فارس بني خيبان
بقلم: د. توفيق الواعي
الفروسية أصبحت أنواعًا وألوانًا وأشكالاً، منها العظيم ومنها الهابط، وكل نوع من هذه الأنواع ينسب لفصيل أو قبيل، والطيور كما يقولون على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي.
والفروسية الشجاعة والمخلصة لها مواصفات خاصة؛ تجذب الجميع وتقودهم وتبهرهم، أما الفروسية الخائبة فإنها جبانة، وتجلب العار، وتبعث على التدنِّي، وتقود إلى الضياع؛ لا تسمع لنصح، ولا تقبل مشورة، وهل تنفع "الخيبان" موعظة ولو كان كل من حوله ناصحًا.
وقد رأينا الكثيرين من أفراد وجماعات، تحيط بهم الدواهي، وتحطِّمهم الأيام وهم شهود وأصحاب أعين، ويحيط بهم النصَّاح والنقَّاد، ولكنهم فقدوا العقل الرادع، والإحساس الوازع، والتمييز الكاشف، وأصيبوا بالبلادة والعمى، وقد يدَّعون مع هذا الاتصاف بالزعامة والفروسية، وقد رأينا أمثلةً كثيرةً في التاريخ تُربّى لتكون فرسانًا، وتقدم لتكون روَّادًا ولكنهم مصابون بالخمول والبلاهة والعمى.
أريد وصالهم والدهر يأبى مواصلتي ويطمع في عنادي
وطالت مدة التغريب عنهم ولا غنم لديّ سوى الكساد
مهازيل الفضائل خادعوني وهل في حربهم يكبو جوادي؟!
قيل: "إن المنصور لما سار إلى الحج أراد أن يجعل من ولده المهدي رأسًا تعتمد الدولة عليه في غيابه، فأوصاه وعلَّمه قبل أن يخرج حاجًّا، ثم قال له عند وداعه: يا بني، لم أدع شيئًا إلا تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال، وما أظنك تغفل واحدةً منها، وكان له "سفط" فيه دفاتر عمله، وعليه قُفل لا يفتحه أحد غيره.
فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، وما كان وما هو كائن، فإن حزبك أمر، فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا ففي الثاني والثالث حتى بلغ سبعة؛ فإن ثقل عليك، فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد ما تريد فيها، وما أظنك تفعل..
وانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما لو انكسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصالح البيت، فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزًا ما دام بيت مالك عامرًا، ولا أظنك تفعل..
وأوصيك بأهل بيتك؛ أن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدمهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإنّ عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل..
وانظر مواليك؛ فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك، إن تنزل بك يومًا، وما أظنك تفعل..
وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا دماءهم وأموالهم في دولتك، ولا تخرج محبتك من قلوبهم، أحسن إليهم، وتجاوز عن مسيئهم، واخلف من مات منهم في ولده وأهله بخير، وما أظنك تفعل..
وإياك أن تبني مدينة الشرقية، فإنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل..
ماحض النصح له مجتهدًا أخطأ الرأي به والاجتهادا
ذاكرًا في الربع أيام الهوى من لأيامك فيها أن تعادا
وإذا ما نظرت أو خطرت عرّفتك البيض والسمر الصعادا
ولكم من طُرَّة في غرة خلع الليل على الصبح السوادا
وماذا ستفعل النصيحة في قلب غبي، وفكر عمي، وعقل مسيح، لا يفقه ولا يعي، غير مؤهل للمعرفة والعلم؟ وماذا ستجدي النصيحة إذا كانت قد خرجت من شخص ظالم ويد آثمة ولسان كذوب؟ أظن أن ذلك لا ينفع أو لا يكاد يبين.
يجول في طرقات البغي محتقبًا للغش حول ستار النصح مستترا
لم يكفه أنه للحكم مغتصب حتى غدا يقتل الآراء والفكرا
فكم ضغائن بين القوم أوجدها وكم بذور من التفريق قد بذرا
وكانوا بدورهم لا ينتصحون أو يسمعون النصح رغم نصح النصَّاح ووعظ المرشدين.
في "بغية الخاطر" للعلامة محمد بن مصطفى؛ الشهير بـ"كاتي": ذكر أن أبا جعفر المنصور قال لعمرو بن عبيد: عظني، قال: بما رأيت أو بما سمعت؟ فقال: بل بما رأيت، فقال: توفي عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- وخلّف أحد عشر ابنًا، وبلغت قيمة تركته سبعة عشر دينارًا، فكفِّن بخمسة دنانير، واشترى له موضع قبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده ثمانية عشر قيراطًا، ومات هشام ابن عبد الملك، وخلّف أحد عشر ابنًا، فحصل لكل واحد من ورثته مما خلَّفه عشرة آلاف دينار، فرأيت رجلاً من أولاد عمر بن عبد العزيز قد حمل على مائة فرس في سبيل الله، ورأيت أولاد هشام يسألون الناس في الطرقات.
كثير من هؤلاء ادَّعوا أنهم فرسان فكانوا، ولكنهم فرسان ضلال وخسارة وبوار ووبال على أقوامهم وعلى البشرية، ولو تركوا في الناس بغير حراسة أو حماية لضُرِبوا بالنعال ودِيسوا بالأقدام، وقد كانوا يومًا يدَّعون التألّه وصناعة المعجزات، ولكنهم كانوا كما قال القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾ (المنافقون).
والعجيب أن هؤلاء الأدعياء للفروسية والبطولة وحماية الأمة هم علتها ومرضها العضال، وحملها الثقيل الذي تستعيذ منه آناء الليل وأطراف النهار، وهم لا يساوون نقيرًا، وكثير من الدول اليوم- إلا من رحم ربك- تعاني من هؤلاء السوائم الفرسان؛ الذين يدعون الله أن يركسهم في جهنم، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يرسم الطريق للأمة أن هؤلاء لا يصلح معهم إلا الضرب بالنعال.
الناس مثل زمانهم قدّ الحذاء على مثاله
ورجال دهرك مثل دهــ ـرك في تقلبه وحاله
وكذا إذا فسد الزمان جرى الفساد على رجاله
فهل تستطيع أخي أن تميِّز بين فرسان الخبال وفرسان النزال؟ وهل تستطيع أن تفرق بين أبطال الخيبة وأبطال السطوة والهيبة؟! نرجو ذلك.
المصدر
- مقال:فارس بني خيبانإخوان أون لاين