مواقف تاريخية من بطولات الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

يعيش الإخوان في هذا الوقت محنة حقيقية لمست جميع أعضائها ومحبيها، وضحى الكثير بالنفس والمال والحرية من أجلها، حيث لم تقتصر المحنة على هذا الوقت فحسب، لكن منذ أن بدأت الدعوة تأتي ثمارها وسط المجتمع المصري والعربي وقد تعرضت للعديد من المحن من الاستعمار وأعوانه القابعين على سدة الحكم في محاولة لوقف انتشارها.

ولقد حفل القرآن الكريم بالكثير من آيات الابتلاء والاضطهاد، آمرا نبيه بالصبر واللجوء لله، واصفا جزاء الصابرين بالنصر في الدنيا ولو بعد حسين، وبالنعيم في فردوس الرحمن في الآخرة.

وهذه ما تجعل عبيد الدنيا لا يريدون لأبدانهم ضررا ولا محنة، ومن ثم وجدنا من علم حقيقة هذا الدنيا، وأحسن غايته وصفت نيته كان لابد له من بلاء يختبره ويمحص قلبه فيغفر لها ذنوبه.

فقاتل تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(العنكبوت2).

وقال الله تعالى: و{لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:155-157].

وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35].

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفرَّ الله بها من خطاياه. (رواه البخاري).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له. (رواه مسلم).

ويقول صلى الله عليه وسلم: إن عِظَم الجزاء من عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. (رواه الترمذي وابن ماجه).

ولقد ابتلى الرسول صلى الله عليه وسلم فشجت رأسه وكسرت رباعيته، وألقى عليه سلى الجزور، وسلط عليه سفهاء الطائف فما كان منه إلا أن رفع أكف الضراعة مناجيا ربه (اللهم أنى أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس).

وتعرض الصحابة والتابعين وكل من حمل المنهج الإسلامي الصحيح في كل زمان للمحن والابتلاءات.

لماذا رضى الإخوان بالبلاء؟

وهكذا فهم الإخوان فقه المحن والصبر عليها والمسارعة لرب الكون مناجين أن يرفع الكرب عنهم وعن أمتهم.

حيث ارتكزت عقيدتهم على مفهوم أن الرضا بالبلاء هو سلوك إيجابي يتبعه المسلم في مواجهة المصائب والمحن، وهو دليل على الإيمان بقضاء الله وقدره، وعلى التسليم لأمره والتوكل عليه. المسلم يرى في البلاء فرصة لرفع الدرجات وتكفير السيئات، كما أنه يرى فيه اختباراً لقوة إيمانه وصبره.

لقد تعددت المواقف التربوية التي عاشها الإخوان فترجمت التربية نماذج حية عاشت وماتت وهي مرابطة ومتمسكة بدينها نسوق بعض هذه المواقف لنجلى للقراء حقيقة التربية الإخوانية.

الصوابي الشهيد الصلب

حينما حدثت محنة عام 1954م هرب الأستاذ محمد الصوابي الديب وظل مطارداً فترة من الزمن، متخفياً عن الأنظار، يسكن المقابر، ويجاور الأموات، حتى هداه الله إلى الالتجاء إلى جوار رجل شهم كريم، وعالم أزهري كبير، فآواه في بيته، وأكرم نزله، وعامله معاملة الابن، فكان هذا العالم قمَّة في الوفاء والكرم والمروءة، لم نعهدها في الكثير من علماء السلطة، وأتباع الظالمين من المرتزقة وأدعياء العلم الذين يتاجرون بالدين في سبيل الدنيا، وينتصبون لحرب الدعاة طمعاً ورغباً من الحاكم الظالم الذي سخَّرهم أبواقاً تُسبِّح بحمده وتذكر مآثره وتبرر ظلمه وطغيانه وتفسِّر الدين على هواه!!

إن هذا المثل الرائع للعالم العامل في هذا الزمان هو فضيلة الشيخ الكبير مفتي الديار المصرية حسنين محمد مخلوف، لقد بقي الأخ الشهيد والزميل الصديق محمد الصوابي الديب متخفياً حتى شهر ديسمبر سنة 1954م، حين ذهب الساعة الثالثة ظهراً، وطرق باب منزل العلامة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية ـ الذي يقع في شارع نجيب باشا بكوبري القبة بالقاهرة.

وحين يفتح الخادم الباب يعود إلى الشيخ ليخبره عن الطارق فيقول: إنه شاب طليق اللحية، رث الثياب، ويريد مقابلتك.

يقول الشيخ مخلوف بنفسه: تعجبت من ذلك وظننت أنه عابر سبيل.. دخل الشاب المنزل، ولم أقابله في البداية، بل أعدَّ له الخادم طعام الغداء، فأكله بشهية وكأنه لم يأكل منذ مدة طويلة.. بعد الغداء ظننت أنه سينصرف، إلا أنه أصرَّ على مقابلتي وألحَّ في ذلك، فذهبتُ إليه وما إن رأيته حتى ظننتُ أنه سيطلب صدقة، فقد كان رثَّ الثياب تبدو عليه شدة التعب.

بدأ حديثه بأن عرَّفني على نفسه.. محمد الصوابي الديب طالب بكلية الشريعة بجامعة الأزهر.. ولقد اهتز بدني وأصبت برعشة عندما قال لي: "إنه كان من متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين والقناة"، ونظر الشاب إليَّ في هدوء، والحديث للشيخ مخلوف، وقال بصوت منخفض ولكنه قوي: "أنا في محنة وأحتاج إليك، فأنا مطلوب القبض عليَّ، وقد مكثت أكثر من شهر هارباً متخفياً في المقابر نهاراً، ثم أخرج في الليل لأقتات الطعام... لقد كرهت الحياة بين الأموات وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تقبلني؟".

يقول الشيخ حسنين مخلوف: سيطر الذهول على نفسي تماماً، ولم أفق إلا عندما قال الشاب: ما رأيك؟.. استأذنت منه وذهبتُ إلى أولادي.. الدكتور علي وابنتي زينب، والذهول مازال مسيطراً على نفسي... لاحظ أولادي ذلك على الفور فسألوني: "مالك يا أبي.. حصل إيه؟".

أخبرتهم بالقصة، وفجأة وجدت نفسي أردد قائلاً: إنه صادق... إنه صادق... إنه صادق.

قلت لأولادي: إنني متأكد أن هذا الشاب ليس من الشرطة أو المباحث، جاء ليختبرنا، بل إنني موقن أنه يقول الصدق فهو صادق... وأضفت: إنني لا أستطيع أن أرد مستجيراً في هذه المحنة، وأنا موقن أنه مظلوم، وقد قررت قبوله، ولكن الذي يقلقني هو ما ستفعله بكم أجهزة المباحث والدولة كلها إذا اكتشفوا وجوده بيننا، حيث هناك قانون أو فرمان جمهوري صدر في ذلك الوقت، يعاقب كل من يتستر على أي من الإخوان المطلوب القبض عليهم بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة، قال ابني علي ـ بعد فترة صمت ـ: افعل ما تراه من الناحية الإسلامية والله يتولانا جميعاً، ويضيف الشيخ حسنين مخلوف فيقول: خرجت مع ابني علي إلى الشهيد الصوابي، وعرَّفته بابني علي، وأخبرته بأننا قررنا قبوله عندنا، وأنه يشرفني ذلك.. ارتسمت أمارات الراحة والاطمئنان على وجه الشهيد.. ومازلت أذكر ابتسامته المضيئة على وجهه حتى الآن.

وسيطرت الدهشة على وجه الشهيد عندما قال له ابني الدكتور علي: "لابد من أن تولد من الآن بشخصية جديدة وتدفن شخصيتك الحالية"، ويضيف الدكتور علي مخلوف الذي يعمل رئيس قسم أمراض النساء والولادة بطب عين شمس: كان في اعتقادي أنه لا يمكن إخفاء الشهيد محمد الصوابي الديب، وبخاصة في منطقتنا التي كانت تشتهر بكثرة ضباط البوليس الذين يسكنونها، فكان الحل أنه لابد من أن يولد الشهيد الديب بشخصية جديدة تماماً.. وأن أحسن طريقة لإخفاء أي شخصية هو أن تظهره بشخصية جديدة، وتكون جميع تصرفاته طبيعية، أما الهروب والاختفاء عن أعين الشرطة والناس، فإنها طريقة فاشلة ينكشف أمرها دائماً، عاجلاً أو آجلاً.

واتفقنا على أن يعمل الشهيد سكرتيراً لوالدي الذي كان فعلاً في حاجة إلى سكرتير، فقد كان مفتياً للديار المصرية في ذلك الوقت، وكانت ترد إليه استفسارات دينية كثيرة، بالإضافة إلى أنه يكثر من تأليف الكتب، واحترنا في الاسم الذي نطلقه عليه، وأخيراً قال والدي للشهيد: أنت صادق في جميع تصرفاتك وأقوالك، فاسمك منذ الآن "صادق أفندي"، وضحكنا جميعاً.

ويقول الشيخ حسنين مخلوف: إن الخطة التي تم وضعها لإخفاء الشهيد نجحت تماماً، فقد أذعنا على كل أفراد الأسرة أنه جاء لي سكرتير جديد اسمه "صادق أفندي"، ولم يعرف بالسر سوى أربعة أشخاص: أنا وابني الدكتور علي وابنتي الدكتورة زينب، وزوجة ابني الدكتورة سعاد الهضيبي، التي لم تتردد في الترحيب بالشهيد رغم أن والدها المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي وجميع إخوتها في السجن.

عاش صادق أفندي لمدة ثمانية أشهر كاملة مع أفراد أسرة الشيخ حسنين مخلوف كأنه واحد منهم،وفي أحد أيام صيف 1955م قرر الصوابي السفر للسعودية وحاول الشيخ إثناءه دون جدوى وقبض عليه في الباخرة وعذب تعذيبا وحشيا ليخبر عن المكان الذي كان يختبئ فيه، وخشى الشيخ مخلوف على أهله، لكن الشهيد الصوابي رد بالإحسان إحسانا فلم يخبرهم تحت مات تحت التعذيب.

يقول العلامة الشيخ مخلوف: لم أكن أتوقع أبداً أن يتحمل الشهيد محمد الصوابي الديب هذا التعذيب الذي لا يصدقه عقل من أجلي، لم أكن أتوقع أن يضحي بحياته من أجلي، حقاً هذه هي تربية الإسلام الحق.

ويختم الشيخ حسنين محمد مخلوف حديثه عن الشهيد البطل قائلاً: إذا كانت تربية الشهيد من تربية الإخوان المسلمين، فأنا أضم صوتي بقوة إلى علماء الأزهر في المطالبة بعودة الإخوان المسلمين، فتربيتهم هي خير تربية.

محمد الصوابي الديب كان طالب في كلية الشريعة عام 1949م وشارك في حرب فلسطين عام 1948م، كما شارك في حرب القنال عام 1951م، وحينما حدث الصدام مع عبد الناصر كان الصوابي على رأس المطلوبين[١].

نساء أعظم من الرجال

لم يفرق نظام عبد الناصر بين الرجال والنساء في المحنة فالكل سواء تحت السياط، المهم لا يعكر أحد صفو الزعيم، أو يعطل مسيرة انطلاقه التي سعى وعمل من اجلها.

يقول فرج النجار عن والدته بعد أحداث 1954م: «في هذه الليلة لم تكتحل عيناي بالنوم، وما أن وصلت إلى البيت حتى أخبرت والدتي بحادث المنشية، وطلبت على وجه السرعة ملابس تناسب الاختفاء، والممكن من نقود البيت، وأسرعت والدتي وأحضرت كل ما يملكه البيت من نقود حتى التي كانت في جيب الوالد، كنت أجلس على كنبة المنزل إذ أخذتني سنة من النوم أيقظتني منها هزات حانية من والدتي وهي تهمس في أذني: "البوليس يحاصر البيت"، نظرت من ثقب الشباك فوجدتهم يحاصرون البيت وفي وضع الاستعداد لإطلاق النار قلت لوالدتي: "لا تفتحي الباب واشغليهم حتى أخرج من خلف المنزل"، كانت –رحمها الله- خبيرة بسفالة بعض رجال الأمن، وقد عالجت تفتيش بيتنا أكثر من خمسين مرة بشهامة وجرأة وذكاء، وعلى الفور سمعتها تقول -وأنا في طريقي إلى السلم-: يا قليل الأدب انتظر حتى يرتدي الحريم الملابس، موجهة الكلام إلى من يطرق الباب بشدة وإلحاح، وأنا على السلم رأيتها تجري من خلفي وهي تخلع قرطها الذهبي من أذنيها وتعطيني إياه دون أن تتكلم وفي تفاهم كامل أخذته منها ثم رجعت على الفور إلى الباب، وصعدت بقية السلم، شاهدت مفتش المباحث "أنور صبرة" والرائد "مصطفى عبد الرازق" ومعهم آخرون يقطعون حبال المواشي من "الزريبة" ويطلقون سيقانها للريح في الشوارع، ويبعثرون الدقيق والسمن والجبنة، ويحطمون كل شيء في البيت، وعندما هموا بالخروج من البيت قالت لهم الوالدة: سيعود إلى البيت الدقيق والسمن والجبن اليوم، وأهالي القرية الطيبون سيجمعون المواشي، أما ولدي فلن تصلوا إليه»[٢].

لماذا تحمل ابراهيم الطيب البلاء؟

أدرك كل فرد في الإخوان أنه ما سار في هذا الطريق من أجل مغنم أو مغرم يحققه في الدنيا لكنه كان يدرك أنه طريقها وعر، وحمل رسالتها عناء، وتضحياتها كبيرة، لكنهم رضوا لأجل نيل رضوان الله سبحانه، فوطنوا أنفسهم على ذلك، فسمت روحهم حتى تقبلوا الموت بنفوس راضية، ومهدوا الأرض بالتربية الصالحة لمن جاء بعدهم ليستكمل مسيرة هذه الدعوة...وكان من هؤلاء الشهيد إبراهيم الطيب والذي قبض عليه عام 1954م بعد حادثة المنشية وحكم عليه جمال سالم بالإعدام شنقًا بتهمة إحداث فتنة لقلب نظام الحكم ووضع خطط لاغتيالات..

فكانت آخر كلمات قالها: "أحكام أصدرها قضاة من مخالفينا، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا".

زاره أهله قبل التنفيذ وجرى حديث بينهم وبينه، كان فيه الواثق المطمئن الصابر المحتسب، ومن هذا الحوار:

قالوا: ماذا فعلوا بك يا إبراهيم؟

قال: عذبونا عذابًا لم يذقه بشر.

قالوا: وما كان شأنه فيك؟

قال: وما كان شأنه في أبي الأنبياء إذ ألقي به في النار، وحتى الحسين إذ قتل في معركة غير متكافئة دارت طوال النهار وهو عطشان ظمآن.

قالوا: لقد قالت الصحف التي أردت لها الحرية الكثير؟

قال: لا غرابة في ذلك، فقد سمعنا عمن قال في مسجد الكوفة بعد مقتل الحسين: الحمد لله فقد قتل الكافر ابن الكافر.

قالوا: وما ترى الآن؟

قال: كانت الشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا، وهذه هي قد نلناها، فلا تحزنوا فإنا مسرورون.. ولسوف يريكم الله آياته.

يقول واحد ممن شاهدوا أحداث 7 ديسمبر سنة 1954: في الثامنة من صباح 7 ديسمبر سنة 1954 وفي ميدان باب الخلق وقف الناس.. وكأن على رؤوسهم الطير.. قلوبهم حزينة.. أفئدتهم مكلومة.. نفوسهم هلعة.. المصفَّحات من حولهم.. قوى الظلم تحيط بالمكان.. السماء ملبَّدة بالغيوم وكأنها حجابًا بين الصفاء والنقاء في الأعالي.. والظلم والظلام على الأرض.. وانهمرت قطرات فكانت كأنها مشاركة السماء للثكالى والمحزونين، وكأنها العبرات على الشهداء المجاهدين.. ثم ضنَّت بدموعها لتستعد لفرحة اللقاء.. لقائها بشهداء القرن الرابع عشر الإسلامي..

وفي ساحة سجن مصر.. تسلم الناس جثث أبنائهم الشهداء.. طاهرة نقية ريحها المسك وشعاعها النور.. وسط استعراض من صفحات الأمن المركزي، وكأنها معركة على أرض فلسطين، وكانت آخر كلمات إبراهيم الطيب على حبل المشنقة.. وهو ثابت مستسلم لله في هدوء وطمأنينة.. وهو يضع أول قدم على عتبة الآخرة وسلم السماء "أحكام أصدرها قضاة من مخالفينا.. فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.. ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئًا".

وكانت آخر كلمات الوداع من أمه المؤمنة المحتسبة.. دعوات زلزلت الأرض.. وهزَّت جنبات السماء, وضجَّت الملائكة لها.. واهتزَّت قوائم العرش استجابةً لها: "إلهي، عليك بالظالم فاقصمه، وخذه فلا تفلته".

من الشعر إلى الشهادة

لقد تفاعلت التربية في قلوب ونفوس الإخوان المسلمين أفرزت أجيال أحيت قلوبها بنور الله وجادت بنفسها في سبيل دين الله ولم تعط الدنية في دينها أبدا وظلوا كذلك حتى ماتوا، ومن هؤلاء الشهيد الشاعر محمد عواد، يقول الأستاذ عباس السيسي :

" أعظم من ذلك ما يحكي عن محمد عواد من زملائه، ظهر منه الثبات والمصابرة وقوة الإرادة، وما كان البطل يزيد على قوله وهو يُعذب: يا مقلب القلوب ثبت قلبي .. أعنِّي .. لا تفتني.

وما أن سمعه كبير الجلادين حتى ركله بقدمه، وأخذ سوطاً وأهوى به عليه، وانهال عليه ضرباً، وبعد أن أعياه التعذيب أمره الجلاد أن ينهض، فحاول ولكن لم يَقْو... خانته قواه، وحاول مراراً فلم يستطع.

ونادى الجلاد زبانيته وأمرهم أن يوثقوه بالحبال، ثم سأله: تكلم. اعترف.

قال: بم أتكلم؟ وعلى أي شيء أعترف؟ أنا لا أعرف شيئاً ..) وظل هكذا إلى أن تأكد الذئاب أنهم لن يستطيعوا أن ينتزعوا منه كلمة واحدة فصدرت أوامر صفوت الروبى بإغراقه فى الفسقية التى كانت موجودة فى صحن السجن الحربى.. وأنزل عواد إلى الفسقية ونزل وراءه جندي يقال له: ((خرشوف)) فركب على أكتافه وأمسك برأسه وراح يغطسه فى الماء حتى إذا ما رأى أنه قد أشرف على الهلاك أخرج رأسه وانهال عليه باللكمات والصفعات وهكذا دواليك! فلما أعيتهم الحيل معه نزل صفوت الروبى بنفسه إلى الفسقية وأمسك برأس عواد ورواح يضرب به جدار الفسقية حتى هشمه تماماً، عندئذ أمر ((الجلاد بإخراجه)) من الفسقية فاكتشف الجميع أنه قد مات، وفاضت روحه[٣].

نساء بألف رجل

إن معدن الزوجة الصالحة يظهر وقت الأزمات ومن هذه النماذج زوجة الأستاذ أحمد البس، ففي الفترة التي اعتقل فيها زوجها ومكث بالسجن عامًا ونصف عام من 5 فبراير 1949م، الموافق 20 شعبان 1369ه حتى 6 يونيو 1950م إلا وكانت نعم الزوجة الصابرة المحتسبة حيث قامت على تربية أطفالها فأحسنت تنشئتهم وكانت طوال فترة اعتقاله نعم الزوجة العفيفة التى -رغم ضيق ذات اليد- لم تطلب المساعدة من أحد وتمثلت بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273]، وبعد أن خرج زوجها وجدها صابرة راضية بقضاء الله وقدره والأولاد فى أحسن حال لكنه لم يمكث كثيرا حتى اعتقل ثانية يوم الأربعاء 13 يناير 1954م مع فئة قليلة من إخوانه كان على رأسهم المستشار الهضيبى المرشد العام للإخوان وظلوا داخل المعتقل حتى أفرج عنهم يوم 26 مارس 1954م لكن ما كاد يخرج حتى استشعر بأن الحكومة وعبد الناصر يخططان لتوجيه ضربة قوية ضد الإخوان فأخبر زوجته بأحاسيسه وقرر على إثر ذلك المبيت خارج البيت كل يوم فلم تجزع لذلك وكانت متمثلة بقول رسول الله: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" (حديث متفق عليه عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما)، وصدقت مشاعره فوجه عبد الناصر ضربته للإخوان بعد حادثة المنشية وعلى إثرها اختفى الأستاذ البس حتى اعتقل بعد عشرة أشهر ولم يعد لبيته منذ خروجه حتى 14 يناير 1973م الموافق 10 ذو الحجة 1393ه- أى ما يقرب من ثمانية عشرة عامًا- لكنها استطاعت فى خلال هذه الفترة أن تتولى رعاية أولادها.

لكن كيف عاشت الزوجة وأولادها هذه الفترة؟

وكيف ربت أبناءها؟

وكيف كانت تتحصل على المال فى ظل التضييق الذي فرضه عبد الناصر على بيوت الإخوان؟

يجيب الأستاذ البس على ذلك بقوله: "لما دخلت السجن عام 1954 أيام عبد الناصر وحكم على بالسجن عشرون عاما. فصلت من عملي كمدرس ولم يبق لأسرتي مصدر للدخل من راتبي الذي قطع عنهم وبعد مدة طويلة من السجن سمح لأهالينا بزيارتنا في السجن وجاءت زوجتي ومعها أبنائي وبناتي مظهرهم طيب وملابسهم قيمة فبعد أن سلمت على زوجتي (رحمها الله) وقبلت يدي سألتها عن مصدر الأموال التي تعيشون بها قالت وبغير تردد: فضلت خيرك يا حاج نبيع الأرض ونصرف على البيت فشجعتها على ذلك وقلت لها بيعي كما تريدي المهم أن تعيشي أنت والأولاد مبسوطين (وكنت أظن ساعتها أنها تبيع من الأرض التي ورثتها أنا عن أبى) وظللت كل زيارة أسالها عن الفلوس هل تكفيكم وهى في كل مرة تقول: الحمد لله فضلت خيرك يا حاج، ثم يستطرد قائلا في أوائل السبعينيات: وخرجت من السجن دون أن تعلم أسرتي بساعة خروجي، وسافرت من القاهرة إلى طنطا حيث توجهت إلي منزلي. فوجئت بي زوجتي فطارت فرحا وقبلت يدي كما تعودت، وبعد سلامي على أولادي. طلبت مني أن أدخل إلي حجرة النوم لأستريح بعض الوقت الذي ستقوم خلاله هي بإعداد طعام لي وعندما دخلت حجرة نومي وجدت حصيرًا وغطاء على أرض الغرفة، سألتها وأنا في غاية الدهشة أين سريرك النحاس يا حجة؟ أين السراحة؟ أين الكمودينو؟ فنظرت إلي بابتسامة وكأنها تواسيني وتقول: كله يرجع في عزك يا حاج، وإذا بي أراها تضع طبلية خشب على الأرض عليها أطباق بلاستيك كل طبق من لون مختلف سألتها أين حجرة السفرة وأطباق الصيني بتاعتك يا حاجة؟ قالت: كله سيرجع في عزك يا حاج، وعندما ألححت عليها أن تقص لي ما حدث حدثتني أن أهلي لم يوافقوا على بيع أرضي للإنفاق على أسرتي (لأنه في الريف من العيب أن يبيع الرجل أرضه فيعيره أهل البلد بذلك)، فقامت هي ببيع أرضها التي ورثتها عن والدها وقامت بإنفاقها على البيت والأولاد، وبعد أن باعت أرضها كلها بدأت ببيع أثاث البيت حتى وصل الحال إلى ما رأيت، ووالله ما عانيت يوما ولا امتَّنت على يوما بما فعلت وذلك أثناء غيابي في السجن، وقمت بحمد الله بعد خروجي بشراء أثاث للبيت وشراء الذهب الذي كانت تقتنيه وباعته من أجل بيتي وأولادي".

ولكن كل ذلك لم يعلم به أحد ولم يصل إلى ذل النفس ومد اليد، كل هذا الخير صنعتها هذه الزوجة الكريمة رغم تقصير كثير ممن كان يمكن أن يساعدوا من غير أن يجرحوا كرامتنا؛ لأنهم أهلنا ولكن الله أراد محنتي مصحوبة بالعزة والكرامة ولا يكون لأحد فضل إلا الله جل وعلا[٤]

النماذج التي ضربها الإخوان ونسائهم وقت المحن كثيرة وهي ترجمة حقيقية للتربية التي اعتنت بها الجماعة منذ نشأتها فآتت ثمارها وقت تعرض الدعوة للاضطهاد والابتلاء.

المصادر :

  1. عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1422 هـ / 2001م
  2. حوار فرج النجار مع موقع إخوان أون لاين.
  3. عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، الجزء الرابع، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000م.
  4. أحمد البس: الإخوان المسلمون في ريف مصر، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1987م.