المقاومة الفلسطينية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


إستراتيجية المقاومة الفلسطينية

تمهيد:

إستراتيجية المقاومة الفلسطينية (4).jpg

منذ أكثر من قرن حسم الشعب الفلسطيني اختياراتِه السياسية لصالح إستراتيجية التحرير التي تقوم على المقاومة وردِّ العدوان؛ سواء تجاه الصهاينة في فلسطين، أو لمن مكن لهم من صهاينة بريطانيا؛ حيث تضافرت الأبعاد الدينية والأطماع الاستعمارية على ضياع فلسطين.

ولقد تزامنت المقاومة الفلسطينية مع بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر، وتصاعدت المقاومة مع تزايد الهجرة، ثم تحولت إلى عمل سياسي وعسكري وثورات ومظاهرات مع فرض الانتداب البريطاني، وتواصلت المقاومة الشاملة بعد قيام الكيان الصهيوني ولم تكسرها الحلول الاستسلامية منذ اتفاقية (كامب ديفيد) الأولى عام 1979 م، وحتى مفاوضات الإذعان (أوسلو) و(مدريد)،

وأخيرًا تلك التفاهمات التي تمت في جنيف 2003 م، ولم توهن من مضائها متغيرات النظام الدولي من انهيار نظام القطبية الثنائية، وتلاشي حلف (وارسو)، وقيام ما سمي بـ"النظام الدولي الجديد" عقب حرب البترول الأولى "حرب الخليج الثانية 1991 م"، كما لم تُثنِهَا حرب البترول الثانية في أفغانستان عقب تفجيرات 11 من سبتمبر ، ولن تتوقف إستراتيجية المقاومة والتحرير حتى بعد سقوط النظام في (بغداد) عاصمة الرشيد، حتى تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة استقلالاً حقيقيًا على كامل أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وما هو على الله بعزيز.

وفي هذه السلسلة المتواصلة من المقالات نبين كيف أن المقاومة هي أهم ثوابت الشعب الفلسطيني، التي قد تخفت حينًا تحت مطارق الأزمات وتوالي العواصف التي تهب على أمتنا، لكنها (أي المقاومة) لا تتلاشى، ولا يتخلى عنها الشعب الفلسطيني كخيار إستراتيجي.

المقاومة الفلسطينية للاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية:

تعود بداية المقاومة الفلسطينية للوجود الصهيوني إلى أكثر من مائة عام، ففي عام 1891 م قدم عدد كبير من وجهاء القدس مذكرة احتجاج إلى الصدر الأعظم في الأستانة، يطالبونه بالتدخل لمنع الهجرة اليهودية، وتحريم امتلاك اليهود للأراضي الفلسطينية، وكان انعقاد مؤتمر (بال) عام 1897 م مقدمة لتأجيج المشاعر العربية والإسلامية؛ إذ وضع هذا المؤتمر الصهيوني القضية الفلسطينية في بؤرة القلق العربي والإسلامي.

ويعتبر الهجوم- الذي شنَّه الأهالي عام 1898 م على مستوطنة أقيمت في منطقة (جرش)- أول عمل عسكري ضد الوجود الصهيوني، وشهد عام 1900 م حملة ضخمة لجمع التوقيعات على عرائض تمنع بيع الأراضي للمهاجرين اليهود.

وتنوعت مظاهر المقاومة في تلك الفترة، فأُنشئت الجمعيات و الأحزاب التي وضعت مقاومة الهجرة اليهودية على رأس برامجها، واختص بعض هذه الجمعيات في المقاومة الاقتصادية عن طريق تشجيع الاقتصاد الفلسطيني، وشراء الأراضي المهددة بالانتقال إلى اليهود، في حين اهتم بعضها الآخر بالجوانب السياسية، وعقد المؤتمرات الجماهيرية، وتنظيم المظاهرات، والقيام بهجمات على المستوطنات الصهيونية.

وتعود بداية السعي لتكوين مستوطن صهيوني في هذه البقعة من الأرض إلى سنة 1908 م، حينما قدم وزير البريطاني اليهودي الصهيوني "هربرت صاموئيل" مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا، شارحًا الفوائد الاستعمارية التي ستجنيها بريطانيا من قيام هذه الدولة في قلب العالم العربي، والقريبة من قناة السويس، وافق العديد من سياسيي بريطانيا على هذه المذكرة، أمثال: "لويد جورج"، و"بلفور".. وبذلك تكون قد التقت المصالح البريطانية والصهيونية في قيام هذا الكيان، وبدأت المباحثات في شكلها الرسمي بين الحكومة البريطانية والزعماء الصهيونيين في فبراير 1917 م، وبعد عدة جلسات واقتراحات صدر تصريح "بلفور" في 2 من فبراير 1917 م.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كان لابد أن تكون بريطانيا هي الدولة المنتدبة على فلسطين حتى تسهل لليهود هجرتهم إلى فلسطين، ثم تحقيق وعد "بلفور"، وفي عام 1918 م أتمت بريطانيا احتلالها ل فلسطين لتقيم فيه حكمًا عسكريًّا مؤقتًا.. وقبل أن تكمل القوات البريطانية احتلالها كان قد وصل إلى فلسطين اللجنة الصهيونية برئاسة "حاييم وايزمان"، ومهمة هذا الوفد تحقيق وعد "بلفور"، وفي عام 1920 م أنهت بريطانيا الحكم العسكري، وأحلت محله الإدارة المدنية، وتم تعيين الوزير اليهودي البريطاني السير "هربرت صموئيل " أول مندوب سامٍ على فلسطين، وقد عمل "صموئيل" الكثير في سبيل تسهيل شئون الصهاينة .

في 24 من يوليو 1922 م صدرت وثيقة صكّ الانتداب عن عصبة الأمم، وتضمنت مقدمة الصكِّ نصَّ تصريح "بلفور"، ومصادقة عصبة الأمم على انتداب بريطانيا ل فلسطين.. وفي مواد النص العديد من الدعوات لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ولقد اعتبر الصهاينة النص بمثابة مصادقة دولية على وعد "بلفور"، ذلك أنَّ الوعد كان بريطانيًّا، أمَّا الصك فكان دوليًّا.

ومنذ صدور وعد "بلفور" عام 1917 م، اتخذت المقاومة أشكالاً أكثر شمولاً وأكثر عنفًا، وكثرت المؤتمرات الشعبية، خاصةً بعد عقد المؤتمر الإسلامي الأول عام 1919 م؛ إذ انعقد في الفترة (1919 م- 1929 م) أكثر من سبعة مؤتمرات تؤكد جميعها على ضرورة الوحدة العربية لدرء المخاطر الصهيونية، والسعي لنيل الاستقلال الوطني، واكتسبت المظاهرات التي اندلعت طابع العنف، وتخللتها صدامات مع الجنود البريطانيين، الذين اعتبرهم الشعب الفلسطيني مسئولين عن الوجود الصهيوني والهجرة اليهودية التي لا تتوقف، وكانت أهم تلك المظاهرات في أعوام: 1920 م، و 1921 م، و 1923 م، و 1924 م.

وفي هذه الفترة أيضًا اندلعت عدة ثورات في فلسطين ضد الاحتلال البريطاني وضد الحركة الصهيونية، أهمها:

أ- ثورة (يافا) 1919 م:

في 11 من مايو 1919 م، ونتيجةً لازدياد أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، قام العرب الفلسطينيون بمهاجمة مركز الهجرة الصهيونية في (يافا)، لكن بريطانيا وقفت إلى جانب اليهود.

ب- ثورة 1920 م:

اندلعت احتجاجًا على وعد "بلفور"، وبدأت أحداثها في القدس، ثم امتدت إلى مختلف المدن الفلسطينية. وعلى الرغم من منع السلطات البريطانية للمظاهرات، فإنّ الفلسطينيين اعتادوا أن يستغلوا المناسبات الدينية، وخاصة موسم النبي "موسى"، ففي شهر إبريل 1920 م احتفل الفلسطينيون كعادتهم بهذه المناسبة، وألقى عدد من وجهاء الحركة الوطنية خطابات حماسية، كان من أهمها: خطابات الحاج "أمين الحسيني"، و"موسى كاظم الحسيني"، و"عارف العارف"، وبعدها سارت جموع حاشدة في مظاهرات صاخبة، طافت شوارع القدس وهي رافعة صورة "فيصل بن الحسين" بصفته ملكًا ل سوريا و فلسطين.

وحينما وصلت المظاهرة باب (يافا) في القدس وقع انفجار قوي، تبعه قذف الحوانيت اليهودية بالحجارة، واشتبك المتظاهرون مع اليهود، ثم مع الإنجليز الذين هرعوا لحمايتهم، وكانت تلك الأحداث بداية الهبة الشعبية التي استمرت أسبوعًا، لم تستطع السلطات البريطانية إخمادها رغم إعلان الأحكام العرفية، وترجع أهمية ثورة 1920 م إلى كونها بداية الانتفاضات الشعبية الكبرى على الوجود البريطاني والتغلغل الصهيوني منذ العشرينيات من القرن العشرين وحتى الآن.

جـ- ثورة 1929 م

وشهد عام 1929 م مظاهرةً عنيفة، اشتبك فيها المسلمون مع الصهاينة ، الذين أرادوا اقتحام المسجد الأقصى وإقامة احتفالات دينية عند حائط البراق، وأسفرت تلك المظاهرات عن إنشاء جمعية حراسة المسجد الأقصى ، التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية.

1- المقاومة الفلسطينية قبل 1948 م (مقاومة التمكين لليهود في فلسطين):

دفع ازدياد الهجرة اليهودية بين عامين 1931 م و 1936 م، وتدفق السلاح على الجماعات اليهودية، وسماح السلطات الانتداب لهم بإنشاء معسكرات للتدريب قادة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى عقد عدة اجتماعات قرروا فيها إعلان "الإضراب العام" من أجل دفع بريطانيا لوقف الهجرات اليهودية ومنح فلسطين الاستقلال، ورغم لجوء بريطانيا إلى أساليب وحشية إلا أن الإضراب استمر وتميز كأكبر إضراب في تاريخ فلسطين، وربما في تاريخ نضال الشعوب؛ حيث امتدت لمدة ستة أشهر، وفي هذه الأثناء تكونت خلايا مسلحة تعمل تحت قيادة الشيخ "عز الدين القسام" لكن اكتشفت القوات البريطانية مكان اختبائه فحاصرته وطالبته بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات حتى سقط هو وأتباعه المحاصرون شهداء، وزاد من لهيب المشاعر الفلسطينية رفض المندوب السامي البريطاني مطالب قادة الحركة الوطنية بوقف الهجرة اليهودية وتشكيل حكومة وطنية ومنع انتقال الأراضي لليهود، فاشتعل بذلك فتيل ثورة 1936 م.

وعم الإضراب الشامل الأراضي الفلسطينية، ونشطت خلايا "عز الدين القسام" ومعها الجماهير الغاضبة في إثارة الرعب في المعسكرات البريطانية والتجمعات اليهودية، ومما زاد من توتر الأجواء اعتراض الصهاينة على إقامة مؤسسات للحكم الذاتي الفلسطيني.

وكانت ثورة 1937 م بداية لسلسلة من الثورات العارمة عمت ريف فلسطين؛ حيث بدأت أحداث تلك الثورات بعد أن أصدرت لجنة بيل الملكية تقريرًا متحيزًا حول أسباب العنف الذي حدث إبان ثورة 1936 م، فجاءت معظم توصيات اللجنة لصالح الحركة الصهيونية، وكان من بين توصياتها تقسيم فلسطين ، وما إن عرف الفلسطينيون بذلك حتى قاموا بثورتهم مستفيدين من خبراتهم في ثورة 1936 م، فقسموا المناطق بين القادة والتشكيلات وأقاموا جهازًا إداريًا وقضائيًا لجباية الضرائب وتنظيم التطوع والتموين وفصل الخلافات التي تحدث بين المواطنين.

ويمكن القول إن ثورة 1936 م ثورة مدن دعمها الريف، في حين أن ثورة 1937 ثورة ريفية آزرها أهل المدن، والسبب في ذلك غياب معظم القيادات الوطنية خلف قضبان سجون الاحتلال البريطاني، واضطرار الحاج "أمين الحسيني" إلى مغادرة البلاد.

واتبعت السلطات البريطانية لإخماد هذه الثورة مختلف أساليب القمع التي مارستها من قبل إبان ثورة 1936 م، فقصفت مناطق الثوار بالطائرات، وهدمت بالجرارات منازل المشتبه في تأييدهم للثوار؛ وهو ما أسفر عن سقوط أربعة آلاف قتيل وقرابة 12 ألف جريح.

وفي إبريل 1947 م، أحالت الحكومة البريطانية ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، وأعلنت أنها عازمة على إلغاء انتدابها في مهلة أقصاها 15 من مايو 1948 م، وفي 28 من إبريل شهدت منظمة الأمم المتحدة لأول مرة فتح ملف قضية فلسطين ، الذي انتهى إلى قرار التقسيم إلى دولتين: يهودية وتشمل 56.4% من أراضي فلسطين ، وعربية تشمل 46.6% من أراضي فلسطين ، مع العلم أن العرب حينها كانوا يملكون 94.4% من أراضي فلسطين ، واليهود كانوا قد استوطنوا في 5.6% من أرض فلسطين . رحب اليهود بالقرار، وأعلن العرب الثورة المسلحة ضد تنفيذ المشروع، وبسبب هذا القرار نشبت الحرب في 15/5/1948 م، كانت الحركة الصهيونية قد تمكنت من بناء قوة عسكرية كبيرة ضمن عدة منظمات عسكرية، أهمها: (الهاجاناه)، كما تمكنت بدعم من سلطات الانتداب البريطاني من إنشاء صناعة عسكرية، أما على الجانب الآخر فكان الطرف العربي مكونًا من الثوار الفلسطينيين، وجيش الجهاد المقدس، وجيش الإنقاذ، وقوات المتطوعين المصريين، الذين شكلت جموعهم حركة (الإخوان المسلمين)، التي هبت لنداء القدس غير أن سنن الهزيمة كانت أقوى من الرغبة في النصر.

وكانت نتائج النكبة مروعة إذ:

- ضاعت مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية تفوق ما نص عليه قرار التقسيم.

- قامت دولة الكيان الصهيوني فوق أنقاض الدولة الفلسطينية.

- هجرة آلاف الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، وظهور مأساة اللاجئين، واستمرار معاناتهم حتى الآن.

- تغيرت خريطة الحكم في المنطقة العربية، وقامت عدة ثورات عقب الهزيمة المُرّة، كلها كانت بحجة الدفاع عن فلسطين، إلا أن معظمها هو الذي حمى حدود الدولة العنصرية، وتكفل بسحق من دافعوا عن فلسطين قديمًا، ومن يفكر فيها بعد ذلك.

- المقاومة الفلسطينية بعد 1948 م (مقاومة مؤسسة "الدولة" الصهيونية):

دخلت المقاومة الفلسطينية طورًا جديدًا بعد حرب 1948 م، فقد أصبح لزامًا عليها مقاومة دولة ذات مؤسسات أمنية وعسكرية، بعد أن كانت تقاوم عصابات صهيونية مدعومة من قبل الاحتلال البريطاني، ومن ثم فقد أضحت المقاومة أشد كلفة من ناحية ما ترتبه من تضحيات؛ إذ انتقلت من مواجهة "إرهاب العصابات" إلى "إرهاب الدولة"، ولم تكد تمر ثماني سنوات حتى شهدت المنطقة العدوان الثلاثي، بعدها طالبت مختلف القوى السياسية الفلسطينية بضرورة إعادة المقاومة المسلحة، فكان الإعلان عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 م، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، التي أعلنت عن أولى عملياتها عام 1965 م.

وعادت الجماهير العربية تطالب بمحو آثار الهزيمة، ووجدت المقاومة الفلسطينية المناخ العربي العام مهيأ لمساعدتها، فتحسنت علاقة الأردن بمنظمة التحرير، وانطلقت من الأراضي الأردنية بعض العمليات العسكرية ضد الكيان الصهيوني، وقد خشيت المملكة الأردنية الهاشمية من ردود الأفعال الصهيونية إزاء هذا الوضع، فتهيأ المناخ لعمل ما يكون ذريعة لخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، فكانت أحداث سبتمبر عام 1970 م، التي أسفرت عن خروج فصائل المقاومة الفلسطينية عام 1971 م من الأردن على مرحلتين لتكون محطتها التالية في بيروت .

وبعد عدة عمليات ناجحة، شنتها المقاومة على الكيان الصهيوني من الأراضي اللبنانية، كان الرد الصهيوني عنيفًا، فقد اجتاح جيش الدفاع الصهيوني بيروت ، واشتبك مع المقاومة، ودارت بينهما حرب شوارع، وفرض الجيش حصارًا خانقًا على تلك الفصائل، اضطرت في نهايته إلى القبول بالشروط "الصهيونية"، بعد وساطات عربية ودولية، وكانت تلك الشروط قاسية ومؤثرة على نهج المقاومة؛ لأنها أبعدت المقاومة من الخطوط الأمامية، فحلت الفصائل، وانتقلت المنظمة إلى تونس لتمارس من هناك عملاً آخر، ساحته موائد المفاوضات، بدلاً من خنادق الحروب، وإن ظل الشعب الفلسطيني في الداخل على وفائه لخيار المقاومة.

انتفاضة المساجد

عقب خروج المقاومة الفلسطينية المنظمة من الأردن إلى بيروت، ثم من بيروت إلى تونس ، استفاد الكيان الصهيوني أمرًا مهمًّا؛ وهو: "إبعاد المقاومة عن خطوط الحدود المباشرة للدولة العنصرية، ومع تأمين باقي الحدود مع البلاد العربية اعتمدت دولة الكيان نظرية (الحدود الجغرافية الآمنة).

وكان التصور الصهيوني أنه إذا نشأ في فلسطين جيلٌ كاملٌ لم يرَ الدولة الفلسطينية- أي نشأ في ظل الاحتلال الصهيوني لبلاده- فلن يطالب أحد بـ (فلسطين)، خاصةً مع انتهاء الجيل القديم الذي عاش في ظل دولته الفلسطينية، غير أنَّ الله إذا أراد شيئًا هيأَ أسبابه، وكانت إرادته- سبحانه- أن تحيا هذه القضية، وأن يولد جيلٌ لا يرى له بلدًا إلا فلسطين، جيل عِشقُه الشهادة ونَهجُه المقاومة، ويضرب بجذوره في عمق هذه الأرض فكانت الانتفاضة الأولى..

1- انتفاضة 1987 م: عودة البُعد الشعبي للمقاومة:

اندلعت الشرارة الأولى للانتفاضة من مخيم (جباليا) في قطاع غزة، عندما صدمت شاحنة إسرائيلية (صهيونية) سيارتين لعمَّال فلسطينيين، فقتلت منهم أربعةً وجرَحت الآخرين، وفي أثناء تشييع الجنازات وقعت الصدامات الأولى في المخيم وامتدت إلى نابلس، ثم إلى كافة قطاع غزة، وفي اليوم التالي انضمَّت الضفة الغربية إلى هذه الانتفاضة التي كُتب لها أن تستمر لأكثر من خمس سنوات، وكان الحجر هو السلاح الوحيد للانتفاضة الفلسطينية.

ولقد استخدمت قوات الاحتلال الصهيوني كل وسائل العنف لقمع الانتفاضة، ولكنَّ إرادة الشعب كانت أقوى من كل وسائل القمع فلقد أمرَ "رابين" جنودَه بتكسير عظام المواطنين بالهراوات، وحاول الجنود مرات عديدة دفْنَ بعضِ المواطنين أحياءً، وعمدت قوات الاحتلال إلى تهجير بعضِ شباب الانتفاضة وإلى اعتقال عدد كبير منهم، لكنَّ كلَّ هذه المحاولات التعسُّفية لم تجد نفعًا أمام شعب وضع نصب عينه نيل حقوقه المشروعة عن طريق المقاومة المستمرة.

وزادت قناعة رجل الشارع الفلسطيني باستحالة التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية دون تحرك شعبي داخلي، خاصةً في ظل أجواء من انحسار الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية ، واكتفاء معظم الدول العربية بتسجيل مواقف خطابية إعلامية دون أن يتعدَّى ذلك إلى تحرك عملي يشعر معه الكيان الصهيوني بالضغط عليه.. هذا إضافة إلى شعور (منظمة التحرير الفلسطينية) بالعُزلة الدولية، منذ أن غادرت بيروت عام 1982 م متوجهةً إلى تونس .. كل ذلك- مع ازدياد الأعمال الإجرامية للقوات الصهيونية من قصفٍ للقُرى والمخيَّمات في الجنوب اللبناني، وهدمِ المنازل والاعتقالات العشوائية، والعقاب الجماعي لأهالي الضفة الغربية وقطاع غزة- أدى إلى أن يجد الغضب الجماهيري متنفسًا له في صورة انتفاضة شعبية عمَّت كل المدن الفلسطينية، أُطلق عليها انتفاضةُ الحجارة؛ لأن الحجر كان وسيلةَ المقاومة الأساسية فيها، وكان الأجدر أن نطلق عليها (انتفاضة المساجد**؛ لأن الذين قاموا بها هم من شباب المساجد، مع مشاركةِ كثيرٍ من الفلسطينيين فيها ممن لهم توجهات فكرية أخرى، لكنَّ لا أحد ينكر أن قوام المقاومة الأساسي ومن دفع ضريبتها كاملة هم شباب المساجد، ولا أحد ينكر أن الشيخ "أحمد ياسين"- مؤسس حركة (حماس)- أصبح رمز القضية المقاوِم، وأن القضية الفلسطينية عادت من جديد تأخذ لونها الإسلامي الأصيل، بعد تشتت عقود خَطفت فيها التيارات العلمانية واليسارية القضية الفلسطينية ، ولعل ذلك من أهم ثمار الانتفاضة الأولى (انتفاضة المساجد)، وانتفاضة الشباب الإسلامي.

ستمرت الانتفاضة حوالي ثلاث سنوات، ظهرت خلالها بطولاتٌ فرديةٌ، لكن في المقابل كانت القوات الصهيونية ترد بعنف، وابتكرت سياسةَ تهشيم العظام، وتحمَّست الشعوب العربية لما يحدُث في الأراضي المحتلة، وتحسَّن الموقف السياسي (التفاوضي) لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وإن كان أهم ما قدمته الانتفاضة الأولى 1987 م أنها هزَّت دعائم نظرية الأمن الصهيوني، التي كانت تستند إلى فكرة (الحدود الجغرافية الآمنة)، وكتب "زئيف شيف"- المعلق العسكري الصهيوني- في صحيفة (ليبراسيون) في 7 مارس 1988 م: "اعتقد الإسرائيليون (الصهاينة)- مع مرور الزمن- أن الأرض المحتلة تؤمن ل إسرائيل (الكيان الصهيوني) أمنًا إضافيًّا، وقد جاءت الأحداث الراهنة – يقصد الانتفاضة– لتبين أنه حتى لو كانت هذه الأرض تشكِّل حزامًا أمنيًّا في حالة حدوث حرب شاملة مع العرب، فإنها في الوقت نفسه تشكل عبئًا أمنيًا قد يتحوَّل ذات يوم إلى تهديد عسكري حقيقي".


ويكتب أستاذنا "عبد الوهاب المسيري" كتابه القيم (الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية.. دراسة في الإدراك والكرامة)، ويرصد ويحلل فيه بعمق ما أحدثت الانتفاضة في الكيان الصهيوني، وما أثبتته من (هشاشة) هذا الكيان وإمكان دحره: ويقول الدكتور "المسيري": لقد كتبنا هذه الدراسة لنُثبِتَ أن الانتفاضة لم تكن تعبيرًا عن يأسٍ عقيمٍ؛ وإنما تجلٍّ لانتماء عربي فلسطيني، واكتشاف للذات واسترداد لها" (ص 82).

وإذا كان من أهم نتائج انتفاضة 1987 م داخل الدولة العنصرية أنها فجَّرت أزمة الهوية داخل الكيان الصهيوني، وكشفت عن عمق عنصريته، كما زادت من أبعاد أزمته الاقتصادية ومن كُلفة إدارة الكيان الصهيوني، فإن من أهم نتائجها خارج الدولة العنصرية أنها نجحت في فرض القضية على العالم مرةً أخرى، وتحرَّكت الدولة الأم للكيان الصهيوني (الولايات المتحدة)؛ لتنظر كيف تخرج ربيتها من هذا الموقف الذي كشف عمق أزمتها وعمق عنصريتها، ولكن كانت المفاجأة غزو العراق للكويت ، وما أعقبه من حشد الولايات المتحدة الأمريكية للرأي العام الدولي ضد العراق ، وقيام حرب البترول الثانية، وكان لها أبلغ الأثر على الانتفاضة، ويكفي أن نرصد تأثيرين:

أما الأول: فقد ظهر في سَحبِ حرب الخليج الثانية البساطَ من تحت أقدام الانتفاضة، وتغييرها لأولويات الاهتمام العربي والدولي، فلم تعُد القضية الفلسطينية تأخذ من الاهتمام ما كانت تحصُل عليه قبل الغزو العراقي.

أما التأثير الثاني: فكان نابعًا من الموقف السياسي، الذي اتخذته بعض الدول الخليجية بالاستغناء عن معظم العاملين الفلسطينيين؛ ردًّا على الموقف السياسي الذي اتخذته (منظمة التحرير)، والذي فسَّرته الدول الخليجية بأنه مؤيدٌ للعراقِ، وقد حرَّم ذلك الإبعاد الفلسطينيين في الداخل من رافدٍ اقتصادي مهم.

وبعد انتهاء حرب الخليج دخلت المنطقة العربية في طور جديد رسمته الولايات المتحدة الأمريكية فيما أُطلق عليه (النظام العالمي الجديد)، تقوده واشنطن منفردةً؛ ومن أجل إحكام قبضتها على الأنظمة الإقليمية في عالمنا وضعَت مخططًا لإقامة نظام لها باسم (نظام الشرق الأوسط)، وكان ما أطلق عليه (المسيرة السلمية)؛ ولعل جرَّ (منظمة التحرير الفلسطينية) لمائدة بل لموائد المفاوضات هو المَعلم الثاني من معالم التأريخ لمقاومة الشعب الفلسطيني- بعد خروج منظمة التحرير (المقاومة المنظمة) من دول الحدود للكيان الصهيوني (الأردن و لبنان)؛ حيث فرضَتْ الولايات المتحدة- بطلبٍ من الكيان الصهيوني- على الفلسطينيين إعلانَ التفاوض السياسي وانتهاء الكفاح المسلح ضد الاحتلال.

فعقد (مؤتمر مدريد للسلام) يوم 30 من أكتوبر 1991 م، شاركت بعده (منظمة التحرير الفلسطينية) في مفاوضات سرية مع الكيان الصهيوني، تمخضت عن التوصل إلى اتفاق (أوسلو) في 13/ 9/1993 م، ثم اتفاق (أسلو) 2 في 28/10/1995 م، وبرزت السلطة الوطنية الفلسطينية على مسرح الأحداث تقود خط التفاوض السلمي، وظلت المقاومة الشعبية التي تقوم بها الجماهير الفلسطينية كمَعلَم ثابت من معالم تأريخ الشعب الفلسطيني.

انتفاضة الأقصى 2000 م: مرحلة نضج المقاومة الشعبية:

في يوم الجمعة 29 من سبتمبر عام 2000 م، وعلى أثر اقتحام سفاح (صابرا وشاتيلا) مجرم الحرب "أرييل شارون" حَرَمَ المسجدِ الأقصى بحماية رسمية من حكومة "باراك"، اندلعت الانتفاضة الثانية، التي عُرفت باسم (انتفاضة الأقصى).

وإذا كانت الانتفاضة الأولى 1987 م قد أحدثت تحولاً في إدراكات الجنود الصهاينة نحو اهتزاز ثقتهم في جيش الكيان الصهيوني، وزيادة رغبتهم في الانسحاب الصهيوني من الأراضي المحتلة- يقصدون الأراضي التي احتُلت في 1967 م- وكل الأراضي التي يعيث فيها الصهاينة فسادًا هي أراضٍ محتلة منذ العام 1948 م- فإن استمرار انتفاضة الأقصى كل هذه الفترة رغم ما مرت به منطقتنا من تغير النظام في العراق ، ثم احتلاله من قبل الأمريكان، ورؤية قادة الدول العربية والإسلامية (رأس الذئب الطائر)، ففتحت إيران قواعدها للتفتيش الدقيق، وأعلنت موافقتها على التوقيع على (البروتوكول) الاختياري بعد ضغوط متوالية، وصل التهديد الأمريكي فيها إلى مداه، وسلمت ليبيا بلا قيد أو شرط، وفتحت قواعدها هي الأخرى وتخلت (طواعيةً) عن برنامجها في الحصول على أسلحة غير تقليدية؛ سواءٌ نوويةٌ أو كيماويةٌ، وعلى الساحة الفلسطينية لا زالت الآلة العسكرية الصهيونية تواصل جرائم الحرب التي ترتكبها بشكل يومي؛ حتى توارت في التغطيات الإعلامية، باعتبارها أضحت في لغة الإعلام "ليست خبرًا".

وعلى مدى الثلاث سنوات الماضية استعملت القوات الصهيونية مختلف أنواع الأسلحة في إخمادها، فقصفت غزة و رام الله بالطائرات، ودمرت بعض مقرات حركة (فتح)، وطال القصف مكاتب تابعة للرئيس "ياسر عرفات " نفسه، وحاصرت جنين، وسقط من الفلسطينيين مئات الشهداء وآلاف الجرحى بعد أن ضربوا أروع الأمثلة في المقاومة والثبات.

ولقد عززت انتفاضة الأقصى ثقة الجماهير الفلسطينية بقدراتها وطاقاتها وعدالة قضيتها، وكسرت حاجز الخوف الذي حاول الصهاينة بناءَه من خلال انتخابِ الإرهابي مجرمِ الحرب "شارون"، الذي جاء ليزرع اليأس والشك في قلوب المجاهدين والمقاومين، ولكن المواجهات والبطولات اليومية حطمت هذه الفرضية، وسفهت مقولة "تفوُّق العدو وجيشه ومستوطنيه"، وأدت إلى تصديع المرتكزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية والعسكرية لمشروع ما يُسمى (إسرائيل الكبرى)؛ وهو ما أدى إلى إحداث حالة من الإرباك والجدل في الأوساط الصهيونية داخل الكيان وخارجه، خاصةً كلما تزايدت الخسائر الاقتصادية والبشرية في صفوف العدوِّ.

وفضحت انتفاضة الأقصى الكيانَ الصهيوني، وأظهرته على حقيقته القمعية والعنصرية، وساهمت في حرمان المجتمع الصهيوني من الإحساس بالاستقرار أو الأمن، وأغرقت الجيش الصهيوني وسائر القوى الأمنية الأخرى في حرب إرادات لا تنتهي؛ وهو ما حمل بعض المسئولين الصهاينة على طرح السؤال: إلى متى نعيش على أسنَّة الحراب؟! وهذا السؤال دفع بالعديد من المهاجرين الجدد إلى تغيير خياراتهم، كما قرر البعض الآخر من الذين لم يأتوا بعد إلى إلغاء قرار المجيء، وبلغ الأمر مداه برفض بعض الطيارين الصهاينة وبعض الجنود الاحتياط الخدمة فيما يسمونه (الأراضي المحتلة 1967 م).

ومع استمرار المقاومة يمكن للقيادات الفلسطينية- سواء المفاوضة أو المقاومة- أن تملك زمام المبادرة إذا امتلكت رباطة الجأش والسير في الشوط إلى آخره، وآخرالشوط الذي نقصده هو: فرض الأجندة الفلسطينية على العدو وليس العكس، وهي أجندة مسلحة..

أولاً: مسلحة بإمكانات تضحية عند الشعب الفلسطيني تثبت يوميًّا أنها هائلة.

ثانيًا: مسلحة بقرارات الشرعية الدولية التي صيغت أساسًا لضمان مصالح الكيان الصهيوني وأمنه.

ثالثًا: مسلحة بموقف شعبي عربي غاضب يتزايد ضغطه على حكوماته لاتخاذ مواقف أكثر صلابة وقوة تجاه غطرسة الكيان الصهيوني.

رابعًا: برأي عام يرى الوحشية الصهيونية يوميًّا كما هي في الواقع على شاشات التلفزيون.

لقد جاءت انتفاضة الأقصى بعد الفشل الذي مُنِيَ به اتفاق (أسلو) وصولاً إلى حد التمادي الصهيوني على الحرم القدس نفسه؛ وهو ما أعلنه مجرم الحرب "شارون" عندما ذكر أن هدفه هو إجبار الفلسطينيين على الاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني في الحرم، فجاءت انتفاضة الأقصى بعد أن أثبت انتصارُ المقاومة في الجنوب اللبناني ودحرُ العدو الصهيوني وإنهاءُ احتلاله بلا قيد أو شرط أو مفاوضات سلام وتسوية.. بعد أن أثبت ذلك كله أن الخيار الفلسطيني الآخر (إستراتيجية الانتفاضة والمقاومة) يمكن أن يحقق أيضًا انتصارًا موازيًا في ظروف عربية دولية تسمح به.

وتظل انتفاضة الأقصى دون الحرب التحريرية الشاملة، وأكثر من مجرد التظاهر السلمي أو العصيان المدني، بل هي ربما جمعت من جراء ذلك في طورها الراهن على الأقل بين سلبيات الأمرين دون ما يُؤمل أو يُرجى من كل منها من نتائج؛ فهي من الجانب الفلسطيني حالة حرب من حيث عدد ضحاياها الكثر من شهداء بالمئات ومن معاقين بالآلاف، ومن حيث ما يكابده سكان الأراضي المحتلة من حصار ومن تدمير لبيوتهم ومنشآتهم وممتلكاتهم وأسباب رزقهم، وهي حالة تظاهر أو عصيان شديد الفتك قد تكون جاريةً في غير مجالها، طالما أنها تضع في مواجهة قوات عسكرية مدججة بالسلاح بالغة التحصين، لا تتردد في تعمد القتل؛ شبانًا وصبيانًا عزلاً إلا من الحجارة وبعض السلاح القليل، ومثل ذلك الواقع هو ما قد يتطلب إستراتيجيةً مركبةً متعددةَ الأوجه، عمادها الأساسي الوصول بالكيان الصهيوني إلى قناعة مفادها عدم جدوى الاحتلال، وذلك عن طريق استمرار:

أولاً: المظاهرات السلمية الكبرى في المدن الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.

ثانيًا: عصيان مدني في تلك المناطق التي لا تزال على هذا النحو أو ذاك واقعةً تحت الاحتلال.

ثالثًا: بعض أعمال محددة تستهدف المستوطنين، أولئك الذين بدأ بعض الصهاينة يضِيقون ذرعًا بهم وبكلفة الدفاع عنهم، وكل ذلك بهدف إحداث أمرين:

أولهما: إبقاء جذوة الانتفاضة مشتعلةً والقضية حاضرةً في الأذهان والرأي العام العربي والدولي. ثانيهما: محاولة العودة إلى وتيرة الحياة الطبيعية والعادية، بما تتسع معه مساحة الحركة أمام الشعب الفلسطيني، وتضيق معه مساحة الحركة أمام الصهاينة .. وبتأمل هذه المسيرة نستطيع القول: - إن المقاومة الفلسطينية التي تشهدها أرض فلسطين حاليًا جزء من هذه السلسلة الطويلة في هذا التاريخ الممتد، الذي حريٌّ بأن نطلق عليه (مائة عام من المقاومة).

انتفاضة الأقصى ومرحلة نضج المقاومة الشعبية

في يوم الجمعة 29/9/2000م، وعلى إثر اقتحام سفَّاح (صابرا وشاتيلا) مجرم الحرب "أرييل شارون " حرم المسجد الأقصى بحماية رسمية من حكومة "باراك"، اندلعت الانتفاضة الثانية التي عُرفت باسم (انتفاضة الأقصى).

وإذا كانت الانتفاضة الأولى 1987 م قد أحدثت تحولاً في إدراكات الجنود الصهاينة ، نحو اهتزاز ثقتهم في جيش الكيان الصهيوني، وزيادة رغبتهم في الانسحاب الصهيوني من الأراضي المحتلة- يقصدون الأراضي التي احتُلَّت في 1967 م وكل الأراضي التي يَعِيث فيها الصهاينة فسادًا هي أراضٍ محتلة منذ العام 1948 - فإن انتفاضة الأقصى مستمرة، رغم ما مرت به منطقتنا من تغيير النظام في العراق، ثم احتلاله من قِبَل الأمريكان، ورؤية قادة الدول العربية والإسلامية (رأس الذئب الطائر) من فتح إيران قواعدها للتفتيش الدقيق، وإعلان موافقتها على التوقيع على (البروتوكول) الاختياري بعد ضغوط متوالية وصل التهديد الأمريكي فيها إلى مداه، وتسليم ليبيا بلا قيد أو شرط، وفتح قواعدها- هي الأخرى- وتخليها طواعيةً عن برنامجها في الحصول على أسلحة غير تقليدية، سواء نووية أو كيماوية، وعلى الساحة الفلسطينية لا زالت الآلة العسكرية الصهيونية تواصل جرائم الحرب التي ترتكبها بشكل يومي حتى توارت في التغطيات الإعلامية، باعتبارها أضحت في لغة الإعلام (ليست خبرًا).

وعلى مدى الثلاث سنوات الماضية استعملت القوات الصهيونية مختلف أنواع الأسلحة في إخمادها، فقصفت غزة ورام الله بالطائرات، ودمَّرت بعض مقرَّات حركة (فتح)، وطال القصف مكاتب تابعة للرئيس "ياسر عرفات" نفسِه، وحاصرت (جنين)، وسقط من الفلسطينيين مئات الشهداء وآلاف الجرحى، بعد أن ضَرَبوا أروع الأمثلة في المقاومة والثبات.

ولقد عزَّزت انتفاضة الأقصى ثقة الجماهير الفلسطينية بقدراتها وطاقاتها وعدالة قضيتها، وكسرت حاجز الخوف الذي حاول الصهاينة بناءه من خلال انتخاب الإرهابي مجرم الحرب "شارون"، الذي جاء ليزرع اليأس والشك في قلوب المجاهدين والمقاومين؛ ولكن المواجهات والبطولات اليومية حطَّمت هذه الفرضية وسفَّهت مقولة تفوق العدو وجيشه ومستوطنيه، وأدت إلى تصديع المرتكزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية والعسكرية لمشروع ما يُسمَّى (إسرائيل الكبرى)؛ ممَّا أدى إلى إحداث حالة من الإرباك والجدل في الأوساط الصهيونية داخل الكيان وخارجه، خاصةً كلما تزايدت الخسائر الاقتصادية والبشرية في صفوف العدو.

وفضحت انتفاضة الأقصى الكيانَ الصهيوني، وأظهرته على حقيقته القمعية والعنصرية، وساهمت في حرمان المجتمع الصهيوني من الإحساس بالاستقرار أو الأمن، وأغرقت الجيش الصهيوني- وسائر القوى الأمنية الأخرى- في حرب إرادات لا تنتهي؛ مما حمل بعض المسئولين الصهاينة على طرح السؤال: إلى متى نعيش على أسنَّة الحِراب؟ وهذا السؤال دفع بالعديد من المهاجرين الجدد إلى تغيير خياراتهم، كما قرر البعض الآخر- من الذين لم يأتوا بعد- إلغاء قرار المجيء، وبلغ الأمر مداه برفض بعض الطيَّارين الصهاينة وبعض الجنود الاحتياط الخدمة فيما يسمونه (الأرضي المحتلة 1967 م).

ومع استمرار المقاومة يمكن للقيادات الفلسطينية- سواء المفاوضة أو المقاومة- أن تملك زمام المبادرة إذا امتلكت رباطة الجأش والسير في الشوط إلى آخره، وآخر الشوط الذي نقصده هو: فرض (الأجندة الفلسطينية) على العدو وليس العكس، وهي أجندة مسلحة:

أولاً: بإمكانات تضحية عند الشعب الفلسطيني تُثبت يوميًّا أنها هائلة.

ثانيًا: بقرارات الشرعية الدولية التي صيغت- أساسًا- لضمان مصالح الكيان الصهيوني وأمنها.

ثالثًا: بموقفٍ شعبي عربي غاضبٍ، يتزايد ضغطُه على حكوماته؛ لاتخاذ مواقف أكثر صلابةً وقوةً تجاه غطرسة الكيان الصهيوني.

رابعًا: برأيٍ عامٍّ يرى الوحشية الصهيونية يوميًّا، كما هي في الواقع على شاشات التليفزيون.

لقد جاءت انتفاضة الأقصى بعد الفشل الذي مُني به اتفاق (أسلو)؛ وصولاً إلى حدِّ التعدي الصهيوني على الحرم القدسي نفسه، وهو ما أعلنه مجرم الحرب "شارون"، عندما ذكر أن هدفه هو إجبار الفلسطينيين على الاعتراف بسيادة إسرائيل (الكيان الصهيوني) في الحرم، فجاءت انتفاضة الأقصى بعد أن أثبت انتصارُ المقاومة في الجنوب اللبناني، ودَحْرُ العدو الصهيوني، وإنهاءُ احتلاله بلا قيد أو شرط أو مفاوضات سلام وتسوية.. أن الخيار الفلسطيني الآخر- إستراتيجية الانتفاضة والمقاومة- يمكن أن يحقق أيضًا انتصارًا موازيًا في ظروف عربية دولية تسمح به.

وتظل انتفاضة الأقصى دون الحرب التحريرية الشاملة وأكثر من مجرد التظاهر السلمي أو العصيان المدني؛ بل هي ربما جمعت- من جرَّاء ذلك في طورها الراهن على الأقل- بين سلبيات الأمرين، دونما يُؤمَل أو يُرجى من كلٍّ منها من نتائج.. فهي من الجانب الفلسطيني حالة حرب؛ من حيث عدد ضحاياها الكُثُر.. من شهداء بالمئات.. ومن معاقين بالآلاف؛ ومن حيث ما يكابده سكان الأراضي المحتلة.. من حصار.. ومن تدمير لبيوتهم ومنشأتهم وممتلكاتهم وأسباب رزقهم، وهي حالة تظاهر أو عصيان شديد الفتك قد تكون جارية في غير مجالها، طالما أنها توضع في مواجهة قوات عسكرية مدجَّجة بالسلاح بالغة التحصين لا تتردد في تعمد القتل شبانًا وصبيانًا عزلاً، إلا من الحجارة ومن بعض سلاح قليل، ومثل ذلك الواقع هو ما قد يتطلب إستراتيجية مركبة متعددة الأوجه، عمادها الأساسي الوصول بالكيان الصهيوني إلى قناعة مُفادها عدم جدوى الاحتلال، وذلك عن طريق استمرار:

أولاً: التظاهرات السلمية الكبرى في المدن الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.

ثانيًا: عصيان مدني في تلك المناطق التي لا تزال- على هذا النحو أو ذاك- واقعةً تحت الاحتلال.

ثالثًا: بعض أعمال محددة تستهدف المستوطنين، أولئك الذين بدأ بعض الصهاينة يضيقون ذرعًا بهم وبكلفة الدفاع عنهم؛ وكل ذلك بهدف إحداث أمرين: أولهما: إبقاء جذوة الانتفاضة مشتعلة والقضية حاضرة في الأذهان والرأي العام العربي والدولي.

ثانيهما: محاولة العودة إلى وتيرة الحياة الطبيعية والعادية، بما تتسع معه مساحة الحركة أمام الشعب الفلسطيني، وتضيق معه مساحة الحركة أمام الصهاينة، وبتأمل هذه المسيرة نستطيع القول:

- إن المقاومة الفلسطينية- التي تشهدها أرض فلسطين حاليًا- جزء من هذه السلسلة الطويلة في هذا التاريخ الممتد، الذي حرِيٌّ بأن نطلق عليه مائة عام من المقاومة.

- إن المقاومة هي الإستراتيجية الثابتة عند جماهير في فلسطين .

بين المقاومة والحلول السلمية

أخطاء إستراتيجية في مسار عملية التسوية السلمية

أخطاء إستراتيجية خمسة، شكلت في جوهرها عوامل فشل مسار التسوية السلمية بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني- حتى وإن عاد الطرفان إلى طاولة المفاوضات- لعل أول هذه الأخطاء: هو إغفال طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني باعتباره صراعًا وجوديًّا لا يمكن حسمه عن طريق التفاوض السياسي؛ فهو ليس صراعًا محليًّا بين أقلِّية تنشد انفصالاً أو حكمًا ذاتيًّا من أكثرية حاكمة، كما أنه ليس مجرد صراعٍ بين أكثرية مظلومة ضد أقلية مسيطرة، كما أنه لا تدخل القضية الفلسطينية في نمط القضايا التي اتسمت بالصراع ضد قوة عنصرية استيطانية- جنوب إفريقيا مثلاً- وليست من طراز الصراع مع قوة استيطانية استعمارية هي جزء من دولة كبرى- الجزائر مثلاً- ولا تدخل في القضية الفلسطينية نمط قضايا التحرير من الاحتلال- أغلب شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية- بل إن طبيعة الصراع تحمل خصوصية استثنائية، فقد حملت طابع صراع ضد قوة أجنبية استيطانية عنصرية لا تهدف إلى السيطرة على البلاد واستغلالها، وحكم الأغلبية المحلية، وتحويلها إلى مواطنين من الدرجة الثانية فقط؛ وإنما هي أقلية عنصريه تحمل هوية دينية جاءت لتحلَّ محلَّ الشعب الفلسطيني وطرده من البلاد كليًّا، والاستيلاء على أرضه وممتلكاته؛ بل الادعاء بامتلاك الحق والشرعية في ذلك، ومثل هذا النوع من الاحتلال الاستيطاني لا ينجح إلا إذا تم تدمير الموروث الثقافي للشعب الأصلي صاحب الأرض، والقضاء على ذاكرته القومية أو إبادته.


ثاني هذه الأخطاء- وهو أيضًا ما جعل عملية التسوية تستمر حتى الآن- هو عمومية المبادئ التي قامت عليها التسوية، وضبابية الأسس التي استندت إليها في شكل يتيح لكل طرف من أطراف الصراع تفسير هذه الأسس بالشكل الذي يناسبه، وتقديم هذه التفسيرات لقواعده الشعبية على أنها تمثل تمسكًا- من قبل القيادة السياسية- بمطالب هذا الشعب.


ثالث هذه الأخطاء متعلقٌ بالمنطق الأمني الذي حكم اتفاقات (أسلو)، وخاصة من قِبَل الكيان الصهيوني، والذي كان يهدف- أساسًا- إلى منع اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة على غرار انتفاضة 1987 م؛ وهذا ما تبجَّح به وزير خارجية الكيان الصهيوني بالوكالة "شلومو بن عامي"- وهو صقر محسوب على الحمائم، وكل ما هناك صقور- عندما سُئل عن إمكان اندلاع انتفاضة جديدة بسبب تعثُّر المفاوضات، فأجاب: إن المنطق وراء وجود السلطة هو منع مثل هذه الظاهرة، وبذلك يكون هدف الكيان الصهيوني من الاتفاقات الأمنية هو أن تقوم عناصر الشرطة الفلسطينية بدور قوات "أنطوان لحد" في جنوب لبنان غير أنه مع اشتداد المواجهات بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال تدخلت الشرطة الفلسطينية في حالات كثيرة إلى جانب المتظاهرين الفلسطينيين؛ وهو ما جعل الشرطة الفلسطينية ذاتها هدفًا للقصف الصهيوني.

ورابع هذه الأخطاء يتعلق بعدم الإدراك الحقيقي لطبيعة الكيان الصهيوني ذاته كدولة استيطانية في تلك المرحلة من مراحل تطورها، واحتدام الصراع بين عناصر نخبتها السياسية على التوجهات العامة للدولة، فالكيان الصهيوني في هذه المرحلة من مراحل تطوره غير قادر على إنجاز تسوية تلبي الحد الأدنى للطموحات الفلسطينية والعربية، ولا يبدو واردًا لديه مراجعة وتصحيح موقفه من ذلك، ويعد نفسه للتعايش مع الانتفاضة على أمل إجهاضه من خلال المواجهة بالقوة والعنف، وهذا ما تحاول أن تقوم به حكومة "شارون"، أو من خلال خطة الفصل، الهادفة إلى خنق الفلسطينيين اقتصاديًّا، وإجبارهم على التراجع وقبول الأمر الواقع أخيرًا من خلال الجدار العنصري، الذي يلخص فلسفة "الدولة".

خامس هذه الأخطاء يتعلق بعدم تصور السيناريوهات المستقبلية "مآلات" الاتفاقات، وإلى أي شيء ستنتهي العملية السلمية، وصدق النصف المتشائم من توقع "أبومازن" عندما قال: إن (أسلو) يمكن أن تؤدي إلى دولة، وتقرير المصير، ويمكن أن تؤدي إلى كارثة، وكانت الكارثة بسبب وصول مفاوضات السلام (الفلسطينية- الصهيونية) إلى مأزق اعترفت جميع الأطراف بعدم إمكان حسمه دبلوماسيًّا وسياسيًّا، وذلك حينما دخلت عملية التسوية في معالجة جذرية وحقيقية لقضايا الصراع الأساسية (قضايا الوجود)؛ وهي القدس واللاجئين والاستيطان والأرض، دون أن تستطيع الأطراف المعنية الاتفاق على أسس وقواعد جديدة لمفاوضات الحل النهائي التي لم تَعد أسس مفاوضات الحل الانتقالي صالحة لها.

وربما على العكس من رغبة الأطراف المعنية فقد كانت المفاوضات نفسها- وليس بفعل المقاومة وعمليات فصائل المقاومة - هي السبب الحقيقي في اندلاع الانتفاضة التي لا تعبر هذه المرة فقط عن رفض الشعب الفلسطينيين للاحتلال؛ وإنما أيضًا عن رفضه لعملية التسوية التي لم تنجح في استرداد حقوقه، كما أنها تعبر من جانب الطرف الصهيوني عن رفضه قبول المطالب السيادية الفلسطينية على القدس، وإصراره على فرض شروطه المذلة.

فكانت المقاومة تعبير عن خروج فلسطيني من منطق (رد الفعل) إلى (منطق الفعل)؛ أي خروج من منطق رد الفعل الذي يفرضه أسلوب (التفاوض السياسي) ضمن شروط وظروف غير مواتية إلى منطق الفعل الذي تفرضه المقاومة، وإذا كان التفاوض يحتاج حتمًا إلى توافق إرادتين، فإن المقاومة لا تحتاج إلا إلى إرادة المقاوم.

ولقد سلطت انتفاضة الأقصى الأضواء الكاشفة على عمق أزمة عملية التسوية وإجحافها بحق الطرف الفلسطيني، إضافةً إلى إعلانها الصريح عن عمق الهوة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال والصهيوني، واستحالة وجود تعايش على أسس اتفاقات (أوسلو)، أو أي مفاوضات غيرها، طالما لم ينتهِ الاحتلال بكافة أشكاله على الأرض الفلسطينية.

ومن هنا يمكن القول إن الانتفاضة كانت حكمًا قاطعًا على أن منطلقات وآلية عملية السلام- كما يريدها أو يتصورها الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية- غير صالحة، وإن أي مشروع للتسوية ينبغي أن يقوم على أسس جديدة جوهرها هو: إنهاء الاحتلال وليس مساومة المحتل عن جزء من الأرض مقابل الاعتراف له بحقه في اغتصاب باقي الأرض.

فلم يقبل الفلسطينيون العودة إلى الانتفاضة رغم كلفتها الدموية الباهظة، إلا أن وعد السلام الكاذب لم يقدم لهم إلا (الموت البطيء)، كما عبَّر أحد شباب انتفاضة الأقصى.

وكما يقول الدكتور "أحمد صدقي الدجاني": "إن القراءة الموضوعية للواقع القائم في الصراع العربي الصهيوني بالرؤية الشاملة تؤكد أن ظاهرة الاعتصام بالمقاومة سوف تقوي حتى تبلغ المقاومة هدفها وهدف المقاومة هو الوصول باليهود الصهاينة الذين احترفوا الاستعمار الاستيطاني إلى الاقتناع بأن الصهيونية العنصرية وبالٌ عليهم، وأنها العدو الحقيقي للسلام والعقبة الكئود أمام بلوغه؛ ولذا فإن سبيل سلامهم وضمان أمنهم هو نبذ الصهيونية العنصرية واختيار أن يصبحوا مستأمنين، وهدف المقاومة أيضًا هو الوصول بقوى الهيمنة الغربية التي أوجدت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ودعمته- ولا تزال تدعمه- إلى الاقتناع عمليًّا بأن مصالحها في منطقتنا ووطننا سوف تتهدد، وأن عليها أن تتحول عن إستراتيجية التسلط سبيلاً لتأمين مصالحها إلى إستراتيجية التعامل الندي الذي يحترم حقوقنا، وأن هذا الكيان الصهيوني العنصري بات عبئًا عليها".

رؤية في إستراتيجية التحرير

تمثل انتفاضة الأقصى - وما رافقها من تفاعلات إقليمية ودولية ورأي عام عربي وإسلامي مُواتٍ- حدًا فاصلاً بين مرحلتين في تاريخ الشعب الفلسطيني:

- مرحلة مرت وكانت أهم معالمها السلام خيارًا إستراتيجيًّا.

- ومرحلة جديدة شديدة التعقيد تتسم بالتردد بين حدي المقاومة الشاملة واستمرار الانتفاضة، وبين السلام تحت شروط أقل إجحافًا بالحقوق الفلسطينية.

ومن الواضح أن الفلسطينيين يدركون مثل الصهاينة تمامًا الطابع الحاسم لهذه الحرب، التي ستقرر بالفعل مستقبل الشعب الفلسطيني، كما ستقرر طبيعية العلاقة بين الدولة الفلسطينية القادمة ودولة الكيان الصهيوني، ويؤكد ذلك الإجماع السريع الذي حصل على جانبي الجبهة، إجماع فلسطيني عبَّر عنه الانخراط الواسع لجميع التيارات والقوى الفلسطينية في القتال وإجماع صهيوني أزال أي تمايز يُذكر في مطالب وأقوال جماعات العمل والليكود والقوميين والدينيين والمستوطنين المتطرفين بل وأدعياء السلام، وكشف أوهام التقسيم التقليدي- الذي خُدِع به كثيرون في عالمنا العربي والإسلامي- في الكيان العنصري بين مَن تسموا بالحمائم ومَن أطلق عليهم الصقور.

وفي خلال أقل من شهر من بدء انتفاضة الأقصى أدرك الصهاينة أنهم أمام حركةٍ لن تتوقف سريعًا فأعلنوا استعدادهم لمواجهة طويلة الأمد.

وتبقى ومشكلة الكيان الصهيوني إزاء تجدد الانتفاضة إنها تتعامل مع حرب غير نظامية أشبه بحرب العصابات المقرونة بالعصيان المدني الواسع ولها أهداف سياسية وعسكرية يصعب إجهاضها، كما أن أساليب القتال المتبعة فيها تتسم بالمفاجأة من حيث التوقيت، كذلك شن العمليات في أكثر من اتجاه مما يشتت جهود القيادة السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني ويستنزف قواها.

ويبرز ضعف موقف الجيش العنصري من الانتفاضة الفلسطينية مساوئ استخدام القوة في حروب التحرير الوطني وعدم إدراك الفارق بينها وبين الحروب التقليدية، فالحرب من النوع الأخير غالبًا ما تكون نتيجتها صفرية، وذلك أن كل فريق من المتحاربين له قوة معينة ومحددة، وكل نقطة تفوق لطرف من المتحاربين هي بالضرورة نقطة خسارة للطرف الآخر.

لكن ثمة نقطة ضعف تُعاني منها الانتفاضة تتمثل في عدم توفر رؤية إستراتيجية فلسطينية توجهها وتحدد لها هدفها وتدير الصراع على أساس تقدير موقف صحيح يستطيع أن يلحظ عمق المأزق الصهيوني والأمريكي وأن يتحسس نقاط قوته هو، وأن يُدرك ما في المعادلة الدولية من اختلالات يمكنه الإفادة منها، فالانتفاضة بحاجة إلى أن يحدد لها هدف لا تراجع عنه وهو دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات واستنقاذ القدس على حد قول الأستاذ "منير شفيق".

وكما يقول الخبير الإستراتيجي "أمين هويدي": "فإنني أخشى على الانتفاضة من ظاهرة قاتلة، وهي إنها تكرر أساليبها وليس أخطر على صدام الإرادات من تكرار التكتيكات فلا بد من تغييرها بالخيال والإرادات".

إن استنزاف الكيان الصهيوني لا يحتاج إلى حرب شاملة من طرف الدول العربية بقدر ما يتطلب دعمًا كاملاً للمقاومة ضدها؛ وهو وضع يمكنه فرض الهزيمة الشاملة عليها وشطبها من معادلة المنطقة تمامًا، أما وأن الواقع القطري وأحلام الدولة لدى قيادة السلطة الفلسطينية ما زالت تتحكم بالوضع، فإن الحل الآخر هو حدود 1967 م، ولتكون محطة باتجاه مزيد من حصار الدولة العبرية وإنهائها لاحقًا بدل فتح العواصم لغزوها السياسي والاقتصادي.

وبالفعل كان تحول انتفاضة الأقصى إلى بعض أشكال العمل المسلح ونقل عملياتها الهجومية إلى المناطق الفلسطينية التي تخضع للسيطرة الصهيونية الكاملة وسقوط عدد من الجنود المستوطنين، عملاً في اتجاه إستراتيجية التحرير الكامل، وذلك في إطار "توسيع الانتفاضة جغرافيًّا وتعقيدها عسكريًّا" وكما يقول أحد المشاركين في انتفاضة الأقصى: "ليس أمامنا إلا خيار واحد، ونحن نعمل على قاعدة حساب التكلفة ولنريهم أن تكلفة الاحتلال باهظة جدًا بحيث لا يستطيعون تحملها"، ولعل ذلك ما جعل كثير من المستوطنين يعيشون حالة خوف أكثر عمقًا وتأثيرًا لكونها تستدعي مشهد الجنوب اللبناني والنعوش العائدة منه إلى الأمهات اللواتي تحولن إلى حزب فاعل في الساحة السياسية الصهيونية حتى وصل الأمر بمحلل عسكري معروف مثل "زئيف شيف" حد اعتبار "الأمة" الصهيونية في (حالة حرب)، محذرًا من أن "أمة في حالة حرب" لا يمكنها أن تُدار من قبل "منظمات الأمهات" في تحذير واضح من تكرار تجربة لبنان .

ولعل أهم معالم هذه الرؤية التي نحاول تقديمها هو:

- العمل على تطوير الانتفاضة باعتبارها إذانًا باندلاع معركة تقرير مصير الدولة الفلسطينية، والعمل على أساس الاندفاع بها بصرف النظر عن إي شيء آخر لتكون بالفعل حرب الاستقلال الفلسطينية.

- وهذا يعني أن تفكر بالاستمرارية والوحدة والتنسيق وتكثيف العمليات التي تستهدف ضرب معنويات جيش الاحتلال حتى تفرض انسحابه من الأراضي الفلسطينية تمامًا كما حصل في جنوب لبنان.

ومن الواضح تمامًا لكل مَن يتابع أنباء فلسطين أن الشعب الفلسطيني لا يريد العودة إلى محنة المفاوضات، وهو مستعد لتحمل نتائج اختياراته بل هو سعيد بأن يقنع الصهاينة في فلسطين بأن لديه هو أيضًا إرادة لا تلين وأن تمسكه بحقوقه التاريخية ليس أقل قوة من تمسك الصهاينة بأوهامهم الاستيطانية والتوراتية، وإستراتيجية التحرير هذه أكثر واقعيةً وأينع ثمارًا من سنوات التسوية العجاف.

أما كونها أكثر واقعية فلتبنيها النموذج الانتفاضي الشعبي؛ حيث إن المشاركة النضالية تتسع للكل وليس فقط للتنظيمات (سواء لجان المقاومة الشعبية أو حماس أو الجهاد أو كتائب الأقصى) بل هو مشروع كل فلسطيني بصرف النظر عن انتمائه الفكري إضافةً إلى توسيع دوائر الانتفاض أما كونها أينع ثمارًا؛ حيث إن ثمرة المقاومة والواقعة في قلب ميزان قوى مختل بشكل فاضح تنبع بالضبط من هذا الميزان؛ حيث لم يعد هناك عمليًّا ما يمكن أن يخسره الفلسطينيون جراء أي ثورة أو انتفاضة يقومون بها بل إن الخسارة في الطرف الآخر تكون أكثر إيلامًا معنويًّا وسياسيًّا حتى لو أظهرت الأرقام بونًا شاسعًا في الناتج الإحصائي لخسارة الطرفين، وبالتالي فهي أدعى للضغط عليه لانتزاع الحقوق.

خاتمة

- إن تحرير فلسطين أكثر واقعيةً من الاعتراف ب إسرائيل (الكيان الصهيوني).

- لا يصلح مع الاحتلال الاستيطاني إلا العمليات الاستشهادية.

- إن منطق المقاومة هو أن الدم قادر على أن يهزم السيف.

- إذا كان الأقصى بالنسبة للصراع العربي الصهيوني هو البؤرة فإن الاستقلال هو الأفق.

- إن المقاومة تمتلك ضمن معطياتها قوة خلاقة على استعادة الثوابت المفاهيم، التي ضيعتها متاهات السياسة على موائد المفاوضات.

أما الحلول الاستسلامية مثل (مدريد) و(أسلو)، وآخرها في (جنيف) فهي كما عبر عن ذلك "إدوارد سعيد": "ليست أداة لإزالة الاستعمار، ولا آلية لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وإنما إطار يهدف إلى تغيير أساس السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة من أجل إدامتها، وعلى هذا، فإن العملية السلمية غير قادرة من الناحية البنيوية على إنتاج تسوية قابلة للحياة، أو تدوم طويلاً، وستؤدي في نهاية المطاف إلى مزيد من الصراع".