سنة أولى سجن

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سنة اولى سجن.jpg

بقلم/ الأستاذ مصطفى أمين


عصر العبور

اليوم نعبر أول خطوات الحرية – بعد أن عشت في ظلام السجن حوالي تسع سنوات.

ولا أستطيع وأنا أخطو إلى الهواء الطلق خطوتي الأولى-إلا أن أذكر الرجل الذي فتح لي باب الحرية وفتح قبل ذلك أبواب الحرية أمام مئات المعتقلين وأعاد العدالة لمئات القضاة ووفر لقمة العيش لآلاف من الذين وضعوا تحت الحراسة أو حرموا من وظائفهم.

من حق هذا الرجل أن يطلق على عصره «عصر العبور» عبور الجيوش المصري من الهزيمة إلى النصر .. وعبور الشعب العربي من الانقسام إلى الوحدة ..وعبور سمعة العرب من الهوان إلى الكرامة .. وعبور المظلومين من الظلم إلى العدل.. وعبور الخائفين من القلق والرعب إلى الطمأنينة والأمان والاستقرار.

وعبور المقيدين من الأغلال إلى حياة الأحرار..وسوف يعبر بعد هؤلاء كثيرون.

أن ستة أكتوبر أعطانا درسا عظيما وهو ماذا يستطيع الإنسان المصري أن يفعل وهو حر وبغير أن يعتقل فرد واحد أثناء المعركة سوى .. أسرى الأعداء..

مصطفى أمين

الحياة ... بلا قلم!

القلم ممنوع .. الورق ممنوع .. الحبر ممنوع!

وتنقلت بين عدة سجون سجن القبة ثم السجن الحرب في الصحراء مدينة نصر ثم سجن القبة مرة ثانية ثم سجن الاستئناف مرة أخرى ثم سجن ليمان طرة ثم معتقل القصر العيني وفي كل هذه السجون والمعتقلات كان يقال لي أن القلم ممنوع والورق ممنوع والحبر ممنوع.

وبلغ الأمر بالعقيد صلاح مكاوي مأمور ليمان طرة أن منع دخول ورق التواليت خشية أن أكتب عليه.

وفي بعض هذه السجون كانت الكتابة ممنوعة على الإطلاق وفي سجن ليمان طرة مثلا كانت الأوامر والتعليمات التي أصدرها وزير الداخلية بشأن معاملتي ألا يوضع ورق أو حبر أو قلم في زنزانتي وأن أضعها في مكتب ضابط العنبر وأن أكتب إلى أسرتي مرتين في مل شهر وألا يزيد كل خطاب عن نصف ورقة كراس وأن أكتب الخطاب في مكتب الضابط وفي وجوده!

وكنت مسجونا نموذجيا أطيع الأوامر والتعليمات مهما كانت سخيفة وجائرة وكل تعليمات السجن سخيفة وجائرة ولكن تعليمات وحيدة قررت أن أثور عليها وأخالفها وهي الخاصة بعدم الكتابة وذلك أن الكتابة بالنسبة للكاتب أشبه بالتنفس وكان معنى هذه التعليمات الجائرة أن أتنفس مرتين كل شهر!

وبدأت بمعاونة عدد من زملائي المسجونين عملية تهريب الورق والقلم ثم عملية تهريب الرسائل إلى أخي على أمين في لندن وصديق سعيد فريحة في بيروت وعدد من الصديقات والأصدقاء خارج السجن.

وكانت عملية خطرة وشاقة ومستحيلة وكان الذين يقومون بها يعرضون حياتهم للخطر ومستقبلهم للضياع .. وكنت أعتمد على المسجونين المظلومين.. فالمظلوم يتحول إلى شهيد والشهيد يجود بآخر قطرة من دمه في سبيل هدف يؤمن به...

وكان الهدف الذي نسعى إليه هو مقاومة الظلم، وخروج الحقيقة المسجونة إلى خارج الأسوار..!!

وحدث أن ضبط عسكري يهرب خطابا إلى مسجون سياسي في سجن أبو زعبل فقبض عليه وفصل من الخدمة وحكم عليه بالسجن مع الشغل كل ذلك من أجل خطاب واحد!

ولكن الرجال الشجعان الذين قاموا بهذه المهام الخطرة من أجلي ومن أجل عدد من المسجونين السياسيين لم يخافوا قط...

وكان بينهم مصريون وسوريون ولبنانيون وفلسطينيون..

وذات يوم ضبط حارس في ليمان طرة أحد المسجونين السوريين واسمه محمد نادر جلال وكان نادر يخفي في ملابسه خطابا مني مطلوبا تهريبه...

وحاول الحارس تفتيش المسجون السوري وخاف المسجون أن يقع خطابي في يد إدارة السجن فأسرع وأكل الخطاب وبذلك لم يعرف الضابط ولا الحراس أن الخطاب مني!

ووضعوه في التأديب أربعة شهور.. والتأديب هو أشبه «بالجب» لا يدخله الهواء ولا تدخله الشمس ويحرم فيه المسجون من كل ضرورات الحياة...

وضربوا نادر و عذبوه وهددوه ومع ذلك لم يفتح فمه، ولم يعترف بالسر الرهيب...

واستطعت خلال تسع سنوات أن أهرب إلى خارج السجن تسعة آلاف رسالة.

واستطاعت هذه الرسائل كلها أن تخترق الحصار المضروب، وأن تقتحم كل القيود المفروضة.

ولم تضبط منها رسالة واحدة!

وبعد أن خرجت من السجن حاولت أن أستعيد كل هذه الرسائل ووجدت أن بعض أصدقائي فزعوا من الرسائل وأحرقوها خشية أن تضبط في بيوتهم ولا ألومهم على ذلك فقد كان الفراعنة الصغار يعتبرون الرسالة من سجين سياسي أخطر من قنبلة.!

ولكن الأغلبية الكبرى من الرسائل بقيت سليمة والحمد لله.

واليوم أنشر بعض الرسائل التي كتبتها من السجن في السنة الأولى...!!

سنة أولى .. سجن!

مصطفى أمين

كل النساء أقوى من بعض الرجال!

سجن القبة..يوليو سنة 1965

عزيزتي...

عندما جاءوا للقبض علي في منزلي بالإسكندرية ورأيت الحراس يملأون حديقة المنزل تصورت أن الرئيس جمال عبد الناصر قد حضر لزيارتي!

ثم تصورت بعد ذلك أنه حدث انقلاب وأن رجال الانقلاب الجديد جاءوا يقبضون على لأنني واحد من المتصلين بالرئيس جمال عبد الناصر!

وعندما تبينت الحقيقة تصورت أن عملية القبض تمت بغير علم الرئيس عبد الناصر! وقد سبق أن قبض على مرة في أول الثورة ومرة أخرى بعد بضعة شهور منها، بدون علم الرئيس عبد الناصر وعندما علم في المرتين بأمر القبض علي وعلى أخي علي أمين أمر بإطلاق سراحنا ولكن عندما رأيت أن القوة التي جاءت تقبض علي صحبت معها مصورا لالتقاط صوري، تأكدت أن المسرحية مدبرة

ووضعوا القيد الحديدي في يدي وأركبوني سيارة خلفها وأمامها عدة سيارات فيها حراس من جهاز الأمن يحملون المسدسات والمدافع الرشاشة ومشى الموكب في الطريق الزراعي في طريقه إلى القاهرة.

وفي هذه الأثناء كنت أتجه بكل تفكيري إلى علي أمين أوجه إليه رسالة غير مكتوبة أحاول أن أنقلها بروحي إلى روجه كنت أقول له طوال الطريق «احذر أن تعود إلى القاهرة ! ابق في لندن وجودك في لندن سوف يفيدني مادمت مطلق السراح فلن يستطيعوا قتلي أما إذا عدت فسوف يقبضون عليك سوف يهددونك بي، وسوف يهددونني بك، لا تصدقهم إذا قالوا لك أنني أريد أن تحضر لا تصدقني إذا وجدت خطابا مني أطلب منك فيه الحضور سأكتب مثل هذا الخطاب وأنا مرغم على كتابته! لا تحضر! لا تحضر! لا تحضر» .

وبعد ساعة خيل إلي أن الرسالة غير المكتوبة وصلت إلى علي أمين في لندن، وأنه سمع صوتي، وأنه لن يحضر إلى القاهرة مهما استدعوه أو ألحوا عليه..

ثم وجدتني بعد ذلك أستغرق في تفكير غريب!! أنهم ما داموا قد قبضوا علي فسوف يقبضون بعد ذلك على عبد الحكيم عامر! لا أعرف متى سيقضون عليه! ولا ما هي التهمة التي سيوجهونها إليه ولكن شعورا داخليا يؤكد لي أنه الضحية التالية!!

وعندما وصلنا إلى مشارف القاهرة، وضعوا عصابة سوداء فوق عيني ثم سحبوني إلى داخل بناء المخابرات ورفعوا العصابة عن عيني وصافحني وقال لي أن الرئيس هو الذي أصدر الأمر بالقبض علي... وقد عرفت أنهم قبضوا على سائقي الأسطى إبراهيم والسفرجي توفيق توفيق وصادق الذي يشرف على المنزل وأنور وضربوهم وعذبوهم وطلبوا منهم أن يدلوا باعترافات على أشياء لم تحدث ومكثوا في سجن المخابرات مدة طويلة!

وضحكت عندما علمت أن المخابرات العامة قدمت بلاغا للنائب العام بعد القبض علي قالت فيه أنني أؤلف عصابة من إبراهيم صالح و مصطفى سنان و محمود عوض المحررين في أخبار اليوم، وأن مهمة هذه العصابة خدمة أمريكا، وتقديم أسرار البلد لها!

وعرفت من بعض أفراد فرق الأمن في المخابرات أنهم فتشوا بيتي في الزمالك وذهلوا عندما وجوا جوازي سفر دبلوماسيين صرفهما لي وزير خارجية مصر، ومكتوبا عليهما أنني مكلف بمهمات رسمية لدى حكومة الولايات المتحدة وقال الحارس أنه ذهل من أن وزير خارجية مصر يكلفني بمهمات رسمية ويصرف لي جوازين دبلوماسيين والصحف والإذاعات تقول أن حكومة مصر لم تكلفه بأية مهمة!

وقال لي أحد أفراد الأمن أنه كان مع القوة التي ذهب إلى مكتبي في أخبار اليوم وأنهم اكتشفوا وجود خزانة سرية حديدية وأنهم تصوروا أنهم عثروا على كنز! وجاءوا بخبراء في فتح الخزائن وفتحوا الخزانة ولم يجدوا فيها أي شيء!!

وعلى الرغم من تكتمهم التحقيق إلا أن خبرتي الصحفية ساعدتني كثيرا على أن أعرف ما حاولوا كتمانه من أسرار التحقيق وكنت ألاحظ من عصبيتهم معي، ومن ضيقهم بي، ومن المعاملة القاسية، ومن التعذيب المستمر أنهم لم يستطيعوا أن ينجحوا في عملية التلفيق كما يريدون! وأن الشهادات التي أدلى المقبوض عليهم الذين هددوهم وعذبوهم كانت معي وليست ضدي.

وقد استدعوا سكرتيرتي زينب النحاس، وهددوها وتوعدوها وأبقوا ساعات طويلة وحاولوا أن يرغموها على أن تدعي علي بأشياء لم تحدث ولكنها صمدت لكل هذه المحاولات وأبت أن تكذب!

وعندما هددوها بأن يأخذوها إلى غرف التعذيب سخرت من هذا التهديد.

واستدعوا عددا من محررات أخبار اليوم، وانهالوا عليهن بالتهديد ثم طلبوا منهن أن يتعاون معهم، وأن تدعى كل واحدة أنني كلفتها بمهام سرية... وقالت المحررات بشجاعة ونحن لا يمكن أن نتهم بريئا وقالوا لهن أن موقفهن هذا سوف يكلفهن وظائفهن في أخبار اليوم بل هددوهن بالدخول في السجن.. .وقالت كل واحدة منهن أنها تفضل دخول السجن على أن تتهم أستاذها كذبا...

واستدعوا شادية من الإسكندرية وأثار حضورها ضجة في بناء المخابرات!

وفوجئوا عندما قالت لهم شادية أنها لم تر وجهي منذ أكثر من عام وألحوا على شادية بالأسئلة ولكنها رفضت أن تقول كلمة ضدي..

وقالت لهم: أنا لن أقول إلا الحقيقة!

وجاءوا إلي وهم يشتمون شادية لأنها رفضت أن تتعاون مع التحقيق لأنها رفضت أن تشترك في حملة الاختلاق والتزييف.

وكان صمود النساء يزعجهم ويثير أعصابهم فقد كانوا يتوهمون أن جو الإرهاب الذي يحيطون به كل سيدة يسألونها سوف يجعل السيدة تنهار وتوافق على أن تشهد بالتلفيقات التي يريدون منها أن تقولها!

كل النساء كن أقوى من بعض الرجال! ...

يكبرون الله ويذبحون البشر

سجن القبة .. يوليو سنة 1965

عزيزتي...

كان من بين رسائل التعذيب التي لجأوا إليها أن صدر قرار بمنعي من الأكل والشرب والحرمان من الأكل مؤلم ولكنه محتمل الجسم يتحمل الجوع ولكن العطش عذاب لا يحتمل خاصة أننا في أواخر شهر يوليو الحرارة شديدة قاسية وأنا مريض بالسكر ومرضي السكر يشربون الماء بكثرة..

وفي اليوم الأول تحايلت على الأمر دخلت إلى دورة المياه فوجدت فيها إناء للاستنجاء وشربت من مياه الاستنجاء...

وفي اليوم التالي فوجئت بأنهم عرفوا أنني شربت ماء الاستنجاء فوجدت الإناء خاليا ووجدت معه ورق التواليت واضطررت أن أشرب م ماء البول حتى ارتويت.

وفي اليوم الثالث لم أجد بولا لأشربه!

الجوع لمدة ثلاث أيام أمر محتمل أما العطش فهو عذاب مثل ضرب السياط كنت أسر في زنزانتي كالمجنون الحر في شهر يوليو مؤلم لساني جف حلقي جف أحيانا أمد لساني وألحس الأرض لعل الحارس نسي نقطة ماء وهو يغسل البلاط. وبينما أنا أدور حول نفسي وأنا أترنح ورأيت باب الزنزانة يفتح في هدوء ورأيت يدا تمتد في ظلام الزنزانة تحم كوب ماء مثلج.

فزعت تصورت أنني جننت بدأت أرى شبحا يمكن أن يكون هذا ماء أنه سراب تماما كالسراب الذي يرونه في صحراء .. تذكرت ما قاله لي أحمد حسنين باشا الذي اكتشف واحة الفرافرة في صحراء ليبيا كان إذا اشتد بهم العطش رأوا أمامهم الماء، وأسرعوا إليه وارتموا على المكان فوجدوه رملا هذا هو السراب ولكنه ليس في الصحراء وإنما هو في سجن المخابرات.

وما لبثت أن وجدت أن الكوب حقيقي ومددت يدي ولمست الكوب فوجدته مثلجا فعلا وقبضت على الكوب بأصابعي المرتعشة ورأيت حامل الكوب يضع إصبعه على فمه وكأنه يقول لي لا تتكلم.

وشربت الماء ... ألذ ماء شربته في حياتي لا أعرف طعم الشمبانيا ولكن الماء المثلج أسكرني.. ولو كان معي مليون جنيه في تلك اللحظة لأعطيتها للحارس المجهول...

عادت الروح مع هذا الكوب عاد الدم يجري في عروقي عاد عقلي إلى رأسي.. هذا الماء غسلني من الداخل أعاد البصر إلى عيني أحسست بقوة غريبة أغناني الماء عن الطعام بل أغناني عن الحرية أحسست بسعادة لم أعرفها طول حياتي كل ذلك من أجل كوب ماء مثلج.

ثم اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة وأغلق باب الزنزانة بهدوء!

ورأيت ملامح الحارس المجهول شاب أسمر قصير القامة ولكني أحسست أنه ملك الجمال أنه أحد الملائكة شعرت في بعض اللحظات أن اليد التي حملت كوب الماء البار د ليست يد بشر إنها عناية الله أحسست براحة غريبة أنني رأيت عناية الله في الزنزانة لعل هذا هو السبب الذي جعل أحد الزبانية يقول أن الله مسجون في الزنزانة المجاورة لي لا أن الله موجود في كل مكان –في زنزانتي أنا!

ومضت أيام التعذيب دون أن أرى الحارس المجهول.. ثم نقلت من غرفة التعذيب في الدور السفلي إلى غرفة ملحق بها صالون نعم صالون في سجن المخابرات!

وكانوا يغيرون الحراس كل يوم ..وذات يوم رأيت أمامي الحارس المجهول.. وكنا على انفراد وقلت له هامسا: لماذا فعلت ما فعلت؟

لو ضبطوك كانوا سيفصلونك!

قال باسما: يفصلونني فقط.. ؟ كانوا سيقتلونني رميا بالرصاص!

قلت: ما الذي جعلك تقوم بهذه المغامرة!

قال: إنني أعرفك وأنت لا تعرفني.. منذ تسع سنوات تقريبا أرسل فلاح في الجيزة خطابا لك يقول فيه أنه فلاح في أحد القرى وأن أمنية حياته أن يشتري بقرة وأنه مكث سنوات يقتصد في قوته وقوت عياله حتى جمع مبلغا ثم باع مصاغ زوجته واشترى بالمبلغ بقرة.

وكان أكثر أهل القرية تقي وورعا وصلاة وصياما وبعد ستة أشهر فقط ماتت البقرة!

مع أن جميع البقر الذي يملكه الفلاحون في القرية الذين لا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون الله بقي على قيد الحياة!

وفي ليلة القدر بعد ذلك بشهور دق باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح ودخلت محررة من «أخبار اليوم» تجر وراءها بقرة!

وكانت أخبار اليوم قد اعتادت أن تحقق أحلام مئات من قرائها في ليلة القدر من كل عام...

وسكت الحارس المجهول ثم قال:

هذا الفلاح الذي أرسلتم له البقرة منذ تسع سنوات هو أبي !!

ألم أقل لك أن عناية الله كانت معي في الزنزانة؟!

ملك التعذيب

السجن الحربي ..

عزيزي...

دخل الفريق حمزة البسيوني قائد السجن الحربي إلى الزنزانة التي كانوا يعذبونني فيها في سجن المخابرات... ووقف يتفحصني وهو يراني عاريا تماما وأنا مصلوب على جدار الزنزانة والضربات والصفعات تنهال على وثلاثة من الضباط ينتزعون شعر جسدي...

ثم قال الفريق:

لا .. لا .. لا .. أنتم تدلعونه هنا هاتوه لي في السجن الحربي ليرى التعذيب الحقيقي!

وأسرعوا يفكون قيودي وينزلونني من الصلب ويساعدونني على ارتداء ملابسي كانوا مبتهجين وهم يفعلون هذا وكأنهم يعدون عروسا لليلة الزفاف!

ووضعوا عصابة سوداء على عيني وساقوني خلف الفريق حمزة البسيوني إلى سيارة جيب قادها الفريق وأجلسني بجواره، وخلفي جنود بالمدافع الرشاشة!

وطول الطريق من سجن المخابرات إلى السجن الحربي والفريق حمزة البسيوني يهدد ويتوعد ويقول لي أنه يتسلم المسجونين بغير إيصال وهو ليس مسئولا عن تقديمهم إلى المسئولين على قيد لاحياة ولا يحاسبه أحد على الجثث وأنه دفن كثيرا من المسجونين السياسيين في صحراء مدينة نصر، وأنه كما دفن مسجونا سياسيا تلقى خطاب شكر وكان يقول لي مزهورا: أنا في السجن الحربي القانون والنيابة والمحكمة وعندما وصلت السيارة الجيب إلى السجن الحربي اصطف الحراس لتحية القائد الذي جاء لهم بالذبيحة ..أسير الحرب الجديد!

ووضعوني في زنزانة صغيرة ثم أحضر الفريق حمزة البسيوني كلبين ضخمين وتركهما يندفعان نحوي وكان الدم يسيل من فمي الكلبين وأمر الفريق البسيوني فاندفع الكلبان مرة أخرى وراحا ينهشان ملابسي..

وانهالت على رأسي الضربات واللكمات والصفعات والفريق البسيوني يزأر ويقول «اعترف! اعترف! وإلا فسوف أقتلك هنا! » تذكرت في هذه اللحظات صورة أخرى يومئذ تختلف كثيرا عن صورة الأسد الهصور الذي وقف أمامي وأنا مقيد بالسلاسل والأغلال.

كان ذلك في خريف عام 1963 دخل اللواء حمزة البسيوني مدير السجن الحربي إلى غرفة مكتب الرئيس جمال عبد الناصر في داره بضاحية منشية البكري في القاهرة ووقف رئيس الجمهورية لاستقبال الضابط الكبير وفوجئ الرئيس بحمزة البسيوني ينبطح على وجهه ويرتمي على قدمي الرئيس وهو يحاول أن يقبل حذاء الرئيس وكان ينتحب ويشهق ويبكي حتى بللت دموعه حذاء الرئيس!

وذهل الرئيس ومد يده ورفع وجه اللواء حمزة البسيوني الذي كان يتمرغ على الأرض وقال له:

ماذا تفعل يا حمزة؟ أنسيت أنك لواء في الجيش!

قال حمزة وهو لا يزال ينتحب ويرتجف ويحاول أن يقبل يد الرئيس والرئيس يسحب يده من شفتي اللواء سمعت من المشير أن سيادتك حكمت علي بالإعدام!

قال الرئيس في دهشة: أنا لم أحكم عليك بالإعدام أن كل ما قلته للمشير عبد الحكيم عامر هو أن ينقلك من منصب قائد السجن الحربي إلى منصب أخر في الجيش يليق برتبتك العسكرية.

قال حمزة البسيوني في صوت متهدج:

- معنى هذا هو حكم بإعدامي معناه أن أضرب في اليوم التالي بالرصاص.

- من الذي سيضربك بالرصاص!

- كل الناس تكرهني لإخلاصي للثورة كل أعداء الثورة يكرهونني كل الوفديين كل الشيوعيين كل الإخوان المسلمين كل من دخل السجن الحربي!

وطلب الرئيس من اللواء حمزة البسيوني أن يعود إلى عمله حتى يبحث الأمر مع المشير عبد الحكيم عامر وحاول حمزة وهو يجهش بالبكاء أن يقبل حذاء الرئيس مرة أخرى ودفعه الرئيس وقال له في غضب لو فعلت هذا مرة أخرى فسوف أصدر قرارا بإحالتك إلى المعاش.

وسارع أصدقاء حمزة البسيوني في مراكز القوى وكلهم شاركوا معه في عمليات التعذيب يتوسطون لحمزة لإلغاء قرار نقله من السجن الحربي، لأنه سوف يطلق على نفسه الرصاص لو خرج من السجن الحربي لأنه يؤمن بأنه سوف يقتل بعد 24ساعة من خروجه من منصبه الخطير!

وبقي حمزة البسيوني مديرا للسجن الحربي ومديرا لجميع السجون الحربية!!

وتنتقل الكاميرا إلى منظر أخر في عام 1965.

ضحايا التعذيب في الزنازين يضمدون جراحهم أجسام مصلوبة.. وجوه شوهتها سياط الزبانية ظهور مزقتها الكرابيج التي استحضرت من السودان على ظهر طائرة خاصة جثث المسجونين تحمل في الظلام وتدفن في الصحراء المجاورة للسجن رؤوس مفتوحة أسنان مقلوعة بقع الدم تغطي كل جدران الزنازين صراخ وأنين وعويل كلاب تعوي وقد امتلأت أفواهها بالدماء.

اللواء حمزة البسيوني يدخل إلى زنزانة فيها شاب غارق في دمائه ويقول له:

سمعت أنك كنت مهندس مباني!

- نعم

- سوف أوقف تعذيبك إذا وضعت لي رسوم بيت جميل أقيم فيه في السجن بدلا من بيتي الحالي.

- حاضر

- وإذا لم تعجبني الرسوم أصدرت أمري باستئناف التعذيب !

- ويطلب الشاب المهندس ورقا وأقلاما ويبدأ في رسم قصر صغير يقيم فيه ملك التعذيب وينتهي المهندس من الرسم. ويعجب ملك التعذيب بالتصميم ولكنه يعترض على أن ورق التصميم قذر فإنه ملطخ بدم بعض المعذبين وعلى رأسهم المهندس!

- ويصدر أمر ملك التعذيب بأن يشترك جميع المسجونين السياسيين في بناء القصر ويقبل المسجونون السياسيون على العمل المتواصل بالنهار والليل بغير انقطاع أنها الطريق الوحيدة ليفلتوا بها من سياط ملك التعذيب ولم يحدث في تاريخ البناء في العالم ما حدث في بناء القصر الصغير الذين كانوا يحملون على رؤوسهم التراب والأحجار لم يكونوا عمالا كانوا أطباء ومحامين وأساتذة في الجامعة ومعلمين وتجارا وكان بينهم أستاذان في الطاقة الذرية وطبيب بيطري وبعض رجال الدين!

وتم بناء القصر في سرعة مذهلة كان المسجونون يريدون أن يتباطأوا لكي يطيلوا مدة «الراحة» من التعذيب ولكن السياط في أيدي الحراس كانت تضطرهم إلى مضاعفة جهودهم وعندما انتهى بناء القصر أمر ملك التعذيب ببناء «دشم» حول القصر لتنصب عليها المدافع والرشاشات والسواتر حتى تحول القصر إلى شبه قلعة مسلحة! كان حمزة البسيوني يخشى دائما أن ينقض عليه المسجونون الذين عذبهم وخلع أظافرهم ومزق أجسادهم بالسياط ولهذا كان يحتفظ في غرفة نومه دائما بعدد من القنابل اليدوية ويضع تحت فراشه عددا من المدافع الرشاشة ويضع تحت وسادته مسدسين متعددي الطلقات

وتنتقل الكاميرا إلى منظر أخر في عام 1967

نكسة 5 يونيو الرئيس عبد الناصر يصدر قرارا بالقبض على اللواء حمزة البسيوني وإحالته إلى المعاش.... فجأة ينطلق جميع المسجونين السياسيين من زنازينهم وينقضون على القصر الذي بنوه بدمهم ودموعهم وعرقهم وبسرعة مذهلة يحولون القصر الشامخ إلى أنقاض!

وقد كان حمزة البسيوني سعيد الحظ لأنه لم يكن في القصر ولا في السجن وإلا لمزقه المسجونون...

فقد قرر أن يسجن مدير السجن الحربي في معتقل القلعة...

وتنتقل الكاميرا إلى ما قبل ذلك بسنوات وأترك أحد زملائي في السجن الحربي يروي ما كان يحدث لنا... كانت القاهرة منذ عام 1954 تتحدث همسا عن «الأوبرج» كان الناس يقفلون أبوابهم ثم يطلقون من النافذة ليتأكدوا أن أحد لا يسترق السمع ثم بعد أن يتأكدوا أن الجدران ليس لها آذان يتحدثون عما يحدث من أهوال لكل من تطأ قدماه عتبة «الأوبرج» وعرفنا يومها أن «الأوبرج» هو الاسم الذي يطلقونه على السجن الحربي وسمعنا فيما سمعناه أن أي متهم يسوقه سوء الحظ إلى «أوبرج حمزة البسيوني» ولو لأيام معدودة تقام له حفلة استقبال وهذه الحفلة عبارة عن أن يعلق كالذبيحة تكريما واحتفاء بمقدمه تكريما واحتفاء بمقدمه السعيد ثم ينهال عليه السياط والصفعات واللكمات وأقذر الشتائم والسباب!

وساقني القدر في منتصف ليلة سوداء لأدخل الأوبرج وكان في استقبالي اللواء حمزة البسيوني مدير السجون الحربية والمؤسس للائحتها وملكها المتوج، والخبير العالمي في شئون التعذيب والإرهاب!

واستقبلني ومعه «ميمي» و «ليلي» وهما الكلبان المعدان لاستقبال النزلاء من المسجونين السياسيين والترحيب بهم وكان ميمي يمتاز بنابيه البارزين اللذين يبقيان في خارج فمه إذا أغلق فمه!

والتف الكلبان بي ينهشان لحمي ويمزقان ملابسي ثم صحبني اللواء إلى زنزانة في المعتقل رقم 2 وعاد يطلق على الكلبين يمزقان في لحمي بأنيابهما ومخالبهما وقد علمت بعد ذلك أن كلاب حمزة البسيوني كلها مدربة على تمزيق أي إنسان يشير إليه ملك التعذيب أو أحد زبانيته ثم أمر حمزة البسيوني بإشارة من يده للكلبين أن يتوقفا عن تمزيق ملابسي ونهش لحمي وأطاع الكلبان في الحال ثم أمر بإحضار مائدة ومقعد وطلب مني كتابة تاريخ حياتي منذ أن كنت طفلا وقال لي ملك التعذي سيحضر لك الحارس كل نصف ساعة ويأخذ منك ورقة فولسكاب مكتوبة فإذا تباطأت أو لم تملأ الورقة فسوف يضربك الحرس ويطلق عليك الكلاب كان منظر اللواء حمزة البسيوني مخيفا أكثر من منظر الكلبين «ميمي » و «ليلي» كان طويل القامة له شاربان ضخمان عيناه يتطاير منها الشرر شفتاه غليظتان كشفتى الضبع يتقلب وجهه بصور متعددة.. يبدو أحيانا بصورة الثعبان ويبدو أحيانا بصورة الوحش المفترس وفي خطوط وجهه قسوة وشراسة وعنف وبطش وفي وجهه ندبة تشوه وجهه وتجعله أشبه بشيطان أنطلق من عقاله في صوته مزيج من فحيح الأفعي وعواء الذئب!

وقبل أن يغادرني ملك التعذيب التفت إلى وقال:

إذا لم تكتب كل شيء فلن تخرج من هذا المكان حيا لن تكون أول ولا أخر من أدفنه هنا!

نطق هذه الكلمات ببساطة غريبة كأنه يدعوني لتناول العشاء على مائدته أو يدعوني لأذهب معه إلى السينما.

وخرج من الزنزانة يتبعه «ميمي» و «وليلي»!

وجلست إلى المائدة أكتب ما أذكره على نفسي بلا نوم بلا طعام بلا كوب ماء وكلما تعبت من الكتابة رأيت أحد الزبانية يرقبني والسوط في يده فأعود إلى الكتابة من جديد مكثت أكتب 48 ساعة متواصلة فرغ مني الكلام توقف عقلي عن التفكير ولكني لم أستطع أن أتوقف عن الكتابة رغبا من كرباج الحارس وأخذت أملأ الورقة بعبارة واحدة هي والله العظيم مظلوم» وساعدني على ذلك أن الحارس الذي كان يأخذ مني الورقة أمي لا يقرأ ولا يكتب وشجعني على ذلك أنني لاحظت أن الحارس كان ينظر إلى الورقة وهي مقلوبة ثم يقول لي «كويس ! كويس كده أكتب كمان»

واكتب «كمان» وفي صباح اليوم الثالث حضر حمزة البسيوني ملك التعذيب وكنت كتبت أوراقا لا أعرف عددا أغلبها صفحات كاملة كررت فيها جملة «والله العظيم مظلوم» وفوجئت بحمزة البسيوني يشكرني على أنني تعاونت معه. وكدت أظن أنه الآخر أمي لا يقرأ ولا يكتب ثم علمت أنه اكتفى بإحصاء عدد الصفحات التي كتبتها دون أن يقرأها!

وسألني ملك التعذيب هل أكلت شيئا؟

وقلت له أنني لم أكل شيئا لمدة 48 ساعة ولم أشرب نقطة ماء طوال يومين!

وأمر بإحضار طعام وماء وقطعة من بطانية ثم قال:

- الآن يمكنك أن تأكل وتشرب وتنام!

- وأكلت سريعا وشربت ماء الجردل كله، ثم استلقيت على بقايا البطانية ونمت نوما عميقا ولم أحس من شدة الإرهاق بجروحي ولا أثار الضرب!

وفي المساء صحوت من نومي فزعا على ركلة حذاء قدم الشاويش في بطني والتفت الشاويش إلي أحد الحراس وقال له:

-عليك أن تفوق «البيه» !

وانهال على الحارس بعدد من الصفعات واللكمات والركلات حتى أفقت تماما ثم صحبوني إلى مكتب اللواء حمزة البسيوني حيث وجدت رجال صلاح نصر في انتظاري والأرض تحت أقدامهم مليئة بأكوام الورق الذي كتبته! وقام أحدهم وصفعني على وجهي صفعة شديدة وقال ساخرا!

-أنت كاتب لنا قصة حياتك يا ابن الكلب.

وقبل أن أفتح فمي وأقول لهم أن اللواء حمزة البسيوني هو الذي أمرني أن أكتب قصة حياتي انهالت على الضربات والصفعات والركلات وسقطت على الأرض مغمي علي وحملوني إلى زنزانتي بين الموت والحياة!

واستمر التعذيب اثنى عشر يوما استمر بالليل والنهار!

وفي اليوم الثاني عشر أخذوني ليلا إلى مكتب اللواء حمزة البسيوني ووجدته في انتظاري مع عدد من ضباط صلاح نصر وأمر كبيرهم أن أخلع ملابسي كلها ووقفت أمامه عاريا تماما فأخذ يديرني في كل اتجاه ليرى أثار التعذيب على جسمي!

ثم التفت إلى حمزة البسيوني قائلا:

- لا يا حمزة بك .... أنتم دللتموه جدا!

- وهنا هوى الشاويش المصاحب لي بالسوط الذي يحمله على صدري في صربة أراد أن يثبت بها لكبير رجال صلاح نصر أنهم لا يدللونني وقد ظللت أتألم من هذه الضربة لمدة عام كامل!

وكانت مصدر عذاب أليم لي أثناء نومي!!

وصاح اللواء حمزة البسيوني:

- لا حرام لا تضربوه! هات «لاكي»!

ولم أعرف من هو«لاكي» وظننت في أول الأمر أنه طبيب أو ممرض أرسل حمزة البسيوني في استدعائه ليضمد جراحي ودهشت أن ينقلب الوحش إنسانا وملك التعذيب آدميا ووقفت أتألم من ضرب السوط وخيم الصمت على كل من في المكتب في انتظار قدوم «لاكي» وبعد دقائق رأيت هولا رأيت أمامي شيئا لم تصدقه عيناي رأيت أمامي كلبا هائلا!

لم أر في حياتي كلبا في مثل هذا الحجم ولا هذه البشاعة كلبا في حجم الحمار الضخم لقد رأيت في حياتي كلابا كثيرة من أنواع مختلفة ولكني لم أر مخلوقا بكل هذه البشاعة والوحشية كان يبدو كالوحش المفترس دخل «لاكي» وهو يسد الباب بجسمه الضخم وهنا أشار إليه الشاويش على بطرف السوط فقفز «لاكي» نحوي مهاجما وصرخت صرخة ملؤها الرعب والفزع واحتميت خلف مقعد يجلس عليه أحد ضباط صلاح نصر وهجم الكلب على المقعد ونالت أظافره من أقدام الضباط الذي قفز في فزع وقال للشاويش في لهجة هستيريا «طلع الكلب ده بره» !

وخرج الكلب بعد أن أحدث ارتباكا وفزعا بين الموجودين وأخيرا أمسك بي كبير ضباط صلاح نصر من كتفي وقال: -اسمع بشرفي إن لم تكتب الاعتراف فسنأتي بخطيبتك إلى هنا وسأجعلها تخلع ملابسها مثلك وسأعطيها للحراس يضاجعونها أمام عينيك!

وانهرت أمام هذا التهديد وقلت أنني مستعد أن أكتب ما يملوه علي!

وكانت حصة إملاء!

هم يملون وأنا أكتب! أشياء لم تحدث كتبتها بغير اعتراض أحداث لم تقع أكاذيب واضحة كل هذا كتبته كما أملوه حتى النقط حتى أول السطر حتى الأغلاط في اللغة العربية!

وبعد أن انتهيت من كتابة «الاعترافات» المطلوبة صدر الأمر بعدم ضربي أو تعذيبي لأن التحقيق انتهى!

وفعلا أخذوني إلى زنزانتي وكف الحراس عن إيذائي وتعذيبي ولم يعد الكلاب تزورني في مواعيد محددة!

ولكن بعد يومين اثنين فوجئت بباب الزنزانة يفتح ويدخل شاب صغير في حوالي الخامسة عشرة من عمره ومعه الشاويش يحمل الكرباج في يده، ومعهما الكلبة ميمي والكلبة ليلي!

وسألني الولد الصغير في تعالي عن اسمي وسبب وجودي ثم نظر إلى الشاويش وقال له «سخنه» وانهال علي الحارس بالسوط ضربا ثم أشار إلى «ميمي» و «ليلي» فهجمتا علي ومزقتا ملابسي ونهشتا لحمي من جديد!

وكنت أبكي وأصرخ والولد الصغير يضحك ويقهقه ويقول «سخنه. ...كمان» ثم أقفلوا علي باب الزنزانة وهويت على الأرض أجفف جروحي وأمسح دمي، وفجأة سمعت صراخا ثم سمعت ضحكا في الزنزانة المجاورة وصوت السياط وهي تهوي وأجساما تقع على الأرض والكلاب تعوي! وتكرر صوت السياط وصوت الصراخ وصوت الضحك وصوت العواء ! وعرفت أن «البيه الصغير» دخل كل زنزانة في العنبر، وأصدر نفس الأوامر بالضرب ونهش الكلاب وتساءل المسجونون السياسيون من هو هذا «الولد الصغير» الذي يباح له دخول السجن الحربي ويصدر أوامره بجلد المسجونين السياسيين وبأن تعضهم الكلاب وعرفنا سر «البيه الصغير» أنه ابن أخت اللواء حمزة البسيوني ملك التعذيب ويدعى موسى وكان طالبا في الإعدادي وكان يأتي للسجن الحربي للترفيه عن نفسه بضرب المسجونين وبتعذيبهم وكان يأمر وينهى وكان الحراس يطيعونه طاعة عمياء.. لأنه ابن أخت صاحب الجلالة ملك التعذيب!

وعرفنا عندئذ معنى المثل الشعبي الذي يقول «الولد لخاله»

وبعد أيام أصدر ملك التعذيب أمره بنفي إلى المعتقل رقم 3 وبعد ظهر نفس اليوم سمعت ضوضاء عالية وصوت أقدام كثيرة ولم أعرف من هم نزلاء الأوبرج الجديد إلى أن أحضر لي الحارس وجبة العشاء وسألته عن السكان الجدد فقال أنهم الشيوعيون.

وفي اليوم التالي علمت من الحارس أن اللواء حمزة البسيوني أمر بضرب الشيوعيين «علقة» يوميا طوال مدة التحقيق!

وكان ملك التعذيب يختار زبانيته بشروط معينة أولها الأمية وثانيها الغباء وثالثها ضخامة الأجسام ثم يلحقهم بغرفة خاصة اسمها «غرفة الإجرام» يتدربون فيها ثلاثة شهور على القسوة والوحشية وكيفية استخدام الكرباج.

وكان الكرباج الذي يستعمله الزبانية عبارة عن أسلاك كهربائية مجدولة ومكسوة بالقماش وكانت قطعة القماش ممزقة من كثرة الاستعمال وتآكل طبقة الكاونشوك العازلة فيظهر منها أسلاك رفيعة كالإبر، تمزق الجلد وكأنها لسعات النار.

وكان القانون الذي يحكم هؤلاء هو قانون حمزة البسيوني وكان من صاحب الرتبة الأعلى أن يضرب بالسوط صاحب الرتبة الأقل دون الرجوع إلى أي مسئول وحسبما يتراءى له وكثيرا ما رأينا الشاويش الرقيب يأمر الأومباشي العريف أن ينام على الأرض ويرفع ساقية مثل أي مسجون ثم ينهال عليه ضربا مبرحا وهو بذلك يمارس حقا أعطاه له حمزة البسيوني وكذلك يفعل العريف بوكيل العريف ووكيل العريف بالجندي البسيط وهكذا.

وكان حمزة البسيوني يستقبل فرق الإجرام بعد تخرجها ويخطب فيها قائلا.

- عندما يصدر لك الأمر بضرب مسجون مائة جلدة فمعنى ذلك أن تضربه مائتي جلدة وعندما يصدر لك الأمر بأن تضربه خمسين سوطا فمعنى ذلك أن تضربه مائة سوط لا تخف إذا مات المسجون بين يديك وأنت تضربه لو حدث ذلك فسوف أعطيك ترقية استثنائية.

أصدر اللواء حمزة البسيوني أمره بضرب جميع الشيوعيين الموجودين في السجن وكانوا مسجونين في الطابق العلوي وكنت أقيم في الطابق الأرضي ودخل الزبانية زنازين الشيوعيين وانهالوا عليهم ضربا وصفعا وركلا وتعذيبا ولما انتهوا من حملة التعذيب فوجئت بالحارس حامل الكرباج يدخل ومعه أحد الكلاب وأسرعت أؤدي له التحية العسكرية ضاربا بقدمي بكل شدة طبقا لما أمروني به أن أؤدي التحية العسكرية لكل شرطي يدخل زنزانتي حتى لو كانت الكلبة «ميمي» ولدهشتي سألني : هل أنت شيوعي ؟

- لا يا فندم!

- أنت شيوعي!

- أ، تهمتي أنني قلت نكتة!

- يعني شيوعي!

- شيوعي يا أفندم وأمري لله!

- إذن أنت تعترف أنك كنت ستقتل الريس!

- أقتل الريس؟ أنا لم أره طول حياتي!

- أخرس يا كلب أنت كنت عاوز تقتل الريس نم وارفع ساقيك!

سأضربك عشرين سوطا وإذا قلت «آه» يصبحوا أربعين سوطا وإذا قلت «آه» وإذا قلت «آه» يبقوا ثمانين! واحتملت العشرين سوطا دون أن أجرؤ على التأوه وكان الكلب ينهش في جسدي ولا أستطيع أن أفتح فمي! ثم انتقل الحارس لي بقية الزنزانات الأخرى يضرب المستقلين ويضرب الإخوان المسلمين ويضرب أنصار الأحزاب السابقة وعبثا يقولون له أنهم غير شيوعيين وانهم ضد الشيوعية!

فالحارس الجاهل لا يعرف معنى الشيوعية ولا الاشتراكية ولا الأحزاب كل من هو في زنزانة هو شيوعي ما دام الأمر صدر بضرب الشيوعيين!

واستمر ضربي طوال فترة ضرب الشيوعيين وعندما أفرج عنهم ضربوني مع الإخوان المسلمين.

بقيت في السجن الحربي شهرين ونصف شهر وأسرتي لا تعرف أين أنا ولا أنا حي تزوره ولا ميت تبكيه ويدور أهلي على كل في الجهات يسألون عني فيكون الجواب الوحيد «لا نعلم عنه شيئا» واستطعت أن أهرب خطابا إلى أهلي وأخبرتهم أنني مسجون في السجن الحربي وحضرت أسرتي إلى السجن الحربي وطلبوا زيارتي فقال لهم اللواء حمزة البسيوني أنه لا يوجد عنده سجين بهذا الاسم واستطاعت أسرتي بعد إصرار وإلحاح أن تزورني في عيد الأضحى كان حمزة هو الملك!

وكلاب السجن هم أصحاب السمو الأمراء! فقد كان بالمعتقل رقم 3 مجموعة من الكلاب أكبرها «لاكي» والعياذ بالله وكان عمره 12 سنة وكان هناك «ركس» الذي يعتز به حمزة البسيوني لأنه أقوى الكلاب وأكثرها فتكا وشراسة والكلبة «عنايات» زوجة ركس وكانت حاملا منه وكانت هناك الكلبة «جولدا» في مرحلة البلوغ.. كانت الكلاب كلها تعرف حمزة البسيوني وتحس بوجوده عن بعد وتأخذ في العواء مرحبة بمقدمه السعيد وكانت تعدو إلى باب المعتقل الحديدي لاستقباله.

وكان أفخر أنواع اللحم مخصصا للكلاب وأحقر أنواعه مخصصا للمسجونين السياسيين وكانت الصنية المليئة باللحم يحملها الحراس يوميا من المطبخ إلى الكلاب ثلاث مرات كل يوم وكان ما بها من اللحم أكثر من اللحم الذي يكفي ألف مسجون.

وتأكل الكلاب حتى تشبع وبعد ذلك يأكل الحراس ما تبقى من الكلاب والويل للحارس الذي يجرؤ أن يأكل من اللحم قبل أن تنتهي الكلاب من طعامها!

أنهم يجلدونه حتى يتمزق لحمه ثم يدعون الكلاب لتنهش لحمه عقابا على أنه جرؤ وأكل قبل الكلاب المحظوظين! وذات يوم جاءنا أحد الضباط يحمل لنا بشرى!

أن سعادة ملك التعذيب قرر أن يحتار أربعة من المسجونين السياسيين ليكونوا خدما للكلاب وأن سعادته اشترط أن يكون خدم الكلاب من حملة الشهادات الجامعية !

ووقع الاختيار على خريج من كلية الآداب وخريج من كلية العلوم وخريج من كلية الهندسة وخريج من كلية الطب ليكونوا في خدمة الكلاب وكنت واحدا من الذين اختيروا لهذا الشرف الكبير!

وكانت مهمتنا هي أن نتولى غسل الكلاب يوميا بالماء والصابون والعناية الدائمة بها ورعايتها وملاعبتها. فوجئنا بقصة غرام تبدأ بين الكلاب فعندما وصلت الكلبة جولدا إلى سن البلوغ بدأ الكلب ركسي يحوم حولها مداعبا ومغازلا!

وكانت الكلبة «عنايات» زوجة ركس بالمرصاد لزوجها الدون جوان !

وكانت مهمتنا بناء على أمر اللواء حمزة البسيوني أن نمنع أي علاقة غرامية بين الكلب ركس والكلبة جولدا فكنا نحرص على ألا نتركهما يجتمعان أبدا على انفراد حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه!

وذات ليلة وبينما نحن نيام في زنزانتنا المغلقة سمعنا الكلاب تنبح بشدة وهي تتعارك وتتقاتل وتنبح ثم هدأ كل شيء بعد فترة ..

وفي الصباح وبعد فتح الزنزانات فوجئنا بالكلبة عنايات قتيلة وقد نهش جسمها ومزق بوحشية بينما برزت أحشاؤها بما كانت تحمله من كلاب صغار لم تكتمل خلقها.

وعلمنا أن الكلبة «عنايات» ضبطت في الليل زوجها الكلب ركس في وضع غرامي مع الكلبة جولدا وأرادت عنايات أن تحتج على هذا الفعل الفاضح في الطريق العام ولم يطق العاشقان هذه الغيرة العمياء من الزوجة فهجم الزوج والعشيقة على الزوجة عنايات وانتهت بمصرع عنايات وهي تستنزل اللعنات على الأزواج الخونة الكلاب! ورأيت الدم يلوث فم كل من الكلب ركس والكلبة جولدا مما يؤكد أنهما القاتلان المجرمان! وأعلنت حالة الطوارئ في السجن الحربي...

وحضر اللواء البسيوني على عجل لمعاينة الحادث الجلل وكان الضباط والجنود يقدمون له العزاء في الفقيدة العزيزة عنايات!

وكان الرجل الذي لم تسقط من عينه دمعة واحدة حزنا على العشرات الذين قتلهم من التعذيب يبكي على عنايات!

ووقفنا نحن خدم عنايات الأربعة في رغب خشية أن يتهمنا ملك التعذيب .. بالتهاون والإهمال الذي أدى إلى مصرع السيدة عنايات !

وجاءنا أحد الضباط يقول لنا:

حظكم من السماء أنكم ولدتم اليوم أنتم الأربعة من جديد لولا أن الحادث وقع في الليل أثناء وجودكم في الزنازين المغلقة لاعتبركم سيادة اللواء مسئولين عن مصرع عنايات وعلقكم أنتم الأربعة في المشانق ولهذا اكتفى سيادة اللواء بجلد كل حرس من حراس الليل مائة جلدة وحبس كل واحد منهم لمدة سنة!

ولم نتمالك أنفسنا وصحنا يحيا العدل:

ثم فوجئنا بملك التعذيب يقرر محاكمة الكلبين العاشقين ويصدر حكمه بأن يمسك كل مسجون سياسي بقطعة خشبية أو مكنسة ويطارد ركس وجولدا من ركن إلى ركن في فناء السجن وكان الحراس يمسكون الكلبين ويأخذونهما إلى مكان الحادث ليشما رائحة الفقيدة عنايات ثم تنهال عليهما العصي ضربا !

وحدث لسوء حظ الحراس حادث جلل فإن أحدنا ضرب الكلب «ركس» ضربة خطأ أصابته في عينيه!

لطم الحراس وجوههم ... وصرخزا .... وولوا وقالوا «روحنا في داهية» وأسقط في أيدينا وتوقفنا عن الحركة تسمرنا في أماكننا وكأن على رؤوسنا الطير....

واتفقنا مع الحراس على إخفاء الخبر عن ملك التعذيب وأخذنا نعالج الكلب يوميا في عيادة السجن أثناء غياب ملك التعذيب وساعدنا على ذلك أن حمزة البسيوني أصدر أمرا بمنع زيارة الكلبين ركس وجولدا لسيادته يوميا، مع باقي الكلاب عقابا لهما على جريمتهما الشنعاء.

وتم شفاء الكلب ركس وتصورنا أن السجن سينتهي من فترة الحداد وإذا حادث جلل أخر يقع اهتزت له جدران السجن فإن الكلب «لاكي» امتنع فجأة عن تناول الطعام!

وأصبنا نحن خدم الكلاب بالرعب وأصيب الحراس بالفزع وأصيب الضباط بالمغص الكلوي!

وأمر ملك التعذيب بإرسال الكلب «لاكي» إلى المستشفى البيطري للكشف عليه وقال الأطباء البيطريون أنه مرض الشيخوخة وأنه سيموت من عدم الأكل وأشاروا إلى قتله رحمة به!

وتم قتله رميا بالرصاص في احتفال رسمي مهيب وتم دفنه في مقبرة مجاورة لقبر ابنته الفقيدة السيدة عنايات! وحزن ملك التعذيب حزنا شديدا وبكي بكاء مرا وأعلن حالة الحداد على الكلب الذي عض ألوف الأبرياء ونهش لحم ألوف المسجونين والمعذبين ودخل علينا أحد الحراس ورآنا نحن خدم الكلاب الأربعة جالسين في الزنزانة صامتين وأنهال عليها الحارس ضربا بالسوط وهويقول:

- أبكوا أبكوا يا أولاد الكلب سيدكم «لاكي» مات!

- واضطررنا أن نبكي على الكلب الذي نهش لحمنا!

مذبحة عام 1965

السجن الحربي عام 1965

عزيزي..

هذه صفحة أخرى من مذكرات أحد ضحايا ملك التعذيب حمزة البسيوني...

الجلادون يهوون بسياطهم على الأجساد أحذية الزبانية تغوص في البطون كلاب تنهش في لحم الرجال أنين الجرحى صراخ المصلوبين حشرجة الموتى أنها مذبحة عام 1965 التي يتحدث عنها الذين رأوها ونجوا من الموت منها، وهم يقشعرون من الرعب، هذا الهول الذي رأوه بأعينهم والسياط تنهال فوق رؤوسهم!

ولم يكن حمزة البسيوني يومئذ ملك التعذيب فقد كان يجلس على العرش شمس بدران إمبراطور التعذيب وتحول حمزة البسيوني أوتوماتيكيا إلى واحد من رعاياه!

وصحيح أن حمزة البسيوني كان يحمل يومئذ رتبة اللواء..

وكان شمس بدران يحمل رتبة العقيد!

ولكن في مملكة التعذيب الرياسات ليست بالرتب والألقاب فقد كان شمس بدران هو مدير مكتب المشير، ولهذا كان اللواء حمزة البسيوني ينحني بين يديه ويؤدي التحية العسكرية!

وهكذا شهد زبانية حمزة البسيوني منظرا عجيبا لم يألفوه من قبل لقد تعودوا أن يروا سيدهم الحاكم بأمره الذي يملك وحده حق إصدار الحكم بالموت أو الحياة الذي يجلد من يشاء ويعفو عمن يشاء الذي كان يقول لهم في صلف وغرور وغطرسة أنا ربكم الأعلى!

ها هو ذا ملك التعذيب يتحول فجأة أمام شمس بدران كأنه الكلبة ليلي أو الكلبة ميمي أو الكلب ركسي.. وغيرها من كلاب السجن!

هذا السفاح الرهيب يتحول فجأة إلى «جندي مراسلة» يقدم لشمس بدران زجاجة الكوكاكولا أو فنجان القهوة ويهرول إلى تلبية طلباته وأوامره!

ولم يحضر شمس بدران إلى السجن الحربي وحده إنما أحضر معه بعض رجال المباحث الجنائية العسكرية وطلب إليهم أن يتولوا عملية تعذيب المتهمين وامتلأ عينا السفاح حمزة البسيوني بالدموع! لماذا يحرم هذه المرة من شرف تعذيب المتهمين!

ماذا جنى من ذنب حتى يسحب شمس بك منه امتياز واحتكار ضرب المتهمين بالسياط وتعذيبهم تسليط الكلاب عليهم وينعم بهذا الحق على هؤلاء الصعاليك الذين لا يفهمون فن التعذيب وأصول التحقيق كيف ينسى شمس بك مفاخر حمزة البسيوني طوال السنوات الماضية وأشار حمزة إلى رمال السجن وكأنه يشير إلى جثث المدفونين تحت الرمال، وكأنه يقول ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:

«هذه آثارنا تدل علينا»

ويظهر أن شمس بدران لم يلتفت إلى نظرات الاستعطاف في عيني اللواء حمزة البسيوني ومضى يصدر أوامره وتعليماته!

وهنا تقدم حمزة البسيوني وأشار إلى أحد المسجونين المقيدين بالأغلال وقال لشمس بدران متوسلا في صوت متهدج:

- أرجوك يا شمس بك والنبي.. من فضلك أرجوك تتركني أعذب أنا هذا الشاب !!

وذهل الموجودون في الغرفة من هذا الطلب العجيب ما الذي يجعل هذا اللواء المهيب يتذلل ويستعطف ويتوسل إلى ضابط أصغر منه رتبة ليعطيه شرف تعذيب مسجون شاب؟

ورق قلب شمس بك وسمح للواء حمزة البسيوني أن يعذب الشاب...!

وأشرقت أسارير اللواء حمزة البسيوني ظهر في بريق عينيه نشوة عجيبة تهلل وجهه وبدأ يعذب الشاب المسكين بلذة غريبة كأنه يعانق ملكة جمال!

قد يدعي أحد الذين يقومون بعملية التعذيب أنه اضطر إلى ارتكاب هذه الجريمة مرغمان تنفيذا لأوامر صدرت إليه ولكن هذا رجل يتوسل ويستعطف ويكاد يركع راجيا أن تسند إليه عملية التعذيب!

وعندما يحققون له أمنيته وينهال بالسوط في يده ويرى الدم ينزف من الضحية ويسمع صرخاته المفجعة ويراه أمامه وهو يتلوى من الألم يشعر بنفس الإحساس الذي تشعر به المرأة في قمة لذتها!

إن الذين شهدوا عمليات التعذيب كما شاهدناها يدهشون لمنظر وجوها الجلادين المنتشية بعد عمليات التعذيب الوحشي.

أن ضحايا التعذيب لا ينسون أبدا وجه «يسري الجزار» وقد كان المساعد الأيسر لصلاح نصر في عمليات التعذيب بينما كان حسن عليش المساعد الأيمن.

كثيرا ما كان يحضر يسري الجزار إلى السجن الحربي للقيام بعمليات التعذيب.

وكان قبل عملية التعذيب يبدون متعبا مرهقا مكدودا .. ولا يكاد يأمر زبانيته بالبدء في التعذيب حتى يزداد وجهه إشراقا مع كل سوط يهوى على جسد المسجون تلمع عيناه بهنا عجيب صوت الصراخ والأنين يتحول في أذنه إلى أصوات موسيقية كلها غزل وصبابة وهوى ملتهب الأنين يشجيه والصراخ يطريه ومنظر الدم المسفوك يملأه بالنشوة.

أنه يرى في منظر الرجل الذي يتلوى أمامه من الألم والعذاب منظرا خلابا أسمى مراتب الجمال كأنه يرى فينوس أو أفروديت تبعث إلى الحياة

صوت السوط يغني في أذنه.. منظر الدم القاني يتحول إلى عينه إلى مجوهرات كريمة كانت هذه المناظر المفجعة تملأ عيني يسري الجزار بصور اللذة والمتعة والنشوة والشهوة وكان الرجل العاري المسحوق الذي أمامه يتلوى من العذاب هو ملكة جمال ساحرة يتلوى بين ذراعيه من اللذة والنشوة!

الصورة التي رأيناها في وجه يسري الجزار أثناء عمليات التعذيب هي نفس الصورة التي رأيناها في عيون حمزة البسيوني و صلاح نصر و حسن عليش وغيرهم من الذين كانوا يجدون متعة لا حد لها في عمليات التعذيب.

والذي لاحظناه دائما في شخصيات الذين يقومون بعملية التعذيب أنهم عادة من الشواذ وشذوذهم هو الذي يجعلهم يحسون بالبهجة في عذاب الآخرين ولكما كان العذاب أشد كانت النشوة أكبر أن ضمائرهم لا تستيقظ أبدا بعد هذه العمليات على العكس فهم بعد أن ينتهوا من التعذيب ينامون نوما عميقا تماما كما يحدث للمرأة العاشقة بعد أن تكون مارست الحب في ليلة حمراء مع حبيبها!

وأكثر هؤلاء يشعرون بالنقص أمام الرجال يشعرون بأنهم ضعفاء وعندما يرون رجلا عاريا يتلوى أمامهم من الألم والعذاب يشعرون بلذة إذلال الرجال بنشوة الانتقال من رجال لا يستطيعون أن ينالوهم في أي ميدان إذا فكت قيودهم وسلاسلهم أن عملية تجريد الإنسان من إنسانيته تثير اشمئزاز الرجل العادي ولكنها تبهج الرجل الشاذ وتسعده وتكون تعويضا له عما يحس به في داخل نفسه من ذل ومهانة وهكذا كان حمزة البسيوني... وكان ملك التعذيب شخصية مليئة بالمتناقضات يأمر بجلد المسجونين ويأمر بالترفيه عنهم يقيم المذابح ويقيم الحفلات وكان يجد متعه لا حد لها في أن يقيم في بيته ليلة حمرا يدعو إليها أسيادة والغواني ويشرب ويرقص على أنغام صراخ المسجونين الذين يأمر بجلدهم لهذه المناسبة السعيدة وهكذا يختلط صراخ المسجونين المضروبين بصراخ السكارى والرقصات!

وذات يوم قرر ملك التعذيب أن يقيم حفلة ترفيه للمسجونين وأعد المسرح بميس الجنود وضع أمام المسرح مباشرة ووضع أمام المسرح مباشرة عددا من الكراسي الفوتيل لجلوس حمزة بك ومساعديه وخلفها مبارشرة رصت دكك خشبية لجلوس المسجونين السياسيين ثم حاجز من الحبال يفصلهم عن جمهور «الترسو» من المسجونين العاديين الذين جلسوا على الأرض.

وقام بإحياء الحفل عدد من راقصات شارع محمد علي والمغني البلدي أبو دراع والشنكحاوي والزعبلاوي للمنلوجات.

وبدأ الحفل مبكرا في الساعة السادسة مساء حيث حضر في بدايته حمزة البسيوني وصدر أمر الحراس للمسجونين بالهتاف والتصفيق الحاد وقال الحراس لنا أن الذي لا يهتف سوف يجلد عشرات الجلدات وهتفنا طبعا حتى بحت أصواتنا ولم تكن هذه أول مرة يهتف فيها مجلدون للجلاد!

وافتر ثغر الطاغية عن ابتسامة رضا وانشراح ثم انصرف ليشرب زجاجة ويسكي مع بعض أعوانه وتوالت فترات البرنامج بين الهرج والمرج حين صعدت إحدى الرقصات وكانت على شيء من جمال الجسم والوجه وأخذت تدور حول نفسها رافعة طرف بذلة الرقص لتظهر ساقيها الجميلتين إلى أعلى مكان ممكن أو غير ممكن!

وهاج جمهور الترسو وماجوا وطالبوا بإعادة الحركة صائحين ارفع ارفع ونزلت الراقصة على إرادة الجماهير وكشفت عن فخذيها مرات ومرات!

ثم عاد حمزة بك مترنحا وقوبل بعاصفة من التصفيق والهتاف وصعدت الراقصة نفسها إلى المسرح وعادت الجماهير تصيح ارفع ارفع!

ولم يتمالك حمزة نفسه فقام من مقعده ولوح بقبعته وهو يصيح في الراقصة ارفع ارفع ورفعت الراقصة صوبها كله بناء على طلب المدير لأن الناس مقامات!

وجن جنون ملك التعذيب وأمر بإنهاء الحفلة وأدخل المسجونين إلى زنازينهم وأخذ معه الراقصة إلى بيته الموجود في السجن لتختم الحفلة معه على انفراد!

ومر الحراس على زنزانات المسجونين المجاورة لغرفة خدم حمزة البسيوني وانهالوا على المسجونين ضربا ليصل صراخهم إلى حمزة بك لتزداد نشوته في ليلته الحمراء!

في أواخر عام 1959 شهد سجن حمزة البسيوني أول ثورة للمسجونين في الشرق الأوسط ثورة لم تكتب عنها الصحف كلمة واحدة ولم تتناقلها وكالات الأنباء على الرغم من أن المسجونين استطاعوا أن يستولوا على السجن لمدة ثلاثة أيام!

كان ذلك في نهاية يوم حافل بالعمل الشاق، والإهانات والآلام، والعذاب جلس نزلاء السجن الكبير القرفصاء أربعة أربعة في صفوف متراصة في حوش السجن ليتناولوا الطعام فهذه كانت الطريقة المتبعة في تناول الطعام يوميا المسجون لا يجلس على كرسي ولا على الأرض وإنما يجلس المسجونون القرفصاء ويتناولون طعامهم في هذا الوضع الغريب!

وكان المسجونون مكدودين من العمل الشاق مرهقين بألوان المعاملة السيئة الشتائم تنهال على رؤوسهم كالصفعات وكل حارس يجد نشوة في إذلالهم وفي تحطيم أدميتهم وفي أن يدوس بحذائه على كرامتهم وتحملوا كل هذا طوال النهار صامتين صاغرين.

وأثناء تناول العشاء قام أحد الحراس بضرب أحد المسجونين بحذائه لأنه تجرأ وجلس على الأرض من شدة التعب بدلا من أن يجلس القرفصاء كأمر حمزة البسيوني...

وقال المسجون بأنه لا يستطيع أن يجلس القرفصاء لأنه متعب تعبا شديدا!

وكفر المسجون لأنه فتح فمه في حضرة الحارس العظيم وانهال الحارس بالكرباج على المسجون المتعب وكأنه ارتكب جريمة مروعة وفوجئ الحراس بأن المسجونين «يزومون» احتجاجا وثار الحراس لكرامتهم. كيف يجرؤ هؤلاء المسجونون المسحوقون المسحوقون الصعاليك على أن «يزموا» في حضرة أصحاب السعادة زبانية حمزة البسيوني وانهال الحراس ضربا بالسياط على جميع المسجونين الذين «زاموا» والذين لم ينطقوا بكلمة واحدة!

وانقض المسجونون الراكعون على أقدامهم واختطفوا السياط من أيدي الحراس وانهالوا عليهم ضربا وصفعا وركلا. وجعلوهم يذوقون ما ذاقوه على أيديهم الشهور والسنين الطوال!

واختطفوا أسلحتهم وقبضوا عليهم جميعا ووضعوهم في الزنازين وهاجم المسجونون مخزنا كبيرا فيه سلاسل وأقفال وأحكموا إغلاق الباب الحديدي وصرخ الحراس الواقفون خارج العنبر «حرس سلاح» وأسرع الحرس الموجود خارج العنبر يحاول أن يقتحم الباب الحديدي وفشلت المحاولات وعجز عن اقتحامه!

وأعلن المسجونون أنهم استولوا على السجن وانهم احتفظوا بالحراس كرهائن وأنهم سوف يقاومون من يحاول دخول السجن ووزع المسجونون المهمات على بعضهم فريق يحرس الباب وفريق حراسة الحراس المقبوض عليهم.

وحضر أركان حرب السجن ومعه مكبر للصوت حاول بواسطته تهدئه المسجونين الثائرين والتفاهم معهم دون جدوى فقد أمطرت عليه السماء وعلى الحراس الذين صحبوه أحجارا وقطعا من الحديد واضطر إلى التراجع...

وكان حمزة البسيوني في مدينة الإسكندرية في جولة تفتيشية فاتصل أركان الحرب تليفونيا به وأخبره بما حدث فأمره البسيوني بإطلاق النار للتهديد ومحاولة السيطرة على الموقف بأي طريقة وقال أنه سيعود فورا إلى القاهرة.

وأقام أركان الحرب كردونا من الحراس المسلحين حول مبنى الشحن ثم أمرهم بواسطة مكبر الصوت أن يطلقوا النار عندما يعطيهم الإشارة بذلك ثم أمر الضابط الباش جاويش أن يجري حول المبنى ويبلغ الجنود أن الأمر هو بإطلاق النار في الهواء للتهويش ويحذرهم من الضرب في المليان!

ولكنه قبل أن يتم دورته أمر أكان الحرب بإطلاق النار.. وإذا بعدد من الجنود يطلقون النار في المليان. وسقط أحد المسجونين قتيلا وسقط عدد من المسجونين جرحى برصاص الحراس..

واندلعت الثورة والتهبت المعركة وانهال سيل الأحجار وقطع الحديدي بغزارة على الحراس واضطر أركان الحرب المذهول إلى الأمر بالانسحاب!

وحل الظلام وأقام المسجونون نقط حراسة على الأسوار وتولى عدد أخر منهم حراسة المسجونين وأصدروا أوامرهم إلى المسجونين إلا يضربوا الحراس الأسرى، وألا يسئوا معاملتهم كما كان الحراس يسيئون معاملة المسجونين ونظم المسجونون الثائرون توزيع المخزون عندهم من خبز وماء وأنزلوا جثة المسجون القتيل من فوق السطح وتولى عدد منهم إسعاف الجرحى وتنظيف جروحهم!

وفي الصباح المبكر وصل حمزة البسيوني وجاء بمكبر الصوت وصرخ في المسجونين مزمجرا مهددا متوعدا وهتف المسجونون الثائرون بسقوط الطاغية وسقوط السفاح!

وتحول الأسد الصهور إلى فأر وراح يتوسل إلى الثوار أن يهدأوا ويستلموا وهو يعدهم بشرفه أنه سيجيب جميع مطالبهم ولن يعاقب واحد منهم لأنهم استولوا على السجن

ودوى صوت المسجونين الثائرين كالرعد هاتفين بسقوط المجرم القاتل وتوافد المسئولون محاولين إقناع المسجونين الثائرين بإنهاء ثورتهم من أجل علاج الجرحى ودفن السجين القتيل واعدين بإجابة جميع مطالبهم!

ورفض المسجونون وأصروا على أنهم لا يفاوضون إلا المشير عبد الحكيم عامر!

واستمر المسجونون ثلاث أيام يحكمون السجن!

وأخيرا حضر الفريق أول علي عامر وكان رئيسا لأركان حرب الجيش وقتئذ وقال للمسجونين أن المشير موجود في سوريا وأنه يستحيل عليه الحضور لمقابلتهم وذكر لهم أنه اتصل بالمشير تليفونيا وكلفه بأن يقابله المسجونين نيابة عنه، ووعدهم بإجابة جميع مطالبهم وعدم توقيع أي عقوبات عليهم.

وطلب المسجونون وقف عمليات التعذيب فورا ووافق الفريق على عامر...

وطلب المسجونون سحب أفراد حرس البسيوني وإحلال حراس محلهم من أفراد البوليس الحربي فوافق الفريق عامر.. وطلب المسجونون وقف سوء المعاملة المستمر على آدميتهم فوافق الفريق عامر أيضا.

واستدعيت على عجل فريق من البوليس الحربي ودخلت مبنى السجن ووزعت على المسجونين قطع الشوكولاتة وعلب السجائر المحظورة عليهم طبقا للائحة حمزة البسيوني.

وسحبت جثة القتيل ونقل الجرحى إلى المستشفى وتم فك أسر الرهائن من الحراس.

وتوقف الضرب والتعذيب .. واستمر ذلك لمدة أسبوعين.

وفي اليوم الخامس عشر فوجئ المسجونون بانسحاب البوليس الحربي وبعودة حرس حمزة البسيوني.. وعاد حمزة البسيوني ليبدأ عهدا جديدا أشد قسوة وإرهابا وتعذيبا..

وتألفت مجالس عسكرية حكمت على أربعين مسجونا بعقوبات مروعة!

وتم نقل هؤلاء إلى المعتقل رقم 4 حيث فتحت عليهم نار جهنم ونالوا من العذاب ما لا يصدقه عقل! وبدأت عمليات الانتحار!

لا يمر أسبوع واحد بدون حادث انتحار أو حادثي انتحار يصعد المسجون إلى الدور الثالث لمبنى السجن ثم يلقي بنفسه إلى الطابق الأرضي ليريح نفسه من عذاب حمزة البسيوني وزبانيته وكلابه ولم تسجل سجلات سجن حمزة البسيوني حادث انتحار واحد!

كان المنتحرون دائما يسجلون في دفاتر السجن بأنهم ماتوا بالسكتة القلبية أو ماتوا بالشيخوخة! مع أن كثيرين منهم كانوا في العشرين من عمرهم!

ولعل هذا هو السبب الذي كان يحمل حمزة البسيوني يقول إن المسجونين كانوا يموتون فيه...!!

مصرع السفاح

سجن لمان طره..الجمعة 19 نوفمبر 1971

عزيزتي..

رقصت مصر فرحا.. لمصرع السفاح المجنون.

رقصت مصر فرحا لأن سيارة قتلت رجلا كان الناس يتبادلون التهاني في الشوارع يقبلون بعضهم بعضا والمصريون مشهورون بالقلب الطيب لا يشمتون في مصاب ويترحمون على العدو إذا مات ويتناسون مظالم الخصم إذا انتقل إلى رحمة الله ولكنهم في هذه المرة خرجوا على طبيعتهم ونسوا الحكمة التي تقول «اذكروا محاسن موتاكم» لأن الميت في هذا الحادث لم تكن له محاسن.. على الإطلاق كان التقيل أكبر قاتل شهدته مصر! الرجل الذي دفن عشرات الأحياء تحت رمال صحراء مدينة نصر وأعلن أنهم فروا من السجن الرجل الذي كان يجلد الأبرياء حتى يتمزق لحمهم الرجل الذي كان يطرب لصراخ المصلوبين والمعذبين ويقول إن هذا الصراخ أحل من صوت أم كلثوم وعبد الوهاب!

الرجل الذي سلط الكلاب البوليسية لتنهش لحم المتهمين الرجل الذي أمر طبيبا مشهورا في الإسكندرية بأن يأكل لحم ساقه واضطر الطبيب أن يأكل لحم قدمه والسياط تنهال على رأسه! الرجل الذي كان يحمل الكرباج ويثير الفزع في ملايين المصريين ما يكاد يذكر اسمه حتى تقشعر الأبدان ويرتجف الشجعان ويتهاوى الأقوياء الرجل الذي جاء إلى السجن الحربي بسكان مدينة كرداسة الرجل الرجال والنساء والأطفال وأمر حراسه بأن يضربوا الرجال بالسياط أمام زوجاتهم وأمهاتهم وأطفالهم الرجل الذي أطلق زبانيته على مئات الأبرياء من سكان كمشيش بمحافظة المنوفية وعلقهم في السجن الحربي من أقدامهم وصلب بعضهم على الجدران وأطلق عليهم الكلاب البوليسية تفترسهم بينما كان الحراس ينهالون عليهم بالسياط والركل والرفس والضرب ليعترفوا بجريمة لم يرتكبوها واضطر قاضي التحقيق أن يستغيث بالرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية في رسالة مشهورة يقول فيها أن رجال مخابرات صلاح نصر زاروا زوجة القاضي بعد منتصف الليل وهددوها إذا لم يحكم القاضي بإحالة هؤلاء الأبرياء إلى محكمة الجنايات وجاءت محكمة الجنايات وبرأتهم بعد أن أذاقوا عذاب الهون ورأوا ما رأته جميلة بوحريد في سجون الفرنسيين في الجزائر وما عرفه ضحيا النازي في معسكرات الاعتقال!!

الرجل الذي وضفته في خطابي المشهور الذي كتبته من سجن الاستئناف في ديسمبر عام 1965 إلى الرئيس جمال عبد الناصر ورويت فيه للرئيس كيف عذبني هذا الرجل وأطلق على الكلاب البوليسية تنهش جسمي وكيف قال لي أنه سيقتلني ويدفنني في السجن الحربي ويعلن أنني حاولت الهرب كما فعل مع عشرات من الذين دفنهم تحت رمال الصحراء المحيطة بالسجن..!!

الرجل الذي وصفته مجلة «اللقاء العربي» وهي من مجلات الكويت بأنه عندما يحمل الكرباج يصبح أطول قامة من برج الجزيرة ومن السد العالي! وأن اسمه كان يبعث الذعر في جميع القلوب!

الرجل الذي كتبت كثير من الصحف العربية من الخليج إلى المحيط في الشهور الأخيرة تطالب بمحاكمته بناء على التهم الخطيرة التي ذكرها سعيد فريحة في مذكراته في الأنوار من هو هذا الرجل؟ أنه اللواء حمزة البسيوني قائد السجن الحربي في القاهرة!

كان الناس جميعا يتحدثون في الشهور الأخيرة ماذا سيكون مصير هذا الرجل بعد أن أعلن الرئيس أنور السادات سيادة القانون؟ وبعد أن وافق الشعب بأغلبية حوالي مائة في المائة على الدستور الجديد الذي نص بأن «عقوبة الذين ارتكبوا جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم» وكان الناس يتساءلون هل سيقدم اللواء حمزة البسيوني إلى محاكمة علنية وهل سيمثل الضحايا أمام المحكمة يشهدون بالجرائم البشعة التي ارتكبها حمزة البسيوني أن علامات التعذيب لا تزال ظاهرة في أجسام بعضهم على الرغم من أنه مر على بعضها 17 عاما! ... ومر على البعض الآخر ست سنوات! وفوجئ الناس بالقدر يرد على أسئلتهم ففي اليوم الثاني لعيد الفطر نشرت جريدة الأهرام في صفحتها الأولى خبرا بعنوان «مصرع حمزة البسيوني» وقالت «لقي اللواء بالمعاش حمزة البسيوني المدير السابق للسجن الحربي وشقيقه عقيد الشرطة السابق مصرعهما أمس عندما اصطدمت سيارته مع سيارة نقل كانت تسير في الاتجاه المضاد على الطريق الزراعي بين القاهرة و الإسكندرية غرب مدينة قويسنا».

وفوجئ الناس بهذا النبأ لأن مصرع حمزة البسيوني وقع في أول أيام عيد الفطر وهو أول عيد أيضا أمضاه مئات المعتقلين في بيوتهم بعد أن أمر الرئيس أنور السادات بالإفراج عنهم وكل هؤلاء المعتقلين مروا على كرباج حمزة البسيوني!

وفوجئ الناس بهذا النبأ لأن مصرع هذا الجزار وقع بقرب مدينة قويسنا في محافظة المنوفية نفس المحافظة التي فيها قرية كمشيش التي عذب حمزة البسيوني سكانها الأبرياء وتفنن في التنكيل بهم وختلف الناس أغلبيتهم تقول أن هذه إحدى آيات الله الذي يمهل ولا يهمل!

لطالما دوت في جنبات السجن صرخات الأبرياء تصيح «أنت فين يا رب؟»

وإذا بالله يقول لهم «إني هنا في محافظة المنوفية أنتظرحمزة البسيوني

كثير من الضحايا الذين تزعزع إيمانهم أعادل لهم هذا الحادث الإيمان المفقود الحكمة في أن يصرع اللواء البسيوني في أول يوم عيد يمضيه المعذبون في بيوتهم مع أولادهم وزوجاتهم وأمهاتهم الحكمة في أن يقع هذا الحادث في المحافظة التي يتحدث أهلها عن الأهوال والجرائم التي شاهدوها في السجن الحربي!

وأقلية من الناس تصورت أن الحادث لا يمن أن يكون قضاء وقدرا!

لابد أن سائق هذه السيارة التي صرعت اللواء حمزة البسيوني هو إحدى ضحاياه هو قريب لإحدى ضحاياه أو مواطن في نفس القرية التي فيها إحدى ضحاياه فلا توجد قرية واحدة في مصر ليس فيها رجل واحد على الأقل لم تخلع ظافره أو لم يضرب بالسياط أو لم تمتهن إنسانيته في أحد السجون التي كان يشرف عليها اللواء حمزة البسيوني!

إن الألوف الذين كانوا مسجونين في السجن الحربي يذكرون يوم جمعهم اللواءحمزة البسيوني يوم 4 يونيو سنة 1967 قبل النكسة بيوم واحد ووقف خطيبا يقول لهم:

- اعلموا أنني هنا الجزار أنا القانون أنا الدولة أنا الذي أستطيع أن أحي وأميت أنا القاضي أن الجلاد أن الطبيب الشرعي أنا أحي وأميت أنا الحانوتي الذي يستطيع أن يدفنكم جميعا أحياء أنا من رأي إبادة جميع المسجونين السياسيين وللأسف لم يأخذ الرئيس جمال عبد الناصر برأي هذا ولكني في هذا المكان أملك السلطات جميعا! من حقي أن أحكم على أي واحد منكم بالإعدام وأنفذ الحكم أنني لا أتسلم المسجونين بإيصال لا أحد يعلم عدد المسجونين عندي! أستطيع أن أقتل مائة منكم في يوم واحد ولن يحاسبني أحد أنكم باقون هنا تحت سلطاتي ولن يخرج منكم واحد حيا من هنا أنا إله السجن الحربي. وبعد مرور أسبوع واحد على هذا الإنذار والتهديد والوعيد «الإلهي» فوجئ حمزة البسيوني بقرار جمهوري يصدره الرئيس جمال عبد الناصر بطرده من منصب قائد السجن الحربي وإحالته إلى المعاش ثم فوجئ بعد ذلك بالقبض عليه ووضعه في معتقل القلعة ثم فوجئ بالتحقيق معه في جرائم التعذيب التي ارتكبها!!

وفجأة صدر الأمر بوقف التحقيق في جرائم التعذيب فقد أصر اللواء حمزة البسيوني أن يذكر في التحقيق أنه قتل فعلا عددا من المسجونين السياسيين ولكنه قتل كل واحد منهم بأمر صدر له من أحد مراكز القوى وان يحدد اسم كل قتيل واسم الكبير الذي أصدر أمره بالقتل أو التعذيب ورأت مراكز القوى وقتئذ أن التحقيق في هذه الجرائم سوف يدخلهم جميعا في قفص الاتهام ولهذا أسرعوا بالأمر بحفظ التحقيق وبقي اللواء حمزة البسيوني معتقلا في القلعة ولم يقدم مع الذين حوكموا في قضية المشير عامر، مع صلاح نصر و شمس بدران وزير الحربية السابق و عباس رضوان وزير الخارجية السابق ونائب ورئيس الوزراء حتى لا يذكر أسماء على صبري و سامي شرف و شعراوي جمعة الذين تلقى منهم أوامر القتل والتعذيب!!

ثم صدر قرار بالإفراج عنه بعد أن أمضى أكثير من عامين في المعتقل ولم يفرح اللواء بالإفراج عنه كان في عالم الحرية يموت كل يوم من الرعب لا يستطيع أن يمشي وحده في الشارع لا يستطيع أن يخرج من بيته في المساء لا يستطيع أن يفتح باب بيته لأي طارق كان يعتقد أن أحد الذين عذبهم سوف يقتله انتقاما لجرائمه البشعة وفقد أعصابه أصبح يحدث نفسه كالمجنون كان يقول لكل من يراه أنه مظلوم أنه كان ينفذ أوامر صريحة صدرت إليه.

كان مضطرا أن يطيع الأوامر بالقتل وإلا قتلوه وكان يرى أحلاما مفزعة أن أشباحا تطارده أن أيادي قوية تخنقه أن سياطا تنهال عليه!

وذات يوم دخل اللواء حمزة البسيوني غرفة الزوار في سجن طره ليزور ابن عمه الصاغ عزيز العقاد البسيوني المحكوم عليه بالسجن المؤبد في جريمة المخدرات وفوجئ بي في نفس الغرفة ومعي أسرتي تزورني في السجن وهجم اللواء البسيوني على وراح يقبلني ويعانقني ويقول لي:

- أنا لم أعذبك إن كل ما فعلته هو أنني جئت بمسدس وصوبته على رأسك وهددتك بالقتل!

- قلت له في هدوء أنك سلطت علي الكلاب البوليسية وصلبتني وقلت لي أنك ستقتلين وتدفنني في السجن كما دفنت عشرات وقلت أنهم هربوا من السجن.

- وبكى اللواء حمزة البسيوني وقال:

- والله هذه كانت أوامر كنت أنفذ الأوامر! سامحني! سامحني! سامحني!

- قلت له: أستطيع أنا أن أسامحك ولكن من الذي يستطيع أن يسامحك باسم عشرات القتلى الذين دفنتهم!

- وعاد اللواء حمزة البسيوني يقول وهو في حالة تشنج وهو يرتجف زائغ البصر:

- كانت أوامر كنت أنفذ الأوامر لو حاكموني فسأقول لهم اسم كل من أصدر لي أمرا بالقتل والتعذيب!

إن ضحايا حمزة البسيوني لم يكونوا من فئة واحدة أو من حزب واحد كان بعضهم من الاشتراكيين وبعضهم من الشيوعيين وبعضهم من الإخوان المسلمين وبعضهم من المستقلين وبعضهم من الوفديين ولابد أن اسم حمزة البسيوني سوف يدخل التاريخ إن بعض الكتاب والصحفيين إلى حضروا المذابح يستطيع أن يكتب عن مذابحه التي رآها بعينيه أن الشاعر معين بسيسو الفلسطيني يستطيع أن ينتظم الملاحم الشعرية في وصف ما رآه من أهوال تشيب لها الرؤوس إن كثيرين من الصحفيين والكتاب والأدباء والشعراء المعروفين مروا بسياط حمزة البسيوني!

وحدث أن حفر أحد المحكوم عليهم في المحاكم الاستئنافيه قصيدة حفرها بأظافره على جدران زنزانته في السجن الحربي وكانت القصيدة تقول:

صاح في وجه القضاة...

لن تتموا المهزلة!

واستبدوا بحياتي..

وأقيموا المقصلة!

غير أني لن أدافع...

لن أقول كلمة!

يا شياطين المدافع...

كيف صرتم محكمة ؟

وكتب على جدار أخر:

هاتوا الحبال من الأشواك واجتمعوا .

لدي الحبال هاتوا من تشاؤونا.

وعالجوا الشنق في صمت وفي حذر..

من الرعاع فقد لا يستريحونا...

أتشنقون أمام الشعب قادته؟

وتجعلون من الإعدام قانونا...

أتعدلون؟ فيأتي عدلكم عجبا...

من فاته الحبل يقضي العمر مسجونا!

أتعقلون؟ لقد ضلت عقولكمو...

معنى العقول فعدوا الشعب مجنونا..

وعلم اللواء حمزة البسيوني بأن هاتين القصيدتين محفورتان على جدران الزنازين فأمر بإرسال عدد من المسجونين لتغطية القصيدتين بالبياض...

وإذا بالمسجونين يحفظن القصيدتين.. ويلحنوهما.. وتصبح كلماتهما النشيد الذي يردده المسجونون السياسيون في زنزاناتهم..

وهذا هو السر في أن مصر رقصت عندما سمعت بمصرع السفاح المجنون!!

الحياة بغير جريدة!

سجن القبة.. نوفمبر سنة 1965

عزيزتي....

مكثت أربعة أشهر في سجن المخابرات لا أقرأ جريدة واحدة ولا كتابا واحدا كنت أشعر كأنني الميت الحي الصحفي الذي يعيش بلا صحف والكاتب الذي يعيش بلا كتب هو أشقى رجل في العالم أنني أشبه الإنسان الذي يعيش بلا طعام .. أربعة أشهور بلا طعام!

وكان يحدث من وقت إلى آخر أن أجد صفحة من جريدة ملقاة في صندوق القمامة في السجن كنت أقوم بعدة حركات بهلوانية حتى أحصل على الصفحة الممزقة وأخفيها وأذهب التواليت وأغلق الباب وأفردها في حذر، ثم أقرأها وأحس بسعادة عجيبة والصفحة الممزقة في يدي كأنني رأيت ليلة القدر!

وذات يوم وجدت ورقة لف فيها الحراس «طعمية» وبقايا الزيت تغطي سطورها تظاهرت أنني أربط الحذاء وانحنيت على الأرض والتقطت الورقة ودسستها في جيبي ودخلت التواليت لأقرأ السطور غير المطموسة....

ووجدتها «البقية» من الصفحة الأولى واستطعت أن أفهم من سياق الكلام أن زكريا محي الدين ألف وزارة وقرأت أسماء بعض الوزراء الجدد واستنتجت أسماء الوزراء المنشورة في الصفحة الأولى التي لم تقع في يدي!

وفي بعض الأحيان كنت أتظاهر بالنوم ويجلس الحراس يتهامسون فأستطيع أن ألتقط من كلامهم بعض الأخبار التي قرأوها في الصحف بل كنت أتتبع مباريات الكرة من أحاديثهم التي يتبادلونها

وكانت التعليمات المشددة هي أن أعيش في ظلام ألا أعرف أي شيء عما يجري في بلادي وكان هذا الأمر يعذبني تماما كالضرب والصفع والركل بالأقدام!

ولقد عرفت وأنا في سجن المخابرات أن مصطفى النحاس قد توفي إلى رحمة الله وحزنت كثيرا وأسفت أنني لا أستطيع أن أكتب رثاء له لقد أحببت هذا الرجل وحاربته وسجنت من أجله وفصلت من المدارس من أجله واختلفت معه في الرأي وهاجمته وهو رئيس حكومة فلم يفكر في أن يضعني في السجن ولو كنت كتبت اليوم عن سكرتير احد الوزراء ما كتبت عن رئيس الحكومة مصطفى النحاس لشنقوني أو أعدموني رميا بالرصاص!

ولقد قبض علي في عهد النحاس سنة 1951 ستا وعشرين مرة ولكني كنت أدفع كفالة وأخرج من السجن ولم يفكر النحاس أن يدبر لي تهمة أو يحاكمني على جريمة أنا برئ منها.

من حق النحاس علي أن أشيد به وأنا مسجون وأن أذكره كرجل قاد كفاح هذه الأمة وضحى في سبيلها ونفى من أجلها وحمل الزعامة بعد سعد زغلول وكانت نهايته هي نهاية الديمقراطية.

ولقد أسعدني أن الملايين خرجت لتشييع جنازته، وحزنت أن الصحف لم تخصص الصفحات للحديث عن تاريخ هذا الرجل وأمجاده التي هي تاريخ شعب مصر وأمجاد شعب مصر...

وشعرت أن الزبانية هنا فزعوا من خروج الشعب كله لتحية الزعيم الكبير الراحل واعتبروا هذه الجنازة الشعبية الهائلة ثورة على النظام، وانفضاضا عن الحكم وقال لي أحدهم أن الأمر صدر بالقبض على كل من سار في الجنازة قلت له ساخرا: هل ستقبضون على ثلاثة ملايين! إن السجون والمعتقلات مزدحمة ولا يوجد فيها أماكن خالية قال لي: هل كنت ستشترك في تشيع الجنازة قلت: لولا أنني مسجون لسرت في الجنازة.

قال ضاحكا: وكنا قبضنا عليك!

ثم ذكر لي الزبانية أشياء أذهلتني قالو إن الأوامر صدرت بالقبض على مئات من الوفديين المعروفين بتهمة أنهم مشوا في الجنازة! ولم أكن أعلن أن الوفاء أصبح جريمة في هذا البلد وقال لي الزبانية إن الذين قبض عليهم لن يخرجوا من المعتقلات أحياء! وأن القرار يقضي باعتقالهم إلى الأبد! قلت: أنتم لا تملكون الأبد الله وحده الذي يملك الأبد!

وضحك الرجل ساخرا من سذاجتي!

وقد حدث في هذه الفترة أن دخل وكيل المخابرات إلى زنزانتي وقال لي أن الأمر قد صدر بأن تحذف جملة «أسسها مصطفى أمين وعلي أمين المكتوبة تحت اسم «أخبار اليوم» و « الأخبار» وسكت ولم أقل شيئا... وقال وكيل المخابرات: لماذا سكت؟ تكلم! قل رأيك في هذا القرار قلت له: رأي أ، هرم الجيزة الأكبر ليس مكتوب عليه اسم خوفو وبهت وكيل المخابرات من ردي ولم يقل شيئا!

وقد تصور المسكين أنني سوف أنهار عندما أعلم أن اسمي واسمي واسم أخي حذفا من الصفحة الأولى من جريدة «أخبار اليوم» وجريدة «الأخبار»

أن اسم سليم وبشارة تقلا مؤسسي الأهرام منشور في صدر جريدة الأهرام، واسم أميل و شكري زيدان مؤسسي «المصور» و «الكواكب» و «حواء» في صدر هذه المجلات واسم روز اليوسف مؤسسة روز اليوسف واسم محمد التابعي مؤسس آخر ساعة هل يتصور الذي أصدر هذا القرار أن الناس سوف ينسون من أسس أخبار اليوم والأخبار؟ وسيجيء يوم يعود اسمي واسم أخي من جديد.. فلا بد أن تشرق الشمس من جديد!!!

وكان مما يضايقني في سجن المخابرات أنهم كانوا يتحكمون في السجائر التي أدخنها قبل دخولي السجن كنت أدخن ست علب سجائر في كل يوم وقرروا أن يعطوني أربع علب سجائر فقط. كنت أقوم بعدة عمليات حسابية واقتصادية لتكفيني 80سجارة في اليوم بدلا من 120 سيجارة وفي بعض الأحيان كانوا يتعمدون أن ينسوا أن يعطوني ما أستحق من سجائر يشترونها من حسابي.

ولكي لا أعرض نفسي لهذا العذاب المستمر كنت أوفر السجائر وأخفيها في أمكنة مجهولة لكي أستعملها في الأيام التي يحرمنني فيها من تدخين السجائر.

والذي لايدخن السجائر لا يتصور العذاب الذي يحس به المدمن عندما يتأخر السيجارة وخطر ببالي أن أقاوم بأن أمتنع عن التدخين على الإطلاق ولكني الظروف المريرة التي كنت أعيشها في سجن المخابرات جعلتني أعجز عن الإقلاع عن التدخين وكان مما يعذبني أنهم لا يسمحوا لي بأن أحمل علبة كبريت أو ولاعة وكانوا يقولون أنهم يخشون أن أحرق نفسي ولكنهم في الواقع كانوا يتعمدون إذلالي فكان الحراس يحملون الكبريت ويغلقون عليه بالمفتاح في درج مكتب بالصالون وكلما أردت أن أشعل سيجارة ذهبت إلى رئيس الحراس فيخرج المفتاح ويفتح الدرج ويشعل لي الكبريت وبقيت في هذا العذاب إلى أن جاء الشتاء وأحضروا مدفأة كهربائية فكنت أشعل ورقة منها وأشعل السيجارة فكانوا يتعمدون أن يدعوا في بعضا الأيام أ، الكبريت نفذ لمدة 48ساعة وقد تبدو هذه مسائل صغيرة ولكنها تحطم أعصاب المسجون الذي أمضى أربعين يوما يتنقل بين مختلف وسائل التعذيب ثم يتوقف التعذيب الجسماني ليبدأ التعذيب النفسي.

وكانت هذه إحدى الوسائل التي لجأوا إليها لتحطيم أعصابي وإثارتي وعلمهم أنني مدمن على التدخين أوهمهم أنهم وضعوا إصبعهم على نقطة ضعفي! وهم مثلا يعملون أنني مريض بالسكر والمفروض أن مريض السكر يتناول طعامه في أوقات منتظمة وكان يحدث أن يتعمدوا أن يجيئوا لي بطعام الغداء في الساعة الخامسة بعض الظهر في بعض الأحيان ويجيئوا بالعشاء في الساعة الثانية صباحا. وفي أيام أخرى يجيئون لي بالغداء في الساعة الرابعة بعد الظهر ويجيئون بالعشاء في الساعة الخامسة والنصف من نفس اليوم وكان اعتذارهم دائما أن السيارة التي يرسلونها لشراء طعام المسجونين مشغولة في أعمال هامة، أو أنها تعطلت في الطريق!

وكان يسعدهم أن يتحكموا في كل شيء حتى في الموعد الذي أغسل فيه وجهي أو في الوقت الذي أذهب فيه إلى دورة المياه! فإذا طلبت أن أذهب إلى دورة المياه في ساعة معينة لم يسمحوا لي بالذهاب إلا بعد سؤال عدد من المسئولين وكانوا يذكرونني بالتركي المفلس الذي وضع أمامه عددا من القلل في ميدان السيدة زينب وراح يأمر المارة العطاش أن يشربوا من هذه القلة ولا يشربوا من القلة الأخرى!

وكان ممنوعا على الحراس أن يكلموني فإذا ضبطوا حارسا يتحدث إلي وضعوه في السجن وجاء وقت أحسست فيه أنني نسيت الكلام وفي أوائل أيام سجني نمت على الأرض وكانت أرض الزنزانة التي يعذبونني فيها من الأسفلت وكنت أشاهد أثناء نومي فأرا ضخما هو أكبر وأضخم فأر رأيته في حياتي يسير على جدار السقف ذهابا وإيابا! وأنني أعتقد أنه فأر مدرب جاءوا به ليملأوا قلوب المسجونين بالفزع!

وعندما نقلت إلى الطابق الأعلى بعد انتهاء التعذيب لاحظت أن أرض غرفة نومي والصالون من خشب البركيه ومن العجيب أنهم كانوا إذا غضبوا علي نقلوني إلى الزنزانة في الطابق السفلي لأنام على الأسفلت ثم أعادوني في اليوم التالي إلى جناحي الخاص لأنام في السرير وأمضيت عدة أيام «طالع نازل» أنتقل بين البركيه والسرير وبين الأسفلت الرطب بغير توقف!

وفي سجن المخابرات كان رئيس الحراس اسمه «علي أمين» وتصور فزعي عندما استيقظت ذات صباح على صوت حارس يقول «تعال يا علي أمين» تصورت أنهم خطفوا أخي من لندن، ووضعوه في صندوق ونقلوه إلى سجن المخابرات ثم حمدت الله عندما عرفت أن علي أمين هذا هو رئيس حراس إحدى الدوريات وكنت أشعر بسعادة غريبة بعد ذلك أن سمع اسم علي أمين يتردد في السجن بالليل والنهار وفي بعض الأحيان كان الحراس يداعبونه وينادونه «يا فكرة»!

ولقد استطعت أن أكتسب صداقة بعض الحراس وبعض الضباط في سجن المخابرات كل واحد منهم يتلفت يمينا ويسارا قبل أن يقول كلمة طيبة أو يقوم لي بعمل إنساني قال لي أحد الضباط أن الأوامر التي عندنا هي أن نحطمك! ولكننا عجزنا عن تحطيمك أن أعصابك القوية تذهلنا ما الذي يجعلك بهذه القوة؟ قلت إيماني بالله وثقتي ببراءتي!

والعجيب أنهم رفضوا أن يسلموني المصحف الذي صحبته معي!

تصورا أن كتاب الله سوف يقويني! ونسوا أن هذا الكتاب في دمي!

دعوة إلى حفل تعذيب!

سجن القبة .. 30 يوليو سنة 1965

صديقي العزيز...

كنت ألح على المسئولين في سجن القبة أن ينقلوني إلى سجن آخر!

أي سجن مدني! وكانوا ينصحونني بمزايا البقاء في السجن الحالي كانوا يقولون أنه أفضل من سجن مصر وسجن القلعة وسجن الاستئناف هذه السجون مليئة بالبق والحشرات وكنت أقول لهم أنني أفضل البق والحشرات على زبانية السجن الحالي، لقد انتهى تعذيبي بعد 40 يوما ولكن تعذيب الآخرين لم ينته بعد كل ليلة أسمع صراخا وعويلا أصوات رجال تتلوى من العذاب وأصوات أطفال ونساء تعول وتئن أنينا يفتت الأكباد لا أعرف هل هذه أصوات حقيقية أم هو شريط مسجل يديرونه طوال الليل ليحطموا أعصابي وأعصاب المسجونين معي لقد توطدت صداقتي ببعض الضباط فكانوا يصحبونني للتفرج على بعض حالات التعذيب تماما كما يدعو الإنسان صاحبه للذهاب إلى مسرح أو سينما أو مباراة كرة قدم!

وذات يوم رأيت أحد هؤلاء الزبانية وهو يضرب شيخا مسكينا بعصا غليظة تشبه «يد المقشة» وكان ينهال على ظهره بالضرب المبرح وكان يبدو على الجلاد سعادة وغبطة والشيخ المسحوق يتلوى أمامه من العذاب وانكسر العمود الفقري للشيخ وانكسرت العصا ولم يتوقف الجلاد عن الضرب طلب عصا أخرى ... وأغمى على الشيخ المضروب ورأيت الدم ينزف من فمه ومن كل مكان في جسمه وكان يقف بجواره طبيب نعم طبيب وكان الطبيب يكشف على الشيخ المجروح وعلى قلبه ثم يقول «ما زال يتحمل» ويستأنف الزبانية الضرب!

وانتهى الشيخ لم يبق فيه مكان لم يجرح تحول الشيخ كله إلى جرح واحد وأحسسنا جميعا أنه سيلم الروح ثم رأيت الجلاد يحيط كتفي بذارعه ويقول لي تعال نذهب إلى غرفتك!

وفزعت! لسعتني يده وكأنها عقرب وسألته وكأنني أستغيث منه:

لماذا تريد أن نذهب إلى غرفتي!

قال الجلاد ببساطة: لأصلي!

- تصلي؟ هل تصلي بعد كل هذا؟

- وضحك الجلاد وهو يقول:

- دي «نقرة» ودي «نقرة»

لا يمكن أن يقبل الله صلاة جلاد توضأ بدم الذين عذبهم؟

ولكن للجلادين فلسفة غريبة أن الغرف التي يعذبوننا يها يعلقون فيها لافتة كبيرة مكتوبا عليها «الله»! وأذكر ذات يوم وهو يعذبونني ويخلعون ملابسي الخارجية ويجردونني من ملابسي الداخلية ويشدون شعر جسدي، وينزعونه بأصابعهم ثم ينهالون علي ضربا وصفعا وركلا!

إن قلت لهم: هذا لا يرضي الله؟

قالوا ضاحكين:

وذات مرة قلت لهم وهو يصلبونني على الجدار هذا ضد ميثاق حقوق الإنسان الذي قررته الأمم المتحدة!

وقهقهوا ساخرين وقالوا:

حقوق الإنسان الذي قررته الأمم المتحدة؟ لا يوجد في هذا السجن أي شيء اسمه حقوق الإنسان!

كانوا يتصرفون معي وكأنهم ملكوا الأرض ومن عليها لا سلطان عليهم ولا سلطان الضمير! كانوا يتفرجون على عمليات التعذيب وكأنهم يتفرجون على رواية مضحكة في فرقة نجيب الريحاني!

وتجد بين هؤلاء الزبانية بعض الناس الطيبين ولكنهم يخفون طيبتهم وكأنها جريمة مروعة أو كأنها الإثم الكبير! وفي غرفة التعذيب مرآة كبيرة جدا تملأ الجدران ويجئ الزوار الكبار ويقفون خلفها ويتفرجون على عملية التعذيب دون أن يراهم الذين في غرفة التعذيب

وهذه المرآة أشبه بالمرآة التي يضعونها في بيوت الدعارة في أوروبا حيث يستطيع السياح أن يشهدوا العمليات الجنسية بغير أن يراهم الذين يرتكبون الخطيئة داخل غرفة النوم!

كانوا على حق الاستعانة بهذه المرآة في غرفة التعذيب فقد كانت عملية زنا بالعدالة!!

إلى سجن الاستئناف

سجن الاستئناف .. أول ديسمبر سنة 1965

أحسست أنهم سينقلونني من سجن القبة إلى سجن آخر.. صدرت الأوامر بأن يخفوا عني هذا النبأ ولكني استطعت بخبرتي الصحفية أن أعرف الخبر الذي أخفوه!

وكتمت فرحتي بالخروج من هذا السجن الرهيب خشية أن يصدر أمر بمد إقامتي!

بل إنني شكرتهم على حسن الضيافة ضيافة التعذيب والتجويع والضرب والإهانة والتلفيق وشتم أمي!

ومازلت أذكر عندما انهالوا على ضربا وصفعا وصلبا وبقيت صامدا ولكنهم عندما قالوا لي أن أمي عاهرة وجدت نفسي أبكي كالأطفال وذهل الزبانية وقالوا لي كيف لا تبكي ونحن نعذبك كل هذا العذاب ثم تبكي لأننا شتمنا أمك!

ولم يعرفوا كم أحب أمي!

واستعد سجن الاستئناف لاستقبالي يوم 30 نوفمبر وكان من المقرر نقلي في هذا اليوم وجمعت ملابسي وأعدت حقائبي ولكن فجأة صدر الأمر بتأجيل نقلي إلى اليوم التالي ولم أعرف السبب ولكن أحد أصدقائنا الحراس قال لي أن المخابرات تلقت أبناء مؤكدة بأنها تخشى أن تخطفني طائرة هيلوكبتر!

وتقرر التأجيل حتى تعد الحراسة الكافية من بناء المخابرات بجوار سراي القبة إلى سجن الاستئناف في باب الخلق.

وجاء الضابط سيد زكي من المباحث ليصحبني ووضعوا في يدي القيود الحديدية ثم وضعوني في سيارة بوكس فورد مع عدد من الضباط الذين يحملون المسدسات وعدد من الجنود الذين يحملون المدافع الرشاشة وأسدلوا سوداء على السيارة ونوافذها حتى لا يراني أحد بداخلها وتقدمتني سيارة نجدة فيها إذاعة تخطر الجهات المختلفة بتحركات الموكب وسارت خلفي سيارة فيها عدد من ضباط المخابرات وحرس الأمن التابع للمخابرات.

وبدلا من أن تسير السيارة في الشوارع الرئيسية من القبة إلى باب الخلق اتجهت إلى عدد من الشوارع الجانبية والخلفية .. كل ذلك خشية أن يراني الناس!!

وعجب أن يذعر الظالم المدجج بالسلاح من المظلوم المجرد من السلاح!

أيكون الظلم يخيف الظالم أكثر مما يخيف المظلوم؟

ووصلت إلى سجن الاستئناف ورأيتهم قد وضعوا فوق سطح بناء المحافظة المجاور للسجن عددا من الجنود الذين يحملون المدافع الرشاشة.

وعندما وصل البوكس فورد إلى باب سجن الاستئناف أصر ضباط المخابرات ألا أغادر في الشارع وطلبوا أن يدخل «البوكس فورد» إلى داخل فناء السجن ولا أنزل أمام باب السجن خشية أن يراني أحد وحاول البوكس أن يدخل من الباب فلم يستطع وتكررت المحاولة عدة مرات! وفي هذه الأثناء أخلى الجنود الشوارع المحيطة بالسجن من الناس وأخلوا حوش السجن من المساجين ولا أعرف لماذا يريدون إخفائي؟ هل بلغت بهم السذاجة أن الناس سوف تتظاهر لي؟ أن الرعب يملأ كل القلوب. الخوف عقل كل الألسنة الإرهاب أصاب الناس بالشلل لن يتحرك أحد من أجلي كل ما سوف يفعله آلاف الناس أن يصلوا من أجلي ولكن حراسي يخيفون الناس وهم أشد منهم رعبا!

وعندما وصلت إلى سجن الاستئناف واختلطت بالمسجونين السياسيين وغير السياسيين قالوا لي أن السجن قائم على قدم وساق لاستقبالي منذ يومين.

وصدر الأمر للشاويش فتيحة والشاويش أحمد رجب من سخرية القدر أن صديق أحمد رجب أصبح سجاني!! صدر الأمر بإعداد زنزانة لي.

وصدر الأمر بأن تكون هذه الزنزانة بعيدة عن باقي الزنزانات لا أحد في الزنزانة التي على يميني ولا أحد في الزنزانة التي على يساري وصدرت الأوامر المشددة بأن تغلق جميع الزنزانات الأخرى بالمفاتيح حتى لا أرى أحدا من المسجونين عند دخولا لزنزانة وألا يراني أحد!

وكانت التعليمات للسجانين ألا أتحدث مع سجين ولا يحدثني سجين وأن أخرج إلى دورة المياه في الصباح في صحبة شاويش وباشجاويش، ويبقيا معي في دورة المياه ثم يعودا بي إلى زنزانتي ويغلقا الباب بالمفتاح!

وصدت الأوامر بألا يحدث هذا إلا بعد التأكد من أن جميع المسجونين داخل زنزانتهم!

وقيل لي أنه قبل وصولي صدرت الأوامر بأن أنام على «برش» على الأرض وتصرف لي بطانية واحدة.

وسمع المسجونون بذلك وثاروا وقالوا أنه لا يمكن أن أنام على برش على الأسفلت بينما كل المسجونين السياسيين في نفس الطابق ينامون على السرير!

وقيل لي أن هذه هي الأوامر!

وفجأة وصل وكيل مصلحة السجون إلى السجن وطلب أن يرى الزنزانة التي ستخصص لي ثم أصدر أمره بإحضار سرير جديد ومرتبة جديدة وأن توضع مائدة في الغرفة وكرسي ولمبة كهربائية.

وذهل المسجونون والسجانون والضابط لهذه الأوامر الجديدة وذهلوا أكثر عندما وقف وكيل المصلحة في زنزانتي يشرف على نظافتها ويأمر بأنه يجب أن تكون الزنزانة محتمة ولائقة!

ولم أعرف من الذي أصدر الأمر الأول أن أنام على الأسفلت ومن الذي أصدر الأمر الثاني بأن أنام على السرير! وقال لي أحد الضباط هامسا أنه سمع أن الصحفيين الأجانب طلبوا أن يروا الزنزانة التي نقلوك إليها. وأنه يخشى أن يكونوا وضعوا السرير حتى يراه الصحفيون الأجانب وبعد الزيارة سوف يسحبون السرير ويتركونني أنام على الأسفلت.

رسالة إلى الرئيس عبد الناصر

سجن الاستئناف .. في 6 ديسمبر سنة 1965

سيادة الرئيس جمال عبد الناصر

لم أفتح فمي ولن أفتحه أبدا حتى ولو وقفت على حبل المشنقة ....

إنني مؤمن بأنه إذا عرف الرأي العام العالمي جرائم التعذيب التي تعرضت لها فسوف تسيء إلى صورة بلادي وتخدم أعداءها هذه الصورة التي بذلت شبابي ودمي وأعصابي وحياتي من أجل أن تبدو أمام العالم في صورة الأمة المتحضرة المجيدة.. فلا أريد أن يكون السيف الذي كان في يد بلادي خنجرا يغمد في ظهرها.

ولكنني لا أكتب إليكم دفاعا عن نفسي وإنما أكتب إليكم دفاعا عن بلادي فقد تبينت في الشهور التي أمضيتها في المخابرات أن هذا الجهاز في وضعه الحالي لا يخدم هذا البلد ولا يخدم هذا الحكم وإنما هو عصابة تضللكم وتكذب عليكم وتخدعكم وتزيف الحقائق وتلفق الأكاذيب وتخلق من الوهم قضايا وأن عمل الجهاز الأساس هو حماية أصحاب السلطان والبطش بكل شخص يتوهمون أو يخشون أن يكشف لكم حقيقتهم ويظهر أمامكم جرائمهم.

ولقد كنت قريبا منكم طوال ثلاث عشرة سنة وأعرف عن يقين أنكم تجهلون هذه الجرائم ولا تتصورون كيفي أن أفراد هذه العصابة قد غرقوا في الشهوات والفساد واستباحة المحرمات والاستهانة بكل مبادئ الشرف والاستهتار بقواعد القانون وأنني أعرف أن فضحي هذه الحقيقة قد يكلفني حياتي ولكنني أفضل أن يموت برئ واحد على أن يتعرض ألوف الأبرياء لما تعرضت له من تعذيب وتلفيق بل أنني أعتقد أن هذه العصابة سوف تعرض هذا البلد إلى كارثة كبرى فإن الجهاز لا يجئ للدولة بأسرار العدو وإنما هو يلفق الأكاذيب للمواطنين وهو لا يحمي البلد وإنما يحمي بعض أصحاب النفوذ والسلطان.

فهذه عصابة توضع على عين هذا الشعب حتى لا يرى الجرائم التي يرتكبها هؤلاء المجرمون من أصدقاء صلاح نصر ومحاسبيه ومؤيديه وقد يستطيع كل فرد في هذه العصابة ببطشه وسلطانه أن يسكت كل فم يتحدث عن جرائمه ويقطع كل يد تشير إلى مفاسده ويحطم كل رأس يرتفع أمامه ويفقأ كل عين ترى استهتاره وتهتكه ولكنه لن يستطيع إلى الأبد أن يمنع الحقيقة أن تطل برأسها وأن تصل إليك وأن تفضح هذه العصابة ولكني أخشى أن تصل الحقيقة كلها بعد فوات الوقت...

قبض على يوم 21 يوليو ووضعوا على عيني عصابة سوداء.. وأدخلوني إلى صلاح نصر فقال لي أن الرئيس هو الذي أمر بالقبض عليك لاتصالك بالأمريكي أوديل.

فقلت له أن اتصالي بأوديل لم يكن سرا عليك وأنت سألتني من شهور عن أسماء الأمريكيين الذين اجتمع بهم من موظفي السفارة فذكرت لك أسماءهم جميعا وفي مقدمتهم أوديل وطلبت مني أن أسأله عن بعض معلومات عن موقف أمريكا من مصر وجئت في مكتبك هنا وأبلغتك ما قاله. وأخذوني إلى زنزانة في سجن المخابرات نزعوا ملابسي أصبحت عاريا تماما وجهوا إلي مصابيح كشافة كادت تعمي عيني وراحوا يضربونني وصلبوني على الحائط وثبتوا كل يد في قيد من الحديد بأعلى الجدار ثم راحوا يرفسونني وتقدموا ونزعوا بأيديهم شعر العانة .. واستأنفوا الضرب والصفع والرفس بالأيدي وبالأقدام وبالعصي ثم فكوا القيد من يدي وربطوا جهازي التناسلي بسلك وجذبوني منه وداروا بي حول الغرفة عدة مرات وفقد بصري الرؤية تحولت وجوه الزبانية إلى أشباح ثم سقطت مغشيا علي.

وأفاقوني وبدأوا يضربونني من جديد ويشدون شعر بطني وعانتي وكان العذاب مريعا قاسيا ومع ذلك تحملته ولكني لم أحتمل عندما شتموا أمي وقالوا أنها شرموطة عندئذ بكيت ودهشوا أنني لم أبك من الضرب والتعذيب بينما بكيت عندما قالوا أن أمي شرموطة ولم يشفقوا على حالتي المرضية لم يشفقوا على سني لم يشفقوا على دموعي واستمروا في إهانتهم وفي ضربهم وركلهم ولم يكن التعذيب يوما واحدا...

لقد استمر أيام يوليو العشرة وإلى أواخر أغسطس كل يوم أعرى وأضرب وأصلب وأتلقى الإهانات والعذاب. وقلت مرة لأحد هؤلاء الزبانية هذا لا يرضي ربنا؟.

فإذا به يقول لي: ربنا محبوس في الزنزانة اللي جنبك!

وكانت جريمتي عندصلاح نصر أنك رشحتني مرة مديرا للمخابرات وأنني أبلغك ما أسمعه من الأخبار والبرقيات التي أعلمها من السفارة الأمريكية وتذكر سيادتك أنك قابلتني في بيتك بمنشية البكري وسألتك هل صحيح أنك رشحتني مديرا للمخابرات بدلا من صلاح نصر فقلت لي:

إ،ك أخبرت صلاح نصر و علي صبري بأنك تنوي تعييني مديرا للمخابرات..

قلت لك: رحت في داهية!

قلت لي: ما تخافشي

قلت لك: إنني لا أصلح إلا صحفيا فقط وأرفض أن أكون مدير المخابرات..

وسألتك مرة: هل أقول لصلاح نصر أخبار الأمريكان التي أقولها لك فلم توافق...

فقلت لك: أخشى أن يقطع صلاح نصر رقبتي.

فقلت لي: ما تخافشي...

ولكن كان تخوفي في محله.. فقد نفذ صلا نصر ما هددني به وقال لي الزبانية أثناء التعذيب أنني كنت أبلغك بأخبار المخابرات ورجال المشير الخاصة وبعض مسائل خاصة عن حياة المشير الخاصة وأقسمت لهم أنني لم أفعل ذلك ولكنهم لم يصدقوا.

وأنني أصبحت أشعر بأن المخابرات الإسرائيلية تسربت إلى جهاز المخابرات المصرية مستغلة جهله وغروره. وقد قلت للزبانية في أثناء التحقيق أنكم تحققون لإسرائيل ما تريد أن تفعله أنتم تلفقون علي قضية لأنني أنا الصلة التي بين الرئيس وأمريكا وأنا أقوم بدوري في تخفيف حدة التوتر فالمقصود بهذا هو أن يعزل الرئيس عن أمريكا حتى تنفرد أمريكا بإسرائيل وبعد ذلك تضربنا إسرائيل وتكون علاقتنا سيئة بأمريكا فلا تكرر ما حدث سنة 1956 فقال الزبانية نحن نعرف ما تفعله النملة في إسرائيل!

فقلت لهم أن فضيحة لافون إن إسرائيل أرادت أن تعزل مصر عن أمريكا فأوعزت إلى عملائها بإلقاء قنابل على المكاتب الأمريكية في القاهرة و الإسكندرية ليتهم بها المصريون وبذلك تسوء العلاقات بين مصر وأمريكا فضحكوا وقالوا أن كل الذي أقوله لا يهمهم وإنما الذي يهمهم أنني أقول أشياء للرئيس ضد المخابرات وضد رجال سيادة المشير، فأكدت لهم أنني لم أقل أي كلمة للرئيس ضد المخابرات أو ضد المشير ولكنهم أصروا على أن معلوماتهم تؤكد ذلك وهددوني بأن صلاح نصر سيقتلني بالسم وقالوا أن لديه سما لا يمكن أن يكتشفه أي طبيب شرعي في العالم.

وأخذني حمزة البسيوني إلى السجن الحربي وأدخلوني غرفة تعذيب سوداء بلا نوافذ وأطلقوا علي عدد من الكلاب البوليسية الهائجة كانت تهجم علي وتمزق ملابسي وتركوني تحت رحمة الكلاب ودخل حمزة البسيوني وقال أنه سيدفنني بالحياة هناك. وأنه دفن بنفسه عشرات من الأحياء .. وقال أنه سيقتلني في السجن الحربي ويقول أنني هربت..

ويخرج حمزة البسيوني وتدخل الكلاب وتتكرر علمية التعذيب ثم يدخل عملاق يرتدي ملابس الجلاد ويدور حولي وكأنه يعاينني قبل تنفيذ حكم الإعدام ...

وبقيت في عمليات التعذيب لا أعرف الليل من النهار وكان يغمى علي ثم يحضر من يسعفني ثم يستأنف التعذيب. وقال حمزة البسيوني أنه سيخرجني من هذا الجحيم إذا تعهدت أن أقول لصلاح نصر عن أسماء العصابة وراح يهددني بالقتل لأنني أتحدث عن رجال المشير...

ونقلوني من السجن الحربي في سيارة –معصوب العينين- إلى بناء المخابرات حيث بدأ الجحيم من جديد جردوني من ملابسي صلبوني ضربوني كانوا يتفننون في وسائل التعذيب...

وهالني أنهم لم يكونوا يعتبرون ما يفعلون جريمة يعاقب عليها القانون.

كانوا يجيئون بمتفرجين يشهدون عمليات تعذيبي.. شاهدني ضباط وحراس وعدد من المتهمين في قضايا أخرى كانت تحققها المخابرات في ذلك الوقت.. كانوا يتباهون بما يفعلون معي.. كانوا يتفاخرون بجرائم تعذيبهم.. وأحضروا ثلاثة حراس يلازمونني بالنهار وثلاثة حراس يلازمونني بالليل مهمتهم أن يمنعوني أنام أو أغمض عيني فإذا أغمضت عيني دفعوني بقبضة مسدساتهم حتى لا أنام.

عدة أيام لم أذق فيها طعم النوم !! عدة أيام حرمت فيها من الطعام!!

عدة أيام في شهر يوليو وشهر أغسطس لم أذق فيها الماء .. واضطررت أن أشرب من البول.. واضطررت أن أشرب من ماء التواليت من شدة العطش وكانوا يجيئون بكوب ماء مثلج ويضعونه على المائدة أمامي، فإذا قدمت يدي لأتناول الكوب ألقاه الضابط على الأرض.

فإذا انكفأت على الأرض أشرب الماء ضربوني ومنعوني من الشرب أو رفسوني حتى أقع مغمى علي.

ولم يكن اهتمامهم بالقضية أو التحقيق كل ما يهمهم المسائل النسائية سؤال عن نساء معينات سؤال عن سيدة معينة وهل كان بيني وبينها علاقة وهل قالت ي أن بينها وبين شخصية كبيرة في الدولة علاقة وهل أخبرت الرئيس بما سمعته عن هذه العلاقة أو علاقات غرامية أخرى للشخصية الكبيرة .. ساعات طويلة.. أحاديث عن الجنس وعن أنواع النساء وعن مسائل لا يجوز أن يتحدث فيها رجل محترم.

ولكني كنت أذهل من اهتمام هذه الأجهزة بمثل هذه المسائل القذرة وبكل تفاصيلها وعندما أرفض أن أتحدث في مثل هذه المسائل القذرة يتهمني الزبانية أنني غير متعاون ويهددوني بالتعذيب لأنني لا أريد أن أقول لهم عن اسم أدوية يتوهمون أنني أستعملها في العلاقات الجنسية...

وقال لي أحد الزبانية مرة أنني سأحضر إلى هنا سكرتيرتك وبناتك، وسأترك العساكر يعتدون عليهن أمام عينيك..

وفعلا أحضروا سكرتيرتي في الليل إلى غرفة بجانب الغرفة التي كنت بها وجعلوني أسمع بأذني صراخها وسمعتهم يهددونها بإحضار بناتها والاعتداء عليهن أمامها.

وكنت أسمع طوال الليل أصوات أطفال يضربون بالسياط ويبكون ويتأوهون ويصرخون ثم أسمع أصوات استغاثة من الزنزانات وبكاء وصراخ وسياط تضرب.وعصي تحطم الظهور..

فإذا توسلت إليهم أن ينقذوني من هذه الأصوات قالو لي أنك فقدت عقلك وأنه لا توجد أصوات وأنك تتخيل أشياء لا وجود لها ثم جاءوا بمن يشهدون أنه لا يوجد أي صوت.

ثم بعد ذلك يستأنفون إخراج هذه الأصوات المرعبة التي تحطم الأعصاب.

ولم أتحمل كل هذا التعذيب وتوسلت إلى أحد الزبانية أن يعطيني مسدسا أقتل به نفسي ولكنهم لم يرحموني واستمر التعذيب كل يوم...

لم أعد أعرف متى يبدأ ومتى ينتهي كنت أفزع كلما سمعت صوت أقدام تقترب من زنزانتي كان معنى اقتراب الأقدام أن الزبانية جاءا ليأخذوني ويصلبوني من جديد.

وصحبوني إلى غرفة التعذيب وشاهدت بنفسي عمليات تعذيب مفجعة لأشخاص لا أعرفهم وجاء أحد الزبانية وقال لي أن هناك سبع عمليات للتعذيب وأن كل ما تعرضت له هو العملية الأولى وهددني بأنني إذا لم أكتب ما يريدون فإنني سأمر على العمليات السبع كلها.

وجاءت النيابة واستمر التعذيب... كانوا يضربونني قبل التحقيق وبعد التحقيق بل ويحدث أحيانا أن يأخذوني أثناء التحقيق إلى غرفة مجاورة يضربوني ثم يعيدوني لاستئناف التحقيق.. والغريب أنني لم أستطع أن أنفرد بوكيل النيابة لحظة واحدة .. كل ثلاثة من ضباط المخابرات يحضرون كل تحقيق وكانوا يجلسون أمامي وورائي فإذا لم يعجبهم كلامي زغدوني وأشاروا لي أو سحبوني خارج الغرفة وضربوني وأعادوا التحقيق .... وفي نهاية التحقيق أحضروا أشرطة قالوا أنها بصوتي وعرفت على الفور أنها ملفقة فقد قاموا فيه بعملية مونتاج فغيروا وبدلوا وعكسوا ونقلوا وحذفوا.. وعلى الفور اكتشفت عملية التزييف .. وشاء الله أن تظهر حقائق واضحة تثبت التزييف.. وأردت أن أظهر هذه الأدلة فأخذوني وضربوني وعلقوني من جديد ومنعوا عني الطعام ومنعوني من النوم ومن شرب الماء والتدخين.

وكان الزبانية يهددونني ويقولون لي لو فتحت فمك عن التعذيب في المحكمة أو أمام أي أحد فسنقتلك وسنصدر قانونا بمنع المحامي أن يذكر أن هناك تعذيبا يسمح بالطعن في الأدلة التي نقدمها....

وكنت أنتقل ذهابا وإيابا بين غرفة مريحة فيها سرير وطعام وماء وغرفة تعذيب أعلق فيها على الحائط .. إذا كتبت ما يريدون فإنني أستطيع أن أنام على سرير وأن آكل وأن أشرب الماء وإذا رفضت أن أكتب ما يريدون بدأت عملية التعذيب من جديد.

أنني أعرف أن أعضاء هذه العصابة أقوياء وأعرف أنهم استطاعوا أ، يحطموني وأن يلوثوني، وأن يلفقوا لي هذه القضية وأن يدوسوني بأقدامهم وأن يمنعوني من أن أرفع صوتي للدفاع عن نفسي ولكني أعرف أن الله أكبر منهم جميعا

لقد رأيت مرة أحدهم وهو يهددني بالموت وفوقه لوحة معلق فيها كلمة «الله».

فقلت له: لقد رأيت من قبل صورة المسيح مصلوبا..

ولكن هذه أول...

ولكن هذا ليس مهما....

المهم أن تعلم يا سيادة الرئيس أن هذا الجهاز هو جهاز فاسد . وأنه ملئ بالجرائم وأنه يلفق التهم وأنه يعمل لتضليلك ولخداعك وللكذب عليك، وأنه يخفي عنك الحقائق وأن مهمته أن يلوث كل من يتصور أنه سيقول لك في يوم من الأيام حقيقة الفساد..

أنني أخترت من تثق به ليسلمك هذا الخطاب راجيا أن تحقق بنفسك لا لكي تنقذني فقد يكون الوقت قد فات ولكن لكي تنقذ مصر والمصريين من هذه العصابة.

وأرجو لك التوفيق في هذه المهمة الصعبة.

كل ما أتمناه عندما تتبين هذه الحقيقة. أن تترحم علي لو كنت ميتا أو أن تذكرني لو كنت حيا..مصطفى أمين.

محاربة الزبانية بالضحك

سجن الاستئناف .. أول سنة 1966

صديقي العزيز...

ذات يوم قيل لي في سجن «القبة» أنهم سيعطونني ورقا وقلما وأنني أستطيع أن أكتب ما أشاء!

وفرحت كأنهم أفرجوا عني!

ثم اكتشفت أنهم سيعطونني قلمي في فترة كتابة الخطاب فقط وتضايقت لأنني كنت أتمنى أن أستطيع أن أكتب من وقت إلى آخر ثم أقنعت نفسي بأن الطشاش خير من العمى وجلست وكتبت خطابا مطولا من أربعة صفحات.

ثم علمت أنهم كانوا يكذبون علي وأنهم لم يرسلوا الخطاب وهذا ألمني ألما شديدا!

وفي مرة أخرى كذب علي الضابط وأقسم بشرفه أن علي عاد يكتب فكرة في الأهرام.. وسررت بذلك جدا ثم جاءت الصفحة الأخيرة من الأهرام وقد لفوا فيها طعمية لأحد الحراس وألقوها في التواليت وذهبت إلى التواليت وأخرجت الصفحة ورحت أنشفها ثم وجدت أن فكرة غير موجودة!

وكنت أمضي وقتي ألعب بالكوتشينة لعبة الصبر كنت أبدأ لعب الكوتشينة من الساعة السابعة صباحا وانتهي منها في الساعة التاسعة ما عدا فترات كنت أتمشى خلالها ذهابا وغيابا في غرفتي وكانت التعليمات تجيء بألا أقترب من النوافذ حتى لا أرى من يدخل ومن يخرج وكان الحراس بقرب النوافذ لمنعي من الاقتراب ولكني أحمد الله على طول قامتي فبفضلها كنت أستطيع أن أرى كل الخبايا برغم أنني لا أطل من الشبابيك!

ومن الطريف أن جميع الحراس تعلموا مني لعبة الصبر وانتشرت انتشارا هائلا في اسجن ولكن كانت العقبة أنه توجد كوتشينة واحدة هي التي أملكها وقد تهرأ الكوتشينة واضطررت إلى عمل عمليات جراحية فيها لترميمها ولصق ورق خلفها لأن بعضها تمزق وكانوا يقسمون بشرفهم كل يوم أنهم سيحضرون لي كوتشينة جديدة .. ولكنهم لم يفعلوا ذلك أبدا وعاشت هذه الكوتشينة معي كل تلك الشهور. وأردت أن أخذها معي إلى سجن الاستئناف ولكنهم أخذوها مني يوم دخولي وأعادوها مع الملابس وأنا لا أرغب في أن ألعب لعبة الصبر الآن فقد كنت محتاجا إليها عندما كانوا لا يسمحون لي بكتاب أقرؤه أو جريدة أو مجلة أطلع عليها حتى القرآن رفضوا أن يعطوه لي إلى أن أعطاني أحد وكلاء النيابة مصحفا صغيرا.

ومن متاعبي في ذلك الوقت الصابون كانوا يصرفون لي صابونة بعد طلوع الروح ولكن ما يلبث الحراس أن يقترضوا مني الصابونة والآن الصابون كفاية.

وكان يضايقني في تلك الأيام الغسيل وقد تركوني مرة في شهر أغسطس أرتدي قميصا واحدا سبعة أيام حتى تحول لونه الأبيض إلى لون رمادي غامض وكانوا يعتذرون بأن السيارة التي يرسلونها إلى المكوجي لإحضار المكوى مشغولة في أعمال هامة!

ومع أن ملابسي كلها موجودة عندهم غير أنهم كانوا يرفضون أن يعطوني قمصان إفرنجي كافية لارتدي قميصا كل يوم وتركوا لي مرة جوربا واحدا ومكثت شهرا كاملا حافيا أرتدي الشبشب واكتفيت بأن ارتدي الحذاء في المناسبات الرسمية!

أما الآن فإن أسرتي تتسلم غسيلي من السجن كل صباح وكان العام سيئا أول الأمر، ولكنه أحسن كثيرا من الأيام التي أمضيتها بغير طعام على الإطلاق!

وبعد ذلك كانوا يحضرون لي ربع فرخة وجبن روكفور في الغذاء ومثلها في العشاء في أيام الاثنين الثلاثاء والأربعاء وفي أيام اللحم يحضرون لي نصف رطل كباب وكان لربع الفرخة لون غريب حتى ظننت أنه جاء من المتحف المصري لا من مطعم فقد كانت الفرخة محنطة كأنها مومياء أحد قدماء المصريين!

وكنت اكتفي في بعض الأحيان بأكل العيش والجبن!

أما اللحم فإن أغلبها كفته ودهن وفيها قطعة لحم واحدة سليمة!

ولم يحضروا لي أي فاكهة من يوم أن دخلت إلى يوم أن خرجت ولقد كانت أمنيتي أن يسمحوا لي براديو!

وكانوا يعونني كل يوم بإجابة طلبي!

ولكني لم استلم هذا الراديو الموعود على الرغم من الحلف والأيمان التي كنت أسمعها صباح مساء!

والآن في سجن الاستئناف راديو ليسمعه المسجونون جميعا.

ولم يكن مسموحا بالكلام في سجن المخابرات حتى أن أحد المشرفين واسمه أحمد عاشور جاءني يقول لي إن التعليمات صدرت بألا أتكلم مع أحد ولا أحد يكلمني حتى أنني إذا قلت له صباح الخير، فهو يأسف جدا لأنه لن يستطيع الإجابة!

ومع هذه التعليمات المشددة أخذت استدرجه وأدحرجه حتى أوقفوه عن العمل 15يوما لكثرة كلامه!

وجرى مرة تحقيق مع أربعة حراس لأن الضابط ضبطنا فجأة ونحن نضحك!!

وكان سين وجيم ومحاضر تحقيقات واختلق الحراس بأنهم كانوا يضحكون على نطق أحد الحراس لأنه بورسعيدي!

ومع ذلك خصم السجن مرتباتهم كلهم ولم أكن أعلم أن الضحك أصبح ممنوعا في بلادنا!

وحدث أن كان هناك حارس ثقيل جدا يرعب المسجونين وهو من أقاصي الصعيد اسمه «سيد»

وأطلقت عليه إشاعة أنه كان في بلدهم ومرض فأرسل إلى مدير السجن برقية يقول «ملازم الحصيرة لا أستطيع الحضور» ولم يكتب في البرقية «ملازم الفراش» لأنه ينام في بيتهم على حصيرة!

وسرت هذه الحكاية في السجن وأصبح سيد هذا أضحوكة بدلا من أن كان شيئا مرعبا!

ورويت عنه مرة حاكية أخرى....

وهو أنه سافر إلى باريس في مهمة...

وبينما هو يسير في الشانزلزيه رأى ميزانا مكتوبا عليه «إذا دفعت فرنكا ووقفت فوق الميزان يقول لك الميزان من أنت ومن أي بلد أنت ... وإلى أين أنت ذاهب...»

ودفع سيد فرنكا ووقف على الميزان!

وقال الميزان: أنت اسمك سيد فلان الفلاني من بلدة أبو جرج في مديرية المنيا ومسافر الليلة إلى مصر في الساعة الثامنة بالطيارة وذهل سيد...

وترك الميزان واشترى قبعة وارتداها فوق رأسه ووقف على الميزان ودفع فرنكا...

وقال الميزان: أنت اسمك سيد فلان الفلاني من بلدة أبو جرج في مديرية المنيا ومسافر الليلة في الساعة الثامنة بالطيارة..

وذهل سيد.. وذهب إلى الفندق وقرر أن يتنكر فوضع في وجهه لحية كبيرة وعلى عينيه نظارة سوداء وغير ملامح وجهه وأبدل بذلته وعاد إلى الميزان، ووقف عليه ودفع فرنكا.

وقال الميزان: أنت اسمك فلان الفلاني من بلدة أبو جرج في مديرية المنيا ومسافر الليلة إلى مصر في الساعة الثامنة مساء

وزاد ذهول سيد...

وقرر أنه لابد من خديعة الميزان، فارتدى ملابس سيدة ووضع على رأسه باروكة وذهب إلى الميزان ووقف عليه ووضع فرنكا

وصاح الميزان: أنت اسمك سيد فلان الفلاني من بلدة جرج في مديرية المنيا وإذا ما بطلتش مسخرة يا ابن الكلب راح تفوتك الطيارة المسافرة إلى مصر!

ومشت الحكاية في كل السجن.. وكلما اقترب من زنزانة صاح فيه مسجون:

-احكي لنا يا سيد حكاية الميزان!!

وهنا يطلق سيد ساقية للريح!!

وهكذا ترى أنني كنت أقاوم العذاب والوحدة والإرهاب بالسخرية والضحك وكانت ضحكاتي وسخريتي تذهل الحراس وكانوا كلهم يحبونني ويعرضون أنفسهم للعقاب وللتأديب وللسجن برغم التعليمات المشددة القاسية والرقابة المتوالية بالليل والنهار!

وعندما جئت إلى سجن الاستئناف وكانوا يغلقون علي الزنزانة ثلاثا وعشرين ساعة ونصف ساعة كل يوم لم أتضايق لقد كانت محروما عدة شهور من أن أكون وحدي أذهب إلى التواليت مع حارس وأتناول طعامي في وجود الحراس وأنام في حضور أربعة حراس!

وعندما اقفلوا علي باب الزنزانة وشعرت لأول مرة أنني وحدي في غرفة غرفة خاصة بي وخلف باب مغلق حمدت لله على هذا البلاء الذي يشكو منه كل الناس ولكنه كان جنة الله بالنسبة للشهور السوداء التي أمضيتها في سجن المخابرات والسجن الحربي.

وفي بعض الأحيان كنت أشعر أنني تعرضت لهذه التجربة بصفتي صحفيا وأنني صحفي منتدب لعمل تحقيق في حياة لم يعرفها أحد مثل معرفتي لها ولقد كنت أنسى أنني الضحية وأمضي وقتي أتفرج وأشاهد وأبحث وأرقب وأدرس كأنني جئت في مهمة صحفية تقتضي أن اكتشف دنيا جديدة مجهولة لم يعرفها صحفي من قبل ولم يكتب عنها صحفي قبلي وبرغم الحراسة الشديدة والرقابة الشديدة استطعت أن أفهم كل شيء وأن أرى كل شيء وأن أحس بكل شيء ولقد كنت قبل ذلك أتصور أنني صحفي أعرف كل ما يجري ثم اكتشفت بعد ذلك أنني صحفي حمار، وأنني عشت وأنني عشت في عالم آخر مختلف عن العالم الذي تحت الأرض الذي أتيح لي في خلال الشهور الثمانية والنصف أن أعيش فيه ولو أن أحد روى لي ما رأيت لما رأيت لما صدقته أبدا ولو أن كاتبا وصف ما لمسته بعيني لتصورت أنه يبالغ ويتخيل خيالات ولقد كان من الواجب أن أسجن وأن أعيش هذه الحياة العجيبة الغريبة المذهلة وأن أرى ألوانا من البشر والناس لم اتصل بمثلهم ولم أعرف أنهم موجودون في هذه الحياة أن سياسة الاستفادة من الكوارث فعلا هي سياسة حكيمة جدا.

وأنني أعترف أنني استفدت كثيرا مما حدث لي....

الجنة .. سجن!

سجن الاستئناف .. 15 يناير سنة 1966

عزيزي...

سجن الاستئناف هو الجنة بالنسبة لجحيم السجن الأول أو السجن الحربي.

منذ أيام نقل الأميرالاي محمد يوسف المتهم في قضية حسين توفيق من السجن الحربي إلى سجن الاستئناف فوجئ المسجونون برؤية الأميرالاي محمد يوسف يركع ويقبل أسفلت سجن الاستئناف لقد فرح الضابط الكبير بالخلاص من عذاب وتعذيب اللواء حمزة البسيوني مدير السجن الحربي إن كل ما قرأته عن سجن الباستيل أقل كثيرا مما رأيته في السجن الحربي حيث تهدر الكرامات ويداس الرجال بالأقدام ويقتل المتهم من التعذيب ويدفن في الظلام في صحراء مدينة نصر ثم يعلن مدير السجن أن المتهم قد فر من السجن ويطالب بسرعة القبض عليه! أليس غريبا أن تصبح الجنة هي زنزانة؟ ولكن كل زملائي هنا الذين جاءوا من سجن المخابرات في القبة أو الاستئناف هو نعيم بالنسبة لهوان سجن المخابرات أو السجن الحربي!

هنا لا يصلبوننا على الجدار ولا يسلطون الكلاب البوليسية الضخمة تحاول أن تنهشنا وتثير فينا الفزع والرعب!!

هنا نحرم من الحرية ولا نحرم من الأدمية وعندما نقلوني من سجن المخابرات إلى سجن الاستئناف فوجئت بهم ينقلونني في موكب مسلح جنود يحملون المدافع يقفون فوق أسطح المنازل يحمون الطريق! السيارة البوكس فورد التي وضعوني فيها وسلاسل الحديد تقيد يدي السيارة مسدلة الستائر لقد شاع أن طائرة هيلكوبتر ستهاجم الموكب وتخطفني ولهذا اتخذت هذه الاحتياطات العجيبة...!

ما أسخف عقول هؤلاء الخائفين أليس من العجيب أن مسجونا مقيدا في الأغلال يخيف دولة؟

لقد لاحظت أنهم يضعون الآن أسلاك شائكة فوق جدار سجن الاستئناف وأنهم يشددون الحراسة وسألت عن ذلك العقيد القطشة مدير السجن فقال لي أنهم يخشون أن أهرب!

فقلت له أنني أهرب! إنني أريد أن أبقى في السجن وأثبت أنني برئ!

قال لي أن كل مسجون في السجن يفكر في الهرب!

أنا شخصيا لن أهرب وقد عرض علي عدد من المسجونين أن يدبروا لي خطة للهرب من السجن ولكني رفضت لأنني أريد أن أواجه العدالة لا أن أهرب منها ولكن هل ألتقي بالعدالة؟ أظن لقد قالوا لي في المخابرات وهم يحققون معي وقبل أن يقرروا إدانتي، إن الذي سوف يحاكمني هو الفريق الدجوي الذي لم يصدر حكما واحدا في حياته وأن الأحكام التي يصدرها تكتب له في مكتب سامي شرف، وتملى عليه بالتليفون وينطق بها كالببغاء وما دام أصحاب الشأن قد اختاروا لي الفريق الدجوي ليحاكمني فإنهم اختاروه ليحكم علي! وكثيرا ما كان يقول «أنا لست قاضيا أنا حامي نظام» وأنا أعرف أن الدجوي هو «مهداوي صغير» وأن محاكماته أشبه بمحاكمات المهداوي في بغداد، هذه المحاكمات الهزلية التي داست على العدالة بالأقدام!

وأجلس في زنزانتي وأتسائل هل ستجد العدالة أنصارا أم أنها وضعت معي في زنزانة واحدة؟ وهل أصبح الناس يخافون أن يعلنوا صوت الحق وهل تبقى الحقيقة إلى الأبد مقيدة بالسلاسل والأغلال؟ هل بقي حول الرئيس من يستطيع أن يحمل كلمة الحق أم أنهم خافوا وأصيبوا بالرعب بعد أن رأوا رأس الذئب الطائر! أخشى ما أخشاه أن ما جرى لي سوف يجعل الكثيرين يخافوا أن يقولوا الحقيقة للرئيس إن كل ما أخشاه أن يحدث لغيري ما حدث لي أن يلفق لأبرياء غيري كما لفقوا لي وألا يجد غيري ما وجدته من عطف الناس وحبهم وثقتهم بي التي لم تزعزعها الاتهامات الملفقة وطبول الأكاذيب المدوية!

لا أنسى ذات يوم اتصل بي رئيس تحرير في إحدى صحفنا الكبرى.

وقال لي أن الدكتور عبد القادر حاتم نائب رئيس الوزراء لشئون الإعلام اتصل به تليفونيا في مكتبه وطلب إليه أن يترك عمله على الفور في الجريدة ويلازم بيته.

وسألته ماذا فعل حتى يستحق هذا العقاب.

وفوجئت به يقول أنه في ذهول لأنه لم يعمل أي شيء!!

واتصلت بالدكتور عبد القادر حاتم وسألته عن سبب هذا القرار الذي يعني الحكم على صحفي شاب بالإعدام؟ فقال لي الدكتور حاتم أن الرئيس عبد الناصر اتصل به في الصباح المبكر وأمره أن يبلغ الأستاذ (....) أنه أوقف عن عمله ويجب أن يلزم داره، ولم يقل الرئيس لي عن سبب هذا القرار!

وبعد أيام كنت على موعد مع الرئيس جمال عبد الناصر في بيته وتحدثنا في بعض الموضوعات ثم سألته عن سبب وقف الأستاذ (...)

وامتقع وجه الرئيس وقال لي غاضبا: لا تحدثني في هذا الموضوع لقد أصدرت قرارا لا رجوع فيه إنه لن يعمل في الصحافة بعد الآن!

قلت له يا سيادة الرئيس هذا الشاب تلميذي يهمني أن أعرف فقد تكون وشاية كاذبة .. قال الرئيس فيحزم: إنها ليست وشاية كاذبة إنها جريمة مؤكدة.

قلت: ماذا فعل؟

قال الرئيس: إنه يؤلف جمعية لتبادل الزوجات!!

قلت: هذا مستحيل إنني أعرفه منذ 15 سنة وفيه عيوب مثل أنه مسرف ويستدين كثيرا ومضطرب ماليا وله غراميات ولكن هذا العيب ليس فيه على الإطلاق.

قال: إن عندي مستندات: عندي عقد تأليف جمعية تبادل الزوجات وقد ثبت أنه بخط يده!

وهنا دخل رجل متجهم الوجه أسمر اللون متقدم في السن يحمل لنا الليمون المثلج فالتفت إلى الرئيس وقلت له: إن هذا الرجل أجمل كثيرا من زوجة الأستاذ (...) فمن يقبل أن يبادل زوجته في مقابل هذه الزوجة غير الجميلة.

فقال للرئيس: هذه مسائل لا أفهم فيها ولكن المخابرات أكدت أن هذا توقيعه وخطه.

قلت للرئيس: إن الغرض من كتابة العقد في القانون أنه إذا اختلف المتعاقد أن يلجأ أحدهما أو يلجأ المتعاقد إلى الحاكم للفصل بينهما فمن هو الزوج الذي يقبل أن يلجأ للقاضي ليطلب إليه أن يأمر زوجته بأن ترتكب الفحشاء مع رجل آخر إن التعاقد على أي شيء مناف للأخلاق يبطل العقد نهائيا.

قال الرئيس: إن هذه أمور قذرة لا أفهم فيها ولكن المؤكد أنه كتب عقد جمعية تبادل الزوجات ووقع عليه!

قلت للرئيس: أرجوك أن تختار بنفسك خبيرا للخطوط فإذا قرر هذا الخبير أن هذا خط (..) فلا يعتزل العمل الصحفي فقد بل اعتزله أنا أيضا.

قال الرئيس: وما ذنبك أنت؟

قلت: أنا الذي علمت هذا الشاب وأنا الذي رشحته رئيسا لتحرير هذه الجريدة فأنا المسئول عن هذه الفضيحة.

وبعد أربعة أيام التقيت بالأستاذ (...) وأبلغته ما سمعت عن حكاية تبادل الزوجات فأكد أن الحكاية مختلقة من أساسها وإن كل ما هناك أن أخت ملحق عسكري في أوربا تحبه ويعشقها أحد المسئولين وأنهم طلبوا منه قطع علاقته بهذه الفتاة ولكن الفتاة أصرت على التردد عليه..

وأخبرت الرئيس بما سمعت فطلب منى ألا أتكلم في هذا الموضوع وسيتولى هو التحقيق.

وبعد حوالي خمسة أشهر اتصل بي الرئيس عبد الناصر تليفونيا وقال أنه أمر بعرض الوثائق على خبير للخطوط اختاره وأنه ظهر أن هذا ليس خط (..) وأنه أمر الدكتور عبد القادر حاتم بإعادته إلى وظيفته كرئيس للتحرير!

وقلت للرئيس: وماذا ستفعل سيادتك في الذين لفقوا هذه التهمة!

قال الرئيس: يكفي أنني أعدته لك رئيسا للتحرير!

قلت: إنك لم تعده لي.. إنك أعدته لجريدة منافسة.

قال الرئيس: اترك لي هذه المسائل!

وأتصور أن هؤلاء الملفقين لم يعاقبوا وأن أحدهم اشترك في تلفيق قضيتي!

ترى هل أج رجلا بجانب الرئيس يجرؤ على أن يقول له الحقيقة عني كما قلتها على الأستاذ إبراهيم.. أم تكون قضيتي هي قضية تبادل زوجات أخرى!!؟؟

أخشى أن ما حدث لي سوف يجعل الكثيرين من المقربين يترددون ألف مرة قبل أن يقولوا الحقيقة ولعلهم تعلموا مما حدث لي أن من يقول الحقيقة سوف يقطع رأسه! وقد قلتها وقطعوا رأسي!

ويظهر أن لأحد الأشخاص مصلحة في تلفيق التهم والأكاذيب على الصحفيين واحدا واحدا حتى يجيء يوم لا يبقى في مصر سوى صحفي واحد!!

إنني ما زلت عند رأيي في أن ما حدث لمحمود أبو الفتح و لحسن أبو الفتح ول أحمد أبو الفتح ليس قضية وإنما مكيدة وإنه نقل على لسانهم إلى الرئيس كلاما ما يقولوه ونسب إليهم نواياهم أبرياء منها إن كل جريمتهم أنهم يطالبون بالحياة البرلمانية و الديمقراطية وهذا أمر لم يخالفهم فيه أحد وإنما كان الخلاف هو هل الحياة الديمقراطية قبل الجلاء أم بعد الجلاء!

وإحسان عبد القدوس لفقت له تهمة كاذبة ووضع في السجن الحربي وضرب ثم أفرج عنه بعد حوالي أربعين يوما!

و موسى صبري شوهت صورته لدى الدولة وصدر قرار بوقفه عن العمل ومنعه من الكتابة لأنه انتقد «تسريحة مذيعة في التليفزيون» وقبل في تبرير هذا العقاب الغريب أن المذيعة زوجة ضابط!

وعندما علمت الدولة بأنني أمرت بصرف مرتب موسى أثناء وقفه عن العمل قامت الدنيا وقعدت وبذلت جهودا جبارة حتى لا يموت موسى صبري من الجوع!

واليوم علمت بأن صدر أمر عقب القبض علي بوقف صرف مرتبي وبمنع صرف مكافأتي وبمنع صرف الواحد والعشرين يوما التي كنت أعمل فيها بأخبار اليوم قبل القبض علي !

ويظهر أنه أصبح تقليدا أنه لابد أن يموت كل صحفي كبير من الجوع!

وأذكر أنه في أواخر عام 1960 أمر الرئيس جمال عبد الناصر بمنحي أجازة أنا وأخي من أخبار اليوم وعين السيد كمال رفعت رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم.

وكتب أنيس منصور في يومياته في جريدة الأخبار أن أحد الولاة في سوريا ضاق بثناء الناس على علم وفضل قاضي قضاة دمشق، فأمر بعزل قاضي القضاة وتعيين حمار الوالي قاضيا للقضاة وذهب الحمار إلى المحكمة وأحنى الناس رؤوسهم للقاضي الجديد!

وجاء سكرتير تحرير «الأخبار» ووضع صورة الرئيس عبد الناصر في مقال أنيس!

وفي نفس اليوم يوم صدور المقال صدر أمر بطرد أنيس من أخبار اليوم ووقف مرتبه ومنع صرف أي معاش له ومنع أية مطبعة من طبع أي كتاب له ومنعه من الإذاعة والتليفزيون ومنعه من أن ينشر مقالات في أي جريدة خارج مصر وملخص القرار العجيب أن يموت أنيس منصور جوعا!

واتسمت أنا وعلي أمين مرتبنا مع أنيس منصور لمدة عام وهو عام الفصل!

وانتهزت فرصة رضاء الرئيس عبد الناصر علي وتعييني رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال وطبت من الرئيس أن يعمل معي أنيس في دار الهلال ووافق الرئيس بسهولة عجيبة!

وفوجئت بعد أسابيع بالدكتور عبد القادر حاتمنائب رئيس الوزراء يتصل بي تليفونيا ويقول لي بصوت حزين أنه صدر قرار جمهوري بوقف أنيس منصور!

وسألته عن السبب فقال إنه لا يعرف

ثم عاد الدكتور حاتم بعد ساعة واتصل بي تليفونيا وسألني هل العدد المطبوع من المصور فيه مقال لأنيس منصور؟

فقلت له أن عدد المصور فيه مقال فعلا وفيه مقال لأنيس فطلب الدكتور حاتم وقف الطبع وإعدام النسخ التي فيها مقال أنيس منصور وكلف هذا دار الهلال بضع مئات من الجنيهات.

واتصلت بالرئيس عبد الناصر أطلب مقابلته – ولكن محمد أحمد سكرتير الرئيس قال إن الرئيس مشغول. وفهمت أن الرئيس لا يريد مقابلتي!

وبعد أيام قليلة اتصلت بالرئيس في رقم تليفونه في مخدعه وأجابني الرئيس فطلبت منه أن يتفضل ويحدد موعدا لي وقال لي الرئيس يشرط ألا تحدثني في مسألة أنيس منصور.

وقبلت هذا الشرط مرغما وذهبت إلى بيت الرئيس وتحدثت معه في كل مسألة أخرى إلا مسألة أنيس!

وإذا بالرئيس يقول لي: إن أنيس منصور يشتم رئيس الجمهورية

قلت: إنني أرى أنيس كل يوم وهو يسهر في بيتي كل ليلة ولم أسمعه يشتم رئيس الجمهورية!

قال: عندي تقارير تؤكد هذا.. أنه ليس تقريرا واحدا بل 4تقارير من 4جهات.

قلت: أليس غريبا يا ريس أن أربع جهات تقدم تقريرا عن أنيس منصور في يوم واحد.

قال الرئيس: لأنه يشتمني في كل مكان!

وقلت له: إن التهمة ملفقة من المخابرات.

قال: إن التقارير ليست من المخابرات.

قلت: من الممكن أن يصدر الأمر لمختلف الأجهزة أن تكتب تقريرا واحدا.

وقال الرئيس: إنه سيبحث الأمر...

وفعلا تبين الرئيس بعد ذلك الحقيقة .. وصدر الأمر بعودة أنيس منصور للصحافة!

ولكن هل أجد الشخص الذي يستطيع اليوم الاتصال بالرئيس ويطلب لي تحقيقا عادلا أو محاكمة عادلة؟

لا أظن!!

وفي الختام أقبلك.

مدرسة التفاؤل!

سجن الاستئناف .. 30 يناير سنة 1966

أخي العزيز...

إنني أمضي أيامي أوزع الأمل على الناس أزرع حبوب الأحلام والأماني في صحراء القلوب أحول اليائسين إلى متفائلين والأشقياء إلى سعداء.

أحاول أن أنشر مدرستك في التفاءل في كل مكان أن لي في كل زنزانة صديقًا مددت له يدي لأنقذه من الغرق في بحر التشاؤم الذي يعيش فيه وأنا أجد لذة في أن أسعد من حولي أجعل من أنصاف الأحياء أحياء!

أحول الدموع إلى بسمات أخلع نظارات المسجونين السوداء وأضع بدلا منها نظارات وردية يرون خلالها أن الحياة فيها ما يستحق أن نتفاءل به ونعيش له.

والذين حولي يدهشون لصمودي العجيب يعجبون كيف أنني لا أشكو ولا أتململ ولا ألعن الزمن ولا الأيام وأنا لست أمثل دور الرجل المتفائل بل إنني متفائل جدا أن إيماني بالله يجعلني على ثقة بالمستقبل ويجعلني مطمئنا إلى الغد مهما كان فيه من برق ورعود وأشعر بسعادة عندما يدخل المسجونون إلى زنزاناتهم متفائلين بفضل الجرعة التي أعطيتها لهم ولكني أجدهم في الصباح متشائمين من جديد أن جرعتي لا تستطيع أن تعيش 24 ساعة.

وهنا أبدأ أعطيهم جرعة جديدة يعيشون عليها بقية اليوم وتتكرر الحكاية كل صباح ومساء ولا أجد في هذا جهدا مرهقا بل أجد فيه لذة مريحة فإن من المؤلم أن تعيش في صحراء من اليأس ومن الجميل أن تعيش في حديقة كلها مزروعة بورود من الأمل ولهذا لا أمل من أن أزرع حبوب الأمل كل صباح ولا أيأس عندما أجد الورود التي رويتها قد ذبلت وماتت فأحاول أن أزرع حبوب الأمل من جديد!

واليأس يضعف الناس يحول العمالقة منهم إلى أقزام والشباب إلى شيوخ والأصحاء إلى مرضى ولو أنني تركت من حولي في السجن إلى أنفسهم لأصبحت وكأنني أعيش في قرافة الإمام!

ولقد كان المسجونون في أول الأمر يقولون لي «شد حيلك» ولكنهم لم يعودوا يقولونها فقد عرفوا أن حيلي شديد وأن المطارق التي نزلت على رأسي لم تجعلني أحني رأسي ولم تجعلني أسقط على الأرض تحت الضربات على العكس فإن هذه الضربات زادت قوة احتمالي وقدرتي على الصبر وإيماني بالغد القريب أو البعيد...

ولهذا يجب أن تطمئن على وأن تعلم أن معنوياتي جيدة وأن إيماني ببراءتي هو أشبه بمانعة صواعق حمق رأسي من أن تسقط فوق القنبلة الذرية التي ألقيت فوقه! فالإيمان بالله هو مخبأ عجيب يحمي الإنسان من كل الأسلحة الذرية النفسية التي يتعرض لها في الحياة..

ولا أتصور أنني في آخر الدنيا وإنما أتصور أنني في أولها وإذا كان ما حدث لي هو يوم القيامة بالنسبة للماضي فهو بلا شك يوم البعث بالنسبة إلى المستقبل.

ولم أستطع في هذه المحنة أن أحقد على الذين ظلموني أو أكرههم أو أفكر في الانتقام منهم وأقسم لك أنني لم أفكر في هذا أبدا ولم يخطر شيء منه على بالي أنني أطلب إلى الله أن يغفر لهم ولا أطلب من الله أن يعاقبهم على ظلمهم كما ظلموني.

وهذا الشعور يسعدني كثيرا يجعلني أحس أنني أكبر من الذين آذوني وأقوى منهم وأنني أستطيع أن أحمد الله على احتمال السياط التي يضربونني بها وأشعر في القوت نفسه أنهم لن يقدروا على أن يستمروا في الضرب بالسياط وسوف يتعبون في يوم من الأيام وسوف يلقون هذه السياط تحت أقدامهم وتحت قدمي أيضا!

والذين حولي من المسجونين السياسيين مشغولون بالسؤال عن موعد التصديق على الأحكام التي صدرت ضدهم ولكني لا أشغل نفسي بالسؤال ولا أشغل رأسي بالتفكير في هذا الشأن ولست قلقا على قضيتي والحكم فيها لأنني أعرف أن قضيتي هي أمام محكمة التاريخ وأنا واثق من أن محكمة التاريخ سوف تصدر حكما ببراءتي ...

ولقد حدث شيء في هذا الأسبوع .. وهو أننا اعتدنا أن نأخذ فسحة لمدة ساعة في حوش السجن ظهر كل يوم.

وإذا بخطاب يصل إلى السجن مكتوب عليه سري جدا، فحواه أن المساجين لا يجوز لهم أن يظهروا أمام الزوار وأنه يجب أن تكون فسحتهم في حوش صغيرة مخصص للزبالة وراء السجن!

وقيل أن السبب أن زوار السجن يرونني ويشيرون إلى ويسلمون على ويخرجون يتحدثون بما يرون!

ولقد عجبت أنه من أجلي أنا يعاقب جميع المسجونين واقترحت أن تلغي فسحتي حتى يتمتع باقي المسجونين بأن يروا ضوء الشمس ساعة كل يوم ولكن بعد الاجتماع تقرر أن تقام «ستارة من القماش» تفصل نصف الفناء عن النصف أخر وعندما يدخل فوج من الزوار لمقابلة المسجونين يخبئوننا في حوش الزبالة حتى ينتهي الزيارة!

ولقد صعدت في هذا الأسبوع إلى الدور الرابع في السجن لأشهده وكأنني أتفرج على فيلم الكونت دي مونت كريستو... منظر العرايا الذين يضعونهم في السفن مقيدين بالسلاسل بينما السجان يمسك بكرباج يضربهم به هذا المنظر رأيته تماما في الدور الرابع من السجن غرف صغيرة في كل منها حوالي 50أو 60أو 70 مسجونا عرايا بشعور كثيفة، وذقون طويلة مرسلة ورأيت المستشفى فإذا هو أشبه بزريبة في بيت فلاح مفلس أن البهائم ترفض أن تعيش في مثل هذا المستشفى ومن الطريف أن أغلب الأطباء لا يستطيعون أن يصعدوا على أقدامهم الطوابق الأربعة ولهذا ينزل المرضى نصف الأموات على أقدامهم يستندون على أذرع زملائهم ليكشف عليهم الطبيب في العيادة الموجودة في الدور الأول!

وتعتبر الزنزانة التي أعيش فيها في الدور الثاني أشبه بقصر عابدين بالنسبة إلى عنابر الدور الرابع التي هي أشبه بعشش الترجمان

ولقد أصابتني رعشة وشعور بالرغبة في القيء وأنا أرى هذه المخلوقات الآدمية تعيش في هذا الذل والقهر والحرمان وعجبت كيف أننا كتبنا تصريحات عن إصلاح السجن ولم يفكر أحد من صحفيينا أن يقوم بتحقيق صحفي عن الدور الرابع في سجن الاستئناف.

ولا عجب أن يخرج هؤلاء من السجون حاقدين على المجتمع وقد اهتزت المثل والقيم أمام أنظارهم فالحياة في مثل هذه الغرف القذرة تلغي الفرق بين الإنسان والحيوان وتعود به إلى القرون الوسطى وتجعله يحس أن المجتمع يكرهه ويحتقره وينكل به فنحن نربي الجريمة داخل السجون ولا نقضي عليها ونحول الأبرياء إلى مجرمين لا تائبين ونقضي على بقايا الخير في نفوس لو لقيت شيئا من الرعاية والرحمة لأمكن القضاء على الانحراف فيها والغريب أن المسجونين في هذه الزرائب ليسوا مجرمين وإنما متهمون مقدمون للمحاكمة وقد يصدر الحكم ببراءة الكثيرين منهم ولكن بعد أن يكون السجن قد حولهم إلى مجرمين حقيقيين.

ومرت الأيام .. وكل يوم أحسن من سابقه المعاملة تتحسن وأصبحت زنزانتي في السجن أجمل من غرفة المأمور أنني في كل يوم أضيف إليها شيئا وأجد متعة في فراشها كالمتعة التي وجدتها في فرش شقة بالزمالك! وأصبح عندي في غرفتي مرآة أرى فيها وجهي بعد أن بقيت عدة أيام لا أعرف صورتي وأحضرت حوضا وحمالة ووضعته تحت المائدة وأحضرت رفا وضعت فوقه الفرشاة والمشط والصابونة.

واختفت الملاءة القذرة التي كانت تغطي السرير، وأحضرت مخدتين وملاءات فراش تتغير مرتين في الأسبوع وصرف لي السجن ثلاث بطاطين وجاءتني من منزلي بطانية زرقاء تغطي الفراش وتجعله أشبه بغرف نوم العرسان!

وأصبحت ترابيزة السجن الخشب مغطاة، بغطاء ثمين.

وأصبحت المائدة عبارة عن مكتب وأوضة سفرة وصالون

واشتريت سجادة واعترضت عليها إدارة السجن لأنها كبيرة فأحضرت سجادة صغيرة فرشتها أمام السرير فزادت الغرفة جمالا وبهاء!

وكنت أتضايق أنني أضطر لإخراج ملابسي من الحقيبة إلى أن أنحني كرقم 8 وجئت بكرسي خشب صغير وضعته تحت الحقيقة وبذلك تحولت إلى دولاب!

وعندي في الغرفة لمبة كهربائية للمكتب أكتب الآن وأقرأ على ضوئها وأنا نائم في السرير.

وفوق المائدة رف وضعت عليه جميع الأدوية وصنعت رفين في المائدة أحدهما للكتب والثاني للسجائر وفي الوقت نفسه يقوم الرف مقام «الكرار»!

وهكذا ترى أنني حولت غرفة ثلاثة أمتار في مترين إلى شقة واسعة فاخرة مريحة فيها غرفة مكتب وغرفة نوم وغرفة صالون وحمام ومطبخ.. نعم ومطبخ..

ولقد بدأ الحر...

وإنني أمضي وقتا طويلا في القراءة وأجد فيها لذة ومتعة ولقد كنت في وقت من الأوقات قبل دخولي السجن أشكو من أنني لا أجد الوقت الكافي للقراءة وكنت أقول لنفسي أنه لابد أن أدخل السجن لأقرأ كل الكتب التي أريد أن أقرئها ولكني مع ذلك لا أحد الوقت الكافي لأقرأ كل ما أريد...

فإن الصباح والعصر أمضيتهما مع المساجين وعندما تغلق الزنزانة في الساعة السادسة مساء أبدأ في قراءة الصحف ولكني لا ألبث أن أشعر بالرغبة في النوم بسبب إرهاقي من شدة المشي الطويل فأنا أفضل أن تكون كل مقابلاتي مع المساجين وأنا أمشي معهم ذهابا وجيئة وعندما أنام أستغرق في نوم طويل وأنام مدة كافية ولا أشعر بأي أرق، أو سهاد!

ثم استيقظ في الساعة الثالثة صباحا وأبدأ في القراءة من جديد.

والآن أختم خطابي بقبلة طويلة تعبر عن شوقي إليك وعندما يصلك هذا الخطاب يكون قد مضى على فراقنا عدة شهور ومع ذلك تأكد أنني أشعر كأننا نتحدث كما كنا نتحدث ونحن نقطع غرفتي في أخبار اليوم ذهابا وإيابا أو نحن نقطع غرفة الصالون في منزلنا بالزمالك.

والحمد لله أن الأيام تمضي سراعا وأن الله أعطانا في محنتنا الصبر والصمود والإيمان وهذه ثروة ضخمة لا تقدر .. إن الله لن يتخلى عنا.

أشجع الشجعان .. من يستيع أن يصمت

سجن الاستئناف .. فبراير سنة 1966

صديقي...

ما أشقى المسجون السياسي في هذا البلد الدولة تعلن عليه الحرب بكل سلطاتها وكل سلطانها الأجهزة تطارد أهله أقاربه يشردون من وظائفهم ويبطش بهم أنه عدو الشعب رقم واحد أهدار دمه حلال ونهب أمواله حلال وتلويث سمعته حلال واختلاق الأكاذيب عليه وتلفيق التهم ضده حلال.. حلال ... حلال..!

وأنا أعيش اليوم هذه الحرب الشعواء أقرأ الصحف فأجدها تهاجمني أقرأ الصحف في البلاد العربية فأجها تؤلف عني القصص والحكايات أستمع إلى الإذاعة وأسمع بأذني اللعنات تنصب فوق رأسي.

لا يستطيع أحد أن يدافع عني أشجع الشجعان اليوم هو من يستطيع أن يصمت ولا يرتل أناشيد اللاعنين والطاعنين كانوا يقولون في الماضي أن الساكت عن الحق هو حيوان أخرس اليوم أصبح الساكت عن الحق هو البطل الصنديد وأنا اليوم أرسل الرسائل إلى أصدقائي وتلاميذي أتوسل إليهم أن يشتموني ويهاجموني ويصبوا علي الاتهامات واللعنات ليبقوا في مناصبهم فإن ثمن البقاء في المناصب الكبرى في هبذه الأيام أن يطعنوا أصدقاءهم ويهاجموا أساتذتهم وقد أصبح الوفاء والمروءة والصداقة من جرائم الخيانة العظمى الولاء للدولة يستوجب عليه ألا يكون لك ولاء لصديق وما دامت الدولة تظلم فعليك أن تظلم الأبرياء معها لتكون مواطنا صالحا!

انتهى الزمن الذي كان فيه المتهم بريئا حتى تثبت إدانته .. القاعدة اليوم أن كل مصري مجرم حتى لو ثبتت براءته الأبرياء وحدهم والوطنيون وحدهم هم أصحاب السلطان فإذا فقد واحد منهم السلطان أصبح مجرما مثلنا وخائنا مثلنا!!

ولقد سألتهم وأنا في سجن المخابرات ألا يتصور أصحاب السلطان أنهم يضعون سوابق تطبق عليهم في يوم من الأيام! ألا تعرفون أن «العز» لا يقف بباب واحد إلى الأبد ألم يخطر ببالهم أن الدوائر قد تدور عليهم فيحاكمون محاكمات استثنائية ويحرمون من حق التقاضي أمام القاضي العادل وتوجه إليهم الاتهمامات ويمنعون من الدفاع عن أنفسهم.

وكان زبانية المخابرات يضحكون ساخرين من هذه الأسئلة التي تدل على أنني فقدت عقلي نتيجة للتعذيب كل واحد من أصحاب السلطان هؤلاء يتصور أنه عقد اتفاقا مع الأبد أن يبقى فوق كرسيه يحكم وستبد ويطغى إلى أن يموت!

من سوء حظ هذا البلد أن أغلب أصحاب النفوذ والسلطان فيه أنصاف متعلمين لم يقرأوا التاريخ أو قرأوا خاتمة كتاب التاريخ لعرفوا أن لكل طغيان نهاية ولكل استبداد أخر وأن الدنيا دوارة لا تستقر على حال ولو أنها كانت قد دامت لغيركم لما جاءت إليكم كل هذا يجهلونه لأنهم لم يدرسوا التاريخ ولم يعلموا أن قصص الاستبداد تنتهي دائما بأن يجيء دور الجلاد في المقصلة

والذي يذهلني أن المسجون السياسي المصري كان يعامل في عهد الإنجليز أحسن مما يعامل في عهد المصريين! حدثني الفريق عزيز المصري باشا أنه عندما قبض عليه عام 1941 ووضع في سجن مصر بتهمة محاولة الانضمام إلى قوات العدو كان حسين سري باشا رئيس وزارء مصر وقتئذ والحاكم العسكري فأصدر أمرا بأن يصرف للمسجون عزيز المصري عشرة جنيهات كل يوم مصاريف طعامه وملابسه وحاجاته وخصص له ضباط شرطة يقوم بخدمته في السجن! وأنه كان يرسل الضابط كل صباح في تاكسي ليشتري له إفطارا من جروبي ويرسله في الظهر ليشتري غداء من فندق سميراميس ويرسله في العشاء ليشتري عشاء من فندق شبرد وكانت العشرة الجنيهات في تلك الأيام تساوي مائة جنيه اليوم، وكان يبقى من مصروف اليوم مبالغ كبيرة كان عزيز باشا يشتري بها بذلة له، أو بذلة للضباط الذي يتولى حراسته!

وحدثني الدكتور محمد حسين هيكل باشا أنه سنة 1924 كان يرأس تحرير جريدة «السياسة» وكان يهاجم كل يوم سعد زغلول زعيم الأمة ورئيس الحكومة وشكاه سعد إلى النائب العام فوضعه في السجن وسمع له رئيس الحكومة بأن يشرف على تحرير جريدة السياسة ويقابل المحررين ويصحح البروفات ويكتب وهو في زنزانته في السجن وكان الدكتور هيكل باشا يعتبر هذه المعاملة الطيبة اعتداء على الحرية!

وأتذكر أنني أمضيت في سجن المخابرات 132يوما وأهلي لا يعرفون أين أنا ولم يسمحوا لي أن أكتب خطابا لأولادي كما لم يسمحوا لي بأن أستقبل محاميا أو أوكل محاميا وأن كثيرين من المسجونين السياسيين ومن بينهم مستشار في محكمة النقض وأساتذة جامعة وقضاة وعدد من المحامية والأطباء والمهندسين وعلماء الذرة ملقى بهم في زنازين السجن الحربي وأهلهم لا يعرون هل هم أحياء أم أموات!

ولقد أتيح لي اليوم أن أجلس في غرفة الضباط مع تمثال للشقاء!

أنها زوجة مسجون منذ عام 1954 وسمعتها تقول لي:

- لن أحدثك عن حياة الجحيم التي عشتها منذ أن زارنا زوار الفجر في 11سنة وكيف انتزعوا زوجي من بين ذراعي ومن بين أطفالنا الصغار وكيف اقتادوه مكبل اليدين معصوب العينين إلى غرف التعذيب ولن أحدثك كيف صلبوه عاريا وكيف انهارت السياط تمزق جسده ومازلت آثار السياط تشوه جسده النحيل... كأنهم حرصوا أن يوقعوا بسياطهم على كل جزء من جسده.

ولا تزال الإمضاءات واضحة على جلده برغم مرور سنوات وسنوات ولم يستطع زوجي يوما أن يمسك القلم ليكتب بنفسه ما يريدون من اعترافات لأنهم انتزعوا أظافره وكان الدم ينزف غزيرا من أجزاء كثيرة في جسده لا أريد أن أحدثك عن أنهم ضربوه وعذبوه لأنه نقطة دم من دمه سقطت على الورق الأبيض الذي جاءوا به ليكتب عليه اعترافاته ولأنه لوث بدمه المسفوك بياض الورق الأبيض!

ولن أحدثك عن المحاكمة الصورية التي قدموه لها عن الأحكام التي تصدر قبل بداية المحاكمة عن قضاة عسكريين يتلقون الأحكام بالحكم على المتهمين كما يتلقون الأوامر العسكرية في الطابور!

لن أحدثك عن الحرمان وشح الجوع الذي يتهددني وأطفالي بعد أن نهبت أموالنا وصودر مورد رزقنا وأصبحنا بلا دخل وأصبحنا بلا دخل على الإطلاق نحن أسرة مسجون سياسي نعيش بلا إعانة وبلا معاش والويل كل الويل لمن يرق قلبه ويقدم لهذه الأسرة البائسة إحسانا أو صدقة أو حتى «جلبابا» يقي الطفل الغير برد الشتاء.. زوار الفجر وضعوا قانونا بمنع التراحم والتعاطف والمروءة والبر بأسر المسجونين السياسيين ويعتبر كل من يقدم لقمة خبز لأسرة مسجون سياسي شريكا في التهمة ومتآمرا على آمن الدولة!

«إنني أريد أن أحدثك عن هذه الإنسانة التي شاء قدرها العاثر أن تكون زوجة سجين سياسي! أنني أواجه معركة ضارية مع الحياة ومع لقمة العيش ومع ذئاب البشر أنت تفهم جيدا معنى أن تجوع زوجة السجين ومعنى أن يجوع الصغار!!

«كان من الممكن أن أهرب من هذه المعركة الطاحنة التي فرضها على القدر الساخر وكان من الممكن أن أطلب الطلاق وهذا حقي وبذلك أريح نفسي من مرارة العذاب وقسوة الحرمان وأبحث عن رجل آخر.. أي رجلي يأكل عيش وجبنة ولكني كإنسانة عربية أصيلة أبيت أن أتخلى عن رجلي في محنته يجب أن أبقى بجانبه 9 سنوات أخرى بعد الإحدى عشرة سنة التي مضت سأبقى مهما كانت التضحيات خاصة أنني مؤمنة ببرائة رجلي أنه واحد من مئات المظلومين بلا تهمة والمحكوم عليهم بلا محاكمة والمسجونين بلا جريمة!

«وأنا أواجه وحدي أعاصير الحياة أمضيت سنوات من العذاب والحرمان والآلام ومطاردة أشباح الظلام وأشياء رهيبة كافية لأن تجعلين أفضل الموت على أن أواصل الحياة!ّ

«وصمدت ولكن أثاثات البيت وحلل النحاس لم تصمد للحجوزات ومطالب الدائنين!

«أنا قاومت الجوع ولكن بطون الأطفال تمزق قلبي وهي تصرخ بالجوع...

«حاولت أن أجد عملا ولكن اسم زوجي في القائمة السوداء جعلني أطرد من كل عمل أتولاه أنها اللعنة الكبرى التي تطاردني أنني زوجه مسجون سياسي!!

«فكرت أكثر من مرة في الانتحار» ...

«ولكني كنت أتردد في آخر لحظة عندما أسمع صراخ وحد من أطفالي»...

«ما ذنبي؟ أليس من حقي أن أعيش كإنسانة؟ مازلت أؤمن بالخير وكالحب والجمال وانتصار كل ما هو خير وشريف..أليس من حقي أن أكل أليس من حقي أن أشبع بعد أن صبرت على الجوع تشويني نيران الحرمان؟ ما أقسى أن تعيش امرأة ليالي طويلة دون عشاء لتوفر لقمة العيش لأطفالها ما أقسى أن تتحمل امرأة شظف العيش سنوات وسنوات من أجل أن تقوم بواجبها نحو أولادها

ما أقسى أن تقاوم امرأة جائعة بمفردها ضد دولة بسلطانها!

أن واجب المجتمع أن يحميني قبل أن ترتوي الذئاب بدمي واجب المجتمع أن يمنعني من الانتحار واجب المجتمع أن يمنعني من دخول مستشفى المجاذيب فالمجانين في هذه الأيام في حاجة إلى «واسطة » ليدخلوا مستشفيات المجانين..

وصرخت المرأة قائلة: متى يضعون نهاية لنظام «المنبوذين» ؟!

وهنا صاح ضابط السجن .. انتهت الزيارة سعادة المفتش

سجن الاستئناف..فبراير سنة 1966

صديقي العزيز...

والآن تعالى أحدثك معي عن حياتي في السجن.

أن السجن عاش هذه الأربعة والعشرين ساعة في قلق وانتظار أن خبرا خطيرا وصل إلى السجن أن المفتش سيزور السجن غدا الساعة السابعة صباحا!!

وانتقلت الهمسات من أذن إلى أذن من المأمور إلى الضباط من الضباط إلى الصولات ومن الصولات إلى الحراس ومن الحراس إلى المسجونين وكأن عصا سحرية مست السجن كله خرجت فرق النظافة تنظف فناء السجن لذي هو أشبه بصفيحة كبيرة للزبالة حمل عدد من المساجين الجرادل والمقشات وراحوا يدعكون بلاط الممرات في السجن بعد أن كانت تغطيه طبقة من التراب بحيث لا تعرف هل تدوس على أسفلت أو بلاط أو تراب وتشعلق مسجونون آخرون على الأعمدة الحديدية ينظفونها ويلمعونها خشية أن يتشعلق مسجونون آخرون على الأعمدة الحديدية ينظفونها ويلمعونها خشية أن يتشعلق المفتش عليها ويكتشف التراب وأسرع الممونون يخبئون ما لديهم من الممنوعات الذين معهم نقود.. أو حشيش أو سجائر يخفونها في شجرهم ولم أتصور في حياتي أن الشرج ممكن أن يتسع ليصبح خزانة نقود أو فريجيدير!

وكان علي أن أستعد أيضا لحضور المفتش أن المأمور سبق أن قال لي أمام أحد المفتشين أيضا أن غرفتي ملأى أكثر من اللازم يجب أن أعيد ثلاثة أباعها إلى البيت واكتفي بالضروري وحرت ماذا أفعل وقررت أن أستيقظ في الساعة الثالثة صباحا لأقوم بعملية تنظيف في الغرفة المصباح وضعته تحت السرير وأخفيته تحت الصحف والمجلات الشمعة التي أستعين بها عند انطفاء النور وضعتها داخل فردة حذاء وغطيتها بأحد الجوارب والراديو أين أضعه وضعته تحت المرتبة ولكني خشيت أن يكون المفتش فضوليا ويقلب ما في جردل البول فقررت أن أضعة في جيبي الخلفي ولكن ماذا يحدث لو تحرك فجأة القرص أثناء جلوسي أو تحركي وأخرج الراديو صوتا في أثناء وجود المفتش ولكني قامرت بوضعه في جيب البنطلون الخلف على ما أمل أن يخجل المفتش ولا يفتش البنطلون ثم هنا وأبور صغير لتسخين الطعام وهو ممنوع أيضا فأخفيته تحت كمية من البرتقال والبلح!!

وبقيت من الساعة الثالثة صباحا أنتظر المفتش ثم وضعت حقيقتي تحت السرير وأخفيت سبتين أضع فيهما الجبن والمخللات والفاكهة والكبريت تحت السرير أيضا حتى تبدو الزنزانة متواضعة عندما تطل عليها الطلعة البهية لسعادة المفتش وفي الساعة الثانية وصل المفتش وصاح عسكري .. انتباه وسمعت العساكر يعدون في الطرقات ويلمعون أحذيتهم وزرايرهم الصفراء ويعدلون وينظمون في هندامهم.

وبقيت أنتظر وصول المفتش إلى غرفتي ولكن المفتش مر على المسجونين السياسيين مرور الكرام ثم نزل إلى غرفة المأمور ليشرب القهوة ويقرأ جرائد الصباح وتنفست العنابر والزنازين الصعداء وبدأ السجانون يفتحون الزنزانات وقالوا لنا أن أن الخطر زال..

وبدأنا نمشي في أروقة السجن ونلقي بأعقاب السجائر على البلاط وبدأ السجانون يفكون أربطتهم الجلدية وزراير جاكتاتهم.. وعدت إلى غرفتي وأخرجت الحقائب من تحت السرير وتخلص بنطلوني من الراديو وعادت غرفتي إلى ما كانت عليه.

وفجأة صاح الحراس انتباه وأسرعنا نعود إلى زنزاناتنا ونغلق الأبواب علينا أن المفتش سيفتش من جديد لقد انتهى من شرب القهوة وقراءة جرائد الصباح وعدت أقوم بعملية أخفاء الممنوعات من جديد وأحمل الحقائب وأضعها تحت السرير.

وأسرع عدد من المسجونين يجمعون أعقاب السجائر من الأرض ويعيدون مسح البلاط ويتشعلقون على الأعمدة الحديدية يعيدون تنظيفها خشية أن تكون اتسخت من خلال الساعة التي كان يقرأ فيها المفتش جرائد الصباح وصعد الضباط إلى الدور الثاني الذي نحن فيه ليشرفوا بأنفسهم على نظافة الأبواب والنوافذ والأسفلت والبلاط وساد السجن الهدوء وكان الحراس يمشون على أطراف أصابعهم بعد أن كانوا يضربون الأرض بأقدامهم وكأنهم يجلدونها وتوقفت مظاهرات الانتحار اليومية نعم إننا كل يوم نشهد محاولة للانتحار وهي طريقة المسجونين للاحتجاج على أي ظلم وقع عليهم فالذي يحدث أن يتشعلق أحد المسجونين على «كمرة» حديد من الحديد الذي يحمل بلكونات السجن الداخلية بحيث لا يستطيع أحد الوصول إليه ثم يجلس فوق الكمرة مهددا بأن يلقي نفسه من الدور الثالث إلى الأسفلت ويقف المسجونون في البلكونات يرجون المسجون ويتوسلون إليه إلا ينتحر وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات حسب قدرة المسجون على الاحتمال يحضر الضباط أو المأمور فيروي له شكواه يوعده الضباط بأن لن يعاقب لأنه حاول الانتحار ثم ينزل المسجون من مكان الانتحار بين تصفيق المعجبين!! ولكن تحدث في بعض الأحيان محاولات انتحار حقيقية فقد حدث أن ألقى أحد المسجونين بنفسه من الدور الثالث والغريب أنه سق واقفا دون أن يصاب بخدش...

وأنا أتفرج على المسجونين وهم يتعلقون بالأعمدة ويصعدون عليها وأعرف منها كيف أن اللصوص يجيدون تسلق مواسير المياه لسرقة العمارات! وحدث أن أراد مسجون أن ينتحر فأخذ موشى وفتح بها بطنه بحيث أصبحت ترى أمعائه وفتح أحد المسجونين خصيته وكان منظر الدم يسيل منهما وهو يسير على قدميه منظرا غريبا جدا! وبقيت محبوسا في داخل زنزانتي عدة ساعات حتى جاءت الأخبار بأن المفتش غادر السجن بسلامة الله وفتحت الأبواب وخرجت الممنوعات من المخابئ وخرجت الحقائب من تحت السرير!!

ولم يدخل المفتش زنزانتي ولم يفتشها طبعا وقال لي الضابط أن المفتش خاف أن يدخل غرف السياسيين لأن لسانهم طويل وقد يقولون أشياء ويتكلمون معه بلهجة لا تتفق مع مقامه السامي أمام المأمور والضابط والمسجونين وحسنا فعل!

ولقد أمضينا اليوم نضحك لقد زهقنا من عملية إخافة زميلنا الإرهابي رقم 11 وإظهار العفاريت واتفقنا معه على أن نعمله المسيح الجديد «أن الكتب الدينية تقول أنه سيظهر في آخر الدنيا المسيح الدجال وسيدعي النبوة فلماذا لا تدعي زكريا النبوة ويقول أنه المسيح الدجال!

واتفقنا معه على أن نشيع حوله الكرامات والمعجزات فيتظاهر أحد المساجين بأنه مات ثم يمر الإرهابي رقم 11 بيده على الميت فتعود إليه الروح! أو يطلب سماع أغنية في الراديو وفجأة يذيع الراديو الأغنية التي يطلبها سيدنا الإرهابي أو ندعي أن الإرهابي مر بأحد المسجونين فشكا المسجون من طول سجنه فيقول له الإرهابي رقم 11 بعد ساعة ستخرج بعد 50 دقيقة بعد 40 دقيقة بعد 5دقائق وفجأة يجيء السجان يبلغ المسجون نبأ الإفراج عنه.

ووافق صديقنا الإرهابي رقم 11أن يقوم بدور المسيح الدجال!

وفجأة وجدنا أن كتب الدين تقول أن المسيح الدجال بعين واحد بينما زكريا بعينين اثنين!

وقلنا له الحل هو أن نخرق إحدى عينيه!

واستغاث سيدنا الإرهابي بالحراس ووعدناه أن نترك له العين...

ثم بدأنا نمثل المعجزات والكرامات التي سوف يحققها سيدنا الإرهابي وإذا بسيدنا الإرهابي يصدق فجأة أنه أصبح نبيا وأن الرسالة نزلت عليه بحق وحقيقي.

وأحضرنا ثلاثة من المساجين تظاهروا بأنهم ماتوا ثم بدأ سيدنا الإرهابي يحييهم...

وفجأة قام الأموات الثلاثة وضربوا الإرهابي رقم 11علقة اقتنع بعدها أنه ليس نبيا ولا مسيحا ولا سيدنا ولا حاجه أبدا.

كانت أمي على حق!

سجن الاستئناف ..15 مارس سنة 1966

أخي العزيز ..

قرأت خطابك المؤرخ 3 مارس أن خطاباتك تسعدني إنني أنتظرها بفارغ صبر أنا يحتلني شعور أنني أعيش معك ولقد أسعدني أنك بدأت تضيق بالروتين في حياتك وأنك قررت أن تخرج من غرفتك في الفندق التي سجنت نفسك فيها وقد شعرت في الوقت نفسه أنه يجب أن أكتب حتى لا أنسى الكتابة وشعوري أنك تقرأ ما أكتب يجعلني أجد لذة في أن أكتب إليك، وأكتب طويلا ولولا الظروف التي أنا فيها لكتبت لك أكثر ولكني أنتهز فترات معينة لأستطيع أن أكتب لك فيها وبعد أن كنت أشكو أن باب الغرفة يقفل علي 23ساعة ونصفا كل24 ساعة أصبحت الآن غرفتي مفتوحة من الساعة الثامنة إلى الساعة الخامسة بعد الظهر إلا عندما يصيح الحراس «انتباه» فنعرف أن المأمور في طريقه إلى الطابق الذي أنا فيه فنجري جميعا إلى غرفنا ونغلق الأبواب خلفنا ومع ذلك فقد أصبحت أزهد في هذه الحرية وأتمنى أن يغلقوا الباب لأنفرد بك وأكتب إليك أتحدث معك وأفتح لك قلبي وأناجيك وأتكلم معك على الورق وإن كنت أتحدث إليك وأتكلم معك طول الليل والنهار بغير قلم وبغير ورق!

لقد خرجت اليوم لأول مرة منذ انتهاء المحاكمة لأذهب إلى مستشفى المنيل الجامعي القصر العيني الجديد- لأقوم بتحليل الدم وقد مضى علي أكثر من أربعة أشهر لم أحلل دمي ولقد تقدمت أطلب السماح بتحليل دمي منذ أربعة أشهر ولكن الطبيب هنا أخصائي في أمراض الولادة!!

وبقي الطبيب حائرا ومترددا وخائفا يقدم ساقا ويؤخر ساقا ثم طلب مني أن يحلل البول أولا ليرى هل في البول سكر أم لا؟ وتم تحليل البول وقالوا لا يوجد سكر وما دام لا يوجد سكر في البول فلا يجرؤ الطبيب أن يطلب تحليل الدم بعد أخذ ورد وجذب وشد اتفقنا أن أحصل من الدكتور الصيفي على آخر شهادة بتحليل الدم وأنه به «سكر» وحصلنا على الشهادة وأرسلنا الطلب إلى النيابة ثم جاءت الموافقة بأن أذهب لتحليل دمي في مستشفى القصر العيني.

وحضر ضابط وجندي ليصحباني وضابط من المباحث وركبنا سيارة ملاكي وهي أحسن بكثير جدا من السيارة اللوري التي كنت أركبها في ذهابي إلى المحاكمة فقد كانت السيارة اللوري التي كنت أركبها في ذهابي إلى المحاكمة أشبه بالجمل وكانت تقفز في أثناء الطريق وحدث مرة أن توقفت وراح الضابط والعساكر يصيحون «اللي يحب النبي يزق» ولكن في هذه المرة كانت السيارة محترمة وكانت أول سيارة محترمة أركبها منذ سبعة شهور ونصف وعند باب المستشفى رأينا خيرية وزينب ولوحت لهما بيدي، لأن الضابط توسل إلي ألا أتحدث إليهما وإلا فسوف يتخرب بيته!!

وذهبنا إلى عنبر اسمه المعتقل وهو أحد عنابر المستشفى ومن الصدف الغريبة أنه عنبر مرضى البول السكري وقد خصص العنبر للمعتقلين وبابه مغلق بالمفتاح وطرقنا الباب وفتح لنا عسكري وجلسنا في صالة العنبر مع ضابط إلى أن يذهب ضابط المباحث ويبحث عن الطبيب الذي سيقوم بعملية التحليل وكنت مهتما أن أذهب إلى هذا العنبر لأرى كيف يعيشون في المستشفى وقابلت هناك محمد يوسف الأميرالاي الذي كان مسجونا معي في سجن الاستئناف ونقل إلى مستشفى القصر العيني وكنت أتصور أن الحياة في المستشفى جنة وأنها أحسن من الحياة في السجن ولكني لم ألبث أن اكتشفت أننا كنا مخطئين جدا في تصورنا وأن الحياة في السجن أحسن كثيرا جدا من الحياة في معتقل المستشفى عرفت أ، الزيارات ممنوعة! وأن بنات محمد يوسف كن يحملون تصريحا بالزيارة من النيابة ولكن المعتقل رفض الاعتراف بهذا التصريح بينما كان محمد يوسف يستطيع أن يقابل أسرته وهو معنا في سجن الاستئناف مرة كل خمسة عشر يوما وعرفت أن الطعام من البيت ممنوع وأن المرض يأكلون من أكل المستشفى وهو لا يطاق وكنت أتمنى أن أذهب إلى المستشفى متصورا أنني سأكون في غرفة وحدي طوال اليوم ويجيئني الزوار ويكون في غرفتي تليفزيون وراديو كما كان يحدث في الماضي مع المسجونين الذين كانوا ينقلون إلى المستشفى ولكن النظام الجديد ألغى كل هذه الرفاهية وجعل المريض المقيم في المستشفى يتمنى أن يشفى سريعا جدا ليعود إلى السجن من جديد!

وقد طلب محمد يوسف إعادته إلى السجن والغريب أن طلبه رفض فإن دخول الحمام مش زي خروجه!!

ولقد حمدت الله أن طلب المحامين نقلي إلى المستشفى لم يقبل فإن الحياة في المستشفى كما رأيتها اليوم ليست هي الحياة التي كنت أتخيلها وكان المسجونون معي يبالغون في وصف جمال الحياة في المستشفى وكأنها غاية المراد من رب العباد...!

ولقد استقبلني الدكتور محمد عبد المنعم أبو الفضل أستاذ قسم البيولوجيا الكيميائي الذي سيتولى التحليل وقال لي أن التحليل لا ينفع اليوم وطلب مني أن أعود إليه يوم السبت وأن أجمع 24ساعة بول وفهمت أنه أراد أن يعطيني فرصة لأرى الشارع مرة أخرى!

ولقد تصورت وأنا خارج من باب السجن أنني سأفرح عندما أرى الشوارع التي لم أرها منذ وقت طويل ولكني في الواقع لم أشعر بطعم الحرية كما كنت أتصور كنت أتوهم أنني سألتهم الشوارع بعيني سأكل الناس بنظراتي ولكني لم أحس بأي شيء كنت أشبه بسائح وكنت أتوهم أنني سأرى أن المدينة قد تغيرت ولكني لم أشهد شيئا مختلفا أو جديدا!

وسارت بي السيارة في شاعرا لدواوين ومرت أمام البيت الذي نسكنه وهدم وأصبح عمارة وأمامه مدرسة الأوقاف التي كنا تلاميذ بها وبجوارها الحواري التي كنا نلعب فيها الكرة وقد مرة بسرعة ذكرياتي على أيام طفولتنا في هذه الأماكن حيث ولدت أحلامنا وحيث أصدرنا مجلتنا الأولى بالبالوظة ثم عندما مررت بالمكان الذي كانت فيه مطبعة أحمد شفيق باشا وتذكرت عندما أصدرنا مجلتنا الأولى بالمطبعة وعمرنا 14 سنة ومرت السيارة بعد ذلك أمام بناء مدرسة المنيرة التي كنا تلاميذ بها ثم بناء دار العلوم التي كانت مدرسة المنيرة في وقت من الأوقات وأحسست كأنني أمشي من جديد في طفولتنا في تلك الأيام التي كانت بنطلوناتنا قصيرة وأحلامنا طويلة عندما كنا نصدر مجلة التفوق والبيان والأسد بالقلم الرصاص ثم مجلة الطالب بالبالوظة ثم مجلة التلميذ بالمطبعة ثم رحت أتذكر كيف كانوا يضربوننا «علق» لحبنا للصحافة ما أبعد نظر أمي وتذكرت بعد ذلك أن ما يصيبا الآن هو نوع من «علق» التي كنا نتلقاها ونحن أطفال ونتصور أنها نهاية العالم ثم تمضي الأيام ونذكر هذه العقوبات ونضحك ولعله سيجيء يوم نتذكر فيه أيضا «العلق » التي نأخذها اليوم وسوف نضحك أيضا! وفي طريق عودتي مرت السيارة بجاردن سيتي ثم مرت أيام الجامعة الأمريكية التي كنا تلاميذ بها ثم مرت أمام عمارة بحري حيث كانت مكاتبنا في مجلة أخر ساعة!

ولقد كانت هذه الرحلة تحليلا لذكرياتي لا تحليلا لدمي وما دمي إلا ذكرياتي!

ونسيت أن أقول لك أنني في المستشفى احتفلت بي الممرضات وكن يجرين ورائي أثناء انتقالي من عنبر إلى عنبر حتى ضاق بهن ضابط المباحث وقال «مرقعة بنات» واضطررت أو أوافقه على رأيه منافقا بينما كنت في قرارة نفسي سعيدا بهذا الاحتفال!

ونسيت أن أقول لك أنني سررت عندما علمت أن وزنك نقص وأن بنطلوناتك أصبحت في حاجة إلى تضييق ولقد كنت أتمنى أن تنتهز الفرصة وتنقص وزنك ولعلك لا تعرف أنني أرتدي حزامك الأسود بعد أن أصنا إليه عدة خروق وأنني أستعمل كلسوناتك وأنني أرتدي بعض كرافتاتك وهذا يسعدني كثيرا فإنني أشعر وأنا أرتديها كأنك معي .... لا أستطيع أن أحضر أي شيء من بيتي لأن بيتي مغلق بالضبة والمفتاح بأمر نيابة أمن الدولة! أما حالتي المعنوية فهي جيدة ولكما أحس بجب الناس أجد في ذلك هناء وسعادة وأنني متفق معك في أن الناس هائلون وأن حبهم هو أجمل ما في الحياة وكم أشعر بسعادة وأنا أمشي بني المسجونين وأراهم يرفون أيديهم إلى السماء ويبتهلون لي أو يقولون ربنا معاك قلوبنا معاك كلنا معاك أن هذه التحيات التي أسمعها في كل مكان كأنها موسيقى بتهوفن الخالدة التي أمل سماعها والتي تملأ روحي هناء وتفاءلا وإيمانا.

والآن تعالى أضمك إلى صدري وأقبلك قبلة طويلة طول الأيام والأسابيع والشهور التي لم نلتق فيها ..

وسوف نلتقي بإذن الله...

خطاب على جهاز تسجيل

سجن الاستئناف .. 23 مارس سنة 1966

أخي العزيز....

لا تتصور فرحي بخطابك الذي هربوه إلي الذي أخبرتنا فيه بوصول حديثي «على جهاز التسجيل» الذي سجلته خيرية في الزيارة في غفلة من الحراس لقد كنت أنتظر بفارغ صبر لأعرف أنك تجلس الآن في فراشك وتسمع صوتي.. ولا شك أن صوتي جعلك تعيش معنا بأذنك بعد أن عشت معنا بإحساسك وبقلبك وأرجو أن يجيء اليوم الذي نعيش فيه معا بعيوننا أيضا أن نجاحنا في إدخال جهاز تسجيل داخل السجن أرسل عليه إليك خطاباتي بصورتي هو مغامرة مذهلة لا يقوم بها إلا مجانين..

وقد قمنا بها!

ولقد فرحت بالخطاب لأنه كان خطابا طويلا وكنت عادة أضع الخطاب في جيبي إلى أن يغلق باب الزنزانة لأخلو إلى الخطاب وأستمتع به ولكني لم أستطع الانتظار وغامرت وجلست أقرؤه وباب الزنزانة مفتوح وأنا مهدد بدخول أي حارس أو ضابط قد يسألني ماذا تقرأ ولكن ولله الحمد لم يدخل أحد وقرأته مرة ومرتين وثلاث مرات ثم قرأته بعد أن أغلق باب الزنزانة وقبل أن أنام وبعد أن استيقظت من النوم وهو سوف يفارقني اليوم وكأنه حبيب سيفارقني وأنا سعيد أن الأيام أثبتت أن رأينا في المرأة في محله فإن في هذه المحنة ظهر بوضوح أن المرأة «أرجل» كثيرا من الرجال والواقع أن هذا ليس مفاجأة لي فقد توقعت ذلك دائما وأنت لا تتصور حماس النساء والأمهات لك ففي عيد الأم كانت هناك أمهات يزرن أولادهن المسجونين وكانت السيدات يقلن لي والني تسلم على أمين وتقول له كل أم موش ممكن راح تنساه مهما غيروا اسم عيد الأم» لقد صدر قرار بتغير اسم عيد الأم إلى عيد الأسرة حتى ينسانا الناس ولم ينسنا الناس ولم ينسوا عيد الأم!

ولقد كان اليوم يوما مهما بالنسبة لي لقد زارتني أسرتي وأمضينا وقتا طويلا جميلا نضحك ونتحدث ونمرح ونروي قصصا وحواديت كانت المقابلة في غرفة المأمور ولكنا لم نشعر بوجوده ولقد أحسست أنني أتكلم لك وأتكلم معك وأقول لك أنني بخير وأن أعصابي قوية وأن الأيام تمر على بسرعة ولا أصدق أنه مضى على مسجونا ثمانية أشهر ويمان وأنني الآن أدخل الشهر التاسع ولعل كثرة الأحداث التي وقعت لي وتتابعها وسرعتها جعلت الأيام تقفز ولا تجعلني أشعر أنها تمضي على مهل!

ولقد كان اليوم يوما جميلا حقا فما كدت أخرج من مقابلة أسرتي حتى رأيت في الحوش إبراهيم شفيق القباني مندوب بنك التسليف في الشركة العامة لمنتجات الجوت و سيد حسن عزام المهندس بقسم التجهيز بشركة الجوت وهما المتهمان بأنهما قالا أن مصطفى أمين مظلم وسيطلع برائة ومشيت معهما في الحوش وقالا أنه مضى عليهما في السجن 31يوما فقلت لهما أن شعوري أنهما سيفرج عنهما في خلال ثلاثة أيام وأن هذا هو إحساسي فإذا لم يتم هذا فمعنى ذلك أنني فقدت أحسن خواصي وهو حاسة الإحساس!

وما كدت أنتهي من هذا الحديث حتى جاء مسجون من الذين يعملون في إدارة السجن وهمس في أذاننا بأنه وصل الآن خطاب من النيابة بالإفراج عنهما بدون كفالة وهجم الاثنان علي بالقبلات وقبلتهما وشعرت بسعادة لا حد لها بالإفراج عنهما فقد هزني أن يقبض عليهما بسببي وتعذبت وأنا أرى زوجة أحدهما تبكي ولا تستطيع أن تواجه عريسا وراء القضبان وهي لا تزال في شهر العسل!

وانتشر الخبر في السجن كله وأقبل على السجانون والمسجونون يهنئونني ويقولون لي عقبالك» وراح المسجونون يستنتجون من الإفراج عن هذين المسجونين أنه سيفرج عني أيضا وحاولت أن أفهمهم أنه لا علاقة بالإفراج عني بالإفراج عن المهندسين ولكن المسجونين أصروا –رأسهم وألف سيف- أن لابد أنه سيفرج عني قريبا جدا وراهني مسجون اسمه الأستاذ مصطفى عبد العظيم بعشرة جنيهات أنه سيفرج عني في خلال خمسة عشر يوما وهرول السجانون إلي يقولون أنهم واثقون أن معنى الإفراج عن هذين المهندسين أنه سيفرج عني خلال أيام، ويقسمون ويؤكدون ويراهنون ويتهمونني بأنني أعرف أنه سيفرج عني وأني أخفي عنهم هذا السر الرهيب وعبثا حاولت إقناعهم أن هذه الأحلام لا أساس لها من الواقع وغضب بعضهم وقالوا لي: سيبنا يا أخي نفرح لماذا تريد أن تنكد علينا وتفسر هذا الحلم الذي نشعر جميعا بأنه سيتحقق فورا..

وقلت لهم أنني لا أريد أن يبنوا قصورا في الهواء وأنني أعتقد أن المسألة ستطول . ولكن أحدا منهم لا يريد أن يصدقني أن كل من في السجن يتصور أنني سأخرج قريبا وأن المسألة مسألة أيام.

وكثير من هؤلاء يحبونني وبعضهم يحبون أنفسهم إذا خرجت فسوف أبلغ المسئولين المظالم التي شهدتها بنفسي ولمستها بيدي...

ولقد سررت كثيرا بأن فائق السمرائي و سعيد فريحة مقتنعا تمام الإقناع ببراءتي بعد أن حاولت المفتريات والأكاذيب أن تضلل سعيد ولا تتصور يا علي مصر وحدها بل في كل البلاد العربية أن هذا أكبر عزاء لي أنه يجعلني أحب الناس كلهم يجعلني أتمنى أن آخذ الدنيا كلها بين ذراعي وأقبلها وأشكرها أنني أرى الرأي العام هنا كل يوم!]

إنني أحس به وألمسه وأصافحه وأتحدث إليه أنهم يقولون لي بألسنتهم وبعيونهم وبأيديهم أشياء جميلة تسعدني هي الدواء لجراحي والبلسم لآلامي أنه لولا هذه المحنة لما رأيت عواطف جميلة بريئة طيبة مخلصة كالتي رأيتها أولئك الناس الذين يعرفونني ولا أعرفهم الذين لا أملك لهم ضرا ولا نفعا ولكن يعطونني حبا وثقة ودعوات جميلة نبيلة لقد كنا على حق في إيماننا بهذا الشعب وفي تفانينا في خدمته والدفاع عنه أن في هؤلاء البسطاء وفاء غريبا أنهم لا ينسون أبدا أي شيء قدمناه لبلادنا أنهم يتحدثون عنا وكأنهم يعرفوننا طوال أعمارهم وفي بعض الأحيان أحس بأن ما أعطاه الناس لي في هذه الفترة الوجيزة هو أضعاف ما أعطيناه للناس طول عمرنا وأن الله لا يمكن أن يتخلى عن الذين عاشوا حياتهم للناس ومن أجل إسعاد الناس ولم يفكروا يوما في أنفسهم وهذا ما يجعلني أؤمن بأنني سأجد هؤلاء الناس الطيبين في أي مكان سأهب إليه ,أنه مهما حدث فإن الناس سيكونون النافذة التي أطل منها إذا أغلقت جميع النوافذ وسيكونون الباب الذي أخرج منه، إذا أغلق كل الأبواب بالسلاسل والقضبان وسيكونون درعي إذا انهالت علي السهام وسيكونون الشعاع إذا أظلمت الدنيا أكثر مما أظلمت حتى الآن...

ولقد حدث منذ أيام أن جاءني شاب مسجون وقال أنني أريد أن أصافحك أريد أن أتحدث معك دقيقة وتحدث معي وتكلم عن نفسه وكيف أنه يخشى إذا خرج من السجن أن يعتقل وأن البوليس لفق ضده تهمة إحراز مسدس بدون رخصة ودهشت لإلحاح هذا الشاب أن يراني ورفضه أن ينتظر إلى اليوم التالي فقد كنت أتحدث مع بعض الأصدقاء... وفي اليوم التالي سمعت أن هذا الشاب نفسه هرب.

فقد غافل حارس في المحكمة واختفى ولم يعثر البوليس له على أثر وعندما سمعت هذا عرفت لماذا أصر هذا الشاب على أن يصافحني في اليوم السابق.

لقد أراد أن يصافحني قبل أن يهرب.

ويحدث أن تجري في السجن مناقشات.

بعض الناس لا يتصور أنه يوجد في هذا البلد من يتحمل الإساءة لشخصه ولا يغير مبادئه ولا يحاول أن يحطم الذين حطموه وكم أقول لنفسي آه لو يعلمون ما تحملت آه لو عرفوا أننا وقفنا ندافع عن هذه الثورة طوال هذه السنين الطويلة برغم ما كان يصيبنا شخصيا منها لو علما مثلا أن الجمهورية صدرت سنة 1954 وهدفها الأول أن تفلس أخبار اليوم وكيف كان بعض المسئولين يهدد أصحاب الإعلانات بالنفي خارج البلاد إذا وضعوا إعلاناتهم في أخبار اليوم وكان يحرق سيارات التوزيع بقنابل مولوتوف ثم جاءت أزمة مارس فنسينا كل هذه الإساءات ووقفنا إلى جانب الثورة عندما تخلى عنها الجميع وخرجت المظاهرات تهتف بسقوطها وقال لنا الرئيس جمال عبد الناصر يومها أنه لن ينسى ما دام حيا موقف أخبار اليوم في أزمة مارس.

وسوف يذهلون إذا علموا أنه عندما كانت أخبار اليوم تحارب معارك الثورة كلها وكنا نقوم بالدعاية لها في حصف العالم الكبرى كانت لجنة الكسب غير المشروع تحقق في أخبار اليوم وتبحث دفاترها ومكثت تحقق في كل مليم دخل أخبار اليوم وبعد ذلك وضعت تقريرا قالت فيه أن كل قرش دخل أخبار اليوم حلال.

وسوف يذهلون إذا علموا أن الرئيس جمال عبد الناصر عورض علينا مكافأة مبلغ مائة ألف جنيه وأنا رفضنا أن نأخذ مليما واحدا بينما كان الناس تتصور أننا مأجورون لهذه الثورة وأننا نقف هذا الموقف المتحدي لأننا نقبض الألوف من جمال عبد الناصر والذي كان يحدث أننا كنا ننفق على الدعاية لبلادنا من أموالنا ونسافر في مهام رسمية لبلادنا ونرفض أن نتقاضى مليما واحدا بينما يتقاضى الوزراء وكبار الموظفين نفقات سفرهم وإقامتهم في مهام لا قيمة لها.

وهم لا يتصورون أن أخبار اليوم قد أممت دون أن نأخذ مليما واحدا أو نصلب مليما واحدا بينما كل أصحاب الصحف أخذوا تعويضات أو خرجوا يملكون العمارات.

وهم لا يصدقون أننا أنا وأنت الوحيدان في الصحافة اللذان ليس لنا معاش. ومئات الأمثلة الأخرى لا أظن أن التاريخ سوف يغفلها أو سوف ينساها ولا يهمني أن يعرفها الناس بل لا أريد أن يعرفوها فأنا كما قلت كل ما يهمني هو التاريخ وهو أحكم القضاة العدول.

وأنني أشكرك على المبلغ الذي أرسلته لخيرية فقد كنت في أشد الحاجة إليه فقد انتهت من كل النقود التي كانت عندي وأرجو إذا كان في الإمكان إرسال مبلغ آخر.

وقد سررت أن خيرية وزينب لم تنسيا أمي في عيد الأم فقد ذهبتا ووضعتا وردا على قبرها في ذلك اليوم أنني أشعر أنهما فعلتا ما تمنيت طوال الوقت أن تفعلاه وما أعرف أنك كنت تتمنى لو أنهما فعلتاه والواقع أنني تأثرت بهذا وفرحت به كثيرا وكان أجمل هدية تلقيتها في عيد الأم.

والإشاعات هنا كثيرة بأن الأحكام ستصدر عقب العيد مباشرة وبرغم ما سمعته من سعيد عن مقابلة محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان للرئيس جمال عبد الناصر فإنني أفضل أن أكون حذرا في تفاؤلي فمعنى ذلك أنني سأنقل من سجن الاستئناف إلى ليمان طره وهم يقولون أنه سجن صحي أكثر من السجن الذي نحن فيه والذي يعتبر بشهادة الضابط أسوأ سجون الجمهورية ويقولون أن سجن طره فيه حدائق وفيه حوش للعب الكرة ومسرح للتمثيل والسينما والشيء السيئ فيه أن الزيارة مرة كل شهر لا كل 15 يوما كما هي الآن وأنه لا يسمح للمسجون بأن يتناول طعامه من الخارج وإنما يأكل أكل السجن.

ولقد كان كل ما يهمني أن أعرف هل يمكن أن أحصل على فول مدمس وبيض دائما فقيل لي أن ذلك ممكن جدا ولهذا فإن الأكل لن يكون مشكلة بالنسبة لي. وستبقى هناك مشكلة السجائر فقد لا يسمحون بالسجائر الكنت وممكن أن أعود نفسي على سجائر البلمونت ولن تكون هذه مشكلة أيضا.

ومع كل هذه الاحتمالات فإنك تراني متفائلا بالمستقبل وأنني معتقد أن إذا يوم أجمل من اليوم وأن كل يوم يمضي يقربني إلى اليوم الموعود وأشعر أن الأيام معي وليست ضدي وإنني مؤمن بالله لن يتخلى عنا أبدا وسيعطينا أياما جميلة سعيدة حلوة وأننا سنضحك كما لم نضحك أبدا وسنمرح كما لم نمرح أبدا وسنجعل أيامنا أعياد متصلة إلى أن نموت.

وأن كل ما يحدث اليوم هو أننا ندفع ضرائب متأخرة عن أيام حلوة عشناها في الماضي وعن أيام حلوة سوف نعيشها في المستقبل ومن عادة مصلحة الضرائب أن تعطي تخفيضا كبيرا للذين يسددون ضرائب المستقبل قبل موعدها.

لقد مكنا الله من أن نحول الأيام التعسة إلى أيام محتملة والفضل في ذلك لإيماننا وللخطابات التي يهربها أصدقائي ولما أراه وألمسه من عطف وحب الناس وهذه نعمة من الله أقدرها وأشكره عليها وأحمده، وأرجو أن يمنحني الله الفرصة لأمد يدي لأكبر عدد من البؤساء لأسعدهم، ولأرى الابتسامة على شفاههم كما رأوا الابتسامة على شفتي.

والآن أقبلك قبلة طويلة.. وإلى اللقاء.

500 جنيه من أم كلثوم

سجن الاستئناف .. 24 مارس سنة 1966

أخي العزيز ...

أقبلك وأرجو أن يصل إليك هذا الخطاب مني في العيد ليحمل إليك تهنئتي بالعيد راجيا أن نحتفل بالعيد الثاني معا.

رأيت سعيد فريحة كنت ذاهبا إلى مستشفى القصر العيني لتحليل الدم وعندما وقفت السيارة أمام الفناء الداخلي رأيت سعيد مع خيرية وزينب وعانقته وقبلته في غرفة الطبيب وأظن أن سعيد لم يفهم الإشارة ولكن زينب وخيرية فهمتا الإشارة واللبيب بالإشارة يفهم لم يكن في استطاعتي استعمال لغة الكلام كان معي عدد من الضباط والحراس يحاصرونني وعندما كنت جالسا مع الطبيب دخل سعيد وبدلا من أن ينتهز هذه الدقيقة الثمينة ليقول لي أخبارك انهمر في البكاء وأمضيت الدقائق في تهدئته وتطيب خاطره وقال سعيد أنه سيفعل المستحيل ليقابلني في السجن قلت له ضاحكا اعمل المستحيل لإخراجي من السجن!

وبعد لحظات دخل ضابط المباحث وأنهى المقابلة ومع ذلك سررت بها وشعرت كأنني قابلت سعيد مرتين ومن الطريف أنني رحت أحدثه عن تجديدات اقتراحها في صحف دار الصياد فقال لي سعيد مالك وهذا المهم هو أنت!

أنا؟ لست مهما أنني أفكر في زنزانتي فيكم في صحف الصياد في صحف أخبار اليوم وفي الصحافة المصرية والإرهاب الذي نعيش فيه في أصدقائي الصحفيين وتلاميذي الذين يهددونهم طوال الليل والنهار بتحويلهم إلى متهمين بالتجسس إذا فتح واحد منهم فمه ودافع عني!

لقد سررت كثيرا بحضور سعيد وسررت بالمبلغ الذي أرسلته معه لي كنت في أشد الحاجة إلى نقود في السجن وكنت مهتما بأن يصلني مبلغ أستطيع به أن أسدد دين أم كلثوم أنني لا أستطيع أن أنام الليل وأنا مدين لقد أنقذتني أم كلثوم في أحرج لحظات حياتي عندما قبضوا علي أخذوا كل ما معي من نقود أوقفوا مرتبي رفضوا أن يدفعوا أي معاش صادروا أموالي في البنك كان القرار أن أموت جوعا سدوا علي جميع المسالك حتى لا يصلني قرش واحد منك... أنفقت سكرتيرتي زينب كل ما تملك علي باعت مصوغاتها لم يبق معها مليم واحد لشراء الطعام الذي يرسلونه إلي يوميا في السجن كنت أعرف أن كثيرين من أصدقائي سوف يقبلون أن يقرضوني في هذه المحنة ولكني رفضت أن أحرجهم لأنني أعرف أنهم كانوا يقبضون على كل من يمد يده بمساعدة مسجون سياسي أعرف أن عددا من تلاميذي كان على استعداد لأن يقامر بهذه التضحية ولكني لم أشأ أن أعرض واحد من زملائي للمحنة التي تعرضت لها.

فكرت أن ألجأ إلى أم كلثوم قلت لها أنني في حاجة فورا إلى مائتي جنيه وأحب أن أنبهها أن هذا المبلغ سوف يعرضها لسخط الدولة أن لم يعرضها لتوضع أموالها كلها تحت الحراسة. قلت لها أنني لن أتضايق إذا رفضت أن تدفع هذا المبلغ وإذا رأت أن الظروف لا تسمح لها بأن تقرضني هذا المبلغ قلت لها أنني لا أعرف متى أرده لها فقد لا أستطيع أن أرده قبل عشرة أعوام وقد لا أستطيع أن أرده أبدا!

وأرسلت أم كلثوم خمسمائة جنيه. ورفضت أن نوقع لها إيصالا بالمبلغ.

أن النقود التي أرسلتها إلى وصلتني في الوقت المناسب بعد أن انتهيت من إنفاق آخر مليم كان معي في السجن ...

من أهم الأخبار عندي أن بعض المسجونين السياسيين خرجوا من السجن لحضور جلسات محاكمتهم أمام الفريق الدجوي وعادوا يخبرونني أن أفراد أسرهم الذين رأوهم في المحكمة قالوا لهم أن راديو إسرائيل أذاع أنه تم الإفراج عني وقلت في نفسي هذه مصيبة لأن معنى ذلك أن الدولة لن تفرج عني حتى تثبت أن أخبار إسرائيل كاذبة وكان إذاعة إسرائيل قالت قبل ذلك أنه صدر الحكم علي بالسجن خمس سنوات مع إيقاف التنفيذ وغرض إسرائيل من هذه الأنباء أن تقول أن مصر تضغط على الحريات وتقبض على الصحفيين.

حالتي في السجن تتحسن يوما بعد يوم وبعد أن كنت أنام مبكرا وأستيقظ عند صلاة الفجر وأبدأ القراءة أصبحت أقرأ حتى الساعة الواحدة صباحا على صوت أم كلثوم الذي يذيعه ميكرفون السجن وأصبحت أستيقظ في الساعة السادسة صباحا وانقطعت عني الصحف الإنجليزية فترة صم استأنفت الوصول وقرأت كتابا ترجمة أحمد بهاء الدين عن رسائل نهرو من السجن أن ابنته أنديرا غاندي وقرأت كتابا عن بنيتو موسوليني تأليف كرستوفر جيزيت ورأيت فيه شبها مما يجري عندنا وأرجو ألا تكون النهاية واحدة وقرأت كتابا تيرنس روبرتسون عن القصة الكاملة لمؤامرة السويس.

أمشى الآن ساعة كل يوم حرارة الجو تجعل المشي غير مريح تسليتي هنا أن كل مسجون يريد أن يقابلني ويعرض علي قصته أو مشكلته أو قضيته الكل هنا يفتقد «فكرة» ويقولون أنها كانت شعاع الأمل الوحيد في ظلام حياتهم لقد أطفأوا أخر شمعة في هذا البلد، يقولن لماذا لا تطبع «فكرة» في مجموعات وعدتهم أنني سأقنعك لكي تفعل ذلك في رأيي أنه يجب ألا تتردد أبدا في إعداد هذه الكتب وأطبعها فورا.

أمضي بعض الوقت في القيام بوظيفة «قاضي الغرام» مسجون يختلف مع زوجته ويقرر أن يطلقها ثم يجيء ليستشيرني وحدث أمس أن كنت في الفسحة وجاءت زوجة أحد المسجونين التي كانت في الزيارة وحاولت أن تقبل يدي وقالت لي أنا زوجة محمود ولم أعرف من هو محمود هذا فقالت لي: المسجون الذي كان يريدان يطلقني وأنت نصحته بألا يطلقني وقد أبلغني اليوم أنه نزل عند رأيك وعدل عن الطلاق وحمدت الله أنني لم أنصحه أن يطلقها وإلا لأمسكت بزمارة رقبتي في حوش السجن!

ومن الغريب أن المسجونين العاديين يتوهمون أنني أفهم في كل شيء في القانون وفي المسائل المالية وفي الخدمات الزوجية...

وحدث من أيام أن جاءني مسجون وهمس في أذني أنه قرر الهرب وأنه أعد كل شيء وأنه جاء يستشيرني ويعرض علي الخطة التي وضعها ليهرب.

وشعرت بسعادة لأنه ائتمني على سره الرهيب ونصحته بألا يهرب وأقنعته بأنه لو هرب اليوم فسوف يبقى طول حياته مطاردا من الشرطة وقبل الشباب نصيحتي وهو يبكي وبعد خمسة أيام فقط حكمت المحكمة ببراءته... وجاء إلى السجن ليأخذ ملابسه وعانقني وشكرني على النصيحة ولقد كنت أول الأمر أضيق بالزنزانة التي أعيش فيها فقد كان في أول الأمر أضيق بالزنزانة التي أعيش فيها فقد كانت تغلق أبوابها 23 ساعة ونصف ساعة في كل يوم ولا تفتح إلا نصف ساعة فقط وكان إذا مر المأمور في غير الوقت المحدد لفتح زنزانتي ورأى الزنزانة مفتوحة أقام الدنيا وأقعدها وعرفت أن هناك تعليمات من وزير الداخلية بالتشدد معي أنا بالذات أكثر من بقية المسجونين بمعنى أن زنزانات المسجونين الآخرين كانت تفتح طوال النهار فيما عدا زنزانتي أنا...

ثم وصلت النقود واشتريت سجائر بلمونت والسيجارة البلمونت هي الجان الذي يقول يا سمسم في مغامرة ألف ليلة وليلة فما يكاد باب الزنزانة يرى السيجارة البلمونت حتى ينفتح عن أخره وهكذا استطاعت سيجارة بلمونت أن تقاوم وزير الداخلية وهكذا أمكن التغلب على الأوامر المشددة وأصبحت زنزانتي تفتح طوال اليوم فيما عدا الدقائق التي يمر فيها المأمور أو أحد الضباط الذين يحبون تنفيذ التعليمات حرفيا.

وبعض ضباط السجن آدميون يثورون على هذه الأوامر الوحشية ويعاملوننا كآدميين وهؤلاء الضباط أخاف عليهم خشية أن تكتشف مصلحة السجون أنهم آدميون فتضعهم معنا في الزنازين والعجب أن حرصي على هؤلاء الطيبين يجعلني لا أحاول تهريب الخطابات في وردياتهم حتى أحميهم من خطر العقاب وأجد لذة عجيبة في استغفال الضباط القساة الذين يعاملون المسجونين كأنهم حيوانات لا تعمل إلا بالضرب والصفع والركل والشتائم والإهانات!

ولست وحدي الذي يفعل هذا كل المسجونين الآخرين لا يرتكبون المخالفات إلا في وجود الضباط الجلادين.

وأمضى وقتي في التمشي مع المسجونين في دهاليز الطابق الثاني أدخن سيجارتي وأتحدث إلى المسجونين واستمع إلى قضاياهم وأشترك معهم في إعداد الدفاع عن أنفسهم.

وأنا على صداقة وطيدة مع ثلاثة شباب متهمين في قضية رشوة أحدهم هو فاروق عبد القادر مدير شركة النصر للتصدير و محمد هاشم مساعده و لبيب المتولي مراجع الحسابات وكل واحد منهم شخصية مختلفة ولكن تجمعهم قضية واحدة فاروق شاب مؤدب جدا هاشم يحب المناقشات لبيب شاب ظريف مرح خفيف الدم يقطع صور الفتيات الجميلات من مجلة الشبكة ويمضي طوال الليل يحلم بهن وهو نائم في الزنزانة ثم يقوم في الصباح يستحم ويتطهر ويصلي!

وقد درست قضيتهم بإمعان وبحثتها بعناية واكتشفت أن القضية ملفقة فعلا وأنها لو عرضت على أي محكمة عادلة فسوف تحكم ببراءتهم ولكن أحد الأجهزة لفق القضية ورمي شاهد الإثبات من النافذة بعد أن أرغمه على الاعتراف على المتهمين الثلاثة!

وفي كل قضية من القضايا المسجونة معنا فضيحة وكلها تدل على أن العدالة في إجازة وأجازة طويلة أحيانا أجلس في زنزانتي وأتمنى أن أخرج لأدافع عن كل واحد من هؤلاء المظلومين لأهاجم التلفيق والكذب، ثم أجد أنني وحدي أعجز من أن أفعل هذا ومن كثرة المظالم التي أراها أمامي أصبحت أعتقد أن الله وحده هو الذي يستطيع أن يرفع كل هذا الظلم وهي مهمة تحتاج إلى سنوات وسنوات لأن العدل يركب السلحفاة والظلم يركب الصاروخ!

أن هؤلاء الثلاثة المتهمين كذبا بالرشوة مضى عليهم في السجن 16 شهرا ويلحون في المطالبة بسرعة محاكمتهم ويرسلون البرقيات يتوسلون فيها إلى المسئولين أن يقدموهم إلى محكمة الجنايات!

والمسئولون يخشون إذا هم قدموهم إلى محكمة عادية أن ينفضح الجهاز الذي لفق القضية!

وأخيرا جاءتهم البشرى: أنهم سيقدمون إلى محكمة الجنايات في الأسبوع الأول من شهر إبريل!

أصبح الناس في هذا البلد يرقصون من الفرح إذا قدموا إلى محكمة الجنايات لأن فيها شهودا ودفاعا وقضاة واستئنافا ونقضا وإبراما، وعدالة!

وكل هذا غير موجود في المحاكم الاستثنائية التي يرأسها الفريق الدجوي!

ومع أن السيجارة البلمونت أصبحت الآن تقوم بدور مفتاح الزنزانة خير قيام إلا أنني أصبحت أدخل الزنزانة قبل الموعد المقرر وأنفرد بنفسي فيها وقد رتبت الزنزانة بحيث أصبحت بالنسبة إلى الزنازين الأخرى غرفة شبه محترمة وأحضرت خمس شماعات وعلقتها في الحائط لأخفي الشقوق والثقوب التي في بياض الزنزانة وأعلق بذلاتي وكرافتاتي على شماعة والروب دي شامبر على شماعة والفوطة على شماعة وابرنس على شماعة وأكثر شيء يضايقني هو دخول التراب من نافذة الزنزانة ومن بابها وقد أحضرت غطاء نايلون أحفظ فيه البذة لأحميها من التراب فلا أكاد أفتح النافذة حتى يهب نسيم من التراب يغطي الحائط والملايات البيضاء والكتب والعبد لله!

ولكني استفيد من الكوارث كعادتي فأنا أغسل الصحون بنفسي بعد أن تيولى غسلها أحد المسجونين وأجد لذة في أنني أستطيع أن أتناول طعامي في طبق نظيف هذه نعمة كبرى أرجو الله أن يديمها...

وكان من أكثر متاعبي أن مفتاح النور ليس في داخل الزنزانة وإنما خارج الزنزانة وبعد إغلاق الزنزانة يجب أن أتي بكرسي وأقف عليه حتى أصل إلى الشراعة التي فوق الباب وأمد ذراعي بين قضبان الشراعة وأقوم بعدة حركات بهلوانية إلى أن تصل يدي إلى مفتاح النور.

ولا تستطيع ذراعي أن تدخل بين القضبان الضيقة إذا كنت مرتديا جاكتة البدلة أو الروب دي شامير وكثيرا ما كان يحدث أن أكون راغبا في النوم ولا أكد أنتهي من هذه الحركات البهلوانية حتى يطير النم من عيني وأقوم بهذه العملية البهلوانية مرة أخرى لأضيء النور حتى أقرأ...

وأخيرا عودت نفسي أن أنام والنور مفتوح...

ولما كانت الحاجة أم الاختراع فقد استطعنا تهريب لمبة مكتب كهربائية وأمكن عمل بريزة «سرية» تحت السرير وأصبح هذا المصباح يحل كل المشاكل وفي الصباح أخفي المصباح تحت المكتب والمجلات قبل أن يبدأ التفتيش الصباحي على الممنوعات.

ونحن نمضي بعض أوقاتنا في الضحك نعم نضحك ونحن داخل الزنازين!

أننا نقاوم الجلادين بالضحك وأعتقد أن ضحكاتنا قادرة أن تحمينا ن عذاب وآلام وسياط الجلادين!

أن زميلنا الإرهابي رقم 11 شكا إلى إدارة السجن من أنه يخاف من النوم وحده في الزنزانة لأنه يرى أشباحا داخل الغرفة وأقسم أنه رأى أقزاما برؤوس مقطوعة يحملون نعشا داخل زنزانته وأن القطط والعفاريت لا تجعله ينام...

وإدارة السجن تعرفي يجاد أن الإرهابي رقم 11 خواف جدا على الرغم من أن الادعاء في المحكمة اتهمه بأنه إرهابي خطير جدا وسفاح وأنه سيلقي القنابل والديناميت على كبار رجال الدولة!

ولهذا سمحت له إدارة السجن أن ينام مع ثلاثة من المسجونين السياسيين في زنزانة واحدة.

وأطمأن الإرهابي رقم 11 ودخل الزنزانة ضيفا على أصحابها الثلاثة ويبدو أن اطمئنانه زاد وتأكد أنه ليس وحده في الزنزانة فأراد أن يخيف زملاءه فادعى أنه يستطيع استحضار العفاريت!

وتظاهر الموجودون في الزنزانة أنهم يصدقونه...

وأطفأوا الأنوار حتى تطمئن العفاريت وراح الإرهابي رقم 11 يقرأ التعاويذ ويطلق أسماء الله الحسنى ثم ادعى أن العفاريت لا تظهر لأن أحد الموجودين في الغرفة نجس وأنه مع ذلك يمكن إحضار أحد العفاريت الحمر وهؤلاء العفاريت إرهابيون خطرون فوافق المسجونون على استحضار واحد منهم.

وبدأ الإرهابي رقم 11 يتلو التعازيم من جديد ثم فجأة غير صوته بصوت عفريت وقال «السلام عليكم» إيذانا بأن العفريت قد حضر في الظلام الدامس وهنا قام زملاؤه في الزنزانة على أطراف أصابعهم وألقوا على الإرهابي بطانية سوداء وانهالوا عليه يضربونه فوق رأسه بالشباشب.

وتصور الإرهابي رقم 11 أن العفاريت حضرت فعلا وأن اللعبة «انقلبت جد» فأخذ يصرخ ويولول ويصيح ألحقوني يا هوه!

العفاريت بيضربوني!

وحدث قبل ذلك بأيام أن ذهب الإرهابي رقم 11 إلى دورة المياه واتفقنا مع أحد المسجونين السياسيين أن يختبئ تحت سريره وعاد الإرهابي إلى زنزانته وأغلق الحارس عليه الباب بالمفتاح وأطفأنا الأنوار وما كاد الإرهابي رقم 11 يجلس على سريره حتى بدأ يسمع صوتا غريبا وأصيب بذعر وفتح النور فلم يجد أحدا ولكنه وجد أن كلسونه في حاجة إلى التغير.

وأبدل الإرهابي كلسونه بكلسون نظيف وإذا بصوت مجهول يقول له أنا عفريت واحد نفذوا فيه حكم الإعدام ! وما كاد الإرهابي رقم 11 يسمع هذا الصوت المخيف حتى أصيب بهلع وفي هذه المرة أراد أن يغير الكلسون وجميع ملاءات السرير وفي هذه المرة أراد أن يغير الكلسون وجميع ملاءات السرير.

وفي السجن شخصيات غريبة بينها المسجون جليل عوض وهو يرفض أن يناديه أحد باسم جليل ويصر أن اسمه «جليلة» وهو أحد المصابين بالشذوذ الجنسي المنتشر انتشارا خطيرا داخل السجن وكانت جليلة ترتدي خارج السجن ملابس سيدة وتعيش كأنها سيدة تماما وتتكلم بصوت السيدات وتمشي مشيتهن والسجن كله بما فيه من حراس وضباط يعاملون جليل كأنه سيدة وينادونه يا جليلة أو يا آنسة جليلة أو يا ست جليلة!

وجليلة هذه في الستين من عمرها سمراء وهي تتباهى وتروي ذكرياتها عن شبابها عندما كان لها ستة عشاق في شارع واحد!

وأهم شخصية في السجن تاجر مخدرات ونطلق عليه اسم الحاج إبراهيم ويتحرك في موكب ويسير أمامه أتباعه يوسعون له الطريق وخلفه مسجون يحمل فوطة ومسجون يحمل السجائر ومسجون يحمل الكبريت

وعندما يتضايق ملك المخدرات من حارس لا يحبه يشير بإصبعه إلى أحد أتباعه فيتقدم التابع ويضرب الحارس علقة ولا يهم المسجون العقاب كل ما يهمه أن يرضي ملك المخدرات.

ومن أكثر الجرائم المنتشرة الآن داخل السجن الاختلاسات والرشوة وفي كل يوم نرى زبائن جددا من المتهمين في هذه القضايا ولاحظت أن الرشوة تنتشر في عصر الظلام وتحدثت إلى كثير من المختلسين والمرتشين ووجدت أن الذي شجعهم على ارتكاب هذه الجرائم أنهم كانوا يستظلون بحماية بعض أصحاب النفوذ وكانوا يتصورون أنه مادام هؤلاء أقوياء فلن يجرؤ أحد على كشف أمرهم وكان يشجعهم على ذلك أن الصحف تحمي الكبراء أو من يلوذ بهم ولقد فهمت الآن لماذا كان الذين يحيطون بأصحاب النفوذ يعارضون بشدة حرية الصحافة ويقاومون كل محاولة لتحرير الصحافة من الرقيب وفي أول الأمر كنت أظن أنهم يفعلون ذلك لإيمانهم بالدكتاتورية وتبينت في السجن أنهم كانوا يحمون أنفسهم من خطر إضاءة الأنوار!

والشيء الذي يستوقف النظر في السجن هي حالة الحراس السيئة تصور أن العامل خارج السجن يعمل سبع ساعات في اليوم والحارس داخل السجن يعمل 12ساعة ولا يأخذ بدل ومرتباتهم ضعيفة جدا ومرتب يومهم لا يكفيه لكي يأكل هو وأولاده عيش حاف ثلاث مرات كل يوم وعيش وزيتون» مرة في الأسبوع!

وحالة الفقر البؤس والجوع تجعل بعضهم يقسو على المسجون ويجعل بعضهم يهرب المخدرات داخل السجن أو يقاسم المسجون طعامه وسجائره...

وأعتقد أننا عندما نريح السجان سوف نريح المسجون لأن السجان البائس المعذب يجعل حياة المسجون جحيما لا يطاق.

لن تدخل السجن!

سجن الاستئناف .. 25 مارس 1966

أخي العزيز ...

زارني هيكل يوم الخميس قال لي أن الرئيس يبلغني سلامة وتحياته وقال هيكل أن الرئيس لا يستطيع تخفيف الحكم لأسباب سياسة ولكن الرئيس يعدني أنني لن أدخل السجن وكل ما سوف يحدث أنني سوف أنقل بعد الحكم إلى المستشفى فلا أدخل السجن على الإطلاق وسأبقى في المستشفى ثم بعد ذلك يصدر قرار بالإفراج الصحي.

وقال هيكل أنه أبلغ الرئيس بما قلته في المقابلة السابقة بأنني لا أرغب في أن أذهب إلى مستشفى فلا أدخل السجن على الإطلاق وسأبقى في المستشفى ثم بعد ذلك يصدر قرار بالإفراج الصحي.

وقال هيكل أنه أبلغ الرئيس بما قلته في المقابلة السابقة بأنني لا أرغب في أن أذهب إلى مستشفى قصر العيني لأن الحالة فيه سيئة وأن الرئيس وافق أن أنقل من السجن إلى مستشفى الكاتب، أو أي مستشفى خاص أريد أن أقيم به فترة من الوقت إلى أن يتم الإفراج عني.

ولا أعرف لماذا أشعر أن هيكل يكذب علي ولا أفهم لماذا تمت محاكمتي على الإطلاق إذا كان هيكل صادقا فيما قاله لي من أن الرئيس يريد أن يبلغني أنه لايزال يحبني وأنه لن ينسى أبدا الخدمات التي قدمتها لبلادي.

قال لي هيكل أن علي صبري و سامي شرف و صلاح نصر هم الذين وقفوا ضدي وأنهم يكرهونني وأنهم الذين تحمسوا لعمل القضية وتحمسوا لتقديمي إلى المحاكمة.

حدثني عن عمله كرئيس مجلس إدارة أخبار اليوم إلى جانب رياسته لمجلس إدارة الأهرام وكان يبدو سعيدا لأنه يتولى رياسة المؤسستين معا.

قال لي أنه أراد إخراج جميع المحررين الشيوعيين من أخبار اليوم وأن علي صبري و كمال رفعت وقفا ضده في إخراج ستة من الشيوعيين الذين أراد إخراجهم من أخبار اليوم.

وأنه أخرج اثنين منهم وسيخرج صلاح حافظ و سعد كامل من أخبار اليوم و سعد كامل من أخبار اليوم وسيعينهما محررين في مجلة «بناء الوطن» وقال لي أنه سيخرج عددا من محرري أخبار اليوم المشاغبين وغير المنتجين وينقلهم إلى مؤسسات أخرى غير صحفية.

قلت له أنت تعلم أنه عندما أراد الرئيس أن ينقلني من منصب رئيس مجلس إدارة الهلال إلى رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم قال لي أن أكتب له قائمة بأسماء جميع محرري أخبار اليوم الذين لا أريد أن أتعاون معهم لينقلهم إلى مؤسسات غير صحفية.

ويومها قلت للرئيس أنني وأنا صاحب أخبار اليوم لم أفصل محررا أو عاملا فكيف أفصل محررا وأنا أخير؟

أنني لا أريد نقل أي صحفي من أخبار اليوم إلى مؤسسة غير صحفية

قال الرئيس: ولكن كيف تعمل معهم وقد شتموك عندما أعطيتك أجازة وأخرجتك م أخبار اليوم.

قلت له: إن كل هؤلاء أولادي ومن حق الولد على أبيه أن يتبول عليه وهو يضعه فوق ركبته!

ولم أفصل محررا أو أحدا من الذين شتموني.

وبعد ذلك حدثت مجزرة جريدة الجمهورية عندما صدر قرار بتعيين عشرات من محرري الجمهورية في شركات السردين ومؤسسات إصلاح الأراضي والأخشاب والأحذية.

وحاولت يومها جاهدا أن أوقف هذا القرار الغاشم وفشلت وقال لي المشير عامر يومها أن الغرض من هذا القرار هو إنقاذ جريدة «الجمهورية» من الغرق!

وكانت النتيجة أن «غرقت» الصحافة كلها!

قال هيكل: هل تعمل أن سعد كامل و صلاح حافظ شتماك بعد دخولك السجن.

قتل: أعلم ذلك ولكن سابقة أخراج محررين من أخبار اليوم ونقلهم إلى مؤسسات أخرى هي كارثة الصحافة.

قلت لهيكل: هل تعلم أن الصحف المصرية في الوقت الحاضر لا تعجبني إنني أشعر أن المحررين يكتبون وهو يرتعشون من الخوف الطباعة زفت فأبدى هيكل دهشته وقال أنه يبحث عن شخص ليتولى رياسة تحرير جريدة «أخبار اليوم» وعن شخص أخر يتولى رياسة تحرير مجلة «آخر ساعة» ورشحت إحسان عبد القدوس لأخبار اليوم وقلت أن في أخبار اليوم عددا من المحررين الأكفاء كل منهم يصلح رئيسا لتحرير أخر ساعة رشحت سعيد سنبل لأخبار اليوم و أحمد زين لرياسة تحرير الأخبار فقال أنهم صغيرا السن.

قال لي أن التالي للقبض علي وأن الدكتور حاتم أرسل بعد ذلك خطابا إلى مؤسسة أخبار اليوم بوقف مرتبي.

وأنا أعرف أخلاق خالد محي الدين، وأعرف أنه ليس الرجل الذي يطلب وقف مرتب صحفي يوم القبض عليه، بغير انتظار نتيجة الحكم عليه، وهو شيء لم يحدث له مثيل في تاريخ أخبار اليوم ولا في تاريخ الصحافة والذي أعتقده أن الأمر صدر بوقف مرتبي، وقد تلقيت رسالة في السجن من أحد تلاميذي في «أخبار اليوم» أن لا خالد محيي الدين ولا حاتم هم اللذان أصدرا الأمر بوقف مرتبي، وبعدم صرف باقي مرتبي عن الواحد والعشرين يوما التي عملت فيها في أخبار اليوم قبل القبض على ولا بعدم صرف مكافأتي ولا واحد منهما أصدر الأمر برفع اسمي واسم علي أمين من الصفحة الأولى من أخبار اليوم والأخبار كمؤسسيها قبل أن يحقق معي وقبل أن أحاكم وقبل أن يحكم علي!

وأما الذي اقترح كل هذا فهو شخص يعرفه هيكل جيدا!

وقال هيكل أن صليب بطرس المستشار الفني لأخبار اليوم أبلغه أن مسألة وقف المرتب ليست حتمية وإنما جوازية، وأنه لذلك عاد، واتصل بحاتم وطلب منه أن يسمح بصرف المرتب، وأن حاتم وعده ببحث الأمر.

وقلت له أنني أستطيع أن أعيش في السجن بعشرة جنيهات في الشهر ولكني في دهشة أن يحكم علي أولادي بالجوع قبل أن يحكم علي فعاد وقال أن الرئيس قال له: أنني مازلت أحب مصطفى وإنني لن أنسى أنه خاطر بحياته وركب طائرة أثناء عدوان سنة 1956 وقام بالدعاية في العام ضد العدوان وتفاوض في جلاء الإنجليز والفرنسيين والإسرائيليين وقام بمهام سياسية كبرى في أمريكا.

قلت له: وأنا ما زلت أحب الرئيس بالرغم من كل ما حدث لي.

قلت لهيكل أنني متفق مع الرئيس من قبل على أنه إذا كانت مصلحة مصر أن يقطع رقبتي فليقطعا ولكن فرق بين قطع رقبتي وتلويث سمعتي.. ظلما.

ومسألة نقلي إلى مستشفى لا يهمني في شيء أن معنى الحكم على هو إعدامي كصحفي فإذا كان هذا هو الغرض من الحكم فأمري إلى الله.

وعدني بأن يزروني بعد أسبوعين ولكني لا أصدق أنه سيفعل ذلك فهو يزورني «بالأمر»!

عاد وتحدث عن تصميمه على «تنظيف» أخبار اليوم بإخراج المحررين الشيوعيين والمحررين المشاغبين منها عارضته بشدة وقلت له: إنني أعارض في إخراج المحررين من الصحف بقرار جمهوري وقد يجيء يوم يخرجونك أنت من «الأهرام» بقرار جمهوري وضحك هيكل ساخرا من هذا الاحتمال:

سألني هيكل إذا كنت أريد سجائر أو أدوية فشكرته وقلت أن عندي ما يكفيني.

وقلت له أن هناك تعليمات في السجن بتشديد معاملتي أكثر من أي مسجون سياسي أخر في سجن الاستئناف فقل هيكل أنه في دهشة أن يسمع هذا!

قال لي أن لطفي حسونة نائب رئيس تحرير «الأخبار» نصحه بأنه لا داعي لهذه الزيارة فقد تؤدي إلى متاعب له وأنه تركه يتوهم أن هذه المقابلة تتم بغير علم الرئيس.

قلت أن كل ما أصابني في هذه المحنة لم يؤثر في أبدا.. وأن عقيدتي كما هي:

وأن إيماني ببلدي لم يتغير وإنني على استعداد أن أتحمل كل المظالم من أجل مصر ومصلحة مصر وإنني لو كنت عرفت أن هذا سيكون جزائي وعادت عقارب الساعة إلى الوراء لفعلت نفس الشيء وخدمت بلدي بنفس التفاني والإخلاص.

وإنني أعتقد أن الله أراد أن يمتحن حبي لبلدي وهو امتحان قاس.

ولكني واثق بأنني نجحت في هذا الامتحان.

قلت لهيكل أنا لا يهمني الحكم لأنني أعرف أنني برئ وأنت تعرف جيدا كيف تصدر هذه الأحكام وأنا مطمئن جدا لحكم التاريخ.

ولكن الشيء الذي يؤلمني أن يدوس بعض الذين أحبهم على الحقيقة بأقدامهم.

وقلت لهيكل أنني لست وحدي المظلوم الوحيد هنا. أن كل القضايا السياسية الموجودة معي في سجن الاستئناف ملفقة مزيفة.

ورويت له أدلة الزيف في كل قضية منها وسألته لمصلحة من تلفق القضايا أن التلفيق لا يصنع تاريخا أنني بدأت أشك أن كل شيء أصبح يلفق في هذا البلد وقد بدأنا نكذب على الناس وسوف نكذب على أنفسنا وأنا أتوقع كارثة مائة في المائة.

ولم يبد هيكل دهشته عندما قلت له أن كل المسجونين السياسيين معي أبرياء وكل القضايا ملفقة وأن كل الاعترافات المزعومة وقعت تحت التعذيب الذي لا يتصوره بشر وقلت له: أنني واحد من ألف مظلوم ولست أبدا المظلوم الوحي ولا أطالب برفع الظلم عني وحدي.

عاد هيكل يأكد أن الرئيس قرر ألا أنقل إلى السجن بل إلى المستشفى خاص أختاره أنا ثم بعد فترة قصيرة أذهب إلى بيتي وأن المسألة سوف تتم على مراحل وأن الرئيس يقول في كل مناسبة أنه لا يمكن أن ينسى خدماتي للبلد ولهذا لن يوافق على أن أبقى في السجن وأن المسألى الهامة الآن هي خروجي من السجن وبعد ذلك يمكن حل جميع المسائل تدريجا فيصد عفو صحي ثم تعلن براءتي ثم أعود إلى الصحافة.

قلت أنا لا أفهم أن يحكم على لتعلن براءتي بعد ذلك.

وأنا لا أظن أن علي صبري مثلا بالقوة التي تجعله يحكم على برئ بالسجن ولا أصدق هيكل عندما يقول لي أن الذين يتآمرون علي أقوى من العدالة.

على الرغم من أنني تعودت ألا أصدق ما أسمع وعلى الرغم من أنني أعرف أن من صفات هيكل أنه يكذب كثيرا إلا أن هذه المقابلة أراحتني فأنا أعلم أن هيكل لا يمكن أن يجرؤ أن يحضر إلى السجن إلا إذا كان هذا بأمر الرئيس عبد الناصر شخصيا وخاصة أن ما قاله على لسان الرئيس من أنه لن ينسى خدماتي الكبرى لبلدي هو نفس ما جاءني من الأستاذ محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السوداء وما قاله الرئيس لعدد من زعماء البلاد العربية الذين تحدثوا إليه في شأن إيمانهم ببراءتي ولكن هيكل لم يقل لي ما قاله الرئيس لهم أنه لا يقصد إلا «تأديبي» وإنني تجاوزت حدود المهمة «وإنني أعترض على السياسة المقررة» ويعلم الله أنني لم أعارض السياسة كل ما هناك أنني كنت أناقشها مع الرئيس بصراحة وبناء على طلبه هو وكان واجبي أن أصارحه برأي بغير لف ودوران حتى لو كنت أعرف أن هذا الرأي قد يضايقه والغريب أن الرئيس لم يشعرني في يوم من الأيام طوال هذه السنوات أن صراحتي معه تغضبه بل على العكس كان بعض من حوله ينصحونني ألا أكون صريحا معه.. والسبب حالته الصحية ولكني كنت مصمما دائما أن أقول الحقيقة.

وقد قلت الحقيقة وقطعوا رأسي ولن يجرؤ أحد بعدي أن يقول الحقيقة!

سألني هيكل هل صحيح أنني طلبت من المحكمة إذنا بالزواج من سكرتيرتي.

وقال أن البعض فسر حكاية طلبي الزواج من المحكمة بأنني أريد أن أقول أنني غير متهم بالمحاكمة ولا بالسجن وأنني أتحدى وأقول «طظ» وأنني سأتزوج في السجن لأنني واثق أنني سأخرج منه.

وقلت لهيكل أني لم أطلب من المحكمة إذنا بالزواج لأن هذا ليس من شأن المحكمة.

وأنا أعتقد أن هذه الكذبة أبلغت للرئيس ليقال له أنني «أتحدى» وإنني غير مهتم بالمحاكمة وإنني واثق من أنني سأخرج من السجن وهذا بغير شك سوف يضايق الرئيس ويثبت له أنني «لم أتأدب بعد»والذين يعرفون الرئيس يعرفون أنه عندما يسمع هذا سوف يؤيد المحكمة علي وسوف يبقيني في السجن.

وقلت أنني ألاحظ أن الذين لفقوا هذه القضية لا يكتفون بالأكذوبة الكبرى بل يؤلفون كل يوم كذبة صغيرة ضدي وهذا لا يهمني في شيء أنني من كثيرة الخناجر القديمة التي أغمدت في ظهري أصبحت الخناجر الجديدة لا تصيبني وإنما تصيب الخناجر القديمة!

وقلت له أنني شعرت من كثير من التصرفات معي ومع أصدقائي ومع المتصلين بي بأن المطلوب هو أن يتخلى كل الناس عني وأكدت له أنه لو تخلى الناس كلهم عني فلن يتخلى الله عني، ولا يمكن أن يتخلى الله عن مظلوم بقرار جمهوري!

أحدثت زيارة هيكل لي في السجن ضجة: المأمور والضباط والسجانون والمسجونون تصوروا أن معنى هذه الزيارة أن الإفراج قريب جدا وهم يقولون أنه لا يمكن أن يحضر هيكل إلى السجن إذا كنت مدانا وإذا أكن موضع عطف الرئيس وقال المسجونون السياسيون أن المجرم يحوم حول مكان الجريمة وهم يتهمون هيكل بأنه وراء كل ما حدث وأنه هو المستفيد الأول مما حدث وأنه لهذا يحوم باستمرار حول جثة القتيل.

ولقد كان في هذه المرة الطف من المرة السابقة ولم يكن مشدودا كما كان في زيارته الأولى.

قلت لهيكل أن خطاب الرئيس في السويس أعجبني لأنه تمسك بسياسة عدم الانحياز وفي رأي أن انحيازنا للغرب أو إلى الشرق سوف يؤدي إلى نكبة كبرى.

وقلت أنني سررت لأن الرئيس لم يحاول أن يتدخل في حكاية عزل الرئيس سوكارنو في أندونيسيا والإطاحة بالرئيس نيكروما في غانا...

أنه يجب أن نتوقف عن التدخل في شئون الدول الأخرى ونلتفت إلى شئوننا التي أهملناها.

وقال هيكل أن من رأيه أن ما حدث في أندونيسيا هو صراع على السلطة وأنه قال هذا الرأي بالتليفزيون.

وكنت قد تلقيت رسائل من خارج السجن بأن الناس افتقدت ظهوري في التليفزيون فتقرر أن يملأ هيكل هذا الفراغ...

يجب أن أصبر أن الظلم يجيء سريعا والعدل يجيء بطيئا. وسوف يجيء العدل!

السر الخطير الذي أذعته!

سجن الاستئناف .. 27 مارس 1966

أخي العزيز...

أقبلك قبلة حارة طويلة، طول الشهور والأسابيع والأيام والساعات والدقائق والثواني التي نلتق فيها وأضمك إلى صدر وأطمئنك أن روحي عالية جدا، وأعصابي وقدرتي على الاحتمال تزيد ولا تنقص.

أشعر أن الوقت لا يقتلني أنا الذي أقتله لا أعرف متى يصلك هذا الخطاب قد يتأخر ويصلك بعد صدور الحكم وأريد منك ألا تنزعج منه.

أي حكم يصدر لن يصدمني أنا واثق من براءتي مؤمن بأن التاريخ سيحكم لي وأنا مطمئن لحكم التاريخ كأنني قرأت الحكم مقدما قبل أن يصدر وليس أعرف متى يصدر التاريخ كأنني قرأت الحكم مقدما قبل أن يصدر ولست أعرف متى يصدر التاريخ لي ولا يهمني أن أعيش لأعرف هذا الحكم لأنني أعرف من الآن حكم التاريخ وقد يظلمني حكم البشر سنة أو عشر سنوات، ولكن ما قيمة هذه السنوات في عمري التاريخ.

وفي بعض الأحيان أتصور نفسي كالضابط الفرنسي دريفوس الذي حكمت عليه فرنسا ظلما ثم جاء أميل زولا وتبني قضيته وحكمت بعد ذلك المحاكم بإلغاء حكم الإدانة وحكمت له الدنيا بالبراءة ولست أعرف من هو أميل زولا الجديد الذي سيدافع عني ولكن شعوري أن عشرات من الناس الذين لا أعرفهم سيكون كل واحد منهم أميل زولا الجديد.

ولقد جاءتني أنباء من خارج السجن أن الحكم مقرر بالإدانة قبل القبض علي وقبل التحقيق وقبل المحاكمة وأن النائب العام محمد عبد السلام كتب بخط يده أن لا قضية هناك وأن أحمد موسى رئيس نيابة أمن الدولة الذي حقق معي قرر أنني برئ وتقرر إخراج النائب العام الشريف من منصبه وتقرر إخراج رئيس نيابة أمن الدولة الذي رفض أن يزور!

ومن الرسائل المهربة التي وصلتني أن الحكم ليس قضائيا ولكنه حكم سياسي.

وقيل لي أن بعض خصومه في المناصب العليا يقترحون أن يصدر الحكم قبل وصول دين رأسك وزير خارجية أمريكا إذا تحقق الأنباء أنه سيقوم بهذه الزيارة حتى تؤكد الحكم للناس أن أصدقاء التفاهم مع أمريكا يعاقبون بشدة وعنف وقسوة ويقترحون أن تتم عملية ذبحي قبيل وصول كوسجين رئيس وزراء روسيا إلى القاهرة تماما كما تذبح الخراف تحية لقدوم كبار الزائرين في الأرياف!

والذين اطلعوا على هذه الرسائل المهربة من زملائي المسجونين السياسيين يقولون لي ما رأيك في هذا البلد الذي يصنع بك كل هذا!

قلت لهم: مازلت أحب بلدي، فإذا رأي بلدي أن مصلحته أن يقدم رأسي فداء له فسوف أقبل هذه التضحية راضيا أن هناك مئات من الشبان أسلوهم إلى اليمن وماتوا هناك شباب في عمر الزهور فلأعتبر نفسي أرسلت إلى يمن أخرى في مهمة وطنية.

أنا واثق أنه سيجيء يوم يعلن فيه بلدي براءتي ورد اعتباري أن أكثر من مئات الأشخاص يعلمون الحقيقة المروعة يعلمون ماذا قدمت لبلادي من خدمات.

وأنا أعتقد أن الحكم سيصدر ضدي. وهذا هو الخبر الصحيح الوحيد الذي أصدقه أما ما قاله لي محمد حسنين هيكل عندما جاء لزيارتي في السجن بأن الرئيس يؤكد لي بأن الحكم لن ينفذ وأنني سأنقل فورا إلى مستشفى ثم بعد ذلك يصدر عني إفراج صحي، فإنني لا أصدق هذا.

ولقد قلت من تحدث معي في هذا الموضوع وفي مقدمتهم هيكل بأنني أعتبر الحكم قد صدر على فعلا يوم القبض علي ويوم صدرت التعليمات للصحف بأن تشهر بي ظلما وتنشر الأكاذيب عني ،وتنسب إلي اعترافات غير صحيحة لم تصدر مني.

واعتبر الحكم قد صدر ضدي يوم حذف اسمي واسمك كمؤسسي أخبار اليوم والأخبار ويوم توقفت «فكرة» عن الظهور ويوم تقرر ألا أقدم إلى محكمة جنايات عادية بل إلى محكمة برياسة الفريق الدجوي الذي أعلم منه أنه لا يحكم ولكنه يتلقى الحكم بالتليفون والذي كان يحدثني تليفونيا في أثناء المحاكمات العسكرية السابقة ويطلب مني أن أوصى عليه المحرر القضائي أحمد لطفي حسونة في وصف الجلسات حتى قرأ الرئيس في الوصف أنه قاض جبار. وعرفت أن الحكم قد صدر ضدي عندما تقرر أن تكون محاكمتي سرية وعندما صدرت الأوامر إلى الصحف بأن تنشر الاتهامات كاملة، ولا تنشر كلمة واحدة للدفاع.

وعرفت أن الحكم صدر ضدي عندما وقف وكيل النيابة في أثناء المحاكمة يقول أنه يطالب برأسي لأنني قلت لأمريكا خبرا هاما وأذعت سرا خطيرا من أسرار الدولة العليا وهذا الخبر هو أن السيد حسن إبراهيم نائب رئيس الجمهورية سوف يتزوج السيدة قدرية.

قلت: هذا نبأ اجتماعي عادي وليس سرا من أسرار الدولة فراحوا يؤكدون أنه س من أسرار الدولة العليا. قلت : ماذا أعل إذا كان هو يعرف الخبر وسألني عنه، و مصر كلها تعرف الخبر؟

قالوا: كان يجب أن تضرب الملحق الأمريكي بالجزمة وتقول له أرفض أن تسألني هذا السؤال الخطير في مسألة تتعلق بسياسة الدولة العليا!

قلت لهم. أنني مكلف من الرئيس عبد الناصر شخصيا بأن أقنعه باستئناف المعونة لمصر فكيف أضربه بالجزمة لأنه يسأل هذا السؤال.

ثم إن حسن إبراهيم تزوج السيدة قدرية فعلا وهي سيدة فاضلة ومحترمة وزواجه منها لا يسيء إليه.

وعندما وقف وكيل النيابة في المحاكمة وذكر الخبر قال أنه خطير وخطير جدا وسري وسري جدا وأنه يجب أن أعاقب بأشد العقوبة من أجل إذاعة الخبر السري الهام!

وابتسمت وقلت أن التاريخ سيقول أنه حكم على أكبر صحفي في البلد، واتهم بأشنع التهم لا لشيء سوى أنه قال أن حسن إبراهيم نائب رئيس الجمهورية سيتزوج السيدة قدرية!

وأتصور أنه سيتأخر الحكم فالمطلوب «طبخ» حيثيات تقنع الرأي العام الذي لا يزال مؤمنا ببراءتي وسوف يضع الفريق الدجوي حيثيات على أساس لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى كما فعلوا في الأشرطة ابقوا «لا تقربوا الصلاة» وحذفوا «وأنتم سكارى»

وكالعادة وكما فعلوا بأبرياء قبلي، سوف تبذل الجهود الجبارة لتلويثي، ولإثبات إدانتي ولتصويري بصورة الخائن لوطنه ولإنكار كل الخدمات التي قدمتها لبلادي ولكني مؤمن بالله واثق أن الله سيمد لي يده فتمي يده رأسي من المطاعن والأكاذيب والتلفيقات، كما حماني عند اتهامي وحرماني، من الدفاع عن نفسي عند محاكمتي والأمر الذي صدر للصحف بنشر الاتهامات ضدي وحذف الدفاع عني!

ومن الطريف أن بلادنا تحتفل هذه الأيام بالعيد المئوي للصحافة المصرية ولا شك أن الذين لا يحبونني سوف يجدونها فرصة مناسبة وطيبة جدا لنشر الحكم على أكبر صحفي مصر ولعلهم يرون أن خير الاحتفال بالصحافة المصرية هو دفن الذين أقاموا صحافة مصرية عظيمة في مصر.

ولقد قلت لهيكل أنني واثق بأن لو كان الأمر أمر الرئيس عبد الناصر وحده لما عوملت هذه المعاملة لأنني أعلم أنه يعرف وطنيتي وما قدمته لبلادي من خدمات ولكني أعلم أيضا أن هناك من يريدون القضاء علي. فالمسألة ليست عقاب شخص وإنما المقصود القضاء على كصحفي وهم يتصورون أنهم لا يمكنهم القضاء علي إلا بهذه الطريقة ولقد بذلوا في الماضي عدة محاولات وفشلوا وكان الرئيس ينصرني في أخر الأمر عليهم، وهم يريدون ي هذه المرة أن ينتهزوا هذه الفرصة الذهبية ويطمئنوا تماما الاطمئنان إلى أنهم قضوا علي وقضوا على مستقبلي الصحفي وقضوا على تاريخي كله، ولكن هل هذا ممكن!

أن المعركة ليست بينهم وبيني ما أضعفني وأقواهم وإنما المعركة هي بينهم وبين الله وهي أقوى من كيد الكائدين! وقلت لهيكل قد تستمر العاصفة سنة أو عشر سنوات ولكن تأكد يا هيكل أنه في النهاية سوف تشرق الشمس وسيري الناس في ضوئها الحقيقة وسيقولون هذا الرجل خدم بلاده بوطنية وبشرف وإخلاص وعندئذ سيتحول الطين إلى تراب والأكاذيب إلى هباء.

إننا نخطئ كثيرا إذا حاسبنا بعض أصدقائنا إذا تخلوا عنا في هذه المحنة.

إن طاقة الناس واحتمالها لها حدود، ويجب أن نعطي عذرا للطبيعة البشرية.

وإذا كان عشرة أو عشرون خافوا أن يقفوا بجوارنا في هذه المحنة فإن هناك مئات وألوفا فعلوا الشيء الكثير لنا، وأسعدونا بحبهم وعطفهم، ولست أستطيع أن أنسى مدى حياتي ما لقيت من عطف وحب في هذه الفترة بعضهم قامر بوظيفته من أجلي. بعضهم قامر بلقمة العيش عيشه وعيش أولاده في سبيل أن يريحني في زنزانتي بعضهم دخل السجن في سبيلي بعضهم خالف الأوامر المشددة وتحداها لأنعم ببضع ساعات من الحرية كان المفروض ألا أنعم بها هؤلاء هم الذين يهمونني، لأن هؤلاء هم الرأي العام الصحيح هم الملايين هم الذين لا تؤثر فيهم المؤثرات الصغيرة التي تؤثر في الكبار من أصدقائنا.

إنني أحرص في اتصالاتي خارج السجن على أن أتفادى الاتصال بأي صديق لي، لأنني أعلم أن هؤلاء الأصدقاء تحت المراقبة وأنا لا أريد أن أحرج أحدا، لأنني عاجز أن أحمي أي واحد منهم.

أنني لم أيأس أبدا ولن أيأس أبدا مهما حدث إنا لا أضيق بهذا السجن الذي أنا فيه إن روحي لم يستطع أحد أن يسجنها حتى الآن لا يوحد قفص يكفيها ولا زنزانة.

أن روحي لا تزال كما تعهدها بل أؤكد لك أن روحي أصبحت أكثر انطلاقا داخل السجن مما كانت خارج السجن أنها لا تخاف شيئا أنها لا تتلفت حولها ولا تتلفت وراءها.

إنني في السجن أشجع كثيرا مما كنت خارج السجن!!

إنني أجد في كل شيء مما يبعث على السخرية والضحك القضبان والقيود والسلاسل لم تحبس حريتي ولم تقيد روحي إن روحي أقوى من الحديد أنها حطمته وهزئت به، ومضت تقفز وتنطلق وتعيش في الدنيا كلها!

ولم يخلق بعد الطغاة الذين يستطيعون تقييد أرواح الأحرار!

العمل الطيب لا يموت

سجن الاستئناف .. 30 مارس 1966

أخي العزيز......

لست أعرف هل أستطيع أن أكتب إليك إذا صدر الحكم أم لا ولقد رأيت أنه يجب أن أستعد لكل الظروف في حالة ما إذا تعذرت الكتابة، أو تعذر الاتصال.

ولهذا أحب أن أرجوك ملاحظة بعض الأمور وهي:

أن كثيرين من العرب الذين لجأوا إلى مصر في أيام الطغيان قد اقترضوا منى مبالغ كما تعلم وأعتقد أنه في إمكان بعضهم أن يسددوا هذه المبالغ أو بعضها في هذا الوقت بالذات فإن أمكن ذلك بغير إحراج لهم وبغير أن نطلب أي شيء من الذين لا يستطيعون سداد مالا يستطيعون فإنني أحب أن أسدد مبالغ سأكون مستريحا إذا أمكن تسديدها فأنا أكلف سكرتيرتي بأن تدفع مرتبات شهرية لبعض الأسر الفقيرة قدرها مائة وأربعة وستون جنيها كل شهر. وقد توقفت عن دفع هذه المرتبات من أول أغسطس الماضي، بسبب القبض على ويهمني كثيرا أن يدفع المبلغ المتأخر من أغسطس إلى الآن وأن يدفع المبلغ الشهري بعد ذلك بانتظام طول مدة سجني.

ولقد أبدي كثيرون هنا رغبتهم في مساعدتي ولكني أفضل ألا نقترض من أحد ولكن نحصل على جزء من المبالغ التي كنا ندفعها لكثير من الزعماء العرب في أثناء محنتهم.

وبعض هؤلاء تحسنت حالتهم بعد سقوط حكم طغيان عبد الكريم قاسم أو سقوط حكم كميل شمعون وأعتقد أن هؤلاء لن يمانعوا في أن يسددوا لنا بعض هذه المبالغ التي أقرضناها لهم عندما كانت مصر لا تدفع لهم ما يكفيهم في أثناء التجائهم إليها.

ولقد علمت أن البعض منهم أبدي استعداده أن يسدد هذه القروض وكل الذي يهمني ألا نرهقهم أننا فعلنا ما فعلناه ليس من أجل أشخاصهم وإنما من أجل الثورة التي آمنا بها.

وكنا ندفع هذه المبالغ لهم في صمت ولم نطالب حتى الرئيس أن يسددها لنا، بل لم نقل شيئا عما نفعله من أجل هؤلاء الذين يحاربون معركة الحرية.

ولقد كنا نجد لذة في أن نقف بجوار المظلومين والمضطهدين وكان هذا الأمر يسعدنا كثيرا فإننا على استعداد لأن نضحي بكل ما نملكه من أجل بلادنا.

وأنا واثق أن أي عمل طيب لا يمكن أن يموت..مؤمن بهذا كل الإيمان واثق بأن الذين ساعدونا في أزماتهم ومحنتهم وفي أثناء طردهم من بلادهم سوف يسارعون إلى الوقوف بجوارنا كل بقدر استطاعته.

إن ثقتي بالناس لا حد لها أن حب الناس هو رصيد ضخم لا يمكن أن ينتهي.

وهذا يجعلني أشعر أنني لا أرهقك ولا أضايقك عندما أطلب منك هذا الطلب.

ومرة أخرى أضمك إلى صدري وأقبلك....

الذين يولدون في العواصف لا يفزعون من زئير الرياح

سجن الاستئناف .. 12 إبريل سنة 1966

عزيزي...

أقبلك، وأشكرك على خطابك وأنا فاهم جيدا شعورك وموقفك أنني أعلم كل ما قلته أن أحدا لم يقله، ولكن إحساسي كان يقول لي كل كلمة قلتها.

وتأكدي أنني لا أفكر في الانتقام من أحد من الذين أساءوا إلى الذين حكموا على قبل أن يسمعوا دفاعي الذين ما كادوا يرونني واقعا حتى أغمدوا الخناجر ف ظهري إنني لا أكرههم.. أنني أرثى لهم أنهم يضعون سوابق، سوف تطبق عليهم في يوم من الأيام أن الله يمهل ولا يهمل وأنا أفهم عذابك، وأحس بألمك وأقدر خيبة أملك، ولكن أنا سعيد بإيمانك بالله. إن هذا الإيمان سوف يجعلك تستمرين في تحمل مالا يتحمله البشر.

وأنا أراك اليوم تماما كما كنت في أزماننا السابقة عندما كنت تتحدثين عن المنطق وعن العدالة وعن القانون وكنت أقول لك أن المسألة هي مسألة وقت وكثير من الناس لا يحتملون الظلم مرة واحدة، ولكنها احتملناه عدة مرات ولقد عشنا قبل ذلك في دنيا من الأكاذيب والافتراءات والادعاءات والوعود التي لا تتحقق ويبدو أن الظروف القاسية شاءت أن تعيش مرة أخرى في نفس الرواية ولكن تأكدي أن الخاتمة واحدة إن شاء الله.

أنه يجب أن نحتمل ويجب أن نشكر الله لأنه يعطينا القدرة على نتحمل وأن تغمد الخناجر في ظهورنا ونبتسم وأن نضرب بالسياط فنشكر الضاربين لأنهم لم يضربونا بالرصاص!

تأكد أن وطنيتنا لا يمكن أن تنال منها الأكاذيب...

أن وطنيتنا ليست في طبل أجوف نضربه وإنما هي معارك خضناها وأزمات عشناها أيام كنا نثبت في الميدان بينما كان غيرنا يكاد يقتله الخوف والفزع والجبن والأشباح!

إن الذين يولدون في العواطف لا يفزعون من زئير الرياح. والذين بنوا مجدهم بعرقهم ودموعهم وأعصابهم لا يخشون على الجبل الشاهق الذي بنوه من أن تلقى عليه الأتربة والأحجار إن هذه الأحجار تزيد حجم الجبل ولن تنقصه أبدا.

ولا يجوز أن تهتز القيم والمبادئ أمامك أو أن تهتزي لما ترين الآن أن هذه أزمة وقتيه محنة زائرة أنها أضعف من أن تنتصر علينا أننا أقوة منها لأن الحق معنا والتاريخ معنا، والزمن معنا.

ولا تجزعي على بناتنا... أنهن كلما كبرن، كبرت الحقيقة معهن وتضاءل الظلم بجوارهن إن كل يوم يمضي يقربنا من النور، ويبعدنا عن الظلام. وأنا سعيد كذلك أن إيمانك بالله وعدالته يزيدنا قوة فإن هذا الإيمان يجعلنا أقوياء جدا ويجعل الذين يطعنوننا في الظلام ضعفاء جدا.

ملحوظة: أختم خطابي لأن النور أنطفأ.

وقد أكملت لك هذا الخطاب على ضوء شمعة... أو علي الأصح نصف شمعة!

المؤامرة الملفقة!

سجن الاستئناف..21 أبريل 1966

أخي العزيز....

أقبلك قبلة طويلة ولا تعرف مقدار سروري بخطابك المؤرخ 15 أبريل ومن الغرب أن اهتماماتك وأنت في لندن هي صورة طبق الأصل من اهتماماتي وأنا في سجن الاستئناف أنا كذلك مهتم كثيرا بمتابعة مباريات كرة القدم وقراءة ما تكتبه الصحف المصرية عنها وهي في رأيي أحسن شيء يكتب الآن في صحفنا وفي اليوم نفسه أشاهد مباريات الكرة مرتين في الأسبوع مرة يوم الجمعة ومرة يوم الأحد وفي كل مرة نبذل جهودا جبارة لنحصل على حق مشاهدة التليفزيون يوسطني المساجين لدى المسئولين إلى أن نحصل على هذا الشرف العظيم ولكننا نتفرج على نصف المباراة فقط ونكمل النصف الثاني بقراءة الصحف في اليوم التالي. ومع ذلك فإن الهاف تايم الواحد يسعدنا كثيرا ولكن لا نتفرج على التليفزيون في الجو الهادئ العادي إننا كنا جالسون في المباراة نفسها فإن المساجين ينقسمون بين الأندية يهيصون ويهتفون ويحكمون على الحكم ويهددون بتحطيم التليفزيون إذا لم يعجبهم قرار الحكم!

ومن العجيب أيضا أنني أقرأ في الصحف نفس الموضوعات التي نهتم بها فانا أيضا أقرأ كل ما نهتم به تقريبا أنا مثلا أتابع كل ما تكتبه صحف العالم عن الموقف في أندونيسيا وعن الطائرة النفاثة الجديدة التي سوف تتسع لـ 190راكبا وعندما رأيت صورتها تمنيت أن نركبها معا ولقد قرأت مرتين كتابا عن موسوليني من تأليف كريستوف هيبرت ولقد قرأت ما كتبه أوليفر ليتلتون- وزيرالدولة البريطانية في الشرق الأوسط أثناء الحرب عن حادث 4 فبراير وكيف أن ما كتبه هو صورة لما كنا نقوله في أخبار اليوم وما كانوا يكذبونه في تلك الأيام.

ولقد فكرت أن أجلس وأكتب تاريخ الأحداث السياسية الماضية ولكني لم أستطع لأن هذا غير متوافر في السجن والكتابة في السجن ليست عملية سهلة فإنه في كل لحظة يجيء حارس ويفتح طاقة في الباب ويطل منها ليرى ما تفعل وعندما أحس بأن كثيرا من المراجع تنقصني أعدل عن الكتابة وأكتفي بأن أستذكر الأحداث في رأسي وأرتبها وأفكر فيها بأن أستذكر الأحداث في رأسي وأرتبها وأفكر فيها.

حتى إذا جاء الوقت المناسب للكتابة كانت العملية سهلة جدا.

وفي بعض الأحيان أتمنى لو أتفرغ بعد خروجي من السجن إن شاء الله للأبحاث التاريخية وأسافر وأطوف العالم، وأتحدث إلى الشخصيات الهامة التي اشتركت في تاريخ المنطقة وصنعت أحداثها أو أثرت فيها فالواقع أن اللغة العربية خالية تماما من الكتب السياسية الحقيقة، والجبل الحالي لا يكاد يعرف شيئا عن أحداث ما قبل الثورة وفي رأسي أفكار لعشرات من الكتب وأعتقد أن في راسك كذلك أفكار لكتب كثيرة.

وقد تكون في لندن لك فرصة لتكتب عددا من الكتب، أو لتنظم مقالاتك ومقالاتي بحيث تصلح أن تكون كتبا في يوم من الأيام. والتاريخ كما تعلم هو هوايتي وأنا مهتم به كثيرا ولقد وجدت هنا كتب شارع الصحافة وأسرار الصحافة وثورة الصحافة والصحافة مهنة ورسالة ولا تعرف كيف يتخاطف المسجونون هذه الكتب الأربعة، ويتخانقون عليها وهم يقرأون فيها مقالاتنا ويذهلهم الدور العظيم الذي قامت به «أخبار اليوم» ويقولون أن هذه الكتب هي أعظم مرافعة لي وأنه كان يجب أن أقدم هذه الكتب الأربعة في محاكمتي وأقول أن هذه هي مرافعتي الوحيدة ولا أريد أن أقول بعد ذلك كلمة واحدة دفاعا عن نفسي.

وابتسمت وقلت في نفسي أن هذه الكتب تتناول جهودنا أو بعضها حتى عام 1952 ولكن الجهود التي بذلناها من أجل بلدنا كانت أعظم كثيرا مما تحدثت عنه هذه الكتب الأربعة!

وأنني أشعر الآن أن من أكبر أخطائنا أننا لم نصدر كتبا عن تاريخ بلادنا أن المقالات والتحقيقات والأفكار التي نشرناها في هذه السنوات كان من الممكن أن تملأ مئات الكتب ولكننا مهتمين بالصحافة فقط ناسين أن الكتب تعيش أكثر كثيرا مما تعيش الصحف.

وأعتقد أن حياتي في السجن يمكن أن تتحول إلى كتاب فإن الأحداث والطرائف فيها يمكن أن تصنع كتبا ممتعة. حدث في هذا الأسبوع أن فوجئنا بإدارة السجن تنقل إلى الغرف المجاورة لنا المساجين المرضى بالجرب!

وذهلنا أن قانون السجون يقضي بعزل هؤلاء المسجونين أو وضعهم في مستشفى السجن ولكن وجودهم بجوارنا يجعلهم يختلطون بنا ويستعملون نفس دور المياه وهذا يعرضنا جميعا لمرض الجرب والعياذ بالله.

وثار المسجونون السياسيون وانتدبوني للتحدث للمأمور في هذا الأمر، وذهب إلى المأمور وأبلغته احتجاج زملائي.

وقال المأمور أنه احتاج للغرف التي كان فيها مرضى الجرب لوضع الدوسيهات والملفات للمحافظة عليها! قلت: من الغريب أنك تهتم بالمحافظة على حياة الدوسيهات ولا تحافظ على حياة المسجونين!

قال المأمور: يجب أن تعلم أن هذه هي العدالة.

قتل له: أنت تخطئ إذا ظننت أن العدالة هي المساواة بين مرضى الجرب والأصحاء إن الاشتراكية تعالج مرضى الجرب وتحولهم إلى أصحاء ولكنها لا تحول الأصحاء إلى مرض بالجرب!

قال لي: ليس عندي أمكنة.

قلت: ممكن أن تنقل بعض المساجين من غرفة في الدور الثالث وتخصص لهؤلاء غرفة كمستشفى أو معزل صحي. قال المأمور: لو نقلت أحدا من الدور الثالث فسيقولون أنهم دفعوا نقودا للمأمور!

وقال المأمور: ما معناه أنه لو انتقلت الأهرام من مكانها المكين ولو انتقل قلبه من الشمال إلى اليمين لما نقل المرضى بالجرب بعيدا عن المسجونين السياسيين وعندما يئست من إقناعه قلت له إذا سأتركك للمساجين السياسيين! وإذا بالمساجين السياسيين يكتبون برقيات إلى النائب العام ومدير السجن يتهمون المأمور بالتآمر على قتلهم وتعريضهم لمرض الجرب!

وعندئذ تراجع المأمور ونقل المساجين المصابين بالجرب إلى حيث كانوا بدلا من الملفات والدوسيهات!

وحدث في يوم الاثنين الماضي أن كان موعد نظر قضية أخبار اليوم الخاصة بمحمد حمدي أمام محكمة الجنايات والقضية طريفة فقد أملت المخابرات خبرا على أخبار اليوم ضد الوزير المفوض السابق محمد حمدي بمناسبة إحدى القضايا وظهر أن الخبر كاذب ورفع محمد حمدي قضية على أخبار اليوم وأنا الآن أحاكم بصفتي رئيس تحرير! ومحكمة الجنايات ملاصقة لجسن الاستئناف في باب الخلق والمسافة بين البلدين أقل من مائة متر...وإذا بي أجد في السجن 12جنديا بالمدافع الرشاشة في انتظاري.

ومشي بعضهم أمامي وبعضهم خلفي وبعضهم بجواري ومعنا ضابط حراسة وضابط من المباحث العامة وكان موكب عسكريا خطيرا!

ويظهر أنهم خافوا أن أهرب، أو أن يخطفني الناس!

وعند باب المحكمة الداخلي رأيت أفراد أسرتي، وأردت أن أتحدث إليهم ولكن ضابط الحراسة منعني وقال أنه لديه تعليمات ألا أتحدث مع أحد!!

ولكنهم لم يدخلوني إلى غرفة المحكمة وأدخلوني إلى غرفة الحرس، وذلك حتى يخلوا قاعة محكمة الجنايات من المتفرجين.

وجاء محامي أخبار اليوم يطلب مقابلتي وهو المحامي الوحيد في القضية وإذا بالضابط يمنع المحامي من مقابلتي . وقلت للضابط أنني سأقف في قاعة المحكمة وأقول أنهم منعوني من مقابلة محامي قبل الجلسة وأن هذا شيء لم يحدث له مثيل في تاريخ القضاء المصري.

وارتعش الضابط وأسرع إلى رؤسائه.

وجاء الأمر بالسماح للمحامي بمقابلتي وقال لي المحامي أن هناك مفاوضات صلح وأن أخبار اليوم ستكتب كلمة اعتذار وتعطي لصاحب الدعوى مبلغا في مقابل مصاريفه.

وفي هذه الأثناء جاءنا خبر أن الجلسة تأجلت وذلك لإعلان علي أمين وأن الجلسة القادمة يوم 25 يونيو. وعدت بالموكب نفسه إلى سجن الاستئناف.

واكتفيت بتحية أسرتي من بعيد لبعيد!

لم أسمع في هذه الفترة شيئا عن التصديق على الحكم وآخر ما لدي من أخبار هو ما قيل لمحجوب رئيس وزراء السودان وهو ما كرره هيكل ولكن هيكل كان عندي منذ حوالي شهر وقد أكد لي أن التصديق سيتم في خلال15يوما وقال لي أنه سيزورني كل أسبوع ولكن يظهر أن وفاة عبد السلام عارف وكثرة المشاغل منعته من بحث الحكم أو التصديق عليه.

واليوم 21 أبريل وبذلك يكون قد مضى على مسجونا تسعة أشهر وقد مرت والحمد لله بسرعة لأنها كانت مليئة بالأحداث.

وبحكم قانون السجون أكون قد أمضيت عاما مادمت حسن السير والسلوك، وأنا ولله الحمد حتى الآن حسن السير والسلوك

ومن أغرب ما تلاحظه في السجن أن المسجونين السياسيين يعيشون على الأماني والأحلام وهم أشبه بالغريق يتعلقون بقشة.

فكل خبر يقرأونه في الصحف يربطون بينه وبين مصيرهم........

فإذا قرأوا أن كاسترو زعيم كوبا عفا عن الذين تآمروا عليه، قالوا أنه لابد أن الرئيس سيعفو عنهم. وإذا قرأوا عن عبد الرحمن عارف أنه أفرج عن المسجونين السياسيين وأوقف المحاكمات في العراق تصوروا أن هذا سيحدث في مصر، وأن الرئيس سيوقف محاكمتهم.

وفي بعض الأحيان أحاول أن أفهمهم الفارق بين هذه الأحداث وقضاياهم وأنه لا علاقة بما حدث في مصر وبما حدث في كوبا... وفي أحيان أسكت حتى لا أحطم قصور أسبانيا التي يبنونها في الهواء.


وكل مسجون يأتي إلى هذا السجن من ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة أو سجن القناطر الخيرية أو أي سجن من سجون الجمهورية يحمل إلي تحيات عدد من المساجين الذين لا أعرفهم والذين يجعلون المسجون يقسم على المصحف أن يبلغني سلامهم!

والذين يدخلون السجن يقولون أن شعبيتي زادت بعد سجني عما كانت قبل سجني. فهم يعتقدون أنني مظلوم. والناس تحب المظلومين.

ومن رأي عدد من المسجونين السياسيين أنني كنت في حاجة إلى هذا السجن وأن سجني في مصلحتي وأنني استفدت كثيرا مما حدث لي!!

وحدث أن كنت أمشي في السجن ورأتني إحدى السيدات فهجمت علي وراحت تصافحني وتقول: وحشتنا فكرة! والله وحشتنا خالص!

فقلت لها: أنا مصطفى ولست علي!

قال: أعرف ذلك جيدا...ولكني أحبك من أجل فكرة! وما دمت مسجونا فلن نقرأ فكرة! وسألتني عنك وعن صحتك...

وأمسك بها الحارس يدفعها بعيدا عني، لأن محادثة المسجونين ممنوعة فراحت تصيح وتقول قلبنا معاكم والنبي بندعي لكم أنت وأخوك...

ولازم تعرف وتتأكد أن فكرة راح ترجع تاني! قلبي بيقول لي كده!

وجاءني صول لا أعرفه ولم أقابله قبل الآن وألح في مقابلتي وقال لي أن أحلامه لا تنزل الأرض وأنه حلم بأنه يعطيني مجلة آخر ساعة بدون غلاف وأنني أخذتها ووضعتها تحت إبطي، وأراد أن يأخذها بعد أن أقرها فقلت: لا هذه المرة سأحتفظ بها على طول! وقال أنه قام من الحلم متفائلا جدا لي، وبأن الفرج قريب وأني سأعود لأكتب في الصحف التي أحبها!

وامتلأ السجن بنبأ هذا الحلم، وأقبل المساجين على مهنئين ويقولون أن أحلام هذا الصول عجيبة ولا تنزل الأرض أبدا!

ولم أصدق الحلم طبعا، ولكني سررت بأن هذا الرجل فكر في لدرجة أنه رآني في المنام!

فهذا الرجل الذي لم أعرفه ولا علاقة لي به، ولم أتحدث معه مرة واحدة فكرفي قبل أن ينام وتمنى لي الخير، ولهذا رآني في الحلم..

وقد فقدت هذا الأسبوع صديقا عزيزا...

واسمه «النص»

وهو متهم في عدة جرائم سرقة..

وقد كان هو الذي يحمل لي يوميا الطعام ويشترك في تهريب الخطابات, وكان مخلصا جدا وأمينا جدا. ولكن أفرج عنه بعد أن أمضى في السجن 48شهرا وقد وعدني أنه سوف يستقيم وأنه سيفتح دكانا، وهو يحمل الإعدادية وقد فارقته وأنا أشعر أنني فارقت صديقا عزيزا.

وسوف يتولى حمل الطعام بدلا منه حرامي آخر واسمه «بطيخة» وأرجو أن يكون خير خلف لخير سلف.

ومن العجيب أنك تقابل في أوساط المجرين أخلاقا عالية، تجد في بعضهم رجولة وشهامة ومروءة ورغبة في التضحية. وبينما تجد هذه الرجولة والشهامة تجد أخلاق سافلة في طبقة مفروض أنها متعلمة.

فإن عندنا أحد المسجونين ولنطلق عليه اسم درويش وهو متزوج وزوجته تعمل موظفة في إحدى الشركات ويظهر أنه اختلف مع زوجته ولا عمل له إلا أن يحضر مسجونين يستكتبهم خطابات غفلا من الإمضاء ويرسلونها إلى مدير الشركة التي تعمل بها يقولون فيها أن الناس تقول أن هذه الموظفة عشيقتك، فإذا لم ترفتها فسوف نبلغ المسئولين ويرس يوميا هذا التهديد والوعيد إلى عدد من المسئولين حتى يرفتوا زوجته عقابا لها لأنها لم تزره في السجن!

ويظهر أننا نعيش في عهد التلفيقات والناس على دين ملوكهم!

قضايا كثيرة حولي ملفقة أكاد أقول أن الأبرياء في هذا السجن أكثر من المجرمين.

وبين القضايا التي معي قضية زائفة مزيفة ملفقة –اسمها قضية الحزب الشيوعي العربي...والمتهم الأول فيها حكم عليه قبل ذلك بسبع سنوات في تهمة تزييف نقود ثم لما رأى أن الحكومة تعين الشيوعيين في وظائف كبيرة وفي الصحف تضايق أنه لم يعين في وظيفة وادعى أنه شيوعي ولكن الشيوعيين قالو له أنه مزيف نقود وعبثا حاول إقناعهم أنه مزيف النقود ليخرب الاقتصاد المصري وتصبح مصر شيوعية!

وخطرت له فكرة..

وهي أن يوهم المخابرات أنه رئيس حزب اسمه الحزب الشيوعي العربي وأن الحزب يفكر في انقلاب وإعلان مصر دولة شيوعية..

وحرص أن يبلغ هذه المعلومات إلى زوج أخته الذي يعرف أنه متصل بالمخابرات وكان يتصور أنه عندما تعلم الحكومة ذلك سوف تستدعيه فورا وتعينه بمائتي جنيه في أخبار اليوم!

وفرحت المخابرات بهذه الفرصة واتفقت معه على أن يدعي أنه سيقوم بانقلاب لمصلحة الصين. وقبض عليه وادعى على 120 شخصا أنهم أعضاء الحزب واعترف عدد منهم كذبا بأنهم أعضاء الحزب مع أنه لا يوجد حزب وهو في الواقع رئيس وأعضاء وأنصار هذا الحزب!!

ولكنه باع الترام.. ووجد من يشتري الترام بل ويركب الترام!

وقال لي بصراحة عجيبة لو أنني قلت أن الحزب هو أنا وحدي لما اهتم بي أحد، ولكنه عندما أدعيت أن كل هؤلاء أعضاء معي وأنهم وزراء في الانقلاب أصبحت شيئا مهما!!

وقد طلبوا منه أن يكتب قائمة بأسماء الوزراء الذين قرر أن يؤلف منهم الوزارة عندما ينجح في الانقلاب وأخذ صاحبنا يذكر إنسان أساء إليه في حياته وقرر أن يعينه وزيرا!!

وتذكر أن موظفا صغيرا في مجلس الفنون والآداب اسمه عدلي أبادير، يتولى إحدى النقابات وطلب «الزعيم» منه أن يعينه مستشارا للنقابة واعتذر عدلي، لأن «الزعيم» غير مقيد في جدول المحامين وهنا عاقبه «الزعيم» بأن عينه وزيرا للثقافة وجاءوا بعدلي وضربوه وعذبوه فاعترف بأنه وزير الثقافة في الانقلاب.

وتذكر أن شفيق اندراوس وكيل بنك الإسكندرية في الموسكي اختلف معه فعينه وزيرا للاقتصاد وقبضوا على شفيق وعذبوه حتى اعترف أنه وزير الاقتصاد وتذكر الزعيم أن محمد النشرتي التمورجي بالقصر العيني رفض مرة أن يدله على عنوان ممرض زميل

له استدان منه جنيهين، فعين الممرض وزيرا للصحة وقبضوا علي النشرتي وعذبوه حتى اعترف أنه وزيرالصحة وتذكر الزعيم أنه تشاجر مع عادل سليمان المحرر بالجمهورية فعينه وزيرا للإعلام وقبضوا على عادل وانهاروا عليه ضربا وركلا وتعذيبا حتى اعترف بأنه وزير الإعلام وتذكر أن أنور زعلوك صاحب مجلة الحقائق رفض أن يعينه محررا في مجلته فعينه محافظا ل الوادي الجديد واعترف أنور تحت وابل من التعذيب الذي لا يتحمله بشر أنه فعلا محافظ الوادي الجديد ثم تذكر الزعيم أن شقيقته متزوجة من سامي سلام الجرسون بالأوبرج وأن سامي دون جوان بين الراقصات ويخون زوجته ولهذا قرر أن يعاقبه على خيانته لشقيقته فعينه وزيرا للخارجية في الانقلاب المزعوم... وقبضوا على سامي وضربوه وعذبوه وعلقوه حتى اعترف بأنه فعلا اتفق مع الزعيم أن يكون وزير الخارجية المزعوم!!

ونشرت الصحف بالعناوين الضخمة نجاح الدولة في القبض على أعضاء الحزب الشيوعي العربي واعتراف قادة الحزب جميعا بأنهم دبروا انقلابا للاستيلاء على الحكم وأن هذا الانقلاب لمصلحة الصين..!!

هذه هي عينة القضايا الملفقة الموجودة معي في السجن !!

وإلى اللقاء...

التهمة الجديدة

سجن الاستئناف..أول مايو سنة 1966

أخي العزيز...

أقبلك قبلة طويلة، تحمل لك شوقي إليك من يصدق أنه عندما يصلك هذا الخطاب سيكون قد مضى إلينا أكثر من ثمانية أشهر دون أن نلتقي ولكن عزائي أن لقاءنا يتم يوميا بهذه الرسائل الروحية التي نتبادلها، والتي تخترق الأسوار والقضبان.

ولقد ذهلت هذا الأسبوع عندما سمعت أن هيكل قال لخيرية وعدد من الزعماء العرب أن «علي بيلبخ في لندن وأنه متصل بالمخابرات البريطانية» !!

ولقد توقعت هذه التهم الظالمة فإن الذين دبروا اتهامي الظالم لابد أن يخترعوا لك أيضا اتهاما ظالما أنهم سمعوا الناس تقول ما ذنب علي؟

لماذا تمنع فكرة من الظهور؟ لماذا يلغى عيد الأم؟ لو فرض أن مصطفى مجرم فما هي جريمة علي؟... أن الضابط نصار كان على رأس المتهمين باغتيال الرئيس وعمل انقلاب وكان شقيقه الدكتور نصار وزيرا في الوزارة وبقي فيها برغم الحكم على أخيه وعندما قام الشواف بالثورة على عبد الكريم قاسم كان شقيقه الدكتور الشواف وزيرا في الوزارة وبقي في الوزارة برغم ما حدث لأخيه فلماذا يعامل على هذه المعاملة؟

وهنا لابد من اختراع تهمة تبرر التصرفات التي اتخذت ضدك.. وأنا بعيد عنك آلاف الأميال ولكني أعرف أنك برئ من هذه التهمة.

وأنا واثق أن الذين يتهمونك بهذه الأكذوبة يعرفون أنك برئ ولكن كل ما يريدون ويحلمون به أن يوقعوا بيننا وبين بلادنا محاولين التشكيك فينا والكذب علينا وهم لا يكفيهم أنهم نجحوا في تلفيق التهمة علي ولكنهم يخشون منك أنهم يعرفون أن الناس تتحدث عن موقفك عن أنك لم تفقد إيمانك بوطنك، حتى وأنت ترى الخناجر تغمد في ظهري وإنك لم تقل كلمة واحدة تسيء إلى البلد الذي أحببناه وهذا الموقف المشرف لا يعجبهم ولا يرضيهم ولهذا يجب أن يلوثوك أنت أيضا وأنا لست حزينا لهذه الاتهامات الظالمة وإنما أرثي للذين يظلموننا أولئك الذين لا يعرفون أن الله أقوى منهم وأنه سوف يفسد تدبيرهم، ولابد أن التاريخ ظلمهم على أنفسهم أن الحقيقة لابد أن تظهر ولابد أن التاريخ سوف يصفع هؤلاء الكاذبين على أقفيتهم!

أو لعل هؤلاء الكذابين عندما رأوا موقفك المشرف أرادوا أن يختلقوا هذه التهم، لكي تزهق وتتكدر وتغير موقفك مادمت تتهم ظلما بما لم تفعله وهم ينسون أن المسألة ليست سياسة وإنما هي مسألة مبدأ وأن الذين تحملوا من أجل وطنهم مالا يتحمل البشر لا يمكن أن يغيروا مواقفهم أو يبدلوا مراكزهم أو يتخلوا عن بلادهم من أجل تهم ظالمة أو ردا على الطين الذي يلقى عليهم!

ويستدلون على تهمتهم الظالمة بأنك تعيش في لوكاندة ماي فير! سبحان الله أنهم لا يعرفون أننا صحفيون عالميون لا يعرفون أننا نستطيع أن نكسب عشرات الألوف من عرقنا ومن العمل الفني وليس من العمل السياسي لا يعرفون أننا خدمنا ألوف العرب ووقفنا بجوارهم في أزماتهم ومحنهم بدون مقابل.. فليس عجيبا أن يقف العرب من أصدقاءنا بجوارنا في محنتنا هذه أنا مكثنا سنوات طويلة نساعد من أخبار اليوم الزعماء العرب المضطهدين من كل بلاد العالم العربي كنا ندفع لهم مرتبات شهرية كبيرة كنا نفعل لهم ما لم تفعله بلادنا فهل من الغريب أن نجد اليوم من يقف إلى جوارنا أم أن أولئك الظالمين يتصورون أن كل الدنيا مثلهم تكفر بالعمل الطيب وتتنكر للجميل وتعض الأيدي التي ا"عمتها وتدوس بالأقدام على الذين رفعوهم فوق الرؤوس أن الأغلبية العظمى للناس طيبة مخلصة وفيه ولقد أحببنا الناس جميعا فأحبنا الناس جميعا كنا نعطي لكل الناس لكل الناس فلا عجيب أن يقف الناس إلى جوارنا في محنتنا..


لا أستطيع أن أصف لك سعادتي بالحب الذي ألقاه هنا في كل المسجونين وأقارب المسجونين إن هؤلاء عندي هم الرأي العام هم الشعب الفقراء القادرون الأبرياء والمجرمون أن كل واحد منهم يتحدث عن فكرة! إن عسكري هنا يأخذ عشرة جنيهات في الشهر كان يقتطع من قوته قرش صاغ ونصف قرش يوميا ليشتري الأخبار ثم الأهرام ليقرأ فكرة وبعد أن انقطعت فكرة انقطع عن قراءة الصحف إنهم لا ينسون هنا عيد الأم ولا ليلة القدر ولا المساعدات التي كنا نقدمها للفقراء.. .ولا قصة ليلى المريضة بالسرطان! أن بعضهم يحفظ قطعا من فكرة صم! أنهم يصلون ويدعون لي ولك في صلاتهم أنهم لا يكتفون بأن يدعوا في صلاتهم لأنفسهم .. أنهم يشركوننا معهم في أمنيتهم بالخروج من السجن! ولقد أصبحت أمشي في السجن وكأنني أمشي في أخبار اليوم إن كل من في السجن كأنهم أصدقائي وأولادي وتلاميذي وقرائي، أنني أرى في عيونهم الحب والتقدير والاهتمام الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم الأبرياء والمجرمون العجائز والشبان الذين يحملون شهادات عالية والذين يجهلون القراءة والكتابة.

ولقد حدث حادث غريب .. أمس فإن أحد ضباط البوليس في قسم الوايلي اتهم هو واثنان من المخبرين بأنه عذب أحد المتهمين حتى مات من التعذيب وقدم إلى محكمة الجنايات فحكمت عليه بالسجن عشر سنوات وحكمت على المخبرين بخمس سنوات سجنا لكل منهما وأدخل الضابط سجن الاستئناف توطئة لنقله في اليوم التالي إلى الليمان.

وسمع المسجونون بما حدث وإذا بينهم بعض الذين كان يعذبهم هذا الضابط وهو في قسم الوايلي فأبلغوا زملاءهم بجرائمه ضد الأبرياء وتلفيقه التهم لهم واجتمع المسجونون وهجموا على زنزانة الضابط يريدون فتحها بالقوة، وقتله في داخل الزنزانة وكانوا في حالة ثورة وأمكن بمجهود ضخم تهدئتهم وإعادتهم إلى غرفهم وكان كل من في السجن ثائرا على الضابط المحكوم عليه حتى ولو لم يصبه أذى منه.

كان كل واحد يشعر أن الكرابيج التي ضرب بها الأبرياء أصابته هو ورأيت في هذا الضابط مصير كل الذين لا يحترمون العدالة ويعذبون الأبرياء ويدوسون على الشرائع والقوانين التي تحمي المتهم وتعتبره بريئا إلى أن تحكم عليه.

وفي هذا الأسبوع عرضت على قاضي المعارضات قضية المهندسين اللذين اتهما بأنهما قالا أن مصطفى أمين برئ! -إن هذين المتهمين ليسا وحدهما اللذين يقولان أن مصطفى أمين برئ. -إن البلاد كلها تقول هذا.. فإذا كانت هذه تهمة فيجب أن يوضع الـ28مليون مصري في السجن! وقال المحامي:

أنني عضو مجلس الأمة عن دائرة شبرا الخيمة وقد كانت البلدة هادئة إلى أن قبض على هذين المهندسين بهذه التهمة.. وانقلبت البلدة..

تعالوا وشوفوا ماذا يقول الناس الآن، بعد أن علموا أن الذين يقول أن مصطفى أمين برئ يقبض عليه! أنني أقترح إضافة مادة جديدة في قانون العقوبات تعاقب بالسجن كل من يقول أن مصطفى أمين برئ! ونظر القاضي إلى وكيل النيابة وقال:

-أظن نفرج عنهما بكفالة...

-فقال وكيل النيابة: أرجو التأجيل كي أعاين المكان الذي وقعت فيه الجريمة؟

وتأجلت القضية أسبوعين...

كانت نتيجة التحليل أن السكر غير موجود في الدم.

وإذا استمرت النتيجة هكذا في الشهر القادم فمعنى ذلك أن كارثة سجني هي التي أدت إلى شفائي من السكر!!!! وإن كل الأطباء في السجن يقولون أن من رأيهم أن هذا يدل على أن الصحافة وأخبار اليوم هي التي تجيء بالسكر وأن عدم الاشتغال بالصحافة هو الذي أدى إلى الشفاء!

وهم يقولون: العادة أن شعور المسجون بالسجن وضيقه به يؤدي إلى زيادة السكر لا إلى نقصه... وأن هذه أول حالة من نوعها رأوها!!

ولقد فرحت كثيرا بهذه النتيجة وإن كانت سوف تضايق الذين يريدون نقلي إلى المستشفى ولقد بدأت أفلسف المسألة وأقول لنفسي أنني إذا قيل ي أنه لكي تشفى من السكر يجب أن تدخل مصحة كالسجن وتبقى فيها سنة فهل كنت أقبل أم لا؟وأحاول إقناع نفسي بأنني كنت أقبل وإذا ظهر في الشهور القادمة أن السكر انتهى فعلا فسوف أسجل الاكتشاف وسوف تسمع أن جميع مرضى السكر وضعوا في السجن للعلاج والشفاء!

والواقع أنني أفضل ألا أكون مريضا بالسكر وفي سجن علي أن أكون مريضا بالسكر وفي مستشفى ولا أظن أن نتيجة التحليل سوف تؤثر في ذهابي إلى المستشفى أو عدمه، فلو كانوا يريدون إرسالي إلى المستشفى لأرسلوني مهما كانت نتيجة التحليل ولو أنهم لا يريدون فإنهم لن يرسلوني للمستشفى مهما كانت النتيجة وهذه مسألة يجمع عليها الأطباء هنا...

ولقد كان هذا الأسبوع أسبوعا هاما نظرا لوجود سعيد فريحة وفائق السمرائي ومحمد أحمد محجوب وفي الوقت نفسه كانوا النافذة التي أطل منها على العالم وأرى منها ما يجري ساعة بساعة ولقد سررت أن سعيد بعد أن أطلع على الحقائق أقتنع ببراءتي بعد أن كانت الأكاذيب قد ضللته وخدعته وجعلته يتصور أنني مخطئ وكان يهمني كثيرا أن يعرف الحقيقة كاملة وسيجيء يوم تعرف فيه الدنيا كلها الحقيقة وسوف تبيض وجوه وتسود وجوه إن إيماني بشروق الفجر يزداد كل يوم أن الظلام لا يمكن أن يعيش إلى الأبد..

وفي الختام أقبلك وإلى اللقاء ....

في مستشفى المجاذيب

سجن الاستئناف .. 13 مايو سنة 1966

أخي العزيز...

أكتب هذا في 3 مايو لا أعرف متى يصل إليك ولكني أتصور أنه سيكون عندك يوم 23 مايو مرت سنة كاملة منذ آخر لقاء الأيام بسرعة والأيام تمر ببطء يومها كتبت عن هذا الوعد في أخبار اليوم رسالة من المحرر الذين قرأوها بكوا كان قلبي هو الذي يتكلم قلت فيها أشياء كثيرة عندما انفجرت بالكباء في المطار عندما تمزق قلبي لحظة الوداع كان ذلك إحساسا من أن فراقنا سيطول سيطول جدا لست أعرف سبب هذا الشعور إحساسي داخلي عجيب لعله نوع من أخبار الغد!

لم يتغير شيء كأنني بعد سنة لا أزال في المطار أرى ظهرك وأنت تسير نحو الطائرة حولي كل أصدقائي وأشعر أنني وحدي أتذكر أنني كنت ألومك لأنك تؤخر سفرك كنت أقول أن قلبي يحدثني بأنك إذا تأخرت فلن تسافر تحققت ببوءتي كان يجب أن تسافر ولو كنت بقيت هنا وحدث ما حدث لكنت أتعس رجل في العالم وأنت بعيد أقرب كثيرا مما لو كنت هنا خارج السجن أو في زنزانة أخرى بجواري أشعر الآن أنك قريب جدا أشعر أنني أتحرك معك أتضايق عندما تحبس نفسك في غرفتك أحس كأنك تحبسني معك كلما خرجت إلى هايدبارك خرجت معك أتفرج على التليفزيون في غرفتك بالفندق.

أسافر معك إلى برمنجهام أشهد مباراة الكرة أهتف فرحا لانتصار فريق شيفيلد وفي الوقت نفسه أحس أنك معي في نفس الزنزانة.

السرير الضيق يسعنا المقعد الواحد يكفينا السلاسل تربطنا الباب المغلق يجمعنا نركب في مرجيحة واحدة نهتز بين اليأس والأمل أيد مجهولة تدفعها إلى الأمام وإلى الوراء... ولكننا لا ندوخ لا نخاف أن نسقط من المرجيحة نؤمن بأنها ستقف في وقت من الأوقات سننزل منها سالمين آمنين!

في بعض الأحيان أشعر أنهم أدخلوني مستشفى المجاذيب هنا مجنون يعتقد أنه زعيم و «خواف» اعترف أنه إرهابي ولص يقسم أنه أشرف الشرفاء وبرئ اضطر أن يقول في التحقيق أنه متآمر وأحيانا يهتاج المسجونون كما يفعل المجانين يشتمون بعضهم أو يضربون بعضهم أو يجرحون أنفسهم بالأمواس حتى تسيل الدماء والحراس هم الممرضون والضباط هم الأطباء والمأمور هو الحكيمباشي بالجنون! وأضع يدي على رأسي أتحسس عقلي أحمد الله على أنه لم يطر لا أزال عاقلا أنها نعمة كبرى أن العقل أثمن من الحرية إذا كنت فقدت حريتي فقد احتفظت بعقلي شيء خير من لا شيء ونصف البلاء ولا البلاء كله الشيء الذي يجنن المساجين السياسيين هو موعد التصديق على الأحكام!

قبل العيد الصغير يقولون بعد العيد الصغير وقبل العيد الكبير يقولون بعد العيد الكبير وفي يناير يقولون في فبراير وفي فبراير يقولون أنه في مارس يسمعون أن تيتو سيصل إلى مصر يقولون ستصدر الأحكام قبل وصول تيتو ويصل يتيو ولا تصدر الأحكام فيقولن قبل وصول كوسيجين فإذا وصل كوسيجين قالوا ستصدر بعد سفره! وكل متهم يتحول إلى قاضي يصدر الأحكام يصدرأحكاما قاسية على الذين لا يحبهم ويحكم على نفسه طبعا بالبراءة !

الظريف أنهم جميعا يحكمون علي بالبراءة أنهم جميعا بلا استثناء يحبونني.. المسجون السياسي يقابل زوجته وأسرته كل 15يوما كل زيارة لا تجئ ويدها فاضية إن يدها دائما مليئة بإشاعات عن الأحكام والأخبار تجعل المسجونين كبندول الساعة يتحركون بين التشاؤم والتفاؤل وهم يعتبرون أنفسهم المحور الذي تدور حوله الكرة الأرضية كل شيء في العالم يؤثر على الأحكام! الإفراج عن المسجونين في الجزائر يفرحهم في القاهرة العفو عن المتهمين في بغداد يجعل المتهمين يرقصون في سجن الاستئناف وكثير منهم يعيشون على الأحلام الحلم والرؤيا يؤثران على مزاجهم وفي السجن واعظ يعتبر نفسه خبيرا في تفسير الأحلام وهو يفسر كل الأحلام بأنها براءة! حلم أحد المسجونين أنه كن يأكل ملوخية قال الشيخ الملوخية خضراء والخضرة براءة وحلم مسجون ثاني أنه كان يركب طيارة قال الشيخ محمد أن الطيارة تنطلق والانطلاق معناه إطلاق السراح وحلم مسجون ثالث أنه كان يبيع «كشري» أمام السيدة زينب قال الواعظ أن السيدة زينب حفيدة رسول الله وهي لا تجيء إلا للأبرياء!

وفي السجن شخصيات غريبة شخصية عجوز اسمه عباس بيه محام متهم في قضية الشيوعية عمره 80سنة وهو متهم بر ئ بالشيوعية لا يتكلم إلا بالقرآن والأحاديث النبوية وهو يفتح مكتب محام في السجن يستشيره اللصوص وقطاع الطرق والنشالون ثمن كل استشارة قانونية سيجارة بلمونت وهو يجمع السجائر ويشتري بها طعاما!

وفي السجن شاب اسمه كامل كان بطل مصر في الملاكمة وهو متهم بالشيوعية ووجدته هائجا غاضبا ثائرا أن زملاءه يطلقون عليه لقب بطليموس قلت له أن بطليموس ليس شتيمة أنه أحد البطالسة الذين حكموا مصر وظهر أن سر غضبه أن كان متزوجا من فتاة جميلة جدا ثم رفعت عليه قضية أمام الكنيسة وطلبت الطلاق.. لأنه عاجز جنسيا وأن بطليموس الثالث عشر كان متزوجا بكليوباترا وطلقته لأنه كان عاجزا جنسيا وأحبت قيصر !! ولكي تعرف سر ثورة «صديقنا كامل» هذا على لقب بطليموس هو أنه سمع أنه سمع أن بطليموس عاجز جنسيا ثم يجلس ويلقي عليك درسا تاريخيا في حكاية بطليموس وكليوباترا ويعترف بالقضية التي رفعتها عليه زوجته ويؤكد لك أنه كسب القضية وبعد ذلك طلق زوجته الكذابة!!

وأنا أصدق بطل الملاكمة هو صادق لا يكذب ولكن زملاءه هنا يعاكسونه ويدعون أنه بطليموس الرابع عشر!! وسبب حرارة الجو كثرت الخناقات والمشاجرات حدث أن أحد المتهمين السياسيين كان يحلق ذقنه وبعد أن انتهى من حلاقته جاء زميل ليجلس على كرسي الحلاق واعترض المتهم السياسي لأن الحلاقة يجب أن تكون بإذنه وقد وعد مسجونا آخر بهذا الدور وحدثت مشاجرة لرب السماء ونزل المتهم السياسي إلى المأمور وقدم بلاغا يقول فيه أن المسجون لبيب يريد قتله وأن حياته في خطر وأنه يطلب نقل لبيب من هذا الدور وهدد لبيب بأن يقدم بلاغا ضد هذا البلاغ.

وأراد الإرهابي رقم 11 أن يقلد المسجون السياسي فهو له عقلية القرود إذا رآك تدخن أشعل سيجارة وإذا رآك تمسح حذاءك مسح حذاءه وإذا رآك تمشي على يديك ورجليك مش هو على يديه ورجليه ولهذا قلد المتهم السياسي وقدم بلاغا ضد زميله بتهمه بأنه ينشر الشيوعية في السجن ويهاجم الرئيس!

وكانت نتيجة هذه الخناقات والمشاجرات أن صدرت التعليمات بتطبيق نظام الضبط والربط أن تغلق علينا الزنزانات ولا تفتح إلا نصف ساعة في اليوم وفعلا أقفلت الزنزانات ولم تنقذني إلا زيارة فائق السمرائي وكانت الزيارة في حضور المأمور وعندما انتهت الزيارة طلب مني المأمور أن أضفي الخلاف بين المسجونين السياسيين فقلت التدخل بشرط العودة إلى فتح الأبواب وإنهاء مسألة الضبط والربط ووافق المأمور وتمت تسوية الخلافات وفتحت أبواب الزنزانات!

وهكذا ترى أننا مشغولون كل يوم لدينا مشاورات واجتماعات للأقطاب ومفاوضات وحرب وهدنة وسلام ولقد جرى تفكير في تأليف مجلس أمن ليحل المشاكل التي تهدد السلام وأجمعوا على أن أكون أنا مجلس الأمن لكني رفضت بشدة لأنه لا ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه وأنا في حاجة إلى هدومي وأذكر مصير الكونت برنادوت الذي قتل عندما تدخل بين العرب واليهود!

وفي الدور ثلاثة متهمين في قضية رشوة فاروق وهاشم ولبيب وهم من أحسن المتهمين معنا وكانوا يكونون ثالوثا مقدسا يأكلون معا ويمشون معا ويصلون معا ويتفسحون معا ويستحمون معا وهم كلهم أصدقائي وفجأة اختلف الثلاثة وكان خلافهم أثناء نظر قضيتهم أمام محكمة الجنايات والخلاف على مسألة هايفة وحاولت أن أصالحهم وأجعلهم يفهمون أنهم في مركب واحد إما يعومون معا أو يغرقون معا!

والمثل الذي يقول فتش عن المرأة لعب دورا في هذا الخلاف أن زوجة أحدهم قالت أن زوجة الثاني أوصت أحد الشهود على زوجها وحده!

وتنعقد مجالس صلح ونفض الإشكال ثم يعود الخناق من أول وجديد!

والعجيب أن الثلاثة أبرياء ومراكزهم واحدة في القضية إما أن يبرأوا معا أو يدانوا معا، ولكنهم لا يعرفون!

وعندنا أربعة من الإخوان المسلمين تهمتهم أنهم قرروا نسف قطار الرئيس سنة 1955 ثم عدلوا عن ذلك وهم مختلفون فيما بينهم والخلاف حول من منهم يؤذن للصلاة كل واحد منهم يعتقد أنه أحق بأن يتولى الأذان فهم يتسابقون إلى الأذان! ولهذا نجد الواحد منهم يؤذن الفجر قبل موعده بنصف ساعة حتى يسبق زميله وأحيانا نجد اثنين منهم يؤذنان في وقت واحد وإذا استمر هذا النزاع فسيؤذن الواحد منهم لصلاة الظهر في الفجر ولصلاة العشاء في الظهر!

وفي نهاية العنبر يوجد ثلاثة متهمين في قضية منشورات بالإسكندرية إخوان وصديق لهما شبان صغار السن أحدهم موظف في بنك والثاني في مطار الإسكندرية والثالث في إحدى الشركات أصيب أحدهم بحالة غريبة بعد دخوله السجن قد النطق وفقد السمع معا أصبح يتكلم معنا يكتب ما يريد أن يقول ونكتب له ما نريد أن نقول والأطباء في السجن حيارة في هذه الحالة الغريبة لا بالإشارةغار أولاد في السابعة عشر والخامسة عشرة وقد رأيت من أيام تلميذا في الرابعة عشرة من عمره جميل الشكل ي أو يعرفون ماذا يفعلون وأغلبية كبيرة م المسجونين من المتهمين في قضايا المخدرات كثير منهم أطفال صبدو أنه من أسرة طيبة تهمته أن صديقا له طلب منه أن يوصل خشبا إلى أحد البيوت ثم ظهر أن الخشب مسروق قبضوا عليه أدخلوه الزنزانة فزع عندما رأى شكلها راح يبكي كان جائعا وقد انتهى موعد توزيع الطعام وكان حائرا لأنه لم يتعود هذا الوسط وهذه الحياة أحسست كأنه ابني!

أسرعت إليه أحمل فاكهة وطعاما ومجلات ليقرأها وأخذت أحدثه وأسري عنه حتى جففت دموعه وبذلت جهدا كبيرا حتى لا يرى دموعي وحمدت الله عندما أفرج عنه بعد يومين عندما أبرز للقاضي شهادة ميلاده وعرف أنه أصغر من أن يسن في سجن الاستئناف!

والسجن مشغول الآن أنهم يعلون أسواره إن ارتفاع السور خمسة أمتار وهم يرفعون فقوه أعمدة من الحديد طولها ثلاثة أمتار سيضعون فيها أسلاكا شائكة لمنع الذين يفكرون في الهرب وفي الوقت نفسه لمنع الذين يستعملون الحبال في إحضار ممنوعات من خارج السور مثل الشاي والحشيش وأمواس الحلاقة! وهذه هي أهم أخباري! أو هي صورة لحياتي واهتماماتي ولكن الصحف العربية والأجنبية لا تزال هي أكثر ما يسليني وفي الوقت الذي كنت أتتبع فيه باهتمام مذكرات طبيب تشرشل في الشانداي تيمس، كنت أنا أقرأها باهتمام وأقرأ بشغف تعليق المعارضين والمؤيدين.

وأنا أنتظر بشغف الأعداد الأخيرة من جريدة التيمس لأرى التغير الذي حدث في صفحتها الأولى وسأطلب أن ترسلوا لي جريدة التيمس بانتظام ابتداء من اليوم والأيام التالية.

ولقد وصلت إلى القاهرة صديقة قادمة من رحلة إلى الأردن و لبنان والكويت كتب لي أحد أصدقائي رسالة مهذبة ذكر فيها «قالت لنا أنها أثناء رحلتها إلى عمان و بيروت و الكويت ذهلت لعدد الناس الذين يهتمون بأخبارك.. أينما دخلت يكفي أن يعرفوا أنها مصرية يروحوا فورا يسألونها إزاي مصطفى أمين وما هي أخباره وما تم في مسألته ..إلخ... لاحظت حاجة غريبة أن الكل متتبع أخبارك باهتمام ويعرفون أدق التفاصيل لدرجة أنهم يعلمون أنك ختمت مرافعتك بكلمة غاية في الإبداع ويعرفون أو على الأصح متأكدين من براءتك ولا فرد واحد يشك ثانية في أنك خائف لبلادك ويدعون لك م نكل قلوبهم وكانت هي مذهولة من مثل هذا الشعور العام في البلاد العربية»...

ولقد وصل إلى السجن متهمون من سوريا من السعودية ومن ليبيا ومن الكونغو وهم يقولون نفس الكلام.

وكرر لي فائق السمرائي السفير العراقي السابق في القاهرة عند زيارته لي هذه المعاني كلها.

وقال لي أن جريدة عبد الرحمن البزاز في العراق كتبت تقول أنها علمت من أوثق المصارد أنني سأنقل إلى المستشفى ثم يفرج عني «إفراج صحي» وفائق متفائل ويعتقد أن الإفراج عني سيتم قريبا وهو مؤمن بأن الرئيس لا يمكن أن ينسى خدماتي من أجل بلدي ولا تفاني في خدمته طوال هذه السنين.

ولقد سررت بشعور الناس كثيرا أن حكم الناس وحكم التاريخ هو الذي يهمني أكثر م أي شيء وما أسمعه من أفواه الناس يسعدني ويجعلني أشعر أن ما دفعت كان أقل كثيرا مما أخذت وأن كل ما حدث لي لا يساوي هذا العطف الذي أحس به من الذين كانوا يحبونني، والذين كانوا يكرهونني...

الحياة في الزنزانة!

سجن الاستئناف ..10 مايو سنة 1965

أخي العزيز....

اطلعت على خطابك المؤرخ في 22 أبريل سنة 1966 ولقد سررت أن صحتك جيدة وأن آلام النقرس لم تعاودك منذ وصولك إلى لندن وأنا أحمد الله أن صحتي جيدة وأنا كذلك أصبت بزكام، ولكن كان زكاما خفيفا ولله الحمد وعالجت نفسي بنفسي واستطعت بفضل الأسبرين أن أشفي نفسي بغير حاجة إلى عرض نفسي على الأطباء وأهم شيء أحرص عليه في السجن النظافة فأنا أغير ملابسي كل يوم، ويقوم بمهمة صادق في الإشراف على تنظيف الغرفة مسجون مهمته أن يحضر في الصباح المبكر ويأخذ الأطباق وعلب البلاستيك التي يحضر لي فيها الطعام ويغسلها ثم أتولى أنا غسل الأطباق مرة أخرى زيادة في النظافة والعناية الصحية وهو يغير جردل البول وأمضي الصباح في ترتيب غرفتي فأن أحرص على أن أتولى تنظيفي فراشي بنفسي وترتيب ملايات الفرش ولا أسمح لأحد سواي أن يلمس فراشي وذلك حتى اضمن ألا يمتلئ بالقمل والبراغيث!

والحمد لله حتى الآن لم يحدث ضحايا وقد حدث أن اكتشفت في سجن القبة الذي كنت فيه «بقة» وكانت حكاية!

وأقرأ بترتيب الصحف الكثيرة التي تصل إلي ثم أوزعها على المسجونين من زملائي ولكل واحد فيهم ذوق خاص في الجريدة التي يريدها بعضهم يفضل الأنوار وبعضهم لا يقرا إلا الشبكة! وبعضهم يفضل الديلي تلغراف، وآخرون يقرأون تايم ونيوزويك ونيويورك تيمس والإرهابي رقم11 يبدي أسفه لأنهم لا يرسلون إلى مجلة ميكي والسندباد! ومن المهام اللذيذة التي أقوم بها كل يوم نقل الثلج من ترموس فاتن حمامة إلى ترموس أصغر وإلى الأكواب البلاستيك وترموس فاتن يجعلني أشعر أن عندي في شقتي الصغيرة «فريجيدير» خاصا!

وأتولى بنفسي غسل أكواب الشرب والمعالق ثم أفرش المفرش على المائدة وأرتب السفرة استعدادا لوصول طعام الإفطار الشهي

والزنزانة تتحول إلى غرفة مكتب وإلى غرفة نوم وإلى غرفة طعام وإلى صالون فأنني أغطي السرير فيصلح كنبة ويجلس بعض المساجين على الكراسي وبعضهم يجلسون على السجادة. وكم اهتممت بتأثيث شقة الزمالك اهتممت بتأثيث شقة سجن الاستئناف وقد أصبحت غرفتي أكثر الغرف أناقة ونظافة وترتيبا في السجن كله ولست في حاجة إلى وضع صور زيتيه على الحائط فإن المساجين الذين قبلي تولوا ذلك بأن حفروا على الحائط عددا من الآيات القرآنية والدعوات والتواريخ! ونسيت أن أقول لك أن الزنزانة تنقلب أيضا إلى حمام فأنني استحم فيها وعندي طشت يقوم بمهمة البانيو خير قيام. ويبقى كل شيء منظما في شقتي الصغيرة إلى أن يحدث تفتيش وعادة يتم التفتيش في الصباح المبكر يحضر عسكري يقلب الغرفة رأسا على عقب فيبحث تحت المراتب وتحت السرير ويفتح حقيبة الملابس ويقلبها رأسا على عقب بعد أن أكون قد بذلت مجهودا كبيرا في ترتيبها ثم يمر أصابعه بين الصحف والكتب وفي سبتين من الخوص أضع فيهما الفاكهة والجبن المخللات واسمي السبتين «الأوفيس الخاص» ثم يمرر أصابعه في جميع البدل المعلقة على الشماعة والروب دي شامبر ويضع يده في الجيوب وفي بعض الأحيان يفتشني شخصيا!

والأشياء الممنوعة هي الراديو والشمع والحبر والشوكة والكلونيا والخطابات.

وأنا أخفي كل ما أكتب خارج زنزانتي!

وقد قال المأمور في اجتماع مع المساجين أن بعض المسجونين هربوا راديو، ووضعوه في مؤخرتهم وذهل السجانون لا يمكن إخفاء راديو في مثل هذا المكان الدقيق ولكن المأمور قال أنه ممكن إخفاء تليفزيون في مثل هذا المكان! والمنتظر أن يضم السجانون هذا المكان الغريب إلى الأمكنة التي يفتشونها بدقة واهتمام!

وأمسى حضر عسكري وضابط وفتشا غرفتي وجد العسكري ساعتي وظن أنه وضع يده على مخالفة خطيرة!

وأسرع بالساعة إلى الضابط على حطبه وهو يقول: وجدتها!

ولكن الضابط قال له ببرود أن هذه الساعة مسموح بها في المصلحة! فأعاد العسكري الساعة إلى مكانها!

وساعتي مشهورة مثل ساعة الجامعة أو ساعة محطة القاهرة وكل المساجين يسألونني عن الساعة وهي الساعة الوحيدة بين المسجونين ولهذا فهم يعتمدون عليها في أوقات الصلاة وأوقات الفسحة والأوقات المقررة لإغلاق الزنازين!

والحياة بغير ساعة مؤلمة جدا ولقد عشت في بعض الأيام أيام سجن المخابرات والسجن الحربي- بغير ساعة وفي سجن الاستئناف لم يسمحوا لي في الأسبوعين الأولين بساعة وكنت أحاول أن أعرف الوقت بالتشعلق في نافذة الزنزانة وسؤال السجانين عن الوقت وفي بعض الأحيان يلغي السجان كسور الساعة فإذا كانت الساعة السابعة إلا خمس دقائق قال لك أنها السادسة باعتبارها الساعة السادسة خمسا وخمسين دقيقة!

ولقد حدث مرة أن نمت واستيقظت وتصورت أن الساعة السادسة صباحا وإذا بي أسأل وأعرف أننا ما زلنا في منتصف الليل ولكن منذ أن سمحت لي النيابة باستعمال الساعة أصبحت أعرف أين أنا في ساعات الليل والنهار!

وأهم حديث يسيطر علي المسجونين السياسيين هو متى يصدق علي الأحكام وكل أسرة مسجون تحمل له إشاعة أو خبرا عن موعد التصديق وهم يحاولون أن يقرأوا بين سطور الصحف أنباء غير موجودة عن موعد التصديق ومن الطريق أن المساجين يحضرون إلي ويعرضون قضاياهم ويسألونني عن الحكم الذي أعتقد أنه سيصدر عليهم كأنهم يتصورن أنني الدجوي! وأنني عادة أعطيهم الأمل وأطرد عنهم اليأس وحديثي معهم يريحهم والساعة التي يفقدون فيها أعصابهم هي الدقائق السابقة على إغلاق الزنزانة عليهم فتجد كل واحد منهم يحاول أن يؤجل إغلاق الزنزانة دقيقة أو خمس دقائق ليتمتع بالحرية هذه المدة الصغيرة وصحيح أنها حرية داخل عنبر السجن لأن المسائل نسبية فهم يعتقدون أنهم أكثر حيوية في ردهة العنبر منهم في داخل الزنزانة وأحاول أن أقنعهم بأنه لا فرق بين الزنزانة وبين ردهة العنبر وبين حوش السجن ما دامت كلها محوطة بالأسوار ولكن من الغريب أن المسجون يشعر بالحرية عندما يخرج من باب الزنزانة أو عندما يفتح باب الزنزانة دون أن يخرج منها فهو يكره الباب المغلق وحتى لو فتح هذا الباب وأدى إلى باب مغلق آخر أو إلى عدة أبواب مغلقة فمع ذلك يتمنى أن يبقى باب زنزانته مفتوحا.

وأنا شخصيا لا أتضايق كثيرا من إغلاق باب الزنزانة فإنها هي الفرصة الوحيدة التي انفرد فيها بنفسي وأكتب أو أقرأ لأنه ما دام الباب مفتوحا فلابد أن يدق الباب ويدخل أحد المسجونين ليسألني عن شيء أو ليجلس معي أو ليطلب كوب ماء بارد فإن ترموس فاتن حمامة أصبح أشبه بسبيل أم عباس!

ولقد لاحظت أن بعض المسجونين العاديين يلحون في طلب الجرائد وأسألهم جريدة عربية أو جريدة أفرنجية فيقولون زي بعضه !

وأسألهم هل تعرفون لغة إنجليزية فيجيبون لا!

ثم اكتشف أنهم يريدون الجريدة ليحرقوها ويصنعوا على نارها الشاي!

وهي فائدة جديدة للجرائد لم أكن أعرفها برغم اشتغالي بالصحافة طوال هذه السنوات الأربعين!

ولقد صنع المسجونون السياسيون من لباب الخبز أحجار شطرنج وهم يمضون جزءا من وقتهم في لعب الشطرنج. وأنا أمضي أغلب وقتي في المشي أمشي كثيرا جدا، أكثر من أي مسجون في السجن كله ويجيء زملائي ويمشون معي، ولكن لا يلبث الواحد منهم أن يتعب ويحل مكانة مسجون أخر وأحيانا أمشي مع مسجون واحد وأحيانا نمشي أربعة معا.

وقبل أن أبدأ كتابة هذا الخطاب تصورت أن ليس عندي شيء أقوله لك.

ولكني ما كدت أجلس وأكتب حتى ودت أن في حياتي هنا أشياء كثيرة تستحق الكتابة.

أن خطابي سيصلك وقد دخلنا الشهر الثاني عشر من فراقنا وأنا أعرف ماذا يعني هذا بالنسبة لي ولك ولكني مؤمن بأن الغد أحسن من اليوم وأن الله لن يتخلى عنا. ثم في الوقت نفسه أنني أحمد الله لأنه أعطاني في هذه الفترة كثيرا أكثر مما كنت أتصور أن يحدث فلقد جعل الله سجني محتملا ومريحا وملأ قلبي بالصمود والإيمان أكثر من أي وقت مضى وأنا سعيدا جدا بأيمانك وصمودك وإصرارك على أن تحب بلدك.

وأنني أقبلك وأرجو لك أن تعذرني لأنني لم أكتب لك طويلا فأنت تعلم أ، ظروف الكتابة ليست سهلة.

وإلى اللقاء.

لست المظلوم الوحيد

سجن الاستئناف ..20 ديسمبر سنة 1965

عزيزي...

أتريدين أن تعرفي حياتي هنا؟

في حوالي الساعة الثامنة صبحا يفتح السجان باب زنزانتي أذهب معه إلى دورة المياه وهي عادة مليئة بالمسجونين ما يكاد يراني المسجونون حتى يخلوا لي الطريق ثم أعود إلى زنزانتي وأرتدي ملابسي ويجيء جاويش يحلق لي ذقني ثم يعد طعام الإفطار إن المسجون تحت التحقيق يتلقى طعامه من بيته وهكذا أفطر بيض مقلي يصل باردا في أغلب الأحيان وفول مدمس يصل ساخنا و «كرواسون» مختلف الأشكال والأحكام! عن حقيقي وجبن اقتسم إفطاري مع زملائي المسجونين والحراس الحراس يريدون أن يكون لهم نصيب الأسد بطني وقلبي مع المسجونين ثم تصل صحف الصباح والتهمها على الرغم من أنني أعرف كيف تملئ الأخبار والتعليقات وبحكم التجربة أستطيع أن أعلم ما حذفوه من الخبر الصحيح وما أضافوه إلى الخبر الصحيح حتى أصبح غير صحيح!

وفي الساعة 12 ظهرا يمسحون لي بفسحة لمدة نصف ساعة ويسمونها «الطابور» وهذه الفسحة عبارة عن المشي في فناء السجن الذي يبلغ عرضه خمسة أمتار أو ستة أمتار وطوله خمسين مترا وتستمر «الفسحة» ساعة ونصف ساعة طبقا لمزاج الضابط!

وفي الساعة الثانية ظهرا أتناول غدائي ثم استأنف القراءة إلى أن يغلق باب الزنزانة في الساعة الرابعة بعد الظهر.

أتفرج على مباريات كرة القدم في التليفزيون مرتين كل أسبوع مرة يوم الجمعة ومرة يوم الأحد وفي أغلب الأيام لا يسمحون لنا إلا بنصف المباراة «أي الهاف تايم الأول» لأن عملية «تمام السجن» تتم في الساعة الرابعة بعد الظهر وهكذا نتفرج على الجزء الثاني من المباراة في الصحف في اليوم التالي وهذا أمر يعذب هواة كرة القدم مثلي ولكن المثل البلدي يقول «الطشاش خير من العمى» وفي بعض الأحيان يحدث أن يرتكب أحد المسجونين ذنبا كان يضبطوا عنده مخدرات أو جهاز راديو أو سكرا أو شايا، وعندئذ يعاقب السجن كله بأن نحرم جميعا من مشاهدة التليفيزيون لأن مسجونا واحدا أخطأ ذلك أن القاعدة في السجن أن «النعمة تخص والنقمة تعم»

وفي بعض الليالي مقعدي بعد إغلاق أبواب الزنازين واقف على المقعد، بجوار الباب، وألصق رأسي بقضبان الشراعة ويفعل المسجونون نفس الشيء ونمضي الليل في الحديث والحوار والمناقشة من وراء القضبان!

وبين المسجونين بجواري مسجون سياسي قدموه إلى المحاكمة ظلما بأنه الإرهابي رقم 11 في قضية حسين توفيق، والشاب مظلوم لم يذبح فرخة طوال حياته، ولكنهم أرغموه أن يعترف على زملائه بأن كان يعد معهم مؤامرة اغتيال وإلقاء قنابل وقتل بالمدافع الرشاشة!

والإرهابي رقم 11 يخاف من الظلام فإذا انقطع النور في السجن وهو أمر يحدث كل يوم تقريبا أصيب الإرهابي الخطير بفزع وراح يصرخ ويولول بينما المسجونون الأشقياء يقلدون صوت الذئاب والكلاب والقطط وفي ليالي أخرى يقلد المسجونون صراخ العواصف وزئير الرياح ويدعي واحد مهم أن شبح مسجون نفذ عليه حكم الإعدام في السجن يمشي أمام الزنازين ويصرخ كل مسجون في زنزانته مدعيا أنه رأى بعينيه الشبح المزعوم ويصدق الإرهابي رقم11 ويرقع بالصوت وهو يقسم ويؤكد أنه لم ير الشبح فقط إنما هو الآن معه داخل الزنزانة!

وهكذا نستطيع أن نضحك في أحزاننا ونحاول أن نغير الجو الكئيب القاتل إلى جو مرح لا أريد أن أفقد هنا قدرتي على الضحك لو فقدت قدرتي على الضحك لفقدت قدرتي على الحياة!

واستطعت أن أكون في السجن صداقات مع كل المسجونين وقد دهشت عندما قال لي الضباط أن لي شعبية في السجن وهي شعبية غريبة تذهلهم وقال لي الضابط أنه لو عرف ولاة الأمور بهذه الشعبية لوضعوا الضباط معنا في الزنازين وليسوا في حاجة إلى تعليق المشانق، فالمشنقة موجودة في غرفة تحت الطابق الذي أقيم فيه لا أكاد أمشي في ردهة السجن حتى يتقدم نحوي المئات منهم يصافحونني ويسلمون علي ويرفعون أيديهم إلى السماء داعين لي وهذا يجعلني أشعر أني لم أضيع في الأوهام عمري والمسجونين هنا يكتبون لي خطابات وكأنني أحد نجون السينما وقد بدأت أتلقى رسائل مهربة من خارج السجن من تلاميذ لي ومن أصدقاء ومن قراء لم أعرفهم كلها تعلن إيمانها ببراءتي ولا شك أن ما ألقاه من هذا الحب والعطف والتشجيع هو أجمل عزاء لي ولم أكن أتصور أن كل هؤلاء الناس من مختلف الطوائف والطبقات والاتجاهات يعرفونني ويعرفون ما فعلت لبلادي أو يشعرون أنني مظلوم ويحسون بمقدار الظلم الذي أتعرض له، على الرغم من حملات الأكاذيب والاتهامات الظالمة ضدي وقد زادني هذا الشعور حبا في بلدي وإيمانا بشعبها وعرفانا لجميلها.

ولكني أحب أن تعرف الدنيا أنني لست المظلوم الوحيد في هذا السجن لقد تبين لي أنه يوجد مئات غيري من المظلومين لفقت لهم القضايا وزجوا في السجن بغير جريمة واجبي أن أعلن للناس جميعا أنهم أبرياء لست البريء الوحيد أريد أن أهرب إلى خارج السجن رسائل تروي قصص الظلم الذي وقع عليهم في الماضي كان العدل هو القاعدة والظلم هو الاستثناء واليوم الظلم هو القاعدة والعدل هو الاستثناء في الماضي كان المتهم برء حتى تثبت إدانته الآن المتهم مجرم حتى لو ثبتت براءته وطالما حذرت وأنذرت ولا حياة لمن تنادي ولعل الذين ظلموني أرادوا أن يسكتوا أصوات التحذير الإنذار كان صوتي نشازا بين الأصوات التي تقول أن القوة هي العنف والإرهاب وأنا في رأي أن المظالم والتلفيقات والمحاكم الاستثنائية والمعتقلات هي معالم الطريق إلى الكارثة!

وهم يتوهمون أن هذه علامات النصر أنه يتصورون أن المسجونين السياسيين هم الأسرى الذين كانوا يسيرون خلف موكب فرعون! وكلما طال الموكب كبر حجم الانتصار أنا أرى أن الأسرى من المصريين لا يصنعون موكب منتصر بل يصنعون طابور الهزيمة!

أعرف أن الناس خائفة واجفة الحق يهمس والظلم يزأر أصبحت الحقيقة هي المجرمة الخائنة والأكذوبة هي مثال الشرف والأمانة والوطنية!

أنا لم أفقد الثقة في الشعب هذا الشعب عيب يحني رأسه وهو يلعن ظالميه، يحسب الظالمون أنه أستسلم وإنما هو يستعد للانقضاض ومع ذلك فإن الإرهاب قادر أن يسحق الحقيقة ويدفنها في التراب ولكني مؤمن بأن الحقيقة لابد من يوم من الأيام أن تخرج رأسها من التراب!

الحقيقة تدفن ولا تموت!!

خصص سجن الاستئناف الطابق الثاني للمسجونين السياسيين ومعنا المحكوم عليهم بالإعدام والمسجونون الخطرون وبعض هؤلاء يقيم وحده في زنزانة مفردة والبعض الأخر يقيم ثلاثة أو أربعة في زنزانة واحدة، وكل المسجونين السياسيين ينامون في هذا السجن على سرير إذا دفعوا أجر السري ولكن باقي المسجونين في الطابق الثالث والرابع ينامون على الأسفلت ويحشرون في الزنازين كالسردين ملابسهم ممزقة طعامهم لا تأكله الكلاب لا يرون الشمس الأطباء يخشون عليهم من انتشار السل والأوبئة الطابق الذي نحن فيه نظيفي نسبيا.

العملة الصعبة هنا في السجن هي السيجارة «بلمونت» وهم يحتقرون السيجارة «الكنت» أشد الاحتقار وأنا أحلق ذقني بسيجارة بلمونت، وأمسح حذائي بسيجارة بملونت وأعطي سيجارة بلمونت للمسجون الذي يجمل لي جردل البول! وهناك ممنوعات غريبة الساعة ممنوعة وقد أخذوا ساعتي عند دخول السجن وقدمت طلبا إلى رئيس نيابة الدولة، وبعد استشارة الجهات العليا أذن لي بالساعة ومن مضار هذه الساعة أنني أبحت أشبه بساعة حائط السجن! كل دقيقة يجيء مسجون ويسألني الساعة كام!

ومن الممنوعات في السجن الشوكة والسكين، باعتبارهما من الأسلحة الفتاكة كالقنبلة الذرية والقنبلة الهيدروحينية تعودت على استعمال المعلقة وأصبحت تحل محل الشوكة والسكين أيضا ومن الممنوعات زجاجة الحبر وهنا يعتبرون الحبر أخطر من الديناميت ويحدث أحيانا أن بعض المسجونين يضعون الحبر في عيونهم حتى يصابا بالعمى وينقلوا إلى المستشفى حيث يجدون فيه بعض الحرية أكثر من الحياة داخل الزنازين! أه لو عرف خصوم الحرية أن بعض الناس يضحون بعيونهم من أجل قليل من الحرية!

ومن الممنوعات أيضا الكولونيا لأن بعض المسجونين يشربونها ويسكرون بها كأنها الويسكي! والحارس على باب غرفتي اسمه «أحمد رجب» ودمه خفيف مثل أحمد رجب وهكذا أشعر أحيانا أنني في غرفة في دار أخبار اليوم وانظر إلى الترمس الأخضر فأرى أمامي صاحبته فاتن حمامة.. وأقول لنفسي يا بختي!! ومن الحوادث الغريبة التي وقعت لي في سجن الاستئناف أن حارسا جاء إلى متضايقا في الصباح المبكر وقال لي أنه سمع بأذنه في الراديو مساء الليلة الماضية الرئيس جمال عبد الناصر وهو يهاجم أخي علي أمين ويقول أنه اجتمع مع بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل ويشتغل بالحلف الإسلامي!

وذهلت: وسألت الحارس: هل أنت متأكد من هذا

وأقسم الحارس بأنه سمع الرئيس يذكر علي أمين!!

وانتشر الخبر بين زملائي المسجونين فانقبضوا وقلت لهم أن هذه تهمة ملفقة مثل تهمتي وأن المقصود بها تلويث أخي بعد أن لوصوني وفكرت أن أرسل برقية إلى الرئيس أقول فيها أنني واثق من براءة علي وأنها تهمة ملفقة وأن الذين لفقوها قصدوا الإساءة إلي أنا، وأنني مستعد أن أشنق إذا ثبت أن ما قيل عن أخي صحيح. ثم جاءت صحف الصباح بعد ذلك وإذا بنا نجد أن الرئيس عن علي أمين رئيس وزراء إيران وليس علي أمين الصحفي ولكن السجان المغفل لم يستطيع أن يفرق بين علي أمين رئيس وزراء إيران و علي أمين رئيس تحرير الأخبار وأخبار اليوم سابقا!!

لا تستطيع أن تعرف أو تتصور مقدار سعادتي عندما يهربون لي خطابا من صديق من أصدقائي أو تلميذ من تلاميذتي أنني أفرح بخطاباتهم أقرأها عشرات المرات، أنها شموع تضيء ظلام دامس يبدو الضوء وكأنه نور الشمس! أريد أن أكتب هنا كثيرا أكتب مذكراتي أكتب قصة لا أستطيع الحصار مضروب علي أتمنى أن يعد أخي من الآن عشرات المشروعات لكتب كثيرة مثل فكرة مثل مجموعة مقالاتي ويومياتي أنا أعرف أن الظروف التي يعيشها أخي تجعله لا يستطيع أن يركز أفكاره في شيء معين كل ما يهمني أن تاريخنا لا يموت.

أحب أن أقول لك أنني وجدت أن الناس كل الناس أحسن كثيرا جدا مما كنت أتصور إن الذين تخلوا عنا يحصون على أصابع اليدين ولكن الذين لم نخذلهم والذين لم نحملهم فوق أكتافنا أظهروا في هذه المحنة كثيرا من العطف والحب والإخلاص وقد يكون في المنجم بعض الصفيح وبعض الزجاج وبعض التراب ولكني أؤكد لك أنني وجدت في المنجم الكثير من الذهب والماس والياقوت! أن أياد كثيرة امتدت إلي من وراء القضبان أشعرتني بحبها وثقتها وإيمانها ببراءتي...

أن أمي علمتنا أن نحب الناس وهذه المحنة علمتني أن أعشق كل الناس أنني أرى في عيون الحراس والمسجونين وأقارب المسجونين والموظفين كلمات كأنها قصائد شعر وأسمعهم وهم يتحدثون إلي كأنني أسمع بأم كلثوم!

أحمد الله.... أنني أفضل أن تذهب حريتي ويبقى لي حب الناس علي أن تجيء حريتي وأفقد حب الناس!

أحفر طريقي إلى الفجر.. بدبوس!

سجن الاستئناف.. 27 ديسمبر سنة 1965

أخي ..

أكتب إليك خطابا بلا تاريخ فلست أعرف متى أستطيع أن أرسل هذا الخطاب إليك ومتى يستطيع أن يصل إليك وليس هذا أول خطاب أكتبه لقد كتبت خطابات عديدة لا أعرف هل تاهت؟هل ضاعت؟ هل صودرت؟

ومنذ ستة شهور قيل لي في سجن المخابرات أنني أستطيع أن أكتب إليك...وكتبت خطابا طويلا وكان الخطاب مؤدبا جدا وأقسموا بشرفهم أنهم سوف يرسلون لك هذا الخطاب وعرفت طبعا أن الخطاب لم يصل إليك وقد كان قسمهم بالشرف مؤذنا بعدم وصول هذا الخطاب!

ولكني لا أعتقد علي هذه الخطابات المكتوبة! إنني أشعر أنك في الزنزانة كما أحس أنني معك في لندن وأتصور أني أستمتع معك برؤية التليفزيون الإنجليزي وأتمتع معك بمشاهدة مباريات الكرة في إنجلترا وأتمتع معك بقراءة الكتب الجديدة التي تقرؤها والشيء الوحيد الذي يحزنني أنني أعرف أيضا أنك معي في زنزانتي بسجن الاستئناف عزائي أن نصفنا حر، ونصفنا مسجون وسيجيء يوم يصبح كلنا حرا لا أعرف متى؟ ولكنني مؤمن بأن الله معنا وأنه لن يتخلى عنا أبدا.

لقد أعطانا الله كثيرا كثيرا جدا ومن واجبنا أن ندفع هذه الضرائب البسيطة على ما أعطانا الله. كل الذي يهمني هو التاريخ وأنا مطمئن لحكمة العدل واثق أنه سيقول للدنيا عن الخدمات التي أديتها لبلادي ليست هذه أول أزمة تصادفنا وقد لا تكون الأخيرة لقد عودتنا الأيام أن يظلم الليل ثم يطلع الفجر...

لعلك تريد أن تعرف كيف أعيش في سجن الاستئناف أن زنزانتي في الطابق الثاني متران في ثلاثة أمتار لها نافذة عالية تطل على الشارع أستطيع أن أقف بقدمي على درابزين السرير فأطل على الحياة أقصد أطل على الشاعر أرى المارة والسيارات والدنيا وهي تتحرك!

كل المسجونين يتعلقون بأيديهم في هذه النوافذ المطلقة على الشارع ويجيء أقاربهم وأصدقائهم ويقفون في الشارع يتحدثون معهم طوال الليل والنهار ولكني رفضت أن ألجأ إلى هذه الطريق التي يسمونها التليفون!

وهكذا ترى أن تليفوني في السجن هو التليفون الوحيد الذي لا يقد زينب وخيرية تزورانني مرة كل خمسة عشر يوما لا تتصور كم تسعدني هذه الزيارة أنني أعيش عليها... أحصي الأيام حتى تجيء وأحزن عليها عندما تنتهي ثم أبدأ أحسب الأيام من جديد أن هذه الزيارة أصبحت أملا وهذا الأمل يمنحني سعادة وهناء في بعض الأحيان أراهما عند الظهر وهما تحملان لي الطعام.

وأكون أنا في ساعة الفسحة ألوح لهما بيدي وهذا العمل يشبه مخاطرة من مخاطرات جميس بوند السلام بالإشارة ممنوع هنا. ولعل السبب هو أن اللبيب تكفيه إشارة!

وفي بعض الأحيان أسمع أحاديث ممتعة بين المسجونين في زنزاناتهم وزوجاتهم أو حبيباتهم الواقفات في الشارع.. بعض الأحاديث مشاجرات وخناقات واتهامات بالخيانة الزوجية وبعض الأحاديث من التي لا تجري إلا في غرفة النوم!

في زنزانتي مائدة صغيرة من الخشب وجئت بأحد المسجونين النجارين وركب تحتها رفين رفا مخبأ فيه أخفي الممنوعات مثل الورق والقلم ورفا عاديا أضع عليه الكتب والسجائر والأدوية السرير من الحديد الأبيض وعليه مرتبة كان فيه كمية من البق والحشرات قاومتني ببسالة وتجيء لي الملايات من البيت مرتين في الأسبوع.

صرف لي السجن ثلاث بطانيات وجئت ببطانية من البيت وقد يدهشك أنني برغم البطاطين الأربعة أنام وقد ارتديت «بول أوفر» صوف فوق البيجامة الصوف وأنام وفي قدمي جورب صوف وزنزانتي تشبه سيبيريا في برودة جوها! لأن خشب النافذة لا يمكن إغلاقه جيدا والشراعة التي فوق باب الزنزانة مفتوحة بالأمر ولا يجوز إغلاقها ولم ألبث أن تعودت على هذا الجو، وعلى الضجيج المنبعث من باقي الزنازين وأصبحت أنام تماما كما كنت أنام في شقتي بالزمالك المجهزة بتدفئة وضعها وديع سعد صاحب العمارة رحمه الله!

ولكني الشيء الذي كان يعذبني أن بجواري وتحتي وفوقي مئات المسجونين العرايا الذين لا يملكون بطانية واحدة وكان هذا وحدة يجعلني أقشعر أكثر من برد الزنزانة القاتل!

في زنزانتي سجادة صغيرة وأحضرت شماعات ثبتها في الحائط بمسامير أعلق عليها بدلاتي وقد بدأت أتعلم النجارة ودق المسامير وتذكرت بيت شعر نظمه الشاعر محمد الهراوي وكنا نردده ونحن أطفال أنا في الصبح تلميذ وبعد الظهر نجار وهكذا أصبح بيت الشعر أنا في الصبح مسجون وبعد الظهر نجار!

وفي الزنزانة حقيبتي التي طافت معي جميع فنادق العالم الكبرى واستقرت على الأسفلت في زنزانة بفندق الاستئناف وأضع فيها ملابسي وأعتبرها الدولاب الخاص!

وفي الزنزانة جردل فيه ماء وجردل بدل التواليت وكانت مشكلتي هي مشكلة الثلج وكنت في حاجة إلى ترموس كبير وسمعت فاتن حمامة بمشكلتي فأرسلت لي «ترموس» كبيرا يبلغ طوله طول فاتن نفسها!

وأصبحت أحس أن فاتن معي دائما في الزنزانة وكلما وقعت عيني على الترموس الأخضر الكبير خيل إلي أنني أرى فاتن حمامة!

وقد علمت أن فاتن قالت إنها بعد أن وضعوني في السجن أصبحت لا تشعر بالأمان على نفسها وعلى أولادها، وأنها لا تستبعد الآن أن يلفقوا لها قضية كما لفقوها لي وأنها تفكر في الهجرة!

وحزنت جدا لهذا النبأ أن تحرم بلادي من أعظم ممثلة عربية لقد تلقيت رسائل من عدد من الفنانين المصريين أنهم يفكرون في الهجرة من مصر لأن الفن لا يستطيع أن يعيش في جو الإرهاب.

وتذكرت أنني قبل القبض علي بأسابيع سافرت إلى بيروت وقابلت الفنانة صباح وأقنعتها أن تعود إلى مصر، واقتنعت صباح بالحضور ..

وسألتني صباح:

ومن الذي يضمن أمني في مصر فلا أسجن ولا أعتقل ولا أمنع من السفر.

قلت لها: إنني أضمن لك كل هذا!

وطبعا بعد أن عرفت صباح ما جري لي، سوف تعرف ما جرى «للضامن»!!

هناك ميزة في زنزانتي عن الغرفة التي كنت أقيم فيها في سجن المخابرات وهي أنني الآن أنام وحدي وتصور أنني مكثت في سجن المخابرات أربعة أشهر كاملة أنام وحولي أربعة حراس يحملون المسدسات وعندما كنت متزوجا لم أكن أنام مع زوجتي في غرفة واحدة ولكني اضطررت أن أنام وحولي أربعة رجال يصوبون مسدساتهم إلى رأسي؟

وفي سجن الاستئناف تغلق الزنزانة الساعة الرابعة بعد الظهر وأخلع ملابسي وأتردي البيجاما وأحول السرير إلى مكتب أقرأ الصحف الأجنبية وتصلني صحف التيمس والنيويورك تيمس والهيرالدتربيون والديلي أكسبريس كل يوم أقرأ جريدة «الأنوار» كل يوم وكل أسبوع أقرأ مجلة «الصياد» ومجلة «الشبكة» وانتظر يوم الثلاثاء أو الأربعاء بفارغ الصبر، وفي هذين اليومين تصلني من لندن صحف الأحد: السانداي تيمس والأبزيرفر والأيكونوميست والسانداي تلجراف وفي يوم الخميس تصلني مجلة تايم ومجلة نيوزويك.

هذه هي النوافذ التي أطل منها على الدنيا الشيء الذي يزعجني أنني أقرأ الحقيقة في الصحف الأجنبية وأقرأ الأكاذيب ي صحفنا يا ويلنا عندما يجيء يوم لا يصدقنا فيه أحد، حتى أبناء وطننا ويا ويلنا عندما يعرف الشعب ذات يوم أن صحفه تخدعه وتكذب عليه وتضلله يومها سوف يلوم الناس الصحفي ولا يعرفون أن السيف مسلط على رأس كل صحفي...

ولقد كنت دائما أحذر من هذه السياسة الحمقاء ولا أظن أن أحدا سيجرؤ أن يحذر بعدي!!

أمضي وقتي في القراءة بينما ميكروفن السجن يذيع بصوت أجش أغاني أم كلثوم ستجن أم كلثوم عندما تسمع صوتها في ميكرفون السجن عندما يختلط صوتها الجميل بصراخ حديد القضبان!

في حوالي الساعة التاسعة مساء أنام ثم أستيقظ الساعة الثالثة في الصباح وأعود القراءة فأقرأ الكتب التي عندي حتى أذان الفجر.. أني لم أتعود البطالة أموت لو عشت أيامي عاطلا بدأت أفكر في أنني لابد أن أقاوم لو استسلمت للبطش فكأنني أسير في موكب الظالمين ليس عندي سلاح أقاوم به فمي مكمم قلمي محطم يداي مقيدتان بسلاسل الحديد ومع ذلك يجب أن أقاوم سأقاوم حتى بدبوس بهذا الدبوس سوف أحفر طريقي إلى الفجر قد أحتاج إلى عشرات السنين لأحفر نفقا إلى الحقيقة فليكن يجب أن أقاوم أول شيء فكرت فيه أن أنظم طريقة لتهريب الخطابات من السجن إلى خارج السجن بانتظام.

هذه الخطابات سوف تكون طريقتي البدائية لمقاومة الظالمين لقد منعوني من الكتابة ومنعوني من أن أتلقى خطابات إلا بعد رقابة شديدة وأشاعوا الذعر بين تلاميذي لينفضوا عني سوف أحاول أن أربط الخيوط التي قطعت هذه مهمة شاقة وشبه مستحيلة.

ولكن هوايتي أن أصنع المستحيل أن الدولة أعلنت الحربي علي، بجميع أجهزتها الرقابة مستمرة على بالليل والنهار بعض المسجونين دخلوا السجن مكلفين بأن يكونوا عيونا على المطلوب أن أقاوم كل هذا أعرف أن الذين خارج السجن يستطيعون أن يفعلوا ذلك بسهولة ولكن الذين أريده أن أتولى من داخل السجن تنظيم المواصلات بيني وبينك، وبيني وبين تلاميذي في مصر وفي البلاد العربية من الصعب أن تجد أشخاصا تثق بهم ليخاطروا هذه المخاطرة ولكني أتحرك ببطئ شديد أقدم ساقا وأؤخر ساقا كل ما أريده أن تعلم الدنيا أنني مظلوم وهناك ألوف مظلومون غيري قضايا كثيرة ملفقة الطبول في يد أصحاب السلطة الميكرفونات والصحف في خدمة الذين ظلموني الذين معي ضعفاء لا قوة لهم لا نفوذ كل واحد منهم خائف واجف مذعور وقليلا سوف يستردون أنفاسهم سوف يتخلصون من دوي القنبلة الذرية التي ألقيت على رأسي أيد أن أعتمد على أقرب الناس إلي، أريد أن أعتمد على أشخاص بعيدين عني، يتظاهرون بأنهم يلعنونني...

هل سيجيء اليوم الذي تصل فيه الحقيقة للناس..

كم يستطيع دبوس واحد أن يحرف في جبل الأكاذيب!

ولكن أيدي المظلومين مشغولة بمسح دموعهم!

صحافتنا لن تموت

الاستئناف .. 28 مارس سنة 1966

أخي العزيز ..

أكتب لك في ثالث أيام العيد الكبير ولم أشعر بأني تعاسة لوجودي في السجن في العيد فلقد تعودنا أن نعتبر العيد مثل أي يوم آخر ونذهب إلى مكاتبنا كالمعتاد لم نأخذ إجازة في الأعياد حتى شم النسيم كنا نكتفي بأن نشم حبر المطابع وهي تلف وتدور وكان أهم ما في العيد أن أتلقى قبلتك وقد تلقيتها في صباح يومك العيد، وذقت طعمها في الرسالة التي أرسلتها إلي وكل رسالة ترسلها تسعدني إلى أن أتلقى الرسالة الثانية ومن خصائص العيد أن ندفع عيديات وغير مصرح لنا أن نحمل نقودا ولكن تتولى علب سجائر بلمونت القيام بمهمة العيديات خير قيام!

وهناك من يأخذ أربع علب وهناك من يأخذ خرطوشة فالناس مقامات!

وأسوأ ما في العيد هو أن الحلاق هنا أقفل خمسة أيام يوم الوقفة، وأيام العيد الأربعة وخشيت إذا بقيت بذقني هكذا أن يتصور أحد أنني من الإخوان المسلمين ولهذا سارعت بالاتفاق مع أحد الجنود الذي كان حلاقا في يوم من الأيام أن يحلق ذقني «سرقة» وفعلا سرقنا موس الحلاقة المخصص للمأمور وللضباط وحلقت به ذقني وأفهمت الجندي الذي يحلق لي جيدا أنني لست المأمور، ولهذا عدل عن أن يذبحني وبعد أن انتهيت من الحلاقة اكتشفت أن الحلاق العسكري خدعني! إ،ه لم يكن قبل دخوله مصلحة السجون حلاقا وقد كان جزارا ولقد عرض بعد ذلك أن يحلق لبعض زملائي المسجونين ولكنهم فروا وكان يجري وراءهم، كما يفعل الجزار وهو يجري وراء الخروف في فجر يوم العيد ولحسن الحظ لم يجرحني العسكري الحلاق وقد أعطيته علبتين سجائر مكافأة له على أنه لم يشوه وجهي!

والسجن يحتفل بالعيد بطريقة غريبة! فاحتفالا بالعيد يمنع المسجونين من النزول إلى الفسحة والهواء والطلق لمدة خمسة أيام ويبقون هذه الأيام يحتفلون بالعيد داخل الزنازين باعتبارهم خرفان العيد طبعا ولقد حاولت أن أغافل الحراس وأنزل في العيد ساعة إحضار الغداء لأقبل أسرتي قبلة العيد ولكن المأمور كان رابضا كالأسد حدث تغيير في الحرس جعل من الصعب أن أنزل في العيد إلى الردهة الخارجية التي نتنزه فيها.

وتقضي تعليمات مصلحة السجون بأن يتفرج المسجونون على التليفزيون في العيد ولكن الضباط المسئول في أول أيام العيد رفض تنفي هذه التعليمات بحجة أن لديهم أعمالا كثيرة جدا في العيد، وأن السجانين يريدون إغلاق السجن مبكرا ليذهبوا إلى أسرهم ليحتفلوا معها بالعيد ولكن أليس المسجونون بشرا من حقهم أيضا أن يحتفلوا بالعيد؟

وهذا السؤال لم يستطع الضابط أن يجيب عليه واكتفى بأن وافق على أن يسمحوا لنا أن نشم الهواء نصف ساعة بدلا من التليفزيون وشكرناه بطبيعة الحال على هذا العطف السامي ومن التقاليد هنا أن نشكر الضباط على مالا يعجبنا بحرارة أشد مما نشكره على ما يرضينا!

ومن الطريف أنه في يوم الوقفة صدرت الأوامر بأن نجمع البطاطين وأن نضع كل عشر فوق بعضها ونضعها في بلاط الممر لأن الضابط السجن ومعه الباشكاتب سيمران للجرد وقلنا أن هذا سيؤدي إلى أن تتلخبط البطاطين بعد أن أمضينا الشهور في تنظيفها من البق والقمل واقترحنا أ، يدخل الضباط ويعد البطاطين في الغرف وانتدبني المسجونون أن أقابل الضابط عبد المنعم وكيل السجن وأعرض عليه هذا الرأي ولكنه رفض، وأمر أن توضع كل عشر بطاطين فوق بعضها فقلت له وماذا يمع لو أن عملية الإحصاء تمت في الغرف فقال لي ببساطة لأن الموظف لا يعرف أن يعد إلا عشرا.. عشرا.!!

وذكرتني هذه الحكاية بحكاية طبيب جراح في أحد القرى جاءه احد المرضى لإجراء عملية جراحية فأعطاه حقنة بنج وقال له عد .. واحد اثنين.. ثلاثة.. أربعة .. خمسة

وراح الريفي يقول واحد . اثنين .. ثلاثة... أربعة ... خمسة ثم توقف.

وأخذ الطبيب المشرط وراح يفتح بطن المريض .. وهنا صرخ المريض بفزع!

وصاح فيه الطبيب: ألم أٌل لك أن تعد واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة لماذا توقفت عن العد بعد خمسة.

قال المريض الساذج: لأنني ما أعرفش أعد إلا لغاية خمسة.

ومن ا÷م الأحداث هنا عودة الأميرالاي محمد يوسف وقد مكث في مستشفى قصر العيني أكثر من شهر وتضايق من الحياة هناك... وقال إنه يفضل الحياة في سجن الاستئناف أو السجن الحربي على الحياة في معتقل قصر العيني، فإن الطعام هناك فظيع جدا وغير مسموح للمسجونين بأن يتلقوا الطعام من الخارج ويكتب له الأطباء على أدوية ثم لا تصرف له ولا تستطيع أن يشتري أدوية من خارج المستشفى وقد صرحوا له بزيارة أهله مرة كل خمسة عشر يوما ولكنه بفضل أن يبقى مع الطعام تحية يومية من أهله ولقد صرح لزوجته بالسفر إلى أمريكا لإجراء عملية وسافرت فعلا ولكنه لم يستطع أن يعرف هل نجحت العملية أم لا إلا بعد خمسة عشر يوما وهو أمر لا يحدث هنا بفضل طريقة التشعلق في شبابيك السجن والتحدث بواسطتها مع الشارع.

ولقد افتقدت محمد يوسف طوال غيابه ولم يستطع أحد من المسجونين أن يحل محله وبرغم أنه يبلغ من العمر 68سنة إلا أنه شاب في تفكيره وهو خفيف الدم وحياته مليئة بالأحداث وقام بمهام سياسية في العهد الماضي في البلاد العربية وله ذكريات لطيفة مسلية وأنا أقرأ الصحف المصرية كلها والمجلات الأسبوعية والشهرية وألاحظ أغلاطا في التاريخ عجيبة جدا تدل على أن الجيل الجديد في الصحافة لا يعرف ألف باء التاريخ قرأت عدد خاصا من مجلة الهلال عن طه حسين وفيه مقال عن طه حسين مليء بالأغلاط التاريخية ومنها أن علي الشمسي باشا وزير المعارف الذي دافع سنة 1926 عن طه حسين في البرلمان كان من الأحرار الدستوريين وطوب الأرض يعلم أن عي الشمسي كان في ذلك الوقت عضوا في الوفد ووزيرا وفديا!

وقرأت في مجلة المساء أن جريدة أخبار اليوم صدرت في عام 1946 والمحرر لو قرأ عددا واحدا من أخبار اليوم وعرف أنه مكتوب عليها السنة فلعملية جمع وطرح يعف متى صدرت أخبار اليوم! وقرأت مقالا عن تاريخ نقابة الصحفيين وعن إنشائها والكاتب يكتب عنها كأنها أنشئت في عهد قدماء المصريين وأن كل وثائقها مكتوبة باللغة الهيروغلوفية!

وأقرأ مجلة العربي الشهيرة التي تصدر في الكويت وأقارنها بمجلاتنا الشهرية فأصاب بحالة غم تصور أنها توزع الآن أكثر من 150 ألف نسخة في العدد الواحد وبعشرة قروش بينما أكبر مجلة توزع عندنا لاتزيد عن 15ألفا وستة قروش!

وأشعر بأسى شديد لتخلفنا الصحفي لم يفكر أي صحفي مصري في أن اجتماع الحزب الشيوعي ولا إلى الصين ليكتب عن الخلاف بين الصين وروسيا ولا إلى الهند ليكتب عن المجاعة أننا نعتمد على برقيات وكالات الأنباء وعلى نقل مقالات من الصحف الأجنبية.

وأشعر بأسى وأنا أقرأ العدد الهائل من المجلات والصحف الأجنبية وأجد الفرق الهائل في التحرير وتغطية الأخبار. ثم أشهد النهضة القائمة في بيروت فأتحسر.

ومع ذلك فأنني أعتقد أن صحافتنا لا يمكن أن تموت وأنه سيجيء يوم يستيقظ فيه النائمون ويتحركون وينطلقون ويجعلون صحافتنا تصنع الأحداث لا تتفرج عليها وتعيش على هامشها!

ولقد تتبعت الانتخابات البريطانية وأعجبتني شخصية ويلسون ولم تعجبني شخصية هيث بدا لي أن ويلسون يقلد تشرشل وأن فيه حيوية وحركة وثقة ولم يظهر في برنامج حزب المحافظين أي شيء جديد ولهذا كنت أتوقع أن يفوز العمال وأرجو ألا يسيطر على الحزب الفريق الصهيوني فيه فإنني أعرف أن كثيرين من نواب العمال يعطفون على إسرائي ولكن أعتقد أنه في أمكان بلادنا أن تقوم بمجهود لتصحيح الأفكار الخاطئة التي لدى هؤلاء العمال عن موقف العرب في إسرائيل ولقد أسفت أن جريدة الأخبار هاجمت حزب العمال يوم انتصاره ولاحظت أن محطة لندن أشارت إلى أن مصر وحدها هي التي تضايقت لفوز العمال بينما رحبت بفوزهم أمريكا وروسيا وفرنسا وألمانيا وأعتقد أن ما كتب في الأخبار هو فكرة الكاتب وحده بدليل أنني لم أر لمثل هذا الهجوم شبيها في أي جريدة أخرى.

ولقد لاحظت أن الأخبار خالية من الروح وأن كثيرا من الأخبار العادية الهامة ليست موجودة في الأخبار وهي أخبار ليست من مصادر مسئولة وإنما هي أخبار يمكن لمخبر من الدرجة الثالثة أن يحصل عليها ويظهر أن الاضطربات التي تعرضت لها الأخبار والتغيرات العديدة فيا أفقدتها الروح أو أفقدت المحررين الحماس ولقد نبهت هيكل عند زيارته لي لهذا ولكن يبدو أنه مسرور من أن الأخبار في عهده أحسن كثيرا مما كانت في عهد خالد محي الدين ولكن هذا لا يكفي بل يجب أن تنطلق الأخبار.

ولقد لاحظت أنها أعلنت في مانشيت عن مسابقة لها؟ وهذا يدل على أن الأخبار ضعفت في التوزيع وإن كنت أعرف أرقامها الآن ولكني أعتقد أن الأهرام يزيد توزيعه عليها بعد أن كانت الأخبار تزيد خمسين ألفا عن توزيع الأهرام.

وأخر ساعة ضعيفة جدا وقد أصدرت عددا عن الجامعة زفت وقطران وعددا عن الحب أكثر من الزفت والقطران ويظهر أن محرريه الجديد لم يستطيعوا حتى الآن أن يفهموا الصحافة أو تفهمهم الصحافة!

ولقد أحضر لي المسجونون أمس مجلة السجون وفيها فكرة منقولة عن سنة 1962 وعن حكاية شاب سرق بيت محاميه وكيف ذهب المحامي إلى المحكمة وطلب إعطاءه فرصة وقال إنه في المرة الماضية دخل من النافذة ولكنه يعطيه مفتاح بيته ليدخل في المرة القادمة من الباب وكيف حكمت المحكمة على الشاب بستة أشهر مع إيقاف التنفيذ وأنك تؤمن بالتسامح وأن التسامح هو الذي يغسل القلوب المسجونون يقرأون فكرة ويعجبون بها ويحفظون كثيرا منها وبعضهم يحتفظ بها في جيبه!

وأحضر لي المسجونون مجلة سجن طره في العام الماضي وفيها مقال بعنوان «مصطفى أمين يتبنى مشكلة المحكوم عليهم بقانون المخدرات المعدل» وهو عن محاضرة ألقيتها في 5000 مسجون عن الصحافة قبل أن أدخل السجن بسنة! وقد جاء في كلمتي المنشورة ما يأتي:

وتحدث الصحفي الكبير فشد الأسماع إليه من منذ اللحظة الأولى قال لنزلاء الليمان: إنني سعيد جدا بأن أتيحت لي هذه الفرصة لأتحدث إليكم فإن المهنة التي اخترتها لنفسي كنت ترتبط ارتباطا وثيقا بالسجن لقد توقعت عدة مرات أن أدخل السجن والفرق بيني وبينكم أن حظكم كان سيئا بينما كان حظي أفضل!!

ويظهر أن حظنا تساوى!!

وكل من في السجن يدهش لقوة أعصابي أمسك الخشب ويعجب بصمودي ويضرب بي المثل لقوة احتالي فإذا ظهر الضيق على أحد قالوا له هل أنت أحسن من مصطفى أمين! انظر أنه يضحك باستمرار أنه صامد كالجبل وهنا يفقد الناس أعصابهم ويؤثر في إحساساتهم ويجعلها مرهفة ولهذا تكثير الخناقات والخلافات وكلما حدث خلاف جاءوا إلى يحتكمون فأحاول تهدئتهم وأصالحهم وأحمد الله أن منحني هذه القوة لأستطيع أن أخفف عمن حولي متاعبهم فإن أكثر ما يسعدني أن أسعد من حولي وأن أرسى الابتسامات تملأ وجوههم وكثيرا منهم يقول لي:

لولاك لانتحرت!

وأنا مؤمن بالغد وأعتقد أن الغد سيكون يوما أجمل وأنا أرى أن من أحسن ما أعطانا الله هو أن أعطانا التفاؤل والإيمان والثقة في المستقبل.

دعاء على الظالم

سجن الاستئناف .. 31 مارس سنة 1966

صديقي ...

طلب مني المسجونون في سجن الاستئناف أن أكتب لهم دعاء العيد ليعلقون على جدران الزنازين كتبت الدعاء كتبوا منه عدة نسخ وضعوا إحدى النسخ في لوحة الإعلانات حرصوا على أن يحذفوا من هذه النسخة دعائي على كل ظالم وتوقعي نهاية كل ظالم وذلك خشية أن تقع في يد المباحث!

الغريب أن هذه النسخة وحدها الخالية من لعن الظالم هي التي اختفت من الجدران!

ولو أن النسخة التي تلعن الظلم هي التي وقعت في يد مرشد المباحث لقامت القيامة علينا.

وهذا هو الدعاء كاملا:

يا رب:

يا رب أسعد في هذا العيد عددا من الناس، وأسعدنا نحن مع هؤلاء الناس!

يا رب لا تحرمنا من الذين نحبهم اجمعهم في مكان واحد فإن أجل ما في الدنيا أن تجتمع المحبون.

يا رب أمسح دموع كل الناس وامسح معها دموعنا ساعدنا على أن نسترد ضحكاتنا حتى نساعد غيرنا أن يستعيدوا ضحكاتهم ...يا رب أجعله عيدا سعيدا لكل الناس حقق فيه أحلامنا وأحلام الناس كل الناس! يا رب قد تعودت أن أتجه إليك في كل لحظة من لحظات حياتي تعودت أن تسمع دعواتي للناس أنا اليوم أدعو للذين أحبهم والذين لا يحبونني أسعدهم جميعا يا رب! إنك إذا أسعدت الذين لا يحبونني سوف تجعلهم يعرفون معنى الحب وسيوزعونه على الناس بغير حساب وسأكون أنا ومن أحب بين هؤلاء الناس يا رب أنت عالم بما في قلوبنا وضمائرنا فأعنا من حمتك ما نستحقه.. ساعدنا على أن نستمتع بالدنيا الحلوة التي أعطيتها لنا.

ساعدنا على أن نملأ الدنيا بضجيج سعادتنا وضحكاتنا.

يا رب أنا مؤمن بأن لكل ظالم نهاية ولكل ظلم نهاية وأن سيجيء يوم قريب أو بعيد ستفتح فيه أبواب السجون ويخرج المظلمون والأبرياء واحدا بعد واحد وستعود البسمة إلى الوجوه الحزينة يا رب أن إيماني لا حدود له لم تتزعزع هذا الإيمان لحظة واحدة كلما أشتد الظلام رأيت نورك وكلما قسا الليل رأيت فجرك.. وكلما شعرت بالوحدة أحسست بيدك تسندني عندما أتخاذل وتمسكني عندما أتهاوى.. إن الإيمان بك هو منيل يجفف دموعي وهو ترياق يذهب آلامي... يا رب خذ حياتي وأبقي لي إيماني..

مصطفى أمين

سجن الاستئناف في 31 مارس سنة 1966.

القبض على كل من يقول إنني مظلوم!!

سجن الاسئناف .. في 2 إبريل 1966

أخي العزيز ..

لو كان الأمر بيدي لكتبت لك كل يوم وكل ساعة. فإني أجد في الكتابة إليك لذة ونجوى وراحة وهناء ومنذ أن كنا طلبة أنت في لندن وأنا في القاهرة أو أنت في القاهرة وأنا في واشنطن لم يحدث أن طال فراقنا عن بضعة أسابيع ولكنه مضى علينا الآن أكثر من تسعة شهور دون أن نلتقي وليس السجن أو الظلم هو العذاب وإنما هذا الفراق الذي كتب علينا هو العذاب الأليم ولكن هذا الفراق الظالم لا يمنع من أننا نلتقي في كل لحظة من لحظات حياتنا مع كل زفرة من زفراتنا وآهة من آهاتنا وضحكة من ضحكاتنا وأنا لا أحمل هم نفسي فإنني متحمل بشجاعة وإيمان ما حدث لي كل الذين أحمل همهم هو أنت والذين يحبونني فأنا أشعر كأنني أنا الطليق وأنتم المسجونون ولولا شعوري بعذابكم وآلامكم لما أحسست بأي ألم أو عذاب...

وأحب أن أؤكد لك أن صحتي جيدة جدا وأتناول أدويتي بانتظام ولقد نقص وزني في سجن المخابرات والسجن الحربي حوالي 15كيلو وعندما جئت إلى هنا في أول ديسمبر كان وزني 105 واليوم وزنت نفسي فوجدتني 106 وكأنني زدت كيلو وسوف أحاول أن أتخلص منه ولعلك استطعت أن تنقص وزنك ويمكنك أن تحسب وزني بالرطل وتقارنه بوزنك وأنا سعيد بأن ملابسي اتسعت علي حتى اضطررت إلى تضييق الحزام والكلسونات وأنت تعرف من بادئي في الحياة الاستفادة من الكوارث!

وعندما أقرأ القرآن أشعر كأن الأبواب فتحت وقمت بنزهة في سيارة أتمتع بنسيم الحرية والحياة ولقد كنت أول الأمر أقرأ القرآن في مصحف صغير وكان يتعب نظري ولكن خيرية أرسلت لي مصحفا خاص به حروفه مريحة جدا. والآن تعالى نتحدث عن المستقبل.

إنني أرى أن تعمل في عمل فني في الصحافة فأنت صحفي عالمي وأفكارك الصحفية تساوي ألوف الجنيهات وأنا أعتقد أنه يمكنك أن تفتح مكتبا استشاريا عالميا للصحافة وتقدم مقترحاتك للصحف العالمية وهذا شرف عظيم لبلادنا أن ينقل صحفي من الصحافة المحلية إلى الصحافة العالمية.

وأنني أتصور أن كثيرين من كبار الكتاب والصحفيين سوف يكتبون في يوم من الأيام قصة كفاحنا الصحفي وكفاحنا والوطني بكافة اللغات وسوف يتطاير الطين الذي ألقي علينا حتى يتحول إلى تراب هباء ولا تبقى إلا الحقيقة التي لا يمكن لأي قوة في العالم أن تدوسها بالأقدام وإذا حدث وبقيت في السجن فيجب ألا يؤثر فيك أو تتحكم روحك المعنوية ورغبتك في العمل فإنني إذا حكم علي بالسجن وشعرت أنك نجحت في عملك وتحولت إلى صحفي عالمي فهذا سوف يجعلني أشعر وكأنني مطلق السراح إنك بذلك تحقق حلمنا وهو أن نصبح أول مصريين صحفيين عالميين ولا يمكن أن تنسانا الدنيا أن نجاحك سوف يذكر الدنيا بنا وأنا أفكر في التاريخ كثيرا وكل ما يهمني ألا يسجن التاريخ معي وأن يعيش حتى لو مت وأن إيماني بالتاريخ ونزاهته وعدله وإنصافه يجعلني أستهين بكل ما ألقاه وما سوف ألقاه.

وإذا أراد الله أن يطلق سراحي فلست أعرف ما سوف أفعل هل يسمح لي بالعودة إلى الصحافة هل يسمح لي بالكتابة والتأليف هل سمح لي بأن أراسل صحف الصياد في القاهرة؟ هل يسمح لي بأن أشرف على تحرير صحف الصياد في بيروت؟ وكل مسجون يفكر عادة في الإفراج فقط ولكن مشكلتي أنني أفكر: ماذا أفعل بعد أن يتقرر الإفراج عني.؟

وفي بعض الأحيان أغمض عيني وأحلم بما سوف أفعل عندما يتقرر الإفراج عني؟

أن أول ما أفكر فيه أن أذهب إلى قبر أمي .

وأنا لست عندي أي أخبار لا شبه أخبار كل ما عندي أن المحامين يؤكدون أن أي محكمة عادية سوف تحكم علي بالبراءة وأنه لو طبق الفريق الدوجوي القانون لحكم علي بالبراءة ولكني أعرف أن مسألتي ليست مسألة قانون بل هي مسألة سياسية.

وأعرف أن هناك قوى يهمها كثيرا أن يحكم علي فهي تريد أن تلوث كل وطني ضد الشيوعية وتريد أن تنتقم مني لحملاتي ضد الشيوعية ولكن إيماني بالله يجعلني أثق بأنه سينصرني وبأنه سيأخذ بيدي وأنه مهما زاد الظلام فإن هذا هو إيذان ببداية النور!

وإذا اقتضت مصلحة الدولة أن يحكم علي فإن هذا لن يزلزل إيماني ببلدي وحبي لها ولقد تحملت أهوالا أرى السجن أتفه ما فيها وليس السجن بالذي يهمني فإنني في نفس الزنزانة التي كان فيها الدكتور أحمد ماهر وإنما الذي يهمني هو التاريخ.

وإنا إذا اطمأننت إلى أن التاريخ سينصفني كما أريد فإني مستعد أن استقبل تنفيذ حكم الإعدام بالهتاف بحياة الذين سيعدمونني وليس تشعر وأنني في زنزانتك أن روحك حرة منطلقة تحطم القيود وتكسر الحديد إنها فرصة للتفرج على الدنيا لتنتقل من خشبة المسرح إلى مقاعد المتفرجين المريحة وقد عشت طوال حياتي لأستذكر كفاحنا المريح، لأعيش في الأحداث الخطيرة التي صنعناها أو عشنا فيها..

وعندما أعيش في هذه الحياة أحد أننا عشنا عمرا طويلا لعله أطول من اللازم وأن من الغريب أننا لم ندخل السجن قبل ذلك برغم عدد المرات التي قبض علينا فيها وبرغم المعارك التي خضناها لقد كان يجب أن أدخل السجن يوم عبت في بذات ولي العهد!

وكان يجب أن أدخل السجن عندما هاجمت الأمراء في حملة نادي الفروسية التي قمنا بها ضد الملك وحكم الفساد فالذي يحدث اليوم هو أنني أسدد دينا كان يجب أن أؤديه وأقضي المدد التي كان يجب أن يحكم بها علي لولا حسن حظنا.

وأنا أرى أنني عشت كثيرا جدا ونجحت أكثر من اللازم وصنعت مجدا يكفي عدة أشخاص ولا أريد أن أكون طماعا فلقد كان المفروض أن أقتل برصاصة وتذكر يومها أنني جلست وأعددت رثائي وكتبت مشروع المانشيت الذي سينشر في أخبار اليوم يحمل نبأ مقتلي وتذكر أيضا أنني توقعت أن نقتل نحن الاثنين معا! ولم يكن هذا الاحتمال يزعجنا أو يخيفنا بل كنا نفكر فيه كأنه شيء طبيعي منتظر ومتوقع وها أنت ترى أنني عشت بعد ذلك 17 سنة فكأنني أخذت عمرا أكثر مما أستحق فمهما حدث اليوم فإنه يجيء بعد الموعد الذي كنت أتوقعه وانتظره ولقد شاء القدر أن يحدث لنا هذا بعد أن حققنا أحلامنا وحولنا دار أخبار اليوم إلى مؤسسة صحفية عالمية وأن تصدر جريدة الأخبار اليومية وتصبح أوسع الصحف انتشارا وأن يحدث تأميم أخبار اليوم فنثبت للدنيا أن ملكية أخبار اليوم لا تهمنا وأن يحدث تأميم أخبار اليوم فنثبت للدنيا أن ملكية أخبار اليوم لا تهمنا وأن الملايين التي انتزعت لا تساوي في نظرنا حقنا في أن نكتب رأينا وفي هذه السنوات كونا احتياطيا من حب الشعب لنا وقدمنا لبلادنا خدمات لا يمكن أن ينساها التاريخ وهذا يكفينا وزيادة ولا أظن أننا نطمع في أكثر مما حققناه فقد أعطانا الله أكثر مما نستحق من شهرة ونجاح ومجد...

وفي بعض الأحيان أفكر في رتيبة وصفية وأحلم بأن إذا حكم علي فإن المسئولين لن يمانعوا في سفرهما إليك لإتمام دراستهما في الخارج مع فاطمة هذا إذا أرادت رتيبة وصفية ذلك.

ولقد كنت أتصور قبل القبض علي أن قصتي انتهت ولكن القبض علي فتح صفحات جديدة في حياتي برغم إرادتي أنني كنت أشعر أنني فعلت كل شيء أريده تمتعت بكل شيء تمنيته حققت كل أحلامي صنعت تاريخي وكنت أتصور أني سأمضي بقية حياتي مسترخيا أعمل كما يعمل الناس لا 18ساعة كل يوم تكون لي أجازات لا أذهب إلى مكتبنا في العيد وشم النسيم وأيام الجمعة كما كنا نفعل ولكن القدر شاء ألا يحيلني إلى المعاش في الوقت الذي حددته إنني أشعر الآن بنفس النشاط الذي كنت أشعر به أن الضربة التي انتقضت علي سحقتني أو أنها هوت بي من أعلى الجبل متدرجا إلى الهاوية كلا ما زلت أشعر أنني فوق القمة كل ما هناك أن عاصفة من التراب هبت ثم بعد ذلك سيتساقط التراب على الأرض وأبقى فوق القمة في مكاني أنني أعتقد أنني ما زلت قادرا على أن أخلق وأبتكر وأصنع المعجزات لبلادي ولم يزدني ما حدث لي إلا حبا في بلادي وإيمانا بها ورغبة في خدمتها.

ولست نادما على أنني خدمت الذين طعنوني ولا أنني رفعت الذين داسوني بالأقدام ولو كنت أستطيع أن أقرأ الغيب وعرفت ما كنت سألقاه من نكران لقدمت الخدمات وأخلصت نفس الإخلاص وتفانيت نفس التفاني أننا لم نطلب في يوم من الأيام عزاء ولم ننتظر عرفانا بجميل فإن الذي يقدم حياته فداء لبلده لا ينتظر جزاء ولقد كانت حياته قصة مسرحية هائلة وكانت تنقصها قمة الخاتمة!

وشاء القدر أن تجيء خاتمة القصة بطريقة غريبة لم تخطر في يوم على بالنا، على كثرة ما تخيلنا من قصص وروايات وهذا يجعلني أشعر أن الله يشاء ألا يجعل تاريخنا شيئا عاديا أراد أن ينتهي بقنبلة ذرية أو هيدروجينية تلقى علينا ومع ذلك فإن شعوري أن هذه القنبلة ذرية أو هيدروجينية تلقي علينا ومع ذلك فإن شعوري أن هذه القنبلة إذا نسفت أشخاصا فإنها لن تستطيع أن تدمر صفحات تاريخنا إنها ليست نهاية عالمنا بل بدايته.

وعالمنا سوف يعيش في تاريخ الصحافة في العالم ما دام للصحافة تاريخ.

وبينما أنا أكتب لك هذه السطور أرتفع صوت مسجون من إحدى الزنزانات يصيح «يعدلها ربنا» وأنني متفائل بهذا «الفال» !

أن أبواب السجن مغلقة هدوء في كل مكان إلا من صوت أحد المساجين يؤذن لصلاة العشاء «الله أكبر .الله أكبر». ولقد صعدت على فراشي وأقفلت النافذة التي تطل على الشارع وأنا جالس الآن أكتب على مائدة خشبية فوقها مجموعة أدويتي وطقطوقتان للسجائر، مليئتان ببقايا السجائر التي دخنتها وقد خلعت ملابسي وارتديت البيجاما الصوف.

ولقد كان مسجونا بجواري الأميرالاي محمد يوسف وكيل الأمن العام السابق وهو متهم في قضية حسين توفيق هو ابن شقيقه ولم يخبره بشيء ولقد كان محمد يوسف أقرب المسجونين إلي وكنا نمشي معا في أثناء ساعة الرياضة كنت أستريح إليه ولكنه نقل إلى مستشفى قصر العيني وبذلك حرمت من الشخص الوحيد الذي كنت أعرفه من قبل دخولي السجن ومع ذلك فإنني أجد من الجميع من الحب والصداقة والاهتمام ما جعلني أشعر كأنني مازلت بين تلامذتي في أخبار اليوم!

وظهر اليوم حدث حادث غريب فقد كنت أتمشى في فناء السجن مع المسجونين السياسيين ومر علينا طابور من أقارب المسجونين في طريقهم إلى زيارة المسجونين وكانت بينهم شابة مليحة جميلة الهندام تتعثر في سيرها وبدأ عليها كأنها المرة الأولى التي تدخل فيها السجن لتزور احد أقاربها وكانت تسير في آخر الطابور وعند باب الغرفة التي يرى فيها المسجونين أقاربهم بين القضبان توقفت السيدة ورفضت أن تدخل وهي تبكي بدموع كالدم وخفق قلب السجن كله لمنظر هذه السيدة الشابة شعر كل واحد منا أن قلبه يتقطع لأن هذه السيدة لا تستطيع أن ترى قريبها خلف القضبان شعر كل واحد منا بعذاب من يحبونه وهم يجيئون لزيارته ويبكون في قلوبهم وهم يرسمون على شفاههم الابتسام وفجأة أقبل شاب وتقدم نحوي وهز يدي بحرارة وهو يقول لي «قلوبنا معك» ثم قال لي أرجوك أن تتحدث إلى أختي لأنك الوحيد الذي تستطيع أن تهدئها أنها تبكي بسببك!

وذهلت أنا سبب هذا البكاء وقال الشاب أن زوجها قبض عليه وهو مهندس في شركة الجوت لأنه كان يجلس في مكتبه في الشركة وقال إن مصطفى أمين مظلوم وهذا المهندس عريس من 18يوما فأرجو أن تقول لعروسه كلمتين. وتقدمت إلى السيدة وحاولت أن أقول لها شيئا ولكن الكلمات ماتت على شفتي لم أجد كلمة واحدة أنطق بها كانت تمثالا للتعاسة والشقاء والألم والعذاب.

كان كل شيء فيها يبكي وينتحب وتقدمت إلى أم الشاب أشجعها وإذا بها تقول ابني فداؤك إننا كلنا نعرف أنك مظلوم.

وعرفت بعد ذلك أن هذا المهندس مسجون في زنزانة ي نفس الدور الذي أنا فيه واكتشفت أنه ليس وحده! إن في الزنزانة المجاورة مهندسا زميلا له في نفس الشركة تهمته أنه كان ينقد محاكمات الدجوي ويقول أيضا إنني برئ وأنه مضى عليها في الزنازين 18يوما ولم يسمح لهما إلا بتناول طعام السجن ينامان على الأرض لا سجائر ولا صحف ولا تفتح لهما الزنزانة إلا ليذهبا مرتين في اليوم إلى دورة المياه مرة في الساعة الثامنة صباحا ومرة في الساعة الثالثة بعد الظهر!

ولقد أصبح السجن كله يتحدث عن هذه العروس الباكية فقد تأثر كثيرون وراحوا يبكون وزاد بكاؤهم عندما علموا الجريمة الخطيرة التي أودع العريس الشاب من أجلها وراء القضبان وقال لي ضباط السجن إن السجون والمعتقلات مليئة بعشرات الأشخاص كل جريمتهم أنهم قالوا أن مصطفى أمين مظلوم!

وقلت لنفسي إذا كان الناس يقولون إنني مظلوم وهم لا يعرفون حقيقة ما حدث لي ولا يعرفون الخدمات التي قدمتها لبلدي ولا يعرفون أن وكيل النيابة طالب بإعدامي في الجلسة لأنني قلت للدبلوماسي الأمريكي أن طائرة مدنية من طائرات شركة مصر صدمت تبه وسقطت في طريق السويس.

وأن المحامي أثبت من الأوراق نفسها أن حادث الطائرة نشرته وكالات الأنباء قبل هذا الحديث وأنه صدر به بلاغ رسمي من الحكومة المصرية وأنه أذيع في الإذاعة قبل أن أقوله للدبلوماسي الأمريكي..

وإذا بوكيل النيابة يقول: نعم ولكن... عندما أذاعت الإذاعة البلاغ الرسمي للنبأ كان لديها تصريح رسمي بأن تقول هذا.. ولكن مصطفى عندما قال هذا لم يكن لديه تصريح رسمي!!

فكأنه يحكم عليك بالإعدام إذا كررت ذكر خبر.. أذاعته إذاعة القاهرة وكلما شعرت بضيق هنا تذكرت الشهور التي أمضيتها في السجن الحربي وسجن المخابرات وعرفت بالمقارنة كأنني في جنة!

هناك كنت أشغل نفس بالمسائل الصغيرة كان بين مشاكلي .. إنهم يتركونني عدة أيام بلا صابونة أو أجد بقة في الفراش أو يحضرون لي الطعام وينسون العيش أو ينتهي دواء السكر وأبقى عدة أيام أتوسل وأرجو حتى يحضروا لي دواء السكر أو أعيش بعود كبريت واحدة لمدة 24ساعة واضطر أن أشعل سيجارة من أخرى فإذا انتهت مقطوعية السجائر بقيت عدة ساعات بدون سجائر.

وكنت أتغلب على أزمة السجائر بالنوم أذهب إلى فراشي وأنام حتى يجيء اليوم التالي ويحل موعد صرف السجائر الجديدة وكان موعد إعطائي للسجائر يعذبني كان الاتفاق أن يسلموني مقطوعية السجائر بعد منتصف الليل أو لا يعطني السجائر إطلاقا وكان بين المشاكل الخطيرة ترموس الماء البارد فقد كسروا ترموسي وبقيت بضعة أيام وهم مشغولون بفتح اعتماد لشراء ترموس آخر والاعتماد المطلوب هو 115قرشا!

وأمر لي رئيس النيابة براديو ترانزستور وبقوا عدة أشهر يعدونني به وفي الصباح يقولون في المساء اليوم يقولون غداء في هذا الأسبوع يقولون الأسبوع القادم حتى نقلت من السجن إلى سجن الاستئناف دون أن أتسلم الراديو الموعود!

وكأن الطعام إحدى المشاكل أقول لهم إن الطبيب منعني من أكل البطاطس فيجيئون لي بالبطاطس فأشكو فيمتنعون عن إرسال البطاطس ويرسلون أرزا فأقول لهم إن الطبيب منعني من الأرز أيضا فيرسلون لي مكرونة!

وكانت ملابسي مشكلة لقد تمزقت جاكتات البيجاما من الشد والجذب والضرب أثناء التحقيق حتى أبحت في البيجاما أشبه بالمتسولين!

وألححت في أن يحضروا لي بيجاما من منزلي تركوني عدة أسابيع وأقبل الشتاء وكنت أشعر بالبرد يدخل كالرصاص من الفجوات المقطوعة في البيجاما وطلبت أن يحضروا لي من منزلي بيجامات صوف بعد شهور جاء الرد أنه لا يوجد في منزلي بيجامات صوف مع أنني أعلم أن هناك بيجامات صوف في منزلي ومع أنهم كانوا يعملون كل إبرة موجودة في بيتي فقد احتلوه بعد القبض علي عدة أيام!

وكل هذه مسائل بسيطة ولكن كل واحدة منها كانت أشبه بأزمة أتبادل فيها الرسائل والاحتجاجات والمفاوضات والمحادثات مع الضباط المسئولين وكان وصول السجائر لي في الصباح خبرا سارا عظيما وحدثا ضخما يقتضي تقديم فروض الشكر والحمد والثناء ولحسن الحظ أنني هنا لا أواجه مثل هذه الأزمات...

والآن أختم خطابي وأضمك إلى صدري بقوة وأقول لك إنني أشعر أنك معي دائما وأحس بكل ما تفعله من أجلي ويجب أن تطمئن علي جدا، وأن تعلم أنني محتمل كل ما أنا فيه بشجاعة وإيمان وعزيمة تذهلني ولو قيل لي في يوم من الأيام أنني سأحتمل كل هذا بهذه الشجاعة والإيمان لما صدقت ولكن الله عندما أخذ حريتي أعطاني هذه القوة والإيمان .. .

إن الله لن يتخلى عنا أبدا.

أقولها لك وأنا واثق مما أقول .. وشوقي أنني حي..ولك قبلاتي.

عصر التلفيق

سجن الاستئناف .. 3 مايو سنة 1966

عزيزي..

استيقظت من النوم الساعة الثالثة صباحا فأضأت النور الكهربائي، كنت أحمل هم هذا النور عندما صدرت الأوامر بنزع البريزة الكهربائية من غرفتي لقد حاولت جاهدا الاحتفاظ بها لأن المصباح الكهربائي الموضوع على المائدة كان يعتمد عليها وكنت أستطيع أن أمد يدي فأفتح النور وأغلق النور ولكن نزع البريزة سوف يجعلني أعتمد على مفتاح الكهرباء الموجود خارج باب الغرفة فأه من غير المسموح أن يكون مفتاح الكهرباء داخل الزنزانة وكان معني هذا أن أتحرك في الظلام فأخبط في كرسي واضرب في صحن من صحون العشاء أن أشعل عود ثقاب لا يلبث أن ينطفئ في نصف الغرفة قبل أن أصل إلى مفتاح النور، فأضيء النور وكانت فتحة الباب صغيرة وكان يدي لا تستطيع الدخول فيها إذا كنت أرتدي الروب دي شامبر فأخلع الروب دي شامبر لتستطيع يدي اختراق الفتحة وكانت هذه العملية تعذبني وكانت تعذبني أكثر إذا أردت أن أنام فإنني كنت أضطر أن أترك فراشي وغطائي في البرد القارس لأقوم بعملية إطفاء النور فأضيء النور ولا أكاد أنتهي منها حتى يطير النوم من عيني وأتقلب على الفراش ولا أنام ثم أخرج من الفراش وأقوم بعملية البهلوان عدة مرات كل ليلة ثم اكتشفت أنه ممكن استعمال شمعة وكنت أخفيها في حذائي لأن الشموع ممنوعة ثم جاء المصباح الكهربائي وأنقذني من هذا العذاب ولكن قرار نزع البريزة من زنزانتي سيعيدني إلى عصر الجاهلية الأولى وقلت للمأمور أنني أقرأ كثيرا وفي أشد الحاجة لهذا المصباح الكهربائي والظروف لا تسمح بعمل نظارة ولكن المأمور أكد لي أن البريزة تخالف التعليمات وأنه وبخ الكهربائي لأنه وضعها عندي بغير استئذان وأنه لو جاء مفتش ورآها فسوف تكون مصيبة كبرى وسألت عن الحكمة في هذه المصيبة فقال إن من الممكن استعمال كوبس البريزة للانتحار!!

وقبلت هذا القرار العجيب وأمري لله ولكني أخذت منه إذنا بأن أخفض السلك الذي تتدلى منه لمبة الكهرباء فوافق وكانت اللمبة ملتصقة بالسقف فكان النور ضعيفا لأن ارتفاع السقف حوالي أربعة أمتار واتفقت مع الكهربائي أن ينزع اللمبة من السقف ويضعها فوق السرير بمترين وأنزلنا منها سلكا فيه «كمثراية» شبكتها في حديد السرير وهكذا حل إشكال عدم استعمال المصباح الكهربائي واختفاء البريزة وأصبحت أضغط على الكمثرة فينطفئ النور وأضغط عليها فيضيء النور تماما كما كنت أفعل وأنا نائم في فراشي بالزمالك ووفرت عمليات البهلوانات التي كنت أقوم بها للتشعلق على الباب لأطفئ النور وأولع النور وبقي المصباح الكهربائي فوق المائدة أخرس لا فائدة فيه، وكأنه نصب تذكاري يعلن الاحترام الشديد لتعليمات مصلحة السجون وأحمد الله على هذا الحل فقد كان يحدث في الشتاء أو في الليالي القارصة البرد أن أفضل أن أنام في النور على أن أخاطر وأخرج من تحت البطاطين وأرتعش وأنا أقوم بمخاطرة ومغامرة إطفاء النور والمسائل تعود فقد كنت في الماضي أتصور أنه لا يمكن أن أنام في النور ولكن في تلك الأيام علمت نفسي أن أنام في النور!

وكان يحدث أحيانا بعد إطفاء النور أن أكون في أحلى نومة ويجيء أحد الحراس من الخارج ويفتح النور لا لسبب إلا لأن مزاجه يقتضي ذلك أو لأنه يريد أن يتأكد أنني لم أهرب وينسى طبعا أن يطفئ النور بعد أن أطمأن أنني ما زلت في الزنزانة واكتفيت بالكمثراية الموجودة على السرير وبذلك كفي الله المؤمنين شر القتال مع السجانين الذين يضيئون النور في الوقت غير المناسب!

وهكذا فإن الحاجة أم الاختراع وكل مشكلة تصادفني تبدو في أول الأمر أنها كبيرة ولا حل لها ولكن الوقت والتفكير يحل المشاكل وكأن الوقت هو الكمثراية التي يمكنها إضاءة النور!

وكلما ضايقني شيء تذكرت ما كنت فيه في سجن القبة والسجن الحربي وقارنته بما أنا فيه في السجن الحالي وحمدت الله على التقدم العظيم وازدت إيمانا بأن كل يوم يجيء يكون أحسن من سابقه فأنا الآن أنام ملء عيني أشعر أنني ملك في سريري وفي السجن الآخر كان يجلس معي أربعة حراس يحملون المسدسات أثناء نومي ولعل السبب في ذلك أنهم يراقبون الأحلام وكان يحدث أن تأخذهم نومه واستيقظ وأشعر أنني راغب في الذهاب إلى التواليت ولكني أشفق عيهم أن أوقظهم من نومهم وأبقى انتظر إلى أن يفتح واحد منهم عينيه وعندئذ استأذن في الذهاب إلى الحمام فيقوم الأربعة ويصحبونني إلى التواليت وكأنه موكب الملكة إليزابيث لافتتاح البرلمان!

وكان يحدث أن يخرج منهم شخير عجيب بعضه كالصفير وبعضه كالطبول وبعضه مثل صوت السيفون المكسور وتعلمت أن أنام على هذه الأصوات مقنعا نفسي أنها أصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبينما أكون في أحلى نومه يدخل الضابط النوبتجي ليفتش على الحراس ويهبون من مقاعدهم واقفين وكأنهم في طابور وطبعا استيقظ من النوم واشترك في تحية الضابط الهمام!

وكان الطعام في السجن الأول مشكلة لقد مكثت ثلاثة أو أربعة أشهر أكل الجبن في الإفطار والغداء والعشاء وكان هذا يغنيني عن أكل الخضار الذي لا يؤكل فقد كانت الخضروات بطاطس وأنا ممنوع من أكلها أو أرزا وهو ممنوع أو مكرونة وهي ممنوعة أيضا وكان مع الخضار بع فرخة وهي دائما فرخة قامت بعملية رجيم صعبة أو أن جزءا منها قد نزع في الطريق والخادم يحمله من المطعم إلى غرفتي وكان الحراس يعتبرون طعامي هذا طعاما ملكيا أو إمبراطوريا وبالنسبة لأكل باقي المسجونين الذي كان عبارة عن ساندوتش طعمية أو ساندوتش فول مدمس أو سلطانية لبن زبادي!

والغريب أنه في السجن الأول يصاب المساجين بالإمساك فقد حدث في الأيام الأولى أنني أذهب إلى التواليت وكأنني طفل صغير وتمضي بضعة أيام ولا أذهب إلى التواليت وكان يحدث أن أسمع المسجونين يصيحون في زنزانتهم ..ملين.. ملين فهم يطلبون دواء يلين مصارينهم التي تجمدت ولست أعرف ما الذي كان يجعل المصارين تتجمد في السجن الأول ربما يكون الرعب هو الذي يؤدي إلى هذه الحالة العصبية...

ويظهر أنني لو تركت لنفسي لأكلت نفس الطعام يوميا دون أن أشعر بأي ملل أو قلق وأظن أن هذه ظاهرة طيبة بأنني لا أحب التغيير في الأطباق.. وفي النساء أيضا!

وكان مما يضايقني في سجن القبة الغسيل وعندما أرى الآن حقيقة الملابس تدخل عندي مرتين في الأسبوع أحمد الله كثيرا أنني الآن أغير ملابسي الداخلية والقميص والشوارب كل يوم أما في سجن القبة فقد كان مصرحا لي بقميصين ولباسين وفنلتين وجوربين وثلاثة مناديل على الرغم من انه كان هناك عدة حقائب لي مملوءة بالملابس ولكنها كانت موجودة في مكتب الضابط المشرف على السجن وكنت لا أستطيع أن أحصل على شيء منها إلا بعد أن أكتب له عدة خطابات أرجوه وألح في الرجاء وكنت أحل مشكلة الجوارب في أول الأمر بألا أرتدي جوارب وأنا أمشي بالشبشب عاري القدمين ولكن عندما حل الشتاء كنت أرتدي الجورب الواحد أسبوعا كاملا حتى يجيء الجورب الآخر من المكوى!

وكان القميص الأبيض يتحول في النهاية إلى قميص رمادي بسبب تراب الأسبوع وكنت أغسل المناديل بنفسي لتستطيع أن تكفي حتى نهاية الأسبوع وكان الوصول إلى صابونة كالوصول إلى القمر تحتاج إلى عدة طلبات وكان يزيد في دقة الموقف أ،ها الصابونة الوحيدة في الدور وكان الحراس يحضرون إلي ويستلفون الصابونة ليغسلوا وجوههم!

وفي نهاية الأمر تحسن الموقف فزاد عدد القمصان إلى أربعة والجوارب إلى ثلاثة والمناديل إلى ستة!

وكانوا يعدونني كل يوم بأن يعطوني كتبا أقرؤها ولم يقصروا في يوم واحد خلال تلك الأيام عن هذا الوعد وفي الوقت نفسه لم يقصروا أيضا في عدم إعطائي أي كتاب أو أي جريدة أو مجلة وعندما أرى كومة الصحف والكتب التي عندي في سجن الاستئناف أحمد الله أيضا وأشكره على هذه النعمة...

وكان الحراس يجلسون معي في غرفتي في أثناء نومي الأول ويولون إن الذي أدهشهم وهم يراقبونني وأنا نائم أني أصلي في أثناء نومي فإنهم كثيرا ما سمعوني وأنا نائم أقول «يا رب» وكان إيماني هذا يذهلهم وكان صمودي يدهشهم وكانوا يقولون إنهم لم يروا قبل الآن مسجونا يستقبل كل هذه الأهوال ضاحكا!

وكان أكثر ما يقلقني في سجن القبة هو أخي علي هل وصلته رسالتي الروحية بأن يبقى ولا يعود حتى لا يتعرض لهذا الهول فيزداد عذابي...

هل نفذ رأيي هذا!؟ كيف صحته لقد خشية أن تؤثر الصدمة على حالته الصحية وكنت أخشى أن يترك الفندق وينتقل إلى شقة كما كان يريد أن يفعل قبل ذلك كنت أرى الفندق أكثر أمانا له كنت أخشى أن تخطفه بعض الأجهزة في صندوق وعلى الرغم من أن كل أبواب الأخبار والمعلومات كانت موصدة أمامي فإنني استطعت أن التقط الخبر الذي يهمني وهو أنه اعتذر عن عدم الحضور لمرضه. برغم أن المحققين كانوا يؤكدون لي أن أحد لم يطلب عودته وبرغم حرص المسئولين في سجن المخابرات على أن أحاط بإظلام تام من ناحية المعلومات والأخبار فقد كنت أجمع فتافيت الأخبار من هنا وهناك وأضمها إلى بعضها واستعمل خبرتي الصحفية لأحصل على الخبر الكبير الهام وكنت أسلي نفسي بأن أحاول الحصول على هذه الأخبار برغم التضييق والتدقيق فعرفت مثلا أن النحاس قد مات وعرفت ما حدث في الجنازة وعرفت استقالة علي صبري وتعيين زكريا محيي الدين وعرفت الوزارة الجديدة وعرفت سفر الرئيس إلى السعودية وإلى موسكو أما الآن فإن بين يدي صحف بلادي وصحف لبنان وصحف العالم أقرأ فيها ما أريد أن أعرفه وكل يوم يدخل مساجين جدد ويحملون أخبارا جديدة وأهم أخبار جديدة وأصبحت أعرف أخبار أخي علي يوما بيوم وأصبحت أعرف أخبارك ساعة بساعة.

فأنا الآن أشعر أنني على وجه الأرض أرى الناس ويراني الناس أما في سجن المخابرات فقد أمضيت أربعة شهور وعشرة أيام لم أخرج من غرفتي ولم أخرج إلى نور الشمس أو إلى الهواء مرة واحدة!

إن لدي فرصة لأكتب إليك مرة أخرى كأن الخطاب الذي أنهيته لا يكفيني فأنا أريد أن أتحدث إليك باستمرار أريد أن أمضي حياتي في السجن أكتب إليك أن الكتابة إليك تسعدني إنها تحملني إليك وأنا أجد لذة في أن أخاطبك باستمرار أن أفتح لك صدري لقد أصبحت أنت كل شيء أنت القارئ الذي أكتب إليه خطابك هو أحسن جريدة أحب أن أقرأها يهمني كل سطر فيها تطربني كل جملة تحمل كل خبر يهمني أنني أقرأ كل السطور وما بين السطور الكلمات الأحرف وما بين الأحرف فأنا أريد أن أعيش فيك كل لحظة أخرج معك ي زياراتك أحيا في متاعبك أتنفس في نبضاتك وتنهداتك لا أريد أن ينتهي الخطاب إن أكثر ما يهمني هو أخبار قلبك فهذا القلب هو المخبأ الذي أعيش في ظله محميا من غارات الزمن ومن قنابل الأيام أنني أحس وأنا داخل هذا القلب أنني في حماية كاملة أن أحد لن يصل إلي وأنا هناك إنه يصد عني المتاعب أنا أشعر وأنا داخل هذا القلب أنني أسعد رجل في العالم أشعر أنني حر إنه ليس زنزانة ولا سجنا وكنه حديقة غناء!

وأنا في الوقت ذاته أحب أن أحدثك عن كل شيء أنني أعرف أنك تريد بأن تعرفي حياتي هو دقيقة بدقيقة ماذا أقول: وماذا أفعل؟ في ماذا أتكلم وعندما يحدث شيء هنا أول شيء أفكر فيه أنني سأكتبه لك! لا يجوز أن أنساه ثم يحدث أن أنسى!

ولقد نسيت مثلا أن أحدثك أن أحد المسجونين معي واسمه عادل سليمان أخبرني بأنه رآك في أثناء إحضار الطعام وأنه قال لك أن خطابا وصلني ولعلك اهتممت أن تعرفي من أين هذا الخطاب وقد قال إنه تصور أن الخطاب من علي والواقع أن الخطاب من مسجون اسمه «النص» وهو يشكرك وهو الآن في الإسكندرية ومفرج عنه والحمد لله. ويظهر أنه انتهى من عملية المرور على جميع أقسام الجمهورية واستقر!

ومن الأخبار الطريفة هنا أن أحد زملائي في السجن واسمه فاروق عبد القادر كان لدية في غرفته كرسي وسرقه أحد المسجونين وباعة إلى أحد المسجونين بأربعة علب سجائر بلمونت!

واتفق المسجونون على محاكمة المسجون الحرامي وقرروا تأليف محكمة برياستي لمحاكمته وقام الأميرالاي محمد يوسف بدور المحامي وصحفي اسمه أنور زغلول بدور النيابة وقد كانت محاكمة طريفة جدا ضحكنا فيها كثيرا ولكن لم أصدر حكما وإنما أجلت إصدار الحكم على طريقة الفريق الدجوي!

ولقد حدث حادث غريب وهو أن أحد المسجونين اتفق مع مسجون اسمه محمود متهم في قضية سرقة التليفزيونات بأن يدعي أنه عشيق زوجته...

وراح يذكر له علامات مميزة فإن في ظهرها حسنة سوداء وفي فخذها جرح على شكل x وعندما تجيء لحظة شهوتها تصرخ صراخا عاليا!

واتفق المسجون مع هذا اللص على أن يدعي أن شريكه في عصابة سرقة التليفزيونات هو شقيق زوجته كل هذا لينتقم من زوجته ويلفق لها قضية زنا.. . انتقاما منها لأنها أرادت أن تطلقه!

وعلم المسجونون السياسيون بهذه السفالة واستدعوا محمود فاعترف لهم بكل شيء فهددوه بإبلاغ النيابة إذا اشترك في عملية التلفيق هذه ضد امرأة بريئة!

وخاف المسجون مني فعدل عن التلفيق لقد أصبح التلفيق مرض هذا العصر الذي نعيش فيه الناس على دين ملوكهم وما دام أصحاب السلطان يلفقون القضايا والاتهامات فمن حق الأفراد أن يلفقوا في كل العالم الذي يلفق قضية لبرئ يسجن وفي بلادنا من يلفق قضية كبرى يرقي إلى وظيفة أعلى الملفقون في الأجهزة هم «الشطار» الذين يمطرونهم بالترقيات والدرجات والعلاوات الاستثنائية و «الخائبون» هم الذين يحترمون القانون أصبت بحساسية غريبة ضد الملفقين أنهم يثيرون أعصابي الباردة لا أعرف ماذا يحدث لهذه الدولة إذا استمر الحال واستيقظ الشعب ذات يوم واكتشف أن كل شيء ملفق كل شيء كذب كل شيء أوهام؟

ووصل إلى السجن زبون جديد له اسم مستعار هو «أبو شادية» متهم بأنه أحد ملوك الدعارة في المدينة. واستدعينا أبو شادية وقمنا بتحقيق صحفي وكان يتكلم عن نفسه كأنه في وظيفة محترمة ويسمي نفسه سمسار تماما مثل سمسار العقارات العمارات والأراضي الزراعية وروي لنا كيف كان يقوم بتقديم الفتيات للزبائن فيدفع الزبون العربي 10 جنيهات يأخذ منها هو 7جنيهات والفتاة المسكينة ثلاثة جنيهات وكيف أنه كان عنده تسع فتيات أخريات تعطي كل واحدة منهن له كل ما تتقاضاه ولا تأخذ سوى أكلها وشربها وروي لنا حكايات وحكايات عن استغلال هؤلاء القوادين للطالبات الصغيرات والضحايا اللاتي يسقطن في أيديهم أنني أتتبع كل هذه الأحداث في عالم جديد لا أعرفه وهو عالم تحت الأرض فنحن الذين نعيش على السطح لا نعرف ما يحدث تحت أقدامنا وقد حولت المسجونين السياسيين معي في الدور إلى مخبرين صحفيين مهمتهم التقاط الأخبار ويأتون بها إلي كأنني في مكتبي في أخبار اليوم والمسجونين هم المندوبون الذين يدخلون كل لحظة يحملون الأخبار ولا تمر دقيقة بدون خبر جديد من داخل السجن ومن خارجه من الزيارات ومن التليفونات وهو ما يطلق علي الأحاديث التي تجري من نوافذ السجن!

ولعلك تعرفين المسجون «أسامة» الذي لا تحبينه فقد أفرج عنه بكفالة عشرة جنيهات ولم يكن يملك مبلغ الكفالة والقانون أنه إذا مضى عليه 14 يوما دون أن يدفعها تلغي ويسجن من جديد وقرر المسجونون أن يجمعوا له علب سجائر يبيعها ويحصل على العشرة جنيهات ولكن يظهر أن المسجونين لا يحبونه مثلك فإنه لم يستطع أن يجمع المبلغ المطلوب وأعيدت لنا علب السجائر التي تبرعانا بها لأن المبلغ الذي جمع لم يصل إلا إلى أربعة جنيهات والمطلوب عشرة ولو كان أسامة اللص المدعو النص ولكنه كان دائما يثير شكوكهم ولا يوجد في الحياة أجمل من أن يحصل الإنسان على ثقة الناس وحبهم أنه راس مال في المحن والأزمات ولكنه سيجيء وقت من الأوقات.

وإنني أشكرك كثيرا لأنك ترسلين لي جريدة التايمز بنتظام والغريب أنني فكرت أن أطلبها منك، لأنني وجدت أن فيها أخبارا كثيرة من الشرق الأوسط وموضوعات خارجية هامة.. وإذا بك بدون طلب تنتظمين في إرسالها لي ولم أعد استغرب هذا كان في أول الأمر يدهشني ويذهلني ولكن الآن أصبحت أراه أمرا طبيعيا ولهذا لم أعد أكتب خطابات إلى السيد الضابط وفي كل يوم أفكر في أن أبحث عن شيء أطلبه وأكتبه إلى السيد الضابط ليبلغه لك ولكني بعد أن أمسك القلم لا أجد شيئا أطلبه!

تنفيذ حكم الإعدام

سجن الاستئناف .. 16 مايو 1966

أخي العزيز ..

أقبلك قبلة حارة أن الكتابة لك مشكلة أعرف أنك في غربة وأعرف أنك تتشوق إلى أخبار وطننا وكنت أتمنى أن أستطيع أن أملأ خطابي لك بالأخبار التي تهمك ولكن أهم الأخبار عندي أن لا أخابر ويبدو أننا سوف نعيش بلا أخبار إلى شهر يوليو وليس هذا على سبيل الخبر وإنما على سبيل الاستنتاج ولقد علمتنا الحوادث أن الأيام هي خير دواء لكل داء وأن ثقتي بما قدمته لبلادي من خدمات وبأن الرئيس يقدر هذه الخدمات يجعلني مطمئن الضمير واثق أن الأيام معي وليست ضدي وقد تعلمنا الصبر وأنه لا يجوز أن نستعجل الفرج فالفرج قادم وقد تعلمنا الصبر وانه لا يجوز أن نستعجل الفرج. فالفرج قادم بإذن الله ولعلك تذكر أن أزمات كثيرة وخطيرة مرت بنا وأن الله كان يمد يده لنا وأن الرئيس كان لا ينسى ما قدمناه لبلادنا ولعلك تذكر كيف ابتعدنا عن أخبار اليوم 15 شهرا ثم جاء الرئيس ورد لنا اعتبارنا وأعطانا أكثر مما نحلم ونتمنى وبدلا من أن تكون لنا دار واحدة هي دار أخبار اليوم أصبحت لنا داران هما دار الهلال ودار أخبار اليوم .

وأنني أحمد الله على كل شيء فإنني في هذه المحنة رأيت ما يشبه المعجزات ولم أحس في لحظة بالوحدة ولا بالقلق بل لقد تدهش إذا علمت أنني كنت في خارج السجن أشعر بقلق أكثر مما أشعر داخل السجن كنت لا أنام الليل خوفا على وطننا.

كنا نشعر كأن كل ضربة موجهة إلى وطننا كأنها موجهة إلى صدورنا وكل سهم يصوب إليه يصيبنا وكل أزمة يصادفها كأنها تأخذ بخناقنا.

كنت أحس أنني مسئول عن كل شيء وأنني أقف في الصف الأمامي وأنا أي طلقة توجه إلى وطننا هي موجهة إلى قلوبنا وكنت أحس كأنه ابني أخاف عليه من تيار الهواء وأخشى عليه من هبوب الريح وكان دعائي له هو دعاء لنفسي وحبي لنفسي فقد تفانيت في خدمته وقدمت حياتي وخبرتي وكفايتي وفني من أجل خدمة الرسالة التي أحملها والآن أشعر في زنزانتي أنني عاجز عن أن أفعل أي شيء من أجل بلادي وليس عندي ما أملكه سوى دعواتي أن يأخذ الله بيد هذا الوطن ويبارك فيه ويحميه من كل سوء.

وأمري لا يهمني كثيرا أنني أشعر في تاريخي لن يكتبه الذين يرموننا بالطين سوفي يكتبه مؤرخ منصف سوف يكون هذا الغبار الكثيف المصطنع قد زال وظهرت الحقيقة كاملة وسوف يعرف الناس كم ضحينا وكم أوذينا وكم تحملنا دون أن نفرط في حق من حقوق وطننا وكيفي كنا نطعن بالخناجر في ظهورنا بينما تكون أيدينا مشغولة بحمل السيوف دفاعا عن وطننا، وكنا نترك الدماء تنزف منا حتى لا نشغل أنفسنا بتجفيفها أو بتضميدها عن معركة بلادنا الكبرى...

وأنني أعتبر هذه الفترة أجازة أجازة من عمل لا ينقطع بالليل والنهار.. لا أجازة أسبوعية ولا أجازة سنوية ولا يعد ولا شم النسيم كنا دائما على مكاتبنا كأننا دبابات في الموقع الأول في معركة القتال ولعل القدر شاء أن أصاب برصاصة طائشة في ظهري أثناء المعركة من الذين أحبهم وأدافع عنهم بدلا من أن أصاب برصاصة في صدري من الذين أحاربهم وأهاجمهم فأنا الآن كأنني جريح في مستشفى أنتظر أخراج الرصاصة من ظهري.

والأيام تمضي سريعا تصور أنه مضى على معتقلا حوالي ثلثمائة يوم وبعد حوالي العشرة أسابيع سيكون قد على سنة في السجن ولقد كانت الأحداث تتلاحق بحيث لا تترك وقتا للملل كل يوم شيء جديد أنني أشعر كأنني لازلت خارج السجن أنني أقرأ الأنباء وأحللها وأدرسها وأتابع أحداث الدنيا كأنني لا أزال جالسا على مكتبي في «أخبار اليوم» ولقد عودت نفسي على المجتمع الجديد الذي وجدتني فيه وعلمت نفسي أن حب هذا المجتمع الجديد لم يكن هذا يستلزم جهد أنفيه قتلة ومجرمين ولصوصا ونشالين ولكن فيه أضعافهم من المظلومين ومن أصحاب القلوب الطيبة النبيلة أن ملابسهم ممزقة وأرواحهم سامية أن وجوههم متسخة وقلوبهم نظيفة أنني وجدت فيهم تلاميذ وأصدقاء أمشي بينهم كأنني أمشي في دار أخابرا ليوم اجتمع بهم في طرقات السجن وفي زنزانتهم وفي زنزانتي وكأنني أستقبلهم في مكتبي بالزمالك كأننا نسهر سهرة يوم السبت ويوم الأربعاء نضحك كما كنا نضحك ونناقش كما كنا نتناقش والفرق الوحيد أن شلتنا كانت تنصرف عند منتصف الليل وهذه الشلل تنصرف في الساعة السادسة مساء عند موعد إغلاق الزنازين .. بوقت الصيف!

فالمسائلة نسبية كما ترى وممكن للإنسان أن يكيف حياته حسب الظروف وينسى أنه في زنزانة والسجن أشبه بإدارة جريدة كل لحظة أخبار مسجونون جدد يحملون قصصا جديدة ومسجونون قدماء يخرجون وتسعدني أنباء الإفراج عنهم كأنني أرى تلاميذي يحصلون على نصر صحفي عظيم فأنا أفرح لكل واحد يخرج من السجن كان جزءا مني خرج واخترق الأسوار وذاق طعم الحرية!

والسجانون سواء كانوا ضباط أو سجانين يعاملونني بأدب ولطف واحترام كأنهم جميعا أصدقائي وأنا لا أخاف تعليمات السجن وأرفض أن أفعل أي شيء أعتقد أنه يخالف التعليمات أو يحرج موظفي السجن وأرفض أن أفعل أي شيء أعتقد أنه يخالف التعليمات أو يحرج موظفي السجن وهم يدهشون من أنني لا أطلب شيئا إلا وأقول من فضلك ولا أتناول شيئا إلا وأقول أشكرك أن الجو في السجن يدهش لهذه العبارات أن هذه العبارات التي تسمعها عنها هذه اللغة ولهذا فإن كل الذين يحاولون أن يسنوا هذه الألفاظ في أثناء مناقشاتهم حتى لا يضايقوني.

والمشكلة التي تواجهني في السجن هي أن وزني زاد فجأة لقد كنت فرحا بأن وزني نقص كثيرا وكنت أعتقد أن سياسة الاستفادة من الكوارث سوف تؤدي إلى أن أصبح مثل غصن البان ولكن الذي حدث في الأسابيع الأخيرة أنني زدت في وزني بضعة كيلوجرامات ولا أريد أن أقف فوق الميزان حتى لا أصاب بصدمة عاطفية!

ولست أعرف السبب ربما كان السبب هو أنه سبب حرارة الصيف أصبت أشرب كمية كبيرة من الماء وربما السبب هو أنني بسبب الشمس أصبحت لا أمشي ساعتين يوميا في فناء السجن بل أصبحت أكتفي بساعة واحدة ونصف ساعة وربما كانت هذه الأسباب كلها مجتمعة هي التي أدت إلى أن أصاب بهذه الزيادة في الكيلوجرامات!

وقد بدأت أحتاط أكثر مما كنت في الطعام وبدأت أعود إلى المشي الكثير لكن كمية المياه لم أتسطع أن أخفف منها بعد... وسأحاول أن أخفف منها..

وأسعد أوقاتي في السجن هي التي أمضيها مع خطاباتي وخطابات أصدقائي وصديقاتي التي تهرب لي بانتظام عجيب. ولقد رأيت التغيير الذي حدث في جريدة التيمس وأعتقد أنه البداية فقط وأنه سوف يعقبه تطور جديد وترحمت على أنطون الجميل الذي كان يتصور أن الصحف اليومية المصرية يجب أن تتشبه بالتيمس وأنا أعتقد أنه سيجيء يوم تتشبه التيمس بأخبار اليوم في أيام مجدها الذهبي!

وأيضا أجد أن الصحف المصرية لابد أن تتحرك أنها تعيش في جمود قاتل.

ولقد لاحظت في السجن ملحوظة عجيبة في أول الأمر كان يصل إلى الدور الثاني في السجن 30 أخبار و20 أهرام و3جمهورية والآن يصل 30 أهرام و10أخبار و20 جمهورية ... ولا أعرف إذا كان هذا الإحصاء يمثل التغيير الحقيقي في توزيع الصحف فإذا كان الأمر كذلك فإن الأمر يكون كارثة.

وعندما أقرأ الصحف الأجنبية وأقارنها مع صحفنا المصرية أشعر كأن خنجرا يغمد في قلبي ولكني أعتقد أن الصحفيين المصريين الشبان سوفي يتنبهون إلى هذه الحالة وسيعيدون للصحافة المصرية مجدها أن جو الإرهاب يجمد الأقلام في أيدي الكتاب الأيدي المرتعشة لا يمكن أن تصنع صحافة ناجحة.. أنني أخشى أن يكون خطابي لك خطابا مملا وليس فيه أي شيء جديد وأنني أكرر نفسي وأحصر أخباري من داخل الزنزانة!

وكان يوم الثلاثاء 10مايو يوما خطيرا في السجن فقد كان اليوم المحدد لتنفيذ حكم الإعدام في الطيار محمود الذي هرب بطائرته إلى إسرائيل.

وقد أخفت إدارة السجن الخبر وتكتمته تكتما شديدا.. وعلمت به بصفة خاصة جدا ولكن بعد دقائق كان كل السجن يعرف الخبر.. ما عدا المحكوم عليه بالإعدام وهذا من رحمة الله به فإن معرفته بموعد تنفيذ الحكم كان سيطيل عذابه.

وفي يوم الاثنين بدأت عملية تنظيفي واسعة في الدور الأرضي حيث سيتم الإعدام.

الفناء الخلفي كان أشبه بصندوق زبالة كبيرة وإذا بعملية تنظيف هائلة وبدأوا يفرشونه بالرمل الأحمر.. وهكذا نهتم بصحة الأموات أكثر من اهتمامنا بصحة الأحياء وفي يوم الاثنين حضرت أمه لزيارته وكانت سيدة مشلولة حملوها على كرسي وصحبها شقيق الطيار وهو ضابط في القوات المسلحة بملابسه العادية وكان يضع على عينيه نظارة سوداء ليخفي عن أمه دموعه ولم تكن اأم تعرف أن الابن سيعدم في اليوم التالي ولكن الأخ كان يعرف...

وأمر المأمور بفك الحديد من يدي الطيار حتى لا تراه والدته وفي يده الحديد وتمت الزيارة دون أن تشعر الأم بشيء ولكن الضباط الذين حضروا الزيارة كانت قلوبهم تتمزق!

فقد قال الطيار لأمه: لا تحضري يا أمي بعد الآن في المرة الثانية سأزورك في البيت.

وقال لها إن كثيرين حكم عليهم بالإعدام وصدر عنهم عفو، وعادوا إلى منازلهم وفي ختام المقابلة طلب الطيار بسبوسة.

ولكن المأمور وجد أن تعليمات السجن تقضي بألا يأكل المحكوم عليه بالإعدام قبل التنفيذ أي شيء من الخارج حتى لا تؤتي له بسم ينتحر به قبل تنفيذ الحكم.

ورأى المأمور أن الحل هو أن يأكل أولا من البسبوسة قبل أن يذوقها الطيار..

ونام المأمور في السجن ليلة تنفيذ الإعدام وفي الساعة الثالثة صباحا شعر بمغص في بطنه وذعر المأمور وهرول إلى زنزانة المحكوم عليه بالإعدام فوجده نائما في هدوء وعرف عندئذ أن المغص الذي أصيب به نتيجة اضطرابه هو وخشية أن يكون في البسبوسة سم!

وفي يوم الاثنين جاء عشماوي وهو عسكري من مصلحة السجون بثلاثة أشرطة وله شوارب ضخمة وعينان كعيني عزرائيل تماما، وعاين المشنقة وجربها..

ولما كانت زنزانتي تطل على الفناء الذي سيجري فيه تنفيذ الإعدام وأستطيع أن أرى بعض العملية من نافذتي الحديدية فقد رأيت أن الأحسن ألا أشهد هذه العملية المؤلمة وحولت أن أنام لكي يتم التنفيذ أثناء نومي ولكني لم أستطع أن أنام كنت متيقظا أفكر في هذا المسكين الذي يعرف كل الناس أنه سيموت اليوم ما عداه هو!

وفي الساعة الثامنة تماما دخل ضابط وجنديان إلى الزنزانة وأيقظاه من النوم وفي تلك اللحظة فقد عرف أنه سيعدم فطلب أن يصلي ركعتين فقال له الضابط صلتهما تحت ومشي الطيار بثبات وهو مكبل بالحديد إلى الدور الأول بين صفين من الجنود ووقف مأمور السجن وتلا عليه الحكم.

فقال الطيار أنا ما كنت عارف أنه سينفذ حكم الإعدام الآن وأريد أن أصلي ركعتين.

فقال له وكيل مصلحة السجون كأنك صليتهما!ثم تقدم بسرعة عشماوي وزميله وسحباه بسرعة إلى غرفة التنفيذ وتم الإعدام في أقل من دقيقة.

وفي الزنزانة المجاورة للطيار مسجون أخر محكوم عليه بالإعدام وقد هزه تنفيذ الإعدام في زميله وتصور أنهم سيجيئون بعد ذلك وينفذون الحكم فيه ولكن جت سليمة!

وقد هزت الحادثة كل الموجودين في السجن حتى الحراس أن حادث رؤيتك لشخص تعرف أنه سيموت بعد ساعات يزعج القلب ويقبض الصدر ويجعلك تشعر أن حكمة الذين ألغوا عقوبة الإعدام باعتبارها عملا غير إنساني هي حكمة في محلها برغم شناعة الجرم الذي ارتكبه الطيار بأنه لجأ إلى إسرائيل وسلمهم طائرة حربية.

ولكن في المسألة شيئا محيرا وهو أن هذا الطيار بعد أن هرب من مصر وسافر إلى إسرائيل سافر إلى الأرجنتين وفي الأرجنتين سلم نفسه للسفير المصري أحمد طعيمه وطلب أن يعود إلى مصر.

وهو يؤكد أنه لم يهرب إلى إسرائيل ولكن طيارته أجبرت على الهبوط في إسرائيل.

ولكن السلطات تؤكد أنه هرب فعلا قاصدا اللجوء إلى إسرائيل وحصل أن حضر إلى السجن سبعة من المحكم عليهم بالمؤبد قادمين من سجن الزقازيق في طريقهم إلى سجن طره حيث يؤدون امتحان التوجيهية الذي يقام في السجن وأقبلوا على يصافحونني ويقولون أن المسجونين في كل مكان يثقون ببراءتي وأنهم يدعون لي وأنهم يفتقدون «فكرة» فقد كانت النور في ظلام زنزانتهم وكثيرون منهم يحفظون كلماتها ويرددونها ولقد سررت كثيرا من هذا الشعور ولكن هذا الحب لا يعوضني عن الحرية.

هذا الحب يحملني مسئولية كبيرة ماذا أستطيع أن أفعل وأنا في قيودي وسلاسلي لأرفع صوت المظلومين والمسجونين داخل الزنازين والطريقة الوحيدة أن أهرب خطابات إلى خارج السجن تحمل قصص الظلم.

وكان معي في السجن سعد الزناري سكرتير نقابة عمال أخبار اليوم وقد أفرج عنه بكفالة وسررت كثيرا بذلك. وقد وصلت لي ستارتان علقت ستارة على نافذة الزنزانة والأخرى على النافذة الحديدية فوق الباب والسبب في هذا أن الصيف يجيء معه الذباب وأنا أتضايق من الذباب وأتنرفذ منه، وأعتقد أن الستارتين ستساعدان كثيرا على أن يقل انتشار الذباب في الزنزانة أنني وأنا أقتل الذباب في الزنزانة أشعر أنني في يوم من الأيام سأضرب الظالمين كما أضرب الذباب ...

أننا اعتدنا الآن على احتمال ضربا الخناجر ولم تعد تسيل دماءنا!

ولكنها لم نتعود على السكوت عن الظلم!

ولقد انتهت مباريات الكرة وبذلك فقدت لذة جميلة كنت أنتظرها في التليفزيون بفارغ صبر وقد سررت لأن الأهلي نال الكأس وصحيح أنني على الحياد بين الأندية ولكني وأنا أتفرج على المباراة قلت لنفسي لو غلب الأهلي فمعنى ذلك أن كل شيء سوف يتم على ما يرام.

وكانت الأعجوبة وانتصر الأهلي ونال الكأس!ُ

وفي بعض الأحيان أفتح المصحف على صفحة وأقرأ أول آية فيه وأقول إنها على بختي...

وكثيرا جدا ما تكون الآية مطمئنة تبشر بأن فرج الله قريب...

وأرجوا من الله أن يحقق آمالنا وينهي أيام فراقنا وأن قلبي يحدثني بأن فرج الله قريب.. إن السجن يعيدنا أطفالا من جديد ويجعلنا نؤمن بالغيبيات

والآن أقبلك قبلة من كل قلبي وكل حبي وكل شوقي....

علي أمين وأنا

سجن الاستئناف .. 21 مايو سنة 1966

عزيزي ..

جاءني أحد المسجونين بعدد أخبار اليوم في مايو من العام الماضي، الذي كتبت فيه كلمة أودع فيه أخي علي أمين لمناسبة سفره إلى لندن

قرأت المقال وذهلت هذا ليس مقالا أنه إحساس عجيب بأنني لن أرى أخي إلا بعد سنوات طويلة!

كان الاتفاق بيننا أن نلتقي بعد شهر ولكن المقال كان يؤكد أن قلبي كان يحس أن هذا اللقاء لن يتحقق سيطول الفراق طويلا طويلا...

أنني أرسل لك هذا المقال العجيب وأسأل نفسي ما الذي يجلعني أحس أن كارثة فراقنا على الأبواب بعد أقل من شهرين من كتابة هذا المقال فبضوا علي .

وهذا هو المقال:

كلمة من المحرر

بقلم: مصطفى أمين

لست أعرف كيف بكيت وأنا أودعه كان يجب أن أضحك وابتسم لقح حقق نصف الأمنية التي عشنا سنوات نحلم بها أن نكون مراسلين متجولين في أنحاء العالم ولكن ما كاد يدير ظهره لي ليستقل الطائرة إلى لندن حتى امتلأ عيناي بالدموع وخجلت من نفسي لقد كنت دائما معروفا بقوة أعصابي ولكني في تلك اللحظة انهرت شعرت أن العصا التي استند إليها قد سقطت وأن اليد التي تحميني قد انسحبت وأن الأرض التي أقف عليها قد مادت بي! ولم تكن هذه أول مرة نفترق ولكنها المرة الأولى التي أبكي فيها في وداعه.

أن علي أمين أكبر مني بخمس دقائق ومع ذلك فإنني أشعر أنه ابني الصغير أخاف عليه إذا ابتعد عن ناظري، ألتاع عندما أتصور خطرا

يهدده أتعذب إذا مرض إذا غاب أشعر أن قطعة من قلبي قد انتزعت مني ولقد أمضينا معا تسعة أشهر في بطن أمنا لعلها هي التي خلقت بيننا صداقة ومحبة وتفاهما وعشقا لو وزعت على أهل الدنيا جميعا لكفتهم أجمعين وكان يحدث ونحن تلاميذ أن يضربني المدرس فيبكي علي أو أذنب أنا فيعاقبوه هو، واضطر ناظر المدرسة أن يفصلنا في فصلين مختلفين ولكننا كنا نحس ببعضنا البعض والجدران تفصلنا فأحسن أنني أريد أن أبكي لسبب أجهله أعرف بعد ذلك أن مدرس اللغة العربية كان يضرب علي في الفصل الآخر لأنه اعتدى على كرامة اسم إن أو خبر كان! ودخل هو القسم العملي ودخلت القسم الأدبي ودرس في إنجلترا الميكانيكا ودرست أنا العلوم السياسية في أمريكا.

وأصبحت أنا رئيس تحرير «أخرساعة» وأصبح هو موظفا باليومية بوزارة الأشغال ثم رأينا أن لك هذا الانفصال في الدراسة وفي الوظائف وفي البلاد لم يفصلنا بقينا بعد ذلك كأننا ما زلنا في بطن أمنا كنت أبدأ المقال فيتمه علي دون أن يعرف أحد الفرق في الأسلوب.

وكان علي يبدأ المحادثة التليفونية وأتمها أنا دون أن تعرف زوجته أن الذي يكلمها ليس زوجها وكان يصدر أخطر القرارات دون أن يرجع إلي لأنه يعرف تماما أن القرار الذي أصدره وكان اتفقنا في الذوق يعرضنا لمواقف حرجة فلقد أحببنا نحن الاثنين وقت واحد ابنة الجيران ولم نكتشف هذه الحقيقة إلا بعد أسبوع واضطررنا أن نجري قرعة بيننا وكسبتها أنا وذهبنا لشراء قماش لملابسنا اخترنا نفس الألوان ونفس القماش وكنا نشعر بخجل عندما نظهر في مكان عام بنفس لون البدلة ولهذا كنا نتصل ببعضنا البعض صباح كلي ويم بالتليفون لنتفق على ألا نرتدي نفس اللون.

وعندما مرض علي بالنقرس قال الأطباء أن 2 في كل مليون يصابان بهذا المرض قبل الثلاثين وبعد أسبوع واحد بدأت أشعر بأعراض نفس المرض فكنت الثاني في المليون وعندما اكتشف علي أنه مصاب بمرض السكر قمت في الحال بتحليل دمي فإذا بالطبيب يجد أننا أصبنا بنفس المرض في يوم واحد وعندما يحس علي بمبادئ آلام النقرس أسارع على الفور بأخذ دواء النقرس لأنني أعرف أني سأصاب به بعد 24 ساعة على الأكثر وهذا هو نفس ما يحدث لنا في كل مرة يصاب أحدنا بالأنفلونزا أو الزكام!

ورزق كل واحد منا ببنتين ولم يرزق أولادا ولم نشعر في يوم ما بحاجتنا إلى ولد أن كل واحد منا يحس أن أخاه هو ابنه فالأب يشعر بسعادة أن يرى نفسه في شخص آخر ونحن أكثر حظا من غيرنا لأن كل واحد منا رأى ابنه في سنوات متأخرة من الحياة وهو حظ لا يتمتع به كثير من الآباء!

وعندما نجلس معا في غرفة واحدة لا نتكلم كثيرا كلماتنا معا معدودة أننا نحدث بعضنا البعض دون أن نحرك ألسنتنا كلمة واحدة ينطقها تروي قصة طويلة احتاج ساعات لشرحها لشخص آخر سواه!

أن بيننا شيئا من لاسلكي القلوب نتبادل رسائل غير مكتوبة لا يفهمها أحد سوانا ولعل هذا هو السبب الذي جعلني أبكي وأنا أودعه

لقد شعرت أنه يريد أن يبكي فبكيت!

«مصطفى أمين»

هذا هو المقال الذي كتبته منذ عام والعجب أن أخي علي سافر إلى أوربا وافترق عني عشرات المرات ولم أفكر مرة واحدة أن أكتب في الجريدة عن هذا الفراق!

لماذا خرجت هذه المرة عن القاعدة ؟

هل عقلي الباطن كان يتوقع أن يطول الفراق هذه المرة سنوات وسنوات ولهذا بكيت

لا أعرف كل ما أعرفه أنني لم أبك كما بكيت في تلك المرة إلا عندما ماتت أمي!

الناس الطيبون

سجن الاستئناف .. 28 مايو سنة 1966

عزيزي...

تسلمت اليوم خطابك كنت أنتظره بفارغ الصبر فرحت به كثيرا كنت في أشد الحاجة إليه ولقد كان خطابا لذيذا رائعا كان أشبع بعدة نوافذ جديدة أطل منها بأبواب كثيرة أخرج منها إلى الحياة كان أشبه بسيارة تنطلق بها إلى رياضة نفسية وروحية بل كان أشبه ببساط سليمان الذين يتحدثون عنه في قصة ألف ليله وليلة شعرت كأنني فوق بساط الريح وأنت بجواري وقد انطلق بي إلى الماضي والمستقبل طاف بنا في قصة حياتنا حملنا إلى دنيا الخيال والجمال كنت سعيدا وأنت تأخذينني معك في هذه الرحلة الشائقة كيف كنا نعمل معا كيفي كنا ندق باب الخير والحب بأصابعك كيفي كنا نحاول أن نسعد الناس كل الناس نحاول بقدر استطاعتنا أن نجفف دموعهم ونشفي أمراضهم ونخفف آلامهم وكنت أشعر بلذة عجيب أيامها وأنت التي تحملين إليهم المنديل الذي يخفف الدمو ع أو أنك طاقة ليلة القدر تضيئين ظلام أيامهم وأكثر ما يشقيني اليوم أنني فقدت لذة من أكبر لذاتي في الحياة وهي محاولة إسعاد الناس محاولة أن أمد يدي إلى الغرفة في أمواج الأقدار كنت أرى السعادة سعادتي في الابتسامة في العيون التي كانت تملأها الدموع في أن أشعر أنني حملت عن بعض الناس بعض متاعبهم أردت أن أكون لو شعاعا صغيرا في ظلام يأسهم وقنوطهم وكنت أشعر أن كل ما أفعله أقل ما يجب أن أفعله، كنت أريد المال لأنفقه عليهم وأطمع في النفوذ لأخدمهم كنت أشعر كأنني مسئول عن كل معذب وكل مظلوم وكل يائس فإذا استطعت أن أقدم لواحد منهم خدمة رضيت عن نفسي وإذا عجزت شعرت بعذاب أكثر من عذاب اليأس والمظلوم!

وهذه اللذة الجميلة لا أستطيع أن أمارسها الآن ليس لدي إلا الكلمات الجميلة والكلمات ما هي إلا مراهم وقتيه تخفي الجروح ولا تزيل آثارها.

وكل ما أتمناه إذا كتب الله لي الفرج أن أستطيع أن أفعل للناس أكثر مما كنت أفعل هلم وكثيرا ما لامني بعض أصدقائي على الخير الذي كنت أقدمه ويقولون أن بعض من ينالون الخير لا يستحقونه ولم يكن يهمني هذا في شيء لم تكن لذتي في وفاء الذين أعطيهم ولكن كانت كل لذتي في أن أعطي وأن أساعد وأن أقف بجوار كل من اعتقد أنه يحتاج لمن يقف بجواره في محنته فأنا لم أتوقع من أحد ممن ساعدتهم أن يرد إلي الجميل أبدا أنني لم أفكر في هذا ولا أريده أنني حصلت على الجزاء الذي أطمع فيه بشعوري بالسعادة أنني فعلت شيئا وأضأت ولو شمعة في حياة مليئة بالسحب والظلام!

وأنا افتقد هذا الشعور هنا فأنا أشعر أنني أشبه برجل مؤمن لا يجد الماء الذي يتوضأ به ليصلي وقد كانت خدمة المحتاجين في نظري نوعا من أنواع العبادة والصلاة!

ولهذا أرجو أن يمنحني الله الفرصة لأعوض الصلوات التي فاتتني وأعطي الناس من الحب بقدر ما أعتقد أنهم يستحقون.

ويجب أن تتأكدي أن الدنيا مليئة بالناس الطيبين ولا يجوز أن نمشي في زاوية العميان فنتصور أن الأزهر كله من العميان أو نرى زنجيا في السويد فنتصور أن كل أهل السويد من الزنوج أن الأغلبية الكبرى من الناس الذين صادفتهم هم أناس طيبون أعطوني أضعاف أضعاف ما أعطيتهم وفي كل حياتي الطويلة رأيت ورودا أكثر كثيرا مما رأيت الأشواك وذقت من القبلات أضعاف أضعاف ما أصبت من الخناجر، ولولا الذين ساعدوني طوال حياتي لما استطعت أن أمشي في الحياة هذا المشوار الطويل فأنا مدين لألوف من الناس بعضهم أعرفه وأغلبهم لا أعرفه فالذي كنت أفعله هو أنني كنت أرد للناس بعض جميلهم وكنت أعطي شيئا تافها إلى جانب الأشياء العظيمة التي أعطوها لي فلهذا أقول لك أن من أكثر الأشياء التي أعجبتني فيك، سعادتك وحماسك وترحيبك عندما كنت أرسلك في مشوار لمساعدة شخص أشعر أنه يحتاج إلى مساعدة كان هذا الشعور منك يقربك كثيرا إلى قلبي كنت أجد في السعادة وهي تغمر عينيك لذة أكثر من وفاء عشرات الألوف من الناس وكثيرا ما أفرك هل سيوقفني الله بعد خروجي من السجن إن شاء الله لأساعد الناس كما كنت أفعل أنني أكره أن تكون حياتي بغير قيمة للناس أكره أن أكون متفرجا على آلامهم أو راثيا لهم أو اكتفي بأن أذرف الدموع حزنا على مصائبهم!

أنني أريد أن أكون دائما عصا يتوكأ عليها الذين لا يستطيعون السير أو منديلا يجفف دموعهم أو نظارة وردية يضعها اليأس على عينيه أو حلالا لمشاكل الأمهات اللاتي يتشاجرون مع أولادهن أو أزواجهن وأني في بعض الأحيان أغمض عيني وأتصور ونحن نجلس معا نقرأ مشاكل الناس ونحاول أن نجد لها حلولا ونفتح أذرعنا للذين توصد في وجوههم أبواب الحياة...

عبد الوهاب خائف

سجن الاستئناف .. أول يونيو سنة 1966

عزيزي..

كنت فقدت الأمل في أن أستطيع الكتابة إليك وأنني أس جدا أنني لم أكتب إليك قبل الآن، برغم محاولاتي الكثيرة في الكتابة لأنني أعلم أنك تحتاجين إلى مثل هذه الرسالة باستمرار للأطمئنان علي ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

فبعد أن كنت أتصور أنني أستطيع أن أكتب إليك باستمرار اكتشفت أن هذا أصبح من الصعب جدا بل أنه من المستحيل ولهذا أرجو أن تعذريني فإنني أعرف مقدار ألمك لأنني لم أكتب إليك وأعرف مقدار خيبة أملك، وأنت تنتظرين البريد كل يوم دون أن يصلك خطاب مني.

ولكن عزائي أنك تشعرين بي وأنه حتى ولو لم يصلك أي أخبار عني فإنك سوف تشعرين بكل ما أريد أن أقوله لك سواء كتبت أو لم أكتب.

وأنني أعرف أنك تنتظرين مني هذا الخطاب بفارغ الصبر ولكن ما باليد حيلة.

أنني أفضل ألا أخرج على النظام ولم يحدث منذ دخولي السجن حتى الآن أنني خرجت على النظام مرة واحدة ومع ذلك فإنني أتعرض للتفتيش الآن بكثرة غير عادية أحيانا في الصباح وأحيانا في المساء وبعد أن كانت أطعمتي لا تفتش أصبحت تفتش بعناية زائدة وحتى حقيبة الملابس أصبحت تفتش بدقة غريبة ومع أن النظام المعتاد أن يفتشوا الزنزانة مرة كل أسبوع أصبحت أفتش أحيانا مرتين في اليوم وأعتبر هذا عناية وعطفا بشخصي لا أستحقه!

إنني أشعر بأنني لم أرك منذ وقت طويل جدا وأشعر بأنني سيء الحظ لأنني لا أستطيع في هذه الظروف أن أتصل بك باستمرار وأن أقول لك أنني أحس بك كثيرا وأن متاعبي هنا لا تساوي شيئا بجوار ما أتصور أنه متاعبك وخاصة أنك تعرضت في المدة الأخيرة لأزمات متوالية.

أن كل ما أرجوه من الله هو أن يقوي أعصابك فإنك أثبت في هذه الظروف التي مرت بك أنك أكثر م بطلة وأرجو من الله أن يكون ما فات هو نهاية المتاعب وأن تشرق الشمس من جديد..

وأن إيماني بالله لم يتزعزع أنه يزداد ثباتا ويتضاعف يقينا وأنني مؤمن بأن نور الفجر سوف يقترب ولسوف يبدد كل هذا الظلام الذي نعيش فيه وأننا الآن ي نهاية العذاب وليس في بدايته.

لقد عشت هذين الأسبوعين في قلق قلق أكثير مما عشته طوال الشهور الماضية وكان الذي يقلقني أن أشعر أنك وحدك وأنني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى ولو أٌول لك كلمة مشجعة والآن أحدثك عن أخباري.

أن حياتي هنا كما هي لا تتغير فيها سوى الحر الشديد وارتفاع درجة الحرارة التي جعلتني أشعر أنني أقيم في خط الاستواء من حسن الحظ أنني وضعت الستائر في غرفتي وهذا جعل الجو في الزنزانة محتملا ويظهر أن الحل لارتفاع درجة الحرارة وأنني سأذهب إلى الحمام وأخذ دشا عشر مرات كل يوم وأعتقد أن هذا هو الحل السعيد لمواجهة ارتفاع درجة الحرارة!

وكلما ارتفعت درجة الحرارة أتذكر الأيام التي كانت تتعطل فيها أجهزة التكيف في شقتي في الزمالك وعشرات الأجراس التي كنت أدقها لسكرتيرتي لتتصل بشركة كولدير لإصلاح الجهاز وكأن من عادة التكييف عندي ألا يتعطل إلا عندما تشتد الحرارة ويصبح الجو قطعة من جهنم ولهذا فأنا أعتبر أن جهاز التكييف عندي في الزنزانة لا يشتغل وأن السكرتيرة أهملت الاتصال بشركة كولدير للقيام بإجراء التصليح أن نافذتي الصغيرة في الزنزانة هي جهاز التكييف!

وبعد أن كنت أتمشى ساعتين في ردهة السجن الخارجية أصبحت بسبب الحر الشديد أكتفي بالمشي نصف ساعة ثم أعود إلى غرفتي أتمدد على السرير ولسوء الحظ أن السجن رغبة في الاقتصاد أصبح لا يضيء الكهرباء إلا عند الساعة السادسة مساء والضوء في الزنزانة في الصباح غير كاف ومن المستحيل أن أستطيع القراءة في غرفتي قبل أن تضاء الكهرباء ولهذا أقرأ صحف الصباح بجوار نافذة في الدهليز وانتظر إلى أن يجيء الليل لأقرأ الصحف الأجنبية والمجلات والكتب.

وقد كنت أود أن أقول لك أنني أريد أن ينتهز أخي علي كل فرصة ليدافع عن وطننا.

أنني أحب بلدي برغم كل ما حدث لي لقد كنت أحبها في الماضي والآن أعبدها أن كل ما أصابني لم يزدني إلا عشقا لها وتفانيا في الإخلاص لها والإيمان برسالتها أنني أعطيت لبلادي كثيرا ومع ذلك أشعر أنني لم أعطها شيئا أنني أعطيت أحلى سنوات عمري وهي أعطتني مجدا ونجاحا وحبا أعطيتها كل ما أملك ومع ذلك أحسب أن كل ما أعطيته هو شيء قليل جدا وكل ما أسف عليه أن الظروف التي أدخلتني السجن حرمتني أن أخدم بلادي أكثير وأكثر ولا أقصد أنني سأعيش بقية حياتي محروما من خدمتها.

أني أريد أن أعطيها ما تبقى من دمي وحياتي ولا يهمني أين أخدمها أنني لا يهمني المكان الذي سأكون فيه كل ما يهمني أن أستطيع خدمة هذا البلد الذي أحبه.

وأنني أعزي نفسي هنا أنني محبوس بغير إرادتي ولكنني أمضيت طوال حياتي محبوسا في مكتبي كنت أحبس نفسي كانت تمضي سنوات وسنوات لا أذهب إلى السينما لقد كنت أسافر إلى الإسكندرية وأحبس نفسي في بيتي وأكتب وأكتب لأسجل تاريخ بلادي ولم أذهب يوما واحدا إلى شاطئ البحر كما يفعل الناس الذين يسافرون إلى الإسكندرية ولقد قلت لهيكل أنني أحس كأنني مكلف بعمل تحقيق صحفي عن السجون فالصحفي الناجح لا يكتب عن السجن من الخارج بل يدخل السجن ليقوم بالتحقيق الصحفي من داخله.

وأعود وأكتب إليك مرة أخرى أن الساعة الآن الثالثة والربع صباحا وصوت أم كلثوم ينبعث من راديو بعيد عن السجن وهي تغني الوصلة الثالثة من أغنيتها بعيد عنك حياتي عذاب أن الصوت يبدو بعيدا جدا كأن أم كلثوم تغني من وراء البحار ولا تكاد تصل الألحان ولا الكلمات ويظهر أن الصوت يجيء من قوة في الميدان بقرب السجن أو أن أحد الجيران أراد أن يشرك المسجونين في سهرته مع أم كلثوم وأسمع صوت حارسين في فناء السجن يتحدثان أحدهما يقول ماذا نعمل لو ماتت الست دي!

فيرد عليه الآخر ويقول: نموت وراها: وكلمات الأغنية تصل إلي كالهمبس فإذا مر أتوبيس أو سيارة في الشارع المجاور داس على كلمات الأغنية فماتت الكلمات!

ولم أستطع إلا أن أذكر كيف أنني كنت في المدة الأخيرة قبل القبض علي حريصا على الذهاب إلى حفلات أم كلثوم أجلس في البنوار وأعيش معها حفلاتها وأغانيها ويظهر أنني كنت أودعها ومازلت أجد لذة في أن أسمع هذه الأغاني وأتخيل السهرة والناس يصفقون ويهتفون ويستعيدون ولقد أصبح لكلمات الأغاني معان أكثر بلاغة مما كانت لها فإن الأيام تعطي للكلمات نغمات وكأنها ملحن جديد!!

وفي بعض الأحوال أشعر أن أم كلثوم تغني لي وحدي بلسان الذين يحبونني وأحبهم كأنها تبلغني شوقهم أو كأنني أبلغهم على لسانها حنيني اليهم وقد كنت أشعر أن أم كلثوم معي في محنتي سواء قال ذلك أم لم تقل ولكني كنت أضع اسمها على رأس الصديقات التي خرجت بها من الحياة وأنت في محنتك لا تحتاج للذين يمدون إليك يدهم بقدر احتياجك للذين يشعرون بك حتى ولو لم يفتحوا فمهم بكلمة عزاء..

ولقد قال لي هيكل:

أنه كانت هناك حفلة في يوم 23 يوليو بعد القبض علي بيومين وكان هناك عبد الوهاب وقال له الرئيس جمال عبد الناصر طبعا أنت زعلان علشان مصطفى؟ فقال عبد الوهاب أبدا يا فندم! المسيء يلقى جزاءه وأضاف عبد الوهاب أنه لم يكن صديقي إلا من مدة قليلة! وقال هيكل للرئيس أن عبد الوهاب كان يأكل عندي كل ليلة ولست أعرف إذا كانت هذه الرواية حقيقية أم تشنيعية من هيكل على عبد الوهاب ولكن الواقع أنها صورة كاريكاتورية له ولم أتضايق من عبد الوهاب لأنه قال هذا فإنني أتوقع ا،ه يقول هذا في مثل هذه الظروف وأنا أعذره إذا بادر بهذا الكلام دفاعا عن نفسه ليرد التهمة الظالمة بأنه صاحبي! وأنني أعتبر عبد الوهاب في قمة الشجاعة لأنه لم يشتم في!

أن عبد الوهاب بطبيعته خواف يرتعش من أي شيء ويذعر من خياله، فماذا يستطيع أن يفعل في جو الإرهاب الذي تعيش فيه البلاد لقد كنت أتوقع أنه سيقول للرئيس أنه لم يسمع باسمي قبل الآن!!

وفي الوقت نفسه جاءتني رسالة من أحد أصدقائي ذكر فيها حقيقة رد عبد الوهاب.. أنه قال لعبد الناصر «إما أن مصطفى مظلوم أو أنه أكبر ممثل» والتفت الرئيس إلى أم كلثوم وسألها رأيها هامسا فقالت له أنني أعرف مصطفى طول حياته وأعرف وطنيته وأعرف كيف دخل كل مليم في أخبار اليوم ولم ينقل لي هيكل ما قالته أم كلثوم وإنما نقله الصديق عن المشير عبد الحكيم عامر...

والناس كالنقود بعضها حقيقي وبعضها مزيف، وأحمد الله على أن الله منحنا نقودا حقيقية ولا مانع مطلقا أن يكون في جيبي عشرة جنيهات وبينها قرش تعريفة براني!

وأحمد الله أنه أعطانا قروشا كثيرة جدا من حب الناس وعطفهم وإحساساتهم النبيلة وهذا يجعلني أحب الناس أكثر مما أحببتهم في أي وقت من الأوقات وأحس بأن شعبنا طيب حقيقة ويستحق كل الحب وكل تضحية وكل إخلاص. وأحب أن أقول لك أنني متفائل وأنني أشعر بأن أسوأ الفترات قد مرت، وأن الفجر لابد أن يجيء فأنا أشبه براكب قطار أمامي خمس محطات للوصول المحطة الأولى هي الحكم والمحطة الثانية هي المستشفى والمحطة الثالثة هي الذهاب إلى بيتي والمحطة الرابعة هي السماح لي بالعمل والمحطة الخامسة هي اللقاء مع أخي ولست قلقا من أن المحطات كثيرة المهم أنني أشعر أن القطار يتحرك لا يقف ولكنني أعرف المسافة بين كل محطة أخرى!

وأنني أشعر أن الخمسين يوما القادمة هي التي سيصدر فيها الحكم واعتقد أن هذه الأيام سوف تمر بسرعة فقد مرت قبلها 316يوما ولقد أحسست أن الكتابة إلى أخي ليست سهلة فقد كتبت إليه قبل الآن خطابات طويلا ولكن الخطاب كان أشبه باستمارة صرف معاش من أحد دواوين وزارة الأوقاف، لابد أن يمر على خمسين إمضاء وقد انتهى الأمر بتمزيق الخطاب لأن المفروض ألا أكتب شيئا عن الحياة في السجن، ولهذا فإن أي خطاب سوف اكتبه إلى أخي سيكون خطابا رسميا جافا .. هو سؤال عن الصحة والمراد من رب العالمين ولا أعتقد أن أخي سوف يسر بمثل هذا الخطاب السخيف بل سيتصور عندما يصله أنني متضايق أو أنني تعيس ولهذا اكتب له هذا الخطاب السخيف ولقد فكرت أنه خير لي ألا أكتب إليه أن قيمة الخطاب في أن يصل ساخنا حارا، كالخبز الذي خرج من الفرن ولكن عندما تمر أيام على الخطاب وتتناوله عدة أيدي يتحول إلى خبر بايت!

ولقد شعرت من رسالتك الأخيرة.. أن أخي يتصور أن هناك مظاهر ضيق أشعر بها، والواقع أنني أسف جدا إذا فهم من كلماتك له أنني متضايق أبدا أنني أحمد الله على أنه أعطاني صبرا جميلا وإيمانا أجمل من الصبر أن حياتي في السجن محتملة وكل الذين معي في ذهول.

لقوة أعصابي ولثباتي ولإيماني العجيب بالله وتفاؤلي الذي لم يضعف لوم يتزعزع أبدا وأن لدي من التفاؤل ما يجعلني أوزعه على الألوف من الأشقياء التعساء الذين أراهم حتى أصبحت أشبه بسبيل أم عباس الذي كان يتوجه إليه الفقراء ليملئوا منه أوانيهم من المياه!

ولا أحمل هم نفسي أبدا أنني أحمل هم أخي، وهمك، وهم أصدقائنا أحمل هم الذين أحبهم ويحبونني والذي أشعر أنهم يتعذبون من أجلي ويشقون لابتعادي عنهم فأنا لست قلقا أبدا على نفسي أن كل قلقي عليكم وكلما سمعت أخباركم شعرت أن جزءا من الحمل الثقيل على صدري يخف ويتضاءل والذين معي في السجن يحملونني همومهم ومتاعبهم ومشاكلهم العائلية وأحزانهم ودموعهم وآهاتهم وأنا أتحملها بصدر رحب وأشاركهم فيها وأتعذب لهم ويسعدني أن أقدم لهم مرهما يخفف جروحهم ويقلل عذابهم وأجد سعادة وهناء في أن أفعل لهم ذلك وهمومي أنا أشعر أنني لا أحملها على رأسي، أنني أحس أنكم أنتم الذين تحملون هذه الهموم وتكادون تسقطون تحتها ولهذا فأنا أحس بآلامكم وأشعر بعذابكم ولا أكذب عليكم أو أخدعكم عندما أقول لكم أن حياتي هنا محتملة جدا أن كل يوم خير من سابقه ولكن عندما أحس أن أخي يحبس نفسه في غرفته أشعر كأنه يحبسني معه.

في بعض الأحيان أتصور أن المسجونين في السجن الصغير أسعد حالا من المسجونين في السجن الكبير!

فالهموم التي أحملها هي كيفي تعيشون؟ ولقد قيل لي اطمئن ولكنني لا أستطيع أن أطمئن بل أنني أخشى أنكم في رسائلكم القادمة معي سوف تكذبون علي، وسوف تقولون أن أحوالكم عال، بينما أنتم في الواقع في ظروف سيئة وجوه الزائرين في السجن صفراء كالحة وباء الإرهاب يشبه وباء الكوليرا أنا أشفق علي الذين يعيشون في رغب من دخول السجن فهم أسوأ حالا من الذين داخل السجن.

هذه هي الهموم التي أحملها فوق صدري أما هم سجني فهو أخف هذه الهموم وأقلها ألما.

أنني هنا كأنني في أخبار اليوم المسجونون تلاميذي وأبنائي وأصدقائي.

أننا نضحك كما كنا نضحك في سهراتنا يوم السبت والأربعاء مع أصدقائنا.

علمت نفسي أن أحب الزنزانة كما كنت أحب شقتي في الزمالك وأعني بها عنايتي بشقتي وطعامي هو هو وربما أحسن وقراءاتي هي هي، وأكثر وملابسي هي هي.

لا شيء ينقصني سوى أنتم!

ولا شيء سوى أنني أشعر أنني أصبحت من العاطلين بالوراثة فإنني الآن أكل دون أن أقدم عرقا ودما ومجهودا أنها أول أجازة أحصل عليها وصحيح أنها أجازة طويلة ولكنني أشعر بالإرهاق واحتراق الدم والأعصاب وهي المشاعر التي كنت أحس بها كل يوم وأنا أعمل طوال هذه السنوات التي اشتغلت فيها بالصحافة!

أنا الآن صحفي من منازلهم! أو صحفي من سجونهم! أحصل على الأخبار من الخطابات ومن الصحف أحللها وأدرسها أكتب الموقف السياسي بيني وبين نفسي!

ولكن حياتي ليست فيها مانشتات ولا أخبار مثيرة إن المنشيت يجيء مرة كل خمسة عشر يوما في الزيارة أو في خطاب يهرب إلي والخطابات أشبه بنوافذ أطل منا على الدنيا كلها...

والآن أترك راجيا أن يصل إليك هذا الخطاب بالسلامة وأقبلك من كل قلبي وإلى اللقاء.

الرقابة على الخطابات

سجن الاستئناف 10يونيو 1966

عزيزي .. أكتب لك من جديد للمرة الثالثة إن إرسال الخطاب تأخر، فلأنتهز الفرصة لأكتب إليك من جديد فمن يعرف متى أستطيع الكتابة إليك مرة أخرى . أن شعوري أن الكتابة إليك مقيدة تجعلني لا أستطيع أن أنطلق كما أريد.

لقد اعترضوا على الخطاب الذي كنت أرسلته لأخي، لأن فيه أسماء المسجونين، وتفاصيل عن حياتهم في السجن وهي كما يظهر أشيئا ممنوعة ولقد قيل لي أن هذا الخطاب تمزق وشعرت أن شيئا جميلا هو جزء من حياتي يتمزق وحاولت أن أكتب إلى أخي في حدود اللوائح والقوانين فلم أستطيع إلا أن أكتب له سوى جملة بعد السلام والسؤال عن صحتكم التي هي غاية المراد من رب العباد!

وأتصور أنهم أرسلوا خطابي إلى أخي للجهات العليا أنهم يريدون أن تكون الخطابات التي أرسلها بالطريقة الرسمي تافهة لا قيمة لها ولهذا يضطر المسجون إلى تهريب الخطابات!

ولقد عدت أقرأ خطابي لك من جديد وخشيت أن تتصوري من قراءته أنني متضايق وفكرت أن أمزق هذا الخطاب ولكنني فضلت أن أرسله لك وأقول أنه في لحظات قصيرة جدا أحس باليأس، ولكن لا يلبث أن يزول فإن إيماني بالله يطرد من قلبي جيوش الظلام ومن هنا فإن الدموع هي واحد في المائة من البسمات والضحكات فأنا لا أشعر بقلق أبدا إلا عندما تنقطع أخبارك، وعندما أقرأ خطابا من أخي أو من أصدقائي وصديقاتي أشعر طول اليوم بسعادة وكأنني كنت مدعوا إلى مأدبة فاخرة وسهرة من ألف ليلة وليلة! وأنا لا أريد أن أثق على أخي بالرسائل اللذيذة الطعم التي يرسلها فإنني أقدر ظروفه ولكني أرجو أن تبلغيه شكري عليها وفرحتي بها وأنها تسعدني كثيرا .

وقبل أن أنسى أن هيكل قال لي أنه سيعطي ريتا وصفية مرتب عام، من مرتبي في أخبار اليوم فأكون شاكرا لو سألتهم هل تم هذا وتذكير سكرتيرة هيكل بهذا الشأن. لأن شهر يونيو هو الشهر الذي أعتدت أن أدفع فيه للأولاد نفقتهم.

أني أكتب لك هذا والساعة الخامسة صباحا من صباح يوم الجمعة 10يونيو ترى ماذا تفعلين الآن؟ لابد أنك نائمة إن كل شيء هادئ حولي أن أحد المسجونين وهو محام عجوز، اعتاد أن يوقظ أحد المسجونين الذين يتلون الأذان ليقوم من نومه ويؤذن وهو يناديه باسمه حتى يستيقظ ثم يقول له أن الساعة الرابعة وأنه باق على الأذان 30دقيقة ويطلب منه أن يتعبد وتهجد حتى تجيء ساعة الأذان ثم يحدث أن تأخذ المؤذن نومة وتفشل كل المحاولات لإيقاظه فيتولى أحد المسجونين الأذان بدلا منه ويحدث أن تدخل مسجون طفيلي بين المكلفين بالأذان فيسبق المؤذن وفي الصباح تقوم خناقة عمن له حق الأذان والشروط التي يجب أن تتوافر في المؤذن، وأهمها ألا يكون مجنونا وألا يخاف من القطط والفيران!

وصاحبنا الذي يخاف من القطط والفيران يحاول جاهدا أن يدخل مستشفى وفي كل يوم يكتشف أنه مريض بمرض جديد مرة يقول أنه ينزف دما، ومرة ثانية أنه أصيب بشلل في ساقه ومرة ثالثة أنه مصاب بسرطان في الرأس والأطباء يعرفون أنه يدعي المرض ويصفون له الأدوية المناسبة التي تنتهي بأن يلازم دورة المياة باستمرار.

والسجن أشبه بسيارة أتوبيس مزدحمة كما يحدث في أزمة المواصلات ركاب يصعدون وركاب ينزلون ولا يكاد ينزل راكب حتى يتشعبط عشرة ركاب وهو مخصص للمسجونين تحت التحقيق أو الذين لم تصدر عليهم أحكام بعد ولهذا فإن الركاب قلقون، لا يعرفون مصيرهم، ولا يعرفون أي محطة سينزلون فيها.

وهو في الوقت نفسه أشبه بمحطة مصر فإنه مخصص للتراحيل يمر عليه المسجونون في طريقهم إلى السجون الأخرى في أنحاء الجمهورية ولهذا نحن نرى مساجين في طريقهم إلى أبو زعبل وطره، أو إلى سجن المنيا أو الزقازيق أو سوهاج.

وأغلب المتهمين هم متهمون في قضايا المخدرات وهم يمثلون أغلبية كبيرة من المسجونين وهم يقولون أن السجون الأخرى أنظف كثيرا من هذا السجن ويقولون أنه عربخانة وليس سجنا، ولكن ميزته أنه في وسط البلد، وأن المسجونين فيه هم دون سواهم الذين يتناولون طعامهم من بيوتهم وأن الزيارة فيه مرتان في الشهر فهنا يشعر المسجون أنه على اتصال يومي بالحياة في الخارج ولا يحس أنه منقطع عما يحدث وراء الأسوار من أحداث وأخبار.

ويجيء المسجونون إلى ويستشيرونني في قضاياهم، وفي ظروفهم وقد حدث أن جاءني موظف شاب مختلس وقال أنه اختلس ألف جنيه، وأنه سيقدم إلى قاض أعتاد أن يحكم على المختلس بسبع سنوات سجن مع الشغل وأن موظفا معه في العنبر حكم عليه بسبع سنوات لأنه اختلس 300 جنيه وقال أن كل دفاعه هو أن الشيطان لعب برأسه فسرق المبلغ!

قلت له أن هذا الدفاع لا يقنع أحدا وطلبت منه أن يروي قصته كاملة وإذا بقصته هي أن والده يبلغ من العمر 65سنة كان يشتغل ممرضا، وعند إحالته للمعاش ظهر أن عهدته ناقصة، لأن الأطباء الذين كانوا في المستشفى كانوا يأخذون أدوات المستشفى ولا يعيدونها وقدرت وزارة الصحة الأدوات الناقصة بمبلغ 600 جنيه وخشي الابن على أبيه فاختلس المبلغ ليسدد هذا العجز وينقذ والده الذي بنفق على زوجته وسبعة أولاد.

فقلت له: يجب أن تقول هذه الحقيقة أمام القاضي.

قال: ولكني أخشى على والدي.

قلت: أن هذا لن يضر والدك فهو محال إلى المعاش.. وأقنعته بأن يقول للقاضي الحقيقة التي أخفاها.

وما كاد يسمع المستشار القصة الحقيقة حتى تأثر كثيرا وحكم عليه بثلاث سنوات مع السجن البسيط، وقد أمضى منها في السجن حوالي السنتين وسوف يفرج عنه بعد بضعه شهور.

وقد جاءني بعد الحكم وهو يحاول أن يقبل يدي ويقول لولا نصيحتك لرحت في داهية أنني لن أنسى لك هذا الفضل مدى الحياة.

ولقد فرحت بأنني استطعت أن أمد يدي لإنقاذ غريق!

قلت له أن الحقيقة هي طريق النجاة.. ولكنها كذلك أمام القاضي العادي لا أمام الفريق الدجوي!

وهكذا ترين أن حياتي مليئة أن مآسي الناس ومشاكلهم تحتل أغلب وقتي وحتى أصبح يومي لا يتسع للتفكير في مشكلتي وأنا أحس بسعادة عندما أستطيع أن أخفف عذاب واحد من هؤلاء المعذبين وأن أقدم نصيحة أو رأيا، أو كلمة طيبة لمظلوم أو ضحية من ضحايا المجتمع.

ومن المشاكل التي عرضت علي أن أحد زملائي المتهمين كان عريسا مدة 28 يوما قبل القبض عليه ثم مضت عليه أكثر من عشرة شهور في السجن وهو ليس لديه مرتب تعيش منه زوجته وقد أرسلت إليه تطلب الطلاق لأنها لا تستطيع أن تعيش جائعة بعد أن باعت كل شيء تملكه.

وقتل له أن زوجته معذورة ..أنه أعطاها 28 يوما من السعادة، وأعطته هي 280يوما من الوفاء والصبر فلا يجوز له أن يلومها أو يحقد عليها بل عليه أن يقول لها أنها انتظرت عليه أكثير مما يجب أن يحاول مقابلتها ليشكرها لا ليلعنها كما يريد أن يفعل!

وسمع المسجون نصيحتي وقابل زوجته بهذه الروح وما كادت تسمع حديثه حتى قالت له أنها عدلت عن طلب الطلاق وعاد إلى يرقص! إن الكلمتين الحلوتين اللتين قالهما لها كانتا أشبه بزجاجة من أكسير الصبر أسكرتها وقلت له أنها بعد أن سمعت هذه الكلمات سوف تقاوم، وسوف تبحث عن عمل وسوف تبقى تنتظره 28 شهرا أو 28سنة! هذه الأشياء الصغيرة تملأ حياتي سعادة وأملا أنني كلما رأيت ابتسامة على شفتي يائس أشرع أنني أنا السعيد .فالسعادة مرض «معدي» كالشقاء تماما!

بعض أصدقائي لا يعجبهم أنني أقاوم الظلم بالهمس يقولون أن الرسائل التي أهربها إلى هنا تصل إلى عدد محدود جدا من الناس وبعض الذين يتلقون رسائلي لا يجرؤون على الهمس بها أنا أعذر الخائفين الراجفين المرعوبين. الإرهاب قوي وهم ضعفاء البطش عملاق وهم أقزام ومع ذلك سوف أستمر أهمس بالحقيقة حتى ولو همست وحدي همسة المظلوم اليوم قد تضيع في زئير الظالم ولكن الحقيقة سوف تتوالد مع الأيام وسوف يصبح الهمس رعدا الذين يتوهمون أنهم يحاربون الظلم بالاستسلام يخطئون الطوبة في يد المظلوم أقوى من المدفع في يدي الظالم أنا شخصيا خلقت لأقاوم لذتي في أن أقاوم حياتي في أن أقاوم والذين يخافون علي من المقاومة ويخشون أن تضبط رسائلي التي أتحدث فيها عن المظالم والتعذيب والتلفيقات التي تعرض لها زملائي هنا، لا يعرفون أن الموت عندي أهون من الاستسلام ماذا سوف يفعلون بي أكثير مما فعلوا!

سيقتلونني هنا، ويقولون أنني حاولت الفرار كما فعل حمزة البسيوني في السجن الحربي بكثيرين أنا لا أخاف أن أموت كل ما أخشاه أن تموت الحقيقة لا أستطيع في زنزانتي أن أنسى أنني صحفي ومهمة الصحفي أن ينشر الحقيقة وسوف استمر أزاول مهنتي حتى ولو كان لي قارئ واحد الذي يسعدني أن عددا من الأجهزة يراقبني في السجن التعليمات تقول أنه يجب التضييق علي والتشديد علي ومراقبتي بالليل والنهار!

بعض الضباط يتصور أنه سيترقى إذا ضبط رسالة مهربة مني أو رسالة مهربة إلى ومع ذلك استطاع الله أن يطمس عيون كل هؤلاء فلا يروا وأن يغلق عقولهم فلا يتصوروا ماذا يستطيع أن يفعل الكاتب إذا وضعوه داخل زنزانة ألم أقل لك أن الله معي؟

الحقيقة المسجونة

سجن الاستئناف في 18 يونية سنة 1966

عزيزتي .. لم أكتب لك من وقت طويل أنني أتصور أنه مضت على عدة أشهر لم أحدث إليك ولكن ما باليد حيلة كما يقولون أو أن العين بصيرة واليد قصيرة فإن يدي لا تستطيع أن تمتد خلف الأسوار لتحمل لك هذه الرسالة ومن أقسى الأمور علي الكاتب أن يكتب وهو لا يعرف هل ستصل الرسالة إلى المرسل إليه أم لا فإن حالي الآن يشبه حالي عندما قامت الحرب العالمية الثانية وأعلنت الرقابة وأصبحت أجلس في مكتبي بآخر ساعة لأكتب مقالاتي ولا أعرف هل ستصل إلى القراء وترى النور أم يقرأها سوى الرقيب وأذكر أنني في تلك الأيام ضقت بهذا الحال وفكرت في اعتزال الصحافة ولكني لا أستطيع أن أعتزل الكتابة إليك .. فأنا أريد أن أكتب إليك وأن أكتب كثيرا ولكني أشعر أن يدي ليست طليقة فهناك موضوعات محرمة على الكتابة فيها محرم علي أن أكتب عن زملائي في السجن ومحرم أن أكتب عن نظام السجن.. ومحرم أن أكتب اقتراحات لتحسين السجون كل شيء محرم سوى إرسال ما أيد من التحيات والأشواق وأن صحتي على أحسن ما يرام بينما أنا أحب أن أفتح لك صدري أن أذكر كل شيء عن حياتي هنا. لأنني أعرف مقدار شوقك أن تعرفي كل شيء!

وهكذا عندما أجلس لأكتب لا أكاد أخط سطرا حتى أكتشف أنني أخرج على التعليمات فأعود وأمزق الورقة وأن أبدأ من جديد فأنا مثلا لا أستطيع أن أكتب لك أن أحد زملائنا هنا أصيب بالتيفويد ولكن الأطباء مكثوا شهرين يعالجونه على أنه مصاب بالإنفلونزا، إلى أن أكتشف المستشفى أنه مريض بالتيفود فنقل إلى مستشفى الحميات وعلى الأثر أصبت بحالة ذعر! فإن المريض كان يحضر إلى غرفتي ويجلس على سريري وأذهب إلى غرفته وأمشي معه في الدهاليز ولكني أمسك الخشب لقد مر حوالي أسبوعين على اكتشاف المرض ولم أشعر بشيء!

هنا يريدون أن يضعوا خطابات المسجونين في زنزانات يصنعها الخوف والرعب يريدون أن يقيدوا كلمات المسجون بسلاسل وأغلال خشية أن تهرب الحقيقة إلى خارج السجن فيعرف الناس حقيقة المظالم التي يتعرض لها المسجون السياسي في بلادي.. أنهم هنا لا يخافون من القاتل أو رئيس عصابة اللصوص أو سفاك الدماء هؤلاء هم في بلادنا أعداء القانون أما نحن المسجونين السياسيين فأعداء الدولة والدولة في بلادنا أهم من العدالة ومن القانون أنهم يذعرون أن نخرج الحقيقة إلى الناس فيعلم الناس عن الجرائم التي ترتكب في التحقيق والمذابح التي تحدث في السجون والعدالة التي تداس بالأقدام وهم يتصورون أنهم بالتضييق على خطاباتنا سوف يمنعون الحقيقة أن تخرج للناس وتوقظ النائمين وتنبه الغافلين وتفتح عيون الحالمين، ولكني مؤمن أن الحقيقة سوف تخرج إلى الناس مهما طال حبسها في زنازين الإرهاب ولقد امتد التضييق إلى أتفه الأمور كل شيء أصبح هنا سرا حتى اسم الحارس.

أنا مثلا لا أستطيع أن أٌول لك أنه قيل لي من شهر أنني سأنقل من هنا خلال عشرة أيام ومرت عشرة أيام وعشرة أيام وعشرة أيام، ولم يحدث شيء ولكني أعرف أن حبال الصبر طويلة ولعلك تذكرين أننا كنا عندما أخرجنا من أخبار اليوم في نهاية 1960 نتصور أننا سنعود إلى أخبار اليوم بعد شهرين فلم نعد إليها إلا بعد 16 شهرا، ومع ذلك فإنني لست متشائما، مازلت أتصور أن سببا سيحدث قبل 23 يوليو، أو لمناسبة 23 يوليو، وأن التصديق على الأحكام سوف يتم في حوالي ذلك التاريخ فإذا لم يحدث هذا فمعنى ذلك أن الموقف سيبقى كما هو إلى ما بعد فصل الأجازات.

ولقد تذكرت حديثك لي في الرسالة الأخيرة من أن حماة فائق السمرائي قالت أنه متفائل جدا وأن تفاؤله انتقل إلى قلبك، وأن أقابل كل هذا التفاؤل بحذر لأن العدالة في أجازة ولم تعد من أجازتها بعد ..وأنني أضيع أغلب الوقت في القراءة وأقرأ الآن مذكرات ديجول، وانتهيت من قراءة مذكرات طبيب تشرشل، وانتظر بفارغ الصبر مذكرات ماكميلان ولقد خطر ببالي أن أملأ وقتي بكتابة مذكراتي ولكن عدم الاستقرار وعدم تمتعي بحرية الكتابة وعدم وجود مراجع جعلني أعدل عن الفكرة وقد فكرت أن أكتب بعض القصص ولكني عدلت للسبب نفسه،

وأتصور أن أصدقائي خارج السجن يتصورون أنني سأخرج من السجن أحمل عشرات الكتب والقصص والمذكرات وسوف يصابون بخيبة أمل عندما يعرفون أنني لم أكتب سوى خطابات وفي بعض الأحيان أشعر أنني نسيت الكتابة ولكن كثرة الموضوعات والأفكار التي في رأسي تطمئني إلى أني ما زلت كما أنا.

ولقد بدأ موسم الصيف في السجن وفي هذه الأيام اعتدت أن أتستأجر بيتا في الإسكندرية وقد رأيت أن من المناسب تحويل زنزانتي إلى مصيفي ولهذا أجريت تعديلا فيها فأرسلت معاطفي إلى البيت ودهنا حائط الزنزانة بالجير ووضعت البطاطين تحت المرتبة فأصبحت مريحة من ذي قبل. وعدلت عن أن استحم في الغرفة فأصبحت أخرج في الصباح واستحم في الحمام العمومي وكنت أخجل من أول الأمر أن أقف عاريا ويدخل المساجين ثم لم ألبث أن تعودت على هذا وأتبادل الحديث مع المسجونين ونحن تحت الدش أو هم في التواليت وكل هذا يجري في غرفة واحدة وأطلقت على اسم الدهليز الداخلي في السجن أمام الزنزانات اسم «الكورنيش» وأصبحت أمشي على هذا الكورنيش باستمرار وأتخيل أن الزنزانات هي أكشاك الاستحمام وأن المساجين أنصاف العرايا هم السابحات الفاتنات على البلاج!

ويظهر أن المسئولين في السجن قرروا الاحتفال بقوم فصل الصيف أيضا فقد قيل لنا أنه صدرت التعليمات بأن تمنع فسحة المسجونين السياسيين في حوش السجن الخارجي لأن أهالي المساجين يروننا أن تكون الفسحة في حوش خلفي مخصص للزبالة وهو حوش صغير جدا يمشي فيه الذباب على هيئة استعراضات وهذا ما يجعلني أتصور أنني لن أنزل في الفسحة أبدأ ولن أتضايق من هذا فإني بسبب الحرارة الشديدة أصبحت أختصر سيري في حوش السجن من ساعتين إلى نصف ساعة وأنا أعزي نفسي بأن هذه التضيقات الصغيرة هي دليل على أن الفرج قريب وأحمد الله أنني أستطيع دائما الإلمام بين نفسي وبين التغييرات الاضطرارية فأستطيع بذلك أن اضحك وأحلم وأتخيل وأتفاءل وفي بعض الأحيان أقول لنفسي الحكمة التي تقول «لو أطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع» وأعزي نفسي بأن أقول ربما أن هذه الحياة التي أعيشها هنا هي أحسن كثيرا من الحياة في سجن آخر . فأنا أعيش الآن في مفترق طرق وقد تجيء يد وتدفعني إلى الحياة أحسن أو تجيء يد وتدفعني إلى حياة أسوأ ولكني مع ذلك أعتقد وأتصور أنه حتى لو حدث أسوأ الأمور فإن هذا سيكون شيئا مؤقتا وأن النهاية المؤكدة، أن الفجر سوف يجيء بعد الظلام وهذا الإيمان المطلق يجعلني أحتمل أي شيء ولا تصدمني الصعوبات أو التعليمات المشددة.

ومن الطريف أنه حدث في هذا الأسبوع حادث طريف فقد طلبت مقابلة المأمور فعلمت أنه في الخارج وعندما عاد من الخارج أرسل في استدعائي وجاء الحارس يطلبني لمقابلة المأمور وما كاد زملائي في الدور يعلمون بهذا حتى أصيب بطونهم بالمغص والإسهال لقد تصوروا أن الأحكام صدرت وأنني استدعيت لإبلاغي حكمي، لأن قضيتي هي الأول وبعد أن انتهيت مقابلتي للمأمور صعدت وأنا أبتسم فلما رأوا ابتسامتي أخذوا يصرخون: براءة براءة وعندما أخبرتهم بالحقيقة لم يصدقوا وتصوروا أني أخفي عنهم الخبر!

وكلما أزداد الجو حرارة وطالت المدة تكهربت الأعصاب ولكني أحمد الله أن أعصابي بشهادة الجميع لا تزال أقوى الأعصاب وأنني قادر أن ابتسم وسط هذه الكآبة وأن أنقل تفاؤلي إلى قلوب كثيرة هزها السجن، وحطمتها الوحدة، وعصرها القلق.

والرسائل التي أتلقاها منكم أعيش عليها حتى تجيء الرسالة التالية وأشعر بألم أنني لا أستطيع أن أكتب لكم ردا على كل رسالة ولو كان الأمر بيدي لكتبت إليكم في كل يوم ولني أجد كأن خطاباتي فاضية لا شيء فيها لا ترد على أسئلة ولا تحمل أخبارا جديدة لقد سررت كثيرا عندما علمت أن إحسان عبد القدوس عين رئيسا لأخبار اليوم ومع أن أخبار الصحافة تصل إلي باتنظام إلا أنني أتسطيع أن أعرف أخبارها من قراءة الصحف وقد فهمت من هذه التعيينات وتعيين ناصر في الأهرام أم مسائل الصحافة كانت موضع بحث وكنت أتوقع تعيين رئيس تحرير جديد لآخر ساعة ولكنه فضل أن يكون رئيس تحرير أخبار اليوم وأرجو أن يكون بعد هذه التغييرات بداية نهضة في صحافتنا فإنني لا أزال أشعر أنها في حاجة إلى دفعة قوية وأنه يجب أن تتحرك إلى الأمام ولقد ذهلت لأنني أقرأ أشياء هامة في الصحف الأجنبية ولا أجد في صحفنا شيئا منها ولكني أعتقد أنه مع الوقت سوف تنتصر صحافتنا على هذا الجمود وهذا الكسل!

صحافتنا في حاجة إلى الحرية أكثر من حاجتها إلى الحبر والورق كان المحرر يكتب في الماضي وهو يتجه إلى الشعب أصبح الآن يكتب وهو يتجه إلى الحاكم الشعب كان يستطيع أن يرفع مرتب الكاتب بإقباله على ما يكتب ويخفض مرتبه إذا انصرف عنه، أصبح الحاكم الآن هو الذي يعين الصحفي ويرفته، هو الذي يختار رؤساء التحرير هو الذي يحكم على الكاتب بالحياة أو الموت ولقد كانت عندنا جريدة «وقائع رسمية» واحدة والآن أصبح عندنا أربع جرائد تشبه «الوقائع الرسمية» بأسماء مختلفة أن الذين أطفأوا الأنوار في شارع الحكم تصوروا أنهم بهذا الظلام الذي نشروه جعلوا الحاكم حرا يفعل ما يشاء بغير رقيب، وأنا أعتقد أنهم أرتكبوا في حقه خطيئة كبرى أن هذا الظلام سيؤدي به إلى الاصطدام أو إلى الوقوع في «الحفر» التي لا يراها في الظلام ولن يضيئوا الأنوار قبل أن يسقط الحكام في الحفرة!

وإلى اللقاء

إرتفع مستوى السجن

سجن الاستئناف في 7 يونيو سنة 1966

عزيزي ..

عندما تصلك هذه الرسالة يكون قد مضى علي في السجن حوالي العام أن الأحداث التي مرت بي جعلت هذه الحياة تمضي بسرعة ولكني أحمل همكم أنتم! أنتم الذين قطعتم هذا العام في ألف عام أن المشوار سوف يطول فبعد يوليو شهر أكتوبر أو نوفمبر وعلى كل حال فمهما حدث فإنني أستطيع الاحتمال ومستعد لأسوأ الاحتمالات والفروض وإيماني بالله لا يتزعزع بل أنه يزداد يوما بعد يوم وكل الذي أتمناه أن يمنحكم الله قوة احتمالي وقوة إيماني فأنني أحمل همك أضعاف ما أحمل همي، وأن ثقتي بأن الله لن يتخلى عنا تجعلني مطمئنا كل الاطمئنان إلى المستقبل مؤمنا بأن الغد سوف يحمل لنا السعادة والحرية.

وكلما ضاقت الأمور داخل السجن أحسست بأن الفرج يقترب فكلما اشتدت الأزمة انفرجت ولكما أظلم الليل أقترب موعد أذان الفجر ولقد حدثت تغييرات في نظام السجن فبعد أن كانت الزنزانة تترك مفتوحة من الصباح إلى الساعة السادسة بعد الزهر أصبحت تغلق على المسجونين السياسيين أغلب الوقت وبعد أن كنا ننزل إلى ردهة السجن الخارجي ساعة ف صباح كل يوم أصبحنا ننزل نصف ساعة في الصباح ونصف ساعة بعد الظهر في ردهة خلف السجن مخصصة للزبالة ونفتش كل مرة عند دخولنا في الفسحة عند خروجنا من الفسحة وبعد أن كانت غرفنا تفتش مرة في الأسبوع أصبحت تفتش مرة كل يوم وأحيانا تفتش مرتين في اليوم وقيل في تبرير تفتيشنا قبل الفسحة أن بعض المسجونين السياسيين أعطوا خطابات لبعض الزائرين في أثناء الفسحة ولقد تعودت أن أحترم التعليمات ووضعت لنفسي قاعدة وألا أعترض على أي شيء فما دمت لم أعترض على السجن فلا يجوز أن أعترض على تعليمات السجن فالذي يصاب بالسرطان لا يجوز له أن يشكو من دمل أو فسفوسة أو جرح أثناء الحلاقة!

وبعد ذلك سمعنا أن هناك اقتراحا بنقلنا من سجن الاستئناف إلى سجن القناطر وعجيب سجن القناطر أنه سوف يكون بعيدا والعيب الثاني أننا عرفنا النظام هنا، وعرفنا المسئولين وطباعهم، وتعدنا عيهم وتعودوا علينا ولكن يقال أن سجن القناطر أوسع كثيرا من هذا السجن وبه حدائق وفيه حوش للعب الكرة وصالة للسينما ومكتبة ويقال كذلك أنه أنظف من هذا السجن الذي كان يشاركنا فيه إلى وقت قريب مسجونون التسول فقد كان البوليس يجمع المتسولين ويضعهم هنا وكان عددهم يصل إلى المئات ويكونون الأغلبية بين المسجونين.

ولم يتقرر بعد شيء في شأن هذا الاقتراح وسوف تظهر نتائج هذا الاقتراح في خلال أسبوع أو أسبوعين وأني آمل أن يتقرر نقلي إلى المستشفى قبل أن يتقرر النقل إلى سجن آخر وكفى الله المؤمنين شر السجن الثالث!

وأن الحر الشديد بدا يدخل إلى الزنزانة وأصبحت أغرق في عرقي ولهذا فإنني استبدل بيجامتين في الليلة الواحدة ولكن بقي يومان في شهر يونيو وسيبقى 60 يوما بعد ذلك في الصيف وممكن احتمالها كما احتملنا الأيام الماضية والحديث عن الحر وازدياد الحر يضيف موضوعا إلى مواضيعنا التي قتلناها بحثا من كثرة التكرار ويمكن أن نعتبر الحر نوعا من التغيير في حياة مملة لا تتغير أبدا ومع ذلك فإن اليوم يمضي بسرعة فإن لدي أشياء كثيرة أقوم بها وأشخاصا كثيرين أتحدث معهم وقد أرتفع مستوى السجن بسبب كثرة عدد الموظفين ومديري الشركات وأعضاء مجالس الإدارة الذين يدخلون السجن الآن!!

وأني آسف على أنني لا أستطيع الكتابة لك بانتظام أن الكتابة ليست سهلة أنها مليئة بالتعقيدات واشعر أن كتابتي لك تمر بكثير من الأيدي ولهذا عندما أجلس لأكتب أشعر كأن يدي مقيدتان لا تستطيع يدي أن تنطلق وتكتب عشرات الصفحات كما تريد أن تفعل وتتمنى ولكني مع ذلك أشعر أنه سيرضيك أن أكتب لك ولو سطرين والسطران يساويان كتابين كاملين فلقد عودتني أن تعرفي شعوري وإحساسي دون أن أفتح فمي ولكني يهمني أن تعلمي أن حالتي طيبة ونفسيتي طيبة وإيماني قوي واعتقادي لا يتزعزع بأنه لابد أن هناك حكمة الهية وفائدة حقيقية في الظلم الذي وقع علي فكل يوم يمضي يزيدني اعتقادا بأنني خدمت بلدي وأنني قدمت لها خدمات أكثر مما هو مطلوب مني كمواطن وقد تكون هذه هي غلطتي الوحيدة وكلنني أحببت بلادي لدرجة أنني شعرت أن واجبي أن أقدم لها أكثر مما تطلبه مني وكنت أتعذب عندما أرى ألوف الناس يتفرجون ولا يعملون شيئا لها وأعجب لهؤلاء الذين يجلسون على الشاطئ ولا يمدون أيديهم لبلادهم في أثناء العاصفة فإذا كنت غرقت وأنا أحاول أن أقدم مساعدة لبلادي فهذا شيء لا يضايقني بل أنني أسف أن ليست لي أكثير من حياة واحدة أقدمها لبلادي ما أشبهني برجل رأي المرأة التي يحبها تتعرض للغرق فألقى بنفسه في البحر لينقذها وبينما هو يحاول أن يحملها على ظهره مست يده ثوبها فقدموه إلى المحاكمة بتهمة فلعلني فاضح ونسوا أنه عرض حياته للموت من أجل إنقاذها.

ولقد وصل إلى هنا أحد موظفي شركة الاسوشيتدبرس وهو متهم باختلاس مبلغ 40 ألف جنيه، وكان يعمل مديرا للشركة ويقول أن كل الصحفيين الأجانب الذين كانا يترددون على الوكالة كانوا يقولون أنهم متأكدون أنني برئ ولقد سررت أن هذا هو شعور الرأي العام الأجنبي بعد أن عرفت أن الرأي العام في بلدي يؤمن ببراءتي ومهما حدث فإن الذي يهمني هو التاريخ أنني لا يهمني أقوال رجال السلطة ولكن الذي يهمني أن يقول التاريخ الحقيقة كاملة وأرجو أن تكتبي ذات يوم هذا التاريخ أو أن تعيشي حتى تقرئي ما يقوله التاريخ وأنني أتصور بغير غرور أنه ستظهر في يوم من الأيام كتب بعدة لغات ستذكر قصتنا وتنشر تاريخنا وهذا عندي يساوي أن أسجن أنني أشعر أنني تمتعت بحياتي كما لم يتمتع بها أحد حققت انتصارات لم يحققها أحد قدمت لبلادي خدمات لا يتصورها أحد ولقد حرصت دائما أن أكتمها ولا أفاخر بها ولا أتحدث عنها، ولهذا فإنني مطمئن أن التاريخ سوف يتحدث عما لم نتحدث عنه سوف يتحدث عن دورنا في تأييد ثورة 23 يوليو كيف حاربنا التدخل البريطاني للقضاء على الثورة كيف وقفنا مع عبد الناصر في أزمة مارس كيفي قمنا بدور هام في مفاوضات الجلاء الأولى ومفاوضات الجلاء الثانية كيف لعبنا دورا في تأليب الرأي العام ضد ها العدوان كيف قام أخي باتصالات مع حزب العمل البريطاني ليقاوم العدوان كيفي قمت بجهود ضخمة من أجل المعونة وعشرات المواقف الأخرى المعروفة والمجهولة فإذا نسيها الجيل الحاضر أو تناساها فإن التاريخ لا يمكن أن ينساها أو يتناساها.

لقد تصورت أنني أخدم بلادي بالاتصالات التي كنت أقوم بها بأمر الرئيس لم أذع سرا واحدا ائتمنت عليه ويكفي أننا عرفنا سر تأميم قناة السويس قبل إعلانه بأيام لوم يعرف به مخلوق . أنا وعلي أمين والدكتور سيد أبو النجا.

التليفونات لا تدق

سجن الاستئناف .. في يوم الثلاثاء 28 يونيو سنة 1966

عزيزتي...

الظلام يودع النور كأنهما يتعانقان في حب وحنان وأتطلع من نافذة السجن إلى السماء فأرى النجوم تتلاشى وتغيب بعد أن سهرت طوال الليل تحرسنا لقد جاء دورها لتذهب وتنام تحمل معها دعواتنا وأحلامنا وزفراتنا وتنهداتنا وأشعة الشمس الأولى تتساقط على الأرض والأرض تشرب هذا الشعاع بلذة وباسترخاء وببطء وتمهل كأنها شفتا شارب خمر يستطيب طعم النور في نشوة وكأنه لا يريد أن يفيق ويرتفع صوت المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة ويؤذن قلبي يدعوني للكتبة إلى من أحب فالكتابة إلى الحبيب نوع من الصلاة والدموع التي يسكبها المسجونون أشبه بالضوء والزفرات والتنهدات هوي دعوات صامتة في معبد الحب وكما أن الصلاة شيء مريح جميل، يهدئ أعصاب المؤمن يزيل اضطرابه ويحمل فوق السحاب يبعده عن لعنة الأرض ومتاعبها فإن الكتابة للمحبين تريحهم وتهدئ أعصابهم وتزيل اضطرابهم وتحملهم إلى عوالم جديدة من الأحلام وكما أن الطفل عندما يحس الرعب من الوحدة يجري نحو أمه ويدفن رأسه في حجرها فإن العاشق في حيرته ووحدته يسرع إلى الورق يدفن فيه رأسه ويشعر في هذا الورق الذي يكتبه إلى الحبيب بنفس الراحة والهناء والاطمئنان الذي يشعر به الطفل وهو يضع رأسه في حجر أمه.

إن هذه اللحظة من الفجر صامته ولكن القلوب تتكلم فيها أكثر مما تتكلم في النهار والليل.

أنها لحظات لذيذة حزينة تصل فيها الذكريات والأحلام كأنها مطار في لحظة زحام طائرات تهبط وطائرات تطير فالذكريات هي هبوط على الأرض الأحلام هي صعود إلى السماء وفي اللحظات هذه أحس في قلبي بنفس الحركة التي نجدها في المطار...

أفكار تدخل وتخرج وتصعد وتهبط وتصل وتطير وبعض الأفكار لا تعرف بعضها كالمسافرين وبعضها تحمل أثقالا كالحمالين وبعضها أشبه بمهربات تفلت من جمرك الواقع وبعضها تتوقف لحظات للتفتيش!

وفي بعض الأحيان أقارن حياتي بين الماضي والحاضر الدوامة التي كنت أعيش فيها والهدوء الذي أقيم الآن فيه التليفونات التي لا تكف عن الرنين.

كان علي مكتبي خمسة تليفونات ومع ذلك لم تكن تكفي واليوم مضي على حوالي العام لم أسمع رنين جرس التليفون لقد كنت في الماضي أتوسل إلى الأجراس أن تتركني خمس دقائق في هدوء واضطر إلى رفع السماعات حتى أستطيع أن أفكر والآن رفعت السماعات كلها وأصبح لا عمل لي إلا التفكير والتفكير شيء مضن ومرهق ومتعب ولكن أحمد الله أنني لا أحمل على رأس الآن سوى همومكم وهمومي بعد أن كنت أحمل على رأسي هموم البشر أجمعين كنت أشعر أنني محاصر بالأحداث لا أستطيع أن أفلت منها كنت سجين عملي كنت أحلم بعملي طوال الليل واستيقظ فزعا خشية أن أكون تأخرت عن موعد الذهاب إلى مكتبي أو أن شيئا حدث في الليل دون أن تعرفه الجريدة وتسبق به وكنت أجري إلى مكتبي لأوقع على ساعة أخبار اليوم مع العمال وأنا رئيس مجلس الإدارة الوحيد الذي كان يوقع على الساعة وأنا اليوم أستطيع أن أنام كما أريد أن أتمرغ على فراشي طوال الليل والنهار لأول مرة أصبح لدي الوقت الذي أفكر فيه في نفسي وفيمن أحبهم كانت تمضي الشهور وربما السنوات وأنا ناس نفسي لعل القدر أراد أن يعاقبني لأنني أجرمت في حق نفسي وحق من أحب أو أنه يعوضني عن هذا النسيان فأعطاني كل هذا الوقت الطويل ووضعني مع نفسي في زنزانة واحدة ولكني أشعر بالشقاء في انفرادي بنفسي وبمشكلتي أشعر أنني أشبه بشخص سجن في غرفة المرايا هي حريته والطعام هو طعامه والمستقبل هو أمله في الخروج من السجن وهكذا أحسن كان الدنيا ضاقت حتى تحولت إلى زنزانة وإن سكان العالم انقرضوا حتى أصبحوا واحدا كأن الدنيا بدأت بآدم وانتهت بآدم وحده ولكن روحي تغافل حراس الزنزانة وتنطلق منها إلى العالم الواسع فإنني أسمع تليفونات مجهولة تدق باستمرار.

أرى الناس الذين أحبهم أفكر في مشاكلهم أسعد لانتصارات بلادي وكأنني أشارك فيها أتعذب مع عذابها وأفرح لأفراحها واحترق عندما أقرأ عن حريق في قرية وأحس أن شيئا سرقوه من جيبي عندما أقرأ عن اختلاس في مصنع وأقرأ الصحف وكأنني مازلت أكتب وأتأمل المنشيتات وكأنني أنا الذي صنعتها أن روحي تهرب من الزنزانة كل يوم تذهب إلى أخبار اليوم وتجلس إلى مكتبي وتعقد اجتماع الأخبار الصباحي تناقش المحررين فيما يجب عمله، وتحاول أن تحلل الأحداث الخارجية وتضع الردود على اتهامات خصومنا وتصنع الحملات من أجل بلادنا.

أن روحي لم تستسلم للسجن أبدا أن جسمي هو الذي يعيش في زنزانة ولكن روحي منطلقة تتمتع بكل حريتها تطوف الدنيا تتحرك هنا وهناك لا تستقر في مكان واحد تتحدث إلى الناس تسمعهم تعيش معهم تسمع نجواهم وتعرف أخبارهم وهذا شيء يسعدني ويعذبني ولكن روحي تختنق عندما تحس أن هناك أشياء كثيرة تستطيع أن تقدمها لبلادها ولا تستطيع ثم أتذكر أننا أخرجنا مدرسة من الصحفيين مئات من الشبان بعضهم علمناهم في أخبار اليوم وبعضهم علمتهم في الجامعة أن هؤلاء يستطيعون الآن أن يفعلوا لبلادنا أكثر مما فعلنا. أن يحققوا حلمنا بأن تصبح بلادنا صحافة عالمية.. ثم أحمد الله أنه أعطانا شيئا عظيما جدا أن الهرم الذي بناه خوفو يجب أن يذهب إلى الجيزة لتراه ولكن الهرم الذي بنيناه يدق كل صباح يوم على باب كل بيت ليمسكه الناس بأيديهم فأنا أشعر أنني حي في الصحف التي أنشأناها انطلق فيها أتحرك معها أتنقل معها أقترب من قرائي كلما اقتربت نسخة من جرائدنا من عيونهم ما كان أتعسني لو أن الجرائد التي أنشأناها هي التي سجنت وبقيت أنا مطلق السراح يسمع الناس صوتي ولا يسمعون صوتها يرونني ولا يرونها يصافحونني بأيديهم ولا يلمسونها كل يوم بأيديهم أنني أتصور الباعة وهم يملأون الشوارع ينادون على الأخبار وأخبار اليوم كأنهم ينادون على اسمي واسم أخي.

إن هذا شيء لذيذ جدا أن صوتهم يصل إلى داخل زنزانتي أن حياتنا أسطورة وهذا الذي يحدث لنا هو ملامح درامية فيها.

التفتيش !

سجن الاستئناف .. أول يوليو سنة 1966

عزيزي..

في يوم الأربعاء 29 يونيو سنة 1966 ذهبت إلى جلسة محكمة الجنايات للنظر في قضية محمد حمدي التي رفعها على أخبار اليوم أن المسافة قصيرة جدا بين سجن الاستئناف ومحكمة الجنايات نحن جيران أنني أمشي في التراب حوالي 200 متر إلى أن أصل إلى المحكمة يتقدمني ضابط البوليس وورائي ضابط مباحث وعسكري.

العسكري يحمل في يده قيدا حديديا ولكنهم لا يضعون في يدي القيد الحديدي مرتين وضعوا في يدي القيد الحديدي المرة الأول يوم القبض علي المرة الثانية عندما نقلت من سجن المخابرات إلى سجن الاستئناف ولكن بعد ذلك حتى في أيام المحاكمات كانوا يحضرون القيد الحديدي ولا يضعونه في يدي ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يوضع فيها القيد الحديدي في يدي لقد وضع القيد في يدي ويد أخي قبل ذلك بخمس وثلاثين سنة عندما نظمنا اضطرابات صدقي باشا ونحن تلاميذ في مدرسة الخديوية احتجاجا على إلغاء الدستور فأنا من أصحاب السوابق وأجلسوني في غرفة الضابط في المحكمة إلى أن تبدأ الجلسة ورأيت هناك ياسين السفرجي والأسطى إبراهيم الطباخ وتأثر ياسين عندما رآني وانهمرت من عينيه الدموع ثم دخلنا الجلسة وجلست في مقاعد المحامين.

وكان محمد عبد الله المحامي الذي ترافع عني أمام الفريق الدجوي هو محامي الخصم هذه المرة وكان المستشار الهواري رئيس الجلسة رجلا ظريفا خفيف الدم، يكثر من التنكيت والدعابة وجري البحث هل أعلنوا على أمين أو لا وجاءت النيابة بورقة عليها إمضاء علي أمين أو لا. وجاءت النيابة بورقة عليها إمضاء علي أمين بأنه علم بالجلسة وأعطاني المستشار الورقة وسألني هل هذا هو خط علي أمين فقلت نعم وقرر المستشار تأجيل الجلسة إلى 25سبتمبر وطلب من المحامين تقديم مذكرات.

وعندما خرجت من مقعدي وبينما أنا أمر في صفوف الحاضرين كانوا يتلفتون إلي وسمعت سيدة تقول: «قلبنا معاك» ورجلا عجوزا يقول «ربنا معاك» وأحد المحامين يقول: إن شاء الله تخرج قريبا جدا وهكذا أسير في دعوات وابتهالات.

وعدنا إلى غرفة الانتظار من جديد وعلي بابها قابلت إحسان جاد ونعم الباز من سكرتارية أخبار اليوم وكانت مصادفة جميلة.

ثم عدت إلى السجن وإذا بي أجده مقلوبا رأسا على عقب لقد حدث في أثناء غيابي أن حضر رئيس التفتيش بمصلحة السجون وقرر أن يقوم بتفتيش مفاجئ لدور السياسيين وأحضروا عددا ضخما من جنود السجن وجميع الضباط ثم بدأت كبسة فتش غرفتي أولا عدد من العساكر ثم دخل ضابط وفتشها من جديد ثم دخل المأمور وفتشها للمرة الثالثة ثم دخل مدير التفتيش وفتشها تفتيشا دقيقا للمرة الرابعة!

وعندما عدت من المحكمة ودخلت غرفتي لم أعرفها إن كل شيء كان مقلوبا ومبعثرا ولم يجدوا عندي أي شيء أو أي مخالفات سوى شبر في زجاجة كولونيا ولم يجدوا أي شيء في الغرف الأخرى التي فتشوها بنفس الطريقة وكانت هناك معلومات بأن السياسيين لديهم ممنوعات ولم لم يجدوا أي شيء ممنوعا والذي كان عندي لم يكن كولونيا بل دواء أمسح به قدمي لإصابتي بمرض النقرس وجلست مع المأمور ورئيس التفتيش وقال لي رئيس التفتيش أن السجن ملئ بالمحرومين والعرايا وأن دخول الطعام وحقائب الملابس أمامهم يثير حقهم فينهالون بشكاوي على المأمور والضباط وقال أن من رأيه لا يجوز وضع المسجونين السياسيين في هذا السجن ووضعهم في سجن آخر ويبدو أن فكرة نقلنا إلى سجن آخر أصبحت تترد بكثرة في هذه الأيام. مما يجعلني أعتقد أننا قد ننقل إلى سجن القناطر بين يم وآخر وعيب سجن القناطر أنه مشوار عليكم فالمسافة هي نصف ساعة في الذهاب ونصف ساعة في العودة والمسجونون السياسيون هنا أشقياء بهذا الاتجاه خصوصا وهم يتحدثون إلى زوجاتهم يوميا من النوافذ وكثير منهم في حالة مالية سيئة لا يستطيعون دفع مصاريف الانتقال يوميا إلى سجن القناطر وهناك بناء السجن بعيد عن الشارع ولا يمكن التحدث من النوافذ كما هو الحال الآن وقال السجانون أن عملية التفتيش التي حدثت ذلك اليوم لم تحدث لها مثيل منذ إنشاء السجن ولابد أنهم كانوا يبحثون عن شيء خطير لأن الطريقة التي تم بها التفتيش كانت دقيقة جدا وغريبة وأشبه بخطة حربية فالجنود لم يعرفوا بمهمتهم إلا قبل نصف دقيقة من بدء التفتيش.

والمسجونون أخرجوا من غرفهم وطلبوا إليهم عدم الدخول فيها والوقوف أمامها وتصور المساكين من الطريقة التي صدرت بها هذه الأوامر أنهم يصفونهم ليعلنوهم بالأحكام فكاد بعضهم يقع على الأرض مغمي عليه من الفزع وقال لي المأمور أنه لاحظ أن زنزانتي ثلاث بدل وأنه يكفي بدلة واحدة فقلت له سأحتفظ ببدلتين وأرسلت الثالثة إلى البيت وقال أنه لاحظ أيضا أن الزنزانة فيها حقيبتان وتكفي حقيبة واحدة فقلت له أن الحقيبة الثانية لم تدخل سوى اليوم وفيها الغسيل فقال أعرف ذلك لأنني بعد خروجها من التفتيش أحضرتها إلى غرفتي وفتشتها بنفسي ولم أحد فيها أي شيء وقال أي عندي كتبا كثيرة ويجب أن أكتفي بثلاثة كتب وأرسل الباقي إلى البيت ثم قال أنه لاحظ وجود «كمثراية» أضيء بها النور وأقفله وأن لمبة الكهرباء معلقة فوق السرير بينما يجب أن تكون اللمبة معلقة وسط الغرفة وأصدر أوامره إلى الكهربائي بنزع «الكمثراية» وبنقل اللمبة من موضعها ومعنى هذا أن أعود وأتشعلق على الباب وأمد يدي من الحديد كما أردت أن أغلق النور وأفتحه وكان هذا الشيء يعذبني في أثناء الشتاء القارص ولكن الحمد لله أن الجو حار، وأستطيع أن أقوم بهذه المهمة ثم جاءت مشكلة وضع اللمبة في وسط الغرفة وهذا يجعلني لا أستطيع القراءة وأنا نائم ولما كانت الحاجة أم الاختراع فقد حللت هذه المشكلة وأصبت أضع رأسي في السرير في المكان الذي كنت أضع فيه قدمي وأضع قدمي حيث كان رأسي وبهذه الطريقة أصبحت اللمبة فوق رأي وأصبحت القراءة ممكنة وعلمت بعد ذلك أن سر التفتيش أنهم علموا أن خطابات تصل إلي والحمد لله لم يعثروا على شيء!

ثم حدثت مأساة في اليوم التالي وهو أنني اكتشفت في البيحاما التي أرتديها «بقة» وقتلت البقة وساح دمها على البيجاما ويظهر أن هذه البقة حضرت من عملية التفتيش ثم حدثت مأساة أخرى وهو أن ماسورة المجاري التي في الحمام الذي فوق غرفتي انكسرت وراحت مياه المجاري تتسرب على حائط زنزانتي وشكوت ولكن مضت 24 ساعة دون أن أجد من يصلحها ومما يؤسف له أنني في هذا الجو المليء بالميكروبات والحشرات ممنوع من استعمال الكلونيا والذين دخلوا غرفتي للتفتيش فتشوا الأرض والجدران ولم يفكروا في أن يرفعوا رؤوسهم إلى سقف الغرفة أو أن البحث عن الميكروبات والحشرات ليس من اختصاصهم وأنني أعز نفسي!

لقد أقمت في جناح في فندق سوفريتا في سان موريتس وفي فندق جورج سانك في باريس وفي سافوي في لندن وفي وولدورف استوريا في نيويورك وفي الشورهام في واشنطون وفي هيلتون في لوس أنجلوس لقد نمت في أجل السراير وعلى أشهر المراتب طوال عمري ماذا يجري لو دفعت هذه الضريبة ونمت هذه الشهور في سجن الاستئناف. أنني أنام على سرير ومرتبة ومعي نفسي الدور من ينام على برش على الأرض ولهذا فأنا أحمد الله وأعتبر البقة التي زارتني شيئا يحدث في أحسن العائلات!!

ولقد مر شهر يوليو وسأحتفل بعد أيام بمرور عام على دخولي السجن والجميع هنا ينتظرون الفرج قبل 23 يوليو يتصورون وأنه سيفرج عني في حوالي هذا التاريخ.

ولكن يبدو أن كل شيء واقف لا يتحرك وتوقفت فجأة الإشاعات والأنباء وقد تكون هذه من علامات الساعة وأنها دليل على اقتراب الفرج ولكن صبري لم ينفذ وإيماني لم يتزعزع وثقتي بالله لا حدود لها ولهذا فأنا مطمئن إلى الغد أشعر أنه صديقي وحليفي وصاحبي ونصيري ومما يسعدني كثيرا أن الناس لم ينسوني ولقد رأيت في عيونهم ونظراتهم وهمساتهم أثناء وجودي في محكمة الجنايات كثيرا من الحب الأماني الجميلة وهذا أسعدني كثيرا أن حب الناس يقويني كثيرا ويضاعف إيماني لا تزال الدنيا مليئة بالناس الطيبين.

أننا لم نزرع أرضا وإنما زرعنا حبا في قلوب كثيرة وقد نبتت هذه البذور وأيعنت.

وأنا أحس أننا نعيش الآن في ظلها.

المخبأ !

سجن الاستئناف .. 3 يوليو 1966

كنت قلقا عليك هذا الأسبوع أكثر من أي وقت مضى كنت أعيش في أوهام من صنعي.

وجاء خطابك فبدد لي هذه الأوهام وقضى عليها وعندما أذكر هذه الأوهام اليوم أغرق في الضحك وأسخر من تصوراتي الغريبة ولكن يبدو أن الحياة في السجن هي مصانع الأوهام، الميكروبات تتكاثر عندما تغيب الشمس والأوهام والمخاوف تتكاثر في ظلام الزنزانة..

وكان يجب ألا أصاب بالقلق في هذه الأيام بالذات فقد تلقيت فيها خطابات كثيرة كان يمكن أن أعيش عليها طويلا... وتراكمت لدي الخطابات المهربة وكنت في كل يوم أتفنن في إخفائها في مكان مختلف في الزنزانة واستطعت أن أهرب جزءا من الخطابات إلى خارج السجن وأبقيت عندي الخطابات الهامة وشعرت بعد ذلك بألم غريب لفراق هذه الخطابات شعرت بوحدة قاتلة ولم أكن أتصور أن خطابات أصدقائي ستوحشني هكذا إلا بعد أن فارقتني إذا كان هذا حالي مع الورق فما هو حالي مع البشر؟كنت كثيرا ما أدس هذه الخطابات في جيوبي وكنت أتحسسها من وقت إلى آخر كأنها محفظة نقودي وكنت أشعر كأن أصدقائي معي باستمرار ثم عندما أخرجت هذه الرسائل شعرت كأنني وحدي ثم ندمت على أنني أخرجتها إلى خارج السجن ولكني كنت أرى أنها رسائل ثمينة وكنت أخشى عليها من الضياع وكنت أشعر أنها قطعة هامة مني بل من التاريخ ويجب أن تكون في مكان أمين يجيء أن تعيش حتى بعد حياتنا ولهذا رأيت أن تكون معك لتحفظ في مكان بعيدا عن العيون ودسست هذه الرسائل تحت أواني الطعام الفارغ وأرسلتها إلى خارج السجن في وقت كان فيه الضابط نائما والحراسة ضعيفة والرقابة مهلهلة! ثم فوجئت عندما أخبرني بعض المسجونين السياسيين أنه ظهر فجأة عند باب السجن رجل من المباحث وأنه أمسك بالسلة التي كان فيها أواني الطعام وأنه فتش الأواني باهتمام وأن التفتيش كان دقيقا..

وأصبت بالرعب لأبد أنه عثر على الرسائل المهربة لأبد أنهم فتشوك تفتيشا دقيقا وعثروا على رسائلي وتصورت أنهم فتشوا منزلك وفتشوا منازل أصدقائنا.

وحمدت الله أني لا أكتب إلى أصدقائي المقربين مباشرة لأنني أعرف أنهم تحت رقابة شديدة وأنني أكتب إلى أصدقائي غير الظاهرين، لا يعرف أحد أنهم من المقربين إلي ولكني فزعت من أي يؤذي أحد بسببي وبدأت أندم على أنني أكلف الناس بما لا يطيقون وأنني أعرضهم للمخاطر والأهوال ثم علمت أن مخبر المباحث لم يجد شيئا ثم جاء بعد ذلك من يخبرني بأن عددا من رجال المباحث في داخل السجن وأنهم سيقومون بتفتيش السجن بعد منتصف الليل وأسقط في يدي وعلمت أنني المقصود بهذا التفتيش وعجبت أن يحدث التفتيش في أيام متعاقبة!

وكان معي عدد من خطابات علي وخطابات من أصدقاء وعناوين الأشخاص الذين أرسل إليهم الخطابات ومزقت بعضها إلى قطع صغيرة وألقيتها في دورة المياه ولكني لم أستطع تمزيق خطابات أخي علي وعناوين الأصدقاء وحرت ماذا أفعل بهذه الممنوعات؟

وقررت أن أخفيها في زنزانة أحد المسجونين السياسيين معي في الطابق الثاني ولكنني خشيت أن يفتشوا كل الزنازين في الطابق الثاني وكل المسجونين السياسيين...

وقررت أن أبحث عن مسجون غير سياسي قاتل لص تاجر مخدرات نشال كل هؤلاء في أمان المجرمون وحدهم هم السياسيون!

خطر ببالي أن أختار أحد المتسولين من المسجونين الطابق الرابع في السجن مخصص للمتسولين واخترت متسولا اسمه عمر شعرت منذ مدة وأنا أمشي في فسحة السجن أنه يعتبر نفسه صديقي نشأت صداقتنا عن أنني أعطيته سيجارة بلمونت دون أن يطلبها هذه السيجارة المتواضعة أسرته أحس أنني قدمت له جميلا لن ينساه مدى الحياة كان يريد دائما أن يرد لي الجميل عجيب أن يشعر متسول بكل هذا الجيل لأنني أعطيته سيجارة بلمونت.. وهناك من أعطيتهم ألوف الجنيهات فردوا الجميل بالخناجر والسكاكين بعض الملائكة يريدون ملابس المتسولين وكثير من الشياطين يرتدون البنطلونات ويتشحون بالألقاب والأوسمة والنياشين!

وبعد أن أعطيت الخطابات للمتسول عمر سحبتها منه لأنين علمت أنهم سيفتشون جميع طوابق السجن، بما فيها عنبر المتسولين!

وأخيرا اتفقت مع لص أن ينقذ الموقف أنه عثمان نوبتجي المأمور وهو مسجون محكوم عليه بالسجن لأنه سرق ثلاثة جنيهات أشترى بها دواء لأمه المريضة بالسل وليدفع أجر الطبيب لقد شعرت دائما بان هذا اللص هو من أشرف رجال السجن ولهذا لم أتردد في أئتمنه على رسائل يعتبرها المسئولين كنزا، وقد يستطيع بها أن يبيعني ويشتري الخروج من السجن.

ولكني لم أتردد في الوثوق به، الرجل الذي يسرق ويدخل السجن ليشتري دواء لأمه هو رجل غير عادي.

وكان عثمان هذا هو الذي ينظف ويمسح غرفة مأمور اسجن كل صباح.. واتفقت معه على أن يخبئ الرسائل في مكان لا يخطر ببال أحد أن يفتشه وهو مكتب المأمور نفسه.

وفتحنا مكتب المأمور في غفلة من الحراس ووضعنا داخله الرسائل وبقيت ساهرا طوال الليل أنتظر التفتيش...وجاءت المباحث.

وفتشت كل طابق وكل زنزانة وكل ركن فتشت دورة المياه والحمامات فتشت الجدران والسقف فتشت المسجونين جميعا ولم تجد شيئا على الإطلاق ولكنها نسيت أن تفتش غرفة المأمور!

رقم قياسي

سجن الاستئناف .. 5 يوليو سنة 1966

أخي العزيز ..

منذ وقت طويل لم أكتب إليك أشعر أني لم أتحدث إليك منذ سنوات طويلة .. أن الخطاب الذي أرسله إليك يمر على عدة أيد ثم ينتهي بألا يرسل وهم يقرأون خطابي إليك بالطول والعرض ومن فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق، خشية أن أكون قد قلت لك في الخطاب ممنوعات ثم يرون أن من الأسلم أن يحجز الخطاب وكفي الله المؤمنين شر القتال وهكذا أصبح شرط الكتابة إليك أن يكون الخطاب تافها ورسميا ولا شيء فيه ولهذا رأيت من الأفضل ألا أكتب فلقد تعودت في الماضي عندما أكتب إليك أن أفتح لك قلبي ويظهر أن شعوري بأن أكتب يمر على عدة أيد يجعلني لا أستطيع أن أكتب خواطري بالرغم من أنها بريئة كما كنت أتردد أن أقف في الحمام واستحم في وجود مسجونين آخرين ولم ألبث أن تعودت على ذلك ويظهر أن المسألة هي مسألة عادة ومن أصعب الأشياء أن تكتب خطابا ولا تعرف هل سيصل أم لا يصل إلى المرسل إليه تماما كما تكتب مقالا ولا تعرف هل سيرى النور أم يشطبه الرقيب.

أنني أمضيت اليوم الأسبوع الخمسين في السجن لقد أمضى التابعي 4شهور في السجن ومضى طول حياته يتحدث عنها وأمضى العقاد في السجن 9 شهور، وأمضى توفيق دياب 9شهور ويظهر أنني ضربت الرقم القياسي ولا يزال أهم شيء أفعله أن أمضي أغلب الوقت في قراءة الصحف والمجلات والكتب ثم في حساب الأيام أما الكتابة فهي عملية شاقة لقد خطر في بالي أن أضيع الوقت في كتابة سيناريو سينمائي ولكني لا أستطيع أن أركز تفكيري بسهولة في شيء كهذا وقد يكون السبب هو عدم الاستقرار فأنا لا أعرف هل أنا باقي هنا أم ذاهب هل سأنقل إلى سجن أم إلى مستشفى ثم أن السجن أعتاد أن يأخذ من المسجون كل الورق قبل خروجه وليس من المعقول أن أكتب سيناريو أو قصة ثم يأخذها السجن بعد ذلك وهذا ما يجعلني أكسل عن التفكير في قصة أو سيناريو وأعتقد أنني لو عرفت ما استقر عليه الرأي بشأني فسأكون أكثر نشاطا مما أنا عليه ولقد قيل «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع» فإنني أفكر في بعض الأحيان أ،ه ربما كان التأخير في التصديق على الحكم فيه مصلحة أكثر من البت فيه ونقلي إلى سجن آخر ولقد قيل لي منذ حوالي شهرين أن نقلي إلى المستشفى سيتم خلال عشرة أيام أو خمسة عشر يوما ولكن مرت 4أضعاف المدة ولم تتحقق الأماني وقد يكون في كل تأخيرة خيرة .. وقد يكون تتابع الأحداث وكثيرة مشاغل الدولة هي سبب التأخير وقد تكون مسألتي «كارت» في الحرب الباردة ولكن الملاحظ أنه لم يصدر حتى الآن أي حكم في قضايا أمن الدولة وأن كل ترتيب قضيتي في المحاكمات هو رقم واحد وقد كنت أنتظر وصول سعيد فريحه من يوم إلى آخر وحدث أن وصلني كريز ... وتفاح.. وتصورت أن معنى هذا أن سعيد قد وصل ولكن لم يصلني ما يؤيد هذا فعلفت أن الكريز من أصدقائي في القاهرة وليس من بيروت ولقد سررت أن صحف سعيد تدافع عن القاهرة بحرارة ووعي وهي الصوت الذي يرتفع ضد حملات الاستعمار علينا ولم يكن عندي شك في يوم من الأيام في أن سعيد مؤمن بقضية بلادنا وأنه يستطيع بكفاءته وإخلاصه أن يخدم بلادنا أعظم الخدمات وأشعر أن أزمة مقتل كامل ردة مرت بسلام وأن سعيد نجا منها وهذا سيجعله يستطيع أن يترك بيروت ويحضر إلى القاهرة بضعة أيام ولقد سررت أن اسم فائق السمرائي لم يكن بين الأسماء التي طلبوا القبض عيها بعد فشل انقلاب بغداد ومن حسن حظه أنه كان في الصين في أثناء الانقلاب ولقد وصلت لي مربى قليلة السكر ومصنوعة في لندن، وتصورت أنها منك، ثم رأيت أنها مربى فراولة وهنا عرفت أنها لا يمكن أن تكون منك لأنك تعرف أن الفراولة ممنوعة بسبب مرض النقرس، ومع علمي بذلك فمن «فجعتي » جعلتني أكل منها ملعقة وأعدتها في نفس اليوم إلى البيت حتى لا تمتد يدي إليها فأصاب بأزمة نقرس في السجن ومن أكثر الأمور التي يخشاها المسجون أن يمرض في السجن فلا عناية إطلاقا بصحة المسجون وعندما يموت أحد المسجونين يفرح الممرضون في العيادة، فهذه فرصة أن يضعوا في ملفه جميع الأدوية الناقصة في العهدة ولا يستطيع المسكين أن يتكلم ويقول أنه لم يستلم دواء واحدا منها لأن الموتى لا يتكلمون!

ولقد امتلأ جسمي بحمو النيل بسبب العرق الشديد في الحر، وأنا الآن أعالج نفسي بنفسي وقد تحسن حمو النيل بعض الشيء وأمضي بعض الوقت في مقاومة الحشرات والذباب وقد نجحت في هذه الحملة وحدث أن فوقي تواليت وانكسرت الماسورة وتسربت مياه التواليت وكانت حكاية وبسبب الروتين اقتضى الأمر أن يتأخر إصلاح الماسورة إلى أن استطاعت علبة السجائر أن تنجح فيما فشل فيه الروتين!

وقد بدأت في السجن حملة ضد الجرائد القديمة ففي كل يوم يدخل الضابط والحراس للتفتيش ويأخذون الجرائد القديمة خشية أن نحرقها نصنع فوقها شايا أو قهوة وأنا لم أفعل هذا مطلقا فإن القهوة تصل إلي يوميا في ترموس ولكن التعليمات هي التعليمات!

وبعد أن كان المسجونون يعيشون على أمل أن يحدث البت في قضاياهم قبل يوم 23 يوليو تضاءل هذا الأمل وكلما مضى الوقت زادت حالتهم العصبية حدة وكثرت انهياراتهم النفسية وضاعف هذا من مهمتي وهي نشر الأمل بين اليائسين وإقناع الذين يفكرون في الانتحار بسخافة هذه الفكرة ومعنا عجائز يفكرون في الموت باستمرار ولا عمل إلا أن أحاول حقنهم يوميا بمخدرات من الأمل والصبر والإيمان وأنا أشعر أن «فكرة» تركت فراغا في نفوس الناس فإن الشمعة التي كنت تضيئها كل صباح كانت تبعث النور في القلوب المظلمة اليائسة وأنا أحاول أن أضيء هذه الشموع لا من أجلك بل من أجل الناس أجمعين.

والشيء الذي سيتوقف نظري هو أنه في كل يوم يجيء لنا متهم جديد في اختلاس من شركة أو رشوة أو إهمال جسيم وهذه ظاهرة تستوقف النظر وتحتاج إلى علاج فما هو سر انتشار الرشوة أعتقد أن السر هو شعور الموظف بعدم الاستقرار أو بأن باب الأمل في الطريق الشريف مقفل أمامه .. ولهذا فهو يريد أن يخبط الخبطة بأسرع ما يمكن لأنه لا يضمن أنه سيبقى في وظيفته في اليوم التالي ولقد قال لي مفتش السجون أن السجون ضاقت وأن فيها الآن ثلاثة أضعاف طاقاتها وأنهم اضطروا إلى العفو عن الناس الذين أمضوا نصف مدتهم اضطرارا لأنه لا يوجد أماكن خالية ولأن نفقات المساجين أكثر من اعتمادات المصلحة ولقد لاحظت أن انجلترا فيها نفس الشكوى حتى أن وزير الداخلية صرح بأن من رأيه أن يقلل القضاء أحكام السجن ويكتفي في كثير منه بالغرامة.

أما حالتي المعنوية فجيدة وأعصابي قوية وصبري لا حد له وثقتي بالله لا تتزعزع وأحس بأن الذين حولي في حاجة إلى أو كما يقولون: أنني الميناء الوحيد الذي يلجأون إليه في البحر العاصف المليء بالزوابع والرياح. ومن الطريف أنني قرأت في كتاب السيد شوشة «أسرار الصحافة» في صفحة 50 عن والدي ما يأتي:

«بعد ولادة مصطفى و علي أمين بسنة واحدة قبضت السلطات البريطانية على والدهما في سنة 1915 وزجت به في سجن الاستئناف بالقاهرة، ووجهت إليه عدة اتهامات منها أنه يدعو إلى خلع السلطان وأنه يتلقى أخباره بالشفرة عن الانتصارات الألمانية وأنه يحرض على الخروج على الحلفاء».

وضحكت عندما قرأت هذا أن التاريخ يعيد نفسه ومن يعرف أن كان أبي كان مسجونا في نفس الزنزانة أو نفس هذا الطابق وهكذا شاء الله أن يتكرر الحديث بعد خمسين سنة فاسجن في نفس السجن الذي كان فيه أبي!!

ولقد ثبت من التحقيق أن التهمة التي كانت ضد أبي لا أساس لها من الصحة وأطلق سراحه فهل يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى؟

والآن أقبلك وأضمك إلى صدري وأرجو من الله أن يجمعنا في أسعد الأوقات أن قلبي يحدثني بأنه لا بد أن ينتهي هذا الظلام وأن الفجر قريب بإذن الله أنني أحصي الأيام التي مضت دون أن نلتقي فهيا فأجدها طويلة جدا، ولكني أحمد الله على أن العلاقة بين التوأمين تجعل لقاءنا يحدث يوميا وفي كل لحظة وفي كل ساعة يكفي أننا نقرأ نفسي الصحف ونتبادل نفس الأفكار ويملأ قلوبنا الإيمان والثقة في الغد، والفجر الجديد.

أن الأيام تمر بسرعة وكل يوم يمضي يقربنا من يوم اللقاء ونرجو من الله أن يمنحنا العمر لنعوض الذي فقدناه ولنستأنف خدمة وطننا الذي أعطيناه حياتنا ودمنا وعمرنا وكفايتنا.

إن الله أعطانا كل شيء تمنيناه أنه لم يبخل عنا أبدا أنه أعطانا دائما أكثر مما أملنا أو تخيلنا أو تصورنا ..فشكرا لله على ما أعطانا وما سوف يعطينا.

وإلى اللقاء.

مقلب في السجن

سجن الاستئناف .. 14 يوليو سنة 1966

أقبلك وأرجو أن تكون والأسرة بخير..

أنني سررت عندما قلت لي في رسالتك الأخيرة أن أخي ستفرج على مباريات كرة القدم لكأس العالم أنني أتصور وأنا أقرأ وصف المباريات أنني أشهدها معي وعندي برنامج المباريات وفي الساعة التاسعة من مساء كل يوم أتخيل أخي جالسا يشهد المباريات وهكذا أعرف يوميا ماذا يفعل وأعرف في اليوم التالي نتيجة المباراة التي شاهدها أنه شعور لذيذ أحس يوميا بما يفعل فنحن برغم البعد الذي بيننا نعيش معا ونفكر معا ونتألم معا ونضحك معا أيضا.

وقد حدث أن اتفق زملائي المساجين على أن عمل مقلبا في زميلنا الإرهابي رقم 11 فنوهمه بأن أخي علي وصل إلى مصر وأنني انتهزت فرصة ذهابي إلى محكمة الجنايات في قضية أخبار اليوم وتبادلت أنا وعلي الأمكنة فالموجود في السجن الآن ليس مصطفى أمين وإنما هو علي أمين!

وبدأ أمثل دور علي أمين وغيرت طريقة حديثي مع الإرهابي وأصبحت أسأله عن أشياء خاصة به أتظاهر بأنني أجهلها مع أنه كان قد أخبرني عنها من قبل فقد سألته مثلا هل هو متزوج أم لا؟ مع أن المفوض أنني أعرف أنه متزوج وأن زوجته تحضر لزيارته في السجن وإذا سألني عن شيء أجبته إجابة تختلف عن إجابتي قبل ذلك وبدأ الإرهابي يشك ويتحير وفجأة راح يصرخ: أنا ح أتجنن ح أتجنن هل أنت مصطفى أم علي وقلت له أنا مصطفى وراح يهمس في آذان زملائنا بالسر الرهيب وراحوا يقولون له أنهم يشكون أيضا أنني تغيرت وأن الموجود في السجن هو علي وليس مصطفى وراح هو يمتحني ويختبرني ليعرف هل أنا مصطفى أم علي وسقطت طبعا في الامتحان حتى يتصور أنني علي ثم رحنا نمضي في المقلب ففي يوم أتصرف كأنني مصطفى وفي اليوم التالي أتصرف كأنني علي... والمسكين حائر هل أنا مصطفى أم علي أم الاثنان معا!

وقد أمضينا عدة أيام نضحك ونحن نرى حيرته ودهشته عجزه عن أن يفرق بين مصطفى وعلي ومحاولته الاعتماد علي ذكائه في اكتشاف أن الموجود هو علي أمين وليس مصطفى أمين.

فقد كان يحدث أن أكون سائرا في ردهة السجن فيصيح الإرهابي علي بك علي بك وهنا ألتفت ورائي ويصيح مصطفى بك فلا ألتفت وهنا يتأكد الإرهابي أن المسجون هو علي أمين وليس مصطفى أمين وبعد أن يتأكد أن المسجون هو علي أمين أعود وأثير الشك في نفسه بأن المسجون هو مصطفى أمين وأٌترح عليه بعض زملائنا أن يبلغ الدولة بما حدث وأنه عندما سيرشد عن مثل هذه الجريمة الخطيرة فسوف يفرج عنه ويقتنع الإرهابي بالفكرة ثم يعود زملاؤنا ويقولون له ولكن لو حدث أن ظهر أن المسجون هو مصطفى فسوفي تحاكم بتهمة البلاغ الكاذب وإزعاج السلطات وتدخل في جريمة جديدة وهنا يخاف الإرهابي ويعدل عن التبليغ!

ومن الوسائل التي تشغلني الآن أنني أعلنت الحرب علي البق وإذا كان الفلاحون الآن يقاومون الدودة فأنا أبذل نفس المجهود في مقاومة البق وأتولى رش غرفتي يوميا بالمسحوق المقاوم للحشرات ولكن في بعض الأحيان أفاجأ بأن جيوش الأعداء أقوى من الفيت كونج وأقوم في الغرفة بحرب العصابات وأحاول أن أنسف الحشرات التي تقاوم مقاومة عنيفة وزاد الطين بلة أن فوقي تواليت وحدث أن انكسرت الماسورة ونزلت مياه ماسورة المجاري على حائط الغرفة وكانت حكاية والشيء الذي أهتم به كثيرا هنا أنني أحاول أن أحافظ على صحتي واستحم كل يوم وأرفض أن يلمس أحد سريري، وأتولى غسيل الأطباق بنفي وحرب النظافة تشغلني فهي تأخذ وقتا في أعداد الخطط الحربية واختيار ساعة الصفر للهجوم على الخنادق والمخابئ والقلاع التي تختفي فيها الحشرات ومن عادة المسجونين هنا أن يقفوا في شرفة الردهة وينفضوا البطاطين فيها وهكذا يتطاير القمل والبق والحشرات والهواء وتسقط على رؤوسنا كالقنابل والصواريخ ومن العادات القبيحة البص فيحدث أن نكون سائرين في الفسحة وإذا بأحد المسجونين واقف في النافذة في الطابق العلوي ويبصق ولا يهم إذا نزلت البصقة فوق رأس أحد المسجونين أو أحد الضباط وهو لا يقصد بهذه البصقة التعبير عن رأيه , وإنما هي عادة وسوف أحاول أن أقاومها وأن نلقي محاضرات على الزملاء بمضار البصق فوق رؤوس الناس من النوافذ والشرفات وقد سررت بأن فاطمة نجحت وكذلك رتيبة وصفية ولم يبق من نتائج الامتحانات سوى نتيجة امتحاني أنا وأرجو من الله أن تكون النتيجة خيرا كذلك!

والجو في الزنزانة لا بأس به وبرغم أننا اقتربنا من منتصف يوليو إلا أن الجو لطيف ومحتمل ولم تتكرر حتى الآن الأيام الملعونة التي جاءت لنا في شهر يونيو وعلى كل فلم يبق من الصيف سوى شهر ونصف ولقد جاءني واعظ السجن وقال لي أنه عمل «استخارة» لي وأن نتيجة الاستخارة تؤكد أنه سيفرج عني قريبا وفي كل يوم يقول لي مساجين أنهم حلموا لي أحلاما طيبة تبشر بأن الإفراج قريب ويظهر أن فلسفة السجن هي أن يطمئن كل مسجون الآخر، وبذلك يطمئن نفسه.

ولكني مع ذلك فما زلت متفائلا ولا يزال شعوري يقول أن الفجر لابد أن يجيء ولكن لا أعرف متى يجيء.

ولقد كانت تضايقني أشياء صغيرة فقد تقرر نزع «الكمتراية» التي كانت أضيء بها النور وأنا نائم وتصورت أن هذا سوف يضايقني جدا وأنني سأضطر لأن أقوم من فراشي وأطفئ النور ولكني لم ألبث بعد أيام أن تعودت على ذلك ولم تكن كارثة كما تصورت في أول الأمر والمسائل كما ترين عادة ولقد كنت أقيم الدنيا وأقعدها في الماضي عندما يتعطل جهاز تكييف الهواء في بيتي وأضرب الجرس للسكرتيرة كل خمس دقائق لأسأل هل اتصلت بشركة كولدير لإصلاح التكييف أم لا؟

وأنا الآن ليس عندي تكييف هواء سوى نافذتي في الزنزانة أفتحها وأغلقها ولم ألبث بعد فترة أن شعرت أنها حلت تماما محل جهاز تكييف الهواء.

ولأول مرة عرض فيلم في السجن وهو فيلم قديم اسمه فيلم بورسعيد وقد سبق أن تفرجت عليه في التليفزيون قبل دخول السجن بمدة طويلة ومع ذلك فقد فرح به المسجونون كثيرا برغم أن الصورة كانت غير واضحة والصوت غير واضح فلا تعرف هل المتكلم هو هند رستم أم فريد شوقي ولا تعرف هل الذي أمامك هو بطل الرواية أحمد مظهر أم السد العالي.

ومن أهم ما يحدث في السجون هو وصول المسجونين للتراحيل أي الذين ينقلون من سجن إلى سجن وسجن الاستئناف هو المحطة التي يجيئون إليها ويبيتون فيها قبل نقلهم إلى السجن الآخر ووصل بين التراحيل هذا الأسبوع شخصية غريبة وهو لص اسمه فتوح متخصص في سرقة الخزائن ومحكوم عليه بالسجن 15سنة وقد أمضى منها 13 سنة وبقي له عامان وجلس يروي لنا مغامراته وقد كان متخصصا في سرقة اليهود ولا يسرق المسلمين والمرة الوحيدة التي حاول فيها أن يسرق مسلما ضبط وحكم عليه بالسجن 15سنة ومن حوادثه الغريبة أن سرق احد الخزائن ولم يضبطه أحد وذات يوم قرأ في الصحف أن البوليس قبض على اللصوص الذين سرقوا هذه الخزائن، وأنهم اعترفوا ودهش فتوح لأنه لا يعرف هؤلاء اللصوص ولم يكونوا معه في حادث السرقة وانتظر حتى وصلوا إلى اللومان وسألهم فقالوا له أن البوليس ضربهم فاضطروا أن يعترفوا بأنهم سرقوا الخزانة التي يلم يسرقوها أبدا!

ومن الزبائن الجدد عندنا عدد من الموظفين اتهموا بأنهم سرقوا قطار مشحونا بالقمح فقد اتفقوا مع معاون المحطة على أن يوقف القطار في محطة أخرى وأحضروا لوريات سرقت القمح وهو حادث يشبه سرقة قطار لندن المشهور.

الحياة في قبر !

سجن الاستئناف .. 20 يوليو 1966

عزيزي..

الساعة الرابعة صبا أنها لحظة الفراق بين النوم واليقظة بين الليل والنهار السجن ساكن ساكت موحش مقفر وتطلعت في الظلام إلى جدران زنزانتي ما أشبهها بالقبر أنني دخلت ذات يوم إلى القبر الذي دفنت فيه أمي والذي أتمنى أن أدفن فيه أنه سرداب تحت الأرض أنه أكبر من الزنزانة التي أنا فيها اليوم.

لقد كنت دائما فضوليا أريد أن أعرف ماذا بعد الموت وأن أعيش الموت الآن فالموت كالسجن وهو زنزانة الجسم أم الروح فهي تنطلق حرة غير مقيدة هاربة من قوانين الحياة.

الصمت مخيم صمت مقيد مصنوع من مئات الأنفس المقيدة بالسلاسل كان الزفرات مربوطة كان الأحلام مكبلة بالحديد كأنني أنام وإلى جواري مئات الجثث.

ملابس السجن الزرقاء والخضراء والبيضاء كالأكفان هنا تحت الترب يتساوى الملوك والمتسولون الظالمون والمظلومون العباقرة والتافهون لا شيء يميزهم إلا لافتات من الورق المقوى تحمل أسماءهم أنها أشبه بالشواهد التي يضعونها فوق القبور تحمل أسماء الموتى ولكن كثيرين من الموتى بلا أسماء.

ومن كان في هذا القبر قبلي؟ من سوف يجيء بعدي الجدران لا تتكلم ولا تحكي ولو تكلمت لروت ألوف القصص فهنا خشبة مسرح القصة واحدة الممثلون يتغيرون فوق هذا الأسفلت سكب ألوف قبلي دموعهم هذه الجدران سمعت دعوات وزفرات ولعنات وتأوهات وصرخات أنصاف أحياء وأنصاف موتى مروا من هنا تركوا بصمات شقائهم وعذابهم على الجدران كأنني أسمع صدى تضرعات مجهولة صلوات بعيدة أنغامهم مختلفة كلماتها متباينة ولكن معانيها واحدة كل شيء هنا مسجون حتى الكلمات متباينة ولكن معانيها واحدة.

كل شيء هنا مسجون حتى الكلمات مسجونة كأن السطور السوداء على الورق هي قضبان من حديد والمعاني تحاول أن تخرج رأسها من بين القضبان فلا تستطيع.

والأحلام أيضا مسجونة لا تكاد تتحرك حتى يقبض الحقيقة على عنقها كأنها سجان قاسي القلب يوسعها ضربا بحزام من جلد يمنعها من أن تهرب من زنزانة الواقع إلى فضاء الأماني الفسيح.

كل شيء صامت كأنه لا يجرؤ على الكلام محبوس مخنوق حتى الصرخات مخنوقة وكأنها حشرجة تأوهات.

فما أطول الليل داخل السجن كأنه لا ينتهي أبدا أنه أشبه بالعمى أن الأحلام والأماني تتعثر فيه، وتسقط على وجهها مصطدمة بجدار الواقع أنها تحتاج دائما إلى عكاز من الإيمان وما أشقى الذين تنكسر العصى التي يتعكزون عليها وهم يسيرون في عالم من الأماني والأحلام وأعلت المصباح وامتلأت زنزانتي بالنور قفز الظلام من النافذة كأنه لص انتهز فرصة الليل فدخل يسرق أحلامي ثم فاجأه النهار فأسرع ينجو بنفسه تاركا وراءه ما حاول أن يسرقه من أماني وأحلام وفي النور رأيت كل أحلامي حولي لم يسرق الليل منها شيئا اختنقت الغيوم السوداء من أفكاري كنت أخشى أن تتدحرج الأماني من قلبي فأسرعت أمسك بها!

أن المصباح الذي أضأته هو إيماني بالله وفي بعض الأحيان يخفت ضوء المصباح ويتحول إلى قنديل وفي أحيان أخرى يسطع ويتوهج وكأنه نور الشمس وهذا الإيمان أشبه بمنجم من الذهب تجيء الأعاصير والعواصف فتغطيه بطبقة من التراب فلا ألبث أن أحفر بأظافري وأكتشف أنه موجود عميق كامن لا تنتهي معادنه أبدا!!

ثم لا ألبث أن أسمع الفجر يعني ترنيمة الحرية أنه يغني بصوت منخفض وكأنه همس يجيء من بعيد ثم لا يلبث أن يعلو هذا الهمس في أذاني حتى يصبح دويا وهكذا تستيقظ أذني على موسيقى مجهولة تحن إليها وأنتظرها وتتوقعها وترقص روحي على نغماتها وأتصور أن هذه الأنغام هي صوت أبواب تفتح وسلاسل تتحطم وقيود تنكسر وحياة جديدة تبدأ. وأتصورهم قادمين يدقون بابي ويطلبون مني أن أرتدي ملابسي وأن أذهب لمقابلة المأمور والمأمور يقول ليأمرا صدر بالإفراج عنك وأسرع إلى زنزانتي أجمع ملابسي لا .. أنني لن أجمعها سأوزعها على هؤلاء العرايا من زملائي المساجين لقد وزعت عليهم طوال هذه الشهور الأمل والإيمان يسترون بهما أرواحهم القلقلة العارية والآن سأعطيهم الملابس ليغطوا بها أجسامهم المريضة العارية ولكن حالتي المالية الآن لا تسمح لي أن أكون كريما كما أحب.

فلن أعطيهم ملابسي كلها فقد تكون ملابسي في بيتي بالزمالك أكلتها العته سأكتفي بأن أعطيهم بعض ملابسي وكل السجائر ولك المأكولات وأنا أتصور أنهم سيفرحون لنجاتي لقد كانوا كلهم يدعون لي بالفرج أن الله استجاب دعوتهم لي وسوف يستجيب دعواتي لهم وأريد أن أخرج من السجن إلى قبر أمي أنني أشعر بأنها كانت تحرسني من السماء سوف أذهب وأشكرها وأقول لها أنني أحسست بيدها تمتد من السماء وتأخذ بيدي ولكن قد يكون الإفراج بشرط أن أذهب إلى بيتي مباشرة سأكتفي بأن أقرا لها الفاتحة من بعيد وأنا أمر من الطريق الذي يتجه إلى شارع محمد علي وإلى حيث يوجد الإمام الشافعي وسوف أذهب إلى بيتي في الزمالك ربما أجده لا يزال مقفلا ولا يزال الحارس واقفا أمامه يحرس أختام الشمع الأحمر فقد لا تكون النيابة سمعت بقرار الإفراج عن بيتي المغلق وفتحت البيت.

أنني أحلم بهذا اليوم السعيد أحلم بأنه سيكون في شهر يونيو وربما شهر يوليو إن شاء الله وقد لا تجيء كل هذه السعاة مرة واحدة وقد تأتي على درجات ولكني أشعر أنها ستأتي حتى ولو بعد عشر سنوات.

ويقول كونفوشيوس: كثيرون يبحثون عن السعادة فيما هو أعلى من الإنسان وآخرون فيما هو أوطى منه ولكن السعادة بطول قامة الإنسان.

وسعادتنا طويلة لأن قامتنا طويلة ولابد أن القدر يستغرق وقتا طويلا في تفصيل بذلة السعادة التي سأرتديها وهذا هو سبب طول الانتظار ولا يضيرني أن أعيش عاريا بضعة شهور أو بضع سنوات، فإنني مؤمن بأن بذلة السعادة سوف تجيء على مقاسي وأنها ستكون جميلة وجديدة وواسعة بحيث أستطيع أن أتحرك فيها!

أنني لا أتصور أنها ستكون كفنا أو بذلة زرقاء وإلا لما احتاجت إلى هذا الزمن الطويل لإعدادها فالمصائب لا تنتظر وإنما هو كالهبوط إلى الهاوية ولكن السعادة هي أشبه بقمة الجبل تحتاج إلى وقت وإلى مجهود ومن هنا فإن قلبي يحدثني بأن الفرج سيجيء يوما وأن الله لن يتخلى عنا وأن أيامنا المقبلة ستملأها الضحكات والابتسامات والأحلام.

أن الترزي الذي يصنع لنا بذلة السعادة ترزي بطيء ولكنه فنان، يصنع البذلة بذوق وبإتقان وإذا كانت هناك محطات بيننا وبين السعادة فإنها ستكون أشبه بالبروفات التي يقوم بها الترزي ليتأكد أن البذلة الجديدة على المقاس المطلوب!

أن الأزمات في حياتنا هي التي تصنع الحيوية لهذه الحياة أنها التي تعطي أيامنا شخصيتها وروحها فالحياة بدون أزمات بل أشبه بماء مقطر صاف بدون ميكروبات وبدون جراثيم ولكنه في الوقت نفسه بدون طعم أشبه بامرأة رائعة الجمال بدون روح أو هي قطعة من الحجر، ولولا ضربات الأزميل على الحجر والأجزاء التي تناثرت وتساقطت منه لما تحول هذا الحجر إلى تمثال جميل فلا يجوز لنا أن نضيق ونتألم بضربات المعول علينا أنها هي التي تصنع تقاطيعنا الجميلة أنها هي التي تخلق لنا العيون والملامح في التمثال الرائع الذي سيخلب أنظار الناس!

أن حياتنا لم تكن سهلة أبدا أن هذا ليس السجن الأول الذي ندخله أن المقادير وضعتنا في زنزانات كثيرة متعددة وخرجنا منها أن قيودا ثقيلة ربطت أيدينا وأرجلنا وأرواحنا ثم حطمناها أننا تحملنا من المقادير أشكالا وألوانا من العذاب كأنها سياط لم تكن تجعلنا ننكفئ على وجوهنا بل كانت تدفعنا لنمضي في طريقنا لم تكن حياتنا كلها أفراحا، كانت المآتم فيها أكثر من الأفراح كانت الدموع أضعاف الضحكات كانت الهزائم أكثر من الانتصارات ولكن لابد أن نعيش الليل لنصل إلى النهار ونقاوم العواصف والأنوار لتمسك أيدينا بالشاطئ فلا أرباح بغير ضرائب ولكما كانت الأرباح أكبر كانت الضرائب أفدح ولقد كنا نتصور في وقت من الأوقات أننا سنقتل على مكاتبنا دفاعا عن الثورة التي آمنا بها وكنا لا نخاف هذا الموت ولا نخشاه فالذي أصابنا هو أقل كثيرا مما كنا ننتظره أن الله لطيف بنا والأيام وهي تقسو علينا أحاطتنا برحمة الناس وحبهم ولهذا فيجب أن نحمد الله، ونشكره أعطانا الداء والدواء منحنا الألم والصبر ملأ عيوننا بالدموع وأرواحنا بالمناديل التي جففت هذه الدموع.

إن أخي ينقصني كثيرا لا أتصور أنه مضى الآن أكثر من عام دون أن نلتقي دون أن نجلس معا بغير أن نتبادل الكلمات وكأننا نتحدث ونتناقش وكنت أشعر بكل ما يجول في رأسه دون أن ينطق به وكان يحس بما أريد أن أقوله قبل أن أقوله ومع ذلك فأنا أحس به على هذا البعد القاسي بجانبي وأسمع صوته وأرى عينيه وإيمانه وثقته بالمستقبل وأمله في أن كل شيء سيكون على ما يرام وستنتهي كل الآلام والدموع والمتاعب ونعود إلى حياة التوأمين العادية بلا فراق ولا وداع...

سيجيء يوم قريب أو بعيد يخرج فيه الناس من قبورهم المظالم هي قبور يوضع فيها الأحياء وسيكون يوم الحرية هو يوم قيامة جديدا!

أن حروف كلمة الظلم هي من حروف كلمة الظلام ذلك أن الظلام هو الذي يجيء بالظالمين

وسينتهي الليل الطويل ..

وستشرق الشمس من جديد ..

نص الحكم على ملك التعذيب

الحكم على صلاح نصر بالسجن 10 سنوات

هيئة المحكمة الموقرة مكونة من:

المتهم فيها :

  • صلاح نصر/ مدير عام المخابرات العام سابقا.
  • حسن عليش/ وكيل المخابرات العامة سابقا
  • أحمد يسري الجزار/ من كبار منظمي المخابرات العامة سابقا وقد استغرقت هذه المرافعة أربعة أيام.

بإسم الشعب

محكمة جنايات القاهرة

المشكلة علنا برئاسة السيد المستشار أنور حسن مرزوق رئيس المحكمة وعضوية السيدين المستشارين: محمد مصطفى حسن و عبد المعطي السيد ناصر (المستشار بمحكمة استئناف القاهرة)

وحضور الأساتذة أحمد سمير سامي رئيس النيابة و عبد الحميد البحيري وكيل النيابة و سلميان عياد و علي أبو السعود أمينا سر المحكمة.

أصدرت الحكم الآتي:

في قضية النيابة العامة رقم 3842/ 180 كلي سنة 1975 حدائق القبة.

وحضر الأستاذ / محمد شوكت التوني مع المدعي المدني والشاهد الأول في الدعوى الأستاذ/ مصطفى أمين يوسف وأدعى مدنيا بمبلغ 51 جنيها على سبيل التعويض المؤقت قبل المتهمين الثلاثة متضامنين.

1- صلاح محمد نصر .. 55 سنة

2- حسن زكي عليش .. 53 سنة

3- أحمد يسري الجزار .. 48 سنة

وحضر للدفاع عنهم الأساتذة علي الرجال (المحامي مع الأول) ومحمد عبد الله ( المحامي مع الثاني) وعاطف الحسيني( المحامي مع الثالث) بعد سماع أمر الإحالة وطلبات النياببة العامة وأقوال المتهمين وسمع أقوال الشهود والمرافعة والاطلاع على الأوراق وما تم فيها من تحقيقات وما دار بشأنها في المذكورين بأنهم في الفترة ما بين 21/1965/ و 26/ 10/ 1965( بدائرة قسم حدائق القبة محافظة القاهرة: بصفتهم مستخدمين عموميين الأول رئيسا لهيئة المخابرات العامة والثاني والثالث يعملان بهذه الهيئة) وأمروا بتعذيب مصطفى أمين يوسف المتهم في الجناية رقم 10 سنة 65 أمن دولة عليا لحملة على الاعتراف بمقارفته الجريمة المسندة إليه في الجنايات سالفة الذكر وقد أحالتهم إلى هذه المحكمة لمحاكمتهم طبقا للقيد والوصف والمواد الواردة بقرار الإحالة.

وبجلسة 15 فبراير سنة 1976 بدأ نظر الدعوى كما هو مبين بمحضر الجلسة وتوالت جلسات النظر حتى جلسة يوم 25 مايو 1976 إذ صدر القرار بحجز القضية للحكم لجلسة اليوم 26/6/1976.

المحكمة حيث أن وقائع الدعوى حسبما استبانتها المحكمة من الاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا حيث أن النيابة العامة أنهت الجلسة تخلص في أن المتهم حسن زكي عليش بصفته رئيس لهيئة الأمن القومي بالمخابرات العامة أبلغ بتاريخ 20/ 5/ 1965 نيابة أمن الدولة العليا بأن المجني عليه مصطفى أمين يوسف –وهو رئيس تحرير الأخبار –يقوم بالتخابر والعمل لحساب المخابرات الأمريكية وضد أمن وسلامة الدولة، وبأنه سيجتمع مع مندوب المخابرات الأمريكية في الساعة الثانية من مساء يوم الأربعاء 21/ 7/ 1965 بمسكنه بالقاهرة /8شارع صلاح الدين بالزمالك أو في منزله بالإسكندرية رقم 26 شارع الإسماعيلية بمصطفى باشا، وطلب الأمر بضبط هذا الاجتماع وتفتيش مسكنيه ومكتبه بالجريدة وبتاريخ 21/ 7/ 1965 قام المتهم الثالث أحمد يسري الجزار بصفته وكيل هيئة الأمن القومي على رأس قوة من أفراد المخابرات العامة إلى الإسكندرية ومعهم وكيل نيابة أمن الدولة حيث تم القبض علي المجني عليه مصطفى أمين يوسف أثناء جلوسه في حديقة داره مع بروس تايلور أوديل الملحق بالسفارة الأمريكية ونقل من الإسكندرية في الساعة الرابعة مساء مكبل اليدين بالحديد ومعصب العينين إلى القاهرة حيث وصلوا دار المخابرات العامة قبيل غروب الشمس واحتجزوه فيها دون ثمة سؤال حتى إذا ما كانت الساعة التاسعة والنصف من مساء اليوم التالي 22/ 7/ 1965 مثل المجني عليه أمام رئيس نيابة أمن الدولة العليا، واستمر التحقيق معه وبحضور النائب العام السابق حتى الساعة الثالثة من صباح يوم 23/ 7/ 1965 حيث أمر بحبسه احتياطيا وبدلا من أن يرحل المجني عليه إلى أحد السجون العمومية أو المركزية تنفيذا لأمر الحبس الصادر ضده أوع سجن المخابرات دون أمر كتابي صريح من النيابة العامة.

وكان المتهم الثاني حسن زكي عليش قد طلب في 21/ 7/ 1965 من رئيس نيابة أمن الدولة العليا إصدار أمره بالقبض على كل من مصطفى كمال إبراهيم و إبراهيم صالح محمد (الصحفيين بدار الأخبار) وتفتيشهما وتفتيش محال إقامتهما وذلك لتحريرهما تقارير تتضمن معلومات عثر عليها لدى المجني عليه مصفى أمين يوسف، غير أن رئيس النيابة رفض هذا الطلب لأن ما نسب إلى هذين الصحفيين لا يشكل في حقهما أية جريمة تبرر اتخاذ أي إجراء قبلهما فما كان من المتهم الثاني حسن زكي عليش إلا أنا استنجد بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة والنائب الأول لرئيس الجمهورية الذي اتصل برئيس النيابة وطلب منه القبض علي هذين الصحفيين بدعوى أن البلد مازال في حالة ثورة وأن العلل بالقانون يعتبر تخلفا الأمر الذي من أجله قد تقدم المتهم الثاني أيضا ببلاغ نسب فيه إلى هذين الصحفيين التعاون مع المجني عليه فصدر أمر النيابة العامة بضبطهما وتفتيشهما ثم حبسهما بعد استجوابهما...

طريق غير مشروع

ونظرا لأن المجني عله مصطفى أمين يوسف لم يعترف عند ضبطه أو استجوابه بالتهمة المسندة إليه ولما كانت التسجيلات الصوتية التي حصلت عليها هيئة الأمن القومي بالمخابرات العامة والتي سجلت بعض اجتماعات المجني عليه مع الضابط الأمريكي قد أخذت طريق غير مشروع مما خشي معه تقديم هذه التسجيلات إلى المحقق يوم بدأ التحقيق في 22/ 7/ 1965 فقد طلب المتهم الأول صلاح نصر من المجني عليه عقب استجوابه أول مرة أن يكتب إقرارا في صورة التماس وذلك للرئيس السابق جمال عبد الناصر يعترف فيه صراحة بالتهمة المنسوبة إليه وعلى ألا يذكر أن اتصاله كان بتكليف من المسئولين وإذا رفض المجني عليه مصطفى أمين يوسف ذلك الطلب أمر المتهم صلاح محمد نصر رئيس المخابرات العامة بتعذيبه حتى يذعن لما طلبه منه وتنفيذا لذلك الأمر اقتاده معذبوه إلى زنزانة بالدور الأرضي بمبنى المخابرات بداخلها مقعد دائري بين ألفاظ التهديد والوعيد ثم جردوه من ملابسه حتى أصبح كيوم ولدته أمه، وسلطوا عليه الكشافات المضيئة القوية التي كادت تعمي عينيه ثم انهالوا عليه ضربا بالأيدي وركلا بالأقدام ثم قيدوه إلى الحائط ويديه وقدميه وقاموا بنزع شعر جسده وعانته بأيديهم وفي قسوة أخذوا يلدغونه بأظافرهم في جسده ثم ربطوا قضيبه بسلك كهربائي وأطلقوا قيده وأخذوا يجذبونه منه وانهالت عليه ألفاظ السباب البذيئة حتى سب أمه فاضطر إلى الخضوع لمطلبهم لعدم تحمله ما لاقاه من ألوان التعذيب البدني فصعدوا به إلى غرفة بالدور العلوي حيث أحسنوا وفادته وبدأ يكتب ما يرضون عنه أو يملونه عليه حتى إذا لم يمتثل لأوامرهم أو يكتب مالا يرضون عنه أنزلوه إلى زنزانته بالدور الأول ليعيدوا عليه الكرة ويقدموا إليه وجبه أخرى من التعذيب المماثل فضلا عن حرمانه من الطعام والشراب حتى اضطرني أثناء ذلك إلى شرب ماء الاستنجاء بل وشرب بوله واستمر الحال على هذا المنوال بين تعذيب وراحة حتى انتهى المجني عليه من كتابه ما راق لهم من إقرار بالصورة التي قدم بها هذا الإقرار إلى المحقق في يوم 4/ 8/ 1965

مشاهدة التعذيب

وكان المتهمان الأول صلاح محمد نصر والثاني حسن زكي عليش يترددان على المجني عليه أثناء تعذيبه ومعهما بعض المتهمين في القضية رقم 9 سنة 1965 أمن دولة عليا المعروفة باسم قضية الحزب الشيوعي العربي وهم شفيق أندراوس بشارة وعدلي أبادير غطاس وأنور مصطفى جمعة زعلوك ومحمد الغني النشرتي وعادل سليمان وذلك إرهابا لهم وزهوا بسلطانهم.

وكان المجني عليه مصطفى أمين يوسف أثناء استجوابه فيما جاء بالإقرار المذكرو واقعا تحت تأثير ما ذاقه من ألوان التعذيب سالفة الذكر فضلا عن التلويح له بإعادة تعذيبه إذا ما فكر في العدول عما سطره في الإقرار السبق ذكره أو ذكر التعذيب أمام المحقق.

هذا وقد ترك التعذيب الجسدي بالمجني عليه آثارا ظل بعضها ظاهرا حتى أثبته المحقق العسكري في 16/ 3/ 1986 عند مناظرته المجني عليه بمناسبة سؤاله في الشكوى المقدمة منه بتاريخ 25/ 2/ 1968 بشأن تعذيبه وهي علامات سوداء أسفل الركبة وأيضا أسفل الساق ناحية القدم كما لاحظ وجود أثر غائر في منتصف الركبة اليمنى ووجود علامتين أسفل الذقن والثانية ممتدة ناحية اليسار وعلامات غائرة حول رأس القضيب كما ثبت من الكشف الطبي الموقع على المجني عليه في 3/ 4/ 1968 بليمان طره وجود أثر التئام قديم لجرح صغير بقمة الرأس وأثر التئامين صغيرين بمقدمة الساق اليسرى.

وبعد انتهاء التحقيق مع المجني عليه مصطفى أمين يوسف بمبنى المخابرات رحل إلى سجن الاستئناف في 1/12/ 1965 حيث حرر رسالة في 6/ 12/ 1965 إلى الرئيس السابق جمال عبد الناصر يشكو له فيها مما تعرض له من تعذيب بمبنى المخابرات العامة وهربها إلى الصحفي سعيد فريحة ( صاحب دار الصياد بلبنان) الذي عرضها على السيد علي السيد فائق السمرائي الذي ينصح بعد إبلاغها إلى الرئيس السابق جمال عبد الناصر خوفا على حياة المجني عليه مصطفى أمين يوسف فيما لو علم بها المتهم الأول –صلاح محمد نصر.

وقدم المجني عليه لمحاكمة أمام المحكمة العسكرية العليا حيث أفض إلى هيئة الدفاع عنه وكان من بينهم الأستاذ محمد عبد السلام مصطفى المحامي بما تعرض له من تعذيب وقضت تلك المحكمة بمعاقبته بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم رحل إلى ليمان طرة حيث زارته لجنة الحريات المشكلة من بعض أعضاء مجلس الشعب لتقصي الحقائق وكان من بين أعضائها السيد سيد جلال والسيدة كريمة العروسي اللذان التقى بهما المجني عليه مصطفى أمين يوسف وأخبرهما بم وقع عليه من تعذيب كما روي للدكتور عز الدين عبد القادر أحد زملائه بالليمان ما حدث له في هذا الشأن.

محاولات الأصدقاء

وقد حاول بعض أصدقاء المجني عليه وهم السيد محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان السابق والسيد فائق السمرائي سفير العراق السابق بمصر التوسط لدى الرئيس السابق جمال عبد الناصر للإفراج عن المجني عليه غير أن مساعهما قد باءت بالفشل لعدم استجابة الرئيس السابق جمال عبد الناصر لمطلبهما تأديبا للمجني عليه جزاء ما نسبه إليه من أنمنع الولايات المتحدة الأمريكية توريد القمح إلى مصر سيرغمه على الركوع لها، فضلا عن الكيد للولايات المتحدة الأمريكية هذا بالإضافة إلى ما قرره المتهم الأول صلاح محمد نصر للدكتور بهي الدين شلش بأن المجني عليه قد ظلم في قضيته.

الوقائع ثابتة

وحيث أن الوقائع سالفة الذكر قد ثبت لدى المحكمة ثبوتا كافيا وتوافرت الأدلة على صحتها من شهاة كل من المجني عليهم: مصطفى أمين يوسف وشفيق أندرواوس بشارة وعدلي أبادير غطاس وأنور مصطفى زعلوك ومحمد عبد الغني النشرتي وعادل سليمان والسيد سيد جلال والسيدة كريمة العروسي والأستاذ محمد محمد عبد السلام مصطفى المحامي والدكتور عز الدين عبد القادر والأستاذ فائق السمرائي والمستشار سمير ناجي والدكتور بهي الدين شلش ومما قرره السيد محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان السابق وكذلك من محضر تحقيق المدعي العام العسكري ومما جاء بالكشوف الطبية للمجني عليه وشهود الرؤية المرفقة بالأوراق.

فشهد المجني عليه الصحفي مصطفى أمين يوسف أنه فوجئ جلوسه مع أحد ضباط المخابرات الأمريكية (بروس تايلور أوديل) بحديقة منزله بالإسكندرية الساعة الثانية ظهر يوم 21/7/ 1965 بقوة من أفراد المخابرات العامة برئاسة المتهم الثالث أحمد يسري الجزار يقتحمون عليه هذا الاجتماع وكان في صحبتهم وكيل نيابة أمن الدولة العليا الذي سأله عن سبب هذا الاجتماع فأجابه بأنه مكلف من قبل المسئولين بالاتصال برجال السفارة الأمريكية للحصول مهم عل ما يهم الدولة من معلومات ثم اقتيد مكبل اليدين ومعصوب العينين بسيارة إلى مبنى المخابرات العامة بالقاهرة وعند استجوابه أمام رئيس نيابة أمن الدولة العليا في اليوم التالي ردد ما قاله في أول الأمر وبعد انتهاء التحقيق معه يوم 23/ 7/1965 طلب منه المتهم الأول صلاح محمد نصر كتابة ما دار بينه وبين ضابط المخابرات الأمريكية من أحاديث وما تصمنته تلك الأحاديث من معلومات وذلك في صورة إلتماس مرفوع للرئيس السابق جمال عبد الناصر وعلى ألا يذكر في هذا الالتماس مرفوع للرئيس السابق جمال عبد الناصر وعلى ألا يذكر هذا الالتماس أنه مكلف من المسئولين بهذا الاتصال ولما رفض هذا الطلب أمر المتهم الأول صلاح محمد نصر بتعذيبه حتى يرضخ لطلبه وبدأ التعذيب بإنزاله زنزانة بالدور الأول وأجلسوه على مقعد دائري في وسطها بعد أن خلعوا عنه جميع ملابسه حتى أصبح عاريا منها تماما وسلطت عليه الأنوار الكاشفة القوية الإضاءة ومنع عنه الطعام والشراب في فترات حتى اضطر إلى شرب ماء الاستنجاء وشرب ماء بوله، ثم شدوا شعر جسده وعانته وهو مقيد اليدين والقدمين إلى الحائط ثم قاموا بفك قيده وربطوا قضيبه بسلك كهربائي وأخذوا يجذبونه منه وكان في معظم الأحيان معصوب العينين وانهال عليه السباب وبأفظع الألفاظ حتى سب أمه مما اضطره تحت وطأة التعذيب وتلك الإهانات إلى الانصياع إلى طلب المتهم الأول وهو كتابة الإقرار الذي كان يشرف على كتابته معاونو المتهم الأول من بينهم المتهمان الثاني حسن زكي عليش والثالث أحمد يسري الجزار وقد استغرق ذلك عدة أيام وبلغ عدد صفحاته ستين صفحة وكان إذا أجاب مطلبهم تركوه وإذا رفض تحرير ما يملونه عليه عادوا إلى تعذيبه حتى أتم كتابة الإقرار، ثم بدأ استجوابه فيما جاء بهذا الإقرار وذلك يوم 4/ 8/ 1965 يلاحقه التهديد بالتعذيب وكان التعذيب بأمر المتهم الأول صلاح محمد نصر وكان يحضر بعض جلساته المتهمان الثاني والثالث وكان المقصود من التعذيب هو الاعتراف بجريمة لم يرتكبها وأن الإقرار الذي حرره جبرا كان يحوي وقائع كاذبة كسفر أم كلثوم لعلاجها بالذرة ومجلة المختار كانت بمقابل وأنه لو لم يقع عليه التعذيب لما كتبه، وأن التسجيلات التي سجلت اجتماعاته مع ضابط المخابرات الأمريكية قد حدث بها تعديلات، ولأنه كان يعذب وهو معصوب العينين لم يشاهد أحدا أثناء التعذيب، وأن الذين شاهدوه وهو يعذب أخبروه بعد ذلك بالسجن وهم شفيق أندراوس غالي وعدلي أبادير ومحمد عبد الغني النشرتي وعادل سليمان وأنور جمعة زعلوك الذين كانوا متهمين في قضية الحزب الشيوعي العربي وأنه بعث برسالة موجهة إلى الرئيس السابق جمال عبد الناصر يذكر فيها ما ناله من تعذيب أرسل صورة منها إلى الأستاذ سعيد فريحةالصحفي وذلك في 6/12/1965الذي اخبره أن الرسالة لم تصل إلى علم الرئيس السابق جمال عبد الناصر تنفيذا لنصيحة الأستاذ فائق السمراني خوفا على حياته فيما لو علم بها المتهم الأول صلاح محمد نصر وأنه لم يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلا مرة واحدة خلال المدة من سنة 1960 إلى سنة 1965 وفي رفقة الرئيس السابق جمال عبد الناصر وكانت اتصالاته هناك برجال الحكومة الأمريكية بأمره وقد ذكر، وقائع التعذيب لهيئة الدفاع عنه أثناء محاكمته أمام المحكمة العسكرية العليا وكان من بينهم الأستاذ محمد عبد السلام المحامي وأن المتهم الأول أرسل إليه برسالة شفوية مع الدكتور بهي الدين شلش يخبره فيها بأنه مظلوم في قضيته وأنه بعص مع الأخير إلى المتهم الأول بإقرار كتابي بهذا المضمون ليوقعه وقد أخبر الدكتور بهي الدين شلش بما وقع له من التعذيب وقد زارته في سجنه بليمان طره لجنة تقصي الحقائق والتي كانت مشكلة من بعض أعضاء مجلس الشعب وكان من بينهم السيدة كريمة العروسي والسيد سيد جلال وقد أخبرهم بما وقع له من تعذيب.

شهادة اندراوس

وشهد شفيق اندراوس بشاره أنه ضبط متهما في قضية الحزب الشيوعي العربي في 19/ 8/ 1965 واقتيد إلى مبنى المخابرات العامة وهو معصوب العينين وهنا أمروه بخلع حذائه وأدخلوه في غرفه بداخلها ثلاثة ضباط وأجلسوه على مقعد متحرك وسلطوا عليه كشافا كهربائيا قوي الإضاءة ثم قادوه إلى زنزانة وخلعوا عنه ملابسه ثم بدأت معه عملية الضرب وأمروه بالصعود على مقعد يقف عليه وفي مرحلة من مراح التعذيب قاموا بنفخه حتى أغمي عليه ثم علقوه في فلكة ورفعوه إلى أعلى وأخذوا يضربوه على قدميه وحتى لا يصيح أدخل أحد الضباط حذاءه في فمه عنوة وكل ذلك حتى يحملوه على الاعتراف ولما لم يذعن لطلبهم انهالوا عليه ضربا بالعصي حتى أغمى عليه ثم اصطحبوه إلى غرفة أخرى وهو معصوب العينين وهناك رفعوا العصابة حيث شاهد المجني عليه مصطفى أمين يوسف وهو عار من ملابسه وقد ربط قضيبه بسلك كهربائي ويشده منه أحد الحراس وكان آخر يشد عانته، وثالث يضربه بعصا وكان مصطفى أمين أثناء وقوفه وبجواره عدد من الضباط ومن بينهم المتهم الأول صلاح محمد نصر الذي هدده بأنه سيعذبه أضعاف ما عذبه به المجني عليه ثم أخذوه إلى حجرة أخرى بعد أن وضعوا على عينيه عصابة وأمروه بخلع ملابسه وعلقوه من قدميه في كلبشات إلى أعلى ورأسه لأسفل وبدأوا في ضربه ضربا متواصلا هو يصرخ حتى أغمي عليه وكان التعذيب يصاحبه الحرمان من الطعام والشراب رغم شدة الحر ولما لم يذعن لطلبهم أخذوه إلى حجرة أخرى حيث قيدوا يديه بكلبشات مثبتة بالحائط وظهره لهم ثم انهال عليه الضرب بالعصي على جسمه وهو عار من ملابسه ثم اقتيد إلى حجرة أخرى بوسطها مقعد صغير مثبت بالأرض وطلبوا منه الصعود عليه وهو مكبل اليدين وأمروه بعمل خطوات تنظيمية حتى إذا تعب ضربوه بالعصي وفي حجرة أخرى وضع أحد الضباط سلكا كهربائيا على جسمه ثم سلط عليه التيار الكهربائي فكان يصرخ ويقفز إلى أعلى وتكرر ذلك عدة مرات حتى انهارت قواه وخضع لمطلبهم وأقر بما كانوا يطبوه منه الإقرار به وبأنه عضو في منظمة شيوعية وأن آثار الضرب مازلت باقة على قدميه وأثبت الطبيب الشرعي ذلك عن الكشف عليه في أوائل مارس1968 وأن سبب مشاهدته المجني عليه وهو يعذب هو للإرهاب والإذلال وأنه قابل بعد ذلك المجني عليه في سجن الاستئناف عقب ترحيله من مبنى المخابرات في 26/ 10/ 1965 وأنه في أثناء ذلك أخبره عن التعذيب وما ناله من عذاب...

شهادة زعلوك

وشهد أنور جمعة زعلوك بأنه قبض عليه في يوم 25/ 7/ 1965 واقتيد إلى مبنى المخابرات العامة وهو معصوب العينين وهناك أجبروه على خلع ملابسه وسلطوا عليه كشافات كهربائية ذات قوة عالية واستمر ضربه حتى يعترف أنه شيوعي وفي حجرة أخرى قاموا بقيده إلى الحائط ومنع عنه الطعام والشراب وكان التعذيب بإشراف وبحضور وأمر صلاح محمد نصر ونائبه حسن عليش ولما رفض طلبهم الاعتراف ازدادت مراحل التعذيب ثم نقلوه إلى غرفة حيث علق ساعات بعد قيد يديه في كلبشات حديدية ثم رفع جسمه وظل معلقا عدة ساعات بغير طعام أو شراب ولما لم يستجيب إلى طلبهم أخذوه إلى غرفة أخرى حيث شاهد المجني عليه مصطفى أمين يوسف عاريا مثله وقد بط قضيبه بسلك كهربائي يجره منه أحد معذبيه في أنحاء الغرفة وكان المجني عليه أثناء ذلك يهدده صلاح نصر بأنه لن يفلت من يديه ثم اعتدوا عليه بالضرب بالأيدي والركل بالأقدام وقد انهالت عليه ألفاظ السباب وسب أمه، وعندئذ صرخ مصطفى أمين وبكى ثم أخرجوه من غرفة المجني عليه إلى غرفة أخرى حيث فوجئ برفعه إلى أعلى من قدميه وأدخلوا في فتحة شرجه آلة معدنية وبدأوا في نفخة مما سبب له أضرارا كبيرة حتى أغمي عليه ولما لم يتمثل إلى مطلبهم أخذوه إلى حجرة أخرى حيث قيدوه من يديه وقدميه وقاموا بخلع ظفر أصبعه الأيسر وكذا الوسطى والإبهام الأيسر وذلك بآلة معدين حتى أغمي عليه بعد الضغط النفس وألوان التعذيب وتهديده بإحضار زوجته وبناته وأخواته للاعتداء عليهن لم يجد بدا من الاستسلام لرغبتهم وكتب ما أملاه عليه صلاح نصر وحسن عليش وحقق معه أمام النيابة العامة في حضور أفراد المخابرات ولم يخرج في التحقيق عن مضمون الإقرارات المزورة التي حررها جبرا عنه خوفا منهم وكان أثناء إقامته في مبنى المخابرات يسمع صراخا لأصوات مختلفة منها صراخ أطفا وأن رؤيته لمصطفى أمين وهو يعذب كان للإرهاب النفسي وأنه قابل مصطفى أمين في السجن بعد خروجه من مبنى المخابرات العام في 26/ 10/ 1965 وأن أعضاء لجنة تقصي الحقائق عند حضورها إلى السياسيين ومن بينهم المجني عليه مصطفى أمين يوسف حيث شرحوا لهم ما لاقوه من تعذيب.

وشهد محمد عبد الغني النشرتي أنه قبض عليه في 31/ 7/ 1965 واقتيد إلى مبنى المخابرات العامة متهما في قضية الحزب الشيوعي العربي وقد كبلت يداه وعصبت عيناه وفي غرفة من إحدى الغرف كانت الكشافات شديدة الحرارة قد سلطت عليه ولما طلبوا منه الاعتراف بما يعره عن الحزب الشيوعي العربي نفى علمه به فبدأ تعذيبه بخلع ملابسه ثم قيدوا يديه من الخلف وظل كذلك حتى صباح اليوم التالي وهددوه بالعذاب الشديد إن لم يعترف ولا لم يمتثل لهم أخذوه إلى غرفة أخرى حيث ألقيت على رأسه وظهره رمال محمية واستأنفوا ضربه بالعصي والسياط ثم علقوه من قدميه وهو يصرخ مستغيثا طالبا شرب الماء الذي حجبوه عنه وفي غرفة أخرى قيدوه وبدأوا معه عملية كي القضيب والخصيتين بجسم ملتهب لمدة ربع ساعة وهو يصرخ وفي منتصف الليل أوثقوه ووضعوا دبابيس في عنقه من الخلف ثم نزعوها وشعر بالدم يسيل على عنقه ثم اقتيد معصوب العينين إلى غرفتة أخرى حيث رفعوا العصابة عن عينيه، وشاهد المجني عليه مصطفى أمين يوسف عاريا من ملابسه ومقيدا إلى الحائط من يديه وقدميه والأنوار الكاشفة مسلطة عليه و العرق يتصبب من جسمه ثم اقتيد إلى غرفة أخرى حيث قيد من قدميه ويديه ووضعوا في فتحة شرجه خرطوما وأحس بدخول غاز بارد أحدث آلاما مبرحة في أمعائه ثم أغمي عليه وبعد أن أفاق أعادوا الكرة عليه ثم بدأ أحدهم بنزع أظافر قدمه اليمنى الخمس وهو يصرخ بشدة وعندئذ أذعن لمطلبهم وكتابة ما يملونه عليه وهو أنه متفق جنائيا مع باقي المتهمين في قضية الحزب الشيوعي العربي لقلب نظام الحكم واغتيال الرئيس السابق جمال عبد الناصر ثم أملوه بعد التهديد إقرارا أخر ولما حاول إثارة التعذيب أمام وكيل النيابة المحقق أخذوه بحجة تناوله الطعام ثم قاموا بإعطائه وجبه أخرى من التعذيب بالضرب والركل وظل بمبنى المخابرات حتى 26/ 10/ 1965 ثم نقل إلى سجن الاستئناف وكانت رؤيته لمصطفى أمين أثناء تعذيبه هي للإرهاب وقابل مصطفى أمين في سجن الاستئناف وذكر له ما شاهده من التعذيب وقال أنه شاهد متهمين آخرين يعذبون في مبنى المخابرات أثناء نقله من غرفة لأخرى ومنهم أنور زعلوك وعدلي أبادير وأن لجنة تقصي الحقائق اجتمعت بالمسجونين السياسيين وأخبرهم المجني عليه مصطفى أمين بما ذاقه من عذاب..

وشهد عادل سليمان أنه بعد القبض عليه في اتهامه في قضية الحزب الشيوعي العربي اقتيد إلى مبنى المخابرات في 31/ 7/ 1965 معصب العينين، واستقبل بعد وصوله بالركل بالأقدام وجردوه من كل شيء ونزعوا عنه عصابة عينيه وشاهد مرآة في الغرفة التي كان بها وفي حضور المتهم الأول صلاح محمد نصر وكذا المتهم الثاني حسن عليش ومعهما عبد الخالق شوقي وسألوه عما يعرفه عن الحزب الشيوعي العربي و مصطفى أغا المحامي، ولما نفي علمه بأي شيء خلعوا عنه ملابسه وبدأوا في ضربه ثم أوثقوه وعلقوه إلى أسفل ووضعوا وجهه في فتحة دورة المياه حتى أغمي عليه ثم رفعوا العصابة من فوق عينيه حيث شاهد رجلا يهذي كالأطفال ثم قادوه إلى زنزانته وكانوا يجذبوه من قضيبه وكانوا يتدرجون في التعذيب ويناولونها لماء قطرة قطرة وأخذوه إلى حيث كان المجني عليه مصطفى أمين يوسف مقيد اليدين والقدمين إلى الحائط وقد انهال عليه سيل من السباب في حضور المتهم الأول وكذلك المتهم الثاني وأنه قابل المجني عليه مصطفى أمين في سجن الاستئناف بعد خروجه من مبنى المخابرات العامة في 26/ 10/ 1965 حيث تبادل معه الحديث عن التعذيب الذي ذاقه كل منهما.

وشهد عدلي أبادير غطاس أنه قبض عليه في يوم 19يولية 1965 متهما في قضية الحزب الشيوعي العربي واقتيد إلى مبنى المخابرات العامة معصوب العينين وجردوه من كل ما كان معه وتركوه واقفا في إحدى الغرف مدة تزيد عن الساعة وسألوه عن علاقته بالأستاذ مصطفى أغا المحامي وفي حجرة أخرى نزعوا عنه عصابة عينيه وطلبوا منه كتابة ما يعرفه عن ذلك المحامي وكان يسمع أصوات استغاثة ولما لم يرضوا عما كتبه أخذوه إلى غرفة أخرى وخلعوا عنه ملابسه جميعا ثم وضعوا العصابة على عينيه وكبلوا يديه بالحديد وقيدوا قدميه وقاموا بكي ظهره ي أماكن متفرقة ثم صبوا عليها لاماء البارد كل ذلك وهو مشلول الحركة عن كل مقاومة.

ثم أمروه بالسير في حجرة وهو مقيد القدمين وكان يتكرر سقوط في كل مرة يحاول فيها السير ثم طلبوا منه تحرير إقرار بانضمامه إلى الحزب الشيوعي العربي الذي ألفه مصطفى أغا فكتب هذا الإقرار تحت ضغط التعذيب ثم أخذه بعد ذلك أحد الضباط وخلع عنه عصابة عينيه وطلب منه تحرير إقرار أخر يذكر فيه أعضاء التنظيم ولما لم يمتثل إلى طلبه أمر بضربه بالسياط أو العصي لأنه لم يتمكن من معرفة الآلة التي كان يضرب بها وهو معصوب العينين واستمر ضربه حتى أغمى عليه ولما أفاق وجد الدم يسيل من فمه وقد تخلخلت أسنانه الأمامية التي خلعا طبيب سجن الاستئناف بعد نقله إليه ولما أفاق من إغمائه طلب منه أحد الضباط كتابة الإقرار المطلوب منه. وقد أعادوا تعذيبه وقادوه إلى حجرة أخرى وهو معصوب العينين وهناك رفع عن عينيه العصابة فشاهد المجني عليه مصطفى أمين عاريا تماما ومقيد اليدين والقدمين إلى الحائط وكان أحدهم يشد شعر عانته وفي اليوم التالي طلب منه ضابط المخابرات تحرير إقرار بأن مصطفى أغا المحامي عرض عليه وزارة الثقافة وأنه قبلها فحرر الإقرار كما طلب منه ثم بدأت النيابة التحقيق معه وكانت رؤية مصطفى أمين وهو يعذب لتهديده بعذاب أكبر وكان يحضر صلاح نصر تعذيب مصطفى أمين وسمع بعد نقله إلى سجن الاستئناف في 26/ 10/ 1965 أنه أي مصطفى أمين تليفونيا وطلب منه أن يعيد (أي مصطفى أمين) الطعام ولاشراب عنه وكذا الأدوية وأن كلا من أنور زعلوك و محمد عبد الغني النشرتي و عادل سليمان شاهد مصطفى أمين وهو يعذب وأثبت الطبيب الشرعي الإصابات المختلفة بكل منهم من أثار التعذيب وأنهم شرحوا إلى أعضاء لجنة تقصي الحقائق ما لاقوه من تعذيب عند زيارتهم لهم بليمان طره كما ذكر لهم مصطفى أمين ما لاقاه من تعذيب ...

وشهد السيد سيد جلال عضو مجلس الشعب أنه كان عضوا في لجنة تقصي الحقائق التي شكلت من بين أعضاء مجلس الشعب لزيارة المسجونين السياسيين وأنه توجه مع اللجنة لزيارة ليمان طرة حيث قابل مصطفى أمين المجني عليه الذي اصطحبه إلى زنزانته وذكر هل ما ناله من تعذيب وأنه شاهد معه السيدة كريمة العروسي تنفرد بالمجني عليه أيضا وأنه حاول الاتصال ببعض الأشخاص كوزير الداخلية ليبلغه ما حدث للمجني عليه مصطفى أمين وعلل عدم إثارته واقعة تعذيب بمجلس الشعب بأنهم جميعا كانوا منافقين..

وشهدت السيدة كريمة العروسي( أحد أعضاء لجنة الحريات لتقصي الحقائق بمجلس الشعب) أنها ذهبت إلى ليمان طره وعندم مقابلتها للمجني عليه مصطفى أمين بكي متأثرا لما حدث له من تعذيب وأخبرها بتفاصيله ولب إعادة محاكمته بعد إدانة صلاح نصر وكذا جميع المسجونين السياسيين وقد حررت تقريرا سلمته إلى رئيس مجلس الشعب أثبتت فيه ما سمعة من مصطفى أمين وما شاهدته بالليمان.

وشهد الدكتور عز الدين عبد القادر أنه كان متهما بالتحريض على قلب نظام الحكم وكان في فرنسا ثم ذهب لاجئا إلى المغرب حيث قابل الرئيس السابق جمال عبد الناصر الذي طلب منه فتح صفحة جديدة ورحب بحضوره إلى مصر وعقب وصوله إلى مطار القاهرة الدولي ومعه زوجته قبض عليهما واقتيدا إلى مبنى المخابرات العامة حيث قابل صلاح نصر المتهم الأول وأمروا بخلع ملابسه وأخذوا في تعذيبه ونغزه في ظهره بالسكاكين حتى أغمي عليه وقد للمحاكمة وقضي عليه بالعقوبة وقابل بليان طره المجني عليه مصطفى أمين وتبادلا الحديث عن التعذيب الذي حدث لكليهما وأخبره مصطفى أمين أنهم كانوا يشدونه من شعر جسمه وطلب من أعضاء لجنة تقصي الحقائق عند حضورها إلى الليمان مشاهدة مصطفى أمين الذي أخبرهم بما ناله من تعذيب..

وشهد الأستاذ محمد عبد السلام مصطفى المحامي بأنه ندب للدفاع عن الأستاذ مصطفى أمين في قضية التخابر 10 سنة 1965 وأنه ذكر له ما حدث له من تعذيب في أثناء مقابلته له في المحكمة في فترة الاستراحة وأمام هيئة الدفاع التي كانت مكونة منه والأستاذين محمد عبد الله و حمادة الناحل المحامين وأنهم سمعوا جميعا من المجني عليه ما لاقاه من تعذيب كشد شعر جسمه وعانته وأن هيئة الدفاع قررت عدم حدوي إثارة موضوع التعذيب أمام المحكمة لأن رئيسها لم يكن يسمح لأي محامي بإثارة مثل هذه الأمور ولأن أمر تشكيل المحكمة المذكورة لا يأخذ بقانون الإجراءات الجنائية.

وشهد الأستاذ فائق عبد الكريم السمرائي سفير العراق السابق بمثر بأنه كانت له علاقة قديمة بالمجني عليه مصطفى أمين يوسف بحكم اشتغالهما بالقضايا العامة وتوقفت هذه العلاقة بينهما عندما عين سفيرا لالعراق في القاهرة وطلب منه الرئيس السابق جمال عبد الناصر الاتصال بمصطفى أمين في القضايا المستعجلة وكان ذلك سببا في توثيق العلاقة بينه وبين مصطفى أمين وفي إحدى الزيارات له في أواسط سنة 1964 اتصل سامي شرف بمصطفى أمين تليفونيا وطلب منه أن يعيد (أي مصطفى أمين ) اتصاله برجال الولايات المتحدة الأمريكية فأشار (أي الشاهد على مصطفى أمين) أن يتصل بالرئيس جمال عبد الناصر شخصيا وتم هذا الاتصال أمامه فأيد الرئيس السابق جمال عبد الناصر ما أبلغ به سامي شرف المجني عليه مصطفى أمين ثم سافر بعد ذلك إلى بغداد وسمع وهو هناك بأمر القبض على مصطفى أمين لتخابرة مع دولة أجنبية ثم تردد على مصر عدة مرات بعد ذلك قابلا خلالها الرئيس السابق جمال عبد الناصر وقبل صدور الحكم ضد مصطفى أمين وأخبر الرئيس السابق بأنه كان حاضرا المكالمة التليفونية بين مصطفى أمين وبين سامي شرف وكذلك بين مصطفى أمين وبين الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأن اتصال مصطفى أمين برجال الولايات المتحدة الأمريكية كان بناء على طلب الرئيس السابق جمال عبد الناصر فأخبره الأخير أنه لم يقل لمصطفى أمين أن تمنع الولايات المتحدة الأمريكية القمح عن مصر ثم حدثت بعد ذلك عدة اتصالات بينه وبين الأمير طلال ابن عبد العزيز آل سعود والسيد محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان السابق وكذلك بين الآخرين بين الرئيس السابق جمال عبد الناصر الذي أخبرهم بأن مصطفى أمين مظلوم وأنه إذا أطلق سراحه وقتئذ فسيضطر لإطلاق سراح الإخوان المسلمين والشيوعيين ووعدهما بإرسال مصطفى أمين إلى المستشفى بعد الحكم عليه وبعد وقوع نكسة 67 وفي الطريق إلى مؤتمر الخرطوم عاود الكلام مع الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأخبره أنه إذا كان ما نشر في الصحف عن انحراف المخابرات صحيح أفليس من الإنصاف أن تعاد محاكمة مصطفى أمين بإطلاق سراحه في أقرب فرصة وقد كان مقتنعا ببراءة مصطفى أمين وفي الفترة ما بين ديسمبر 1965 و فبراير سنة 1966 استدعاه الصحفي سعيد فريحة في فندق الهيلتون وقدم له رسالة بخط يد مصطفى أمين موجهة إلى الرئيس السابق جمال عبد الناصر فستكون حياة مصطفى أمين في خطر فاقتنع سعيد فريحة بكلامه ولم يقدم الرسالة وبعد ذلك تسربت الرسالة إلى جريدة الأنوار بعد مضي مدة كبيرة وقد قابل مصطفى أمين مرتين أولاهما بسجن الاستئناف والثانية بليمان طره.

وشهد الدكتور بهي الدين شلش بأن المتهم صلاح محمد نصر وكذا المجني عليه مصطفى أمين كانا يعالجان بمستشفى قصر العيني وبعد الإفراج عن مصطفى أمين أبلغ صلاح نصر أنه سيقابل مصطفى أمين فطلب منه الأول أن يبلغه أنه كان مظلوما في اتهامه وأن الرئيس السابقجمال عبد الناصر كان يحاكم مصطفى أمين أن يستكتب صلاح نصر مضمون ما ذكره له وأن الأخير لم يوافق وذكر له مصطفى أمين ما ناله من عذاب كشد شعر العانة وجذبه من جهازه التناسلي...

دور المشير عامر

وشهد المستشار سمير ناجي أنه بعد القبض على المجني عليه وانتقاله إلى مبنى المخابرات بالقاهرة مع رئيس نيابة أمن الدولة العليا حضر واقعة طلب المتهم الثاني حسن زكي عليش من رئيس النيابة الأمر بالقبض على الصحفيين مصطفى كمال إبراهيم و إبراهيم صالح محمد اللذين كانا يعملان بدار الأخبار لتحريرهما تقارير وجدت لدى المجني عليه مصطفى أمين يوسف إذ رفض رئيس نيابة أمن الدولة هذا الطلب باعتبار أن ما صدر منهما يدخل في صميم عملهما ولا يكون أي جريمة أو له شبهة علاقة بما هو مسنود للمجني عليه مما يجعل القبض عليهما على غير أساس من القانون فقد بادر المتهم الثاني حسن زكي عليش واتصل بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر (القائد العام للقوات المسلحة والنائب الأول لرئي الجمهورية ) الذي تحدث تليفونيا مع رئيس النيابة المذكور وطلب منه ما طلبه المتهم الثاني قائلا «قانون أيه بلاش تحلف» ولما أصر رئيس النيابة على موقفه رد المشير «قانون أيه أنت مش عارف أن أحنافي ثورة قانون أيه خلوا قلوبكم معانا» فرد رئيس النيابة بأنه يعمل بكل قلبه وانتهت المكالمة وأحس (أي الشاهد) بتأزم الموقف وأنه في حدود ما ضبط لا يستطيع أن يقبض على هذين الصحفيين ثم قدم بلاغ أخر به معلومات من المخابرات عن الصحفيين المذكورين فصدر أمر بالقبض عليهما.

شهادة محجوب

وقرر السيد محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان السابق جمال عبد الناصر للتوسط في شأن الإفراج عن المجني عليه مصطفى أمين يوسف وأنه قابله في منزله بمنشية البكري واستفسر منه عما إذا كان مصطفى أمين جاسوس فأخبره الرئيس السابق جمال عبد الناصر أنه كلف مصطفى أمين بالاتصال بالمخابرات الأمريكية ليعرف أخبارهم ولما أخبروه بأن ذلك لا يتم إلا إذا عرفت المخابرات الأمريكية أخبار مصر أكد له الرئيس السابق جمال عبد الناصر معرفته ذلك ولكن مصطفى أمين قد تجاوز حدود مهمته إذ قال لرجال المخابرات الأمريكية أن الرئيس السابق جمال عبد الناصر يحتاج إلى القمح وأنه إذا منع عنه القمح فسيركع على ركبتيه للولايات المتحدة الأمريكية وأن هذا الأمر آلمه ولذلك لا يمكنه إطلاق سراحه وقتذاك حتى لا يقال أن رجال الولايات المتحدة الأمريكية طلبوا منه ذلك في الوقت الذي يحاكم فيه الإخوان المسلمين وأنه إذا أفرج عنه قد يقتضي ذلك الإفراج عن الإخوان المسلمين ووعده بالإفراج عن مصطفى أمين إفراجا صحيا ...

تحقيق المدعي العسكري..

وثبت من مطالعة محضر تحقيق المدعي العام العسكري عند مناظرته المجني عليه مصطفى أمين يوسف في 16/ 3/ 1968 مشاهدته علامات سوداء أسفل الركبة بطول 3سم وأسفل الساق ناحية القدم بطول 2سم

كما لاحظ وجود أثر غائر في منتصف الركبة اليمنى وجد علامتين أسفل الذقن تركت أثرا واضحا الأول بطول 3سم والثانية ممتدة ناحية اليسار وعلامات غائرة في منتصف الركبة اليمنى وجد علامتين أسفل الذقن تركت أثرا واضحا الأولى بطول 3سم والثانية ممتدة ناحية اليسار وعلامات غائرة حول رأس القضيب كما ثبت من الكشف الطبي الموقع على المجني عليه في 3/ 4/ 1986 بليمان طره وجود أثر التئام قديم لجرح صغير بقمة الرأس بطول 2سم والتئام كبير قديم مستعرض لجرح رضى أسفل الذقن بطول 2سم وأثر التئامين صغيرين بمقدمة الساق اليسرى بلغ طول كل منهما 2سم وأن هذه الالتئامات قديمة لجروح رضية يصعب التكهن بميعاد وأسباب حدوثها اللهم إلا مصادمة بأجسام صلبة راضة منذ وقت طويل كما ثبت من الكشف الطبي الشرعي المؤرخ 13/ 5/ 1968 على الشاهد شفيق اندراوس..

أولا: أن الضرس ذا الشرافتين الثاني الأيمن في الفك السفلي مفقود واللثة مكانة ملتئمة تماما وضامرة.. ثانيا: أثرة إلتئام سطحية على شكل حرف 7 مبيضة اللون نوعا وطول كل من ضلعيها نحو ½سم تقع بوحشية ظهر المفصل السلامي لإبهام اليد اليمنى.

ثالثا: أثرة التئام بلون داكن عن ولن الجلد نوعا حوافيها غير محددة تماما وغير منتظمة الشكل ويقع بأعلى الظهر إلى الأنسية قليلا من اللون الأيمن.

رابعا: عدة أثار التئامية سطحية عددها 30 مستديرة الشكل ولك بقطر حوالي 1سم وكل أبيض اللون نوعا وحوافيها داكنة ومنتشرة بأعلى الظهر وخلف الكتفين وأسفل خلف القنا وإثنان منها خلف الكتف اليمني مكون من نسيج كليودي بارز قليلا عن سطح الجلد بينا بقية أثر في مستوى سطح الجلد..

خامسا: عدة تلوثات بالجلد حوالي 20 بلون بني داكن عن لون الجلد منتشرة بالنصف العلوي

وانتهى التقرير إلى نتيجة بأنه شكل وطبيعة أثر الالتئام المستديرة الموصوفة بالظهر ومؤخر الكتفين ومؤخر العنق يتفق وتخلف هذه الآثار عن الكي بأجسام ساخنة أما الأثر الموصوف بإبهام اليد اليمنى وبالظهر على أنسية اللوح الأيمن وموضع فقد الضرس ذي الشرافتين السفلى الثاني الأيمن تغير معالمه جميعا بفعل تطورات التقيح في بطنها والالتئام ثم مضى الوقت عليها الأمر الذي يتعذر معه تحديد كيفية وسبب حدوثها وكان يمكن القطع في هذا الصدد لو كان تيسر الحصول على كشف طبي يصف الآثار التي تخلف عنها فور حصولها وكل ما يمكن تقريره في صددها أنه ليس فيها حاليا ما يميز حصولها على سبيل القطع نتيجة الاعتداء المتعمد والتعذيب وجميع هذه الآثار مضى عليها فترة تزيد على ستة أشهر ولا يمكن تحديدها فيما بعد ذلك بالضبط ولا يوجد ما يمنع أن تعاصر التاريخ الذي يقرره المذكور وقد شفي من إصابته دون تخلف عاهة.

كما ثبت من الكشف الطبي الشرعي المؤرخ أيضا 13/ 5/ 1968 على الشاهد عدلي أبادير غطاس أنه وجد أن سنته القاطعتين الأنسية اليسرى والوحشية بالفك العلوي مفقودتان مع تركب أخريين صناعيتين ووجود أثر التئام تامة التكوين بلون مبيض حولها بلون بني والأثرة مستديرة الشكل بقطر حوالي 2سم وتقع عند الزاوية الأنسية للوح الأيمن كما توجد أثره التئام مبيضة اللون حوافيها بنية تقع على يسار الخط المنصف للظهر مباشر في مستوى الفقرة التاسعة الظهرية ومساحتها نحو 2×2سم وبلون داكن الجلد غير منتظم الشكل في مساحة حوالي 5× 4 سم يقع بأنسية خلف الكتف الأيسر على بعد حوالي 8 سم من الخلف المنصف للظهر وتلون بالجلد داكن اللون نوعا غير محدود تماما في مساحة حوالي 3×4 سم ويقع بأنسية خلف الكتف الأيمن على بعد حوالي 5سم من الخط المنصف للظهر وخلص التقرير على أن أثر الالتئامين والتلفيات البنية الموصوفة بالترقوة بالظهر ومؤخر الكتفين وموضع فقد السنتين القاطعتين بيسار الفك العلوي جميعا قد تغيرت معالمها بفعل تطورات التقيح في بعض منها ولالتئام ثم مضى الوقت عليها الأمر الذي يتعذر معه تحديد كيفية وسبب حدوثها وكان يمكن القطع في هذا الصدد لو كان تيسر الحصول على كشف طبي يصف الآثار التي تخلفت عنها فور حدوثها وكل ما يمكن تقريره في صددها أنه ليس فيها حاليا ما يميز حصولها على سبيل القطع نتيجة الاعتداء المتعمد والتعذيب وجميع هذه الآثار مضى عليها فترة تزيد على ستة أشهر ولا يمكن تحديدها فيما بعد ذلك بالضبط ولا يوجد ما يمنع تعاصر التاريخ الذي يقرره المذكور الذي شفى من إصاباته دون تخلف عاهة.

وثبت من الكشف الطبي الشرعي على الشاهد محمد عبد الغني النشرتي في 6/3/ 1986 أنه وجد بمؤخر العنق أثرة إلتئام تام التكوين على يسار مؤخر العنق بين شعر القفا وعلى بعد حوالي 2.5 سم من الخط المنصف بلون نحاسي بقطر حوالي ½ سم وتحتها تليفي بالأنسجة تحت الجلد بحجم الحمصة وأثرة إلتئام تامة التكوين على يمين مؤخر العنق بين شعر القفا على بعد حوالي 3سم من الخط المنصف بلون نحاسي وبقطر حوالي 2ملليمتر تحتها تليف بالأنسجة تحت الجلد بحجم الترمسة وبالساعد الأيسر ثلاث ندب سطحية صغيرة على مقدم أسفل الساعد الأيسر بلون نحاسي باهت أولاها تعلو الرسغ بمسافة حوالي 2.5 سم وهي غير منتظمة الشكل مساحتها في أقصى أبعادها 3×5 ملليمتر والثانية على وخشية السابقة بمسافة حوالي 1سم وهي غير منتظمة ومساحتها في أقصى أبعادها 3×3 ملليمتر والأثرة الثالثة أسفل مستوى المسافة بين الأثرتين السابقتين وهي خطبة بطول حوالي 1سم وبعرض 1ملليمتر وباتجاه من أعلى إلى أسفل والأنسجة باليد اليسرى أثرة سطحية رقيقة بيضاوية الشكل براحة اليد على كلية الإبهام مساحتها في أقصى أبعادها 18×10 ملليمتر وهي بلون نحاسي دان وبالساق اليسرى أثرة التئام سطحية رقيقة غير منتظمة الشكل مساحتها في أقصى أبعادها 1.5×1 سم على مقدم الساق اليسرى بلون نحاسي باهت وندبة منخسفة لامعة بلون الجلد تقريبا قطرها 8ملليمترات على مقدم الساق اليسرى عند اتصال رسغيها السفليين وبالقدم اليسرى أثرة التئام رقيقة بلون نحاسي باهت عند ظهر القدم اليسرى خلف المفصل السلامي المشطي للإبهام باتجاه من الأنسية إلى الوحشية و الأمام مساحتها حوالي 16×4 ملليمتر قوسية نوعا وبالقدم اليمنى تشوه بسيط بقاعدة ظفر الإبهام وأظافر باقي الأصابع عادية المظهر وتبين من فحص الطبيب أن بالتمرة مساحات صغيرة غير منتظمة عديدة بلون مبيض يقرب لونها من لون التمرة الباهت وهي متصلة بها وتتراوح أقطارها ما بين 5.3 ملليمتر وذلك بالإضافة إلى أثرتين بلون باهت على ظهر جسم القضيب نفسه عند منتصفه أولاهما بقطر حوالي 6ملليمترات والثانية مساحتها 8×6 ملليمتر وتفصلهما مساحة سليمة من الجلد بعرض 1سم.

وخلص التقرير إلى أن آثار الالتئام الموصوفة بالعنق والساعد الأيسر واليد اليسرى والساق اليسرى والقدم اليسرى والقضيب قد تغيرت معالمها جميعا بفعل تطورات التقيح في بعضها والالتئام ثم مضى الوقت عليها الأمر الذي يتعذر معه تحديد كيفية وسبب حدوثها وكان يمكن القطع في هذا الصدد لو كان تيسر الحصول على كشف طبي يصف الآثار التي تخلفت عنها فور حدوثها وكل ما يمكن تقريره في صددها أنه ليس فيها حاليا ما يميز حصولها على سبيل القطع نتيجة الاعتداء المتعمد والتعذيب وأن النشر الموصوف بظفر الإبهام بالقدم اليمنى حدث نتيجة نزع الظفر ونمو ظفر جديد بدله بعد تقيح مجلس الظفر المنزوع وجميع هذه الآثار مضى على حدوثها مدة تزيد على ستة أشهر ولا يمكن تحديدها فيما بعد ذلك بالضبط ولا يوجد ما يمنع أن تعاصر التاريخ الذي يقرره المذكور الذي شفى من إصاباته دون تخلف عاهة مستديمة بسببها...

وثبت من الكشف الطبي الشرعي على الشاهد أنور جمعة زعلوك المؤرخ 11/ 5/ 1968 أنه به أثرة التئام تامة التكوين مبيضة اللون حوافيها تقع رأسية بوحشية خلف العضد الأيسر طولها 4سم وعرضها ½1 وتغير واضح بظفر الأصبع الوسطى من اليد اليسرى مع انغراس غير عادي بحوافيه وظهور تقرحات خطية في تكوينه وتغير واضح بظفر الأصبع الإبهام الأيسر مع انغراس بحوافية وانخساف بقاعدته وظهور خطوط عرضية في تكوينه ووجود أثره التئام صغيرة تامة التكوين مبيضة اللون طولها نحو 1سم ممتدة من الجهة الأنسية لقاعدة الظفر، وأثرة الالتئام خطية في الجزء الخلفي من الغشاء المخاطي المبطن للقناة الشرجية ممتد حتى الجلد الخارجي بطول نحو½1 سم مع وجود تقلص في العضلة القابضة الشرجية وأثرة التئام تامة التكوين طولها نحو 7سم تقع أسفل يمين البطن متجهة من أعلى واليمين إلى أسفل واليسار وخلص التقرير إلى أن به أثرة التئام بحافة فتحة الشرج وتشوه بظفري الأصبعين الوسطى والإبهام باليد اليسرى ودوالي بالساقين وفتق أربي مزدوج وبول سكري والأثرة الشاهدة بحافة الشرج قد تغيرت معالمها بفعل تطورات التقيح والالتئام ثم مضى وقت عليها الأمر الذي يتعذر معه تحديد كيفية وسبب حدوثها وكان يمكن القطع في هذا الصدد لو كان متيسرا الحصول على كشف طبي يصف الأثر الذي تخلفت عنه فور حدوثه وكل ما يمن تقريره في صددها أنه ليس فيها حاليا ما يميز حصولها نتيجة الاعتداء والتشوه المشاهد بظفر كل من الأصبعين الوسطى والإبهام باليد اليسرى وانغراس حوافيها وظهور الخطوط العرضية في تكوينها يتفق وحصول التشوه في الحالتين نتيجة نزع الظفر ونمو ظفر جديد بدله بعد تقيح مجلس الظفر المنزوع وهذه الآثار مضي عليها فترة تزيد على ستة أشهر ولا يمكن تحديدها فيما بعد ذلك بالضبط ولا يوجد ما يمنع أن تعاصر التاريخ الذي يقرره المذكور الذي شفى من إصابته دون تخلف عاهة...

الادعاء المدني

وحيث أن المجني عليه مصطفى أمين يوسف قد ادعى مدنيا قبل المتهمين الثلاثة صلاح محمد نصر و حسن زكي عليش و أحمد يسرى الجزار أن يدفعوا له بالتضامن وعلى سبيل التعويض المؤقت مبلغ 51ج (واحد وخمسون جنيها) والمصاريف والأتعاب وذلك عما ناله من ضرر أدبي وجسماني وقال مدافعه أن المتهمين قد أمروا بتعذيب موكله لحمله على الاعتراف ونعي على النيابة أمرها بحبس المجني عليه بمنبى المخابرات العامة وهو ليس من الأماكن المحددة قانونا لحبس المتهمين حبسا احتياطيا فتركت بذلك المجني عليه في حوزة المخابرات العامة وتحت سيطرتها وردد ما حدث في طلب القبض عليه في حوزة المخابرات العامة وتحت سيطرتها وردد ما حدث في طلب القبض على بعض الصحفيين بلا مبرر من القانون وما يعنيه هذا التصرف من تعارض مع سيادة القانون الذي اعتبر في نظر المسئولين تخلفا ثم عدد ما جاء بمؤلف المتهم الأول صلاح محمد نصر «الحرب النفسية»من طريق التعذيب المختلفة كالعزل وحرمان من الطعام والشراب وغسيل المخ وقيد اليدين والقدمين والصلب والنفخ وسمع أصوات الاستغاثة حتى سليب المتهم من كل إرادة ويكون طوع إرادتهم وقارن بين هذه الوسائل وبين ما جاء ذكره على لسان المجني عليه والشهود الذين عاصروه وقت وجوده بمبنى المخابرات وما ذاقوه من ألوان التعذيب وكذا مما وقع للعقيد عبد القادر عيد مدير مكتب المرحوم المشير عبد الحكيم عامر والمستشار مصطفى كمال وصفي وما جاء على لسان سمير عبد القوي بمجلة المصور من تعذيب بأنواعه المختلفة بمبنى المخابرات العامة وخلص إلى أن القضية المطروحة هي قضية مصر وليس قضية مصطفى أمين وانتهى إلى طلب الحكم بتوقيع العقوبة على المتهمين الثلاثة وإلزامهم بالتعويض بالمؤقت متضامنين مع المصاريف والأتعاب..

دفاع المتهمين

وحيث أن المتهمين الثلاثة أنكروا ما أسند إليهم وطلب الحاضرون معهم القضاء ببراءتهم من التهمة المسندة إليهم ورفض الدعوى المدنية المقامة عليهم وإلزام رافعها بالمصاريف قولا منهم أن المدعى بالحق المدني بتعذيبه من وحي خياله ولا أساس له من الصحة وقد استقى وسائله من مؤلف المتهم الأول «الحرب النفسية» ونسب لنفسه ما سمعه من آخرين عذبوا في السجن الحربي ركنوا ذلك إلى الأسباب الآتية:

1- أن صحة المجني عليه لا تحتمل ما ذكره من ألوان التعذيب ومدته ولا يتناسب مع ما به من إصابات.

2- أن المتهمين يعلمون بملكية المجني عليه لدار نشر لها ارتباطات وثيقة بالصحافة العالمية ويعرفون أن أي مساس به سيكن له صداه فيها.

3- أن المتهمين لم يعرفوا بمحتويات الحقائب التي هربها المجني عليه ولو عذب حقا لعرفوها.

4- أن بلاغ المجني عليه الأول بشأن الجاسوس لوثر لا يعول عليه لأنه صدر من محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة (25ع)

5- أن المحقق العسكري ليس فنيا مما يتعين طرح ما ذكره بشأن سبب إصابات المجني عليه لاحتمال أن تكون من سبب آخر غير التعذيب.

6- أن المجني عليه لم يكشف عن إصاباته للمحقين حيث لا داعي للمناظرة لأن القضية ليست من القضايا التي يستلزم فيها المناظرة كما أن حبس المجني عليه بمبنى المخابرات وإجراء التحقيق فيه كان للسرية ومنع الاتصال بالشبكات.

7- أن المجني عليه لم يكشف عن إصاباته للمحققين حيث لا داعي للمناظرة لأن القضية ليست من القضايا التي يستلزم فيها المناظرة كما أن حبس المجني عليه بمبنى المخابرات وإجراء التحقيق فيه كان للسرية ومنع الاتصال بالشبكات.

8- أن الالتماس المحرر من المجني عليه قد تضن معلومات لا يعرفها غيره من المتهمين الذين لم يكونوا قد ظهروا بعد في الحياة العملية وتضمن أن اتصاله بالأمريكيين كان بتكليفي من المسئولين كما أنه حرره بعد أن استشعر بورطته بقصد العفو وأنه في حقيقة دفاع مكتوب وقد أقر الرئيس السابق بعد إطلاعه عليه بإرفاقه بالتحقيق حتى يقطع على المجني عليه خط الرجعة وأنه بتدخل المخابرات العامة ولرفضه ما تضمنه من تهديد وتعبير.

9- أن المجني عليه تضارب في أقواله في كل مراحل التحقيق بشأن من قام بتعذيب فضلا عن اختلاقه وقائع ثبت عدم صحتها.

10- أن شهود الرؤية قد كذبوا في أقوالهم بدليل حفظ البلاغات المقدمة منهم عن تعذيبهم فضلا عن أن أحدهم وهو أنور زعلوك له سوابق في التزييف والشيكات بدون رصيد.

11- أن المجني عليه قرر أنه لم يشاهد أحدا من هؤلاء الشهود وقت تعذيبهم

12- أن أقوال المجني عليه قد تضاربت مع أقوال شهوده وكلهم محكوم عليهم وكان يجمعهم سجن واحد بزعامته في شأن من حضر من المتهمين في التعذيب فضلا عن أنهم لم يشهدوا إلا عن واقعة التعذيب فقط.

13- أن المجني عليه لم يستشهد بشاهد جديد رغم تعدد سؤاله أمام محققين متعددين.

14- أن الكشف الطبي الموقع على المجني عليه يود دخول سجن الاستئناف للرئيس في 1/12/ 1965 جاء خاليا من وجود إصابات به.

15- أن واقعة الرسالة التي ادعى المجني عليه تحريرها في سجن الاستئناف للرئيس السابق مختلفة لعدم نشر سعيد فريحة لها في حينه ولضارب أقوال الأستاذ فائق السمرائي بشأن المحادثة التليفونية التي جرت بين المجني عليه و سامي شرف.

16- أن المجني عليه لم يعرض نفسه إلا على سيد جلال دون سائر أعضاء لجنة تقصي الحقائق والذي ذكر رؤية إصابات في صدر وظهر المجني عليه في وقت جاء التقرير والذي ذكر رؤية إصابات في صدر وظهر المجني عليه في وقت جاء التقرير الطبي الثاني الموقع على المجني عليهن وبمناظرة المحقق العسكري خلو المجني عليه من وجود أية إصابات بالصدر أو الظهر مما يحتمل أن تكون هذه الإصابات مفتعلة.

17- أن احد ممن زار المجني عليه في سجن الاستئناف لم يشاهد ما به من إصابات.

18- أن المجني عليه لم يدفع عند محاكمته في قضية التخابر بالتعذيب.

19- أن أقوال الأستاذ محمد عبد السلام مصطفى ليس كأقوال المحامي الموكل وأنه مادام قد ارتضى لنفسه أن يعمل سكرتيرا للمحامي الموكل فإنه يتعين أن تهدر أقواله خاصة وأنه يتقاضى أجرا من المحكمة ولا صالح له في شيء حتى أنه لم يدفع في الدعوى بالتعذيب رغم سابقة الدفع به في القضية رقم 9/65 جنايات أمن دولة عليا.

20- أن إصابات المجني عليه الثابتة بالكشف الطبي الثاني تطابق إصاباته من سقوطه في سيارة واليت أشار إليها في مؤلفه «سنة أولى سجن»

21- أن المجني عليه كان يسعى إلى الإفراج عن المتهم الأول وأصاف مدافع المتهم الأول أن موكله كان موضع حملة تشهير من المجني عليه والصحافة ولم يكن المجني عليه يبغي من ذلك إلا إعادة محاكمته لتعود له عضويته في نقابة الصحفيين وأن ما حدث للمتهم الأول من الرئيس السابق في قضية انحرافات جهاز المخابرات العامة كان بسبب الاعتقاد بأنه من جبهة المرحوم المشير عبد الحكيم عامر...

ودفع بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى لاختصاص القضاء العسكري بها طبقا لنص المادة 70 من القانون رقم 100 لسنة 71 بشأن جرائم أفراد المخابرات وهو قانون خاص لاحق في الصدور لقانون الأحكام العسكرية فيفسح منه ما يتعارض معه من أحكام (م2 من قانون إصداره)مثل تقييد حق النيابة العسكرية في القبض على أفراد المخابرات العامة إلا في حالات التلبس ووجوب إبلاغها رئيس المخابرات العامة عند إصدارها بأمر حبس أحد أفراد الجهاز وعدم تحريك الدعوى إلا بأمر يصدر من رئيس الجمعية (م 71ق 100 لسنة 71) بالإضافة إلى طبيعة تشكيل المحكمة المختصة بنظر مثل هذه الجرائم (73م ق 100 لسنة 71) التي تختلف عن تشكيل المحاكمة العسكرية العادية خاصة أن جريمة التعذيب المدعي بها وقعت في المخابرات العامة وليس في السجن الحربي وهو سند النيابة العسكرية في عدم اختصاصها بنظرها فضلا عن أن صاحب الكلمة في الاختصاص هي المحكمة العسكرية وليس النيابة العسكرية.

دفاع المتهم الثاني

أما مدافع المتهم الثاني فقد أضاف أن الاعتراف لا يرد على الركن الشرعي لجريمة التخابر وهو وود التكليف الذي لا يثبت إلا بدليل القانون وأن المجني عليه وقد قرر أن التعذيب قد وقع عليه حتى لا يقرر أن اتصاله بالأمريكيين كان بعلم المسئولين وبتكليف منهم وهو الأمر الذي كان سعى إلى إثباته بدليل الشخصيات التي استشهد بها فإن الجريمة المنصوص عليها بالمادة 126 عقوبات لا تنطبق حيث أنه لابد أن يكون التعذيب للحمل على الاعتراف ولا تعدو الواقعة إن صحت جريمة استعمال قسوة قد سقطت بالتقادم.

كما أضاف إنه لا يوجد أي شيء بين المجني عليه وبين المتهم الثاني وإنما أراد أن يدهسه في خضم الصراع السياسي في وقت لا سلطان فيه للمتهم الثاني على مكان التحقيق وإنا للنيابة العامة وفي وقت لم ينسب له فيه فعل مادي حيث لا أمر مكتوب ولا شفوي لعدم وجود المأمور مما ينعم معه الدليل في هذا الشأن وأن ما ذكر عن مبنى المخابرات فلا تري فيه البينة وإنما المعاينة أو كلام الشخص المسئول.

دفاع المتهم الثالث

بينما أضاف الحاضرين مع المتهم الثالث أن موكله يعمل في جهاز علمي هو هيئة الأمن القومي لا يحتاج في عمله إلى التعذيب لإثبات ما يقوم بضبطه من قضايا وأن الرسالة المقول بأن المجني عليه حررها في 6/12/1965لم تظهر إلى الوجود إلا عند إبلاغ المدعي العام العسكري في سنة 1968 لاحتوائها على وقائع لم تكن معروفة وقت كتابتها مثل تسرب المخابرات الإسرائيلية إلى المخابرات المصرية التي ضمنها المجني عليه بلاغه في 19/ 2/ 1968 بشأن واقعة لوثر وواقعة تهديده بسم لا يظهر في التحليل وهو لم يسمع به إلا في قضية انتحار المحروم المشير عبد الحكيم عامر سنة 1967 وواقعة استشهاده بشهود كالنشرتي الذي لم يره إلا في سجن القناطر ولأنها لو كانت موجودة لسلمها المجني عليه إلى من زاره في سجن الاستئناف كما أضاف بأن المجني عليه لم يذكر اسم المتهم الثالث إلا سنة 1974 أي بعد عشر سنوات من تاريخ وقوع التعذيب المدعي به وأنه قبل ذلك أتهم المتهمين الأول والثاني لاتهامها في قضية انحراف المخابرات وأغفل اتهام المتهم الثالث لعدم اتهامه فيها هذا بالإضافة إلى تضارب أقوال المجني عليه في شأن ما يتعلق بالأمر بالتعذيب والتعذيب نفسه وكيفية تعرفه على المتهمين وتحرير الإقرار الذي كتبه كله بإرادته لأن الإرادة لا تتجزأ.

المحكمة تفند

وحيث أن الدفع المبدئي من المتهم الأول بعدم اختصاص المحكمة ولا ينظر الدعوى وهو دفع متعلق بالنظام العام يجوز التمسك به في رأيه حالة كانت عليها الدعوى وتقتضي به المحكمة ولو بغير طلب (م 1332ج) مردود بأن المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية رقم 25 لسنة 66 ينص على أن «السلطات القضائية العسكرية هي وحدها التي تقرر ما إذا كان الجرم داخلا في اختصاصها أم لا»

وقد نصت المذكرة الإيضاحية للقانون المذكور على «أن هذا الحق قرره القانون للسلطات القضائية العسكرية وذلك على مستوى كافة مراحل الدعوى ابتداء من تحقيقها حتى الفصل فيها.

ولما كانت النيابة العسكرية عضوا أصيلا من عنصر القضاء العسكري وتمارس السلطات الممنوحة للنيابة العامة وللقضاء المنتدبين للتحقيق ولقضاة الإحالة في القانون العام بالنسبة للدعاوي الداخلية في اختصاص القضاء العسكري طبقا للمواد 1، ، 28، 30 من القانون السالف الذكر فإنها هي التي تختص بالفصل فيها إذا كانت الجريمة تدخل في اختصاصها وبالتالي في اختصاص القضاء العسكري وقرارها في هذا الصدد هو القول الفصل الذي لا يقبل تعقيبا فإذا رأيت عدم اختصاصها بجريمة ما يتعين على القضاء العادي أن يفصل فيها دون أن يعيدها مرة أخرى إلى السلطات العسكرية التي قالت كلمتها في هذا الخصوص.

وإذا حجبت النيابة العسكرية اختصاصها عن نطر الدعوى الماثلة استنادا إلى ما جاء بكتابها المؤرخ في 1/12/1974 أن الدافع للقبض على المجني عليه وحبسه كان سياسيا بحتا وأن السلطات المدنية قد نيط بها وحدها القبض عليه بمبنى المخابرات العامة والتحقيق معه ممثلا في النيابة العامة وذلك تنفيذا لمشيئة سياسية مدنية لها دورها فيما حدث ولا دخل للقوات المسلحة فيها ولا ارتباط لها في ذلك الوقت فإن يتعين التزام قرارها دون ما نظر إلى ما تضمنه قانون المخابرات التي تقع في محال تشغلها المخابرات العامة متى كان مرتكبوها أفراد المخابرات العامة ولو انتهت خدمة الفرد قبل الكم طالما ارتكبت الجريمة أثناء الخدمة (م70/ج) أي أن هذا القانون قد صر لاحقا لقانون الأحكام العسكرية ومقيدا وناسخا لم يتعارض معه من أحكام لما في ذلك من اجتهاد فيما ورد به نص غير جائز خاصة أن تقييد حق النيابة العسكرية في القبض على أفراد المخابرات العامة إلا في حالة التلبس ووجوب إخطار رئيس جهاز المخابرات عند صدور أمر بحبس أحدهم أو الإفراج عنه وعدم تحريك الدعوى قبلهم إلا بأمر رئيس الجمهورية م 71/2، 3، 4ق 100 لسنة 71) لا يخرج الدعوي من يد النيابة العسكرية التي تباشر بالنسبة لها كافة سلطاتها المخولة هلا بموجب قانون الأحكام العسكرية (م71/ق 100 لسنة 71) ومنها حقها في تقرير اختصاصها بالجريمة طبقا لنص المادة 48 منه الذي لم يتعرض له القانون رقم 100لسنة 71 بما يسلبها منه.

أبشع إرهاب

وحيث أنه قد ثبت للمحكمة وبيقين أن جهاز المخابرات العامة قد أقيم على أحداث النظم العالمية وجهز بأحدث الوسائل العلمية إلا أن المتهمين القائمين عليه والأول رئيسه بدرجة وزير والثاني نائبه ورئيس هيئة الأمن القومي بدرجة نائب وزير والثالث وكيل هيئة الأمن القومي بدرجة وكيل وزارة (م2 ق159 لسنة 64) (والملحق المرفق به) قد نهجوا في سبيل إثبات وجودهم وإظهار نشاطهم في حماية أمن الدولة وحفظ كيان نظامها الاشتراكي (م3 ق 159 لسنة 1964) طريق البطش والإرهاب فأنكروا القيم وانتهكوا الحرمان وسلبوا الحريات وامتهنوا المقدسات واتخذوا من دعوى حفظ النظام مظلة يحتمون بها وامتهنوا المقدسات واتخذوا من دعوى حفظ النظام مظلة يحتمون بها وتكأة يبررون بها تصرفاتهم المجردة من الرحمة والإنسانية مستغلين في ذلك ما لديهم من وسائل وإمكانيات لإخفاء انحرافاتهم حتى أصبحت المخابرات العامة في عهدهم دولة قائمة بذاتها يرهب جانبها ويعمل حسابها إلى أن أعلن الرئيس السابق المرحوم جمال عبد الناصر في نوفمبر 1968 أمام مجلس الأمة عن سقوطها واعتبر هذا السقوط من أهم الجوانب السلبية التي خلصت الأمة منها في سبيل تطهير الحياة العامة في مصر.

وأية ذلك ثبوت وجود سجن بمبنى المخابرات العامة عبارة عن زنازين بإقرار نائب رئيس هيئة الأمن القومي الحالي ورئيس نيابة أمن الدولة السابق أنشئ خفية لأغراض لا يعملها إلا منشئوه ومستعملوه ولا يقرها القانون حتى المتهم الأول أنكر وجوده إمعانا في التضليل مستغلا إغفال ذكره وعدم الإشارة إليه في قانون إنشاء الهيئة رقم 159 لسنة 1964 الذي ألغي بالقانون رقم 100 لسنة 1917 المنشورين في الجريدة الرسمية الأول في العدد رقم 154 تابع بتاريخ 9/ 7/ 1964 السنة الرابعة عشر واللذين لم يوزعا عمدا حتى لا يصلا إلى أيدي الكافة وباتصاله إلى عملهم بالقانون لأن النشر عن القانون وحده لا يحقق الغرض المرجو منه دون إذاعته على أفراد الشعب الأمر الذي اضطر معه المحكمة إلى طلب القانونين المذكورين من إدارة المخابرات العامة.

وهذا السجن أودع فيه المتهمون معظم من وصلت أيديهم إليهم ووقع في قبضتهم بحق أو بغير حق ولم يتركوه إلا بعد أن ساموه سوء العذاب ليقدموه إلى النيابة العامة وإقراره المكتوب بيمينه كما حدث مع المجني عليه ومعظم متهمي القضية رقم 9 سنة 1965 أمن دولة عليا مثل شفيق أندراوس و أنور جمعة زعلوك و عدلي أبادير غطاس والعقيد متقاعد عبد القادر إبراهيم عيد وزميله في قضية المستشار مصطفى كمال وصفي.

وحيث أنه لا يصح من حجز المجني عليه يسجن المخابرات العامة أو حتى في مبناها صدور أمر من النيابة العامة بحبسه إحيتاطيا على ذمة القضية رقم 10 سنة 1965 جنايات أمن الدولة عليا لأنه إذا كان المشروع الاستثنائي قد أسبغ علي النيابة العامة المادة 2من القانون رقم 119 لسنة 1964 بشأن بعض التدابير الخاصة بأمن الدولة الصادر في 24/ 3/ 1964 إلى جانب السلطة المخولة لها سلطات قاضي التحقيق ومستشار الإحالة وأطلق يدها في معظم القيود والضمانات التي نظمها القانون العام وهو قانون الإجراءات الجنائية بقصد كفالة حق المتهم في الدفاع عن نفسه باعتباره بريئا إلى أن تثبت إدانته وهي المنصوص على في المواد 51، 52، 35، 55، 57، 77، 82، 84، 91، 92، 67، 124، 125، 141، 143ومنه فإن هذا المشروع الاستثنائي لم يتعرض لضمانه المتهم والتي تحول دون التعسف في الاعتداء على حريته الشخصية ورغم ذلك فقد سلب المجني عليه (المتهم في قضية التخابر رقم 10 سنة 1965 جنايات أمن دولة عليا) من هذه الضمانة الباقية حيث أودعته هيئة الأمن القومي بمحبسها السري في مبنى المخابرات العامة وهي التي قامت بمراقبة وجمع الأدلة ضده ثم التبليغ عنه وضبطه ومن مصلحتها ثبوت تهمة قبله تتويجا لجهودها وذلك طوال فترة التحقيق التي استطالت مائة وثلاثة وثلاثين يوما دون أمر كتابي من النيابة العامة (م1138ج، م 961 التعليمات العامة للنيابات) التي سكتت على هذا الوضع المخالف للقانون اعتمادا على ما جرى عليه العمل وأيدته استنادا إلى أنه من حقوقها طوال فترى التحقيق.

وليس صحيحا في القانون أن من حق النيابة العامة وهي خصم عادل تمثل الصالح العام وتسعى في تحقيق موجبات القانون أن نحجز المتهم المحبوس احتياطيا في المكان الذي تراه هي مناسبة دون مكان الطبيعي الخاضع لقانون تنظيم السجون بدعوى صالح التحقيق وسرعة إنجازه وسهولة مثول المتهم أمامها وقتما تشاء تجنبا لمشقة نقله من السجن الطبيعي إلى دارها وما يستلزمه ذلك من حراسة مشددة إذ أن ذلك الحق وإن جاز في اختيار مكان التحقيق الذي سكت المشروع عن تحديده وتركه لمطلق تقدير النيابة العامة فأصبح من إطلاقاتها حرصا على صالح التحقيق وسرعة إنجازه تلك السرعة أجاز فيها المشروع للمحقق الخروج على بعض القواعد المتعلقة بإجراءات التحقيق بنص صريح (م77، 1124ح) باعتبار أن السرعة في إجراء التحقيق لا يتعدى عادة يوم التبليغ عن الحادث أو يوم القبض على المتهم أن كان لاحقا لأطول تحقيق مع المجني عليه استغرق أربعة أشهر وازدادت عشرة أيام من يوم 21/ 7/ 7/ 1965 إلى يوم 21/ 1/ 1965

اعتداء على حرية الفرد وكرامته

فإن حق النيابة العامة لا يقوم في اختيار مكان تنفيذ أمر الحبس الاحتياطي باعتبار أن الحبس الاحتياطي إجراء شاذ يعتدي به على حرية الفرد قبل أن تثبت إدانته لمصلحة التحقيق يمنعه من الفرار وتأثيره على سير التحقيق ولذلك قيده القانون بقيود أشد مما نص عليه بالنسبة لأعمال التحقيق الأخرى ومن هذه القيود ما نص عليه قانون الإجراءات الجنائية في المادة 41 منه أنه «لا يجوز حبس أي إنسان إلا في السجون المخصصة لذلك.. وتأكيده على هذا الخطر في المادة 43- 2 منه والتي تنص على أن على كل من علم بوجود محبوس في محل غير مخصص للحبس أن يخطر أحد أعضاء النيابة العامة الذي عليه بمجرد علمه أن ينتقل فورا إلى المحل الموجود به المحبوس وأن يقوم بإجراء التحقيق)

ولم يقف المشروع عند هذا الحد بل بسط حمايته على المتهم المحبوس احتياطيا في السجن فنص في المادة 140 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه «لا يجوز لمأمور السجن أن يسح لأحد من رجال السلطة الاتصال بالمحبوس داخل السجن إلا بإذن كتابي من النيابة العامة وعليه أن يدون في دفتر السجن اسم الشخص الذي سمح له بذلك ووقت المقابلة وتاريخ ومضمون الأذن وأكد هذا الخطر في المادة 79 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 وذلك لمنع محاولة رجال السلطة الاتصال بالمتهم خفية داخل السجن وأحداث أي تأثير عليه بدون أن يظهر ذلك أي أثر ف دفاتر السجن أو في محاضر التحقيق.

وما ذلك كله إلا لضمان حرية المتهم وتلطيف خطورة الحبس الاحتياطي حتى أن المشرع خص المتهم المحبوس احتياطيا بمزايا فصلها في قانون تنظيم السجون لا يتمتع بها المحكوم عليه بالحبس البسيط ولا يصح الاعتداد بم درج عليه العمل في مقام تطبيق نصوص قانون الإجراءات الجنائية إذا كان هذا العمل مخالفا لأحكامها لأن العمل مخالف ومهما طال أمر سريانه لا يلغي أو يعدل تلك النصوص باعتبار أنها هي الواجبة التطبيق في المواد الجنائية إلى أن يصدر تشريع أخر ينص صراحة على إلغائها أو يشمل على نصل يتعارض مع نص التشريع القديم أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع (م2 مدني).

كما أن لا محل للاجتهاد عند خروجه كما نص القانون على الواجب التطبيق لأن القاعدة العامة أنه متى كانت عبارة القانون واضحة جلية المعنى ولا لبس فيها فإن يجب أن تعد تعبيرا صادقا عن إرادة الشارع ولا يجوز الانحراف عنها عن طريق التأويل أو التفسير أو البحث عن حكمة التشريع أيا كان الباعث وإلا كان فيه إهدار ومنافاة صريحة للغرض الذي من أجله وضع القانون.

هذا الوقت الذي لم يحل وجود المجني عليه بسجنه الطبيعي (الاستئناف ثم القناطر) دون نقله إلى المحكمة لنظر قضية التخابر المتهم فيها عدة مرات حيث استغرقت محاكمته جلسات 28، 29/ 12/ 65 و 19و 1و2، 3/1/ 1966، و20/ 8/ 1966 لسماح الحكم بخلاف المرات الأخرى التي نقل منها لنظر قضية أخرى كان متهما فيها بصفته رئيس مجلس إدارة الأخبار.

وليس أدل على عدم مشروعية حجز المجني عليه المحبوس احتياطيا في سجن المخابرات العامة وافتقاره إلى السند القانوني من صدور قرار وزير الداخلية رقم 1453لسنة 1968 في 27/11/ 1968 والمعمول به من 24/ 12/1968 باعتبار مبنى المخابرات العامة من الأمكنة التي يجوز أن ويدع فيها المحجوزون على ذمة القضايا العامة بأمن الدولة من جهة الخارج والصادر بالاستناد إلى القانون رقم 57 لسنة 1968 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 396 لسنة 1965 في شأن تنظيم السجون الذي خول وزير الداخلية حق تحديد الأماكن التي يودع فيها المحجوز أو المعتقل أو المتحفظ عليه أو المسلوب حريته على أي وجه وقصر حق الدخول فيها وتفتيشها على النائب العام أو من ينيبه من رجال النيابة العامة بدرجة رئيس نيابة وذلك الحق الذي ثبت للمحكمة أنه لم يستعمل إلا مرة واحدة حتى اليوم وبمناسبة صدور القرار المذكور الأمر الذي يفقد هذا الحق الحكمة من وجوه ويضيع الغرض الذي تغياه المشروع منه ومما يؤكد هذا النظر ما نص عليه دستور جمهورية مصر العربية الصادر بتاريخ 11/9/ 1917 في المادة 42 منه في باب الحريات والحقوق والواجبات العامة أنه «لا يجوز حجز المواطن أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون»

وحيث أنه لم يقف الحال بالمتهمين عند حد بسط سيطرتهم على المجني عليه أثناء التحقيق معه ليكون تحت رحمتهم وطوع إرادتهم بل أنه تعدى ذلك إلى تحكمهم في الأدلة التي جمعوها ضده لتمحيصها وتدقيقا وبيان مدى جديتها قبل أن تمتد إليها يد العبث وتدقيقها حيث حجبوا التسجيلات الصوتية التي حصلوا عليها والتلفيق لبعض الأحاديث التي جرت بين المجني عليه وضابط المخابرات الأمريكي في الاجتماعات التي عقدت بينهما في ثمانية أيام خلال الأشهر مايو و يونيو ويوليو 1965 (12، 19، 26/ 5/ 1965 و 2, 16، و23، 30/6 1965 و 7/7/ 1965) وهي الدليل الوحيد الذي كانت تحت أيديهم قبل المجني عليه قبل كتابة إقراره خاصة أن ما قرره المجني عليه عند ضبطه بالإسكندرية يوم 21/ 7/ 1965 لا يعتبر اعترافا بالتهمة المسندة إليه وإنما إقرار بالتكليف الصادر له من الدولة بالاتصال بالسفارة الأمريكية وتبليغه المسئولين بما يحصل عليه من معلومات وأن الرئيس السابق له بالاستمرار في الاتصال دون ثمة إشارة إلى ما قدمه هو إلى ضابط المخابرات الأمريكية من معلومات حتى تقيمها وبيان مدى مساسها بمركز مصر الحربي والسياسي والاقتصادي والدبلوماسي ومصلحتها القومية لأن مجرد الاجتماع بأجنبي لا يحرمه القانون كما أن أقواله في أول استجواب له يوم 22/ 7/ 1965 لا ترقى في جملتها إلى مرتبة الاعتراف المعول عليه حيث لا يخرج في مضمونها عن أخباره الرئيس السابق و سامي شرف بما وصل إلى عمله من معلومات نقلها من ضابط المخابرات المذكور والأذن له بالاستمرار بالاتصال بالأمريكان دون تقييده بطريقة معينة لا تباعها وبعض ما قرره ردا على استفسارات جليسة ومحدثه نسبها على حد قوله كذا إلى المسئولين دون تفصيلات أخرى على النحو الوارد في الإقرار الكتابي باستفاضة فمن كل الذي دار في الاجتماعات المسجلة التي بين المجني عليه وبين ضابط المخابرات الأمريكي مع ذكر تواريخ معينه بطريقة لا تتفق والظروف التي قرر فيها هذا الإقرار وهو حبيس مبنى المخابرات العامة والحالة النفسية التي كان فيها وسيف الاتهام بارتكاب جريمة في حق وطنه مصلت على رقبته وهو مقيد الحرية بين أيدي من قاموا بضبطه وقدم الإقرار إلى المحقق يوم 4/8/ 1965 على أنه التماس حرره المجني عليه للرئيس السابق قبل تقديم التسجيلات الصوتية في 9/ 8/ 1965 رغم وجودها في حوزة المتهمين من يوم 7/7/ 1965 وإحاطة رئيس نيابة أمن الدولة علما بأمرها منذ فجر التحقيق والتي تبين من تفريغها أن ما ورد بالإقرار وكما جاء بأسباب الحكم رقم 10 سنة 65 جنايات أمن الدولة العليا يكاد يكون مطابقا لها الأمر الذي يقطع بأن هذه التسجيلات كانت محل اعتبار وقت تدبير هذه الإقرار ليأتي مطابقا لما تضمنته من أحاديث ويؤكد ثالثة –المجني عليه أنه كان يملي عليه أثناء كتابته ولا يقبل مما يكتبه إلا ما يروق لهم حيث أنه لا يعقل أن يتذكر المجني عليه في الفترة نم 22/7/ 1965 إلى 4/8/1965 كل ما دار في الاجتماعات المسجلة فقط دون الأخرى التي تمت قبل اكتشاف أمرها في 14/ 2/ 1965 كما ورد بمذكرة المخابرات العامة المؤرخة 24/5/ 1976 ولم تسجل وفي حدود ما ظهرت عليه التسجيلات الصوتية المقدمة لثبوت استغراق الاجتماع مدة زمنية أطل من المدة المسجلة والمجني عليه في مثل حالته النفسية سالفة البيان سيما أنه لم يثبت للمحكمة كما قرر المكتوب قد أرسل إلى الرئيس السابق أو أعيد تقديمه في التحقيق كما قرر بذلك الدفاع عن المتهمين بدليل أن المتهم الثالث قرر عند تقديمه للمحقق يوم 4/ 8/ 1965 أن المجني عليه قرره لرفعه للرئيس السابق أو أعيد تقديمه في التحقيق يوم 4/8/ 1965 أن المجني عليه قرره لرفعه للرئيس السابق وهو فعل مستقبل دون ثمة إشارة إلى سابقة رفعه فعلا إلى رئاسة الجمهورية أو إعادته منها دون ذكر لسابقة طلب المجني عليه وعدا بتقديم التماسه إلى الرئاسة ووعده بذلك.

ولم يكن تأخير تقديم التسجيلات الصوتية من يوم 21/ 7/ 1965 تاريخ القبض على المتهم إلى يوم 9/ 8/ 1965 إلا بقصد تحصينها بالإقرار الذي قدم قبلها يوم 4/8/ 1965 والذي لا يعدو أن يكون تفريغا لهذه التسجيلات بعد أن أكره المجني عليه على كتابته بالصورة والشكل المطلوب وذلك نظرا لحصول هيئة الأمن القومي على التسجيلات خلسة وبغير الطريق الذي رسمه القانون بما يجعلها عرضة للطعن عليها بالبطلان وإهدارها كدليل خاص أن القانون رقم50 لسنة 1965 في شأن التدابير الخاصة بأمن الدولة الذي حصن في المادة 1/3 منه جميع أوامر وإقرارات سلطات الضبط والتحقق قبل العمل به من أي طعن لم يصدر إلا في 9/11/1965 أي بعد الحصول على التسجيلات وتقديمها والتي كانت الدليل الوحيد الذي تحت يدي هيئة الأمن القومي قبل المجني عليه الذي رأى هو وضابط المخابرات الأمريكية وكما جاء بمذكرة هيئة الأمن القومي المقدمة في القضية رقم 10/ 65 جنايات أمن دولة عليا بتاريخ 25/ 11/ 1965- ( الابتعاد عن الحصول على أي وثائق أو تقارير خطية وكانت المعلومات تقدم شفاهة وذلك بأن يملي مصطفى أمين المعلومات إلى ضابط المخابرات الأمريكي الذي يدنها بخطه في نوته معدة لذلك ويناقشه فيها خلال الحديث كما كان ضابط المخابرات الأمريكي يكلف مصطفى أمين الاحتياجات شفاهة كإجراء أمن)

الإقرار وطريقة كتابته

هذا فضلا عن أن الإقرار المذكور لا يتفق مظهره العام وطريقة كتابته وما واه من وقائع مطولة يرجع إلى ماضي بعيد سودت ستين صحيفة اعتبر الدفاع بعضها تهديدا للرئيس السابق وتعبيرا له والتوقيع على كل صحيفة بتوقيع المجني عليه رغم كتابته كله بخطه مع الغرض المقصود به باعتباره التماسا مرفوعا إلى الرئيس السابق إقرارا بذنب وتسجلا لتوبة وطلبا لصفح وأملا في عفو خاصة أنه قدم فجأة دون سابق أخبار في جلسة تحقيق غير محددة من قبل (4/ 8/ 1965) وهو الطابع المميز لتحقيقات قضية التخابر حيث تقفل محاضر التحقيق دون إصدار أي قرار بشأن موعد الجلسة التالية على خلاف ما تقضي به أصول التحقيق الجنائي وتعليماته النيابة العامة (م53) من وجوب تحديد جلسات قريبة متلاحقة لسرعة الفراغ من التحقيق ولحكمة خافية لا يبررها ما قيل بشأن توالي جلسات التحقيق عند استجواب الصحفيين وسماع بعض الأشرطة وذلك درءا لكل ظن ودفعا لأي لبس هذا في وقت لم يتحقق هذا التوالي المقول به في جلسات التحقيق مع المجني عليه التي انقطعت من يوم 22/ 7/ 1965 أثر استجوابه أول مرة حتى يوم 4/8/1965 حيث قدم الإقرار المذكور ومن يوم 5/8/1965 إلى يوم 7/8/1965 ومن يوم 9/8/1965 حيث قدمت التسجيلات الصوتية إلى يوم 11/8/1965 ثم إلى يوم 16/8/1965 فيوم 21/8/1965 ومن يوم 31/8/1965 إلى يوم 14/10/1965 فيوم 25/11/ 1965.

وحيث أنه ليس صحيحا ما ذهب إليه الدفاع عن المتهمين أن الالتماس أو الإقرار المكتوب قد ورد علي الركن الشرعي في جريمة التخابر وهو أن اتصال المجني عليه بالأمريكيين كان بعلم المسئولين وبتكليف منهم وأنه هو الذي سعى إلى إثباته وأنه لو صح أن التعذيب كان لذلك السبب لما تحقق به القصد الجنائي الواجب توافره لقيام الجريمة المنصوص عليها في المادة 126 عقوبات لأن هذا الركن لا يمثل إلا سبب الإباحة في الاتصال دون ما تأثير على توافر أركان جريمة التخابر.

ذلك أن الالتماس المذكور ما هو في حقيقته إلا إقرار جريمة لا لبس فيه من المجني عليه المتهم في القضية رقم 10/ 65 جنايات أمن دولة عليا على نفسه باتصاله بأجنبي ومدة بمعلومات اعتبرها الحكم الصادر في القضية المذكور ضارة بالمركز السياسي والدبلوماسي الاقتصادي والحربي للبلاد مما يعتبر نصا على اقتراف الجريمة وليس تأمرا على واقعة التكليف والعلم دون غيرها وقد وصفه الحكم المذكور أن المجني عليه يعترف فيه صراحة بكل ما حدث بينه وبين بروس من معلومات وهذا دليل قد جاء على لسانه بأنه كان يتخابر وينقل معلومات عن كافة النواحي الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية والقومية دون علم أحد ».

ولا يعقد في هذا المقام بما قرره المجني عليه أن السبب في تعذيبه كان يقصد ألا يذكر علم المسئولين باتصالاته ما دام قد ثبت للمحكمة أن فكرة تحرير الإقرار لم تنبع أصلا من المجني عليه وإنما كانت بناء على طلب المتهم الأول علي أن يكون في صورة التماس إلى الرئيس وأن المجني عليه لم يحرره طواعية واختيارا وبمطلق إرادته إنما كان تحريره له رضوخا منه ودفعا لما وقع عليه من تعيب لم يطقه ثم يأمر المتهم الأول الذي يعلم بالاتهام المسند إلى المجني عليه وتحت إشرافه ومعاونيه وبإملائهم ما تضمنته التسجيلات الصوتية من وقائع ليخرج الإقرار بالصورة التي قدم عليها وقصدها المتهم الأول ليس قاصرا على وقعة التكليف فحسب ولكن شاملا لكافة أركان الجريمة المنسوبة إلى المجني عليه الذي كان يهمه وفي المقام الأول إثبات تكليف المسئولين له وعلمهم بالاتصالات اعتقادا منه أن في هذه الواقعة الكافية لإخلائه من العقاب ولذلك لم يحل ترديدها منذ أن قبض عليه وإثباتها بالإقرار رغم تحذيره من ذلك وأن لم يلتزم معذبوه بهذا التحذير خاصة أن المسئولين ردوا عليه قصده بعد كتابة الإقرار وليس قبله بنفي هذا العلم وإنكار ذلك التكليف إذ أنه نقل منهم أو إليهم أية أخبار منقولة عن الملحق السياسي بالسفارة الأمريكية الذي ضبط معه لتستقيم الجريمة في حقه سيما وأنهم اعتبروا أن من شأن الأخبار المعلومات التي نقلها المجني عليه لمندوب الولايات المتحدة الأمريكية الإضرار بمركز مصر الحربي والسياسي والاقتصادي مع أنه كان من المتعين تحقيق دفاع المجني عليه بشأن واقعة التكليف التي أثارها فور القبض عليه وأصر عليها عقب استجوابه الأول في 22/7/ 1965 في حينه لا في 14/10/ 1965 بعد تقديم الإقرار المكتوب ثم التسجيلات الصوتية إذ ليس ثمة ما يمنع من تقييم ما أدلى به من معلومات بعد ذلك.

وحيث أن المتهمين لم يكتفوا ببسط سيطرتهم على المجني عليه وما جمعوه من أدلة قبله وإنما جاوزوا ذلك إلى درجة أن أصر المتهم الثاني رئيس هيئة الأمن القومي على القبض على بعض الصحفيين الأبرياء بدار الأخبار (مصطفى كمال إبراهيم و إبراهيم صالح محمد) وتفتيشهما وتفتيش محال إقامتهما مع انه لم يصدر منهما أي تصرف يستوجب اتخاذ أي إجراء قبلهما ورغم رفض رئيس نيابة أمن الدولة طلبه فإن المتهم الثاني لم يذعن لرأي القانون بل استنجد بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر (النائب الأول لرئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وأحد قمتي السلطة العليا في الدولة في ذلك الوقت) الذي اتصل برئيس النيابة لتنفيذ طلب المتهم الثاني بدعوى أن البلد ما زال في حالة ثورة وأن التعلل بالقانون يعتبر تخلفا وكان له ما أراد بعد أن قدم المتهم الثاني بلاغا نسب فيه إلى الصحفيين كذبا تعونهما مع المجني عليه وصدر قرار النيابة العامة بحبسهما احتياطيا بعد استجوابها وعرض الأوراق على النائب العام في 24/7/1965 رغم وضوح حقيقة مركزهما قبل القبض عليهما والتي ظهرت جلية في عدم إسناد أي اتهام إليهما.

مؤتمرات صحفية

أما المتهم الثالث منذ قام بعقد مؤتمرين صحفيين الأول بتاريخ 9/2/1965 في مبنى جريدة الأخبار والثاني بتاريخ 23/12/1965 في مبنى نقابة الصحفيين عرض فيهما الأدلة القائمة قبل المجني عليه والتي تثبت من وجهة نظر دولة المخابرات العامة صحة الاتهام المسند إليه وذلك قبل نظر القضية بتاريخ 28/ 12/1965 رغم ما في ذلك من تأثير على القضاء الاستثنائي المطروحة عليه الدعوى واستبان كلمته في شأنها ولا يؤثر في الأمر أن هذين المؤتمرين قد عقدا بناء على طلب نقيب الصحفيين في ذلك الوقت كما ورد بكتاب المخابرات العامة المؤرخ 24/ 5/1976 بغير دليل لأن هذا المطلب غير ملزم وسابق لأوانه باعتبار أن الاتهام المسند إلى المجني عليه مطروح أمره على القضاء وإلى أن يقول القضاء كلمته فهو برئ إلى أن تثبت إدانته ولأن في المؤتمر الصحي (الذي عقد بمكتب السيد وزير العدل وأذيع فيه قرار اتهام المجني عليه ونشر في الصحف في 1/12/1965) الكفاية تجنبا لمثل هذه الاجتماعات التي لن يخفى أمرها على غير أعضائها بتسرب ما دار فيها إلى علم الجمهور مما قد يكون من شأنه التأثير في القضاة الذين يناط بهم الفضل في الاتهام المذكور هذا ما لم يكن هناك أثر أخر في نفس المتهمين.

لا كرامة للإنسان

وبما أنه يبين من تصرفات المتهمين القائمين على جهاز المخابرات العامة سالفة البيان أنه لا قانون يحكم تصرفاتهم ولا حائل يقف في سبيل تحقيق رغباتهم إرادتهم هي القانون ومشيئتهم واجبة التنفيذ وليس للفرد كرامة عندهم ولا حقوق فكان أن عذبوا من يشاءوا ومنهم المجني عليه قصد إجباره على طاعتهم والامتثال لأوامرهم وعرضوه على غيره من المتهمين زهوا بقوتهم وتفاخرا بسلطتهم وردعا لكل من تسول له نفسه عدم الرضوخ لطلباتهم فلا ردا لتصرفاتهم ولا معقب عليها طالما أن من بيده الأمر يؤازرهم فيما هم فيه فاعلون فالثورة ماضية في طريقها وهي في مفهومهم التحلل من كل شرعية والتنصل من كافة ضماناتها مع أن الثورة جاءت لترسي قواعد الحرية والعدالة والاطمئنان إلى المستقبل بإقامة نظام قانوني تقدمي صالح محل نظام قانوني متخلف فاسد يأمن فيه المواطن على حريته وكرامته وإنسانيه.

وإذا كان المجني عليه قد امتد به الأجل رغم ما تعرض له من تعذيب وقد جاوز من العمر الخمسين عاما ونال منه المرض فهذه إرادة الله وهو على كل شيء قدير.

ولو شاء المتهمون معرفة ما بحقائب المجني عليه المهربة لما عجزوا عن ذلك وهم على علم بأمرها من التسجيلات وما تركهم لها إلا لعدم حاجتهم إليها.

وليس في اختلاق المجني عليه واقعة اتصال الجاسوس لوتز بالمخابرات المصرية التي ابلغ بها وكيل نيابة حلوان في 29/ 2/ 1968 منتهزا فرصة وجوده في لميان طره لتفتيشه قصد وصول صوته عما لاقاه من تعذيب إلى مسامع النيابة العامة وتحريكا لبلاغه السابق إرساله إليها في 25/2/ 1968 في هذا الشأن ما ينفي وقوع تعذيب عليه أو تكذبه في هذا الخصوص..

أما الرسالة التي حررها المجني عليه في ديسمبر 1965 بسجن الاستئناف وكان اول إشارة إلى ما وقع عليه من تعذيب جسدي بالمخابرات العامة فقد تأكد وجودها بما قرره السيد /فائق عبد الكريم السامرائي الذي تطمئن المحكمة إلى أقواله من إطلاعه عليها ونصحه السيد/ سعيد فريحة بعدم إبلاغها إلى الرئي السابق خوفا على حياة المجني عله ولو علم بها المتهم الأول وهو السبب الذي من أجله لم تنشر في الخارج في ذلك الوقت وظلت في طي الكتمان حتى أفصح عنها المجني عليه في أول تحقيق عن تعذيبه بتاريخ 16/ 3/ 1968 بعد زوال سلطان المتهم الأول ونشرت في الخارج بعد ذلك.

هذا ولم يثبت أن كتابة المجني عليه لها كانت سابقة لزيارة زواره في سجن الاستئناف حتى يسلمها لأحدهم فضلا عن أن عدم تسليمها إليهم لا ينفي وجودها في ذلك الوقت بل أن عدم وجودها أصلا لم يكن ليغير وجه الرأي في حقيقة الواقعة طالما أ، المجني عليه قد أبلغ عن واقعة تعذيبه أول مرة في 25/ 3/ 1968 وطالما أنه لم يدع أن الرسالة المذكورة قد وصلت إلى الرئيس السابق.

ولا ترى المحكمة موجبا لمعاينة مبنى المخابرات العامة للوقوف على ما أثاره شهود الرؤية بشأن معدات التعذيب وما نالهم منها لاطمئنان المحكمة إلى أقوالهم والتي تأيدت بما ورد بالتقرير الطبي الشرعي إثباتا لما بقى بهم من إصابات تشهد بصدق روايتهم فضلا عن ثبوت وجود سجن بهيئة المخابرات العامة ومضى وقت طول على تاريخ الواقعة (سنة 1965) يزيد على أحد عشر عاما هذا بالإضافة إلى أن حيازة هذه المعدات فيه مخالفة صارخة للقانون وهذه المخالفة كانت سمة المتهمين في أعمالهم وقد دالت دولتهم دون الجهات كهيئة الأمن القومي لا يأتلف مع ما قامت عليه ثورة التصحيح في 15 مايو 1971 من إرساء دعائم القانون وفرض سيادته.

وحيث أنه إصابات المجني عليه فإن المحكمة لا تطمئن إلى الكشف الطبي الموقع عليه يوم دخوله سجن الاستئناف بالكشف الطبي من عدم وجود أثار إصابات أو تعدي بالمجني رئيس قسم الصحة الوقائية و حسنى محمد باشات طبيب سجن الاستئناف تناقض واضح بشأن طلب الأول للكشف على المجني عليه والذي لا يشترك في الكشف إلا في حالات معينة ليس من بينها حالة المجني عليه ومن حضر الكشف غيرهما حيث قرر طبيب السجن خلافا للأول أن أشخاصا لا يعرفهم حضروا للكشف والجهة التي طلبت الكشف الطبي حيث وجد كشفين أصليين بالقضية رقم 10/ 65 جنايات أمن دولة عليا أحدهما صادر من مصلحة المسجون في 2/12/ 1965 والثاني من المباحث العامة في 8/ 12/ 1965 وما قرره طبيب السجن بشأن عدم قدرة المسجون على الكلام بحرية حتى يفصح عما به من إصابات هذا بالإضافة إلى ما ثبت بالكشف الطبي من عدم وجود آثار إصابات أو تعدي بالمجني عليه رغم إقرار الطبيبين بعدم خلع المذكور كل ملابسه وخلوه من الأمراض رغم إثبات الدكتور حسني باشات في إفادته المؤرخة في 4/1/ 1966 بالقضية رقم 10/ 65 جنايات أمن الدولة بإصابة المجني عليه بالنقرس والسكر ولا يعقل أن يكون المجني عليه قد أصيب بالمرض الأول (النقرس) فجأة بعد الكشف عليه في 1/12/1965 مما يشكك المحكمة في صحة ما تضمنه هذا الكشف من بيانات ويتعين الالتفات عنه بخلاف الحال بشأن الإصابات التي أثبتها المحقق العسكري في محضره المؤرخ في 16/ 2/ 1968 بشأن مناظرته المجني عليه وهي علامات سوداء بأسفل ركبه الساق اليمنى بطول 3سم وأسفل الساق ناحية القدم بطول 2سم وأثر غائر في منتصف الركبة اليمني ورضية أسفل الذقن بطول 3سم وأخرى ممتدة من الناحية اليسرى بطول 8سم وعلامات غائرة وأثرة حول رأس القضيب وهذه الإصابات تأخذ بها المحكمة وترجح إمكان تخلفها عن التعدي الجسيم الذي وقع على المجني بتاريخ 3/4/ 1968 بمعرفة الدكتور محمد كمال قاسم مدير إدارة الشئون الطبية والدكتور عبد القادر إسماعيل مدير مستشفى منطقة طره والذي طلبه أكثر من مرة دون جدوى لسؤاله في بلاغه عن تعذيبه من وود أثر التئام قديم لجرح صغير بقمة الرأس طولي طوله 2سم وندبة والتئام كبير قديم مستعرض لجرح رضى أسفل الذقن بطول 6سم تقريبا وأثر التئامين صغيرين بمقدم الساق الأيسر طول كل منها 2سم وأنها التئامات قديمة لجروح رضية يصعب التكهن بميعاد وأسباب حدوثها اللهم إلا بالمصادمة بأجسام صلبة راضة منذ وقت طويل الأمر الذي ترى معه المحكمة أنه لا يأتلف مع السقوط في سيارة في شهر يناير 1967 ولا مع الإصابات التي تخلفت عن هذا السقوط والتي وصفها المجني عليه في مؤلفه سنة ثانية سجن (الطبعة الأولى سنة 1975 ص 189، 191، 192) في أصبع اليد والوجه والجبهة والذراع وجفن العين والرأس والساق والقدم دون تحديد في أي موضع من رأسه والسقا سيما وأن المجني عليه قرر بشأنها أنها لو كانت لها علاقة بالإصابات الثانية بمحضر المحقق العسكري أو الكشف الطبي الثاني لرفعها من مؤلفه الصادر أثناء تحقيق واقعة التعذيب ولعدم ثبوت إصابة المجني عليه في حادث أخر قبل الكشف عليه.

وإذا كان المجني عليه لم يعرض إصاباته على المحققين فإن ذلك مرجعه التعذيب الجسماني الذي تعرض له بعد انتهاء أول استجواب له في 23/7/ 1965 إلى يوم 4/ 8/ 1965 بتاريخ تقدير الإقرار الكتابي وحالة الإرهاب التي كان يعيشها والتهديد المشمولة بالتعذيب مما جعله في حالة من الرعب أحجمته عن الإفصاح عما به أو وقع له حتى لا يتعرض لمثل ما لاقاه وهو بين أيدي أسريه بعلم النيابة ورضائها والذين أثبتوا له بتصرفاتهم أنهم قادرون على تنفيذ وعيدهم.

وقد ساعد على ذلك عدم مناظرته أثناء التحقيق معه بمبنى المخابرات العامة بحجة عدم وجود إصابات ظاهرة به وعدم إثارته شيئا منها ولأن الجريمة المسندة إليه لا تستلزم بطبيعتها فحص المتهم مع أن المناظرة وهي معاينة ملابس المتهم وفحص جسمه بمجرد مثوله أمام المحقق (م 34 من التعليمات العامة للنيابة) لا يقصد بها فقط إثبات الآثار المتعلقة بالجريمة المسندة إلى المجني عليه حتى تستغل بهذه الإجراء بعض الجرائم دون غيرها وإنما أيضا قطع دابر كل إنكار مستقبل بعد اعتراف يعزوه إلى إكراه وقع عليه قبل أو أثناء التحقق وهو محجوز بين أيدي رجال السلطة التي قامت على ضبطه وخاصة أن الجريمة التي كانت مسندة إليه جناية ذات عقوبة مغلظة تصل إلى حد الإعدام (م 80ع) مما يجعل الدفع فيها بالتعذيب أمرا مألوفا.

وحيث أنه إذا كان المجني عليه قد تضاربت أقواله بشأن بعض الوقائع فإن ذلك مرده طول المدة من تاريخ حصول الواقعة وما اكتنفها من ظروف وأحداث إلى تاريخ تحقيقها وتعدد التحقيق الذي تولوه.

أما مبالغته في بعضها الآخر فإن المجني عليه لم يكن يبتغي من إثارة وقائع تعذيبه امتدادا التبليغ عنها والذي قام به الأستاذ عبد الحليم رمضان المحامي في 28/ 10/ 1974 استعمالا لحقه المقرر قانونا (م25أ . ج) استنادا إلى ما تضمنه كتاب سنة أولى سجن للمجني عليه من وقوع جريمة تعذيب عليه وإنما كان كل ما يهدف المجني عليه إليه ويقصده هو إعادة محاكمته عن تهمة التخابر التي عوقب من أجلها فكان بلاغه للمدعي العام الاشتراكي في 7/8/ 1974 ومحاولته الحصول على توقيع المتهم الأول على إقرار بأنه أتهم ظلما في قضية التخابر بأمر الرئيس السابق بقصد إغاظة الأمريكان مقابل السعي لدى المسئولين لإطلاق سراحه وذلك بواسطة الدكتور بهي الدين شلش الذي أخبره المتهم الأول بهذه الواقعة والتي لم تكن صحيحة لما حاول المجني عليه استغلال المتهم المذكور في هذا الخصوص إلا إذا كان ما نقله إليه ما ظل من الحقيقة.

وذلك كله اعتقادا من المجني عليه أن هذا الأسلوب كفيل بأن يوصله إلى مراده.

- وهذا المسلك منه لا يذهب بكل أقواله أو يهدرها إذ أنه لا يصح عقلا أن يكون الشاهد صادقا في ناحية من أقواله وغير صادق في ناحية أخرى والمحكمة وهي في مقام تقييم شهادة المجني عليه فإنها تعرض عن غير ما استقر في وجدانها ووقر في يقينها باعتبار أن هذا الذي اطمأنت إليه هو الصورة الصحيحة للواقعة.

- وإذا كان قد وحد بين المجني عليه وبين شهود الرؤية آلام تعذيب المخابرات العامة وضمهم سجن الحبس الاحتياطي في الاستئناف والقناطر وجمعهم ليمان الحكم في طره فإن ذلك لا يهدر من قيمة شهادة هؤلاء ولا يقلل من شأنها خاصة وقد ثبت من القضية رقم 9/ 1965 جنايات أمن دولة عليا وجودهم في مبنى المخابرات العامة في وقت معاصر لوقت نزول المجني عليه فيه.

- وإذا كانت بلاغات هؤلاء الشهود بشأن تعذيبهم والمقيدة برقم 4142، 406/ 68 إداري المعادي قد حفظت فإن ذلك لا يعني عدم صحتها وبالتالي كذب مقدميها وإنما هو تصرف اتخذته النيابة العامة في ب17/5/ 1968 لاعتبارات خاصة غير خافية بقصد منع السير في إجراءات تحقيقها رغم وجود إصابات ظاهرة بمقدميها إثباتها الطبيب الشرعي في تقريره المؤرخ في 13/ 5/ 1968 ولو لم يرفق بلاغ المجني عليه بعد تحقيقه بمعرفة المحقق العسكري في أوراق التحقيق الخاصة بقضية انحرافات جهاز المخابرات العامة للقي ذات المصير ولذات الحكمة

- ولا يعني هذا التصرف من مكتب الادعاء بمحكمة الثورة عدم صحة شكوى المجني عليه كما ذهب إلى ذلك الدفاع عن المتمين لأنه لا يتفق وواقع الحال وهو أن المجني عليه قبض عليه بأمر الرئيس السابق الذي تعرض عليه ظروف كل واقعة تخابر وتنفذ تعليماته بشأنها لمساسها بدولة أجنبية كما قرر بذلك المتهم الأول ولرفض الرئيس السابق قبول وساطة كل من السيد /محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان السابق والسيد/ فائق عبد الكريم السامرائي سفير العراق السابق بمصر للإفراج عن المجني عليه جزاء على ما قاله لمندوب الولايات المتحدة الأمريكية وحتى لا يضطر إلى الإفراج عن الإخوان المسلمين وهو ما يرغب فيه.

- وحيث أن عدم دفع المجني عليه بالتعذيب عند محاكمته لم يكن إلا سياسة انتهجها الدفاع موكلا عنه ومنتدبا في قضية التخابر حسبما قرر الأستاذ محمد عبد السلام مصطفى المحامي الذي تطمئن المحكمة إلى أقواله في هذه الواقعة فيما نقله عن المجني عليه من وقوع تعذيب عليه ولا يقال عن شهادته أنه كان منتدبا للدفاع عن المجني عليه وليس موكلا ويتقاضى أجره من المحكمة ولا صالح له في شيء وقد قبل أن يعمل سكرتيرا للمحامي الموكل كما ذهب إلي ذلك الدفاع عن المتهم الثالث إذ أنه لا فرق بين المحامي المنتدب والمحامي الموكل في أداء رسالته السامية رسالة الحق والحرية والعدل ولم يثبت أن الأستاذ محمد عبد السلام مصطفى المحامي المنتدب قد قصر في أداء واجبه أو خرج في مهمته عن مبادئ الشرف والاستقامة والنزاهة الواجب تقيده بها في سلوكه المهني.

- وإذا كان لم يدفع بالتعذيب في المحاكمة فهذه سياسته ومن معه ولا يؤثر في الأمر سابقة دفعه بالتعذيب في المحاكمة فهذه سياسته ومن معه ولا يؤثر في الأمر سابقة دفعه بالتعذيب في قضية أخرى لأن لكل قضية ظروفها وملابساتها المختلفة.

- كما أنه لا ينال من شهادته قبول القيام بعمل سكرتير علي حد تعبيره لرغبة الموكل توقيرا له واحتراما لمكانته لديه وليس في ذلك ما ينال من قدره أو يحط من شأنه حتى تهدر شهادته.

- ولو حقا ما ذهب إليه الدفاع من أن المحامي المنتدب لا يهتم بشأن موكله لأن يتقاضى أجره من المحكمة (في ظل القانون رقم 96 لسنة 1957 حيث أصبحت أتعاب المحامي المنتدب في قضايا الانتداب تئول إلى مالية النقابة طبقا لنص المادة 141 من القانون رقم 61 لسنة 1968) لما وجد المتهم الفقير عونا صادقا عند اتهامه بجناية من محاميه المنتدب ولما استحق المحاماة أن تكون مهنة نجدة ترتكز على أقدس القيم وأشرف المقاصد.

صلاح نصر هو الآمر بالتعذيب

وحيث أنه مما يقدم يكون قد ثبت في يقين المحكمة واستقر في وجدانها أن المتهم الأول بصفته رئيس جهاز المخابرات العامة هو الذي أمر بتعذيب المجني عليه أثناء حبسه بسجن المخابرات العامة ليحمله على الاعتراف بجريمة التخابر المسندة إليه بإبداء أقوال لا تصدر منه لو كان حرا فيها يقول لكان أن ناله قسط وافر من صنوف التعذيب من صفع بالأيدي بقوة وركل بالأقدام بقسوة وضرب بالعصي الغليظة وقيده من يديه وقدميه إلى الحائط وشد شعر جسمه وانته بلا رحمة وربطه من قضيبه بسلك كهربائي وجذبه منه بلا شفقه ومنع الطعام والشراب عنه عدة أيام في شهر القيظ يوليو و أغسطس 1965 وكلها تعذيبات جسمية لا طاقة لجسده الذي جاوز من العمر خمسين عاما وهو مثقل بمرض السكر وداء النقرس ولا بمركزه الأدبي باحتمالها مما دفعه إلى قبول بلاء الاعتراف للخلاص منها.

وليس ذلك بمستغرب على المتهم الأول الذي قيل عنه في الحكم الصادر في قضية انحراف المخابرات التي حجبت عمدا عن المحكمة رغم تكرار طلبها «أنه المسئول الأول عن هذا الانحراف والذي يعد بحكم وضعه وسلطاته المسئول الأول عن كل عمل تدخل فيه جهاز المخابرات بوسائل غير شرعية كما أنه مسئول عن استغلال وظيفته وسلطاته في أغراض شخصية مما أضر بالأمن القومي بالدولة ويعتبر خروجا عن المبادئ التي قامت عليها الثورة».

وأنه من المؤسف أن تصرفات صلاح نصر الشخصية وانحرافه في سلوكه قد أدت إلى إساءة سمعة جهاز المخابرات العامة في نظر الشعب بينما الواقع أن جهاز المخابرات وجد ليحمي الشعب من أعدائه في الداخل والخارج.

- أما قول المتهم الأول بأن ما حدث له في قضية الانحراف كان وليد اعتقاد الرئيس السابق بانحيازه إلى جبهة المرحوم المشير عبد الحكيم عامر فيكفي في الرد عليه ما جاء بحكم المحكمة الثورة سالف الذكر أنه قد أراد تدعيم مركزه فسعى إلى إنشاء علاقات شخصية بينه وبين المشير عامر مكنت له من غرض سيطرته عليه وأنه «قد ظهر للمحكمة هذا الارتباط واضحا من العلاقات الشخصية التي كانت قائمة بينهما مما مكن المتم الأول من الاستناد إلى مركز القوة الذي كان يمثله المشير والاعتماد عليه وإخفاء الحقائق عن المسؤلين» وأن تحقيقات قضية المؤامرة قد كشفت «عن انحياز المتهم الأول إلى فريق المتآمرين بسبب هذا الارتباط الوثيق تحققا لمصحة شخصية» حتى « يعود المشير إلى السلطة ويبقى صلاح نصر في منصبه وتبقى أسرار حياتهما الخاصة طي الكتمان»

- ومن ثم فإن المتهم الأول يكون في الفترة من 23/7/ 1965 إلى 4/8/ 1965 بدائرة قسم حدائق القبة محافظة القاهرة وبصفته رئيسا لجهاز المخابرات العامة أمر بتعذيب الصحفي مصطفى أمين يوسف المتهم في القضية رقم 10/ 65 جنايات أمن دولة عليا لحمله على الاعتراف بالجريمة المسندة إليه، وقد تخلف عن التعذيب الإصابات الموصوفة بالتحقيقات والكشف الطبي الأمر المؤثر بنص المادة 126 من قانون العقوبات ويتعين معه إنزال العقوبة بالمتهم الأول وفق حكمها

سبب براءة عليش والجزار

وحيث أنه لم يثبت للمحكمة على وجه القطع واليقين أن أيا من المتهمين الثاني والثالث قد قام بإصدرا أوامر بتعذيب المجني عليه لإكراهه على الاعتراف بالجريمة المسندة إليه أو فعلا ذلك بنفسيهما حيث قد نفى المجني عليه صراحة عنهما هذا الفعل الأخير وقرر بالنسبة للمتهم الثاني أنه لم يشاهده إلا بصحبة المتهم الأول دائما وقد أيده في هذه الواقعة كل من عادل السيد سليمان و أنور جمعة زعلوك.

- وإذا كان المتهم الأول هو الوحيد الذي توافرت القناعة لدى المحكمة من جميع ما قدم في الدعوى من أوراق وتم فيها من تحقيقات ودار بشأنها بالجلسة أنه الأمر بالتعذيب لإرغام المجني عليه على الاعتراف بالجرم المسند غليه فإن صدور أمر من المتهم الثاني بتعذيبه لهذا الشأن يضحي ولا محالة له غير مستساغ عقلا أو مقبول منطقا خاصا أن أمر المتهم الأول قد وضع موضع التنفيذ.

- وأما بالنسبة للمتهم الثالث فإن ذكره لم يرد على لسان المجني عليه بشأن التهمة موضوع هذه المحكمة إلا في تحقيقات النيابة العامة بتاريخ 11/ 11/1974 رغم إقرار المجني عليه بمعرفة اسمه الحركي (جلال) من وجوده بمبنى المخابرات العامة وفي الوقت نسب إليه واقعة محددة هي الإشراف على تحرير الإقرار الذي كان السبب فيها انتهت إليه المحكمة من وقوع تعذيب عليه ولا يمكن أن يغيب عن باله أو يغفل عن ذكره طوال هذه الفترة الأمر الذي يفقد المحكمة اطمئنانها إلى ما قاله في هذا الشأن الذي لم يقصد به إلا مجرد الزج بالمتهم المذكور في الاتهام موضوع هذه الدعوى لحضوره واقعة تعذيبه وكتابة الإقرار وجزاء له على عقده مؤتمرين صحفيين بدار الأخبار ونقابة الصحفيين عن قضية التخابر قبل عرضها على المحكمة مع ما في ذلك ن تشهير بالمجني عليه وتلويث لسمعته وحط من شأنه واحتقاره ليس عند أهل صناعته فقط بل أيضا عند أهل وطنه وعلى الصعيد الدولي، وهو الأمر الذي علم به عقب الإفراج عنه نفاذا لقرار العفو الصادر في 18/ 5/ 1974.

وحيث أن عدم إصدار المتهمين الثاني والثالث الأمر بتعذيب المجني عليه ولا كراهة على كتابة الإقرار لا يعني عدم علمهما بحكم موقعهما ي المخابرات العامة والأول رئيس هيئة الأمن القومي والثاني وكيله بما حدث للمجني عليه بل أنه ثبت للمحكمة علمهما به ووقوع التعذيب وتحرير الإقرار في وجودهما غير أن ذلك العلم لا يرقى إلى مرتبة الفعل المجرم بنص المادة 126 من قانون العقوبات وهو الأمر بالتعذيب وأنه كان يستشفمنه الرضاء به وهذا الرضا لا يستنتج منه أن أيهما الأمر به لأن هذا الاستنتاج يترتب عليه تغيير لفظ الامر.

- كما أن أيهما لا يعد مشتركا في ارتكاب الجريمة بعدم تدخله في منعها لأن عدم الاهتمام أو التقاعس عن منع ارتكاب جناية أو جنحة وهو موقف سلبي لا يمكن اعتباره عملا من أعمال الاشتراك الذي يعاقب عليه القانون ولكنها إيجابية ومحددة به على سبيل الحصر (م.40ع) وأن كان يعتبر من الأعمال التي يحكم عليه تأديتها باعتبار أنهما موظفان أن كان هناك محل لذلك.

- ومن ثم فإن التهمة المسندة إليهما تكون قد غلفتها الريبة وأحاطتها الشكوك وتضحي ببرائتها منها حتما مقتضيا عملا بنص المادتين 304/ 1، 381/ 1 من قانون الإجراءات الجنائية

- وحيث أنه قد انتهت المحكمة بثبوت التهمة في حق المتهم الأول دون المتهمين الثاني والثالث وقد نال المجني عليه من تعذيبه الجسدي بقصد حمله على الاعتراف بالجرم المسند إليه إضرارا مادية وأدبيه غير متكورة فإن المتهم الأول يكون مسئولا عن تعويضه عنها طبقا لنص المادتين 1963، 222/1 من التقنين المدني وترى المحكمة إجابة المدعي بالحق المدني (م251أ. ج) إلى مطلبه المؤقت وإلزام المتهم المذكور بالمبلغ المطلوب والمصروفات المدنية شاملة أتعاب المحاماة عملا بنص المادة 320/ 1 من قانون الإجراءات الجنائية مع رفض الدعوى المدنية قبل المتهمين الثاني والثالث لأن الحكم بالبراءة لعدم ثبوت التهمة يستلزم دائما رفض طلب التعويض لانتقاء الخطأ الموجب للمسئولية

فلهذه الأسباب :

وبعد الاطلاع على المواد 126 عقوبات والمواد 304/ 1 ، 381/ 1، 251، 320/ 1 إجراءات جنائية، 163، 222/1 مدني حكمت المحكمة حضوريا

أولا: بمعاقبة صلاح محمد نصر بالأشغال الشاقة مدة عشر سنوات عن التهمة المسندة إليه وإلزامه أن يدفع للمدعي بالحق المدني مصطفى أمين يوسف مبلغ 51جنيها ( فق واحد وخمسون جنيها) على سبيل التعويض المؤقت والمصاريف ومبلغ مائة جنيه(100 جنيه) مقابل أتعاب المحاماة.

ثانيا: ببراءة كل من حسن زكي عليش و أحمد يسري الجزار من التهمة المسندة إليهما وبرفض الدعوى المدنية المقامة قبلهما.

صدر هذا الحكم تلى علنا بجلسة يوم السبت الموافق 26/6/ 1976 أمين السر.

رئيس المحكمة

فكرة

يا رب:

ما أبلغ حكمتك وأعظم مشيئتك أمهلت وما أهملت أنت تعلم أنني لم أطلب منك في يوم من الأيام أن تنتقم من ظالم كل ما طلبته منك أن تنصف كل مظلوم.

أنت تعلم أنني لم أطلب شيئا لنفسي كل ما طلبت ألا يحدث لغيرنا ما حدث لنا!

أنت تعلم أنني لم أرفع هذه القضية ولم أقدم شكوى إلى النيابة كل ما حدث أن محاميا لم أعرفه ولم أقابله قبل ذلك طوال حياتي وهو الأستاذ عبد الحليم رمضان المحامي قدم بلاغا إلى النائب العام يطلب التحقق في وقائع التعذيب التي جاءت في «سنة أولى سجن»

كنت واقفا وحدي وكنت أشعر أنني أواجه قوى لا قبل لي بها هي تلك كل شي وأنا لا أملك سوى قلمي هي تهدد وتتوعد وأنا ليس لي إلا الله أستعينه وأعتمد عليه.

أذكر كيفي أن صلاح نصر كتب مذكرة يقول فيها أنه ليس من حق محكمة الجنيات أن تحاكمه وليس من حق النيابة أن تحقق معه وأنه يجب أن تؤلف محكمة خاصة لمحاكمته وأنه ضابط سابق برتبة فريق لا يجوز أن يحاكم إلا أمام محكمة عسكرية يتولاها ضابط برتبة فريق وأنه يطلب من الجيش أن يحميه من المحاكمة العادية ورفض الفريق الجمسي وزير الحربية أن يتدخل الجيش في قضية تعذيب.

ثم أرسل صلاح نصر إلى عادل يوسف وزير العدل يطلب منه أن يمنع محاكمته أمام محكمة عادية ويطالب أن يحاكم أمام محكمة عسكرية وإذا بعادل يونس رحمه الله يضع مذكرة يعلن فيها أن سيادة القانون تقتضي أن يحاكم صلاح نصر أمام القضاء شأنه شأن كل متهم عادي بغير تفريق ولا تمييز!

تحية للقضاة الكبار الذين رفعوا رأس قضاة مصر واثبتوا أن قضاء مصر صامد كالطود وأنه يحمي كل مصري وأن المصريين جميعا سواء أمام القانون.

تحية لشوكت التوني المحامي الذي ترافع عن شعب مصر مرافعة بليغة سوف تدخل بين أعظم المرافعات السياسية في تاريخ مصر.

وقبل كل شيء وبعد كل شي كل الشكر يا رب!