ضيف يرحل

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ضيف يرحل

بقلم / الإمام حسن البنا

ها هو الضيف الكريم الذي أمتع المسلمين أيامًا معدودات بطلعته المشرقة وأوقاته المملوءة بالخير والبر يتأهَّب للرحيل، ويؤذنهم بالتوديع، ولكلِّ أجلٍ كتاب، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به.

فتُرى هل أكرم المسلمون وفادته، وأحسنوا قراه فهو شاكر ممتنٌّ؟ أم تثاقلوا عن واجبه ونسوا حقه فهو مغبون مهضوم؟ والضيف يحمد أو يلوم.

وها هو ذلك الكتاب الناصع الصفحات من مذكرات الزمن لم يبقَ في صحائفه إلا القليل، وقد طوى الكثير منها على ما احتواه من الخير أو الشر؛ فتُرى هل كتب المسلمون صحائف هذا الكتاب بمداد الصالحات، ووشّوه بأنوار الطاعات والمَبَرَّات، وطرَّزوه بسَنا الخلائق الغرّ والصون والطهر، وختموه بمسك الإنابة والاستغفار، أم أهملوها فطُويت غفلاً، وذهبت هباءً، أو لوَّثوها بسواد العصيان، وكدروا نصاعتها بظلمة العدوان؟!

وها هو ذلك الشهيد الذي أقام فينا شهرًا يعود ليؤدي مهمته، ويعلن شهادته، وينطق علينا بما رأى منا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ فهل قدَّر المسلمون ذلك فجعلوا أعمالهم حُجةً لهم لا حجة عليهم؟! وها هي مركبة الزمن التي أرسلها الله لعباده قد قطعت مرحلتها، وسارت إلى غايتها؛ حيث تتوارى بالحجاب بما تحمل من خيرات أو آثام، ثم يحفظ كل ذلك لأهله، ويرى كل إنسان ما قدم من عمله ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ (آل عمران: من الآية 30)، فهل رأى المسلمون هذه المركبة وهي تسير؛ فحلوها من الصالحات ما يرونه محضرًا يوم القيامة تقر به نفوسهم وتنشرح له صدورهم؟!

وأخيرًا ها هو شهر رمضان العظيم المبارك ينقضي تباعًا، ولم يبقَ فيه إلا الدماء؛ فكيف كان المسلمون في هذه الأوقات المباركات؟!

أنت يا أخي واحد من رجال: إما رجل عربيد مستهتر، لا يقدس حرمة الأيام، ولا يعترف بقداسة التكاليف؛ فرمضان وغير رمضان عنده سواءٌ؛ فهو في كلها سادر في غلوائه، ماضٍ في خيلائه، غارق في بلوائه، مطمئن إلى مسلكه، آنس بما يرتكب من بوائق وآثام؛ فهذا الرجل أهان الضيف، ولوَّث صحائف الكتاب وأغضب الشهيد، وحمَّل المركبة ما تنوء به من الشرور والمفاسد، وهو إن أراد النجاة فالسبيل معبَّدة، والعودة ممكنة، والتواب كريم، وباب الرجوع لمَّا يُقفل وإنه غفور رحيم ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)﴾ (الشورى)، وما أجمل أن يتوب هذا المسرف من ذنبه، ويرجع إلى ربه؛ فيبدِّل سيئاته حسنات، ويرفعه إلى أعلى الدرجات، وسبحان من نفع المسلمين بقاتل حمزة.

وإما رجل لاهٍ غافل، مرَّ به رمضان كما تمرُّ السحابة بالقوم النيام، لم يروها ولم تمطرهم؛ فلا هم شعروا بظلها، ولا هم استفادوا من خيرها، وهذا الرجل حُرِم فضل الضيافة، ووثاقة الكتابة، ومعاهدة الشهيد، وترك المركبة فارغةً، وهو في مسيس الحاجة إلى ما تحمل من خيرٍ وبرٍّ، وأولى له أن يبادر في البقية الباقية من أيام رمضان، فيسترضي ضيفه بما يقدم من قراه، ويستوثق لنفسه بما يدوّن في صحف هذا الكتاب، ويكتسب الشهيد بما يعمل بين يديه من خيرات، ويملأ المركبة بما استطاع من طاعات، وقد يبارك الله في هذا القليل فيعود خيرًا كثيرًا، والله ذو الفضل العظيم.

وإما رجل حازم حكيم، علِم بمقدم الضيف؛ فأعدَّ له العدة وأكرم الوفاء، ولاقاه بالبشر.

وقال له: أهلا وسهلاً ومرحبًا

فهذا مبيت صالح ومقيل

يبتسم لكل ساعة من ساعات الشهر، ويكرمها بطاعة من طاعات الرب؛ فتمضي لاهجةً بشكر صنيعه، رائبة في الثناء عليه، وعلم أن صفحات الكتاب هي تقارير عمله، فدوَّن فيها ما يرفع منزلته ويُعلي رتبته؛ فهي وثيقته بين يدي مولاه، وحجَّته عند ربه، ورأى الشهيد ناظرًا إليه ورقيبًا عليه، فلم يُرِهِ إلا ما تقرُّ به عينه؛ من صلاة وصيام وتلاوة وقيام وصون وطهر وصدقة وبرّ ومسارعة إلى الخير؛ فكانت الشهادة برهانًا له وسندًا يعتدُّ به، ورأى المركبة تمرُّ تباعًا وتمشي سراعًا، فحمَّلها في كل خطوة خيرًا كثيرًا؛ فهو جديرٌ أن يكون غنيًّا بما قدَّم، سعيدًا بما عمل، مطمئنًا إلى عاقبة أمره ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)﴾ (الزلزلة)، وهذا الشخص حقيق أن يضاعف مجهوده، ويزيد في يقظته، وعند الصباح يحمد القوم السرى، ولأمر ما كان صلى الله عليه وسلم إذا أقبل العشرُ الأواخر من رمضان شمَّر وأيقظ أهله وشدَّ المئزر.. فأي الأشخاص كنت أيها الأخ الكريم؟!

أيها المسلمون.. ها هو رمضان يؤذنكم بالرحيل، وقد كان فيكم أستاذًا يُملي عليكم مبادئ الرجولة الصحيحة، ويربِّي فيكم الإرادة القوية، ويُعَوِّدكم الاحتمال والصبر، ويرسم لكم طريق الحرية، ويكشف عن بصائركم حجُب المادة؛ حيث تسمو إلى أفق الملائكة، ويعلمكم الفقه عن الله- تبارك وتعالى- والفهم لكتابه ودينه وآياته، ولكل أستاذ أثرُه؛ فكيف كان شهر رمضان في نفوسكم؟!

زنوا أنفسكم، وتعرَّفوا أثر رمضان في أرواحكم، وانظروا: هل قويت إرادتُكم فأصبحتم قادرين على الاستغناء عن التوافِهِ من المُتَعِ في سبيل العظائم من المكرمات؟ وهل تعوَّدتم الصبر على الشدائد فأصبحتم قادرين على التضحية في سبيل الوصول إلى أنبل الغايات؟ وهل كُشِفَ عن بصائركم الحجاب فأدركتم حقارة أعراض هذه الحياة الدنيا إلى جانب عزة النفس ووفرة الكرامة وحرية الضمير وسعادة الروح؟ وهل تفقَّهتم في دين الله وتفهَّمتم آياته؛ فأصبحتم تتجاوزون الألفاظ الجامدة إلى المعاني السامية، والتقاليد الفاسدة إلى لبِّ التشريع وأسرار التنزيل؟!

إن كان ذلك كذلك فاحمدوا الله على ما هداكم، وإن لم يكن ذلك كذلك فاجتهدوا في هذه اللحظات الباقية أن تصقلوا مرآة أرواحكم، وتطهِّروا أدران نفوسكم وتنتفعوا بفيض الله- تبارك وتعالى- في شهركم؛ فإن فعلتم فسوف تدركون- إن شاء الله- وإن أعرضتم فقد بلغت.. اللهم اشهد.