البعد الصوفي لدي الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
البعد الصوفي لدي الإخوان المسلمين

إعداد: ويكيبيديا الإخوان المسلمين

بقلم: محمد الصياد


تمهيد

إن التصوف كعلم وكمنهج سلوكي وقيمي وتربوي يمثل هوية الأمة الإسلامية وتراثها الثقافي والأخلاقي .

فلكل أمة عبق تاريخي يمتد لمئات القرون ، وتفخر الأمم بماضيها الثقافي والحضاري ، بل والأخلاقي كذلك . ولا توجد أمة من الأمم تملك تاريخ ثقافي وأدبي وحضاري ممزوج بالجانب الخلقي والعملي كالأمة الإسلامية .

فحضارة الإسلام حضارة أخلاقية ، وذلك بالمفهوم الأخلاقي الشامل الذي جاء به الإسلام ، وبالغاية الأخلاقية التي يهدف إلي تحقيقها . وقد أجمل النبي صلي الله عليه وسلم بعثته كلها في الدعوة إلي نشر القيم الأخلاقية والمبادئ الفاضلة في جميع مظاهر السلوك الإنساني ، فقال : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، ووصفه ربه عز وجل بقوله (وإنك لعلي خلق عظيم) ، ولما سئلت السيدة عائشة عن خلقه قالت : "كان خلقه القرآن" .

وللأخلاق الفاضلة أهمية بالغة في حياة الفرد والمجتمع والأمة ، لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان ، وما يصدر عنه . بل إن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معان وصفات كما جاء في الحديث : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . وما أصدق كلمة ذكرها الغزالي في كتاب "الإحياء" إذ يقول : "وإن كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها علي الجوارح ، حتى لا تتحرك إلا علي وفقها لا محالة".

فأفعال الإنسان إذن موصولة دائما بما في نفسه من معان وصفات ، صلة الشجرة بأصولها . ومعني ذلك أن صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه ، لأن الفرع بأصله ، إذا صلح الأصل صلح الفرع ، وإذا فسد الأصل فسد الفرع (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) ، ولهذا كان النهج السديد في إصلاح المجتمع وتقويم سلوكه وتيسير سبل الحياة الطيبة لأفراده أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها ، وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها . ولهذا أكد الإسلام علي صلاح النفوس ، وبين أن تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء ، ويسر وعسر ، ورخاء وضيق ، وطمأنينة وقلق ، وعز وذل ، كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من معان وصفات ، لقوله تعالي ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (0) .

والإخوان المسلمون استلهموا هذا المنحني في تاريخ البشرية وفلسفة الحضارات ، وعرفوا أن الحضارة لا تشتد وتقوي جذورها إلا إذا امتزجت بأخلاق قويمة ، وعلموا كذلك أن الأمة الإسلامية في مجدها وأوج حضارتها امتازت بالأخلاق العامة ، والسلوك الشامل .

فالغاية لا تبرر الوسيلة في نظر الإسلام ، ويجب أن تكون الغاية أخلاقية وأن تكون الوسيلة كذلك .

ولذلك فعندما جاء حسن البنا ، وجد الفقهاء في جانب لا يهتمون إلا بالفقه والمسائل الفقهية الثانوية والفرعية ، ووجد المتكلمين لا يعنون إلا بالجانب الكلامي فحسب والذب عن العقيدة ضد التيارات الفلسفية الأخري ، ووجد المتصوفة في أديرتهم ومحاريبهم يجاهدون النفس ويزكونها ، ويشتدون عليها ، كلٌ في ميدانه ، لا صلة لفريق منهم بالآخر . فعمل حسن البنا أن يمتزج الجميع ويخدم الفكرة الكبرى والمشروع الأسمى ، مشروع النهضة الإسلامية . وأيقن البنا أن حضارة الإسلام لن تقوم لها قائمة إلا بأساس أخلاقي متين ولذلك تجده قد أولي الجانب السلوكي العملي ، عناية فائقة واهتم بتربية أتباعه ومريديه ، تربية صوفية سلوكية خالصة من الشوائب والشطحات كما سنري في هذه النظرة السريعة .


التصوف .. تراث أمة وسلوك سلف

التصوف علم من العلوم الشرعية كعلم الفقه والتفسير والعقيدة وما أشبه .

والتصوف كما يقول أبو الوفا التفتازاني فلسفة حياة تهدف إلي الترقي بالنفس أخلاقيا وتتحقق بواسطة رياضيات عملية معينة تؤدي إلي الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى ، والعرفان بها ذوقا لا عقلا ، وثمرتها السعادة الروحية ، ويصعب التعبير عن حقائقها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع وذاتية .. "مدخل إلي التصوف الإسلامي لأبي الوفا التفتازاني ص8 ، ط/ دار الثقافة" .

قلت : والتصوف عندي هو الأخلاق الدمثة المتألقة التي تكتنف قلب الإنسان وتجعله خاضعا لربه ، ويتجلي أثرها علي أفعاله وأقواله وعلاقته بمن حوله .

ذلك أننا إذا نظرنا إلي القرآن الكريم فسنجده قد جاءنا بأنواع مختلفة من الأحكام الشرعية ، وهي تندرج بوجه عام تحت ثلاثة أقسام رئيسية : العقائد والفروع –الفقه- والأخلاق ، فلنوضح ما ينطوي عليه كل قسم منها (1):

أما العقائد فتشمل الإيمان بوجود الله الصانع القادر المختار ووحدانيته وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .

وأما الأحكام الشرعية الفرعية التي يتضمنها القرآن الكريم فتشمل أحكام العبادات والكفارات والنذور والمعاملات المالية ، وأحام الأسرة وأحكام الجرائم والعقوبات المقررة عليها ، وأحكام الدولة وما إلي ذلك مما هو متضمن في كتب الفقه بالتفصيل .

بقيت بعد ذلك ناحية الأخلاق في القرآن فقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث علي مكارم الأخلاق ، كالزهد والصبر والتوكل والرضا والمحبة واليقين والورع وما إليها ، مما يندب إليه كل مسلم ليكمل إيمانه .

وقد بين لنا القرآن الكريم أن الرسول صلي الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لمن يريد التكمل بهذه الفضائل في أرقي صورها .

والحقيقة أن أخلاق الإسلام هي أساس الشريعة بحيث إذا افتقرت أحكام الشريعة ، سواء في ذلك الأحكام الاعتقادية أو الأحكام الفقهية ، إلي الأساس الخلقي كانت صورة لا روح فيها ، أو هيكلا فارغا من المضمون .

إن التدين ليس مجرد التمسك بشكليات الدين دون جوهره ، أو ادعاء الدين لتحقيق مآرب ذاتية ، وإنما التدين هو الفهم الواعي للدين والعمل به بما يربط حياة التعبد بحياة المجتمع ، فلا ينعزل الدين ويتقوقع أصحابه بعيدا عن حقائق الحياة .

إن من أهم ما ينبغي أن يفهم عليه الدين أنه في جوهره أخلاق بين العبد وربه وبينه وبين نفسه ، وبينه وبين أسرته ، ثم بينه وبين أفراد مجتمعه .


ولكي يتبين ذلك في وضوح وجلاء أن أحكام الشريعة كلها مردودة إلي أساس أخلاقي ننظر في أحكام الإيمان أولا :

أن الإيمان بالله تعالي وبوحدانيته تنافيه أخلاق الحرص والجزع والخوف وعبادة المال واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، وينافيه أيضا الاستناد إلي الخالق دون المخلوق ، وقهر اليتيم أو الضعيف ، وقساوة القلب وغلظته، وانعدام الأمانة ، وما لم يطرح الإنسان من نفسه هذه الأخلاق المذمومة لا يكون إيمانا كاملا صحيحا .

ولعلك تدرك هنا عمق المعني في أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم مثل قوله "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ، "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا" ، "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق" ، "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" .

ومن الملاحظ بعد هذا أيضا أن جميع عبادات الإسلام ومعاملاته ما لم تقم علي أساس أخلاقي لا يكون لها قيمة أو فائدة ، ولا تكون مقبولة عند الله .

ويجب أن ننتبه إلي أن الإسلام حين يدعو إلي جهاد النفس حريص كل الحرص علي تكوين المواطن الصالح من أجل المجتمع الصالح ، لأنه إذا صلح الفرد صلح المجتمع ، وإذا فسد الفرد فسد المجتمع .


حسن البنا والتصوف

الإمام حسن البنا

كان حسن البنا رحمه الله يقف بتصوفه عند حد الغاية الأخلاقية وهي تهذيب النفس وضبط الإرادة وإلزام الإنسان بالأخلاق ، وهذا التصوف يتميز بأنه تربوي ،وتغلب عليه الصبغة العملية .. (2) .

ونشأ الشيخ حسن البنا صوفيا عابدا زاهدا ورعا ، وتربي في حجورهم ، ونال من نفائس بركاتهم .

قال رحمه الله : وصحبت الإخوان الحصافية بدمنهور وواظبت علي الحضرة في المسجد كل ليلة (3) .

وقال رحمه الله : ونظام الدعوة فى هذا الطور صوفى بحت من الناحية الروحية وعسكرى بحت من الناحية العلمية .. (4) .

وقال رحمه الله : و تستطيع القول ولا حرج عليك أن الإخوان المسلمين : دعوة سلفية , طريقة سنية , حقيقة صوفية .. (5) .

وقال رضي الله عنه : وظللت معلق القلب بالشيخ حسنين الحصافي رحمه الله حتى التحقت بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور مدفن الشيخ وضريحه وقواعد مسجده الذى لم يكن تم حينذاك و تم بعد ذلك , و كنت مواظبا على الحضرة فى مسجد التوبة فى كل ليلة , وسألت عن مقدم الإخوان فعرفت أنه الرجل الصالح الشيخ بسيونى العبد التاجر , فرجوته أن يأذن لي بأخذ العهد عليه ففعل ووعدني بأنه سيقدمني للسيد عبد الوهاب عند حضوره , ولم أكن إلى هذا الوقت قد بايعت أحدا فى الطريق بيعة رسمية وإنما كنت محبا وفق إصطلاحهم .

وحضر السيد عبد الوهاب - نفع الله به - إلى دمنهور و أخطرني الإخوان بذلك فكنت شديد الفرح لهذا النبأ , وذهبت إلى الوالد الشيخ بسيونى و رجوته أن يقدمني للشيخ ففعل . وكان ذلك عقب صلاة العصر من يوم4 رمضان سنة 1342 هـ , وإذا لم تخني الذاكرة . فقد كان يوافق الأحد حيث تلقيت الحصافية الشاذلية عنده وأذننى بأورادها ووظائفها (6) .

وقال : وكنا فى كثير من أيام الجمع التى يتصادف أن نقضيها فى دمنهور فكنا أحياننا نزور دسوق فنمشى على أقدامنا بعد صلاة الصبح مباشرة , حيث نصل حوالى الثامنة صباحا , فنقطع المسافة فى ثلاث ساعات و هى نحو عشرين كيلو مترا , ونزور ونصلى الجمعة , و نستريح بعد الغذاء , ونصلى العصر , ونعود أدراجنا إلى دمنهور حيث نصلها بعد المغرب تقريبا.

وكنا نزور عزبة النوام حيث دفن فى مقبرتها الشيخ سيد سنجر من خواص رجال الطريقة الحصافية و المعرفين بصلاحهم وتقواهم , ونقضى هناك يوما كاملا ثم نعود (7) .

وقال : وأذكر أنه كان من عاداتنا أن نخرج فى ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بالموكب ونحن ننشد القصائد المعتادة فى سرور كامل و فرح تام (8) .

ويقول : و أذكر أنه كان من عادتنا أن نخرج فى ذكر المولد الرسول صلى الله عليه وسلم بالموكب بعد الحضرة , كل ليلة من أول ربيع الأول إلى الثانى عشر منه من منزل أحد الإخوان (9) .

وهنا وقفة مع تصوف الإمام البنا ، فقد يظن البعض أنّ التصوف ممقوت وأن جماعة الإخوان جانبها الصواب حينما اتخذت التصوف سبيلا لتنقية القلوب من الشوائب والدخن . ونقول بأن التصوف علم كبقية العلوم له قواعده ومناهجه وأسسه التي يقوم عليها وأركانه التي يستند إليها ، مثل علم الفقه والأصول وما أشبه . فهل إذا أساء الفقيه استخدام القواعد في الفتوى يكون العيب في الفقه أم في المستنبط ، كذلك التصوف براء من متبع لا يفهم ومن مريد لا يذعن .

لكننا نريد أن نلفت الأنظار إلي شيء مهم جدا ، وهو أن حسن البنا ، إنما اهتم بالجانب الأخلاقي السلوكي ، وجعل التصوف سبيلا لذلك لأنه بحُنكته ارتأى أن الأمة لن تقيم حضارة تمتاز عن غيرها من الحضارات المادية والفلسفات الوضعية إلا إذا كانت ممزوجة بالأخلاق الإسلامية أو ما يسمي بعلم التصوف ، بمعني تربية النفس علي المكارم ، فالتصوف ثقافة أمة في معاملاتها الداخلية بين أفرادها ، وكذلك في علاقاتها الدولية والإقليمية المتشعبة . والقرآن حين قال :"ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" ، فهذه قمة الأخلاق حتى في أشد المواطن .. موطن المعركة ، والحرب المفتوحة ، ولك أن تتأمل في عمق هذا المعني إذا رددت البصر علي حضارات اليوم التي شيدت علي أساس فلسلفات أخلاقية متينة ربما ، إلا أنك تجدهم في ميدان الحروب يستحلون كل شيء مما كان محظورا في السابق .


الإخوان والتصوف .. والمرجعية السلفية

ولا يفوتنا هنا أن نذكر المرجعية السلفية للإخوان في تصوفهم ، بمعني أن التصوف كعلم وكمنهج سلوكي وقيمي اتبعه السلف وليس بدعا للإخوان المسلمين ، فتجد في كتب التراجم لكبار العلماء بأن فلانا شافعي المذهب حنبلي العقيدة شاذلي الطريقة مثلا .

فمثلا تجد الذهبي رحمه الله يقول في سير أعلام النبلاء في ترجمة العلامة أبي الوقت السجزى : هو الشيخ الإمام الزاهد الخير الصوفي شيخ الإسلام .. حدث عنه ابن عساكر والسمعانى وابن الجوزى ..

وقال ابن الجوزى تلميذه : كان أبو الوقت صبورا علي القراءة وكان صالحا كثير الذكر والتهجد والبكاء علي سمت السلف ، وعزم عام موته علي الحج وهيأ ما يحتاج إليه فمات (10) .

فالتصوف لديهم كان سلوكا يعلَّم ويُطبق . وكانوا يجتهدون في الدربة والمراس علي التحلي بفضائل الأقوال والأفعال كما يتربوا علي حفظ المتون والحواشي .

واهتم علماء الأمة وسلفها في الصدر الأول علي تنقية القلوب من الدنس ، والأخلاق من الخبث –وهذا علم في ذاته- بغض الطرف عن المسميات فلا مشاحة في الاصطلاح.

قال ابن كثير رحمه الله في تاريخه:

كان مكلبة بن عبد الله المستنجدي تركيا عابدا زاهدا سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد علي المنارة :

يا رجال الليل جدوا
رب صوت لا يرد

ما يقـوم الليل إلا

من له عزم وجـد

فبكي مكلبة وصرخ

صرخة كان فيها حتفه (11)

وقال ابن كثير: ابن سكينة الصوفى ، كان من الأبدال وهو من المحدثين الكبار ومن تلامذة ابن الجوزي (12) .

وتجد العلامة المحدث الكبير راوي صحيح مسلم : أبو عبد الله الفراوي الصوفي ، قد ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة كلها إجلال وثناء في شرحه علي مسلم (13) .

وكذلك فعل ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" : بل إن العلامة المحدث السلفي الكبير : المعلمي اليماني أثني علي الفراوى في مقدمة كتاب الأنساب لأبي سعيد السمعاني.

فها أنت تجد أن سلفنا الصالح ما هاجم إلا التصوف الفلسفي والبدعى ، أما التصوف السني فهو شعار أمة ، وهوية دولة إسلامية عريقة صدت الصليبيين والتتار والمغول .

أمن السائغ أن ننسي أن صلاح الدين الأيوبي كان صوفيا عابدا تقيا ورعا ، وقرب إليه مشايخ الصوفية وأدناهم من عطاياه .

بل إن الصوفية أنفسهم تنكروا لأولئك المبتدعة الذين ولجوا تحت مظلة التصوف ، وكان شيخ مشايخنا محمد زكي الدين إبراهيم رائد العشيرة المحمدية يقول بأن التصوف براء من طبال وزمار ، كما حدثني شيخنا العلامة المحدث أسامة السيد الأزهري .

وقديما تبرأ أبو حامد الغزالي المتوفي 505 هجري ، للتصوف من شطحات الشاطحين ، فيقول : "وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية ، احدهما الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلي دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس ويستشهدون بقوله "أنا الحق" . ثم يقول الغزالي : فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وهذا في العوام ضرره حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة (14) .

فالتصوف إذن ليس وليد اللحظة ، وليس محل ابتداع من عصابات الدراويش ، بل إن التصوف علم الأخلاق ، وهو قائم بذاته كعلم الفقه والحديث ، ولا يشينه شيئا أن يدعيه من لا يعرفه ومن لا يحسن الركوع والسجود .

فالإمام البنا حينما وصف دعوته بالصوفيه أراد أن يربطها بالسلف من هذا الجانب .


إيماءات الإخوان حول التصوف

يقول حسن البنا رحمه الله :

الأصل الخامس عشر : والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه فرعي فى كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة (*) .

وقال التلمسانى : قال البعض : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم إذا جاءوه حيا فقط ولم أتبين سبب التقييد فى الآية عند الاستغفار بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وليس فى الآية ما يدل على هذا التقييد (**) .

وقال رحمه الله : ولئن كان هواى مع أولياء الله وحبهم والتعلق بهم ولئن كان شعوري الغامر بالأنس و البهجة فى زياراتهم و مقامتهم بما لا يخل بعقيدة التوحيد فإنى لا أروج لا تجاه بالذات فالأمر كله من أوله إلى آخره أمر تذوق و اقول للمتشددين فى الإنكار هونا فما فى الامر من شرك ولا وثنية و لا إلحاد (***) .


الإخوان وذكري النبي صلي الله عليه وسلم

يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه "في قافلة الإخوان المسلمين" : دعا الإخوان المسلمون بالإسكندرية إلى الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم فبحفل يحضره فضيلة المرشد العام بسجد النبى دانيال .... وبدأ الأستاذ المرشد حسن البنا محاضرته , ثم دخل فى موضوع الذكرى فقال : نحيي ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم , ومن حق الناس جميعا مسلمين و غير مسلمين أن يحتفلوا بهذة الذكرى المباركة فرسولنا صلى الله عليه وسلم لم يأت للمسلمين فقط .

ويقول أيضا : بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الإخوان المسلمون سرادقا ضخما أمام محطة السكة الحديد على شمال الخارج منها .... وقد دعى إلى هذا الحفل فضيلة المرشد العام حسن الهضيبي ؛ انتهي


الإخوان: التصوف سبيل لصفاء الروح

والإخوان المسلمون حينما اتخذوا التصوف منهجا أخلاقيا ، لم يتخذوه كأوراد ، وتراتيل وأنغام ، ولم يتخذوه كطريق وسند صوفي للأبدال والأقطاب ، إنما جعلوا منه منهجا ومرجعية للتربية والأخلاق ، التي لا تقوم دعوة إلا عليهما .

والتصوف من هذا الجانب لب الإسلام ، ومحور الشريعة . ألا تري أن الإسلام لا ينبغي أن نختزله في عبادة من العبادات ، لكن إن جوزنا جدلا باختزال الإسلام ففي الأخلاق "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، لأن الخلق القويم يجب أن يكون من ورائه عقيدة صلبة صحيحة ، وفرائض محكمة متينة ؛ هذه لمحة .

لك أن تعرف كذلك أن الإسلام أمرنا بالتريث الخلقي في أدق المواطن وأصعب الظروف "ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا" ، والمجاهد في ميدان القتال أُمر أن لا يقتل شيخا ولا امرأة ولا طفلا وألا يقطع شجرة ،..!! ؛ هذه لمحة أخري .

إذا أمعنت النظر فيما سبق علمت أن حضارة الإسلام حضارة رائقة متأنقة متألقة ، حضارة لا تقوم علي المادية أو المثالية ..

إنها حضارة تأبي أن ترتفع أركانها ، وتشيد أعمدتها إلا إذا كانت الأخلاق قوامها ..

ولذلك فيجب أن نفهم تلك الأبعاد وهذه الخلفيات التي اكتنفت ذهن الإمام حسن البنا حينما تكلم عن التصوف ، وكيف أنه كان يري بذهنه الثاقب أن التصوف السني سوف يكون لا محالة محورا للرقي بحضارة الأمة ومن ثم لأستاذية العالم ، كما كان من قبل حينما اتخذه صلاح الدين والعز بن عبد السلام -وغيرهما الكثير- منهجا للدولة ، في علاقتها مع رعيتها ، أفرادها وجنودها ، وفي علاقاتها الدولية المتشعبة عندما كرر صلاح الدين فعلا وقولا مقولة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" للصليبيين .

يقول الشيخ الغزالي رحمه الله : إن أولي النهي أجمعوا علي أن الحضارة الحديثة تربط الإنسان بالأرض وتقطعه عن السماء ، وتعلق قلبه بمآرب الدنيا ، وتذهله عن مطالب الآخرة ، وتعمل علي سوق البشر بعيدا عن الله ..

أي أنها تسير في اتجاه معاكس للدين كله وربما أعانها علي إدراك بعض النجاح فشل المتدينين في تقديم المنهج الإلهي مشبعا للعقل والقلب كافلا للدنيا والآخرة ، ملبيا لحاجات الروح والجسد ، والعاجلة والآجلة .. ونحن المسلمين أغني الناس بمواد البناء في هذا المجال ، وفي تراثنا ما يكفي ويشفي إذا أحسنا الإدراك والإفادة ..

ليس الدين أحكاما جافة وأوامر ميتة ، إنه قلب يتحرك بالشوق والرغبة ، يحمل صاحبه علي المسارعة إلي طاعة الله وهو يقول "وعجلت إليك ربي لترضي" .

فكيف تتحول التكاليف الصعبة إلي شيء سائغ حلو ..؟

ليس الدين ابتعادا عن المحذورات ابتعاد خائف من مجهول ، أو ابتعاد مكره مضطرب ، إنه الوجل من عصيان مليك مقتدر ، سبقت نعماؤه ووجب الاستحياء منه (15) .

ويقول رحمه الله : وأكاد أقول : إن الأعمال الظاهرة من عبادة ومعاملة ما تصدق وتكمل إلا إذا اتسقت وراءها هذه المعاني الباطنة ، وتخللت مسالك الفؤاد ولذلك يجب أن تطرق موضوعاتها بكثرة ودقة .

وميدان التربية الإسلامية في هذا العصر أحوج ما يكون إلي هذه الدراسات ؛ فالتعاليم الدينية تزحف من كل فج ، وتقتحم طريقها إلي النفوس من مسارب لا حصر لها .

وإذا لم نحسن البناء الداخلي للنفوس ورفع الإيمان علي دعائمه الفكرية والعاطفية كلها ، فإن الأجيال الناشئة لن تنجو من آثار هذا الزحف ، وربما شعرت بنقص في كيانها الروحي تسعي كي تستكمله من جهات أخرى ، وهذا باب لو انفتح هبت منه شرور جائحة .

ولست أجهل أن صلة الإنسان بربه وصلته بنفسه كانت موضع كلام طويل الأنفاس في كتب التصوف .

غير أن هذا الكلام كان أشبه بمقالات الأدباء ، وعواطف الشعراء ، يصور الإحساس الخاص لصاحبه أكثر مما يصور حقائق علمية دقيقة (16) .


الهوامش

(0) انظر : الحضارة الإسلامية – د/ طه عبد المقصود عبية – ص51 وما بعده ، ط/ دار الهانى 2010م .

(1) انظر : مدخل إلي التصوف الإسلامي ، د/ أبو الوفا التفتازاني ، ص12 وما بعده ، ط/ دار الثقافة .

(2) انظر المرجع السابق 9 .

(3) مذكرات الدعوة والداعية ،للإمام الشهيد حسن البنا ، 27 ، ط/ دار الدعوة .

(4) رسالة التعاليم 12 .

(5) رسائل الإمام الشهيد حسن البنا 122 ، ط/ العلمية للتراث .

(6) مذكرات الدعوة والداعية 25 .

(7) المصدر السابق 37 .

(8) المصدر السابق 48 .

(9) المصدر السابق 54 .

(10) البداية والنهاية لابن كثير 13/29م7 ، ط/ دار الحديث بالقاهرة .

(11) سير أعلام النبلاء 20 / 303، 309 ، نقلا عن أبي غدة في كتابه صفحات من صبر العلماء علي شدائد العلم والتحصيل 75 ، ط/ البشائر بيروت .

(12) تاريخ ابن كثير 13/56 م7 .

(13) شرح النووي علي مسلم 1/6 ، ط/ الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية .

(14) إحياء علوم الدين 1/36 ، ط/ الحلبي بتحقيق بدوي طبانة .

(15) الجانب العاطفي من الإسلام 5 ، ط/ دار الدعوة .

(16) المصدر السابق 10 .

(*) الأصول العشرين .

(**) شهيد المحراب 225 .

(***)شهيد المحراب عمر بن الخطاب ص 231 .

للمزيد عن الإخوان والعقيدة

كتب متعلقة

ملفات ورسائل متعلقة

مقالات متعلقة

مقالات متعلقة

وصلات فيديو