تركت بغير تحديد واضح في صورة مناهج وبرامج محدودة في كل جانب من جوانب الحياة . وبما أن دعوة الإخوان تمثل دعوة الإسلام فإنه ينبغي أن يعلنوا للناس هذه المناهج المحددة وهذه البرامج الواضحة...وليست العلاقة بيننا وبين الاستعمار إلا جانبا واحدا تشمله هذه البرامج على أساس صريح.
إن أصدقاء الإخوان – قبل منافسيهم – هم الذين يطلبون هذا الإيضاح ..وهذا وقته بعد ما استرد الإخوان نشاطهم واستأنفوا جهادهم . ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ) ( هود: 88).
• المرشد العام يحسم الموقف :
وهنا رأي المرشد العم أن يقول الكلمة الفاصلة فلفت النظر إلى أمور ذات بال هي صلب الموضوع ولكنها غائبة عن أذهان الشعب والحكومة , الذين ظنوا أن النصر ينتزع من الله انتزاعا مع مخالفتهم عن أمره وإعراضهم عن شريعته وهو الذي يقول : ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) ( آل عمران : 126) ويقول ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ( محمد : 7) وقد نشرت كلمة المرشد العام في جريدة " المصري " في 3 / 1/ 1952 تحت عنوان :" الإخوان . الإخوان " وهذا نصها :
" كثر تساؤل الناس عن موقف الإخوان المسلمين في الظروف الحاضرة .. كأن شباب مصر كله قد نفر إلى محاربة الإنجليز في القنال ولم يتخلف إلا الإخوان المسلمون ..وكأن دور اللهو والمجانة أغلقت وحرمت على اللاهين والماجنين.. وكأن الجالسين في ظل ظليل , وعيش رغد , وأمن لا خوف فيه , ومكاسب لا يدرى أحلال هي أم حرام .. وتركوا ذلك كله وأخذوا في الجد من العمل والمر من الكفاح ..ولم يجد هؤلاء وأولئك للإخوان عذرا واحدا يجيز لهم الاستبطاء بعض الشئ ولم يفطن أحد إلى أنهم كانوا إلى وقت غير بعيد مقيدين بقيود لا تسمح لهم بالحركة ولا يزال شبابهم المكافح رهن السجون.
وأيا كان غرض المتسائلين من تساؤلهم فإن الإخوان لن يتكلموا إلا إذا شاءوا ويحبون أن يؤدوا واجبهم في صمت . وخير لهم وللأمة أن تنطق أعمالهم وهم لا ينطقون ولا يريدون أن يقولوا ما قال واحد منهم - ليس له حق التعبير عنهم – إنهم قد أدوا واجبهم في معركة القنال . فإن هذا غلو لا جدوي له ولا خير فيها , ولا يزال بين ما فرضه الله عليهم من الكفاح وبين الواقع أمد بعيد .. والأمور إلى أوقاتها ( ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ( الروم : 60)
قال الكاتب الجليل الأستاذ سيد قطب :" إن دور الإسلام في الكفاح الشعبي دور إيجابي دائما والشعب يكافح اليوم من أجل غايتين جليلتين : التحرر المطلق من كل استعمار أجنبي ,والعدالة الاجتماعية من كل استغلال , رأي الإسلام واضح .. فما رأي الإخوان "؟
فإذا كان رأي الإسلام في ذلك واضحا فما معني السؤال ؟... إن رأي الإخوان كذلك واضح فهم يطلبون أن يحكم الإسلام تحكيما تاما في حياة الأمة كلها , فهو دين متكامل غير قابل للتجزية يسير بالحياة في نظام عجيب , كلما دققت فيه النظر وجدته مما لا يمكن أن ينقص منه شئ أن يزاد عليه شئ .وقد أخذ الإخوان المسلمون أنفسهم فنفذوه فيما في طوقهم تنفيذه .. والكاتب الجليل يعلم أن أساس النظام الاجتماعي التربية والتعليم وهما حق للأمة وواجب عليها .
وقد مضي الإخوان في ذلك شوطا بعيدا فأصلحوا النفوس الشاردة في الجامعة والمدارس وفي المدن والقري وردوها إلى الله , وأدخلوا الإيمان في قلوب الضالين وأقاموا المستشفيات والمستوصفات لتصحيح الأجسام , وأنشأوا المدارس وكانت كل شعبة من شعبهم مبعثا للنور والهداية .وأبقوا الشركات المختلفة لتدعيم الحياة الاقتصادية التي تسير على هدى الإسلام ذاك إلى غيره من المنشآت التي صادرتها الحكومة ولم تبق منها إلا على ما لم يتسع لها الوقت لإفساده وقد نهضوا على قرب عهدهم باسترجاع نشاطهم لمثل هذه الأعمال وأتموا منها الشئ الكثير .
وأما رفع مستوى المعيشة فلعل الكاتب يعلم من رأي الإخوان المسلمين فيه ما لا يعلم غيره من وجوب توفر المسكن واللبس والغذاء وللعلاج لكل فرد في دولة الإسلام , ويعرف أن هذا مبسوط في كتبهم ورسائلهم , ويعرف أنه مبسوط في كتبة " العدالة الاجتماعية في الإسلام " الذي يدرسه الإخوان فيما يدرسون من كتب بدقة وعناية , ويعلم أن ما يلزم ذلك من مال يؤخذ من الأغنياء ويرد على الفقراء , فتضيق المسافة بين الغني الفاحش والفقر المذل – فإذا كان بعض المترفين الذين يريدون أن يجعلوا بينهم وبين الإسلام سدا لا يقرأون أمثال هذه الكتب , وإذا كان من بيدهم الأمر لا يهتمون بأن ينظروا فيها – ولو على سبيل حب الاستطلاع – فليس الذنب في ذلك ذنب الإخوان.
أما أن الكاتب يريد منا أن نضع مناهج محدودة وبرامج واضحة فإن هذا من التفصيل الذي نعتزمه حين تتوفر لنا أسباب النشر كما توفرت لنا أسباب القول فيه , ولعل ذلك يكون قريبا إن شاء الله ".
الفصل الثاني مقابلة الملك للمرشد العام الجديد
نشرت الصحف في 21/11/1951 النبأ التالي :
في الحضرة الملكية
قصد سعادة الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين إلى قصر القبة العامر في الساعة السادسة من مساء أمس, حيث تشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك ,وقد دامت المقابلة 45 دقيقة . ولم يشأ سعادته أن يفضي بشئ عما تم في هذه المقابلة .
وفي 28/11/1951 نشرت الصحف ما يلي :
المرشد العام في الاجتماع الأسبوعي
قال المرشد العام في الاجتماع الأسبوعي الذي اعتاد الإخوان إقامته في مساء الثلاثاء من كل أسبوع أنه ليس من اللائق التحدث عما جرى في مقابلته مع الملك , ووصف ما أشارت إليه بعض الصحف بصدد هذه المقابلة من اشتراطات وتعهدات بأنها مجرد تكهنات لا أصل لها من الصحة .
تعقيبنا على هذه المقابلة.
هذا هو ما نشرته الصحف اليومية الكبرى عن هذه المقابلة..وكانت مقابلة الملك في تلك الأيام لشخصية غير رسمية تعتبر حدثا تاريخيا وتعد مفخرة لهذه الشخصية تتحدث عنها جميع الأوساط وتعلق عليها وتتكهن بما سوف يعقبها وما يترتب عليها , إذ هي شرف لا يداني وأمل لا ينال وأمنية يحلم بها رؤساء الأحزاب المستوزرة ويقطعون على أنفسهم بين يديها عهودا أن يكونوا لخدم الأمناء للحضرة الملكية ولأوامرها ولمآربها ..ومع ذلك قلما يظفرون بها .
فإذا كانت المقابلة للمرشد العام للإخوان المسلمين , فإنها لا تعتبر حدثا تاريخيا فحسب بل تعتبر انقلابا اجتماعيا وسياسيا تعجز التكهنات عن تقدير مدى نتائجه , وما قد يترتب عليه لا سيما وأن هذه المقابلة قد حاولها من قبل غير مرة المرشد العام الأول.
ولكنه حيل بينه وبينها .. فما الذي حدث وما الذي طرأ على مسرح الحياة السياسية في مصر حتى تمت المقابلة فجأة دون مقدمات تمهد الأذهان لتوقعها ؟
وقد أوردنا كل ما كتبته الصحف اليومية الكبيرة عن هذه المقابلة من نشر نبأ حدوثها ومن تعليق المرشد العام ما نشر في مختلف الصحف , وهو تعليق يزيد النبأ غموضا ويشجب التكهنات التي دارت في الأوساط الصحفية الأسبوعية , ولكنه لا يلقي أى ضوء على ما كان من شأن المقابلة وما تم فيها .. ولذا فقد رأينا أن نعرض بتعليق على المقابلة وأن نحلل الظروف التي أحاطت بها في السطور التالية إن شاء الله .
وقد غلبت على الرجل طبيعته في الكتمان التي اكتسبها منذ كان طالبا بالحقوق وعضوا في جمعية اليد السوداء فظلت هذه المقابلة وما تم فيها سرا مكتوما يجهله جميع الناس بل ويجهله أكثر الإخوان المسلمين أنفسهم .. حتى أن هذا الجعل بحقيقة ما تم فيها قد استغله بعض الحكام المغرضين فيما بعد استغلالا دنيئا للنيل من دعوة الإخوان المسلمين ومن المرشد العام مما يأتي تفصيله في الجزء القادم من هذه المذكرات إن شاء الله .
وأري من حق التاريخ على , وإبراء لذمتى نحو الحقيقة التي انطمرت تحت ركام الأحداث وتوالي الأيام أن أفضي إلى شعبنا الذي طال أمد تضليله – بما أعرف عن هذه المقابلة وما دار فيها وما سبقها وما تلاها ... ومعذرة حين أسرد معلوماتي إذا أنا سردتها وسط الظروف التي تم وصولها إلى فيها , وبالأسلوب وبالألفاظ التي سمعتها بها , وإن كان في ذلك بعض الأستطراد وبعض معلومات لا تتصل بالمقابلة لكنها لا تخلو من فائدة إن شاء الله .
كان ذلك في مقتبل ربيع عام 1952 , ولم أكن في تلك الأثناء قريبا من القاهرة حيث كنت لا أزال في عملي الخاص في الصعيد فلما انتهي موسم القطن في الصعيد – وهو ينتهي مبكرا – ذهبت إلى رشيد لاستجم بضعة أيام , فوصلني من الإخوان بالقاهرة خطاب يطلبون إلى فيه أن أكون في دمنهور في يوم كذا لأن الأستاذ لمرشد يقوم برحلة في الوجه البحري وسيكون في هذا اليوم إن شاء الله في دمنهور " هو يريد أن يلقاك هناك"
ولم تكن الظروف قد أسعفتني بشئ من المعلومات عن مقابلة الأستاذ المرشد للملك
إلا ما قرأته في الصحف التي اعتبرت هذه المقابلة حدثا تاريخيا لم يكن متوقعا , عدت ذلك شرفا عظيما يضفي على الإخوان المسلمين .
• من أخطار الربا :
وسعدت بوجودي في دمنهور في ذلك اليوم فقد غبت عنها زمنا طويلا منذ غادرتها منقولا عقب اغتيال الأستاذ الإمام فقابلت إخوانا بها أعزاء منهم الأخ الحاج عبد القادر عثمان المضيف للمرشد العام وصحبه في منزله , والذي استقبلني بالعناق الحار , وبادرني بقوله : لقد كنت حريصا على لقائك لأقول لك إنني لم أخالف نصيحتك إلا مرة واحدة , وكادت هذه المخالفة الواحدة أن تؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل – فقد كنت نصحتني باعتباري تاجرا ألا أتعامل مع البنوك...ولكن صديقا لى يعمل وكيلا لبنك التسليف الزراعي بالمحمودية أغراني وألح على بكمية من الفول لم يكن معي ثمنها ..
وكان الذي أغراني أن أسعار الفول كانت في ارتفاع مستمر .. ولكن بعد أن أصبحت هذه الكمية باسمي أخذت الأسعار في الهبوط بل في الانهيار فطالبني البنك بالتغطية – أى بأن أدفع للينك الفرق بين الثمن الجديد والثمن الذي اشتريت به- فدفعت إليه كل ما كان معي من نقود .. ثم هبط السعر – وليس هناك مشترون كدأب الأشياء إذا كانت أسعارها في انخفاض مستمر – فطالبني البنك بتغطية أخري .. وهكذا حتى اضطررت إلى بيع أثاث بيتي وكل شئ عندي حتى هذا المنزل عرضته للبيع ..ولكن الله سلم.
ويبدو أن الله تعالي قد اكتفي هذه المرة بتأديبي إلى هذا الحد وقد علم مني حسن التوبة وصدق الله العظيم ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) ( البقرة :276)
• حديث خاص وخطير
لم أكن حتى تلك اللحظة قد جلست إلى الأستاذ المرشد العام حسن الهضيبي أو تحدثت معه أو استمعت إليه إلا المقابلتين العارضتين اللتين أشرت إليهما قبل أن يتم انتخابه .. وكنت أعجب لرجل هذا حالي معه يطلبني بالذات لأقابله بدمنهور – وكنت حين وصلت إلى منزل المضيف قد اتخذت – في غرفة فسيحة من غرفاته – مجلسي بين الإخوان مؤتنسين بوجود الأستاذ المرشد معنا . ولكن الأستاذ المرشد ناداني وطلب إلى أن أجلس بجانبه ففعلت .. وأنا أعرف أن الرجل قليل الكلام .. وكانت هذه صفة من صفاتي أنا الآخر ..وكنت حريصا – بعد أن حييته ورحبت بمقدمة إلى عاصمة محافظتنا- على ألا أبداه بكلام حتى يبدأ هو لأعرف السبب الذي دعاني من أجله لمقابلته وأنا لم أخالطه من قبل ..
وبدأ الرجل بالكلام فرد على ما في نفسي من سؤال فقال :" إنني لا أهتم بالإخوان المظهريين, ولا بذوى الألسنة , ولا بالمتحمسين , ولعلك تعلم أنني كنت رافضا هذا المنصب لعدم ثقتي في هؤلاء ,ولولا دموع يوسف طلعت الأخوة البسطاء ما قبلت ..
وقد علمت بعد ذلك بما كان من أمر النظام الخاص وتمرده على الدعوة . وعلمت بما كان من محاولات لإقناعهم وكبح جماحهم وبأن هذه المحاولات لم تجد معهم .. وقد كدت أرجع إلى رفضي لأني لا أقبل أن أكون على رأس دعوة يتسلط عليها مركز قوة من داخلها فإن هذه المراكز هي ديناميت ينسف الدعوة فلا يبقي منها على شئ – ولولا أن قيل لى : أمهلنا حتى نرسل في طلب أخ يحبه إخوان هذا النظام ويحترمونه ليكون ذلك آخر ورقة في جعبتنا ثم قال : ولم تكن هذه أول مرة أسمع فيها عنك قد حدثني الأستاذ الإمام عن كثير من شخصيات الدعوة – وقد بلغني ما كان من حديث بينك وبين هؤلاء الإخوة وما انتهي إليه الأمر من إذعانهم وإنهاء تمردهم .. وقال : إنني أريد الإخوان الذين يعملون ولا يتكلمون والذين يعملون ويرجون وجه الله ". ثم قال : إنني أحب أن أعرف رأيك في بعض الأشخاص .. حتى جئنا إلى شخصية هامة جدا في الدعوة فوجدت وجهة نظره فيها متفقة مع وجهة نظرى – مع أنها وجهة غائبة عن أكثر الإخوان – والعجيب أن كلينا قد قرر أن هذه الشخصية هي في أسمي الدرجات إيمانا وعلما وإخلاصا لكنها لا تحسن تقدير المواقف , وقد عبر الأستاذ المرشد عن ذلك المعني بكلمة فرنسية .
وقد أثبتت الأحداث الجسام بعد ذلك أن تقييمنا كان صحيحا ودقيقا .
لقد طال الحديث بيني وبين الأستاذ المرشد حتى خشيت أن يحرج ذلك صدور الإخوان الجالسين, ولكن أمام أهمية الحديث رأيتني في حل من مواصلته معتمدا على ثقة الإخوان في مرشدهم وحسن ظنهم بي .
ثم التفت الأستاذ إلى وقال : هل علمت ما كان من أمر مقابلة الملك فاروق ؟
قلت ك لا أعلم إلا ما نشرته الصحف .
قال : هذا ما كنت أتوقعه من رجل مثلك ليس من طبيعته أن يتحشر ويتسقط الأخبار ..ولهذا حرصت على أن أقابلك وأفضى إليك بتفاصيل هذه المقابلة , فمثلك لا ينبغي أن يجهلها .
• تفاصيل المقابلة مع الملك:
وسرد على الأستاذ المرشد تفاصيل هذه المقابلة ومقدماتها وملحقاتها ساعة بساعة ولحظة بلحظة, لكنني بعد مضي خمسة وعشرين عاما لا أستطيع أن أدعي أنني لا زلت أعي كل هذه التفاصيل, لا سيما وهذا أول يوم منذ ذلك التاريخ أمسك بالقلم لا سجل ما سمعته ولذا فإني لن أثبت هنا إلا ما بقي في الخاطر – وهو قليل – لكن الذي أثبته هو النص الذي لم يتفلت من خاطرى منه شئ .. أما ما سوى ذلك من التفاصيل مما لم يبق في الذهن منه إلا ظله فسأضرب عنه صفحا حتى لا أخلط الحق الصريح بما هو دونه .
قال الأستاذ المرشد : في يوم كذا اتصل بي الصديق فلان ( أنسيت اسمه وتاريخ اليوم ) وقال لى أن كريم ثابت المستشار الصحفي لجلالة الملك يريد أن يقابلك . فلم أمانع وحضر كريم ثابت وأخبرني بأن جلالة املك يريد أن يقابلني فأمهلته حتى عرضت الأمر على مكتب الإرشاد ووافق ..وحدد الميعاد .. وقال لى الأستاذ : إنني في اجتماع مكتب الإرشاد حاولت أن أهون من شأن هذه المقابلة مهتديا بالحكمة التي تقول : متى يستقيم الظل والعود أعوج.
في اليوم السابق للميعاد اتصل بي كريم ثابت وسألني : هل لديك رد نجوت ( بدلة من أثمن أنواع الصوف الإنجليزي الأسود ذات سترة طويلة ولها هي وبنطلونها شكل خاص وتفصيل خاص وتكاليفها باهظة ,ولا يسمح لأحد بمقابلة الملك إلا إذا كان مرتديا بها ) فقلت له : ليس عندى . فقال : سأبعث إليك بواحدة .. قال الأستاذ : فلما رجعت إلى المنزل وجدت بدلتين من الردنجوت قد بعثوا بهما لأختار أنسبهما لجسمي :
فلما كان يوم المقابلة قررت ألا ألبس الردنجوت . وحين جاء الميعاد حضر كريم ( على ما أذكر أنا ) ليصحبني إلى القصر . فوجدني ببدلتي العادية فسألني : ألم تصلك البدلتان الردنجوت ؟ فقلت : قد وصلتا ,وسلمتهما له وقلت له : إنني قررت ألا أقابل الملك إلا بملابسي العادية هذه . وإذا لم يكن مسموحا به فأرجو إلغاء المقابلة . لأنني لم أطلبها حتى تشترطوا علي شروطا .. قال : فظهر الحرج على وجه كريم . ولكن يبدو أنه كان مكلفا من الملك بإتمام هذه المقابلة على أى وضع وبأى ثمن , لأنه مع ما أوقعته فيه من حرج قال : ما دمت متمسكا بذلك فلا مانع .. وهذه أول مرة يقابل فيها الملك شخصا لا يرتدي الردنجوت .
قال الأستاذ : وكان عندي مجموعة من الإخوان في ذلك الوقت وقد حاولوا أن يزحزحوني عن رأيي لإخراج كريم من حرجه , لكنني أصررت على رأيي وصممت عليه متمنيا أن تلغي المقابلة .
ولما وصلنا إلى القصر , وجدت في استقبالي الموظفين الرسميين الذين يستقبلون السفراء وأمثالهم حتى دخلنا مكتب سكرتير الملك ( أو كبير الأمناء لا أذكر ) فإذا بالملك يدخل ويلقي على السلام ويصافحني فصافحته كما أصافح أى إنسان . ثم أخذني ويده في يدى ودخلنا مكتبه الخاص فجلس إلى مكتبه وجلست إلى جانبه في الفوتيل المجاور .
ثم أخذ يرحب بي ويوجه إلى الحديث ويقول : لا أدري لم يسئ الإخوان الظن بي ؟ فلم أرد عليه . فقال : إنني رجل مسلم وأحب الإسلام وأتمني له الخير, وقد أمرت بإنشاء مساجد كذا وكذا.. فلم يكرهني الإخوان ؟ فلم أرد . فقال : إن الإخوان قد أفهموا خطأ أنني الذي أمرت بحلهم واعتقالهم وباغتيال الشيخ البنا.. هذا والله العظيم خطأ ولم أفعل من هذا شيئا .. إن الذين فعلوا هذا هم السعديون . النقراشي وإبراهيم عبد الهادي .. وفي اللحظة التي تمكنت فيها أقلت إبراهيم عبد الهادي وأمرت الوزارة التي عينتها بالإفراج عن الإخوان .
وقال لى الأستاذ المرشد : لقد طال حديث الملك نحو ساعة استعرض خلالها تاريخه وما عمله من خير ونسب كل عمل سئ إلى غيره .. وبين الفينة والفينة كان يلقي السؤال نفسه " لم يكرهني الإخوان إذن ؟ وأنا لا أرد .. ثم قال لى الأستاذ : ويبدو أنني سهوت عن نفسي بعد قليل من بدء الحديث , وتنبهت فوجدت نفسي في وضع عجيب ..وجدتني جالسا في الفوتيل واضعا إحدى رجلي على الأخرى ففكرت في الرجوع إلى الجلسة المناسبة , ولكنني قررت ألا أغير هذا الوضع فظللت في هذا الوضع حتى نهاية المقابلة حين سألني بعد أن أشعرني أنه قال كل ما عنده : ما رأيك إذن يا حسن بك فيما قلته , وفي أنني على استعداد أن أعمل للإسلام ؟ فرددت عليه قائلا : إنني سأعرض ذلك على الإخوان ونسأل الله التوفيق .. قال الأستاذ فقام الملك وصافحني وصافحته ,ووصلني إلى باب مكتبه حيث تلقاني كبار رجال القصر حتى رجعت إلى المركز العام .
وقال لى الأستاذ : ووالله يا فرن لقد كنت أشهر وأنا أصافح ذلك الرجل ثم وأنا أجلس معه أنني أمام طفل صغير , لا أشعر نحوه ولا برهبة ولا حتى باحترام .. وبهذه العبارات ختم الأستاذ حديثه معي في تلك الليلة أو في ذلك اليوم.
• لقاء أحباب ذكرنا بالأيام الحلوة الخالية
كان في صحبة الأستاذ المرشد في هذه الرحلة عدد من إخوان القاهرة ومن غير القاهرة غير أنني لاحظت أن المرافق الأصيل الملازم له طول هذه الرحلة التي رصد لها نحو شهر هو الأخ الأستاذ أحمد حسن الباقوري, ذلك أنني وجدت الأستاذ المرشد كلما سئل عن شئ يتصل ببرنامج الرحلة أحال السائلين إلى الأخ الشيخ أحمد .. ولقد أثار هذا الأمر عجبي لأن الشيخ الباقوري – وهو من لا يشك في إخلاصه ووفائه – لم يكن مع ما يعلم من حب الأستاذ الإمام له – يلزم نفسه أن يكون مرافقا له في رحلة طويلة , مع أنه كان إذ ذاك خفيف الظهر قليل المسئوليات ... فما هذا الذي أراه الآن بعيني ؟...
لقد لاحظت أكثر من ذلك أنه على غير ما تعودت أن أراه إذ لم يكن يحفل بأن يأخذ نفسه بأسلوب تعبدي شاق .. لكنني أراه الآن آخذا نفسه بهذا الأسلوب فهو صائم النهار كثير التسبيح بالليل , كأنما هو شخص آخر غير الباقوري الذي عرفته في بواكير أيام الدعوة .
على كل , فإن عجبي لم يطل إذ تذكرت طبيعة الباقوري .. طبيعة الشاعر الذي تستبد به مشاعره, فهو طيع لها توجهه حيث تشاء دون أسباب ولا مقدمات ... غير أن هذا الوضع الأخير الذي رأيته عليه من تمام الجد في الدعوة وقوة الأخذ بأسباب التبتل والعبادة أشاع في نفسي السرور وشرح صدرى وحبب إلى المبيت معه , حيث دعاني إلى ذلك لنقضي ليلة طالما أفتقدناها بعد أن أنهينا مرحلة الطلب .
وليس غريبا أن يطول الحديث في مثل هذه الليالي المختلسة من الزمن بين صديقين باعدت بينهما الأيام أمدا طويلا , وأن تتشعب شجونه , ولكن بيت القصيد , وما يهم القارئ مما دار بيننا من أحاديث , هو ما كان منها في شأن الموضوع الذي نحن بصدده فقد قلت له : يا أخي أحمد .. إنك تعلم أن ظروفي ونأي مكان عملي قد حرمني أن أكون على مقربة من هذا الرجل الأستاذ حسن الهضيبي .وقد تكون أنت من أقرب الناس إليه ومن ألصق الإخوان به , وأنا أحب أن تحدثني عنه حديثا صريحا يكشف لى عن حقيقة شخصيته .
فقال الباقوري : أنت محق في استفسارك هذا ومن حقك أن تعرف عن دخائله قبل أن تعرف عن ظواهره ,ولقد تعرفت على هذا الرجل وجالسته وحادثته وناقشته فسرني وأعجبني وملأ نفسي في جميع الجوانب التي تنشدها في قائد للدعوة - غير أن شيئا بقي في نفسي جعلني لا أجرؤ على أن أخلطه بنفسي وأن أخلط نفسي به ذلك أنني كنت أحس أن الرجل من طبقة الأرستقراطيين بحكم منصبه ومكانته الاجتماعية ( ينبغي أن يعلم القارئ أن كبار رجال القضاء في ذلك الوقت – وكانوا قلة – كان الشعب ينظر إليهم باعتبارهم أعلي طبقة في الأمة , وكانت الدولة تعاملهم بهذا الاعتبار نفسه ماديا وأدبيا ) حتى دعاني في يوم إلى منزله , فلما جاء وقت الطعام ورأيت الطعام يقدم كما نقدمه في بيوتنا , ويجلس أبناؤه معنا كأنهم معنا كأنهم إخوتنا حتى إنه بعد تناول الطعام اقترح على أن أقيل ساعة فإذا بي أعطي وسادة كما أخذ كل من أبنائه وسادة ونمنا على أرض الحجرة – حجرة الجلوس – تماما كما كنا نفعل في المركز العام وفي بيوتنا وفي بيت الأستاذ الإمام – فعلمت أنني كنت على خطأ في سوء ظني بالرجل في هذه الناحية .. ومنذ لك اليوم وأنا أشعر أنه منا ونحن منه , كما كنا مع حسن البنا رحمه الله وكان معنا .
• في أعقاب المقابلة الملكية :
بعد لقائي هذا مع الأستاذ المرشد التقيت في القاهرة بالأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين وقصصت عليه ما أنبأني به الأستاذ المرشد عن المقابلة . فأخبرني عبد الحكيم بأن الذي حدث بعد المقابلة كان أغرب . فقد حضر إلى المركز العام – بعد المقابلة بيوم أو نحو – الأستاذ كريم ثابت باشا يحمل به صورة فاخرة للملك في إطار فاخر , مهداة إلى حضرة صاحب العزة الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين وموقعة بتوقيع الملك , وقدمها كريم ثابت إلى الأستاذ المرشد مقترحا عليه أن يعلقها فوق مكتبة بالمركز العام حيث كانا جالسين معا . ثم نهض الرجل وسلم وخرج .
ودخل الإخوان بعد ذلك فرأوا الصورة, وبهروا لفخامتها , ومنهم من رأي جدارتها أن تعلق . ولكن الأستاذ المرشد طلب منهم أن يتركوا له اختيار مكان تعليقها .. قال الأستاذ عبد الحكيم : وانتظرنا أن نرى الصورة معلقة في مكتب الأستاذ أو في أية حجرة أخرى بالمركز فلم نرها , فسألناه فقال : إنني أخذتها في بيتي . قال الأستاذ عبد الحكيم : ذهبت إلى منزل الأستاذ المرشد منتحلا سببا من الأسباب ولكن كان قصدى أن أري أين علقت الصورة في بيته فدخلت حجرة الجلوس كالمعتاد فلم أرها . وترددت على المنزل أكثر من مرة فلم أرها .. فعزمت على أن أذهب إلى المنزل هذه المرة ولا أغادره حتى أعرف أين وضعت هذه الصورة .. فدخلت البيت وتعمدت أن أتناول طعام الغداء فلم أرها في حجرة الطعام فانتحلت أسبابا لدخول كل غرف البيت فلم أعثر عليها في أية غرفة .
فيئست وعزمت على ألح على الأستاذ ليحل لى هذا اللغز .. حتى إذا حان وقت الصلاة طلبت أن أجدد وضوئي , فدخلت دورة المياه .. وكانت المفاجأة .. فقد وجدت الصورة ملقاة على أرض الدورة مركونة على أحد جدرانها .. فذهلت ..ولما قابلت الأستاذ المرشد حدثته في ذلك فقال لى :" هذا هو مكانها ".
وقال الأستاذ عبد الحكيم .. ولم يحفل المرشد بزيارات متكررة من أشخاص كان يعلم أنهم موفدون من قبل القصر ليروا أين وضعت الصورة .
الفصل الثالث حريق القاهرة أو الخطة الجهنمية لإحباط المقاومة
• انتخابات نادى ضباط الجيش في 31 / 12/ 1951:
هذه نقطة قد يظنها القارئ بعيدة عما نعالج من موضوع .ولكنها في الحقيقة هي جزء منه لا يتجزأ , إذ هي إحدى معالم الطريق الذي قرر الشعب أن يسلكه , وهي إحدى ثمرات التوعية والجهاد الطويل الممتد منذ عشرين عاما في غمار الشعب وفي صفوف الجيش .. وهي إرهاص بأحداث جسام موشكة أن تقع في البلاد تغير قسمات وجهها وتقلب موازينها .
نعم إن انتخابات نادي ضباط الجيش عملية دورية كانت تجري دون أن يحس بها أحد ودون أن تثير اهتماما لأنها في ذاتها أمر عادي كانتخابات نادي ضباط البوليس وانتخابات نوادي التجاريين والزراعيين والأطباء ومن إليهم .
ولو أن هذه الانتخابات حدثت قبل هذا التاريخ بعام أو بعامين أو نحو ذلك لما كانت ذات دلالة خاصة ولا ذات أهمية تذكر ..ولكن وقوعها في هذا التاريخ جعلها وكأنها صدي للدوى الهائل الذي انبعث من صفوف الشعب واستجابت له الحكومة أخر الأمر فألهب المشاعر وفجر العواطف الوطنية .
ولقد تحفزت الجبهات المختلفة في البلاد لهذه الانتخابات , وأعدت كل منها العدة لخوضها باعتبارها إحدى جولات المباراة النهائية فيما بينها فالملك ومن ورائه النفعيون يحشدون أنصارهم ,ويقفون وراء مرشحيهم التقليديين بالمال والنفوذ والوعود والإغراء – والإخوان ومن يدورون في فلكهم بضباطهم الصغار يعدون العدة لإسقاط مرشحي الملك والنجاح رجل عرف بالشجاعة والنزاهة والتدين والوطنية هو اللواء محمد نجيب الذي كان الملك يعتبره عدوه اللدود.
ونظرا لأهمية هذه الانتخابات وخطورة نتائجها رأينا أن نرشح بها لهذا الفصل وسنورد هنا تفصيلات دقيقة لما تم في الاجتماع الذي وضع أسسها وتمخضت عنه نتائجها وهو اجتماع الجمعية العمومية . وإليك القرارات والتفصيلات .
- أولا – ضم هذا الاجتماع نحوا من خمسمائة ضابط ومنهم الفريق عثمان المهدي باشا رئيس أركان حرب الجيش .
- ثانيا – تقرر فيه ضم نادي سلاح البحرية إلى إدارة النادي حتى تمثل جميع أسلحة الجيش .
- ثالثا : رفض اقتراح بضم سلاح الحدود كسلاح منفصل حيث إن هو إلا فرع من فروع الجيش – ومما يجدر ذكره أن اللواء حسين سري عامر قد عين من بعد الحكم الذي أصدرته المحكمة ببراءته –مديرا لسلاح الحدود محل اللواء محمد نجيب الذي نقل إلى سلاح المشاة , وسرى عامر كان رجل الملك ومن أقرب المقربين إليه – وبذلك استبعد سري عامر من الانتخابات نهائيا .
- رابعا – عدلت المادة السابعة من قانون النادي والتي كانت تقضي بأن يكون رئيس النادى هو رئيس هيئة أركان الجيش , إذ رؤى أن يكون رئيس النادى بالاقتراع – وينشأ منصب جديد هو رئيس شرف النادي يتولاه القائد العام للقوات المسلحة , باعتباره قائد جميع أسلحة الجيش لا بصفته الشخصية, على أن يعطي الرئيس المنتخب جميع حقوق الرياسة وبذلك تئول إليه الاختصاصات التي كانت منوطة برئيس أركان حرب الجيش وهي التكلم باسم النادى وتمثيله.
- خامسا- رفض اقتراح بأن يعين وكلاء شرف للنادي رئيس أركان حرب الجيش وقائد الطيران وقائد البحرية.
- سادسا – العدول عن قيام كل سلاح بانتخاب ممثليه في مجلس الإدارة وتقرر أن تقوم الجمعية العمومية للنادي مجتمعة بانتخاب هؤلاء الممثلين .
- سابعا – العدول عما جاء بالمادة الثامنة من أن يدير النادي مجلس إدارة مؤلف من رئيس لا تقل رتبته عن أميرالاي وسكرتير وأمين صندوق لا تقل خدمتهما عن 15 سنة وكذلك 19 عضوا يمثلون الضباط بتوزيع الأسلحة – وتقرر الاستغناء عن شرط مدة الخدمة بالنسبة للسكرتير وأمين الصندوق .
ثم أجرى الانتخاب فأسفر عن الآتي :
الرئيس – اللواء محمد نجيب 276 صوتا ( انتخب) – اللواء سيد محمد بك 34 صوتا – اللوائء إبراهيم زكي الأرناءطي 19 صوتا – الأميرالاي محمد نايل 13 صوتا الحاشية العسكرية – بكباشي فوزي يحيي إمام 259 صوتا " انتخب ".
البحرية – بكباشي أنور عبد اللطيف 298 صوتا ( انتخب ) بكباشي أحمد عبد الغني 267 صوتا "انتخب" أمير البحر أحمد ثروت بك 71 صوتا .
الطيران – قائد جناح محمد بهجت مصطفي 284 صوتا" انتخب " قائد جناح عز الدين رمزي 52 صوتا – قائد جناح جمال سالم 37 صوتا – قائد أسراب عمر شكيب 27 صوتا- قائد أسراب حسن إبراهيم 50 صوتا .
المشاة – بكباشي زكريا محيي الدين 316 صوتا " انتخب " بكباشي أحمد حمدي عبيد 296 صوتا " انتخب " صاغ محمد جمال الدين 286صوتا " انتخب - بكباشي محمد صلاح توفيق 58 صوتا – بكباشي أسعد رفله 11 صوتا – صاغ علام خالد علام 16 صوتا .
المدفعية – بكباشي محمد رشاد مهنا 331 صوتا " انتخب " بكباشي إبراهيم عاطف 220 صوتا " انتخب " – بكباشي محمد فوزي 37 صوتا – قائمقام إبراهيم فؤاد شرف 16 صوتا – صاغ أحمد كامل 61 صوتا – صاغ سراج الدين 6 أصوات .
الفرسان – الأميرالاى حسن حشمت فاز بالتزكية
الإشارة – يوزباشي محمد أمين شاكر 256 صوتا" انتخب " صاغ محمد لاشين 38 صوتا – الصاغ نوفل 37 صوتا –
المهمات –قائمقام عبد الرحمن فوزي 301 صوتا " انتخب " بكباشي أحمد حسني السيد 36 صوتا .
الصيانة – بكباشي عبد العزيز الجمل 209 صوتا " انتخب ".
المهندسين – إبراهيم فهمي دعبس 324 صوتا " انتخب".
الطب – الأميرالاي عياد إبراهيم بالتزكية
خدمة الجيش – بكباشي جلال ندا 245 صوتا " انتخب " .
هذا وقد حاول الملك في خلال فترة الإعداد لهذه الانتخابات وفي اثناء إجرائها وبعد إتمامها محاولات شتى منها أن يأمر بإغلاق النادي , ومنها أن يصدر أمرا بإلغاء الانتخابات ومنها أن يصدر أمرا بإبعاد اللواء محمد نجيب من الجيش ... ولكن مستشاريه والمقربين إليه رأوا أن أدني الأضرار هو أن يترك كل ما تم يأخذ طريقه , وأن يعمل هو بكل الوسائل على التقرب من الجيش ,واسترضاء ضباطه بالاتصال بهم والإغداق عليهم..وقد أخذ الملك بهذه النصيحة وبنصيحة أخرى . ويري القارئ في الصفحات القادمة إن شاء الله كيف كان ذلك.
- حريق القاهرة
بعد إلقاء شعاع من الضوء على معلم من معالم هذه الفترة الحرجة مما قد يشبه أن يكون في ظاهرة استطرادا نرجع إلى السياق فنقول :
انطلقت المقاومة الشعبية بالرغم من بعض الأخطاء التي تخللتها , والتي كان مبعثها بعض تصرفات من الحكومة ومن بعض فئات لم تخض المعركة لخدمة القضية الوطنية, بل لكسب الصيت والشهرة والتقرب إلى الحكومة. ولكن أمثال هذه الفئات لم تستطع المواصلة وسار ركب المقاومة النظيفة في طريقه إلى آخر الطريق ؟ فأشاع الذعر في أوساط الجيش المحتل , وأدخل اليأس في قلوبهم من استطاعتهم وقف زحف هذه المقاومة أو النيل منها أو حتى تخفيف وطأتها .
وليس أشد على العدو من مقاتلين يقاتلونه وهم يطلبون الموت . فهم لا يبالون بشئ ولا بوقف زحفهم سلاح , ولا يحمى منهم دروع أو حصون .. ومع ذلك فهم يؤثرون ألا يعلم بجهودهم إلا الله وحده حتى يحظوا عنده بجزاء الشهداء كاملا غير منقوص .
ولقد كافح هؤلاء الرجال كفاحا مريرا وتساقط منهم كثير من الشهداء دون أن يعرف الناس أسماءهم, راضين بما ادخر الله لهم من جنات عرضها السموات والأرض ... ولولا أن الإخوان لم يروا بدا – لكي يلهبوا مشاعر الشعب ضد المحتل – من إبراز بعض الصور المثيرة لما سمحوا بتشييع جنازات بعض شهدائهم على الهيئة التي شيعت بها شعبيا ونشرت عنها الصحف الوطنية – ومع ذلك فقد كان الإخوان حريصين على أن ينسبوا هؤلاء الشهداء إلى جامعاتهم وكلياتهم لا إلى الإخوان .
• السهم الأخير
• إشعال النار في كنيسة السويس
" فرق تسد" هي السهم الأخير دائما في جعبة الإنجليز, وهي خطتهم المدخرة وبالرغم من خسة هذه الخطة وحقارتها فإنهم يستبيحونها ويلجأون إليها حين تتعقد أمامهم الأمور , وتنسد المسالك ويسقط في أيديهم – وه يحتفظون دائما بفريق من الخونة يستعملونهم في تنفيذ هذه الخطة القذرة .
فلما يئسوا من وقف الزحف الإخواني المكتسح لجأوا إلى هؤلاء الخونة , فأوعزوا إلى عدد منهم يتسمون بأسماء المسلمين – والإسلام برئ منهم – أن يقوموا بإشعال النار في كنيسة الأقباط في السويس لتتجه الأنظار إلى الإخوان المسلمين .
وتمت الخطة بنجاح , وكادت تفسد حملة المقاومة لولا أن تنبهت الحكومة والإخوان إلى خطورة المؤامرة فقام المرشد العام بزيارة البطريرك ونشرت الصحف نبأ هذه الزيارة في مكان بارز في 19/1/1952 تحت عنوان " البطرير والمرشد يتعانقان – مسبحة من البطريرك للمرشد وقالت : " توجه الأستاذ حسن الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين في الساعة الخامسة من مساء أمس إلى دار البطريركية حيث قابل غبطة البطريرك الأكبر الأنبا يوساب , ودام الاجتماع نصف ساعة , وقد حضره معالي مكرم عبيد باشا ونيافة مطران الجيزة .
وقد أكد غبطة البطريرك للمرشد أنه لم يتهم الإخوان المسلمين ولن يفكر في اتهامهم بشأن حادث كنيسة السويس لأنه يعلم مبادئ الإخوان المسلمين ومحافظتهم على حرية الأديان .
ودار الحديث حول الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين .. ومما قيل أنه على المسلم والقبطي أن يعبدا ربهما كل حسب تعاليم دينه , ولكنهما في الوطنية سواء . والكفاح من أجل مصر يقع على عاتق المصريين جميعا أقباطا ومسلمين – وقد كان هذا الاجتماع مظهرا من مظاهر الوطنية والإخاء بين العنصرين .
وعند خروج فضيلة المرشد أهداه غبطة البطريرك مسبحة من الكهرمان ثم أوصله إلى الباب حيث تعانقا على مشهد من جمع كبير من الأقباط والمسلمين – وودع غبطة البطريرك فضيلة المرشد متمنيا له كل نجاح وتوفيق في الدعوة للدين الإسلامي – ونشرت صورتهما وهما يتعانقان . وفشلت الخطة.وطاش السهم الأخير وافتضح التدبير الأثيم ..ولم يعد أمام العدو المخادع إلا التسليم ..ولكنه لم يسلم ..
كان شارع فؤاد الأول ( شارع 23 يوليو الآن ) في ذلك الوقت أعظم شارع تجاري في القاهرة .
وكانت أكثر المحلات التجارية فيه ملكا لأجانب من البريطانيين وغيرهم من مختلف الجنسيات.
وفي يوم 26 يناير سنة 1952 – حيث كانت المقاومة الشعبية ضد الجيش البريطاني المحتل قد بلغت ذروتها. ولم يجد بريطانيا نفعا تدخل دول حليفة لها مثل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا محاولين وقف سيل المقاومة – في صبيحة ذلك اليوم شبت النيران في هذا الشارع على حين غرة وفجأة ودون مقدمات وكان الاشتعال من الفظاعة بحيث أن كل قوات الإطفاء في القاهرة وضواحيها لم تستطع حصر النيران ولا وقف امتدادها إلا في المساء بعد أن أتت على كل شئ ... فكان حريق هذا الشارع بما فيه – وفيه ثروة البلاد – من الحرائق التاريخية العالمية وسمى بحريق القاهرة .
• حول هذا الحريق:
وحريق القاهرة هذا لم يكن أول حريق ولا آخر حريق , ولكنه مع ذلك كان أغرب حريق فالأمر المثير فيه هو أنه لا زال حتى اليوم لغز التاريخ الذي لم يعرف له حتى اليوم حل لم يعثر له على تعليل قاطع ولم يتوصل إلى معلومات أكيدة عن فاعله.
ولقد وقع هذا الحادث الجسيم فجأة ودون مقدمات وبطريقة تنفي تمام النفي أن يكون قضاء وقدرا . فقد يشب الحريق قضاء وقدرا في منزل من المنازل أو في أحد المحال التجارية وكثيرا ما يحدث هذا ... أما أن يشب الحريق في أعظم شارع تجاري في القاهرة, وفي جميع محاله في وقت واحد .. فهذا لابد أن يكون بتدبير مسبق وبخطة محكمة , بل لابد أن يكون المدبرون وواضعو الخطة خبراء وذوي سلطة ونفوذ .
فشارع فؤاد الأول بالقاهرة شارع فسيح وطويل ويضم أعظم المحال التجارية في مصر. وليست هذه المحال محال لبيع البنزين أو البترول أو الكبريت أو المواد الملتهبة . كما أن هذه المحال لا تخزن فوق سطوحها حطب القطن أو قش الأرز كما يحدث في القري حتى نقول أن هذه المواد الملتهبة بداخل المحال والقش على سطوحها ساعدا الهواء على نقل النار من محل إلى آخر . إذن لابد أن يكون هذا الحريق بتدبير . ولابد أن يكون هذا التدبير تدبير ذوي سلطة ونفوذ ولابد أن يكون للسياسة يد في إحداثه وفي توقيته وأن يكون لفاعليه هدف أو أهداف تحقق لهم مأربا.. ولكي يكون بحثنا وراء هذا الحادث بحثا مستنيرا يجب أن نلم بشئ من الظروف التي أحاطت بهذا اليوم الكئيب . • صورة الموقف السياسي قبيل الحريق
كان الموقف في تلك الأيام في مصر على الوجه الآتي :
أولا - قبل أن يتم الإفراج عن كثيرين من معتقلي الإخوان المسلمين , وقبل أن يلتئم شمل الدعوة , كانت الانتخابات النيابية في مصر قد تمخضت عن فوز حزب الوفد وتولت الحكم وزارة وفدية برياسة مصطفي النحاس . وكان فؤاد سراج الدين أبرز شخصية فيها – وقد تحدثنا عن موافقة هذه الوزارة بعد مماطلات طويلة على إعادة الصفة القانونية للإخوان المسلمين لا سيما بعد أن صدرت أحكام قضائية في صالحهم , وهذه الحكومة تعلم أن للإخوان المسلمين ليسوا ممن يشترون أو يباعون ولكنها اتخذت هذا الإجراء الصحيح أخيرا تقربا إلى الرأي العام الذي كان في ذلك الوقت قد تكشفت له حقائق الأمور.
ثانيا – وكما سايرت هذه الحكومة الرأي العام في إعادة الصفة القانونية للإخوان المسلمين فإنها اضطرت إلى مسايرته أيضا في أمر لا يقل خطورة عن ذلك هو إلغاء معاهدة سنة 1936 .
ومناداة حكومة الوفد في تلك الحقبة من الزمن ومناداة غيرها من الحكومات التي وليت السلطة في نفس الحقبة بسقوط معاهدة 1936 لم يأت من فراغ , ولم يكن وحيا هبط على هذه الحكومات فجأة وإنما كان وليد ضغط بدأه الإخوان منذ عام 1938 . وقد أنضج هذا الضغط وبعثه حيا في نفوس المصريين انتشار الوعي الإخواني في أوساط الناس مع اتساع دائرة غزوهم لأفكار الشعب وقلبه – ثم حول هذا الضغط إلى نار مشتعلة في النفوس حرب فلسطين وما تلاها من أحداث جسام جعلت هذا الشعب لغافل يستيقظ على حقائق مريرة طالما أخفيت عنه .
أقول : أن وزارة الوفد لم تقرر إلغاء المعاهدة إلا راغمة تحت ضغط تيار شعبي جارف لا يقوي على مواجهته حزب ولا هيئة ولا حكومة .
ثالثا – إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 اقتضي مواجهة بين هذه الحكومة وبين الإنجليز المعسكرين بمنطقة القناة ولم تجد حكومة الوفد بدا من المواجهة ولكنها حاولت أن تحصر هذه المواجهة في أضيق نطاق ,وأن تجعلها مجرد مواجهة رمزية لكن الحركات الشعبية انتهزت هذه الفرصة وحولت المواجهة الرمزية إلى مواجهة حقيقية واستطاعت هذه الحركات توحيد صفوفها وقامت بدور كبير أقض مضاجع الإنجليز..وأخذت روح المقاومة تسري في أوساط الشعب – وكان الإنجليز أول من أحس بخطورة هذه الظاهرة – ومن طبيعة الإنجليز ألا يواجهوا عدوهم إذا شعروا بمقاومة جادة منه ولكنهم يحاولون البحث عن وسيلة أخرى لإفساد خطته قبل وقوعها .
رابعا- من الأوساط التي سرت فيها روح المقاومة الجيش المصري – وقد اشترك فعلا في المقاومة أفراد من ضباط الجيش ,وأحس أفراد آخرون من الجيش بأن المقاومة إذا استمرت على الطريقة البطيئة التي تسير عليها فإن الأمر سيطول وتكثر الضحايا , وقد تقع الحكومة تحت ضغط لا تتحمله من العدو فتتراجع وتنكص على أعقابها .. فبدأ هؤلاء الأفراد سرا يخططون لانقلاب يستولون فيه على الحكم .
خامسا – بعد أن زالت الوحشة التقليدية التي كانت بين الملك وبين حزب الوفد, على أثر التقارب الذي تم على يد سراج الدين , لم يشعر الملك بغضاضة في تهيئة الجو للوفد أن يحتل مناصب الحكم عن طريق إجراء انتخابات- ولا أعتقد أن الملك كان سيفكر في يوم من الأيام في التخلص من الوفد بإبعاده عن الحكم , لأنه في ظل الوفاق الذي نشأ بينها استطاع أن يحظي بتحقيق قسط من مآربه أكبر مما كان يحظي به في ظل الحكومات الأخرى .
سادسا – ثم طرأ موضوع إلغاء معاهدة 1936 ويبدو أن الملك لم يكن ينظر إلى هذا الموضوع نظرة جادة في أول الأمر , كما اعتقد أن الوزارة نفسها لم تكن تتصور الأمر يتعدى الإجراءات القانونية يصحبها احتكاك مع الإنجليز في صورة ماهرة شعبية ترضي عواطف الشعب , ثم تهدأ الأمور ويستقر الوضع كما كان على أن يعتبر وجود الإنجليز في منطقة القناة غير قانوني .. ويخرج الملك والحكومة من هذا الموقف ببطولة يتباهون بها أمام الشعب ..ولكن الأمور لم تسر في الطريق الذي رسموه لها وإنما تعدته وخرجت عليه وتفرعت وتشعبت ووجد الملك نفسه وحكومته أمام معركة ضارية لا سبيل إلى السيطرة عليها ولا أمل في إنهائها .
أما حكومة الوفد فإنها خشيت إن تراجعت أن تفقد ما بقي لها من رصيد لدي الشعب ولكن الملك يعلم ألا رصيد له لدي الشعب وأن بقاءه في منصبه مرهون برضا الإنجليز عنه .
سابعا – أن الملك – بعد أن استنفد جميع الوسائل للقضاء على الإخوان ثم فوجئ برجوعهم أقوى مما كانوا ورأى جميع الخيوط قد صارت في أيديهم – حاول استرضاءهم كما بينا من قبل . وكان يظن أنهم من السذاجة بحيث يتعامون عن كل ما هو غارق فيه من المجون ويفتحون له أذرعتهم – فلما رأي عزوفهم عنه وإهمالهم لشأنه لم يجد له سندا إلا الإنجليز .
من البنود السبعة السابقة قد يستطيع القارئ أن يري – من خلال الظلام الحالك المحيط بهذا الحادث – أصبع اتهام تشير إلى جهات معينة .. وقد يكون أبرز هذه الجهات وضوحا شخصية الملك فاروق وقد تبدو من ورائها شخصية الإنجليز..
• صورة من جانب آخر للموقف قبيل الحريق:
أنا لا أدعي أنه كان لدي الإخوان إية إثارة من علم بهذا الحريق قبل أن يشب ولا حتى بعد أن شب والتهم أعظم متاجر البلاد على جانبي هذا الشارع ..ولكن الإخوان كانوا على علم بكل الأحداث وبكل الاستعدادات التي كانت مختلف الجهات في البلاد تخطط لها والتي عرضت في السطور السابقة صورا منها .
كان الإخوان يعلمون بأن حكومة الوفد سنقدم على إلغاء معاهدة 1936 وهي لا تقدر عواقب هذا الإلغاء , ويعلمون أن الملك فاروقا متضامن من هذه الحكومة على أساس أنها لعبة لا خطر فيها ولكنها سترفع أسهمه لدى الشعب بعد أن وصلت إلى الحضيض .
وكان الإخوان يعلمون مدى خطورة هذه الخطوة وهي إلغاء المعاهدة فإن هذا الإلغاء إذا لم يقترن بحركة مقاومة شعبية تؤيدها الحكومة فإنه سيكون مجرد حبر على ورق .. وأن إحراج الحكومة في اتخاذ هذه الخطوة ثم مفاجأتها بحركة مقاومة شعبية سيضعها هي والملك في مأزق وسيجعل تراجعهما أمرا مستحيلا ..ولذا فإن الإخوان كانوا أول المستجيبين لحركة المقاومة التي تطوع لها شباب من مختلف الهيئات في البلاد ..وقد وصلت المقاومة بالقضية إلى الحد لا يمكن لأى طرف فيها التراجع خطوة واحدة .
وكان الإخوان يعلمون أن الملك فاروقا – نتيجة انتشار الوعي الصحيح في الشعب والجيش – يفقد كل يوم أرضا .. وأنه حاول أخيرا تلافي هذا الفقد المستمر فلجأ إلى تملق الجيش والإخوان .. أما الجيش فأسبغ عليه ترقيات وإنعامات تلفت النظر ..وأما الإخوان فالتقي بمرشدهم الجديد وحاول تقديم نفسه إليه على أنه جندي من جنود الإسلام , كما حاول أن يعقد معه صداقة .
وكان الإخوان يعلمون أن دور الأحزاب في مصر قد انتهي وأن الملك يعلم ذلك.. ولذا فإنه كان يتحسس في الساحة لنفسه سندا آخر من الجيش ومن الإخوان – ويعلمون أن الملك في آخر المطاف قد فهم أن الاعتماد على كبار ضباط الجيش ليس إلا وهما سخيفا فأخذ يتقرب إلى صغار الضباط – وكان ضباط الإخوان في الجيش يعرفون زملائهم من صغار الضباط الذين استمالهم الملك إلى جانبه , ولم تكن تكوينات الإخوان تخشي بأس هؤلاء لأنهم لا يعلمون بوحي من إيمانهم .
كان للإخوان في الجيش تكوينات تعمل وتعد العدة كما كانت هناك تكوينات أخرى في الجيش على صلة بالإخوان تعمل هي الأخرى وتعد العدة . وكان الإخوان يفسحون الطريق لجميع التكوينات السليمة الهدف أن تعمل على أن يكون الإخوان سند الجميع وموئلهم في أثناء العمل وبعد العمل .
وكان الإخوان يعلمون أن الملك قد وضح له أن محاولته كسب الإخوان إلى جانبه قد باءت بالفشل وألا أمل في محاولات أخرى – كما وضح له أن تملق الجيش لم يؤت ثماره المرجوة بل إنه قد يكون أطمع فيه الوطنيين من الضباط حيث رأوا في هذا لتملق دليلا جديدا على شعوره بالضعف فأخذ هؤلاء يعدون العدة لانقلاب .. وأخيرا وضح له ألا أمل له في سند ألا أن يكون من الإنجليز ..ولكن استرضاء الإنجليز مع وجود المقاومة الشعبية أمر من المحال . وأحس في نفس الوقت أن حكومة الوفد لن تستجيب له إذا هو طلب إليها إجهاض المقاومة لأن في ذلك القضاء على ما بقي للوفد من شعبية .
بعد أن وضح للملك كل هذا كان عليه أن يفكر فيما يواجه به كل هذه الأوضاع ... وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن أيسر الحلول لمقابلة هذه المعضلات هو أن يغير الملك طريقته في الحياة ويقلع عن حياة اللهو والمجون ويستقيم على أمر الله ..ونقول : إن هذا هو أيسر الحلول وأجداها نفعا , لأن الشعب لم يكن يكره الملكية لذاتها ,وإنما كان يكرهها للمثل السيئة التي كانت تشغل منصبها وما يقترن بحياتهم من الظلم والفسق والمجون .. ثم نقول . إن هذا الحل مع كونه حلا مجديا وهو أقصر الطرق فإنه لم يكن واردا لأن الملك كان قد انحدر في حمأة المجون انحدارا جعله كالمدمن الذي لا يفيق ..
فما هو الحل إذن الذي هداه تفكيره إليه ؟
لم يكن الإخوان يتصورون أن يواجه الرجل هذه الأوضاع – وإن كانت موئسة – بهذه الخطة الشيطانية التي لا نعتقد أنه هو الذي وضعها وحده والتي تذكرنا بما فعله نيرون بروما ..واعتقادنا أن هذه الخطة لابد أن يكون الإنجليز واضعيها أو أن يكونوا على الأقل المشيرين بها لأن مصلحتهم قد اتفقت تماما مع مصلحة فاروق ..ولأن فاروقا لم يكن ليجرؤ على إحراق بضائع بمئات الملايين يملكها جميعا رعايا إنجليز وأوربيون إلا أن تكون انجلترا قد أومأت له بالتغاضي عن هذه الخسارة في سبيل إنقاذ م هو أهم وأعظم قيمة من مصالح الإمبراطورية .
• حفل مريب في توقيته :
ثامنا – ومما يعزز هذا الاتهام تصرف عجيب فائق الغرابة , وقف الجميع أمامه مشدوهين ذاهلين حائرين .. هل حدث هذا التصرف مصادفة أم كان ترتيبا معدا ؟!
ذلك هو أن يقيم الملك بقصر عابدين مأدبة غداء ابتهاجا بمولد ولي العهد ويدعو إليها ضباط الجيش والبوليس من مختلف الرتب ,وأن يحدد لهذه لمأدبة ميعادا هو يوم 26 يناير 1952 ..والذين يعتقدون أنه كان ترتيبا معدا يقولون :أنه كان وسيلة لإخلاء القاهرة في ذلك اليوم من الضباط ليخلو الجو لمدبرى الحريق أن يبلغوا به أقصي مداه دون أن يعترضهم معترض .. ونثبت فيما يلي نص كلمة الملك التي ألقاها في هذا الحفل : " ضباطي.. فكرت اليوم في إلغاء هذه المأدبة بسبب الظروف الطارئة ولكني عدلت عن ذلك لما لكم في نفسي من مكانة ولرغبتي في أن أتحدث إليكم .. ولم أجد مناسبة للاجتماع بكم والتحدث إليكم خيرا من مناسبة مولد ابني ولي العهد – ويهمنى أن أوجه نظركم إلى اهتمامكم بموضوع تدركون جميعا أهميته وفائدته في النظام العسكري وهو موضوع " الضبط والربط".
ومجرد قراءة هذه العبارات التي جاءت على لسان الملك مخاطبا الضباط تشعر القارئ بأن هذا الرجل إمام أن يكون أبله لا يقدر الظروف التي أظلت البلاد في ذلك اليوم , وإما أن يكون متواطئا إن لم يكن مدبرا لهذه الظروف .. فالعبارات من التفاهة بحيث لم تكن .
تستحق هذا الإعداد الضخم الذي حشد له هذا الحشد الكبير من ضباط الجيش والبوليس ما لم يحشد مثله من قبل .
• من نتائج الحريق :
حول هذا الحريق بآثاره المدمرة الأنظار عن منطقة قناة السويس وما كان يجرى فيها من تحرش بالجيوش الإنجليزية إلى قضية جديدة هي كيف وقع هذا الحريق ومدى الكارثة التي حاقت بالبلاد بوقوعه , وكيف تتلافي البلاد هذه الآثار فقد كان من هذه الآثار ما يلي :
- أ- قبض على ثلاثمائة شخص وأحيلوا إلى النيابة للتحقيق معهم.
- ب- قتل ثلاثة من كبار الموظفين الإنجليز.
- ت- تلقت وزارة الخارجية احتجاجات من جميع الدول لما وقع على رعاياها في الحوادث الأخيرة ووصل عدد هذه الاحتجاجات إلى عشرين احتجاجا .
- ث- طالبت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وسويسرا بتعويضات مادية عما لحق أفرادها ومصالحها من أضرار.
- ج- أتاح هذا الحريق للملك فرصة يسترد فيها أنفاسه , ويدبر فيها أموره مع الإنجليز الذين صاروا أمله الوحيد.
- ح- أجهض هذا الحريق حركات كانت قد أعدت عدتها كاملة للقيام بانقلاب عسكري في ذلك اليوم نفسه الذي شب فيه الحريق . وكان الإخوان على علم بهذا الإعداد للإنقلاب وكانوا متأهبين لحمايته.
ويبدو أن مخابرات الإنجليز ومخابرات الملك كشفوا سر هذا الإعداد قبل اليوم المحدد لتنفيذه حتى أنهم اختاروا نفس اليوم لإشعال الحريق .
(4) اتخذ هذا الحريق مبررا لإسقاط حكومة الوفد حيث نسب إليها الضعف والإهمال فكيف يشب حريق يلتهم أعظم شارع في القاهرة دون أن تستطيع بأجهزتها المتشعبة في كل مكان أن تضع يدها على المدبرين قبل أن يقوموا على تنفيذ جريمتهم وإذا فاتها ذلك وشب الحريق فلم لم تعمل بأجهزتها على حصره في أضيق نطاق وعلى سرعة إطفائه ..
مساءلة يوجهها إلى الحكومة أدرى الناس باستحالة الوقوف في وجه السيل المنحدر .
• تقييم حكومة الوفد تقييما منصفا :
كان مجئ حزب الوفد إلى الحكم هذه المرة – بعد طول غياب – مجئ إنسان ضل الطريق في صحراء مجدبة شاسعة وقد نفد زاده,وأنهكه السير واستبد به العطش حتى أشرف على الموت ..وقبل أن يسلم أنفاسه الأخيرة رأي يدا تمتد إليه بكوب ماء فتعلق بها فلما شرب ارتدت إليه روحه ..ولكنه ظل متعلقا بهذه اليد متشبثا حتى لا يقع فريسة العطش القاتل مرة أخري.
كان الوصول إلى مناصب الحكم ضرورة من ضرورات الحزبية في مصر في ذلك الوقت فأنصار كل حزب يناصرونه على أمل أن يثول إليه الحكم في يوم من الأيام فيعرضهم عما بذلوه , ويغدق عليهم لقاء ما شدوا أزره وناصروه . وكان نصيب الوفد من فترات تولي الحكم أقل نصيب. وكانت الأحزاب الأخرى غير الشعبية والمعروفة بأحزاب الملك تحظي من هذه الفترات بنصيب الأسد لأنها كانت تبيح للملك التصرف المطلق سواء في شئون الحكم أو في شئونه الخاصة الشخصية ,وهو ما لم يحظي بمثله في فترات حكم الوفد .
ويبدو أن الوفد – في خلال فترة إبعاده عن الحكم آخر مرة فكر طويلا في هذه الظاهرة التي لازمته منذ إنشائه واستقر رأيه أخيرا على أن يصل إلى الحكم هذه المرة وتجنب أسباب إبعاده مبررا ذلك بأن وجوده في الحكم يتيح له الفرصة لإنجاز مشاريع وإتمام خدمات تعود على الأمة بالخير.
وولي الوفد الحكم واستبشر كثير من الناس وانتظروا على يديه الخير ..ومهما اختلف الناس في تقدير إنجازاته فإن الخطوة الجريئة التي اتخذها في القضية الوطنية كافية أن تعد وحدها أعظم إنجاز , وكانت جديرة أن تبوئه أعلى مكان في قلوب الشعب لولا أن خطته الجديدة في مجاراة الملك قد أحرجت صدور الناس حتى أن أقرب أنصاره إليه وأخلص المخلصين من جنوده تمرودا عليه وجاهروا بعصيانه لأنهم وجدوا هذه الخطة الجديدة نشازا في أسلوب الوفد , وخروجا عن مساره وتلطيخا لتاريخه وتناقضا مع مبادئه .
ولو أن الملك كان ينتهج في حياته الشخصية نهجا سليما لاغتفر الناس للوفد تغاضيه عما يجنح إليه الملوك عادة من تخط لحدودهم في السلطة ومن تعد في بعض الأحيان على سلطة الحكومة .. ولكن الذي أحرج صدور الناس أن الملك كان يسلك في حياته الشخصية مسلكا معيبا حتى أن هذا المسلك كان موضع نقد لاذع بل وسخرية من الصحف الأجنبية وكانت المجلات التي تصدر في أوربا وأمريكا تتحدث عن لياليه الحمراء وجولاته في نوادي القمار .. ولقد كانت الحكومة المصرية تضطر إلى إرسال المراسيم إليه ليوقعها في هذه النوادي في أوروبا . ولا ننسي انتقال الوزير عبد الفتاح حسن إليه حيث وقع بعض هذه المراسيم وهو على مائدة القمار في مونت كارلو.
وبدلا من أن تحتج هذه الحكومة على هذا التصرفات المهينة أخذت في حمايتها والتستر عليها فمنعت دخول هذه المجلات الأجنبية إلى مصر .. ثم سجلت على نفسها بعد ذلك عارا لا يمحى بإصدارها قانونا يمنع الصحف المصرية من نشر أخبار القصر والأسرة المالكة إلا بعد عرضها على وزير الداخلية وإذنه إذنا كتابيا بنشرها .
ولما كانت مجالس النواب والشيوخ في مصر أداة طيعة في أيدى رؤساء الحكومات فقد أجيز القانون .. ولم يعارضه علنا إلا شابان من شباب الوفد جديران أن يسجل لهما التاريخ هذه المعارضة في صفحات الشجاعة والنزاهة والوطنية وهما الشابان أحمد أبو الفتح والدكتور غزير فهمي , فقد هاجما المشروع مشروع القانون على صفحات جريدة " المصري" بمقالات نارية ملتهبة وكان ذلك في خلال يونيه سنة 1950 .
وفي الوقت الذي رفضت فيه هذه الحكومة طلب اعتماد مبلغ من المال لإنصاف رجال الأزهر كانت مئات الألوف من الجنيهات تعتمدها الحكومة لرحلات الملك الماجنة إلى موائد القمار في أوروبا .
وكانت هذه السيرة النتنة قد أزكمت الأنوف حتى أن الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر في ذلك الوقت نقلت عنه الصحف تعليقا على رفض الحكومة ما طلبه الأزهر من اعتماد قوله : " تقتير في ناحية وإسراف في ناحية أخرى " وكان لهذا التعليق من شيخ الأزهر صدي واسع النطاق في جميع أوساط الشعب فقد قابلته هذه الأوساط بالرضا والاستحسان ولكن الحكومة – جريا على سياستها – اعتبرت هذا القول تعريضا بالملك فأصدرت قرارا بإحالة شيخ الأزهر إلى المعاش .
وبعد عام من إصدار هذه الحكومة قانون منع نشر أخبار القصر والأسرة المالكة إلا بإذن كتابي من وزير الداخلية وفي شهر يوليه سنة 1952 تقدمت الحكومة بمشروع قانون لتقييد حرية الصحافة وهو المشروع الذي تقدم به إلى مجلس النواب النائب إسطفان باسيل ..وهنا قامت قيامه الأمة على اختلاف أحزابها وطوائفها , حتى أن جريدة المصري " تزعمت هذه الحملة وأقامت الدنيا وأقعدتها حتى أحبطت هذا المشروع, والحكومة مصرة عليه ومصممة على إنفاذه , حتى أن فؤاد سراج الدين في 31/8/ 1951 وجه الكلام إلى الصحفيين فقال :" حكومة الوفد آخر من يفكر في تقييد حرية الصحافة ولكن هذه الحرية ليس معناها إشاعة الفوضى والتطاول على أسمي مقام".
وهكذا أرادت حكومة الوفد في هذه المرة أن تجمع بين الضدين , وأن تسير في وقت واحد في طريقين متعارضين وأن تجعل المسجد مسجدا وماخورا في وقت معا .. ومثل هذا الأسلوب لا ينتهي بصاحبه إلا إلى التمزق والتفتت والانهيار .. وهو ما حدث للوفد فعلا.
لقد وقع حريق القاهرة وأسقطت حكومة الوفد ..وقد يظن بعض الناس أنه لولا وقوع هذا الحريق ما أسقطت هذه الحكومة ولكننا نقرر أن الشعب كان مصمما على إسقاط هذه لحكومة , لأن حزب الوفد نفسه قد سقط من أعين الناس وانهار قدره العظيم من نفوسهم – ولكنه وقد تزعم حركة إلغاء المعاهدة – فقد رأوا أن يصبروا عليه ويمهلهوه حتى يتم المشوار ويكمل المهمة ثم يتفرغوا له بعد ذلك ويحاسبوه على ما قدم من تستر على مسجون الملك وحماية لنزواته وتهجم في سبيل ذلك على مقدسات الشعب وحرياته .
ويخيل إلى أن وقوع حريق القاهرة كان من مصلحة الوفد في كل ناحية من نواحيه فإنه وقف بتدهوره على منحدر الدمار في نفوس الشعب عند حد وترك للوفد فرصته بسقوط حكومته في ذلك الوقت أن ينتحل لنفسه أعذارا فيما ارتكبته حكومته في خلال هذه الفترة من أخطاء جسيمة كما أن هذا الحريق قد أدرك هذه الحكومة في لحظة كانت مشرفة فيها – تحت الضغوط الماثلة في كل اتجاه – على التراجع عن الموقف الشجاع الذي سجلته لنفسها بإعلانها إلغاء المعاهدة؟
• إلى من وجه الاتهام القضائي في الحريق؟
كان على البوليس والنيابة أن يوجهوا الاتهام في هذا الحريق إلى أشخاص تبعث ظروفهم على الارتياب فيهم ولم يكن أمامهما إلا تلك الفئة من الغوغاء والمحرومين الذين ينتهزون كل فرصة تتيح لهم السلب والنهب .. وحريق يشب في جميع المحال في أكبر شارع تجارى في القاهرة في وقت واحد هو أعظم فرصة لأمثال هؤلاء أن يتقاطروا على هذه المحال ليجمعوا لأنفسهم وذويهم من بضائعها ما كانوا محرومين منه ..وهذه الفئة – وإن كانت هي التي ظهرت على مسرح الحادث – فإنها ليست هي التي دبرته ولا يد لها فيه ..وقد أحالت النيابة هؤلاء – وهم عدد كبير – إلى القضاء .
أما من السياسيين فإن النيابة لم توجه اتهاما إلا لهيئة واحدة هي الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه الأستاذ أحمد حسين ولم يكن ذلك لأنهم ضبطوا أعضاء هذا الحزب متلبسين وإنما بنوا ذلك الاتهام على ما دأبت عليه جريدة هذا الحزب من مهاجمة للنظام الذي يحكم البلاد بأسلوب عنيف مكشوف ..وقد اختفي الأستاذ أحمد حسين بعد الحريق فترة ثم قدم نفسه بعد ذلك إلى النيابة التي أمرت بالقبض عليه وحبسه على ذمة تقديمه إلى القضاء .
وأحب أن أقول أنه حتى لو كان الأستاذ أحمد حسين ورجاله قد اشتركوا فعلا في هذا الحريق فإنهم يكونون قد استغلوا دون أن يحسوا ودون أن يشعروا أن أحدا قد استغلهم ..وهذا النوع من الاستغلال لا يمارسه إلا رءوس كبيرة ذات آفاق وساعة وعلم غزير, وقدرات فائقة ..وهؤلاء – في دولة كإنجلترا – هم المخططون للمؤامرات والمدبرون للانقلابات . يعرفون عن الزعماء والهيئات في كل بلد مواطن القوة ونقاط الضعف . والطباع المميزة ..وعليهم اصطناع الظروف المهيأة فيجد هذا الزعيم,وتجد هذه الهيئة نفسها مندفعة لاتخاذ مكانها في هذه الظروف المواتية لطباعها فتعمل عملها , معتقدة أنها مندفعة إليه من تلقاء نفسها , وهي في الحقيقة مدفوعة بالأيدي الخفية لأصحاب هذه الرءوس الكبيرة من المخططين .
الفصل الرابع الشعب يفيق من الضربة القاضية ويستأنف جهاده
• إقالة وزارة الوفد بعد تورطها في فرض الأحكام العرفية:
خرج الجميع من حريق القاهرة مبهوتين إذ فوجئوا بما لم يكونوا يحتسبون .. ثم ثاب كل إلى رشده وأخذ يعيد النظر في حساباته من جديد , مدخلا هذا العنصر الجديد وهو حريق القاهرة بظروفه وآثاره – في حساباته .
وفي حفل الضباط الذي أشرنا إليه والذي أقامه الملك لهم في نفس يوم الحريق أصدر تصريحا قال فيه :" إن البلاد تجتاز مرحلة دقيقة وقد تمر بها مرحلة أقسي وأشد"... وهذا كلام يكشف عن أن قائله يتحدث عن أمور لم يكن هو منعزلا عنها ولا مفاجأ بها .
ويبدو أن الترتيب الذي وضعه المدبرون كان ترتيبا محكما . فهو لا يقضي بإقالة حكومة الوفد فحسب بل إنه يزغمها قبل أن تقال على أن تعلن الأحكام العرفية , مما يصمها بجريرة وعار – وهو هدف مقصود – كما أن من الأهداف المقصودة أيضا أن يصدر إعلان الأحكام العرفية من حكومة شعبية مما يجعل وقعه على نفوس الشعب أخف وطأة ...وهكذا أصدر النحاس باشا رئيس حكومة الوفد في نفس يوم الحريق البيان التالي الذي ظهر في الصحف صباح اليوم التالي :
" أيها المواطنون الأعزاء "
لقد آلمنى بالأمس – كما آلمكم – ما ارتكبه الإنجليز المعتدون من وحشية باغية على أبنائنا في القنال , وبخاصة في الإسماعيلية حيث روعوا الناس , ودمروا المرافق , وأراقوا دماء الأبرياء وقد زادني ألما إلى ألم وحزنا إلى حزن ما وقع اليوم من حوادث مزعجة دامية في عاصمة البلاد . فقد انتهزت عناصر من الخونة المارقين ودعاة الفتنة الهدامين.
الذين ينتهزون الفرص لمحاولة بث الذعر والاضطراب وإشاعة الفوضي في ربوع البلاد.. انتهز هؤلاء الخونة فرصة إعلان غضبكم واستنكاركم لعدوان الإنجليز الوحشي الغاشم في القنال وأخذوا يندسون في صفوفكم ويرتكبون جرائم منكرة مدبرة بالاعتداء على المتاجر والمشآت والمنازل وإشعال النيران والتخريب والتدمير والنهب والسلب .. فأثاروا موجة من الفتنة والاضطراب تنزل بالبلاد أفدح الأضرار وتهئ لأعداء البلاد فرصة للإيغال في البغي والإمعان في العدوان .
وقد اقتضي علاج تلك الحالة الشاذة الخطيرة التي تكاد تهدد كيان الوطن ,وتعرض حقوقه للخطر إعلان الأحكام العرفية مؤقتا في أنحاء البلاد حتى تتمكن الحكومة من القضاء على تلك الفتن المدبرة والمؤامرات المبيتة وتبادر إلى إقرار الأمن وإشاعة الهدوء والطمأنينة في البلاد ".
وفي اليوم التالي أصدر الملك أمرا بإقالة وزارة الوفد بالصيغة الآتية :
" حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا ":
إن أشد ما نحرص عليه ونعمل له هو أن تنعم بلادنا العزيزة بحكم يحفظ سلامتها ويرعي الأمن بين ربوعها . تسود فيه كلمة القانون ويستتب معه النظام وتتوافر في ظله طمأنينة الناس على أرواحهم وأموالهم ولقد أسفنا أشد الأسف لما أصيبت به العاصمة أمس من اضطرابات نتجت عنها خسائر في الأرواح والأموال وسارت الأمور سيرا يدل على أن جهد الوزارة التي ترأسونها قد قصر عن حفظ الأمن والنظام .
لذلك رأينا إعفاءكم من منصبكم . وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم ما قمتم به مدة اضطلاعكم بأعباء مناصبكم .
هذا هو الخطاب الذي وجهه فاروق إلى مصطفي النحاس يتضمن إقالته من الوزارة ويؤسس هذه الإقالة على تقصير الوزارة في حفظ الأمن والنظام ويتناسي هذا الحريص على حفظ الأمن والنظام أنه احتجز في قصره ضباط الجيش والبوليس من مختلف الرتب في يوم الحريق.
ولا يستطيع المتتبع للأحداث إلا أن يعتقد أن هذه الإقالة لم تكن إلا حلقة من حلقات المؤامرة التي بدأت في السادس والعشرين من يناير, وأن هذا الحريق إنما دبر ليتخذ مبررا للقضاء على المقاومة الشعبية باتخاذ إجراءات – في ظاهرها – منطقية أولها إقالة الحكومة التي كانت تؤازر هذه المقاومة .
وليس هذا منا دفاعا عن حكومة الوفد وإنما هو إدانة لإجراءات الملك التي تحمل في ظاهرها البراءة والطهر والحرص على مصالح الجمهور وهي في الحقيقة ليست إلا إملاء من المستعمر وتنفيذا لمخططه .
ومع ذلك فقد تكون هذه الإقالة قد صادفت هوى في نفس حكومة الوفد بل لعلها كانت أمنية تتمناها لإخراجها هي الأخرى من ورطة تورطت فيها ولم تكن تظن أن الأحداث ستصل إلى الجسامة التي وصلت إليها ,, في حين أن الظروف قد حالت بينها وبين استطاعتها التراجع ..
• إسناد الوزارة إلى على ماهر :
وفي اليوم التالي لصدور هذه الإقالة أصدر الملك أمرا بإسناد الحكم إلى على ماهر باشا ..وجاء في صيغة هذا الأمر العبارة التالية :
"ولما عهدناه فيكم من خبرة وإخلاص , وأصالة رأي ومضاء عزيمة .. رأينا أن نوجه إليكم مسند رياسة مجلس الوزراء ".
وهذا الإطراء الذي ورد في صيغة التكليف لعلي ماهر لا يعد في الحقيقة إطراء بل هي صفات أصيلة في هذا الرجل الذي أثبتت المرات التي أسند فيها الحكم إليه أنه رئيس قدير ذو مواهب نادرة في الإصلاح الإداري والاجتماعي والسياسي...ولكن هل كان اختيار الملك إياه خلفا لمصطفي النحاس كان لسد نقص في هذه النواحي الإصلاحية عجز عنه مصطفي النحاس .
إننا نعتقد أن اختيار الملك لعلي ماهر في هذه المرة وفي هذه الظروف لم يكن لهذه الميزات وإنما كان لما يعرفه الملك من أن على ماهر هو أقدر رجل على مواجهة الوفد وعلى النيل منه , وعلى منازلته وكشف عوراته ..ولم يجاف الملك الواقع في اعتقاده هذا , فإن هذه حقيقة يعرفها الوفد ويعرفها كل مصري عاصر التطورات الحزبية في مصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات والنحاس يعتبر على ماهر أخطر أ‘داء الوفد على الإطلاق وقد سمعت ذلك بأذني من النحاس في النادي السعدى في سنة 1936 في غضون فترة المظاهرات التي كنا نقوم بها ونحن طلبة في ذلك الوقت احتجاجا على إلغاء دستور سنة 1923 .
• على ماهر يخلف ظن الملك فيه :نعم كان على ماهر رجل الملك وعدو الوفد حين كان الملك لا يزال مناط رجاء الشعب وموضع آماله قبل أن تحيط به بطانة السوء وحاشية المجون , وحين كان الجو السياسي والاجتماعي في البلاد خاليا إلا من الجبهتين المتصارعتين القصر والأحزاب .. أما وقد تغيرت الأوضاع واقتحمت هذا الجو الجبهة الإسلامية ممثلة في هيئة الإخوان المسلمين بعد أن أثبتت وجودها على إثر المعركة الرهيبة بينها وبين الجبهتين معا .. فما كان لعلي ماهر – وهو الرجل الخبير العاقل المحنك – أن تعامي عن الوضع الجديد لا سيما والملك الذي كان يقف بجانبه في الثلاثينيات وكان الشعب يحبه ويطلق عليه لقب " الملك الصالح" ليس هو الملك الذي انحدر إلى هاوية الفسق والفجور وتلطخت سمعته في الداخل والخارج , ولما انتهى به سوء سلوكه وأساليب نفاقه إلى أزمة خانقة ومأزق ألجأه الشعب إليه وحصره فيه , نادي حليفه القديم وسنده القدير ليخرجه من المأزق ويواجه هو الشعب بدلا منه .
فهل يستجيب على ماهر لهذا النداء المشبوه ؟...إنه استجاب ولكنه استغل استجابته هذه المرة لمصلحة الشعب وضد مصلحة المستعمر .
• بيان من الإخوان المسلمين
وفي نفس اليوم يوم السابع والعشرين من يناير أصدر الإخوان البيان التالي الذي نشرته الصحف يوم 28 منه :
" بسم الله الرحمن الرحيم .. روعت البلد لما حدث بالقاهرة أول أمس من أعمال الفوضى والعنف والعبث بالممتلكات وإحراقها . والإخوان المسلمون يستنكرون هذه الأساليب التي لا يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف الوطن , بل هي على التحقيق ضارة بقضيته , وتفتح بابا خطيرا من أبواب الفتنة يصيب كثيرا من الأبرياء . وكان الأجدر بمرتكبي هذه الحوادث أن يلجوا باب الجهاد الصادق الذي ولجته الأمة ورأت أنه السبيل الوحيد لإكراه الإنجليز على مغادرة البلاد.
ويخطئ من يتصور أن إحراق حانة أو تدمير ملهي فيه قضاء على أسباب الشر والرذيلة ما دامت القوانين تبيح قيامها وتنظمه وقد حدث من قبل مثل هذا الاعتداء فلم تفد الأمة منه شيئا , وأعلن الإخوان أنهم لا يؤمنون بهذا الأسلوب , وحذروا رجالهم أن يكون لأحدهم به صلة .
وطريق الإخوان المسلمين هو الجهاد بالوسائل المشروعة لتغيير هذه القوانين ,, وهم لم يدخرو وسعا منذ قامت دعوتهم في توجيه المسئولين هذه الوجهة الصالحة , وقد أعلنت ذلك في خطاب لى بمدينة الإسكندرية منذ أسابيع . ويخطئ من يظن أن محاربة الإنجليز اقتصاديا تكون عن طريق تدمير المتاجر والمؤسسات إنما طريق ذلك المقاطعة وحدها , وتنظيمها داخليا والعمل على منع الاستيراد من الأسواق الإنجليزية – ومما يساعد على القضاء على الفتنة أن تنفذ الحكومة ما وعدت به من مواجهة الموقف تجاه الإنجليز بما يقتضيه من إصرار وتصميم والله يتولانا جميعا بالرعاية والهداية والتوفيق والله أكبر ولله الحمد .
ويلاحظ القارئ أن هذا البيان قد قصد إلى أهداف ثلاثة :
- الأول : أن الإخوان لا يرون في أسلوب تدمير المتاجر وإحراقها – إن كان قد وقع من مواطنين مصريين – وسيلة مجدية في مجاهدة المحتلين .
- الثاني : بين الإخوان الطريق المجدي بالوسائل المشروعة لتغيير القوانين الوضعية التي تحمى الرذيلة وإبدالها بالقوانين الإسلامية – وبمحاربة الإنجليز المحتلين اقتصاديا بمقاطعة بضائعهم وعدم الاستيراد من أسواقهم .
- الثالث : حاولوا لفت نظر الحكومة الجديدة إلى الطريق الذي يجب عليها أن تختطه لنفسها وهو مواجهة الإنجليز بإصرار وتصميم .
وهكذا أسقط الملك حكومة الوفد وهو يري أن الوفد قد خانه بالخطوة التي اتخذها في إعلان إلغاء المعاهدة . ويعتقد أنه اخفي عنه أن هذا الإلغاء قد يكون له من العواقب ما قد هيوى بعرشه نتيجة المواجهة مع الجيش البريطاني نفسه والحكومة البريطانية – وقد اعتبر الملك ذلك من الوفد جريمة لا يستحق عليها الإبعاد عن الحكم فحسب , بل أن توجه إليه بعد الإبعاد حملة تأديبية قاسية .. وقد تناسي هذا الملك أن الوفد قد ضحي بالكثير من سمعته في سبيل التستر على استهتاره ومجونه .
وتولي على ماهر منصبه في رياسة الوزارة التي ألفها من عشرة وزراء واحتفظ لنفسه بالرياسة والخارجية والحربية والبحرية . وعكف على وضع خطة عمل لوزارته – وكان الرجل لبيبا ممن تكفيهم الإشارة عن العبارة فقد فهم ما أراده الملك منه وما جاء به إلى الحكم من أجله , كما فهم ما جاء في بيان الإخوان المسلمين .
ولم يكتف الإخوان ببيانهم الذي أصدروه في اليوم التالي للحريق بل شفعوه ببيان أخر نشر بالصحف يوم 30 يناير طلبوا فيه من رئيس الحكومة سرعة إلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين الذين سيقوا دون محاكمة أو تحقيق كما طالبوا بالإصلاح العام الداخلي .
• مهزلة
في هذا اليوم نفسه ... يوم الثلاثين من يناير – ووسط هذا الجو المفعم بالجد, والمشحون بالتوقعات والمخاطر, وبينما رجال السياسة في حيرة من أمرهم أمام الموقف المعقد الذي تمخضت عنه الأحداث الأخيرة وبينما ضباط الجيش يتناجون فيما بينهم ماذا يفعلون للخروج بالبلاد من هذا المأزق, وبينما ضباط الجيش يتناجون فيما بينهم ماذا يفعلون للخروج بالبلاد من هذا المأزق , وبينما وقف كل مصري مبهوتا أمام ما دهي البلاد من مصائب لم تكن تخطر على بال أحد مما أجهض المقاومة الوطنية التي كانت مواصلتها أملهم الوحيد في طرد المستعمر من أرض الوطن .. بينما كل ذلك يحدث ووسط هذه الهموم التي أخذت بخناق كل الأوساط والطوائف .. إذا بطائفة قد أهمتهم أنفسهم فانفصلوا شعورا وإحساسا عن مواطنيهم الشرفاء وباتوا لا تشغلهم قضية البلاد ولم تؤثر فيهم الدماء التي أريقت على ضفاف القنال ولا الأرواح التي أزهقت ولا الأموال التي بددت ولا المؤامرات التي دبرت ولا المصائب التي حاقت بأهليهم وببلادهم..
وكان شاغلهم الوحيد أن حظوا وسط أشلاء الشهداء وحطام المعارك بمكان مرموق عند الملك الفاسق الماجن.
وإلى القارئ صورة من هذا العبث المقيت الذي جاء على لسان واحد من أفراد هذه الطائفة . ومما يؤسف له أنه الضابط اللواء وحيد شوقي ابن أخت مصطفي النحاس – من كلمة نشرتها له الصحف في يوم الثلاثين من يناير المشئوم تحت عنوان " على مائدة الملك "
إذ يقول في وصف هذا الملك :
" إنه أكثر من ملك .. فلقد عرفنا الملوك يقتعدون أريكة الملك , ويستثمرون أبهة الحكم .. غير هذه الدوحة العلوية النادرة التي نبتت وعلت وبذلت وضحت وأنهضت ونهضت .. أما الفاروق العظيم فأبي إلا أن يبز دوحته وإلا أن يأتي مزيدا وأن يختط جديدا رشيدا سديدا بل فتيا شديدا..
أى ملوك العالم والتاريخ ذلك الذي فاجأ مجلس وزرائه بالزيارة ليقول لهم :" جئت لأطالب بحق الفقير " إنه البطل إي والله إنه البطل بكل ما تحمله البطولة من آماد ومن آفاق ومن أبعاد ومن أعماق . إنه البطل في كل معني كريم عظيم , وفي كل مبني سديد سليم . إنه البطل في أكبر ما تحمل الكلمة من أوزان ,وأحلي ما ترتل من ألحان وأجمل ماتجلو من ألوان . إنه البطل تتجسم فيه البطولة وكفي ".
وقد قصدت من إيراد هذا الأنموذج من النفوس أن يعلم القارئ أن بلادنا حتى وهي في معمعان جهادها في سبيل حريتها كانت تنوء على ظهرها بأحمل ثقال من نفاق أبنائها ونجر في اقدامها أغلالا من صغر نفوس بعض كبار المسئولين من رجالها .
• مفاجأة :
قدمت في السطور السابقة أن الملك أسند الحكم إلى على ماهر باعتباره الرجل القادر على استثمار هذا الحريق في إتمام القضاء على روح المقاومة الشعبية وتأديب الوفد على إحراج الملك مع الإنجليز .... ولكن على ماهر فاجأ الجميع بموقف كريم خيب آمال الملك والمحتلين وأرضي نفوس الوطنيين والمجاهدين ..ويمكن تلخيص هذا الموقف في النقاط التالية :
- 1- أعلن تأييده لخطة حكومة الوفد في إلغاء المعاهدة ولم يكتف بذلك بل قام بزيارة النحاس في بيته ورد النحاس له الزيارة فكان هذا التصرف من على ماهر بمثابة خنجر أنفذه في صدر الملك .. وإمعانا منه في تحدي إرادة الملك والإنجليز الذين كانوا يطمعون في حل البرلمان وإعلان انتخابات جديدة أعلن على ماهر إبقاءه على برلمان الوفد.
- 2- أبدي رغبته في الاجتماع بالمرشد العام وتم هذا الاجتماع في اليوم الثالث من فبراير واستغرق الاجتماع أكثر من ساعة ثم اجتمع المرشد العام بعد ذلك بوزير العدل .
- 3- نشرت الصحف بعد ذلك ما يلي :" استجابة لطلبات المرشد العام بادر رفعة على ماهر باشا رئيس الوزراء فاستصدر من مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 5 فبراير 1952 قرارا بأن يعهد بأمر التدريب العسكري للشباب من كافة نواحيه إليه بصفته وزيرا للحربية والبحرية بدلا من وزير الدولة وله أن يتخذ جميع التدابير والإجراءات اللازمة لذلك وستقدم وزارة الحربية والبحرية الأسلحة والأدوات اللازمة لتدريب الشبان وإقامة المعسكرات لهم.
- 4- توالت الاجتماعات بين المرشد العام ورئيس الوزراء .
- 5- كان الإنجليز فيكل مفاوضة في أمر الجلاء يقوم بها معهم رئيس وزارة مصرية ويشعرون أنهم أحرجوا وأفحموا وألزموا لحجة , يلجأون إعتذار فحواه أنهم يريدون أن يفاوضوا رئيس حكومة مصرية مؤيدا من جميع المصريين ممثلين في أحزابهم وهيئاتهم وكانوا يلجأون إلى هذا الأسلوب ثقة منهم في أنهم يطلبون محالا , فحكومة الوفد تشغب عليها الأحزاب الصغيرة الأخرى , وحكومة هذه الأحزاب لا يرضاها الوفد – فأراد على ماهر أن يبطل حجة الإنجليز بجمع الجميع حوله وتوحيد كلمتهم في تفويضه والثقة في تمثيلهم وتكوين جبهة وطنية منهم أمام الإنجليز .
- أما الأحزاب الأخرى فإنه دعا رؤساءها إلى الاجتماع به فلبوا جميعا وأعلنوا تأييدهم له لاعتقادهم أنه يعمل لحساب الملك.
- 6- وأما الإخوان المسلمون- والإنجليز يعلمون أنهم قد صاروا الثقل الأكبر في ميزان الوطنية المصرية – فقد كانت لقاءات المرشد العام بعلي ماهر دليلا على الثقة المتبادلة بين الرجلين .
• فرط حرص يؤدي إلى إحراج:
وحرصا من رئيس الوزراء على إبراز معني تضامن كل القوى الوطنية معه أمام لعالم وأمام الإنجليز وقع الآتي :
- أ- كان هناك موعد لاجتماع المرشد العام برئيس الوزراء في مكتبه في ساعة محددة من يوم 27 فبراير .
- ب- تبين بعد أن رئيس الوزراء دعا رؤساء الأحزاب للاجتماع به بمكتبه في نفس الموعد.
- ت- ذهب المرشد العام إلى مكتب رئيس الوزراء في الموعد المحدد فلما دخل المكتب فوجئ بوجود جميع رؤساء الأحزاب.
- ث- ويبدو أن رئيس الوزراء – لشدة حرصه على إبراز المعنى الذي أشرنا إليه – كان قد دعا مصورى الصحف فالتقطوا صورة تضم المرشد العام مع رؤساء الأحزاب وفي وسطهم رئيس الوزراء . ونشرت الصحف هذه الصورة في صدر الصفحة الأولي بها .
- ج- توضيحا لهذا لموقف وما حدث فيه وما سببه من حرج , أنقل للقارئ ما نشرته جريدة " المصري " عنه في 29 فبراير, فقد كتب تحت عنوان يملأ صفحتها الأولي " تصريحات لفضيلة المرشد العام عن حل القضية المصرية... " ما يلي :
" علم مندوب المصري من مصادر مطلعة أن فضيلة حسن الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين كان قد أبدي رغبته لرفعة على ماهر باشا منذ مشاوراته لتشكيل الجبهة السياسية في أن يبدي فضيلته آراءه لرفعته كلما شاء دون التقيد باجتماعات تضمه مع آخرين . ولذلك فقد فوجئ فضيلته أمس الأول حين دعي للاجتماع برفعة على ماهر باشا فإذا بمكتب رفعته يضم الجميع دفعة واحدة .
وعلم المندوب أن فضيلته حين دخل على رفعة على ماهر باشا أمس الأول في مجلس الوزراء كان يعتقد أن رفعته انتهي من مشاوراته مع بقية رؤساء الأحزاب , وأن فضيلته سيجتمع برفعة على ماهر باشا وحده , ولذلك فقد كان عقد الاجتماع من الجميع دفعة واحدة مفاجأة لفضيلته .
فلما سئل عن رأيه أثناء الاجتماع المذكور قال فضيلته :" إنني سبق أن بينته لرفعة رئيس الوزراء " فقال هيكل باشا لفضيلته: هل تسمح أن تذكر لنا ما قلته لرفعته؟ فقال " إن رأينا صريح في أنه لا مفاوضة ولا اتفاق مع أحد " وقد أكتفي فضيلة المرشد بذلك مفضلا عدم الدخول في مناقشة طويلة مع هيكل باشا .
وقد اتصل مندوبنا بفضيلة المرشد العام وسأله عن رأي الإخوان المسلمين في الموقف بالتحديد فأجمله في النقط التالية :
- أن الإخوان المسلمين لا يقبلون المفاوضة في مبدأ الجلاء في ذاته وإنما في كيفية تنفيذه وتحديد مدته .
- يري الإخوان فيما يتعلق بالسودان أن مسألة خروج الإنجليز من هناك أمر واجب لابد منه . أما فيما يختص بالصلة بمصر فقد أصبح من المتفق عليه أن يستفتي السودانيون في ذلك .
- أى اتفاق على الاشتراك في أى نظام دفاعي أو إقليمي يجب ألا يكون شرطا للمسألتين السابقتين أو مرتبطا بهما . وبعد تحقيق البندين الأولين فلمصر أن تعقد من المحالفات ما يتفق مع مصلحتها ومع من ترى في الاتفاق معهم مصلحة لها .
وسأل المندوب فضيلته عن السبب في اختياره للإدلاء إلى الصحفين بنص البيان المشترك الذي نشرته الصحف أمس عن الاجتماع برفعة على ماهر باشا وهل يفهم من هذا البيان أن المجتمعين فيه كونوا جبهة واحدة معا؟
فقال فضيلته : أن المجتمعين اتفقوا على أن تلقي هذه الكلمة على الصحفيين واقترح مكرم باشا بأن ألقيها . وما دام قد تم الاتفاق عليها فأى منا يلقيها . وإلقاءها لا يحمل أى معني .ولكن ليس معنى ما حدث أننا كونا جبهة واحدة . والإخوان المسلمون مستقلون في إبداء آرائهم ولن يكونوا جبهة مع أحد.
ملحوظة : كان البيان الذي ألقاه المرشد العام هو " لقد تبادلنا الرأي في الموقف السياسي والجميع متفقون على تحقيق أهداف البلاد"
- • صبغة الله :
- • هكذا يكون فهم دعوة الإخوان المسلمين :
نعم .. ضم هذا الاجتماع الرجال الذين انتهت إليهم الرياسة في هذا البلد, والذين تشرئب إليهم الأعناق فيه, والذين يتمسح بهم من يطلبون لأنفسهم المكانة والشرف بين بني قومهم..ولكنهم على كل حال أصحاب مبادئ وضعية, وأفكار بشرية , وأهداف محدودة بالأرض وأغراض نابعة من هوي النفس .
فهل يستوي هؤلاء مع المنتسبين إلى دعوة الحق والمعتصمين بأسباب السماء والمنطلقين بأهدافهم إلى ما وراء المادة والمخضعين هوى نفوسهم لإرادة بارئ الكون ؟
قد يلتقي هؤلاء وهؤلاء عند أمر معين أو مسألة محددة أو مشكلة طارئة ولكن ينبغي أن يفهم الناس أن هذا الالتقاء ليس الشبيه بالشبيه , ولا القرين بالقرين , بل هو التقاء عابر .. ولذا وجب أن يكون هناك تميز يعين الناس على فهم هذه المعاني .. لابد للمعتصمين بأسباب السماء من التميز عن المخلدين إلى الأرض.
وإبراز لهذا التميز كان حرص المرشد العام أن يكون لقاؤه مع رئيس الوزراء على انفراد فيفضي إليه بما عنده في الوقت الذي لا يختلط الأمر على الناس فيذهب بهم الظن كل مذهب . وقد يشرد بهم الظن فيعتقدون أن الإخوان صاروا حزبا من الأحزاب .
فلما فوجئ المرشد العام بوجوده في اجتماع ضم الجميع غضب, وظهر الغضب في رده على من وجهوا إليه أسئلة منهم .. ثم شرح للناس أمر هذه المفاجأة على صفحات الجرائد فرد إلى الناس اطمئنان نفوسهم وأزال ما حاك في صدروهم من حرج , ورجع بدعوة الإخوان إلى موضعها السامي في قلوبهم ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) البقرة : 138).
وهنا نحب أن نوجه القول إلى الذين تئول إليهم مناصب السلطة فينسون في غمار بهرجا أن الأيام دول, وأن الزمان قلب , وأن الفلك دوار لا يهدأ , وأن عجلة الأيام تجري ولا قبل لقوة في الأرض أن توقفها .. نقول .. هكذا دارت الأيام وارتدت الروح إلى الموءودة بعد أن أهيل عليها التراب . فنفضته عن نفسها , وخرجت من تحته بشرا سويا وعملاقا فتيا .. حتى أن الذين اشتركوا في أودها وقفوا أمامها ذاهلين .. ثم رغمت أنوفهم فالتفوا حولها متوسلين, يخطبون ودها ويطلبون صفحها وينشدون رضاها وينتظرون كلمتها التي هي كلمة الحق والتي صارت القول الفصل .. فهل يتعظون ؟؟
( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتي وأنه على كل شئ قدير , وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) الحج : 6,7)
الباب السابع آخر المحاولات لصد الزحف الانهيار التام
- آخر المحاولات لصد الزحف الانهيار التام النظام الملكي يلفظ أنفاسه الأخيرة
- • الهلالي أخر محاولة يائسة لصد التيار الوطني .
- • الملك يفقد توازنه ويعيش في هلع
- • المصير المحتوم .
الفصل الأول الهلالي أخر محاولة يائسة لصد التيار الوطني
لم يستطع الملك ولا الإنجليز تحمل أكثر من ذلك من تصرفات على ماهر التي كانت الخطوة التالية فيها بلا شك هي استئناف المقاومة من جديد .. ولكنها ستكون مقاومة أكثر تنظيما , وأشد تأثيرا , وأخطر نتائج , فبادروا بإقالته بطريقة جعلت هذه الإقالة تأتي في صورة استقالة .
ففي 2 مارس 1952 أى بعد خمسة وثلاثين يوما فقط في الحكم استقال على ماهر على إثر اعتذار السفير البريطاني فجأة عن موعد مقابلة كان قد اتفق عليه – وقال على ماهر للصحفيين بعد أن قدم استقالته : إنني أشعر بعقبات في سبيل مهمتي . وأسند الملك الوزارة بعده إلى أحمد نجيب الهلالي .وهو وفدى سابق كان أحد كبار أعضاء الحزب. وقد اعتزل على إثر اختيار فؤاد سراج الدين سكرتيرا عاما للوفد, ورأي في ذلك تخطيا له ولأمثاله من قدامي الأعضاء وذوي السابقة فيه – وأعتقد الملك والإنجليز أن هذا الرجل هو خير من يستعان به على تقويض بناء الوفد , وبالتالي خير من يخلص الملك من ورطة إلغاء المعاهدة وما أدت إليه من إحياء روح المقاومة في الشعب ضد الإنجليز .
وكان للأحداث التي أدت إلى إجهاض المقاومة الشعبية أثر عميق في نفوس الشعب بمختلف طبقاته وطوائفه فلقد تذوق الشعب لأول مرة منذ عام 1919 لذة الوقوف صفا واحدا في وجه المستعمر ,ولمس بعد وقت غير طويل من هذا الموقف أن هذا هو السبيل الصحيح لاسترداد الحقوق من الغاصبين , بل نستطيع أن نقول أن الشعب أحس بوجوده لأول مرة ..وإذا أحس شعب بوجوده فقلما تجدي معه وسائل القمع أو أساليب التمييع والمداهنة في إنسائه هذا الإحساس أو إقناعه بشعور آخر.
وتصوير الموقف بعد إقالة وزارتي الوفد وعلى ماهر كان على هذه الصورة : الشعب المصري أحس بوجوده , وذاق حلاوة الجهاد في سبيل حقوقه – وقوي داخلية وخارجية نحاول أن ترجع به إلى الوراء .. تجاول أن تنقله من مجال الشعور الذي يسيطر عليه إلى مجال شعور آخر معاكس لهذا العشور .. تريد أن ترجع به إلى طريق جربه ثلاثين عاما فما جنى منه إلا الخيبة والتفكك والخسارة والندوم ولم يتقدم إلى الأمام شبرا واحدا.
ويبدو أن الأسلوب الذي تمخضت عنه أدمغة هذه القوي جاء هذه المرة ذا ثلاث شعب فهو يصوب إلى أهداف ثلاثة وإن كان الهدف الثالث يقع من تلقاء نفسه إذا ما أصيب الهدفان الأولان ..وهذه الأهداف الثلاثة هي الوفد والإخوان وإلغاء المعاهدة .. فإذا استطاعوا القضاء على الوفد وعلى الإخوان سقط إلغاء المعاهدة فورا دون عناء لأن هذين هما اللذان عملا على إلغاء المعاهدة فالأول كان الجهة الرسمية التي أعلنت الإلغاء, والثانية هي الجهة الشعبية التي نقلته إلى ميدان المواجهة والمقاومة وقدمت له الوقود .. فلما اجهض هذا الميدان وقفت تحرسه بكل قوتها حتى لا تجرؤ جهة رسمية أخري مهما كان لونها على مس هذا الإلغاء من قريب أو من بعيد , وهي تحرسه حتى تحين الفرصة لاستئناف المقاومة فيه من جديد.
وجاءت هذه القوى بهذا الرجل – نجيب الهلالي – إلى الحكم على أنقاض الوزارتين المشار إليهما وله هدفان : هدف خفي وهدف ظاهر . أما الهدف الخفي فهو محاولة القضاء على حزب الوفد وعلى الهيئات المناهضة للملك والتي يمثلها الإخوان المسلمون وإلهاء الناس عن القضية الأصلية وهي إخراج الإنجليز من مصر . وأما الهدف الظاهر فهو إعلان مواصلة سياسة المواجهة مع الإنجليز – وما كان لرئيس يتولي الحكم في مصر في ذلك الوقت أن يجرؤ على إعلان غير هذا الهدف.
• متى يستقيم الظل والعود أعوج ؟:
وقد أتخذ الهلالي لتحقيق هدفه الخفي عدة خطوات , منها أنه بدأ بحل مجلس النواب واعدا بإجراء انتخابات في أقرب وقت . ثم ماطل في البر بوعده وأجل موعد إجرائها عدة مرات.
وكان تبريره للتأجيل والمماطلة هو ما أعلنه من أول يوم تولي فيه الحكم من أنه إنما جاء ليطهر البلاد مما تزخر به من فساد.. فهو يؤجل بدعوى أن سياسة التطهير لم تبلغ بعد مداها – وأتي لسياسة التطهير أن تبلغ مداها أو حتى أن يرجي لها أدني نجاح في بلد رأس الفساد فيه ومنبعه هو حاكمه الأعلي الذي يعين الحكام ويقيلهم حسب نزواته وأهوائه والكل يتفاني في خدمته وإرضاء نزواته ؟؟
ولعل القارئ الكريم لم ينس ما طالعه في الصفحات القليلة الماضية من أن حكومة الوفد كانت ترسل إلى الملك بالمراسيم ليوقعها وهو على موائد القمار في أوربا .. وهذا الملك هو الذي ننقل الآن ما نشرته الصحف في السادس من مايو 1952 في عهد هذه الوزارة التي جاءت لتطهير البلاد, وقد وافق هذا اليوم يوم عيد جلوسه على العرش ..
وإليك نص ما نشر :
- " أذاع فضيلة السيد محمد الببلاوى نقيب الأشراف وحسين الجندي باشا وزير الأوقاف الأسبق , أنهما عثرا على ما يثبت نسب الملك فاروق إلى السلالة النبوية الشريفة عن طريق جده محمد شريف باشا ".
ولن نتعرض في هذه العجالة لوضع هذا الاكتشاف المثير في ميزان التصديق والتكذيب , ولكننا نكتفي بأن نتساءل عن الدوافع التي حملت المكتشفين على إعلان اكتشافهم في هذا الوقت وفي خلال الظروف التي يعلمها الناس في الداخل والخارج من سيرة هذا الرجل العفنة النتنة التي أزكمت أنوف المسلمين وغير المسلمين على السواء في أنحاء الدنيا – هل يريد هؤلاء المكتشفون أن يقنعوا الناس في الداخل والخارج أن هذه السيرة تمثل الطهر والنقاء والسمو والعفاف والنبل, تلك الصفات التي هي ديدن المنتسبين إلى العترة النبوية الشريفة..
وإذا كان فاروق بما هو متلطخ به في حمأة الرذيلة والفجور والمجون يجد من كبار رجال الدولة من يجهدون أنفسهم لينسبوه إلى السلالة النبوية الطاهرة فما هو الفساد إذن الذي جاء الهلالي ليطهر البلد منه ؟؟
• استطراد على هامش التطهير :
وضح مما سبق أن عملية التطهير التي ادعي الهلالي أنه إنما جاء ليباشرها لم تكن في حقيقتها إلا تمويها وخداعا وإلهاء للشعب . لكن مرفقا واحدا من مرافق البلاد كان إجراء التطهير فيه أمرا لابد منه , ذلك أن هذا المرفق كان متصلا أوثق اتصال بالبلاد الأجنبية لا سيما بأوروبا عامة وبإنجلترا على وجه الخصوص . وكان هذا المرفق هو القطن .. حيث كانت مصر تعتمد في تجارة القطن في ذلك الوقت على تصديره إلى الخارج وكانت حصيلة تصديره هي قوام مالية الدولة وعصب دخلها حيث لم تكن مصانع الغزل المصرية إذ ذاك تستهلك عشر إنتاج البلاد. ولعل القارئ الكريم قد فهم عرضا مما سقته في صفحات سابقة أن تجارة القطن في مصر لم تكن تجارة نظيفة ..وتوضيحا لذلك أقول : أن المتعاملين في تجارة القطن كانوا - كدأب غيرهم من التجار – يتوخون تحقيق أكبر ربح مستطاع من وراء تجارتهم مستحلين في سبيل ذلك الطرق الحرام.
ولما كانت أصناف القطن على اختلافها متشابهة تمام التشابه , بحيث لا يستطيع تمييز بعضها من بعض إلا الخبراء المتخصصون فتجد صنفين من هذه الأصناف متشابهين تمام التشابه في مظهرهما لكن سعر أحدهما ضعف سعر الآخر لتميزه في صفاته الغزلية عن الصنف الآخر .. ولهذا أنشأت الحكومة مراقبة تضم خبراء متخصصين في هذه الناحية على أعلي مستوى من الخبرة, ووكلت إليهم معاينة جميع الأقطان في جميع مراحلها منذ دخولها مصانع الحليج حتى تشحن على السفن في ميناء الإسكندرية إلى الخارج . وقد سلحت هؤلاء الخبراء بقانون صارم يأخذون به من أقدم على خلط صنف بآخر .
ولما كانت المكاسب التي تعود على تجار القطن من خلط صنف بآخر مكاسب باهظة, ولكنهم لا يستطيعون تحقيق هذه المكاسب إلا بالتواطؤ مع خبراء الحكومة المتخصصين فإنهم بسطوا أيديهم لهؤلاء الخبراء كل البسط حتى لانت لهم مقادة أكثرهم .. وتحقيق لهم بذلك ما يريدون .
وسارت الأمور في هذه التجارة على هاذ النحو , وكل عام تزداد جرأة التجار عن العام السابق . وما دام خبير الحكومة قد أجاز عملية الخلط فإن هذا الخلط لا يمكن اكتشافه إلا حين تغذي ألات الغزل في مصانع الغزل بهذه الأقطان . ذلك أن الصفات الغزلية لكل صنف من الأصناف تقتضي معاملة خاصة ومقاييس خاصة تضبط على أساسها أجزاء آلة الغزل . فإذا كان الصنف مخلوطا بصنف آخر اختلت آلة الغزل ولم تنتج الغزل المطلوب ذا المقاييس المحددة.
وأخذ أصحاب مصانع الغزل في أوروبا يبعثون بشكاواهم من أن الأقطان التي تص2ل إليهم من مصر يشوب بعضها الخلط الذي يسبب لهم خسائر .. وكلما زادت نسبة الأقطان المخلوطة بمرور الأعوام زادت هذه الشكاوى , حتى جاء عام 1951 وكانت نسبة الخلط قد بلغت حدا لا يمكن تحمله فبعث أصحاب المغازل الأوروبية إلى الحكومة المصرية إنذارا بأنهم سيقررون مقاطعة القطن المصري .
ولما كان معني هذا أن الدولة تعلن إفلاسها فقد بدأت الحكومة تتحرك.. ولم يكن أمامها إلا أن تأخذ الأمر بالحزم . كنت في هذا الوقت مغضوبا على – كما قدمت من قبل – فكان مقر عملي في الصعيد . وقد انتهي موسم القطن وذهبت إلى بلدتي رشيد لأقضي فيها فترة من أجازة الصيف التي كانت تمتد إلى أربعة أشهر ..وبينما أنا في رشيد وصلني خطاب من الإدارة التي أتبعها في الصعيد بأنني قد تقرر انتدابي للعمل بالإسكندرية في الصيف – والعمل القطني في الإسكندرية كان يستمر تقريبا طوال العام – وإغراء لى بالاستجابة إلى هذا الانتداب ذكروا في الخطاب أن هذا الانتداب ببدل سفر .
ولما كنت ناقما على الإدارات التي ترأسني في هذا العمل لعدم ثقتي في ذمتهم فقد رددت على الخطاب بأنني أرفض الانتداب مهما كان فيه من مزايا مادية – وبعد أيام وصلني خطاب شخصي من زميل يكبرني سنا ومنزل في العمل , ومن القلة الطاهرة اليد إلى احترمها يرجوني فيه أن أستجيب للإنتداب لأنه خدمة وطنية لا ينبغي لمثلي أن يتخلف عنها وحدد لى يوما ألتقي به فيه إدارة العمل بالإسكندرية.
وما كان لى أن أتخلف بعد ذلك , فسافرت إلى الإسكندرية , والتقيت بهذا الزميل الكريم فأخبرني بأن الحكومة – أمام تهديد أصحاب المغازل في أوروبا بمقاطعة القطن المصري – قد قررت خطة حازمة .. وبدأت بوثق المدير العام لمراقبة القطن ومفتشي المراقبة ببعض المحافظات , وانتدبت سامي بك الهرميل مراقبا عاما للقطن , الذي كان أول عمل قام به أن انتدب ستة من خبراء المراقبة , منهم أنا وأنت لمعاينة جميع الأقطان التي تعد في مكابس القطن بالإسكندرية للتصدير, وضبط المخلوط منها . وقال : إن سامي بك سيحضر اليوم من القاهرة لمقابلتنا نحن الستة هنا في إدارة الإسكندرية ..
وحضر الرجل فعلا والتقينا به. وكان أربعة من الستة من الزملاء الذين طرأت عليهم في دمنهور في عام 1941 وكانوا سندا لى إذ ذاك حين كنت أقوم بنشر الدعوة في مقاهي دمنهور كما قدمت في الجزء الأول من هذا الكتاب .
وتكلم الرجل فشرح لنا الموقف ومدى الدمار الذي يحيق بالبلاد إذا قاطع الغزالون الأوروبيون القطن المصري . وقال : أجريت بحثا دقيقا في جميع العاملين بمراقبة القطن في القطر وانتهي بحثي إليكم أنتم الستة الذين لا تحوم حولكم إثارة من شبهة فقررت . انتدابكم لضبط الأقطان المخلوطة الواردة من الريف قبل تصديرها من الإسكندرية حتى نرد لبلادنا اعتبارها أمام الدول.
وباشرنا مهمتنا وضبطنا الأقطان المخلوطة وأجرى تحقيق كان من نتيجته فصل المدير العام للمراقبة لاتهامه بأنه كان ضالعا مع المفتش العام لمحافظة القليوبية وخبيري المراقبة بمحلج القناطر الخيرية , الذي ثبت أنه كان مبادأة لعمليات خلط رهيبة – ولكن لما كانت الأدلة القانونية غير كافية لإثبات التهمة على المفتش والخبيرين فقد اكتفي بإبعادهم عن هذه المحافظة .. وكان لهذه الإجراءات الحازمة صدي في أوساط الغزالين بالخارج فعدلوا عن خطة المقاطعة .
وانتهت فترة انتدابنا نحن الستة ..ورجع كل منا إلى مقر عمله كما رجع سامي بك الهرميل إلى عمله الأصلي وهو رئيس حسابات الخاصة الملكية – وبهذه المناسبة أقول : لعل اهتمام الملك بهذا الموضوع هذا الاهتمام الذي جعله ينتدب رئيس حسابات خاصته لمباشرته أنه أى الملك كان في ذلك الوقت أكبر منتج للقطن في مصر . وإذا قاطع الغزالون القطن المصري فسيبور قطنه وتحيق به أكبر خسارة فضلا عن الخسارة العامة للبلاد..
وفيما أنا أتهيأ للسفر إلى مقر عملي بالوجه القبلي حيث أصبح موسم القطن على الأبواب إذا ببعض زملائي يزجون إلى التهيئة بأنني سأنقل إلى محلج القناطر الخيرية أى إلى القاهرة – وإذ كنت ناقما كما قدمت على الزمرة المشرفة على هذه المراقبة فقد أبديت لهم رفضي البات لهذا النقل , وكلفتهم بنقل هذا الرفض إلى المسئولين ..ولما استفسر هؤلاء المسئولين عن سبب رفضي قلت لهم : إنكم نفيتموني إلى الوجه القبلي ست سنوات كاملة ولم أجد أحدا منكم قال كلمة إنصاف في حقي طيلة هذه المدة ..وتأتون الآن لتطلبوني للعمل في أقذر محلج في القطر كله .
فإذا تكون ملمة أدعي لها وإذا يحاس الحيس يدعي جندب
وأصررت على الرفض . ولم أكن أعلم أن المفتش العام الجديد لمراقبة القطن بمحافظة القليوبية هو أحد أصدقائي الحميمين الطاهرين الذين تعلمت فين الفطن على أيديهم.. وجاءني هذا الصديق وبسط أمامي ظروف الموضوع, وتتلخص في أن الحكومة قررت تطهير المراقبة فأسندت إليه منصب الإشراف على هذه المحافظة فاشترط لقبوله هذا المنصب أن يسند إلى الإشراف على هذا المحلج الذي كان سببا في فصل المدير العام للمراقبة وبالرغم من حبي لهذا الصديق وتقديري له فقد أصررت على الرفض متأثرا بما لقيته من اضطهاد على يد المسئولين السابقين .
وبعد ذلك بأيام طلبت لمقابلة المرشد العام الذي بادرني بقوله : إن صديقك وزميلك فلان – وهو الذي نقل مشرفا على محافظة القليوبية في القطن – حضر هنا وقابلني وشرح لى ظروف نقله ونقلك , وأخبرني بأنك مصر على الرفض . وأنا أعرف وجهة نظرك واقدرها حق قدرها , ولكنني أري أننا باعتبارنا أصحاب دعوة لإصلاح المجتمع لا ينبغي لنا أن نتخلف عن العمل في أحرج المواطن , ولتنس الماضي ولنعمل على تطهير هذه البؤرة من الفساد – فلما سمعت ذلك من الأستاذ المرشد زال ما كان في نفسي وانشرح صدري واستجبت لما كنت رافضه.
• في بؤرة الفساد:
حين ذهبت لتسلم العمل في هذا المكان الجديد لاحظت أن كل من حولي متنكر لى وضائق بي , ويتمني أن لو نزلت على صاعقة فأراحتهم منى ..وكادت تضيق نفسي لولا أن تذكرت أن وجودي في هذا المكان إنما هو من أجل الدعوة التي آمنت بها وعاهدت على العمل بها ..
ووردت إلى المحلج أقطان بأسماء تجار من عملائه فعاينتها وصادرت أكثرها وبدأت إدارة المحلج – وكانوا أجانب – تحتك بي على أساس أنهم لم يتعودوا أن يروا من يقف في وجه مصلحتهم من قبل . وأبرقوا إلى الجهات الحكومية العليا يتهمونني بتعطيل أعمالهم ويطلبون التحقيق معي , فلم تأبه هذه الجهات بهم ..ووقعت احتكاكات من مختلف التجار بي, حتى وصل الأمر بأحدهم أن هددني بالقتل إذا لم أعدل عن خطتي . فكان ردي على ذلك أن الأجل بيد الله وحده , وإذا أراد الله لى ذلك فإنها هي الشهادة التي أتمناها ..وظل الحال على ذلك حتى ركن الجميع إلى اليأس من ناحيتي .
وقد دفعهم هذا اليأس لى مراجعة عقولهم وتدبر أمورهم والثوب إلى رشدهم فجاءوني وقالوا : يا فلان .ز إننا جئنا نعتذر إليك مما فرط منا نحوك , وعذرنا في ذلك أننا فوجئنا بأسلوب لم نعهده من قبل ..ولكننا لما ارجعنا أنفسنا وجدنا أننا قد تسرعنا وأننا مخطئون وأن الخطة التي تعاملنا بها هي أصلح لنا من الخطة التي كنا نعامل بها من قبل .. إن التاجر منا حين يرسل إلى المحلج رسالة من القطن يعرف عدد الأكياس السليمة منها وعدد الأكياس المخلوطة فيها, ويبعث إلينا المحلج بنتيجة فرز الرسالة فنجد أنك صادرت نفس العدد من الأكياس الذي نعرف أنه مخلوط ,أجزت الأكياس الأخرى ..وفي هذه الحالة لم نخسر شيئا لأن الأكياس التي صادرتها قد اشتريناها بثمن بخس باعتبارها مخلوطة , وستحلج على أنها مخلوطة وتباع على أنها كذلك وستحقق من بيعها على هذا الأساس بعض الربح - والأكياس السليمة التي أجزتها ستحقق من بيعها ربحا كبيرا .
أما الخطة التي تعودنا عليها من قبل فإن كل رسالة ندخلها المحلج كانت تصادر كلها سواء المخلوط منها والسليم ما لم ندفع لخبير الحكومة جنيها عن كل كيس منها , ولا يمكن أن نجد في السوق أقطانا مخلوطة تكفي لجعل كل الرسائل التي ندخلها المحلج مخلوطة – وكان يتحتم على الواحد منا أن يحضر بنفسه مع كل رسالة ليقدن هذه الرشوة حتى لا تصادر الرسالة كلها .. أما الآن فنحن نرسل الرسالة ولا نكلف أنفسنا مشقة الحضور معها , ونستغل وقتنا في أعمالنا الأخرى ولا ندفع شيئا ولا يصادر منا إلا ما يستحق أن يصادر ..وتم الصلح بيني وبين التجار وبين إدارة المحلج على أن يبدأوا من جديد حياة طاهرة نقية .
ما أحوجنا في التطهير إلى القدوة :
وبعد أن سارت الأمور على النحو الجديد , وانقطع المدد الغامر الذي كان الجميع من تجار وموظفين وعمال ينعمون فيه .. سألت العاملين الحكوميين اللذين يعملان معي وكانا يعملان من قبل مع السابقين سألتهما بعد أشهر عن شعورهما , وهل يشعران بالضيق والحرمان ويبكيان على الأيام الخالية ويتمنيان لو ترجع تلك الأيام ؟ فكان ردهما عجيبا .. قالا : إننا حرمنا فعلا من متع كثيرة ولكننا مع ذلك نشعر بسعادة ما كنا نشعر بها من قبل , فلم نكن من قبل يخطر على بالنا أن هناك إلها مطلعا علينا وسيحاسبنا على هذا الكسب الحرام .. أما الآن وبعد أن دللتنا على الله , فإننا نجد في اللقيمات الجافة التي نقتات بها مع أولادنا لذة ما كنا نجد مثلها في الطعم الفاخر الشهي ..وننظر إلى الأيام الماضية نظرة الضال بعد أن اهتدي وتضرع إلى الله أن يغفر لنا هذا الماضي .. وهكذا استقام العاملان كما استقام كل العاملين في هذا المحلج من تجار وموظفين وقد حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وصاروا من الراشدين – وتوطدت العلائق بين هؤلاء الناس وبيني حتى أن كثيرين منهم – بعد أن طوحت بي الأيام بعيدا عنهم – كانوا يزورونني وأحسوا بفضل دعوة الإخوان المسلمين على وعليهم وعلى المجتمع .
ولقد سقت هذه القصة – مغفلا الكثير من تفاصيلها وعجائبها – لأبين أن الإصلاح لا يتحقق إلا على يد أفراد من الشعب صالحين – لأن فاقد الشئ لا يعطيه .. أما أن يشرد الصالحون كل مشرد , ويعهد بالمناصب الحساسة إلى الفاسدين , ثم تدعي الحكومة مع ذلك أنها بسبيل إصلاح البلاد وتطهيرها .. فلا نقول أن هذا أسلوب خاطئ ووسيلة غير مجدية فحسب بل نقول إنه تضليل واحتيال وخداع .
الفصل الثاني الملك يفقد توازنه ويعيش في هلع
كان الإخوان يعرفون حالة الهلع التي يعيشها هذا الرجل مطاردا بأشباح ما ارتكب في حق الشعب من آثام وما ينتظره على أيدي المظلومين من عقاب ومع أنه كان يتمتع – بحكم منصبه – بحماية جميع أجهزة السلطة في الدولة فإنه لم يري في هذه الأجهزة كلها ما يكفي لتهدئة روعه وتأمين خوفه .. فأنشأ جهازا سريا خاصا سماه " فرقة الحرس الحديدي " أنشأها له الدكتور يوسف رشاد زوج السيدة ناهد رشاد وصيفة الملكة . ومهمة هذه الفرقة هي حمايته ..وكانت هذه الفرقة مكونة من مجموعة من صغار الضباط بعضهم من الجيش وبعضهم الآخر من الشرطة ومعهم عدد من المدنيين الأفاقين.
وقد قامت هذه الفرقة باغتيال الملازم عبد القادر طه بحي الروضة بالقاهرة يوم 24 مارس 1952 – وشاء القدر ألا يسلم عبد القادر طه الروح إلا بعد أن أدلي إلى المحققين بالطريقة التي تمت بها الجريمة.
وقد قامت هذه الفرقة باغتيال الملازم أول عبد القادر طه بحي الروضة بالقاهرة يوم 24 مارس 1952 – وشاء القدر ألا يسلم عبد القادر طه الروح إلا بعد أن أدلي إلى المحققين بالطريقة التي تمت بها الجريمة.
وقد اتهم – رحمه الله – اللواء حسن سري عامر ( وهو أحد كبار ضباط الجيش وكان من أقرب المقربين إلى الملك , وكان معروفا أنه رجله في الجيش وصنيعته وقد نوهنا عنه في حديثنا عن انتخابات نادي ضباط الجيش . وسيأتي إن شاء الله ذكره فيما بعد) وقال إن صديقا لسري عامر اسمه على محمد حسين الح عليه مرافقته بحجة زيارة مقر جماعة الإخوان المسلمين بالروضة وما كادا يصلان إلى نقطة التقاء شارعي الأخشيد بالملك المظفر حتى سلطت إحدى السيارات عليهما ضوء مصباحها ووقفت فجأة وأطلقت عليه النار.. وتبين بعد ذلك أن على محمد حسنين كان أحد أفراد الحرس الحديدي.
وقد لمح القارئ من خلال هذه الواقعة أن الموقف في مصر في تلك الحقبة من الزمن قد تمخض عن انقسام البلاد إلى جبهتين : جبهة الملك وأعوانه والمتوهمين أنه لا يزال القوة الغالبة التي يرجي الانتفاع الشخصي من ورائها وتتضمن هذه الجبهة أكثر السياسيين التقليدين وعددا من العسكريين المأجورين أما الجبهة الأخرى فهي " الإخوان المسلمون" وهي الجبهة التي تضم الأكثرية الساحقة من الشعب لا في القاهرة وحدها بل في جميع أنحاء البلاد ويدعمها تنظيم واع مستنير في صفوف الجيش .
ولما كان عبد القادر طه – رحمه الله – من الضباط الواعين المستنرين فقد رأي عميل الملك المكلف باستدراجه ان استدراجه لا يكون إلا بعرض مكان يرافقه إليه بحيث يكون هذا المكان مقبولا لديه , فعرض عليه أن يرافقه إلى دار شعبة الإخوان المسلمين في حي الروضة .
وقد رأيت أن أثبت هنا واقعة اغتيال عبد القادر طه لأنها كانت إحدى معالم فترة الانهيار التي أفردنا لها هذا الباب, إذ كانت أشبه بإعلان حرب من جانب بلغ به اليأس كل مبلغ وقد حفز إعلان الحرب هذا الجانب الآخر إلى التعجيل بالضربة القاضية . وقد فهم هذا الجانب الآخر أن حالة الرعب التي يعيشها الملك صورت له أو لعله نمي إلى علمه ‘ن طريق أجهزته أن هناك مؤامرة لقتله يشترك فيها عبد القادر طه والدكتور عزيز فهمي , فأمر جلالته بوضع خطة لاغتيالهما فاغتيل الأول بالطريقة التي ذكرناها , ودبر للآخر أن تصدم سيارته سيارة أخرى أدت إلى موته ..
وبمناسبة ما ذكرنا من أن هناك فريقا كبيرا من المشتغلين بالسياسة كانوا يتوهمون أن الملك لا زال الفرس التي يراهن عليها نقول :
أن النيابة وجهت الاتهام إلى الأستاذ أحمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي وبعض أعضاء حزبه بالتحريض على ارتكاب حوادث 26 يناير بدافع العداء للنظام السياسي والاجتماعي وذلك في يوم 13 /5/1952 على أن تنظر القضية أمام محكمة الجنايات برياسة المستشار حسين طنطاوي بك يوم 18 مايو وطالبت النيابة بتطبيق عقوبة الإعدام .
ولما كان الأستاذ أحمد حسين متهما من قبل بالعيب في الذات الملكية فقد تخلي المحامون عن الدفاع عنه جبنا ونفاقا , فقد انتدبت المحكمة الأستاذ على عبد العظيم للدفاع فاعتذر ثم انتدبت الأستاذ الظاهر حسن أحمد فاعتذر أيضا- وهنا تقدم للدفاع عنه الأستاذ شمس الدين الشناوي وهو من الإخوان والأستاذ عبد المجيد نافع وهو صديق للإخوان .
والطريف الذي لا يخلو من دلالة أن الأستاذ سليمان زخاري رئيس تحرير مجلة الاشتراكية وضع دفاعه عن نفسه بأن الأستاذ أحمد حسين كان مسيطرا على المجلة وعلى كل شئ في الحزب ,وقد اضطر هو للنشر خوفا من فصله – فرد الأستاذ أحمد حسين بأنه كان في يوم 26 يناير طريح الفراش في بيته , واستشهد بعدة أشخاص منهم على ماهر ومصطفي أمين وقد أيدوه في ذلك . فقال الأستاذ أحمد حسين أن زخاري إذن كان حرا في قبول النشر أو عدمه .
- استغلال الإخوان الوقت للإعداد لعمل خطير
قلنا أن الهلالي حاول التقرب إلى الإخوان فأعلن أنه يري إعادة التحقيق في قضية مقتل الإمام الشهيد وغيرها من القضايا ودأب على استطلاع رأي الإخوان والاجتماع بالمرشد العام الذي ظل على إصراره أن يكون اجتماعه به على انفراد دون أن يضمه اجتماع برؤساء الأحزاب .
وبعد عدد من اللقاءات بين المرشد العام ونجيب الهلالي كون الإخوان فكرة عن الهدف من إبدال على ماهر بالهلالي . وبدا لهم أن الهدف لا يعدو أن يكون محاولة لإضاعة الوقت وشغل الناس بما سموه التطهير وإجراء انتخابات .. فقرر الإخوان الاكتفاء – من اتصالهم به – وبإحراجه في القضية الوطنية بحيث لا يجد فرصة للتحلل مما أجمع عليه الشعب سارت عليه الوزارتان السابقتان . واتجهوا إلى استغلال الوقت في ناحيتين . الناحية الأولي : علنية
وهي تنظيم أنفسهم ,ونشر دعوتهم وتعميق فكرتهم في نفوس الشعب ومثالا لذلك قاموا بما يلي :
- أ- رحلة المرشد العام : طاف المرشد العام في خلال هذه الفترة بشعب الإخوان في رحلة طويلة وهي الرحلة التي التقيت مع المرشد فيها بدمنهور والتي أشرت إليه من قبل . وقد استغرقت هذه الرحلة أكثر من شهر . وقد زار خلالها الإخوان بالوجهين البحري والقبلي .
- ب- تقوية الروابط بالشعوب الإسلامية : وقد أولي الإخوان في خلال هذه الفترة اهتمام كبيرا لتقوية الروابط بالشعوب الإسلامية , وإبراز دعوة الإخوان المسلمين على أنها فكرة عالمية لا تحدها حدود إقليمية . وقد عملوا على عقد مؤتمر للشعوب الإسلامية بكراتشي في باكستان في أوائل شهر مايو 1952 وقد مثل الإخوان فيه الأخ الأستاذ صالح عشماوي وألقي كلمة الإخوان .
- ت- ومن مقترحات الإخوان التي جاءت في سياق هذه الكلمة : إعادة النظر في نظام الملكية الزراعية وفي نظام الرعوية – ويقصد بإعادة النظر في نظام الملكية الزراعية ما صار يفهمه الناس فيما بعد بالإصلاح الزراعي , وهي لفتة تشعر القارئ بأن الإخوان كانوا أول من دعا إلى الإصلاح الزراعي وهي لفتة تشعر بل في جميع البلاد الإسلامية ولكن ليس على أساس ما يسمونه الاشتراكية وإنما على أساس أنه جزء من الفكرة الإسلامية وقد يحسن بنا في هذا المقام أن ننبه القارئ إلى أن صورة الإصلاح الزراعي التي أرادها الإخوان لم تكن هي الصورة التي تم بها هذا المشروع في مصر وسيأتي تفصيل هذا الموضوع في الجزء الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله .
أما إعادة النظر في نظام الرعوية فيقصد به اقتراح فتح الحدود المصطنعة بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض واعتبار البلاد الإسلامية – مهما اختلفت مواقعها الجغرافية – أمة واحدة ودولة واحدة بحيث يكون الإسلام وطنا وجنسية .
وإذا كانت دول أوروبا – ولا تربطها بعضها ببعض أية روابط – تسعي إلى فتح الحدود فيما بينها محاولة تحقيق وحدة تامة بينها لأنها ترى أن هذا هو السبيل الوحيد لإبرازها قوة عالمية مهيبة وقوة اقتصادية وسياسية متكاملة ومسيطرة فإن الدول الإسلامية أولي بذلك وأرى وكتاب هذا الدين يخاطب المسلمين حيث كانوا فيقول : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ( البقرة : 143 ) ويقول ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات: 10) ويقول رسولهم : " ليس منا من دعا إلى عصبية " ويقول " وكونوا عباد الله إخوانا "... وإذا كان التاريخ يحدثنا عن هذه الدول الأوربية حيث التناحر المستمر والعداء المستمر والحروب المتواصلة فإن هذه الدول الإسلامية المقطعة الأوصال الآن على مر التاريخ منذ نشأتها أمة واحدة ودولة واحدة .. فإذا رجعت كما يطالب الإخوان دولة واحدة فإنما ترجع إلى أصلها وتحقق وضعها الذي كانت عليه والذي يجب أن تكون عليه .وقد ختم مندوب الإخوان في المؤتمر كلمته مرددا الحديث الذي أدلي به المرشد العام لجريدة المصري في أوائل شهر أبريل محذرا من الانحراف بالتجمع الإسلامي عن غايته حيث قال : " وأحب أن أقول لك بهذه لمناسبة أني قرأت في بعض الصحف أنباء مرماها أن الحلف الإسلامي قد تطمئن إليه الدول الغربية لأنه سوف يكون مناهضا للشيوعية , أو أنه سيستخدم لهذه الغاية .. والحق أن الإسلام شئ قائم بذاته ونظام جمع الله فيه خير ما في النظم جميعا فلا يصح أن يكون أداة في يد أحد يستخدمها لغاياته بل يجب أن تكون خادمة للنظم الإسلامية والمصالح الإسلامية وحدها بلا ميل إلى أى نظام أو فكرة تخالفه سواء أكانت ما يسمي الديمقراطية أو الشيوعية أو الفاشية .
فالإخوة والعدالة الإسلامية تجمع جميع الناس من جميع الألوان وجميع الأديان ولا تعتبر العدالة مقصورة على المسلمين , وإنما هي حق لكل من يعيش في دولة الإسلام ولا تكون الإخوة بين المسلمين وحدهم كشأنها بين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم إخوة ويعاملون التونسيين أسوا معاملة . والأمريكان معاملتهم للهنود الحمر لا تخفي على أحد. أما عدل الإنجليز فهو عدل لا يعرفونه إلا في بلادهم فإذا خرجوا منها رأيت صورته العكسية في قنال السويس والسودان وغيرهما ".
ويبدو أن تحرك الإخوان في هذه الفترة نحو العالم الإسلامي واشتراكهم في هذا المؤتمر وكلمتهم التي ألقوها فيه قد أيقظت في الشعب المصري عواطف كانت نائمة فاخذ الشعب يسأل ويستفسر فقد نشرت جريدة " المصري " في 23 مايو 1952 تحت عنوان " المرشد العام يتحدي إلى المصري" حديثا طويلا على هيئة أسئلة وجهها إليه مندوب الجريدة وأجاب عليها المرشد العام نجتزئ منه ما يلي : " أما عن فكرة تكوين كتلة إسلامية فنقول : كيف يتم ذلك والاحتلال الأجنبي بين ظهرانينا؟ إننا لا نريد أن نكون ألعوبة في يد أحد.. ومثل هذه الكتلة يصح أن يكون التقريب بين الأمم الإسلامية والعمل على إنهاضها حتى تأخذ بكتاب الله وحينئذ يكون الاتحاد الشامل بينها .
وختم المندوب الحديث بسؤال عن مبادئ الإخوان وهل تمنع أن يكون الإنسان منضما لحزب من الأحزاب وأن يكون في الوقت نفسه أخا مسلما ؟ فقال فضيلته : إن مبادئ الإخوان لا تمنع من ذلك إطلاقا . ولكن الإنسان حين ينضم إليهم سيجد نفسه منساقا إلى ترك الحزبية جانبا والتفرغ لدين الله ". ث- قضية السودان : - ساهم الإخوان بجهد كبير في قضية السودان التي اعتبرت جزءا لا يتجزأ من قضية الجلاء عن مصر .ولكن نظرة الإخوان إلى قضية السودان كانت نظرة مختلفة تمام الاختلاف عن نظرة الحكومة المصرية والأحزاب المصرية . فهؤلاء جميعا كان همهم منصبا على الحصول على إجراء قانوني لتحقيق وضع شكلي يتيح للملك أن يحمل لقب " ملك مصر والسودان ". والله وحده هو الذي يعلم هل كان هؤلاء الذين انحصرت مطالبهم آخر الأمر في هذا الطلب المتواضع يهدفون من وراء ذلك إلى ربط السودان بمصر عن طريق هذا اللقب أم أنهم هدفهم كان إرضاء الملك والتزلف إليه . وهو الهدف الذي كان طابع جميع ساسة مصر المحترفين في ذلك الوقت .
اما نظرة الإخوان إلى قضية السودان فإنها كانت تقوم على أساس الإخوة الإسلامية التي تستمد أصلها من القرآن الكريم في قوله تعالي : ( إنما المؤمنون إخوة ) وقد التقي الإخوان بوفود من السودان أكثر من مرة بعضها في دار المركز العام وبعض آخر في أماكن أخرى . فكانت هذه الوفود تشعر بشعور غير الذي تشعر به في لقاءاتها مع رجال الحكومة ورؤساء الأحزاب .
كان حديث الإخوان معهم لا يتناول الروابط الجغرافية ولا المسائل القانونية ولا يتناول ألقاب الملك ولا شروط الاتحاد , وإنما كان الحديث حديث قلوب تفيض بالمحبة وتترع بالإخلاص ولا تشوبها شائبة من شوائب الخداع السياسي – كانت هذه الجلسات جلسات انصهار روحي في بوتقة الإخوة الإسلامية تنسي فيها المطامع . وتذوب فيها جلسات انصهار روحي في بوتقة الإخوة الإسلامية, تنسي فيها المطامع. وتذوب فيها الحزبيات والحزازات – ولو ترك الأمر في موضوع السودان للإخوان , وأتيحت لهم فرص اللقاءات بمصر والزيارات بالسودان وتنحت الجهات المصرية الأخرى ورفعت يدها عن الموضوع لكان للسودان ولمصر وضع آخر غير الذي تم على أيدي السياسيين المحترفين في هذه الأيام وفيما بعدها من أيام ..
ولكن هذه الوفود السودانية كانت بعد انصهارها في دار الإخوان في بوتقة الإخوة الإسلامية
كانت تلتقي بقوم لا صلة لهم بالمعاني الإسلامية في قليل ولا كثير فتحس هذه الوفود كأنما هبطت من السماء إلى الأرض فالتعامل مادي , والحديث مادي والمقاييس مادية,والمفاوضات أشبه شئ بصفقات البيع والشراء .. وتعرف هذه الوفود أن هؤلاء الذين يفاوضونهم – إذا كان هناك اتحاد فيما بعد – هم الذين سيتعاملون معهم لأن بيدهم مقاليد الحكم وبيدهم بالتالي مفاتيح الخزائن .
• الناحية الأخرى :سرية
وهي تنظيم صفوفهم من المدنيين والعسكريين . وهي تنظيمات كان يلجأ إليها كل ذي نفس تتوق إلى الحق والحرية . وليس معنى ذلك أن البلاد كانت خالية إلا من تنظيمات الإخوان , فمن حق التاريخ أن نقرر أنه كانت هناك تنظيمات أخرى ولكنها كانت قاصرة على القاهرة , وكان كل تنظيم منها قليل العدد, غير قائم على أسس من المبادئ الدينية أو الخلقية ولا على تجانس في الأفكار والمعتقدات كما أنها جميعا لا تستند إلى قاعدة شعبية فلا نصيب لأى منها في مثل هذه القاعدة.
أما تنظيمات الإخوان فإنها كانت تخضع لأساليب مركزة تجمع بين التربية الروحية والتدريبات العسكرية والبرامج الثقافية ولذا فإنها تقوم على أسس من المبادئ الدينية والخلقية,وعلى تجانس تام في الأفكار والمعتقدات فضلا عن أنها تستند إلى أوسع قاعدة شعبية قوية صلبة متماسكة.
وقد يبدو الفرق الشاسع بين هذه التنظيمات والتنظيمات الإخوانية في الناحية الفكرية في موضوع تحرير مصر الذي نحن بصدده . فالتنظيمات الأخرى ترى تحرير مصر عن الحكم القائم بها هو الهدف وهو الغاية .. بينما ترى تنظيمات الإخوان أن تحرير مصر من الحكم القائم بها هو مجرد وسيلة لتمكين الحكم الإسلامي من القيام بها إذ أن تحريرها هو بمثابة إزالة العوائق من طريق المصلحين الذين يريدون رفع لواء هذا الحكم القرآني بها ثم توسيع نطاق هذا الحكم حتى يعم العالم الإسلامي كله.
وبالرغم من هذه الفروق الشاسعة بين التنظيمات الإخوانية والتنظيمات الأخرى فإن التنظيمات الإخوانية لمجرد التقائها مع التنظيمات الأخرى في نقطة واحدة وهي العمل على تحرير البلاد من الحكم القائم بها – فإنها فتحت لهم صدرها وأوسعت لهم من حمايتها , ومنحتهم من رعايتها وكانت موئلا لهم كلما حزب الأمر وملجأ إذا اشتد الخطب .. وقد يرى القارئ في هذا الكلام بعض الإبهام ولا يحس فيه الوضوح الكافي وهذا صحيح ..ومع ذلك فلا نستطيع الآن أن نكون أوضح من ذلك فكل شئ مرهون بوقته ..وسوف يأتي إن شاء الله في الجزء الثالث من هذا الكتاب توضيح ذلك وجلاء حقيقته وتفصيل مجمله .
وخلاصة القول هي أن الإخوان في خلال هذه الفترة أعدوا أنفسهم في هذه الناحية وأعدوا الشعب تمام الإعداد وتلاقت عندهم كل الجهود العاملة علي تغيير الوضع وأخذوا فعلا في وضع خطة العمل .
ومع أن أكثر الناس لم يكونوا يعرفون شيئا عن الإعداد السري للإخوان فإن الشعور العام في مصر كان متجها إليهم والأنظار مصوبة نحوهم والآمال معقودة عليهم والكل يترقب العمل المأمول من الإخوان المسلمين . وصار المرشد العام للإخوان المسلمين هو المحور الذي تدور حوله الأحداث والرجل الذي عنده الكلمة الفاصلة .
ولم يكن الطرف الآخر – أقصد الملك ومعاونيه – يجهل ذلك, ولكنهم قد سقط في أيديهم ورأوا أن الموجة الشعبية المستنيرة العارمة كادت تجرفهم ولا يستطيعون لها دفعا ..ولعل الملك حين رأي الموجة الإخوانية العاتبة ظن أن وجود جهاز سري من العسكريين والمدنيين هو الذي أكسبهم هذا التفوق فدفعه ذلك إلى إنشاء جهازه السري الذي سماه " الحرس الحديدي" عملا بالمثل المأثور " لا يفل الحديد إلا الحديد " ولكن فات جلالته أن يذكر دلالة المثل الآخر الذي يقول " ليست النائحة الثكلي كالنائحة المستأجرة".
الفصل الثالث المصير المحتوم
• أخرسهم في كنانتهم ولكنه مسمم:
• منذ وليت الحكم وزارة الهلالي وحلت مجلس النواب الذي وافق على إلغاء المعاهدة وهي تعلن عن عزمها على إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن . ودأب رئيس الوزراء على استطلاع رأي الأحزاب والهيئات في موضوع الانتخابات وموقفهم منها وقد تلقي إجابات من جميعها بالترحيب بالانتخابات وعزمهم على دخولها .. إلا الإخوان المسلمين فإنهم أعلنوا أنهم لن يدخلوا الانتخابات ..وكان نص قرارهم الذي أعلنوه هو : " عدم الاشتراك في المعركة الانتخابية لا باسم الهيئة ولا بصفاتهم الشخصية لأن الأوضاع الانتخابية منذ عام 1924 تقوم على أساليب تتنافي مع مثل الإخوان وطبيعة دعوتهم كما دلت على ذلك تجاربهم العملية ".
وكان هذا القرار قد أتخذ وأعلن في 28 مارس 1952 أى في أوائل أيام تولي الهلالي مقاليد الحكم .
ويبدو أنه كان من الأهداف الأساسية التي جئ بهذه الوزارة إلى الحكم من أجل تحقيقها أن تجر الإخوان المسلمين إلى خوض المعركة الانتخابية ودليل ذلك أن أول إجراء اتخذته هذه الحكومة هو حل مجلس النواب والإعلان عن إجراء انتخابات . والاتصال برؤساء الأحزاب والهيئات لتحديد مواقفهم منها.وهي تعلم والكل يعلم أن جميع الأحزاب تتمنى أن تجري انتخابات حتى تنعم بالوصول إلى كراسي الحكم , ومن لم ينعم بكراسي الحكم فسينال ولو أقل القليل من مغانمه – فلما قرر الإخوان وحدهم – رفضهم خوض الانتخابات أسقط في يد الحكومة وأعلنت – تحت ستار إتمام عملية التطهير – تأجيل موعد إجراء الانتخابات .
وفي العاشر من أبريل أعادت الحكومة الكرة في عملية الاستطلاع وكلفت وزير العدل أن يطلب من الإخوان المسلمين إبداء الأسباب التي رفضوا من أجلها دخول الانتخابات وأعاد الإخوان – في مذكرة مكتوبة – الأسباب التى أعلنوا مجملها في قرارهم السابق . ومما جاء في هذه المذكرة :" أن من المآخذ التي يأخذها الإخوان على قانون الانتخاب أنه لا يلزم الناخب باستعمال حقه ولذلك كان معظم الذين يستعملون حقهم الانتخابي ممن يسهل إغراءهم والتأثير وأنه لا يميز المتعلم الذي يستطيع أن يكون رأيا قائما على حكم شخصي بإعطائه صوتين أو ثلاثة مثلا, وأنه لا ينص على ضرورة حمل البطاقة الشخصية المعتمدة من الجهة الرسمية المختصة منعا للتلاعب , وأنه ليست فيه الضمانات الكافية لوقاية المعركة من تدخل رجال الإدارة وغير ذلك من المآخذ" وعرضت هذه المذكرة على مجلس الوزراء الذي قرر بناء على ما جاء فيها تأجيل موعد إجراء الانتخابات إلى شهر أكتوبر 1952 حتى يمكن إجراء تعديلات في قانون الانتخاب .
وينبغي على – وقد كنت ملابسا لهذه الظروف التي أتحدث عنها الآن – أن أقرر أن كثيرين من الإخوان في ذلك الوقت كان من رأيهم خوض المعركة الانتخابية باعتبار ذلك وسيلة من وسائل نشر الدعوة وتحقيق أهدافها مطمئنين إلى ما يتمتع به الإخوان من تأييد شعبي واسع النطاق ولكن هؤلاء الإخوان – ثقة منهم في مرشدهن نزلوا على رأيه عن رضا وطواعية فخرج القرار قرارا إجماعيا لا رجعة فيه .
وقد وضح بعد ذلك أن هذا الرجل كان بعيد النظر , يصدر عن قلب عامر بالإيمان وعقل مستنير وأن قراره هذا قد وضع الدعوة في موضعها اللائق بها من الطهر والسمو وربأ بها عن النزول إلى مواطن الإسفاف وهجر القول والخداع والكذب .
ولعل في هذا الموقف للأستاذ حسن الهضيبي أبلغ الرد على من يرمونه بأنه انحرف بالدعوة إلى مزالق السياسة وأوحالها كما يدعون .
• إحباط الخطة الخطيرة أو رد سهمهم إلى نحورهم :
ولقد تبين فيما بعد أن هذا الموقف الإخواني قد أحبط خطة محكمة محبوكة الأطراف قد دبرت بدقة وعناية , وذلك أنه كان يراد القضاء على القوتين الشعبيتين في البلاد: الوفد والإخوان ( وبصرف النظر عن الاختلاف الكبير بين الهيئتين في المبادئ والوسائل والأهداف فإنهما بحكم الواقع هما الهيئتان الشعبيتان الوحيدتان في البلاد) فجئ بالهلالي باعتباره موتورا من الوفد لا سيما من عنصره الفعال سراج الدين ويتمنى أن تتاح له الفرصة للنيل من الوفد وتمزيقه .
ولما كان تحقيق هذا فوق طاقة أية حكومة فقد رسمت له الخطة بأن يحل مجلس النواب الوفدي ويعلن عن إجراء انتخابات عليه أن يجر الإخوان إليها .. وبذلك تقف القوتان الشعبيتان الوفد والإخوان كل إمام الأخرى فتقوم كل منهما بتصفية الأخرى – ويتحقق بذلك ما عجز عن تحقيقه أصحاب المصلحة من الإنجليز والملك وأعوانهم ..ويصفو لهم بذلك الجو.
عصم الله تعالي الدعوة من الوقوع في شباك هذه الخطة الجهنمية بفضل التفاف الإخوان حول مرشدهم وثقتهم فيه ونزولهم عند رأيه وتأييدهم لخطواته وقد كسبت الدعوة الكثير من هذا الموقف ولم تخسر شيئا ..والانتخابات التي طنطوا بها وحددوا لإجرائها الميعاد تلو الميعاد شاء العلي القدير ألا تجري .
• إقصاء الهلالي :
ولما فشل الهلالي في جر الإخوان إلى الانتخابات أعفي من منصبه باستقالة قدمها في آخر شهر يونيه 1952 منتحلا أعذارا لتغطية السبب الحقيقي الذي ظل محجوبا عن المصريين , وأن كان المراقبون الأجانب فهموه وعلقوا عليه تعليق الخبراء الحاذقين فقد نشرت جريدة النيويورك تيمس في 5 مايو 1952 برقية مطولة عن موقف الأحزاب في مصر بمناسبة قرب الانتخابات العامة فقالت :
" إن الوفد أقدم الهيئات في مصر وأدقها تنظيما صحيحا قويا حتى إن له لجانا تنفيذية في جميع أنحاء القطر حتى أصغر القري – وقالت : لا شك في أن الإخوان المسلمين قوة لا يستهان بها وقالت : إنهم آثروا عدم خوض المعركة الانتخابية حتى يتم لهم تنظيم صفوفهم بالصورة التي يعتقدون أنها كفيلة بتحقيق أهدافهم "
وزارة حسين سري
كان سقوط وزارة الهلالي في 30/ 6/ 1952 علامة واضحة لا على تدهور الموقف فحسب بل على انهياره تاما حتى أن الطبقة المثقفة من الشعب باتت في قلق شديد.. وشملها شعور بأن البلاد مشرفة على تطور خطير – ولقد كنت في ذلك الوقت منتدبا في عملي الخاص بالإسكندرية وجمعتني هذه الفرصة بعدد من أقربائي المثقفين الذين كان اشتغالهم بالسياسة طفيفا وجلسنا في إحدى ليالي النصف الأول من شهر يوليو 1952 في شرفة منزل أحدهم ودار الحديث حول حالة البلاد مما تعانيه من تمزق وعدم استقرار فكان هذا الشعور شعورهم وشعور كل مجلس وكل مجتمع في مصر .
• شعور عام باليأس من الإصلاح :
ساد هذا الشعور جميع أوساط الشعب سواء في الناحية الخارجية والناحية الداخلية فالوزارة التي يشتم منها رائحة اتجاه عملي نحو إصلاح خارجي أو داخلي لا يلبث الشعب أن يراها بطريقة أو بأخرى قد أرديت .. فما لا شك فيه أن وزارة على ماهر كانت جادة ومتأهبة لعمل إيجابي يتطلبه الموقف , ولكنها لم تمكن وأسقطت بأسلوب غير كريم ..
ويؤتي بعدها بوزارة كل بضاعتها وعود ويكاد يقتصر عملها على الكيد لحزب الوفد بدافع التشفي لا بهدف الإصلاح الذي كان يقتضي تتبع الفساد في كل الأحزاب والهيئات مهما علا مقامها ..وضاعت مصالح البلاد بين هذه الوزارات المتعاقبة .
ونموذجا لهذا اليأس الذي أحاط بالنفوس في تلك الفترة من الزمن نورد حديثا لحافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني نشر بجريدة " أخبار اليوم" في 26 /4/ 1952 تحت عنوان : لماذا قررت اعتزال السياسة " جاء فيه .
"وقلتها صريحة في 26 سبتمبر 1950 أن الحالة الداخلية قد بلغت حدا من المفاسد لا مزيد عليه . وكنت أول قائل في 23 فبراير 1951 أن البلاد في حاجة إلى عملية تطهير شاملة . قلت ذلك كله وجهرت به فكان أغلبه يذهب أدراج الرياح.
بل إن ذات الحركات التي بدرت وأملت فيها تحقيقا للمبادئ الصحيحة والأفكار السليمة , كإلغاء المعاهدة المشئومة وما تلا الإلغاء والصيحة بحركة التطهير وما أعقب الصياح ..ما لبثت أن رأيتها صادرة عن ارتجال معيب أو سارية في تعثر ممقوت ..
فالحكومة التي ألغت المعاهدة وصرحت في مظاهرة الإلغاء باتخاذها الحيطة لكل احتمال , والعدة لكل حال .. اتضح أنها لم تقدر احتمالا ولم تفهم حالا .. والحركات التي تلت هذا الإلغاء تعثر جلها برغم صدق بعضها .
وحركة التطهير التي أملنا فيها بعض الخير الداخلي تسير في بطء غير مطمئن, وتلوح أن تسير كما ناديت أساسا لإصلاح شامل يطهر الأدوات والنفوس .
كل ذلك الذي أراه جعلني أشعر بالفساد ينتاب جل نواحي الحياة السياسية في البلد , وجعلني أحس أن الوسائل المشروعة ولمنطق المعقول والقيم الأخلاقية وهي عدتي على ما أسلفت – لم تعد مجدية .. لهذا انسحبت إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ".
وفي خلال هذه الحقية أيضا نشرت نفس الجريدة حديثا للمرشد العام وكان في الإسكندرية على الوجه الآتي .
- قلت لفضيلة الأستاذ حسن الهضيبي بك لمرشد العام للإخوان المسلمين : بدت في المدة الأخيرة من الإخوان المسلمين ظاهرة انكماش من المجال السياسي , فلم نعد نسمع لهم رأيا في أحوال مصر السياسية كما كانوا من قبل فكيف تعللون ذلك؟
- فأجاب فضيلته : أن الإخوان يعتبرون الموقف السياسي في مصر بحرا مضطربا لا أمان لأحد فيه فهم يقفون على شاطئه ينظرون من يغرق فيه , ولا يريدون أن تطيح بهم العواصف مع الغرقي . وهم بالتزامهم هذا الموقف إنما يلتزمون جادة الصواب . ويكفي في دفع اللوم عنهم أنهم يقدمون النصيحة للقائمين بالأمر .
- وقد أدليت برأي الإخوان في سياسة مصر لرفعة على ماهر باشا ودولة احمد نجيب الهلالي باشا عندما توليا رياسة الوزارة – وسيظل هذا هو موقف الإخوان إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .
- هل يتغير موقف الإخوان بالنسبة للانتخابات القادمة ؟
- لا يزال الإخوان المسلمون عند رأيهم الذي أعلنوه من قبل . وهو عدم دخولهم الانتخابات القادمة إذا أجريت . ولم تعد هذه المسألة محل بحث احد منهم . وهي لا تشغل بالهم على الإطلاق فقد اتخذوا فيها قرارهم وانتهي الأمر بالنسبة لهم".
ولكي يكون القارئ أمام صورة واضحة المعالم لهذا الموقف وما كان يثيره في النفوس من قلق نرجع إلى ما نشرته جريدة " أخبار اليوم" في 5 يوليه 1952 تحت عنوان " 3 وزارات في 4 أيام " فقد كتبت تقول :
" في يوم السبت استقالت وزارة الهلالي باشا ..وكيف سري باشا بتأليف الوزارة..وأثناء قيام رفعته بمشاورات وزارته كان بهي الدين بركات باشا قد استدعي لتأليف الوزارة – وهكذا كان في مصر ثلاث وزارات :
وزارة مستقيلة عليها أن تقوم بأعباء الحكم لأن استقالتها لم تقبل بعد.. ووزارة يؤلفها سري باشا .. ووزارة يؤلفها بركات باشا – واستمر هذا الوضع الذي واجهته مصر لأول مرة في تاريخها حتى بعد منتصف الليل.. يوم الثلاثاء ..وهذه قصة ثلاث وزارات في أربعة أيام . وبعد أن كان الصحفيون تغص بهم حجرات منزل سري باشا في الإسكندرية انتقل الصخب والضجيج وعشرات السيارات والصحفيون إلى منزل بهي الدين باشا في منطقة مصطفي باشا قرب سيدي جابر .
وبهي الدين باشا يسأل الأستاذ على حمدي الجمال المحرر " بالأخبار " وهو منه بمنزلة الإبن : ماذا يرضي الشعب يا على في هذه الظروف ؟ فيجيب الصحفي الشاب : الشعب يريد إلغاء الأحكام العرفية . ورفع الرقابة عن الصحف , والإفراج عن المعتقلين , وإجراء الانتخابات والحكم النظيف ".
• لماذا عدل عن بهي الدين باشا ؟
ووقع الاختيار أخيرا علي حسين سري باشا – وقد سبق لهذا الرجل أن تولي منصب الرياسة أكثر من مرة , كما تولي رياسة الديوان الملكي عندما أخلي مكانه لوزارة الوفد الأخيرة .
وبعد أن استقر الرأي على حسين سري باشا تم اجتماع في الإسكندرية بين بهي الدين باشا وبين المرشد العام.. ولكننا لا ندري لم كان الاتجاه أولا إلى بهي الدين باشا ولماذا عدل عنه .. وقد يكون سبب العدول عنه أنهم تذكروا أن هذا الرجل معروف بالنزاهة المطلقة , وبالدقة التامة في تحرى الحقائق, وبعدم المجاملة في مواجهة الفساد مهما علا مركز الجهة التي تحمى هذا الفساد ..والقصر الملكي كان في ذلك الوقت ذا حساسية بالغة في هذه الناحية وكان محتاجا إلى رجل يتغاضي ..وقد سبق أن تولي بهي الدين باشا منصب رياسة ديوان المحاسبة فلم يطيقوه وسارع هو بالاستقالة .
وحسين سري باشا مع أنه كان مشهورا بالصرامة والاستقامة , إلا أن شغله المناصب التي شغلها والتي أشرنا إليها آنفا قد دل على أنه من السياسيين المحترفين الذين جبلوا على اعتقاد أن القصر الملكي فوق القانون وفوق مستوى النقد .. فاختيار القصر لرجل سبق له أن جربه آمن له من اختيار رجل لم يجربوه .
• وزارة تاريخية
• ملابسات تأليفها تنذر بانهيار العهد
ولما كانت وزارة حسين سري باشا هذه وزارة تاريخية وأعني بذلك أنها تعتبر معلما واضحا بين حقبتين متابنتين من التاريخ – وكانت طريقة تأليفها ذات دلالات معينة مرتبطة بالأحداث الجسام ارتباطا وثيقا فقد وجب وضعها موضع المناقشة والبحث والتمحيص:
1- أول ما يتبادر إلى خاطر إنسان يريد أن يعرف أو أن يكون رأيا عن حكومة من الحكومات هو أن يستعرض أعضاءها .. ومع أن تأليف هذه الوزارة قد مر بمراحل طويلة وشاقة وهي بيت القصيد في بحثنا هذا فإننا نبدأ بإثبات الوضع الأخير لأعضاء الوزارة .
حسين سري باشا | الخارجية والحربية والبحرية |
---|---|
الدكتور محمد هاشم باشا | الداخلية |
محمد على راتب باشا | الشئون البلدية |
نجيب إبراهيم بك | الأشغال والمالية بالنيابة |
سامي مازن بك | المعارف |
كريم مازن بك | وزير دولة |
سيد عبد الواحد بك | المواصلات |
الدكتور أحمد زكي | الشئون الاجتماعية |
الدكتور محمد على الكيلاني | الزراعة |
الدكتور حسين كامل الغمراوي | التموين |
الدكتور عبد المعطي خيال | التجارة والصناعة |
الدكتور محمود صلاح الدين | الصحة |
الدكتور على بدوي بك | العدل |
الشيخ فرج السنهوري | الأوقاف |
وكان النطق الملكي لهذه الوزارة هو : " أرجو أن تقدروا الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد لا من الناحية السياسية وحدها بل من الناحية الاقتصادية "
2- مجرد نظرة سريعة على هذه الوزارة يفهم القارئ منها دون جهد أنها وزارة فنية غير حزبية جمعت عددا من أعظم العلماء الإحصائيين ذوي السمعة الطيبة وأكثرهم لم يتول منصب الوزارة من قبل .
3- استغرق تأليف هذه الوزارية أربعة أيام , طلب رئيسها في أثنائها إعفاءه من تأليفها أكثر من مرة .
4- كان في هذه الوزارة مناصب وزارية معينة نشأ عن شغلها خلاف كبير بين سري باشا والملك.
ومن هذه المناصب منصب وزير المالية ,فقد رشح سري باشا لهذه الوزارة " حلمي بهجت بدوي " ورشح الملك شخصا آخر. وقد مرض حلمي بهجت فسوي بذلك الخلاف ولكن سري رفض مرشح الملك وأسند هذا المنصب مؤقتا إلى نجيب إبراهيم بك بالنيابة . وقد يحس القارئ من الخلاف على هذا المنصب أن في التصرفات المالية للقصر الملكي عورات يحرص الملك على سترها عن الأعين .
5- المنصب الآخر الذي كان مثار خلاف شديد , وكاد يعصف بالوزارة كلها وقد مر بتطورات خطيرة وكانت هذه التطورات ذات أهمية تاريخية بالغة فقد كان لها ما بعدها ..وكانت هذه التطورات تجرى في الخفاء , ولم يكشف عنها إلا بعد سقوط الوزارة وزوال العهد كله .. بل إن هذه التطورات هي التي عجلت بهذا الزوال .. ونوجز هذه التطورات فيما يلي , مستقين بعض الأنباء مما نشر بجريدة " أخبار اليوم " في 2 من أغسطس 1952 :
- أ- لعل القارئ يذكر انتخابات نادي ضباط الجيش التي أجريت في 31 / 12 / 1951 والتي حرصنا على ذكرها وإثبات تفاصيل ما جرى فيها وما أسفرت عنه في فصل سابق وأومأنا إلى أهمية هذه الانتخابات باعتبارها معلما من المعالم الأساسية التي كشفت دلالاتها عن تصدع بناء هذا العهد , وأشرنا إلى أن الملك أحس بخطورتها على عرشه , وكان يتخذ إزاءها إجراء عنيفا .ولكن مستشاريه أقنعوه في ذلك الوقت بالتسليم بالأمر الواقع ,ورسموا له خطة أخرى تعتبر بمثابة حركة التفاف يطوق بها ما تم في هذا النادي من إجراءات .
- ب- يبدو أن الأحداث كانت أسبق من خطوات الملك في هذا السبيل .. وقد أحس بهذا السبق فقرر العدول عن نصيحة مستشاريه . وعزم على انتهاج سياسة التحدى لعله يعوض ما سبقته به الأحداث .
- ت- كانت سياسة التحدى تتلخص في إجراءين اثنين هما : حل مجلس إدارة نادي الضباط ونقل اللواء محمد نجيب وإبعاده عن القاهرة – كانت هذه هي رغبة الملك , ولكن صاحب الحق في إصدار هذين القرارين هو القائد العام للقوات المسلحة الفريق أحمد حيدر باشا ..ومع أن أحمد حيدر كان من الشخصيات المقربة من الملك حتى أنه كان يعد من صنائعه فإنه كان مشفقا على نفسه من أن يصدر هذين القرارين .
- ث- في أثناء فترة تأليف الوزارة , وفي خلال إحدى مقابلات حسين سري باشا مع الملك , طلب إليه الملك فصل حيدر من منصب القائد العام للقوات المسلحة ليحل محله الفريق حسين فريد رئيس هيئة أركان حرب الجيش على أن يحل محل حسين فريد في رياسة أركان حرب الجيش اللواء حسين سري عامر حبيب الملك وصنيعته ورجله للقرب والذي دبر من أجله اغتيال الضابط عبد القادر طه – كما طلب الملك من رئيس الوزراء نقل اللواء محمد نجيب خارج القاهرة.
- ج- طلب رئيس الوزراء مهلة لبحث هذه المطالب شعرا الملك بعدم موافقته عليها لأنه يحس أن في البلاد غليانا وأن في الجيش تذمرا , وقد عرف سري باشا عن طريق زوج ابنته الدكتور محمد هاشم باشا أن الجيش كله ملتف حول اللواء محمد نجيب – وكان الدكتور محمد هاشم قد اجتمع – في الخفاء – باللواء محمد نجيب وعرف منه الحقائق وأبلغها لصهره المرشح لرياسة الوزارة فاقتنع سري باشا – بدافع إخلاصه للملك – بأن ترشيح محمد نجيب لوزارة الحربية والبحرية هو الحل الأمثل للخروج من الأزمة التي يعانيها الملك والتي تضطرم في البلاد لا بإقصائه وإبعاده.. وفعلا قرر ترشيحه في قائمة الوزراء لهذا المنصب.
- ح- أرسل سري باشا إلى الملك يطلب منه معرفة أسباب طلبه فصل حيدر فجاءته ورقة من السراي مكتوب فيها بالقلم الأحمر لكي لا يفصل حيدر فعليه في ظرف خمسة أيام أن يحل مجلس إدارة نادي الضباط وينقل 12 ضابطا فاستدعي سري باشا حيدر وأطلعه على المذكرة وسأله عن الاثني عشر ضابطا. فقال أنه لا يعرفهم . فقال له سري باشا ابحث هذا الموضوع ثم عد إلى – فرجع إليه في اليوم التالي وقال : خلاص أصدرت أمرا بحل مجلس إدارة نادي الضباط – فقال له سري باشا : لماذا تعجلت وأنا لم أكلفك بإصدار هذا الأمر وإنما طلبت منك مجرد بحث الموضوع ؟ فرد حيدر قائلا : أنا كنت سأفصل من عملي .
- خ- كان هذا القرار بمثابة صب البنزين فوق النار سواء في الأوساط الشعبية وفي الجيش ؟
- د- تقدم حسين سري إلى الملك بقائمة الترشيحات وقد رشح فيها اللواء محمد نجيب لوزارة الحربية والبحرية . ورفض الملك القائمة لوجود محمد نجيب بها .
وتمسك سري بنجيب . وحدثت أزمة . وأصر حسين سري على الاستقالة وذهب إلى بيته – وفي الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي زاره حيدر موفدا من قبل الملك , دار بينهما الحديث التالي :
حيدر - يا باشا أنت تعرف حبي لك وتقديري لشخصك...
فقطع عليه سري الكلام وقال : احنا في جد مش في هزل . الجيش في تذمر وهذا التذمر سينتهي إلى ثورة تأكل الأخضر واليابس وأنتم تعيشون من ساعة لساعة وبتقولوا دى زوبعة في فنجان وأن حكومتي حكومة جبناء ..وأحب أن أقول لك للمرة الأخيرة أن النصح والإصرار ليس جبنا .. وأنا شايف أنها ثورة وأنتم شايفين إنها زوبعة في فنجان .. وأنا شايف أن محمد نجيب محبوب في الجيش وأنتم بتقولوا العكس – وأنا بقول إن سري عامر راجل وسخ وحرامي وأنتم متمسكين بيه . والذي لا نختلف عليه أن هناك تذمرا ونحن مختلفون في تقدير مدى هذا التذمر ونتائجه .وأنا اللي بحكم وشايف كل حاجة فمفيش محل للكلام ده وأنا مستقيل ".
فلما عجز حيدر عن إقناعه أرسل إليه الملك حافظ عفيفي رئيس الديوان وقال له : إن الملك في مأزق, وهو يثق فيك كل الثقة , ويرجوك أن تؤلف الوزارة واتفق معه على أن يتولى هو بنفسه مؤقتا وزارة الحربية والبحرية .
6- كريم ثابت من رجال السراي ورجال الحاشية ووظيفته السكرتير الصحفي للملك ويلاحظ أن الملك قد حشره في الوزارة وزير دولة ليكون عينا له على الوزارة ولعل سري باشا قد أذعن لهذا الحشر تهدئة لروع الملك وتخفيفا من فزعه .
• دلائل أخرى على الانهيار التام :
ومما يدل أيضا على خطورة الحالة في مصر في تلك الحقبة ما يأتي مما ننقله من " أخبار اليوم " في 19 يوليه 1952 : أولا – اجتمع سري باشا منذ يومين بأحد أصدقائه المقربين إليه . وكان هذا أول اجتماع بينهما بعد تأليفه الوزارة – وبادر سري باشا قائلا : لعلك تريد أن تسألني كيف قبلت الحكم برغم تأكيدي لك أني لن أتولي الوزارة ؟
فرد سري باشا قائلا : لقد كنت أنت على حق .. وكنت أنا أيضا على حق – كانت هناك محاولات لإقناعي بقبول الوزارة ولكني رفضت لك رفضا باتا ..
وبعد ذلك صورحت بحقيقة الموقف وبما آلت إليه مصائر البلاد وكيف أصبح الأمر من الخطورة بحيث لا يسع أى مصري إلا أن يتقدم لحمل العبء ولو ناءت به كتفاه..
ولما وجدت الأمر كذلك لم يسعني إلا أن أقبل الوزارة لعلي أنقذ شيئا .
ثانيا – لم يكن المصريون وحدهم هم الذين يحسون بخطورة الموقف في البلاد وبأن البلاد مقبلة على أحداث جسام .. وإليك ما نشرته " أخبار اليوم" في نفس اليوم تحت عنوان " أنوار كاشفة " وجاء فيه :
" وقد واجهت وزارة حسين سري باشا بعض العقبات عند تأليفها ولهذا فإنه يمكن القول أنها ولدت في الأعاصير . وعادة أن المولود الذي يولد في أثناء العواصف لا يتأثر كثيرا بتيارات الهواء .
ومن الطريف أن كثيرا من السفراء والوزراء المفوضين الذين زاروا الوزراء مهنئين سألوهم : كم يعتقدون أن عمر الوزارة سيطول ؟ وهو سؤال ما كان يصح أن يوجه إلى الوزراء . إذ المفروض دائما أن الوزير كالزوج هو آخر من يعلم...."
أما نحن فنقول :
لقد صدق حدس الشعب وحدس هؤلاء السفراء فقد مكثت هذه الحكومة في الحكم سبعة عشر يوما ثم خلفها وزارة أخرى برياسة الهلالي مكثت سبع عشرة ساعة .
وكانت الأزمة المستحكمة تتلخص في أن البلاد صار يتنازعها تياران متعارضان : تيار متمسك بما أعلن من إلغاء المعاهدة ومصمم على مواصلة المقاومة ضد المستعمر والاستسلام له والرجوع عما تم اتخاذه من خطوات إيجابية في إلغاء المعاهدة .
والتيار الأول من ورائه الشعب كله بجميع طوائفه وهيئاته . والتيار الآخر منبعث من القصر الملكي ومعه حفنة من السياسيين القدامي المحترفين من ذوى المصالح وعشاق مناصب لحكم , ولكنهم مع ذلك لا يجرؤون أما إجماع الشعب – على الإعلان عن نواياهم فهم يلجأون إلى أساليب ملتوية وخطط باهتة المعالم , يخفون في ثناياها أغراضهم وأهدافهم – وكلما جربوا أسلوبا فخيب آمالهم لجأوا إلى أسلوب آخر ..
والشعب واقف لهم بالمرصاد. وكان الملك في ذلك الوقت في اشد حالات الذعر والهلع كالمجرم الذي عاث في الأرض فسادا ثم وجد نفسه أخيرا وقد ضيق عليه الخناق وأحيط به من كل جانب .
ورأي يد العدالة تمتد إلى عنقه لتقتص منه – ولم يكن هذا الوصف لحالة الملك مجرد تصور أو تخيل بل لقد تبين فيما بعد أنه كان يفكر في ذلك الوقت في الهرب من البلاد