ماذا يُراد بنا؟ وإلى متى؟
بقلم: د. توفيق الواعي
تشترك الطبيعية البشرية في أشياءٍ تختلط بكيانها وتواكب مسيرتها؛ ولهذا فهي تعتز بها وترتاح إليها وتأنس بها، وتحافظ عليها وتحوطها بالجلال والكمال، فمثلاً:
1- لكل أمة مقدساتها التي تعتز بها وتحافظ عليها، وتجاهد في سبيل الدفاع عنها، ومن مقدساتنا العزيزة الغالية: "القدس"، والمسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموطن العز والفخار والنصر والعدل؛ التي فتحها الرجال الكرام بشرف وبطولة، وأقاموا فيها العدل، ونشروا فيها الأمان، وضربوا للإنسانية والتاريخ المثل في التعايش بين الأديان وحفظ الحقوق والأموال والدماء؛ حفظ التاريخ لهم ذلك بتواتره، ورواياته ووثائقه، ومن ذلك الوثيقة العُمَرية التي تظل مفخرة الزمان، ودُرَّة التاريخ، وآية الإسلام الساطعة على هديه وبره ووفائه، وقد جاء فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم..
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين، أهلَ إيلياء (القدس) من الأمان.. أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم؛ سقيمها وبريئها وسائر ملته، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدَم ولا يُنقَص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضارَّ أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيلياء أحد معهم من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا أمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحبَّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله؛ فإنه لا يُؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
كتبه وحضره سنة خمس عشرة هجرية.
وشهد على ذلك: خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان".
هذه عدالة الإسلام وعزته، ومفخرة المسلمين، ولكن ماذا صار وصرنا؟ وماذا دهانا وحلَّ بنا؟.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليُفجع لما آل إليه الأمر، وكذلك:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديارٍ من الإسلام خاليةٍ قد أقفرت ولها بالكفر عمران
تلك المصيبة أنست ما تقدمها وما لها مع طول الدهر نسيان
فأين المجد الذي ورثناه؟! وأين الديار التي حللنا بها؟! وأين العز والمجد والسؤدد؟!
ورثنا المجد عن آباء صدقٍ أسأنا في جوارهم الصنيعا
إذا المجد الرفيع توارثته بناة السوء أوشك أن يضيعا
إن واجب المسلمين اليوم هو الحفاظ على مقدساتهم وديارهم وتاريخهم من عبث العابثين وبغي الباغين؛ لأن في ذلك حفاظًا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وما نتيجة هذا التراخي والضياع والكسل إلا ما نرى؛ من هوان ومذلة، وسفك لدمائنا، وتفضيح لأعراضنا..
ويح العروبة كان الكون مسرحها أصبحت تتوارى في زواياه
كم صرَّفتنا يدٌ كنا نصرِّفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
ملكنا الشعوب بالإنصاف والعدل والرحمة، وملكونا بالجَوْر والقتل والتشريد، وأخْذِ لقمة العيش من أفواه الصغار والنساء والشيوخ، وتجريف الأرض، وقطع الأشجار، وإهلاك الحرث والنسل.
2- لكل أمة شرف وعِرض، تذود عنه، وتضحِّي في سبيله، وتمنع عنه السفهاء والمعتدين.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وتعيش الأمة بسلام وأمان وسعادة، إذا سلم لها هذا الشرف وامتنع، وسما لها هذا العرض وصِيْن، وتذلُّ وتهوى إلى الحضيض إذا ديست كرامتها وامتُهنت عزتها.
3- لكل أمة أرض تحتضن مرابعها، وتجمع شملها، وتحمل ذكرياتها، وترسم على محيَّاها آمال المستقبل، وتبني على صفحتها عزَّ الحاضر، ترتاح في أجوائها، وتأنس على دربها، وتحتضن تربتها وثراها؛ لأنه يحمل عبير الأجداد والأجيال وعبق الصبا والشباب؛ فإذا ضاعت أرضها واحتُلَّت مرابعها، فقد ضاعت ذكرياتها، وتبدَّدت آمالها، وفقدت عزتها، وتبخَّر مستقبلها، وانهدم حاضرها، وأصبحت لا تملك إلا أن تهيم على وجهها شريدةً طريدةً؛ في النجوع والكفور والدول والبلاد والأوطان، غريبةً طريدةً وإن ملكت كل شيء وحازت الأموال والمتاع.. فهل يراد لها ذلك؟!
4- ولكل أمة ثقافة وأفكار وتراث تربَّت عليه وتعلَّقت به مُهَجُها، وهفت إليه أفئدتُها، وكوَّنت عليه شخصيتها، تحمل نبض قلوبها، وخيال عقولها، وشذى تاريخها، وحديث القرون فيها، وتحدِّد هويتها ولونها وعطاءها، وتؤسس حضارتها، وتُظهر إسهاماتها في الحياة التي بها تعلو وترتفع، وعليها تُبنى وتُؤسس.
فإذا ضاعت هذه الثقافة في أجواء الحرب المُعلَنة على أمتنا في شتى الاتجاهات فأي شيء يبقى لها؟! وأية شخصية ننتمي إليها؟! وأية هوية نُعرف بها؟! وأي قلوب وأفكار وآمال نحملها بين جوانحنا ونبني بها أمتنا؟!
والشعب الفلسطيني، ومن ورائه أمتنا، يراد له ولها أن تنحلَّ عراها، وتذهب ريحها، وتُحتل ديارها، ويُنسى ذكرها، وتتشرَّد شعوبها، في حملةٍ صليبيةٍ حاقدةٍ جديدةٍ، ولكن أنَّى لهذا الشرِّ أن يبلغ من الأمة ما يخطط لها وما يدبّر ويريد؟! فالأمة اليوم يُوقظ بعضُها بعضًا، وينادي هاديها شاردَها و"الرائد لا يكذب أهله"! وسنة الله تعمل عملها، ووعد الله صادق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
واللهَ أسال أن يهدينا سواء السبيل؛ إنه نعم المولى ونعم النصير.. آمين.
المصدر
- مقال:ماذا يُراد بنا؟ وإلى متى؟إخوان أون لاين