عروض.. ومقايضات
بقلم : محمد السهلي
تدرك واشنطن أن إعلان خيار اللجوء إلى الأمم المتحدة هو في الوقت نفسه إعلان فشلها في أن تكون الراعي النزيه لجهود التسوية ربما من باب تسجيل العروض في ديوان وزارة الخارجية الأميركية، يواظب نتنياهو على طرح مقايضات غير متكافئة على الجانب الفلسطيني بهدف تحويل الأنظار عن السبب الجوهري في جعل المفاوضات تدور في حلقة مفرغة.
هذه المرة يطلب الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل مقابل تجميد جزئي ومؤقت للاستيطان، مع العلم أن التجميد التام والشامل لا يكفي لضمان مفاوضات صالحة للوصول إلى حل شامل ومتوازن إذا لم يترافق مع تحديد مرجعية المفاوضات ربطا بقرارات الشرعية الدولية ورقابة المجتمع الدولي الذي أصدرها.
ويختلف الأمر عندما يتعلق بمقايضات «وافدة» ولو كانت من الإدارة الأميركية، فيدخل على خط هذه المقايضات من زاوية توسيع المغريات المقدمة له لتصل إلى قضايا ترتبط بمستقبل الدولة الفلسطينية حتى يكفل أن الرفض سيكون على يد المفاوض الفلسطيني حصرا.
فقد سبق للإدارة الأميركية أن قدمت لنتياهو عرضا سخيا مقابل تجميد الاستيطان لمدة ستين يوما لا أكثر. وشمل العرض ضمانات أمنية بعيدة المدى بما فيها تزويد إسرائيل بأسلحة متطورة، وضمانات سياسية تعهدت فيا بإحباط اية محاولة عربية وفلسطينية للجوء إلى مجلس الأمن وطرح مسألة قيام الدولة الفلسطينية، وتعهدت قبل ذلك بمنع الجانب الفلسطيني من أن يطرح مرة أخرى موضوع التجميد.
وإذا كان نتنياهو لم يرفض هذا العرض بشكل مباشر، فلأنه رأى أن الصيغة الأفضل هي مفاوضة واشنطن من أجل «تحسين» العرض، مقترحا ضمانة أميركية واضحة بدعم مطالب نتنياهو وحكومته بالاحتفاظ بوجود قواتها العسكرية والأمنية على طوال الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية العتيدة، والاحتفاظ أيضا بنقاط أمنية في أنحاء متفرقة من الضفة.
في هذه الحالة يأمل أن ينقل «الراعي» الأميركي صيغة الطرح المذكور للمفاوض الفلسطيني الذي من الطبيعي أن يرفضه على اعتبار أنه يحسم موضوعة الحدود وفقا للتصورات الأمنية الإسرائيلية.
وبذلك يكون نتنياهو قد أخرج مسألة تجميد الاستيطان من المقايضة من حيث المبدأ.
ما يحصل الآن يصب في المعادلة ذاتها ولكن بدءا من طرفها الأخير.
فعندما جاء موقف لجنة المتابعة العربية متوافقا مع الموقف الفلسطيني برفض المفاوضات مع استمرار الاستيطان، أخرج نتنياهو من جعبته مقايضة وضع في مقدمتها الطلب العربي ـ الفلسطيني بتجميد الاستيطان ولكن المهم هنا الطرف الآخر من المقايضة وهو الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
في العرض الأميركي حاول نتنياهو مقايضة تجميد الاستيطان بحل مسبق لموضوعي الأمن والحدود في وقت واحد. وهو هنا يعرض مقايضة التجميد برزمة من القضايا، أبرزها قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها.
ليس هذا فقط.
بل يجملها بوضع مستقبل الفلسطينيين في أراضي الـ48 على كف عفريت السياسات العنصرية التي تزداد تفشيا في المجتمع الصهيوني وحركته السياسية.
مقايضة من العيار الثقيل لا يستيطع أحد مجرد التعامل معها فكيف قبولها أو التساوق معها؟.
وما لا يستطيع نتنياهو فرضه على جبهة العملية التفاوضية (حتى الآن) يقوم بتنفيذه بحق فلسطيني الـ48 ويشكل إقرار مشروع «قانون المواطنة» في الحكومة الإسرائيلية مؤخرا خير دليل على ذلك.
وعلى الرغم من قناعتنا بأن ما تقوم الحكومة الإسرائيلية يعبر عن إستراتيجية محددة ومقرة وليس ردة فعل، إلا أننا نود لفت الانتباه إلى توقيت الإجراءات والقوانين العنصرية المتعلقة بالفلسطينيين في كل من الضفة وغزة وأيضا في أراضي الـ48.
فعندما علت الأصوات (بما فيها الأميركية) المطالبة بتجميد الاستيطان وأصدرت الرباعية بيانها الشهير (19/3/2010) فتح نتنياهو جبهة اشتباك سياسي أخرى عندما تم إعادة التأكيد على القرار العنصري 1560 الذي يؤدي تطبيقه إلى طرد آلاف الفلسطينيين من القدس والضفة. واحتلت مواجهة هذا القانون حيزا واسعا من الجهود السياسية على غير مستوى وصعيد ودخلت على خط الاهتمام الذي كان مركزا على مسألة تجميد الاستيطان.
وعندما تكرر الموقف الفلسطيني بربط استمرار المفاوضات بتجميد الاستيطان وانضمت إليه لجنة المتابعة العربية ودخلت واشنطن على خط المقايضات مقابل تحقيق ذلك، عندها، وجد نتنياهو وحكومته في بدء الدورة الشتوية للكنيست فرصة من ذهب لتقديم مشاريع قوانين عنصرية أعدها الائتلاف الحكومي الذي يضمن فيه نتنياهو أغلبية مريحة لتمرير هذه المشاريع باتجاه الكنيست مستفيدا من المناخ اليميني المتطرف السائد. وهو يعرف أنه بذلك سيفتح ميدان آخر للاشتباك السياسي مع أطراف مختلفة ذات صلة بالمفاوضات ويتوقع أن تأخذ هذه الإجراءات حيزا من الاهتمام الذي انصب مؤخرا على موضوعة المفاوضات وتجميد الاستيطان.
هذا لا يعني ـ كما ذكرنا سابقا ـ أن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية بحق فلسطيني الـ48 مجرد تكتيك سياسي لتوزيع الضغط المتولد عن مسألة تجميد الاستيطان وملفات المفاوضات، بل يعبر ذلك عن رفع وتيرة الأداء السياسي لينشط على أكثر من مسرب واحد تجاه مواضيع موجودة أساسا على أجندة العمل السياسي الإسرائيلي ويرتبط بخطط استراتيجية متصلة بما كان ينجز في عهد الحكومات الإسرائيلية السابقة ووفق جدول زمني مرَّحل.
على «جبهة» المفاوضات المعطلة، أشرنا في وقت سابق إلى أن الإدارة الأميركية لا تقبل بتوقف المفاوضات أو تعطلها، لذلك وصفت اللقاءات التي تجري في سياق الجهود لمواصلتها بأنها مرحلة مؤقتة من المفاوضات غير المباشرة.
وعلى اعتبار أن لجنة المتابعة العربية قطعت نصف خطوة بالاتجاه الصحيح واستنكفت عن إكمال الخطوة باللجوء إلى الخيارات الأخرى، فإن الإدارة الأميركية ستشغل مهلة الشهر التي حددتها اللجنة بالمزيد من الجولات الدبلوماسية واللقاءات تحت عنوان جسر الهوة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وخاصة أن استحقاقات الانتخابات النصفية باتت على الأبواب ومن شأن أي حديث عن فشل المفاوضات أن يوظف لغير صالحها في هذه الانتخابات مع أنه لا تنقصها المشاكل في الملفات الخارجية الأخرى وخاصة في أفغانستان.
وأمام المواقف الإسرائيلية المتعنتة بشأن الاستيطان ولجوء نتنياهو إلى طرح مقايضات تعجيزية فإن المؤشرات تدل على أن ما يحسم الأمر في النهاية يتعلق بمحصلة صراع الإرادات السياسية حول أسس استمرار المفاوضات، وهو ما يجب أن يتم التأكيد عليه على المقلب الفلسطيني لجهة تطوير الموقف من مسألة تجميد الاستيطان باتجاه تحديد مرجعية المفاوضات فهو المدخل الوحيد لإخراج هذه المفاوضات من ميزان المناقصات واقتراح الحلول الوسط وتقريب وجهات النظر التي غالبا ما تأتي على حساب الموقف الفلسطيني.
تدرك واشنطن جيدا أن خيار اللجوء إلى الأمم المتحدة يعني إعلان فشلها في الدور التي سعت لأن يكون حصريا بشأن المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ومع معرفتنا أن طريق الذهاب إلى الأمم المتحدة ليس معبدا بل تعترضه مصاعب كثيرة، لكننا ندرك أيضا أن من شأن فتح الخيارات على أبوابها الواسعة أن يضع المجتمع الدولي وأطراف القمة العربية أمام التزاماتها وإن تأخر البعض أو تراجع.. أو ضغط بالاتجاه المعاكس.
المصدر
- مقال:عروض.. ومقايضاتالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات