بي.بي.سي» نفعت غزة من حيث أرادت ضرها
بقلم / أحمد محمدن

تفاعلت في الإعلام البريطاني مسألة بث بيان «استغاثة إنسانية» يدعو للتبرع للمتضررين في غزة . فقد رفضت عدة شبكات تلفزيون بث البيان، ثم تراجع بعضها وقرر بثه، وبقيت «بي.بي.سي» و«سكاي» مصرّتين على عدم بثه. وقد علل المدير العام لشبكة «بي.بي.سي» ذلك بأن «بث مثل هذا الإعلان لا يتماشى وسياسة الحياد في الأزمات التي تنتهجها الهيئة». ثم زادت مديرة العمليات تفصيلاً: «إذا تصورتم أن غزة موضوع خبر رئيس في نشرة العاشرة (ليلاً) ثم أُتبع ذلك ببث إعلان لجمع التبرعات (لغزة)، فقد يتوهم بعض المتلقين أننا ننحاز إلى جانب معين»!
إذن، خوفاً من احتمال توهم خطيئة الانحياز إلى هذا «الجانب المعين»، آثرت «بي.بي.سي» رفض بث إعلان صيغت عباراته لترضى عنها هيئات مثل «وورلد فيجن» والصليب الأحمر البريطاني وغيرهما، ممن لم تشتهر بمناصرة القضية الفلسطينية . وقد غاب هذا التخوف وهذا الحرص الشديد على الحياد في انتقاء الأخبار وتحريرها لفظاً وتوقيتاً دون هاجس الانحياز إلى الجانب الآخر. إذن، رفضت «بي.بي.سي» بث إعلان أجوف لا يتعدى مناشدة السامعين للتبرع للمنكوبين في غزة «دفعاً لتهمة الانحياز وحفاظاً على مصداقيتها القائمة على الحياد»، ولكنها لم ترفض يوماً بث «استغاثات» دارفور وزائير وزيمبابوي. وبذات «المصداقية» و«الحياد» نقلت «الحرب على الإرهاب» و«الحرب بين إسرائيل وحماس» كما ذكرنا في مقال سابق.
شكراً لك يا فخر الإعلام البريطاني وسابقة الأمم ومعلمتهم من أين تؤكل الأخبار!
والطريف في الأمر أن تعنّت «بي.بي.سي» في هذه المناسبة زاد من اهتمام الرأي العام بالموضوع، وأوصل نداء غزة أبعد مما تستطيع «بي.بي.سي» إبلاغه. فعناوين الصحف ونقاشات البرلمان ومنتديات الإنترنت اتخذت منه مادتها الأولى، ثم كانت وقفة احتجاج أمام مقر «بي.بي.سي» في لندن تطالب الهيئة بالعدول عن قرارها. زخم إعلامي كله لصالح غزة. وعلى كل حال، فإن النائب المتقاعد توني بن الذي يتزعم التحالف الشعبي المناهض للحرب قد قرأ الإعلان في أحد البرامج الرئيسة، حين استضافه الصحافي وسأله عن رأيه في الموضوع. لقد بدأ بالقول: «أولاً دعني أنتهز هذه الفرصة لأقرأ على الناس ما ترفض «بي.بي.سي» أن يسمعوه»، فقرأه كاملاً.
من نتائج هذا التعنت أن المتلقي الغربي بدأ يتساءل عن مصداقية مؤسسة قديمة نشأ على الثقة بها والنظر إليها بعين التقديس أحياناً، وهذه فرصة نادرة لتنبيه سكان بلاد الغرب من نومهم وانكفائهم الإعلامي، ثم هي فرصة لتقديم إعلام بديل. وفي غياب مؤسسة تؤازر قناة الجزيرة الإنجليزية يمكن البدء بإعداد وتوزيع أفلام مرئية على شبكة الإنترنت وعلى أقراص الـ DVD في المدن الكبيرة. أما الجالية العربية والإسلامية في بريطانيا فبوسعها الاحتجاج على دفع رسوم التلفزيون ( Licence Fees ) لتمويل مؤسسة تطيل حصار المتضررين برفض بث إعلان إغاثتهم، وإذا حصل تنسيق في هذا الغرض سيجد أنصاراً كثيرين من مختلف طبقات المجتمع.
أما في العالم العربي فإن أنجع رد هو سلاح المقاطعة، وهو سلاح بيد كل فرد، فإذا رصدت عدّادات دار الإذاعة ( Broadcasting House ) في لندن انخفاضاً كبيراً ومستمراً لعدد المستمعين والمشاهدين في الوطن العربي، استقال المدير العام مهزوماً وراجعت الهيئة حساباتها. ولكن لن يحصل شيء من هذا إلا إذا استمرت المقاطعة نفَساً أطول من الرد الانفعالي الذي تحسن الهيئة حسابه بدقة كاملة. لا بد أن تكون المقاطعة وأن تستمر صلبة أطول مما يتوقع خبراء استطلاع الرأي، فالوطن العربي هو السوق المركزية لـ «بي.بي.سي» ولا يمكن أن تجازف بفقدان التأثير فيه.
لقد قررت «بي.بي.سي» الالتزام بالمصداقية على طريقتها، فليقرر المتلقون العرب الالتزام بالمصداقية على طريقتهم، ويضيفوا هذه الهيئة إلى قائمة المقاطعة
المصدر : نافذة مصر