حديث إلى الإخوان يكتبه العلامة أبو الحسن الندوي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حديث إلى الإخوان يكتبه العلامة أبو الحسن الندوي

مقدمـة

العلامة أبو الحسن الندوي

إنها صبغة الله.. ومن أحسن من الله صبغة؟

عندما قرأنا للداعية الإسلامي الجليل العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي رسائله التي سبقت مقدمه إلى مصر ثم عندما قرت عيوننا برؤيته وطابت نفوسنا بعشرته تأكدت لنا هذه الحقيقة الكريمة وزدنا بها إيمانًا وهي أن الإسلام على اختلاف الأمكنة والأزمنة يصنع نفوس أتباعه على غرار واحد ويجعل المشابه قريبة جدًّا بين نطرتهم إلى الأشياء وأحكامهم على الأمور. وأن انفجار الوعي الإسلامي في مصر والشام والهند والمغرب تمخض عن نفر من الرجال الأمجاد أحسنوا فهم الإسلام وأحسنوا العمل له فضمهم- من حيث لا يشعرون- نهج واحد في الإصلاح ولفتهم عاطفة واحدة نحو ما يعترض المسلمين من عوائق ويرمون به من مكايد وخصومات..

أصغينا إلى الأستاذ وهو يحدث عن إخواننا المسلمين بالهند ويؤرخ لسير الإسلام هنالك فرأيناه يبصر الأسباب الخفية ولا تخدعه حركة عما وراءها. وأصغينا إليه يصف مشاعره نحو إخوانه المسلمين بمصر خاصةً، والشرق الأوسط عامةً، فرأيناه فطنًا إلى التيارات المتضاربة مقدرًا لجهود الدعاة المخلصين ومقدرًا كذلك ما يزحم طريقهم من صعاب وهو مع تمسكه الشديد بالإسلام شكلاً وموضوعًا- حتى ليظنه السطحيون متزمتًا- تراه واسع منادح النظر. مرنًا في مواجهة ما يرضى وما يسخط مرونة الخلق العالي لا مرونة التحلل وقلة الاكتراث.وكم يحتاج رؤساء الهيئات الإسلامية عندنا إلى هذا المسلك الراشد.

زارنا الأستاذ أبو الحسن- ونحن نكافح الأمر العسكري بحل جماعتنا- فتعهدنا الرجل الحصيف بنصحه. وقام بحق الإسلام عليه في توجيهنا إلى مرضاة الله وخدمة دينه وحفظ المقدسات العظيمة التي آلت إلينا من أسلافنا الأمجاد. والثبات ضد أمواج الغزو الصليبى والتبشير الثقافي الذي يرمينا الغرب به بين الحين والحين.

وتحرى أن نلتزم في جهادنا للإسلام الأساليب الإسلامية نفسها فإن الخير لا يدرك إلا بالخير. وهيهات أن تصل إلى حق بباطل. وقد سجل هذه النصائح في الرسالة التي نتشرف بتقديمها للإخوان المسلمين.

ونحن إذ نشكر الله سبحانه على ما أتاح لنا من خير عندما ساق لنا الأستاذ أبا الحسن فإنا نعاهده على أن نظل ما حيينا أبناءً بررة للقرآن الكريم وجنودًا مهرةً في تنفيذ أوامره وبلوغ أهدافه.

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الندوي:

أيها الإخوان والسادة! كان من أعز الأماني وأحلى الأحلام عندي أن ألتقي في مصر بفضيلة الأستاذ الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان ولكن تأخرت زيارتي لمصر لأسباب قاسرة واستأثرت به رحمه الله وسبقت له الحسنى ولا أزال طوال عمري ألوم نفسي على هذا التقصير والتأخير في السفر على أن ما فات الإنسان من خير لم يكن ليدركه وكان أمر الله قدرًا مقدورًا وليس لي عزاء عن هذا الحرمان إلا في وجودكم والاجتماع بكم والحديث معكم فأريد أن أحييكم تحية كنت أحييها فقيد الإسلام وأبث إليكم بما في قلبي من خواطر وأفكار وآمال وآلام وما أحمل لهذه الدعوة العظيمة وصاحبها من التقدير والإجلال والحب والإخلاص وما يخامر نفسي في ذلك من سرور وأمل وما يساور نفسي كذلك من إشفاق ووجل فأرجوكم أن تسمحوا لأخيكم بشيء من التفصيل وتتكرموا عليه بشيء من وقتكم العزيز.

لستم في حاجة أيها الإخوان الكرام أن أصور لكم العالم الإسلامي وما تجتاحه الآن من موجات سياسية واقتصادية وخلقية، وأصف لكم الأخطار المسلطة على رقاب المسلمين وما أصيب به هذا العالم ويستقبله من نكبات ومصائب فأنتم من أعلم الناس بها ولكن الذي أريد أن أقول لكم إنه في حيرة عظيمة وارتباك شديد إنه يتأرجح بين عوامل متناقضة وقوى متنافسة.

إن العالم الإسلامي حائر العالم بين دين لا يسهل عليه العمل به والقيام بمطالبه لعادات نشأ عليها وحكومات أفسدته وتعليم أزاغه وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته، وبين جاهلية لا ينشرح لها صدره لإيمان لا تزال له بقية فيه وقومية عجنت مع الإسلام وحضارة تخمرت مع الدين.

إن العالم الإسلامي حائر بين شعوب مسلمة بسيطة في عقليتها ودينها وحكومات داهية لم تنشرح صدور رجالها لهذا الدين ولم تطاوعهم نفوسهم على العمل به ولكنهم يصرون على أن يحكموا هذه الشعوب التي تؤمن بهذا الدين ولا يرون حياتهم وشرفهم إلا في البقاء في الحكومة ولا يرون لهم محلاًّ في الحياة إلا الزعامة والحكومة ولا موضعًا في العالم إلا المجتمع الإسلامي الذي ولدوا ونشأوا فيه، فالشعوب في تعب منهم وهم منها في بلاء وعناء.

إن العالم الإسلامي حائر بين فطرته التي تنزعه إلى الدين وتاريخه الذي يدفعه إلى الإيمان والجهاد والكتاب الذي يقبل به إلى الآخرة ويبعث في نفسه الثورة على المجتمع الفاسد والحياة الزائفة وبين التربية العصرية التي تزين له المادية وتطبعه على الجبن والضعف والزعامة التي تفرض عليه الاتكال على الغير والاعتماد على العدو والفرار من الزحف.

إن العالم الإسلامي حائر بين شباب ثائر ودم فائر، وذهن متوقد وأزهار تريد أن تتفتح وبين قيادة شائخة شائبة قد أفلست في العقلية والحياة وحرمت الابتكار والإبداع والشجاعة والمغامرة.

إن العالم الإسلامي حائر بين مواد خام من أقوى المواد وأفضلها في الإيمان والقوة والشجاعة وبين موجهين وصانعين لا يعرفون قيمة هذه المواد ولا يعرفون أين يضعونها وماذا يصنعون منها.

هذا هو العالم الإسلامي الذي يواجهه العالم اليوم فلا يجد فيه غناءه ولا يجد فيه غوثًا ومعقلاً عن لصوص العالم المنظمين، وذئاب الإنسانية التي تحكمت وعاثت فيها.

ثم هذا هو العالم العربي الذي تعيشون فيه أيها السادة وهو اليوم مع كل أسف أضعف أعضاء جسم العالم الإسلامي وقد كان واجبًا أن يكون أقوها وأصحها، وأن يكون في العالم الإسلامي بمنزلة الرأس أو القلب في البدن وقد تضافرت عليه عوامل الإفساد والضعف فأحدثت فيه عللاً كثيرةً قد ولد فيه ضعف الحكم التركي وغفلته عن تعليم الشعوب وتربيتها وإنفاقه الأموال في غير موضع والاحترام في غير وقت وعسفه في غير هوادة أورث كل هذا البطالة وسقوط الهمة والجهل المطبق في كثير من البلاد العربية وجاء الاستعمار الأوروبي فأورث التفسخ في الأخلاق والانحلال في الدين والاندفاع المتهور إلى المادية والتهالك على الشهوات وقامت الحكومات الشخصية فأورثت التملق وكثرة المجاملات والنفاق والخنوع للقوة والمادة ثم جنى عليه قربه من أوروبا فكان هدفًا لتياراتها المدنية ومنتجاتها الصناعية وأفكارها المتطرفة وأساء إليه موقعه الجغرافي وأهميته السياسية والإستراتيجية فلج به الغرب وطمع فيه الاستعمار وطوقته الجنود الأجنبية وكان من بقايا الحضارة الشرقية والنظام الإقطاعي والحكم الشخصي الترف والبذخ والتفاوت الشديد بين الطبقات في المعيشة ثم كان أن خفت في العالم العربي صوت الدعوة الدينية من زمان وانقرض الرجال الذين كانوا يكافحون المادية ويكبحون جماحها ويلطفون من حدتها بدعوتهم إلى الله وإلى الآخرة وإلى الزهد والاعتدال في الحياة وقمع الشهوات ويشعلون جمرة الإيمان واستسلم العلماء ورجال الدين أمام تيار الغرب وتغيرات العصر فوضعوا أوزارهم للمدنية الغربية وهجم عليه الأدب الشهواني والصحافة الماجنة فحلت العقد ونفخت في الشهوات واجتمع بعض ذلك إلى بعض حتى أصبح هذا العالم منحلاًّ منهارًا متداعيًا لا يمسكه الإيمان ولا تحفه القوة المعنوية ولا تقف في طريق اندفاعه دعوة قوية.

في مثل هذه الفترات المظلمة والسحب المتراكمة كان الله يبعث الأنبياء والمرسلين في الزمن السابق، ولكن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكسف شمسها ولم يتوار نورها وإن دينه لا يزال حيًّا وإن الكتاب الذي جاء به لا يزال محفوظًا وإن أمته التي أرسلت معه لتبليغ رسالته والقيام بدعوته لا تزال فيها الحياة والروح.

لقد أغنانا الله بفضل دينه المحفوظ وكتابه المتلو ونبوءة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة عن رسالة جديدة ورسول جديد ولكن لا بد من تجديد واسع ودعوة صارخة وكفاح شديد يغير هذا الوضع الجاهلي الذي تورط فيه العالم الإسلامي تورطًا قبيحًا، وأمعن فيه العالم العربي إلى أبعد الحد وقد وعد الله وأخبر رسوله باستمرار هذه الدعوة الإسلامية وبقاء التجديد الديني ودوام الكفاح في تاريخ الإسلام ضد الجاهلية التي ترفع عقيرتها زمنًا بعد زمن وحينًا بعد حين وقد أصبح خطب العالم الإسلامي وفساد أحوال المسلمين وانحرافهم عن جادة الإسلام وطغيان بحر المادية أعظم وأوسع من أن يتدارك بجهود فردية وخطب منبرية ودروس دينية ورسائل دورية مباحثات فقهية ومسائل جزئية ومحاربة الأفراد والأشخاص إن السبيل لا يمسكه إلا سبيل مثله والتيار لا يدفعه إلا تيار أقوى منه فلا بد من كفاح عنيف وصراع شديد يغير مجرى الزمن ويقلب تيار الحياة من جهة إلى جهة ويحدث انقلابًا في المجتمع والحياة وفي الأذواق والرغبات وفي قيم الأشياء وموازينها.

من هنا كان سرورنا عظيمًا لما رأينا نورًا جديدًا على أفق العالم العربي ظهرت دعوة الإخوان من مصر- زعيمة العالم العربي ومصدر الخير والشر للشرق الأدنى- فتجدد الأمل في مستقبل الإسلام واعتقدنا أنها هي الدعوة المنتظرة لإحياء المسلمين وهي التي ستحقق آمال المصلحين وأحلامهم وتتدارك هذا العالم المنهار وتمسك به وما لبثت أن تحولت هذه الدعوة إلى سيل متدفق وتيار جارف فأمسك سيول الإباحية والتحلل والإلحاد واللادينية وصد تيارات المدنية الغربية التي كانت تجرف بالبقية الباقية من الغيرة الإسلامية والحياة الدينية وأصبحت تؤثر في حياة البلاد تأثيرًا قويًّا كاد يغير اتجاه البلاد.

خصائص دعوة الإخوان

وقد اجتمع لهذه الدعوة خصائص كثيرة لم تجتمع على ما علمنا منذ أمد بعيد لحركة دينية وإصلاحية في هذا البلد.

1- منها شخصية الداعي الأول وهو فضيلة الأستاذ الشيخ حسن البنا رحمه الله عليه فقد كانت- كما بلغنا- شخصية فريدة يظهر من حياة صاحبها ونشأته أنها قد أعدت لهذا الأمر العظيم إعدادًا وقد كان- رحمه الله- يجمع بين الفهم الواسع للإسلام والغيرة الملتهبة عليه والنشاط الدائم والعمل المتواصل لإعلائه والخطابة الساحرة والشخصية الجذابة والنفوذ العميق في نفوس أصحابه وإخوانه أو بلفظه هو نفسه "الفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق"، ولا بد للزعيم المسلم وقائد الدعوة الدينية أن يجمع بين هذه الصفات.

2- اجتمع لهذه الدعوة ما قلما تجتمع للحركات الدينية من قوة الإيمان وقوة العمل والعلم العصري والتنظيم الحديث والأدب والصحافة والصناعة والتجارة مما جعل هذه الدعوة دعوةً شعبيةً عصريةً عامةً يجتمع فيها العالم الديني مع المثقف المدني مع التاجر الكبير مع العامل الصغير مع الكاتب الأديب مع الصحافي البارع مع الصانع الماهر مع الفلاح القوي مع الطالب الشاب مع المعلم الوقور مع الموظف المسئول مع الطبيب النطاسي مع المحامي الكبير مع السياسي المحنك تجمع بينهم رابطة الإخوان وتربطهم شخصية الداعي الكبير.

3- لقد بعثت تربية الداعي والاشتغال بالدعوة ورد الفعل ضد التحلل والتفسخ حماسةً عظيمةً وتماسكًا عجيبًا في نفوس الدعاة وجعلت من الشعب "الرخو الرقيق"- كما قال زعيم من زعماء الإخوان- شبابنا أثبتوا بطولتهم في حرب فلسطين وجددوا ذكريات تاريخ الجهاد الإسلامي وأثبتوا رجولتهم وعصاميتهم في عهد الاعتقال والمحنة والتعذيب.

4- امتاز الداعي الأول والدعاة بدورهم بالتصريح بالحقائق الإسلامية والظهور في المظاهر الدينية التي كان الناس يخجلون منها فتشجع الناس وأصبح الدين في هذا البلد شيئًا لا يخجل منه المثقفون والمتظرفون وبدأ الناس يصلون في المقاهي والنوادي والولائم وقارعة الطريق بعد ما كانوا يستحيون من ذلك وأصبح الخطباء والكتاب يطالبون بالحكم الإسلامي وتطبيق أحكام الإسلام الاجتماعية ويثيرون موضوعات دينية كانت وقفًا على رجال الدين ولم تكن تتجاوز دائرة البحث العلمي ولا شك أن ذلك من نتائج الحركة الإسلامية القوية.

كان كل ذلك ولو طالت حياة المرشد العام وجرت المياه في مجاريها لكان أكثر من هذا لتغير الوضع الاجتماعي والخلقي للبلاد وماتت بدع كثيرة وعاشت سنن ميتة وأقفرت الحانات وعمرت المساجد وتوارى الفجار والدعاة إلى الإباحية والخلاعة وكسد الأدب السافر الفاجر واحتجبت المجلات الماجنة والصحف الخليعة وخف السفور الوقح واختلاط الرجال بالنساء إلى غير ذلك من العيوب الخلقية والاجتماعية التي يعانيها المجتمع.

ولكن البلاد لم تستطع أن تقدر هذه النهضة قدرها كما أن المعدة الضعيفة المريضة لا تستطيع أن تهضم الغذاء الصالح القوي فتتخم في بعض الأحيان. فكان كل ما يعلمه الجميع وكانت كارثة إسلامية لم يخسر فيها الإخوان فقط بل خسر فيها الإسلام ورزئ بها العالم الإسلامي.

ولكني أعتقد أيها السادة أن الله سبحانه وتعالى قد أراد بهذه الدعوة خيرًا إذ ردها قسرًا إلى مرحلة الدعوة الأولى لتزداد هذه الدعوة نضجًا وليزداد رجالها تربيةً وحنكةً ومبادئها رسوخًا وقوةً وأخذ بنواصي العاملين الدعاة ليفكروا في مستقبل هذه الدعوة ويرسموا خطتها ويحكموا وضعها وأسلوبها.

ليس خطب الدعوة الدينية والتجديد الإسلامي بهين أيها الإخوان الكرام فليست رسالتها ومهمتها قلب نظام فقط أو تغيير وضع سياسي بوضع سياسي آخر ونظام اقتصادي بنظام اقتصادي آخر ولا نشر الثقافة والعلم ومكافحة الأمية والجهل أو محاربة البطالة والتعطل أو معالجة عيوب اجتماعية أو خلقية إلى غير ذلك مما يقوم به الدعاة والمصلحون في أوروبا وفي الشرق وإنما هي دعوة "الإسلام" التي تشمل العقيدة والأخلاق والأعمال والسياسة والعبادة والسلوك الفردي والاجتماعي وتتناول العقل والقلب والروح والجسم وتعتمد على تغير عميق في القلب والنفسية والعقيدة والعقلية وتنبع من القلب قبل أن تنبع من القلم أو صحيفة كتاب أو منصة خطاب وتنفذ على جسم الداعي وحياته قبل أن يطالب بتنفيذها على المجتمع والأمة.

سيرة الأنبياء مع الدعوة إلى الله

هذه الدعوة كانت جديرة في الحقيقة بالأنبياء ومواهبهم وقواهم ورسالتهم وإيمانهم وجهادهم وثباتهم وفقههم وحكمتهم وإخلاصهم ولكنها ليست خاصة بالأنبياء بل هي دعوة خلفائهم وأتباعهم كذلك، ودعوة كل عصر ومصر، وحاجة الإنسانية كلها والعصور كلها فلا بد أن تجدد في كل زمان وفي كل محيط وتكون على أساس دعوتهم مطابقة لسيرتهم مقتبسة من مشكاتهم فلنرجع إلى هذا المصدر ولندرسه دراسة عميقة واسعة.

إذا تتبعنا أيها الإخوان سيرة الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم رأينا فيها جوانب كثيرة تمتاز بها سيرتهم وتقوم عليها دعوتهم وأريد أن أشارككم في دراسة هذه السيرة وطبيعة هذه الدعوة فأعرض عن إذنكم بعض النقط المهمة التي تفرق بين سيرتهم ودعوتهم، وبين سيرة القادة والمصلحين من عامة البشر منها:

1- الالتجاء إلى الله في جميع مراحل الدعوة والجهاد بل في جميع مراحل الحياة والإطراح على عتبة عبوديته إطراح الفقير الكسير والارتماء في أحضان رحمته ارتماء الطفل الصغير في أحضان أمه والإيمان القوي بأنه هو النافع الضار والناصر الخاذل، وأن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا كاشف لضره، ولا ممسك لرحمته ولا سهل إلا ما جعله سهلاً وهو يجعل الحزن سهلاً وينصر الضعيف على القوي والقليل على الكثير والضعيف مع نصرة قوي، والقليل مع رحمته كثير هذا الإيمان كان يوحي إليهم بالابتهال في الدعاء وإطالة الوقوف ببابه وشدة الالتزام بأعتابه والإلحاف في المسألة ويلهم المعاني العجيبة والتعبيرات الرقيقة، انظروا أيها الإخوان إلى قول سيد الأنبياء وسيد الدعاة إلى الله إلى يوم القيامة وهو يمثل خير تمثيل لإيمانه وشعوره بفقره وضعفه وافتقاره إلى رحمة الله "اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي لا يخفى عليك شيء من أمري وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير ودعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته، وذل لك جسمه ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيًا وكن لي رءوفًا رحيمًا يا خير المسئولين ويا خير المعطين" واذكروا دعاءه صلى الله عليه وسلم في الطائف "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري إن لم تكن ساخطًا على فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو ينزل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك" واذكروا موقفه في بدر قال ابن إسحاق:

"ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر وليس معه غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقوله: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد".

هذه كانت عدة الأنبياء عليهم السلام وقوتهم ومفتاح دعوتهم فقد امتازت دعوتهم بتقديم الدعاء والاهتمام به والابتهال فيه وليس الدعاء إلا رمزًا للإنابة إلى الله والاعتماد عليه والاعتزاز به فامتازت دعوتهم وجهادهم في سبيلها بطابعهما الروحي والإيماني وقد روي أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وقال الله تعالى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ (البقرة: من الآية 45)، ولا شك أن مهمة الدعوة أعظم من أن يضطلع بها الإنسان بقوته الجسدية وعدته المادية وكفايته العلمية والعقلية لا يستقبل بها إلا بالقوة الروحية، ونصر الله ومعونته وإن هذه الصخور العظيمة بل الأطواد الشامخة التي تقف في سبيل الدعوة وتهجم على رؤوس الدعاة وتصطدم بجهودهم لا تذوب إلا بنصر الله الذي يستنزل بالدعاء والالتجاء إليه.

2- امتازت دعوة الأنبياء وجهودهم بتجردها من التفكير في المنافع المادية والثمرات العاجلة فكانوا لا يبتغون بدعوتهم وجهادهم إلا وجه الله وامتثال أوامره وتأدية رسالته تجردت عقولهم وأفكارهم من العمل للدنيا ونيل الجاه وكسب القوة لأسرتهم أو أتباعهم والحصول على الحكومة حتى لم يخطر ذلك ببال أصحابهم وأتباعهم وكانت هذه الحكومة التي قامت لهم في وقتها والقوة التي حصلت لهم في دورها لم تكن إلا جائزة من الله، ووسيلة للوصول إلى أهداف الدين وتنفيذ أحكامه وتغيير المجتمع وتوجيه الحياة كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ﴾ (الحج: من الآية 41)، ولم تكن هذه الحكومة قط غايةً من غاياتهم أو هدفًا من أهدافهم أو حديثًا من أحاديثهم أو حلمًا من أحلامهم. إنما كانت نتيجة طبيعية للدعوة والجهاد كالثمرة التي هي نتيجة طبيعية لنمو الشجرة وقوة إثمارها، وقد قال كاتب هذه السطور في رسالته "بين الهداية والجباية" ما يحسن نقله هنا.

"بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى الإسلام فالتف حوله ﴿.... فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)﴾ (الكهف)، وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم واضطهاد وبلاء وعذاب وقد قيل لهم من قبل ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت)، فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتوا كالجبال وقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ (الأحزاب: من الآية 22).

حتى أذن الله في الهجرة ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها في العالم ويقيموا القسط ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها فقد عرف أنهم إذا تولوا وسادوا ﴿أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ﴾ (الحج: من الآية 41).

وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتي الأمطار بالخصب والزرع، وكما تأتي الأشجار بالفاكهة والثمر فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الإسلامية ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذي تحملوه من قريش وغيرهم وذلك الهوان الذي لقوه في مكة وغيرها.

وفرق كبير- أيها السادة- بين الغاية التي تقصد والنتيجة التي تظهر ويظهر هذا الفرق في نفسية العامل والساعي فالذي يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها ويشتغل بها عن الدعوة ويطغى إذا نالها وخطر على كل جماعة تتكون عقليتها بحب الحكومة والسعي لها أن تقعد عن الجهاد في سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ في قصدها لأن أساليب الوصول إلى الحكومة تخالف أساليب الدعوة. فيجب علينا أن ننقي عقولنا ونفوسنا ونجردها للدعوة، وللدعوة فحسب والخدمة والتضحية والإيثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات إلى النور ومن الجاهلية إلى الإسلامية ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان المحرفة والنظم الجائرة والمذاهب الغاشمة إلى عدل الإسلام، وظله ولا يكون دافعنا إلى العمل و الجهاد إلا امتثال أمر الله والفوز في الآخرة وما أعد الله لعبادة من الأجر والثواب ثم الشفقة على الخلق والرحمة بالإنسانية المعذبة والحرص على نجاة الإنسان، فإذا كان ذلك لا يمكن في مرحلة من مراحل الدعوة أو في فترة من فترات التاريخ- بعد تغلغل مبادئ الدعوة في نفوس الدعاة ورسوخ العقيدة فيهم- إلا بالحكومة سعينا لها لمصلحة الدعوة والدين كما نسعى إلى الماء للوضوء ونجتهد لهذا السبب بنفس العقلية وبنفس السيرة وبنفس العفة والنزاهة والصدق والأمانة والخشوع والتجرد الذي نجتهد معه لواجبات الدين وأركانه والعبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة، وبين العبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادات إذا حصل الإخلاص وصحت النية فكل في رضا الله وكل في سبيل الله وكل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله.

3- ومما امتازت به حياة الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم النبوية المثابرة على الدعوة والصبر عليها فلا يتخطون هذه المرحلة التي هي الأساس بسرعة وعجلة ولا يطفرون منها طفرًا إلى مرحلة أخرى بل يقضون فيها سنين طوالاً ولا يشتغلون بغيرها ولا يطمئنون إلى أن المجتمع قد عقل دعوتهم واستساغها ولا إلى الدعاة أنهم قد بلغوا رسالتهم وأدوا مهمتهم وإلى النفوس أنها قبلت هذه الدعوة وهضمتها هضمًا صحيحًا وأحلتها منها محلاًّ لائقًا ومردت النفوس على اتباع الأحكام وانقاد لها جماحها ولانت لها قناتها لا يطمئنون إلى كل هذا حتى يتحققوه ويختبروه مرة بعد مرة فلا يخدعون عن أنفسهم ولا تغرهم بهرجة الكلام فتكون نتيجة هذه التربية المتينة والدعوة الطويلة أنها تؤتي أكلها ناضجة شهية ولا تخدع الدعوة نتاجها فإذا قامت الحكومة قامت على أساس متين من الأخلاق وعلى أكتاف رجال أقوياء، أقوياء في عقيدتهم، أقوياء في سيرتهم، أقوياء في خلقهم، أقوياء في عبادتهم، أقوياء في سياستهم لا يندفعون مع التيار، ولا تجرف بهم المدنية، ولا يلعب بعقولهم الغنى بعد الفقر واليسر بعد العسر والقوة بعد الضعف ولا تميل بهم المحسوبيات والأرحام والصدقات ولا تستهويهم المطامع والمنافع هذا كان شأن الخلافة الراشدة وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين وهنا أنقل مرة ثانية ما قلته في رسالتي "بين الجباية والهداية".

"تأسست دولة الإسلام وفتحت فارس وبلاد الروم والشام ونقلت إلى عاصمة الإسلام- المدينة المنورة- كنوز كسرى وقيصر وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطرفها وزخارفها ما لم يدر قط بخلدهم وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش وفي خشونة المطعم وخشونة الملبس لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر فإذا بهم اليوم يتحكمون في أموال الأباطرة والأكاسرة فإذا أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل لقد كانت والله هذه محنة عظيمة تزول فيها الجبال الراسيات وتطير لها القلوب من جوانحها وتعمش العيون ولكنهم سرعان ما فطنوا أنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب، بل إنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وإمامتهم ومبادئهم وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبدًا وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء الأنبياء والمرسلين وحملة الدعوة المؤمنين المخلصين.

كان لهم أن يؤسسوا ملكًا عربيًّا عظيمًا على أنقاض الدولة الرومية والفارسية وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل فقد ورثوا إمبراطوريتين: الفارسية والرومانية وجمعوا بين موارد دولتين، فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترفه بموارد الإمبراطوريتين ويبذخ بذخًا لم يبذخه أحدهما.

كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة ولكنهم سمعوا القرآن يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾ (القصص)، وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته: "لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم"، فهتفوا عن آخرهم قائلين: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة".

وهكذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين وعاشوا في الحكومة كرجال الدعوة، وفي الدنيا كرجال الآخرة، وملكوا أنفسهم في هذا التيار الجارف الذي سال قبلهم بالمدنيات والحكومات والشعوب والأمم وسال بالمبادئ والأخلاق والعلوم والحكم.

ما زال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم- تحت قيادة سعد بن أبي وقاص ووصولهم إلى الشط الثاني من غير أن يصابوا في نفس أو مال أو متاع- حادثًا غريبًا من أغرب ما وقع في التاريخ إن الحادث لغريب ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين في عهد الخلافة الراشدة وعصر الفتوح الإسلامية الأولى خاضوا في بحر مدنية الروم وفارس وهو هائج مائج وعبروه ولم يفقدوا شيئًا من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم ووصلوا إلى الشط الثاني ولم تبتل ثيابهم ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الإسلامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم في المعيشة وتخشنهم في أوج الفتوح الإسلامية.

4- ومن مزايا الأنبياء والدعاء إلى الله التجرد للدعوة والتفرغ لها بالقلب والقالب والنفس والنفيس والوقت والقوة فمن شأنهم أنهم يركزون جهودهم ومواهبهم ويوفرون أوقاتهم وقواهم لهذه الدعوة ونشرها والجهاد في سبيلها ويعطونها كلهم ولا يضنون عليها بشيء مما عندهم ولا يحتفظون بشيء ولا يؤثرون عليها شيئًا لا وطنًا ولا أهلاً ولا عشيرةً ولا هوى ولا مالاً حتى تثمر جهودهم وقد لا تثمر في الدنيا وقد تثمر بعد حياتهم فهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)﴾ (يونس)، فهذا إذا كان شأن الدعوة بعد ما أعطاها الأنبياء كل ما عندهم فكيف بها إذا أعطيناها بعض ما عندنا، وكانت الدعوة تملك عليهم عقولهم ومشاعرهم وتملك عليهم تفكيرهم وصحتهم فما زال القرآن يسلي النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)﴾ (الكهف).

5- ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على طريقهم في الدعوة إلى الله أن هذه الدعوة إلى الله وإلى الدار الآخرة تسري في حياتهم كما يسري الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك وتظهر في أخلاقهم وعبادتهم فترق قلوبهم وتخشع نفوسهم وتزداد رغبتهم في العبادة ويشتد اهتمامهم بها وحرصهم عليها وإيفاؤهم لحقوقها، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورًا" (1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة والآية ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾ (المائدة).

وانتقلت هذه اللذة بالعبادة والاهتمام بها إلى الصحابة رضي الله عنهم في أشد الأوقات شغلاً وأقلها خاطرًا حتى كان أعداؤهم يعرفون ذلك عنهم وقد وصفهم رجل من الروم بقوله: "هم فرسان بالنهار رهبان بالليل" ويقول قائل "لو حدثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر".

6- ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على قدمهم أنهم يأخذون بالعزيمة في الدين ولا يأخذون بالرخصة- إلا بينا للحكم الشرعي وشكرًا لنعمة الله- ورفعًا للحرج عن الأمة ولا يعفون أنفسهم ولا يتساهلون في العبادات لأن اتباع الناس للدين وعملهم به بمقدار تصلب هؤلاء السادة في الدين وتمسكهم به فإذا اهتم هؤلاء بالنوافل اهتم الناس بالفرائض وإذا اكتفى القادة بالفرائض استرسل الناس إلى تركها والاستهانة بحقها لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم وقادة هذه الأمة يشمرون عن ساق الجد في العبادات والمحافظة على الجماعات والعمل بالسنن الدقيقة والاهتمام بالآداب ولا يكتفون بالأدنى ولا يقفون عند الفريضة وبذلك استطاعوا أن يورثوا الدين هذا الجيل موفورًا غير منقوص وهو أمانة عند هذا الجيل فلينظر كيف يورثه الأجيال الآتية.

7- ومما يمتاز به الأنبياء والمرسلون عن الحكماء والمؤلفين والعلماء المحققين أنهم يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علمًا وعملاً ومعلوم أن دعوتهم العظمى لا تقوم إلا على أكتاف الأصحاء الأقوياء الحنفاء المخلصين في إيمانهم والمخلصين في تفكيرهم والمخلصين في نياتهم الذين قد تنقت رءوسهم وصدورهم من ألواث الجاهلية والذين هضموا الإسلام هضمًا صحيحًا وانقطعت كل صلة في حياتهم عن الجاهلية بأوسع معانيها وخلقوا في الإسلام خلقًا جديدًا.

ونرى ذلك واضحًا في حياة سيدنا موسى- عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- فلما كان بنو إسرائيل قد نشأوا في حياة العبودية والذل والاضطهاد والسخرة الظالمة وماتت رجولتهم وإباؤهم ومردوا على الخنوع والاستكانة والخضوع للقوى الغالب وعلى الجبن والحرص الشديد على الحياة والخوف الشديد من الموت وأسبابه حتى لما قال لهم نبيهم: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)﴾ (المائدة) ولم يشجعهم على التقدم والقتال قول موسى عليه السلام: (كتب الله لكم) مع أنه كان ضامنًا لانتصارهم وأخيرًا قالوا بكل صراحة ووقاحة: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة: من الآية 24)، فظهر أن نشأتهم الأولى تأبى عليهم أن يخوضوا في معركة ويدخلوا في امتحان ويعرضوا أنفسهم للخطر وقطع موسى من هذا الجيل الفاسد الرجاء وقال: ﴿.. رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)﴾ (المائدة)، هنالك أمره الله بالاعتزال مع قومه (لا عن قومه) في بيداء سيناء حيث الشظف وخشونة الحياة وهنالك ينقرض هذا الجيل الفاسد الذي شب على الجبن والضعف وشاب عليه وينشأ الأدلاد والشباب الإسرائيلي الذين لا يزالون في مقتبل العمر على التخشن والجلادة وتحمل شدائد الحياة ومكارهها وينشأ جيل جديد يولد في هذه العزلة والبداوة على معاني الرجولة والفروسية وهكذا تتكون أمة جديدة تقوم بدعوة النبي وتطبيق تعاليمه ومبادئه وتجاهد في سبيلها.

وذلك أيها السادة معنى بليغ من معاني الهجرة النبوية فقد استطاع سيد الأنبياء وسيد الدعاة إلى الله- عليه الصلاة والسلام- بانتقاله مع أصحابه من ضيق مكة إلى سعة المدينة وحريتها أن يكمل تربية أصحابه وأن ينشئ الجيل الإسلامي الجديد الذي لم يلبث أن اضطلع بأعباء الدعوة المحمدية ومثل الإسلام تمثيلاً كاملاً.

كذلك الدعوة الإسلامية التي تكلفتم بها والجهاد الذي أخذتموه على عواتقكم يفرض عليكم- أيها السادة- إنشاء جيل جديد للإسلام، جديد في قوة إيمانه، جديد في حماسته وثقته، جديد في أخلاقه، جديد في تفكيره وعقليته، جديد في كفايته العلمية واستعداده العقلي وإن نجاحكم في هذا الإنتاج البشري مقياس نجاحكم في مهمتكم ودعوتكم فكلما كان نجاكم كبيرًا في إيجاد هذا الجيل وتكوين هذا الشباب كان نجاحكم باهرًا في دعوتكم ورسالتكم ومعلوم عند حضراتكم أن إنشاء الجيل الجديد أو تقويم الجيل المعاصر- الذي لم يفقد صلاحيته ونموه- ليس بالأمر الهين إنها مهمة لتنوء بالعصبة أولى القوة إنها تحتاج إلى تكريس الجهود وتركيز القوى على هذه الغاية والتفكير العميق الواسع والتعاون الشامل والتصميم الحكيم إنها تتطلب أساليب التربية الحكيمة العميقة الأثر وجهود عملية في ميدان الدعوة والإصلاح إنها تتطلب حركة التأليف والإنتاج الواسعة ومقدارًا كبيرًا من الابتكار إنها تتطلب وضع منهاج جديد على أساس جديد للدراسات ومثالاً جديدًا من المدارس والكليات والجامعات ومؤلفات ومنشورات جديدة في شرح الدين الإسلامي وعرض الفكرة الإسلامية وتأليفات جديدة في السيرة النبوية وتدوينًا جديدًا للتاريخ الإسلامي وسبكًا جديدًا للعلوم الإسلامية وتفسيرًا جديدًا للعلوم الكونية وتلقيحًا علميًّا جديدًا وطرازًا جديدًا للصحافة والأدب والروايات والشعر إنكم أيها السادة أمام أنقاض عقلية وركام بشري وخامات مهملة تبنون بها بيتًا جديدًا وتصنعون بها سفينة جديدة تمخر عباب الحوادث والموانع إنكم ستبدأون في عمل جديد وجهاد جديد يستغرق منكم وقتًا طويلاً ويستنفد جهودًا عظيمةً وذلك وإن كان عملاً شاقًّا طويلاً متعبًا مملاً متشعبًا ولكن لا بد من إنجاز هذا العمل ومن مواجهة هذه الحقيقة والتغلب على العقبات التي تعترض سبيلها.

هذه مزايا الدعوة النبوية أيها السادة ومزايا الدعوة التي تكون على قدم النبوة وواجباتها وبذلك تمتاز دعوتكم عن الحركات القومية والإصلاحات الاجتماعية والثورات السياسية والاقتصادية.

ومن هذه المنابع تستمد دعوتكم القوة والروح وتستحق من الله النصر وتجلب الرحمة فلنحافظ عليها محافظتنا على الشعائر والعقيدة ولنحرص عليها حرصنا على الحياة والقوة.

عندكم أيها السادة ثروة ضخمة من الصدق والإيمان والحب والإخلاص ليست عند الدول الكبيرة والأمم العظيمة عندكم أمانة مقدسة جدًّا أمانة القلوب التي تجتمع على حبكم وتدين بولائكم وتثق بقيادتكم هذه الأمانة التي خلفها لكم الإمام الراحل فأحسنوا القيام عليها واخلفوه فيها.

إن نكبة الدعوة بفقد داعيها الأول ومؤسسها العظيم كانت- من غير شك- نكبة عظيمة وخسارة فادحة ولكن كل نكبة أيسر وكل خسارة أهون من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصيب بها المسلمون بما لم يصب به جماعة أو فرد لشدة تعلق قلوبهم برسولهم صلى الله عليه وسلم واجتمعت لهم يومئذ مصائب لم تجتمع قبل ولن تجتمع بعد فلننظر كيف تلقاها الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

لقد أعد الله سبحانه وتعالى لهذه المرحلة القاسية والمحنة الشديدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم من قبل سنين فلما طار في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل سقط في أيديهم وفقد كثير منهم شعورهم وخذلتهم قواهم ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذه الصدمة ثم تحقق أن الشائعة كانت غير صحيحة ورسوله الله صلى الله عليه وسلم حي فانتعشت قواهم ولكن الله تعالى قد أعدهم في ذلك الوقت ليتلقوا نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صبر وجلد وربطهم بالدعوة، وذكر أن الداعي صلى الله عليه وسلم تجري عليه سنة الله في خلقه فيرحل عن هذا العالم كما رحل من قبله من المرسلين فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾ (آل عمران).

وكان ذلك فلما حدث برسول الله صلى الله عليه وسلم حادث الوفاة تماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق فما وهنوا وما استكانوا ولم ينقلبوا على أعقابهم ولم يخذلوا الإسلام ولم يخذلوا الدعوة واجتمعت على الإسلام محن وخطوب لم تجتمع من قبل ولن تجتمع من بعد "فقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة ونجم النفاق وارأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عددهم".

ولم يكن مسجد لله تعالى في بسيط الأرض إلا ثلاثة مساجد؛ مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس في البحرين في قرية جواثى وكثر المتنبئون ومنع الناس الزكاة وقصد المرتدون المدينة وسرح أبو بكر في هذه الحال جيش أسامة إلى الشام تنفيذًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته وكلمه في ذلك عمر وكبار الصحابة وأرادوا أن يمنعوه من ذلك فلم يمتنع، وقال: "لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".

استحضروا أيها الإخوان هول الموقف وغربة الإسلام وضعف المسلمين فقد أشرفت الدعوة الإسلامية على أثر وفاة نبيها صلى الله عليه وسلم على الانقراض واجتمع للمسلمين حادثان؛ حادث وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحادث ارتداد أمتهم وقومهم ولكن ذلك بالعكس أثار فيهم روح المقاومة والجهاد وألهب غيرتهم، وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: "أينقص الدين وأنا حي"، وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة فلم يحافظوا على وضع الإسلام وتراثه فقط بل فتحوا فارس والروم والإمبراطوريتين اللتين كانتا تحكمان العالم وأضافوهما إلى ثروة الإسلام جزاهم الله عن نبيه ودعوته وعن المسلمين خير ما جزى خلفاء الأنبياء وقادة الدعوة الإسلامية الأمناء الأقوياء.

وفي الأخير تفضلوا بقبول تحية صادقة من محب مخلص تجمعه بكم وحدة العقيدة الإسلامية وجامعة الفكرة الدينية على بعد الدار ومن وراء البحار ويتمنى لكم ولكل داعٍ مخلص ومجاهد صادق السداد والتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أبو الحسن علي الحسني الندوي