كم نفتقدك يا أبا عمار

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
كم نفتقدك يا أبا عمار
ياسر عرفات.jpg


بقلم : محمود كعوش

ثلاثة أعوام مرت على رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات،تعرضت خلالها الساحة الفلسطينية لكثير من الأعاصير والزلازل أبلغها وأخطرها ما حصل في قطاع غزة،ولم يزل السبب الحقيقي لوفاته لغزاً محيراً،في ظل اقتناع أغلبية الفلسطينيين بأنه قضى مسموماً وأن "الإسرائيليين" هم الذين قاموا بدس السم له بتشجيع ومباركةٍ من حكومة الولايات المتحدة أو تواطؤٍ منها،بالنظر إلى التهديدات المتكررة بالقتل التي وجهت إليه من قبل رئيس الحكومة "الإسرائيلية" السابق الإرهابي أرئيل شارون وبعض معاونيه والحصار الخانق الذي تم فرضه على مقره في رام الله من قبل كل من تل أبيب وواشنطن.

فبعدما فشلت سياسة "لي العنق" الأميركية،كما فشلت من قبلها سياسة "العصا والجزرة" الأميركية،في ثني الراحل الكبير عن مواقفه الوطنية الثابتة من القضية الفلسطينية وقضية الصراع الفلسطيني ـ "الإسرائيلي" بصورة عامة عندما كان يترأس الوفد الفلسطيني الذي شارك في مفاوضات كامب دافيد عام 2000،كان متوقعاً أن تتخذ إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق بيل كلينتون في حينه موقفاً عدائياً،وحتى انتقامياً،منه ومن القضية الفلسطينية على حد سواء.

وكان متوقعاً أن يتسرب ذلك الموقف من كلينتون إلى خليفته الجمهوري جورج بوش بشكل تلقائي.

وبنتيجة انحسار نفوذ الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد القوة العظمى الثانية في العالم وتحولها إلى جمهوريات ضعيفة ومتناثرة واستئثار الولايات المتحدة بالقطبية الواحدة،أصبح من غير المألوف أو المقبول من وجهة النظر الأميركية أن يتلفظ أي زعيم أو قائد في العالم مهما علا شأنه وبلغ نفوذه بكلمة "لا" في وجه الإدارة الأميركية أو رئيسها أو أصغر عضو فيها.

فكيف تجرأ ياسر عرفات إذاً وهو في ذلك الحصار الحديدي الذي فُرض عليه في كامب دافيد أن يقول "لا" بالفم الملآن لرئيس أكبر وأعظم دولة،بل الدولة العظمى الوحيدة في العالم،ولكل طاقم إدارته الذي كان يتشكل من عتاة المحافظين الجدد والذي كان يشرف على المفاوضات الفلسطينية ـ "الإسرائيلية" ويزعم رعايته لها؟

وطالما أنه فعل ذلك فقد كان لزاماً عليه أن يدفع الثمن غالياً،وهو ما حدث فعلاً!!

أثناء تلك المفاوضات الموجهة والمعقدة حافظ "الختيار" على صلابته ورباطة جأشه وظل متمسكاً بالثوابت الفلسطينية وبالأخص سيادة الفلسطينيين على القدس المحتلة عام 1967 بما فيها المسجد الأقصى المبارك.

وكما كان عهدنا به دائماً وأبداً لم يخضع ولم ينحن أمام كل الضغوط الأميركية والدولية والعربية التي مورست عليه وعلى الوفد الفلسطيني الذي كان يرافقه والتي كانت تفوق قدرتهما على الاحتمال،خاصة عندما تأكد لهما أن الرئيس بيل كلينتون قد انتقل من دور الوسيط الذي يفترض أن يكون نزيهاً وحيادياً إلى دور الشريك الكامل للوفد "الإسرائيلي" الذي كان يرأسه رئيس حكومة تل أبيب آنذاك أيهود باراك،وأصبح همه الرئيسي تنفيذ الأجندة "الإسرائيلية" على حساب القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية المشروعة التي أكدتها القرارات الدولية التي صدرت عن الأمم المتحدة وفي مقدمها 181 و194 و242 و338 ومرجعية مؤتمر مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام.

ولا شك أن بيننا من تابع تلك المفاوضات عن قرب ولا زال يتذكر حجم الإساءة البالغة التي وجهتها وزيرة الخارجية الأميركية في إدارة كلينتون حينذاك الصهيونية مادلين أولبرايت للرئيس الفلسطيني عندما انفجرت في وجهه بكل عهر وفجور مذكرة إياه بنبرة ملؤها التهديد والوعيد بأنه "في حضرة رئيس أكبر دولة في العالم"، متناسية أنها كانت هي ورئيسها وكل طاقم إدارتهما في حضرة زعيم وقائد واحدة من أشرف وأنبل وأسمى الثورات التي عرفها التاريخ على مر العصور.

وما من شك في أن الموقف الوطني والتاريخي للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وما خلفه ذلك الموقف من أثار وانطباعات إيجابية كثيرة في نفوس الفلسطينيين على مستوى السلطة والشعب في داخل الوطن وخارجه باعتبار أنه شكل ضربة قاسمة للسياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل والعاجزة عن القيام بدور الوسيط النزيه والحيادي في عملية السلام المرجوة قد مثل "القشة التي قسمت ظهر البعير" في موقف الولايات المتحدة وإدارة الرئيس بيل كلينتون من الرئيس الفلسطيني والقضية الفلسطينية على حد سواء.

فالرئيس كلينتون الذي كان يطمح وقتها إلى تتويج ولايته الثانية بإنجاز سياسي دولي من العيار الثقيل "كتوقيع اتفاقية سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون ما اعتبار منه لماهية تلك الاتفاقية" يخوله ترشيح نفسه للحصول على جائزة نوبل للسلام،راعه أن يحرمه الرئيس الفلسطيني الراحل بموقفه المبدئي من الأمل في تحقيق حلمه،مع أن الحقائق دللت فيما بعد على أن ذلك الموقف لم يكن سبباً مباشراً أو غير مباشر في انحسار وتضاؤل آمال كلينتون في الحصول على الجائزة المبتغاة بقدر ما كانت الخديعة التي أوقعه في شركها شريكه وحليفه أيهود باراك هي السبب،عندما أقنعه بأن "الظروف قد نضجت لإجراء تلك المفاوضات وأن السلطة الفلسطينية قد بلغت من اليأس والقنوط وقلة الحيلة ما أصبح يجعلها مستعدة للقبول بأي حل ممسوخ يُعرض عليها"!!

فعلى خلفية تلك الخديعة جاءت الدعوة المرتجلة فيما بعد لمفاوضات الدم التي شهدها منتجع "شرم الشيخ" المصري في ظل المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال "الإسرائيلية" ضد الفلسطينيين على أثر الاقتحام الشاروني الهمجي للمسجد الأقصى المبارك،بتدبير من باراك وحماية من حكومته.وكما كان متوقعاً فقد أفشل باراك تلك المفاوضات تماماً كما أفشل من قبل مفاوضات كامب دافيد،الأمر الذي حال دون حصول كلينتون على جائزة نوبل للسلام وحرمه هو الآخر من العودة إلى السلطة بعد خسارته المدوية في الانتخابات العامة "الإسرائيلية" أمام زعيم حزب الليكود آنذاك الإرهابي آرئيل شارون.

ومع تيقن الرئيس بيل كلينتون وإدراكه لمسؤولية باراك الكاملة في فشل مفاوضات "كامب دافيد" و"شرم الشيخ" فيما بعد وقناعته التامة التي لا يلتبسها أي شك بحسن نوايا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وسعيه الصادق والأمين وراء السلام العادل والمشرف،إلا أنه ظل على موقفه المعادي لعرفات والذي انتقل بناءً لتوصيته في ما بعد إلى خليفته جورج بوش الابن،الذي عمل بنصيحة المحافظين الجدد والمسيحيين الصهيونيين في الولايات المتحدة والإرهابي آرئيل شارون فنفى عنه بشكل اعتباطي وأهوج صفة الشراكة في مفاوضات السلام المتعثرة بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين".

يومها مثل ذلك الموقف "كلمة السر الإسرائيلية ـ الأميركية" الخاصة بمستقبل الرئيس الفلسطيني "الجسدي"!!

وجاءت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الدامية لتمثل فرصة "نادرة" للإرهابي آرئيل شارون الذي استغلها بتأييد ودعم من المحافظين الجدد والمسيحيين الصهيونيين أبشع استغلال ليتفنن في ممارسة الضغوط تلو الضغوط على السلطة الفلسطينية بصورة عامة وعليه بشكل خاص.

ولطالما تمنى له الموت من قبل وعمل من أجله لما كان جنرالاً في الجيش وعندما أصبح وزيراً وبعدما أصبح رئيساً للحكومة.

يتفق جميع العقلاء على أنه بعدما شرّف الزعيم الخالد ياسر عرفات العرب بتفجيره الثورة الفلسطينية المباركة في عام 1965 وزادهم شرفاً فوق شرف بنصر "الكرامة" الذي أخرجهم من ذهول هزيمتهم،كان من الطبيعي أن يتحول إلى هدف لمؤامرات شرسة يحيكها ضده جميع جنرالات "إسرائيل" وفي مقدمهم آرئيل شارون،ومثله كذلك إخوانه في قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح".

ولما كان متعذراً علي سرد جميع المؤامرات ومحاولات الاغتيال التي تعرض لها الزعيم الفلسطيني "أبو عمار" ونحن نُحيي ذكرى ثلاثة أعوام على رحيله،فإنني أرى أن من الضروري التذكير بالكم الهائل من الجواسيس الذين زرعهم جنرالات "إسرائيل" بمن فيهم شارون بين ظهرانيه واستطاع بحسه الأمني العالي ويقظة المحيطين به اكتشافهم وإحباط محاولاتهم الدنيئة.

كما أرى أن من الضروري التذكير كذلك بالهجمات الإجرامية للطيران "الإسرائيلي" التي استهدفت أماكن تواجده في العاصمة اللبنانية خلال اجتياح عام 1982 وحصار بيروت الذي استمر ثلاثة أشهرٍ متواصلة، والتي نُفذت بأوامر مباشرة من الإرهابي آرئيل شارون نفسه الذي كان وقتذاك وزيراً للدفاع "الإسرائيلي".

وهل استهدفت جريمة الإغارة على حمام الشط في العاصمة التونسية،على سبيل المثال لا الحصر،أحداً غير القائد الذي قض مضاجع "الإسرائيليين" بمن فيهم الإرهابي شارون؟!

وهل لغير "الإسرائيليين" وعلى رأسهم شارون كل المصلحة في غيابه عن مسرح العمل السياسي وعن الحياة كذلك؟!

إن كل الأدلة والوقائع والأحداث السياسية التي جرت منذ قيام ياسر عرفات بتفجير ثورته وحتى لحظة ترجله ورحيله الغامض "في الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الخميس الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 2004 " وبالأخص أثناء حصاره في مقر الرئاسة،أشرت بأصابع الاتهام في جريمة قتله إلى جنرالات "إسرائيل" وبالأخص رئيس وزرائها آنذاك الإرهابي آرئيل شارون.

لقد افترى الجميع علي "الوالد" في حياته كما في مماته بعد ذلك!! نعم افتروا عليه في حياته عندما جعلوا من الإرهابي شارون "داعية سلام" واعتبروه هو "عقبة في طريق السلام"!! وهو مستمرون في الافتراء عليه الآن وهو موارى الثرى،لأن "العقبة" المزعومة اغتيلت ومضى على اغتيالها ثلاثة أعوام عجاف ولم يُقم لا الإرهابي القديم "داعية السلام" ولا خليفته الحالي الإرهابي الأكبر أيهود أولمرت خلالها بأي خطوة على طريق السلام،بل على العكس من ذلك فقد عاث الاثنان في الأرض فساداً ما بعده فساد.

عاش الراحل الكبير الردح الأخير من حياته مُفترىً عليه وقضى مُفترىً عليه.

عاش وقضى مُفترىً عليه من إخوانه ورفاقه وشعبه وأمته كما من الجنرالات وكبيرهم وخليفته والمتآمرين والمتواطئين معهم والمتسترين على جرائمهم،وسيظل مفترىً عليه طالما أن رحيله بتلك الطريقة بقي لغزاً بلا حل،وطالما أن السلطة الوطنية الفلسطينية بقيت محجمةً عن إصدار البيان الشجاع الذي ينتظره الشعب الفلسطيني بفارغ الصبر والذي يُفترض أن توضح فيه كل الملابسات التي أحاطت بالمرض المفاجئ لزعيمهم وعلاجه في مستشفى بيرسي الفرنسي ووفاته فيه،وأن تسمي فيه الجهات التي وقفت وراء جريمة اغتياله والأشخاص الذين نفذوها بدم بارد!!

فعشرات المؤلفات وآلاف المقالات والتحليلات السياسية التي تناولت لغز رحيل "الرقم الفلسطيني الصعب" ياسر عرفات ونُشرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية أضافت قناعة فوق قناعة لدى أغلبية الفلسطينيين بأن الشهيد الغالي مات مسموماً،وأن "الإسرائيليين" وقفوا وراء اغتياله بتشجيع ومباركة من الولايات المتحدة أو تواطؤ منها،كما أسلفت سابقاً.وما لم تضع السلطة الوطنية الفلسطينية "العتيدة"الحقيقة كاملةً بين أيدي الفلسطينيين،فإن الراحل الكبير سيبقى مُفترىً عليه.

نعم سيبقى المفترى عليه حتى يتم إنصافه بالكشف عن سر عشائه الأخير، ويلقى الذين ارتكبوا جريمتهم النكراء بحقه أشد العقاب.

دم عرفات سيبقى أمانة في أعناق الذين أحبوه حتى يُكشف النقاب عن سر اللغز الذي أحاط برحيله.

ترى هل يتحقق ذلك ولو متأخراً،أم أن اللغز سيبقى لغزاً محيراً إلى أمد لا يعرفه إلا الله والعارفون ببواطن الأمور؟

ألف رحمة عليك يا من كنت والداً عطوفاً لجميع الفلسطينيين وأخاً صادقاً لكل العرب.

ألف رحمة عليك أيها الغائب الحاضر،الغائب عنا بجسدك والحاضر بيننا بروحك الطاهرة ويا من ستبقى حاضراً في قلوب وعقول أبناء شعبك وأمتك الأوفياء إلى الأبد.

يعلم الله أننا نفتقدك يا أبا عمار!!نعم نفتقدك أيها الأمين،يا من كنت صمام أمان للشعب والقضية.

كم نفتقدك!!

نوفمبر / تشرين الثاني 2007

كاتب فلسطيني مقيم في الدانمارك

المصدر