بداية العمران على أرض فلسطين
مع انتهاء الألف الرابعة قبل الميلاد كان هناك تغيير واضح في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والمعمارية في "فلسطين"، ولعل أكثر ما يميز هذه الفترة ظهور أعداد كبيرة من المدافن المقطوعة في الصخر بفلسطين، وفي فترات لاحقة تم اكتشاف المعادن ومزجها، وتصنيع الأدوات والأواني منها، كذلك برزت المعابد الدينية في تلك الفترة، والتي بينتها المكتشفات الأثرية في العديد من مدن وقرى "فلسطين"، وعلى مستوى الصناعة والتجارة، فقد تطورت الحياة العمرانية، والتي تدل على نمو سكاني مع ارتفاع مستوى المعيشة، وتقدم نظام الزراعة.
وفي هذه الفترة تأسست الكثير من المدن المحصنة ذات الأسوار، ويلاحظ انتشار المدن المحصنة في جميع المناطق الفلسطينية، ومنها المنطقة الساحلية و"مرج ابن عامر" وسلسلة الجبال الغربية، كما أصبح تأسيس المدن ومرافقها الدفاعية والعامة والسكنية يفرض شيئًا من التخطيط المسبق.
وكان أوَّل من سكن "فلسطين" هم "الكنعانيون" و"الأموريون" العرب، الذين ينتسبون إلى قبيلة كبرى من "الساميين" من سكان "الجزيرة العربية"، وكانوا قد رحلوا إلى "الشام" في هجرات على شكل موجات، عندما قلَّ المطر، وانتشر الجدب، خاصةً مع ازدياد عدد السكان، وضيق موارد الصحراء عن تلبية حاجات الأعداد المتزايدة من البشر، فنزل "الأموريون" داخل بلاد "الشام" وجنوبها الشرقي، بينما استوطن "الكنعانيون" ساحل بلاد "الشام" وجنوبها الغربي و"فلسطين"، وتشير بعض التقديرات إلى أن الهجرة الأمورية- الكنعانية الشهيرة من "الجزيرة العربية" قد حدثت في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، غير أن بعض الباحثين يستنتجون أن "الكنعانيين" كانوا منذ بداية الألف الثالث مستقرين في البلاد، بينما يذهب باحثون آخرون إلى أن وجود "الكنعانيين" إنما يرجع إلى ما قبل سبعة آلاف سنة، وذلك من خلال تتبع الآثار في مدنهم القديمة، وأقدمها مدينة "أريحا" الباقية حتى اليوم، والتي تعتبر أقدم مدينة في العالم.
وقد ورد في الكتابات العبرية أن "الكنعانيين" هم سكان البلاد الأصليون، كما ذكر في "التوراة" أنهم الشعب "الأموري"، وهو ما ذهب إليه بعض المؤرخين.
وينسب هؤلاء الساميون إلى القبائل المنحدرة من "سام" الابن الأكبر لنبي الله "نوح" عليه السلام، ويذكر"الطبري" أن "الكنعانيين" يرجعون بنسبهم إلى "العمالقة".
ويتضح، وفقًا للمكتشفات الأثرية في "فلسطين" و"العراق"، أن "الساميين" هم أقدم الشعوب المعروفة على أرض "فلسطين"، فقد انتقلوا إلى بلاد "الشام" منذ الألف الرابعة قبل الميلاد.
وينقسم "الكنعانيون" في "فلسطين" إلى عدة قبائل منها:
اليبوسيون: وقد أقاموا حول مدينة "القدس"، وهي تنسب إليهم في أصل تسميتها القديمة "يبوس"، وقد تأثرت "القدس" بحضارة "اليبوسيين"، وحظيت باهتمامهم وعنايتهم، فحافظوا عليها، وحَصَّنُوها بسور عظيم، ودافعوا عنها ضدَّ الغزاة والمهاجمين من اليهود وغيرهم.
العناقيون: وتمتد ديارهم من "القدس" إلى جنوبي "الخليل"، وقد أقام بعضهم في "غزة"، وهم الذين أسَّسوا مدينة "الخليل" والتي كانت تُسَمَّى "مدينة أربع".
الحويُّون: وقد أقاموا في المنطقة من"نابلس"حتى"جبل الشيخ"،وهم الذين أنشأوا قرية "بعاريم"التي تعرف اليوم باسم قرية"أبو غوش".
العمالقة: وقد أقاموا في جنوب"فلسطين"وفي "سيناء"،ونزلت جماعة منهم بلاد "نابلس" وعمروها، وهناك جبل بها يُنْسَبُ إليهم هو"جبل العمالقة".
وكان"العمالقة" جبارين أشداء،وهم "الهكسوس" الذين غزوا"مصر"،وانتصر عليهم "رعمسيس الأول"، وقد اهتموا ببناء القلاع وتشييد الحصون،كما عُنُوا بحراثة الأرض وزراعتها، وتربية الماشية والأغنام.
ومن أقدم المدن الكنعانية الباقية حتى اليوم:"أريحا"،و"أشدود"(أسدود)، و"أشقلون"(عسقلان)، و"بئر سبع"،و"بيت دجن"،و"بيت شان" (بيسان)، و"بيت لحم"،و"حلحول"، و"عكو"(عكا)،و"غزة"، و"المجدل"، و"يافي" (يافا)، وهناك أيضاً العديد من المدن والقرى منها ما بقي حتى اليوم ومنها ما اندثر،وقد كانت "شكيم"هي العاصمة الطبيعية لكنعان.
واشتهر"الكنعانيون"بالزراعة حيث إنها كانت المهنة الرئيسة للسكان،وقد عرفوا الحبوب بأنواعها،كالقمح والشعير والعدس والبقول، كما زرعوا الأشجار المثمرة كالعنب والتين والرمان والنخيل والتفاح واللوز،ومارسوا الصناعة، وبرعوا في التعدين وصناعة الزجاج والخزف والفخار، واستعملوا لصنعه الدولاب الذي ما يزال يستخدم في كثير من القرى حتّضى اليوم،كما برعوا في صناعة النسيج والثياب، وبرعوا كذلك في فنون العمارة، كما عُنِيَ"الكنعانيون" بالموسيقى وأولوها عناية كبيرة، واستخدموها كنوع من الطقوس في عبادتهم، وقد اقتبسوا كثيراً من عناصر موسيقاهم من شعوب مختلفة توطنت الشرق الأدنى القديم، وكذلك تأثربهم كثير من الشعوب المحيطة بهم، مما أدَّى إلى انتشار ألحانهم وأدوات موسيقاهم بين تلك الشعوب.
وقد تكلم "الكنعانيون"لهجة خاصة بهم، مشتقة من اللغة العربية الأولى،ولكن بعد مدَّةٍ طويلةٍ من توطنهم وحكمهم في"فلسطين"حلَّت اللغة الآرامية ـ وهي لهجة عربية أخرى ـ محل اللغة الكنعانية، وقد ظلت تلك اللغة هي اللغة السائدة في "فلسطين" قرابة ألف عامٍ، حتى حلَّت محلها اللغة العربية الحديثة.
وقد ظلَّ "الكنعانيون" يحكمون "فلسطين" قرونًا طويلة، وشيدوا بها حضارة عظيمة تأثر بها كثير من الأمم والممالك المجاورة لهم، وكانت تلك الحضارة مصدر إشعاع لقرونٍ طويلة، حتى انهارت تلك الحضارة على يد الغزاة الفاتحين من "العبرانيين"الذين تمكنوا من هزيمة "الكنعانيين" إلا أن وجودهم على أرض "فلسطين" كان وجودًا عابرًا،فلم يحكموها إلا بضع عشرات من السنين،ثُمَّ ما لبثت دولتهم أن انهارت،وزال كلُّ أثرٍ لها من الوجود.