حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمون وعبد الناصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حقيقة الخلاف بين " الإخوان المسلمون " وعبد الناصـر


بقلم: أ / محمد حامد أبو النصر

الأفتـتاحيـة

بسم الله الرحمن الرحيم

البيعة الأولي في الصعـيد

المولود يولد علي الفطرة وهي وحدانية الله تعالي والبيئة عنصر هام في تكوين الإنسان ، والأسرة التي نبتُّ فيها أسسها جدي المرحوم السيد / علي أحمد أبو النصر العالم الأزهري والشاعر الأديب أحد رواد النهضة الأدبية في مصر في عصر الخديو إسماعيل ، والسياسي الذي اشترك في التجهيز للثورة العرابية . حتى لقد قرر الخديوي توفيق تحديد إقامته في منزله بمنفلوط – وبعد مضي فترة تخلص منه بدس السم له فمات في آواخر عام 1880 – إذ كان – المعروف آنئذاك أن الشنق للعلماء ذوي النفوذ والجاه مما يثير غضب الشعب علي حكامه .

وهكذا كانت بيئة الشاهد مزيجا من الدين والأدب والسياسة يترجم ذلك اشتراكه في تأسيس الجمعيات الدينية والمحافل الأدبية والاشتراك في الأنظمة السياسية إذ كان أمين صندوق جمعية الشبان المسلمين ورئيسا لجمعية الإصلاح الاجتماعي وعضوا بلجنة الوفد المركزية بمنفلوط .

ومن ثم كان تعرفي بجماعة الإخوان المسلمين التي يغلب علي طابعها الدين الخالص ، والخلق العظيم ، والسياسة الحكيمة ، وقد بدأ هذا برباط الصداقة التي نشأت بيني وبين فضيلة الشيخ المرحوم / محمود سويلم الواعظ السلفي الأزهري بمنفلوط آنذاك الذي كثيرا ما كنا نلتقي سويا علي قراءة الاعتصام للشاطبي وغيره من الكتب الدينية وينتقل الحديث بين الوقفة والأخرى عن الإمام الشهيد / حسن البنا رحمه الله وعن جهاده في سبيل رفعة الإسلام والمسلمين إذ ربي كثيرا من الشباب في مختلف البلاد ابتغاء تحقيق هذا الهدف العظيم وقد حبب إليَّ فضيلة الواعظ صحبة فضيلة الإمام الشهيد والانخراط في سلك هذه الجماعة الرشيدة ، ووددت لو أن لي جناحين أطير بهما لألقاه وكان هذا ما يجول في خاطري مما غرس في نفسي من البيئة التي نشأت فيها .

ومن جميل الصدف أن زار منفلوط في تلك الأيام شابان يذكٌران الناس بمبادئ الإسلام ، أحدهما طالب بكلية الآداب بالقاهرة واسمه عبد المحسن الحسيني والآخر طالب أزهري أسمه نور الدين سليم ، وقد انتحيا ركنا من أركان المسجد بعد – صلاة الظهر فاقتربت منهما حيث لا يوجد أحد ودعوتهما للزيارة في منزلي المجاور للمسجد لكنهما رفضا الاستجابة ، وبعد إلحاح قبلا دعوتي فلما دلفا حجرة الاستقبال وجدا علي المنضدة بندقية ومسدسًا فسألني أحدهما .. ما هذا ؟ قلت هذه بندقية للصيد وهذا مسدس لأدافع به عن نفسي ، ثم قلت علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل .. فابتسما ، ثم دار بيننا حديث مطول حول الإسلام وأحوال المسلمين أجمعنا فيه علي ضرورة العمل من أجل الإسلام ولم يذكرا لي شيئا عن جماعة الإخوان المسلمين لكنني علمت فيما بعد أنهما كانا بمثابة سفيرين لانتقاء الصالحين للعمل في الحقل الإسلامي .

وفي أواخر عام 1934 م حدثني أخي ورائدي وصديقي الأستاذ المرحوم / محمود عبد الدايم عن زيارته الإمام الشهيد / حسن البنا لمنفلوط أثناء غيابي بالقاهرة حيث ألقي درسا دينيا بمسجد الكاشف ونزل ضيفا على فضيلة الشيخ / محمود سويلم ، وقد عشت في أمل اللقاء بفضيلة الإمام الشهيد حتى أذن الله تعالي .

وفي عام 19341935 أخبرني أخي الأستاذ المرحوم / محمود عبد الدايم بوجود فضيلة الإمام الشهيد بجمعية الشبان المسلمين بأسيوط ، فتناولت الهاتف وطلبته في ذاك المكان فتفضل رحمه الله واستجاب إلى ندائي ودار الحديث الآتي :

فضيلة الأستاذ / حسن البنا .. قال نعم .. قلت له لقد أنار الصعيد بزيارتكم فهل لمنفلوط أن تحظي بمثل هذه الزيارة ؟ .

فقال فضيلته رحمه الله هل الأرض صالحة فقلت بملئ َفمِي نعم تنتظر البذر .. فسر لهذه الإجابة .. فقال إذن سنلقاك باكر بمشيئة الله تعالي في منزلكم قبل الغروب .

وبناء علي ذلك أعددت حفلتين : الأولي لتناول الشاي في حديقة داري ، دعوت لها كبار الموظفين وذوي – الحيثية من الأعيان والتجار في مقدمتهم سعادة المرحوم / محمد الحفني الطرازي باشا رئيس جمعية الشبان المسلمين بمنفلوط .

وفي الموعد المحدد شرف الزائر الكريم الإمام الشهيد / حسن البنا تلكم البقعة التي أراد الله لها أن تسعد بأول لقاء .

وعند بدء الحفل نادانا مؤذن المغرب ، وهنا استأذن فضيلته لأداء الصلاة بمسجد " أبو النصر " المجاور للمنزل وتبعه المدعوون ، وبعد آداء الصلاة استأنف الجميع تناول الشاي ، ومن هذا التصرف فهم المدعوون كيف أن الرجل حريص علي تلبية نداء الله مهما كانت العوائق .

وهكذا يطابق الفعل القول ، وأحس المدعوون بعظمة الرجل فرفعوه في نفوسهم احتراما وإجلالا ، فأسبغ لطائفه عليهم وأخذ ينثر نظراته المريحة إلي فرد منهم كأنما يتحدث إليه دون الآخرين ، ثم ألقي كلمة مناسبة قصيرة حول الرسالة ودعوة الناس إليها ، وانتهي الحفل علي أحسن ما قدر له من النجاح والتوفيق .

وبعد صلاة العشاء حضر فضيلته الحفلة الثانية التي أقيمت بدار جمعية الشبان المسلمين فوجدها مكتظة بجمع غفير بمثل مختلف طوائف الشعب .

وافتتح الحفل بآي الذكر الحكيم وهنا وقف الإمام الشهيد مرتديا جلبابه الأبيض الناصع وعبادته وعمامته العالية كل هذا في إيهاب ممتلئ بروح كبيرة نفاذه استطاعت بعد برهة وجيزة أن تهيمن علي قلوب السامعين فتراهم يبكون حينا ويهتزون حينا آخر ، وتشرئب أعناقهم في ثانية ويستولي عليهم السكون في أخري ، وهكذا أخذ يحدث القوم ، والقوم في نشوة من الاستماع وفي حياة لم يروا لها مثيلا من قبل .

( ومن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) . صدق الله العظيم . هكذا كان الحديث ذكرا لأمجاد الإسلام ومشاهد من حياة السلف الصالح في أخلاقهم العظيمة وتتبعهم لتعاليم القرآن الكريم وتأَسَيهم برسول الله صلي الله عليه وسلم ، وشرح لهم حال المسلمين في الماضي وشأنهم اليوم ، وكيف أنهم أصبحوا غثاءً كغثاء السيل ليس عن قلة ولكن لبعدهم عن النبع الأول وعن مصدر الحياة القوية ألا وهو الإسلام القوي .

بعد هذا سمعنا القوم يقولون وما المخرج أيها الواعظ الكريم .. أخذوا ينظرون إلي فمه ويمنعون النظر إلي شفتيه بماذا ينطق ماذا يقول .. النجاة بين شفتيه .. الحق ينحدر من فيه ... عندئذ قال الإمام ولا نزال نقول من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها ليس من سبيل إلا بالرجوع إلي كتاب الله تعالي دستورا واتخاذ نبينا صلي الله عليه وسلم إماما وزعيما وفي سبيل ذلك يكون الجهاد بعد الرباط أولا والميثاق والعهد لله ... فاستجاب القوم لقوله بفرح سرور بالغين ورتلوا معه التوبة والاستغفار في جو رحيب يخيم عليه جلال الطاعة وأذكر أنه لم يطلب منهم بيعة علي غرار ما كان يفعل في أواخر أيامه في التجمعات الخاصة ، وانتهي الحفل بذكر الله وانصرف الجميع وفي نفس كل منهم تقدير وأكبار وإعجاب بالإمام الشهيد مؤملين النفس أن يلتقوا به مرة أخري فيستزيدوا من معينه الذي لا يغيض ومن روحه الفياضة ، ثم انتقل إلي داري مرة أخري حيث هيئت له حجرة خاصة للنوم ودخلها باسم الله وجلس علي الفراش متربعا وقال : هيه .. هيه يا سيد محمد اجلس . ماذا أعجبك الليلة ؟ فقلت له ما يجول بخاطر كل شاب في ذاك الوقت من حسن خطبته وجمال توقيعها وموقفه كخطيب .

فقال لي لكن ما رأيك في المعاني التي ذكرت . قلت له إن المعاني التي ذكرتها فضيلتك كثيرا ما تجري علي ألسنة الخطباء والوعاظ والعلماء .. لكن ليس هذا هو السبيل للرجوع بالمسلمين إلي عهدهم وأمجادهم السالفة .

قال إذن ماذا تري ، وكنت في ذاك – الوقت متوشحا بمسدسي الذي لا يفارقني في مثل استقبال ذلكم الزائر الكريم الذي أحببته قبل أن أراه .

فقلت له إن الوسيلة الوحيدة للرجوع بالأمة إلي أمجادها السالفة هو هذا ... وأشرت إلي مسدسي فانبسطت أساريره كأنما لقي بغيته وعثر علي مطلبه ، وقال لي ثم ماذا ... تكلم ... فعشت في هذه الكلمات برهة قطعها فضيلته باستخراج المصحف الشريف من حقيبته قائلا هل تعطي العهد علي هذين مشيرا إلي المصحف والمسدس . فقلت نعم : بدافع قوي أحس به ولا أستطيع أن أصفه ، اللهم إلا الفيض الإلهي الغامر والسعادة الأبدية التي أرادها الله لي في سابق علمه .

وبعد أن تمت البيعة بهذه الصورة . قال فضيلته مهنئا مبروك إنها الأولي في صعيدكم ، ومن ذلك الحين ارتبطت بالرجل ارتباطا خاصا وثيقا .. ارتباطًا نسيجه الحب والوفاء وفيه كل معاني الرجولة الصادقة ، ومن هذا المنطلق ابتدأت أعمل في محيط الإخوان كأحدهم ، وفي حقل الدعوة كأحد عمالها الذي أرجو أن أكون من الصادقين منهم .

وبهذه المناسبة أحب أن توضح أنه ليس المقصود من وجود المصحف بجوار المسدس هو القتل والاغتيال ، وإنما هو إشارة إلي حماية الحق بالقوة مصداقا لقوله تعالي : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) نسأله تعالي الثبات علي الحق والعمل له غير مبدلين ولا مغيرين .

الشعبة الأولي للإخوان المسلمين بمنفلوط

وفي اليوم التالي لزيارة الإمام الشهيد لمنفلوط طلب مني فضيلته أن أستدعي له بعض الشباب من الذين حضروا الحفل بدار الشبان المسلمين بالأمس ، حتى يلتقي بهم علي الدعوة ، فقلت له : لا بأس – علي أني لا أستطيع أن أترك جمعية الشبان المسلمين التي أعمل فيها الآن ، ولا بأس من أن نلتقي بهؤلاء الشباب الذين – سأحضرهم لدي فضيلتكم في حجرة صغيرة ضمن حجرات دار الجمعية فوافق فضيلته وقال هذا يكفي .

المهم اللقاء علي الفكرة دون النظر للمسميات وفعلا دعوت لفضيلته حوالي عشرين شابا أغلبهم من مدرسي المرحلة الأولية في ذاك الوقت وتناولوا مع فضيلته طعام الغذاء علي طريقة مبسطة سعد بها حيث فرش بساط علي الأرض واجتمعنا عليه في شكل حلقة ويظهر أن هذا الوضع المبسط وقع في نفسه موقعا جميلا مما يدل علي أن هذه البساطة مبدأ بارز من مبادئه في تربية النشء وتهيئة الجماعة ، وتحدث حديثًا عذباً فياضا ، ونظر إليهم نظرة جعلتهم يكبرون في نظر أنفسهم من حيث أنهم مسئولون عن الإسلام وعن دعوة الناس للنهوض به من جديد ، فلما أحسوا بهذا المعني في أنفسهم تهيئوا لتلقي البيعة في سبيل هذه الدعوة قائلا لهم يكفي أن نرتبط علي هذه المعاني ، وعليكم أن تجتمعوا مرة واحدة كل أسبوع وتتذاكروا سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وأشار عليهم بقراءة كتاب حماة الإسلام ، وقرأ معهم سورة العصر وانفض الاجتماع .

ومن ذلك الحين التقت هذه المجموعة في أماكن مختلفة من أبرزها مكتب تحفيظ القرآن الكريم الملحق بمسجد " أبو النصر " بمنفلوط .

ونذكر أنه عندما زار الإمام الشهيد تلك الشعبة في أيامها الأولي كتب بيده هذه العبارة تسجيلا لزيارته الكريمة :

( دعوتنا قصة من قصص القرآن الكريم فيها عبرة وعظة وهداية ونور ، إن بدت اليوم أحدوثة في أفواه الناس فهي في الغد حقيقة في مجتمعاتهم – وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم نبتت الدعوة الأولي ، وفي مثل هذه الدار يعيد التاريخ سيرته ، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .( الفقير إلي الله حسن البنا )

وقد تحققت الآمال فقد أسس الإخوان المسلمون بمنفلوط دارًا خاصة منسقة بميدان أبو النصر ، جمعت أوجه الأنشطة المختلفة للجماعة ، وقد صودرت هذه الدار وما فيها مع غيرها من دور الإخوان المسلمين في أنحاء البلاد بقرار من مجلس قيادة الثورة ثم احتلتها هيئة التحرير .

كيف كانت الزيارات في الثلاثينيات

لقد سعدت بصحبة الإمام الشهيد في زياراته لكثير من المدن والقرى في الزجه القبلي والوجه البحري ، والتقينا بكثير من الأفراد والعائلات التي كان لها دور عظيم ومواقف شجاعة جديرة بأن تسجل في تاريخ هذه الجماعة .

ولكن لضيق المجال ومضي الزمن حال دون تذكر جميع أعمال وأنشطة تلك الشعب والمناطق التي حفلت برجال الدعوة الصادقين .

فمعذرة لهم جميعا فإن جهادهم مدَّخر لهم عند الله تبارك وتعالي . ففي أواخر الثلاثينيات كانت الزيارات الأولي تتسم بالبساطة علي عكس ما كانت تقوم به الأحزاب السياسية وغيرها بإقامة السرادقات الفخمة المفروشة بالبسط ، والمجهزة بالمقاعد المذهبة وتزيينها بالصور وأقواس النصر وإنارتها بالثريات الفاخرة وما إلي ذلك من صنوف المظاهر والبذخ والإسراف الذي لا طائل منه ولا فائدة فيه .

وكان كلما أراد الإمام الشهيد أن يزور بلاد الصعيد أبرق إليَّ بذلك حيث كنت ألتقي بفضيلته في الجيزة أو بني سويف وأصحبه في تلكم الرحلة في كل عام ، وقد أسعدني بدعوتي بزيارة بعضبلاد الوجه القبلي ، أذكر تلك الليلة التي زار فيها الإمام الشهيد قرية حجازة (قنا) إحدى قرى الصعيد : حيث استقبله أهلها الكرام بكل مظاهر الحفاوة والترحيب المنبثقة من القلوب الطاهرة والعامرة بالإيمان ، والتي لا دخل فيها ولا غش ولا رياء .

وهناك علي بساط الصحراء وتحت نور القمر في ذلكم السكون العميق جلس القوم في يقظة وتطلع ووقف الإمام الشهيد يلقي حديثه بالطريقة المناسبة للمقام وأخذ يشرح دعوته بألفاظ سهلة تحمل المعاني الطيبة دون كلفة أو تعمق . ففهم الناس واستجابوا لدعوته بدافع الحب والإخلاص لعقيدتهم ، وبعد الدرس آوينا إلي حجرة ليس فيها من الرياش الفاخرة ولا المقاعد الوثيرة لكنها البساطة في كل شيء ، وهكذا كان الإمام الشهيد يحمل دعوته إلي الناس في يسر وانطلاق . وقدم لنا العشاء في أوانٍ من الفخار ، وطعمنا مما أعتاد أهل القرية أن يطعموه وكان طعاما نظيفا وشهيا .

في الإسكندرية

دعاني الإمام الشهيد لزيارة الإسكندرية بصحبته ، ومن ميدان محطة مصر ركبنا حافلة حتى وصلنا ميدان المنشية بها وعندما أخذنا مقاعدنا أخرج فضيلته من حقيبته الصغيرة المصحف الشريف وأخذ يسر القراءة فيه طوال مدة الركوب وكانت هذه عادته في السفر وحذوت حذوه ، وفي ميدان الخديوي إسماعيل نزلنا بفندق صغير شعبي بالدور الثاني أمام البوستة العمومية ، وما أن تعرفنا علي حجرتنا حتى توضأنا وصلينا الظهر ، ثم أبدى فضيلته رغبته في تناول طعام الغذاء فسألت فضيلته أي أنواع الطعام ترغب فقال اشتر لنا خبزا وجبنا وعنبا فلبيت رغبته وتناولنا طعامنا واسترحنا القيلولة واستيقظنا علي أذان العصر فأديناها ، ومن ميدان المنشية استقبلنا ترمواي إلي القباري حيث كان – هناك موعد مسبق مع فضيلة إمام المسجد ليلقي الإمام الشهيد درسا بعد صلاة المغرب ، وعندما وصلنا إلي محطة النزول بالقباري توجهنا إلي المسجد وبعد صلاة المغرب قدم فضيلة إمام المسجد الشهيد لإلقاء الدرس، وتم ذلك وانصرفنا .

ومما استرعي انتباهي حادث وقع أثناءالطريق وهو أن المحصل لم يحضر إلينا ولم يطلب منا ثمن أجرة الركوب ، وقد سألني الإمام الشهيد .. هل جاء الكمساري ؟ وهل أعطاك التذاكر ؟ فقلت .. لم يحضر بعد .

فقال إذن لابد من ندائه وإعطائه الأجر ، وطلب التذاكر منه لأن هذا ما يمليه الضمير بل هو حق الشركة زليس لإنسان أن يتبرع من مال الغير فناديت الكمساري وطلبت منه التذاكر فقال أنا عارف يا سيدي .. وأنا شايف ضروري يعني .. ؟ خليها علي الله ده شركة أجنبية فسمع الإمام فابتسم وقال ولو .. لابد من أن تأخذ ثمن التذكرتين وشكر الله لك ، فأبرزت إليه الثمن وقدّم إليّ التذكرتين .

وقد عشت في هذه المعاني الكريمة المتلاحقة والمبادئ التي أشرببها قلب الرجل الذي أبي أن يستبيح مال الغير مهما كان الأمر . وهكذا كان سلوكه في معاملته للناس علي اختلاف أديانهم وأجناسهم ، فهيلفتة كريمة من مربُّ عظيم ينهج قواعد الحق والعدل بين بني الإنسان .

في إحدى قرى محافظة المنيا

دعانا الأخ المرحوم الزجال المطبوع عبد اللطيف العيلي لإلقاء درس بين المغرب والعشاءفي أحد المساجد ، وتناول طعام العشاء والمبيت بسراي (البيك العمدة) وبالفعل انتظرنا الأخ الكريم رحمه الله علي رصيف المحطة ومنها توجه ثلاثتنا إلي المسجد فأدينا صلاة المغرب ، وجلس الإمام الشهيد يلقي علي المصلين درسا في طاعة لله تعالي والبعد عن محارمه ، ثم انتقل بالحديث عن الدعوة حاجتنا إلي إحيائها والتمسك بها حتى نفوز بالرضا في الدنيا والآخرة ، وما أن انتهي الدرس حتى عانق المصلون الإمام الشهيد داعين الله تعالي له بالعون والتوفيق ، ثم أدينا صلاة العشاء وصحبنا الأخ – الكريم إلي سراي (البيك العمدة) .

وسراي (البيك العمدة) مبني يحتوي علي ثلاث حجرات وصالة ودورة مياه ، ودلفنا حجرة النوم فوجدنا بها سريرين فخلعنا ملابسنا ووضعناها علي شبابيك الأسرة ، وارتدينا جلابيبنا الخاصة ، وفي هذه الأثناء أستأذن الأخ المرافق لنا رحمه الله في الذهاب لإخبار البيك العمدة بحضور فضيلة الإمام الشهيد ، ونعود فنصف الليلة التي قضيناها في ضيافة جحافل البق وجيوش الصراصير التي أخذت تقلقنا بلسعاتها وتزعجنا بأصواتها ، وهنا تأثر الرجل العظيم ، فأخذ يرتل بعض آيات القرآن الكريم ، ويردد بعض أبيات الشعر التي فيها حسرة وألم علي أحوال المسلمين وسوء استقبالهم للدعوة والدعاة ، لكنه تنبه أنني معه وأنني تأثرت بتأثره ، فطرق باب الأمل وأخذ يستشهد ببعض آيات القرآن الكريم وينشد بعضا من الشعر فيه الأمل والرجاء ويؤكد حقيقة النصر المبين حيث يدخل الناس في دين الله أفواجا .

ويعود إلينا الأخ الكريم بعد مقابلته للبيك العمدة فيخبرنا : إنني وجدت البيك العمدة جالسا مع البيك مأمور المركز في النادي المقام علي شاطئ الإبراهيمية فأخبرته بحضور الإمام الشهيد بالسراي فأجابه وهو ثمل فليبق بالسلاملك ؛ وينقل لنا الأخ الكريم هذه الصورة المؤسفة وهو في حزن وحسرة .

ثم أسرع الأخ الكريم وأحضر طعام العشلء من منزله ، فطعمنا وشكرنا له ، وانتهت هذه الليلة بما حملت من أحداث وعبر ... !! .

من المفارقات العجيبة

في الأيام الأولي من قيام ثورة يوليه ينة 1952م ، وبعد أن عرف الناس دور الإخوان المسلمين في العمل علي إخراج الملك ، وبعد مضي عشرين عاما من زيارة الإمام الشهيد / حسن البنا لإحدى قرى محافظة المنيا التي أبي عمدتها ضيافته ، تدور عجلة الزمن فيزور فضيلة المرشد الراحل الأستاذ / حسن الهضيبي إحدى قرى هذه المحافظة أثناء رحلته في الصعيد .

فيتقدم إليه أحد كبار رجال الأحزاب السياسية في مصر التي كثيرا ما ناصبت الإخوان المسلمين العداء ، وهو يمثل إحدى الدوائر النيابية ، لاستضافة فضيلة المرشد في تناول فنجان من القهوة بقصره ، فأحاله فضيلة المرشد إلي نائب شعبة الإخوان ، واستطاعت هذه الشخصية السياسية الكبيرة أن تحصل علي خمس دقائق يشرف في أثنائها بزيارة المرشد الراحل فيقصره حيث استقبله كثير من الأعيان والعمد والمشايخ وجمع غفير من الأهالي وسط الهتافات الدينية والطلقات النارية .

وهكذا يتحقق نصر الله للمؤمنين الذين كانوا بالأمس في أعين الناس ضعفاء فأصبحوا بفضل الله تعالي عظماء ترجي زيارتهم ويعظم قدر مرشدهم . والحمد لله رب العالمين .

في معسكر الدخيلة

أول معسكر تربوي للإخوان المسلمين :

في صيف سنة 1937 أعلن الإخوان عن إقامة معسكر لهم بقرية " الدخيلة " (غرب الإسكندرية) فاشتركت في هذا المعسكر ، وذهبت من أسيوط إلي الإسكندرية علي متن طائرة لشركة مصر للطيران ، وأقيم المعسكر علي بساط رملي يطل علي ساحل البحر المتوسط ، وأقيمت علي أرضه خيام أعد بعضها للإيواء ، والطعام (ميس) والبعض الآخر للصلاة ، وإلقاء الدروس ، والشئون الإدارية للمعسكر ، وتتوسط هذه جميعا خيمة صغيرة لفضيلة الإمام الشهيد / حسن البنا ، وكان المعسكر مكونا من حوالي أربعين أخا علي مستويات مختلفة من الثقافة والأعمار ، فمنهم الحقوقي والأزهري ، والعسكري ، والطبيب ، والمهندس ، والطالب ، والعامل ، والمزارع والتاجر ، وأذكر منهم الاقتصادي الكبير الأستاذ / محمود أبو السعود الذي كان مسئولا عن إدارة المعسكر ، وفضيلة الواعظ المشهور الشيخ / عبد اللطيف الشعشاعي رحمه الله ، والمربي الفاضل الأستاذ / محمد الدسوقي بقنينة رحمه الله وغيرهم ، وغيرهم كثير من أفاضل الإخوان الذين لهم السبق والتعرف علي مبادئ هذه الجماعة ، وقد وضع لهذا المعسكر برنامج يومي يبدأ بقيام الليل ، ثم صلاة الصبح في جماعة خلف الإمام الشهيد ، والجلوس لاستماع المواعظ الدينية ، ثم السير في شكل طابور رياضي لمسافات لا تقل عن أربعة كيلو مترات ، وبعد شروق الشمس يسبح الإخوان في مياه البحر بلباس يستر عوراتهم ، وبعد الاستحمام يذهبون حيث صنبور من الماء العذب فيملأ كل منهم وعاءه الصغير ليزيل الماء المالح بسرعة ونشاط ، وفي السابعة يصطفون لتلقي عليهم التوجيهات والتعليمات من الأخ المسئول ، وفي منتصف الثامنة صباحا يعلن البروجي للتجمع لتناول الإفطار وبعد ذلك ينصرف الإخوان ليصحب كل أخ أخاه في تلاوة القرآن الكريم ، - وفي العاشرة صباحا يجتمع الإخوان في الخيمة الكبرى يستمعون للدرس الذي كان يلقيه الإمام الشهيد ، وفي الحادية عشرة صباحا ينصرف الإخوان للتريض والاستعداد لصلاة الظهر ، وبعد الصلاة يتناولون طعام الغذاء ، ثم ينصرف كل إلي خيمته للراحة والقيلولة ، وقبل صلاة العصر يستيقظ الجميع لأدائها ، وبين العصر والمغرب يتجاذبون الحديث حول ما يطالعون من ثقافات متنوعة ، وبعد صلاة المغرب يستمعون إلي درس من الإمام الشهيد ، ثم يؤدون صلاة العشاء ، وبعدها يتناولون طعام العشاء الخفيف ، ثم تعقد حلقات السمر البرئ في النافع المفيد ، وفي العاشرة مساءً يعلن البروجي نوبة نوم فيأوى الإخوان إلي مضاجعهم في – هدوء وسكينة .

وهذا البرنامج اليومي كان ينفذ طيلة إقامة المعسكر الذي بلغت مدته أربعين يوما تقريبا .

واختتمت أيام المعسكر بحفل وداع شاركنا فيه المجاهد الكبير الصاغ المرحوم / محمود لبيب – رحمه الله – والذي أصبح فيما بعد وكيلا للجماعة ، وقد حمل إلينا هديته وهي حَمَلٌ مشوي (خروف) ومعه قفصان من العنب فطعمنا ودعونا له ، وشكرنا الله الذي رزقنا من غير حلول منا ولا قوة . وكان هذا المعسكر مجالا خصبا لتربية النفس وتهذيب الخلق وبناء الإنسان المسلم .

علي هذه الصورة كان الإخوان يلتقون ، وقد سمت أرواحهم بتناولهم الطعام الخفيف ، وبذلك غلبت أرواحهم أجسادهم ، وبالعبادة والطاعة تقوت نفوسهم ، وبمزاولة العمل المضبوط انضبط سلوكهم ، وبهذه الصورة ذابت الفوارق بينهم ، وتجمعت قلوبهم ، وهذا هو الحب في الله الذي اجتمعوا وارتبطوا عليه .

ومن الطَّريف ما وقع مني علي سبيل المزاح في الأيام الأولي من إقامة المعسكر حيث الرياضة والهواء الطلق ، وانشراح الصدر جعلني في حاجة إلي المزيد من الطعام – فحينما حمل إلينا الأخ فضيلة الشيخ / عيد الباري – المسئول عن المطبخ طعام الإفطار في سلته التي ملئت بأشطر الفول المدمس أن أخذت شطرا دون إذن لأسد به جوعني وما أن انتهي الأخ من التوزيع حتى تبين له أن هناك شطرا ناقصا أخذ دون إذنه كمسئول فنادي أيها الإخوان أن أحدكم أخذ نصيبا من الطعام زيادة عن حقه المقرر فعليه أن يعلن عن نفسه ، فصمتُّ ثم قلت لفضيلة الإمام الشهيد الذي كان يجلس بيننا ماذا يكون الحال لو أعلن الأخ عن نفسه ، فقال فضيلته وهو يبتسم لا شيء المطلوب فقط معرفة الاسم فقلت أمري إلي الله أنا صاحب هذا الحادث لأنني كنت جائعًا ومازلت جائعًا – فضحك الجميع ، وقال الشيخ عبد الباري في تشنج لفضيلة الإمام الشهيد لابد من عقاب هذا الأخ مشيرا إلي .. فقال فضيلة الإمام الشهيد وبماذا تريد أن تعاقبه .. قال الشيخ عبد الباري يبقي معي غدا في المطبخ ليعاونني في غسل الأواني وتنظيف المطبخ وتنفيذ ما يطلب منه ، وفي المساء أعلن القرار بعقوبتي ، وفي الصباح الباكر سلمت نفسي له وقمت بتنفيذ ما أمرني به طيلة اليوم برضا وتسليم ، ومن أصعب المهمات التي قمت بها غسل أربعين قروانة أجهدتني غاية الإجهاد ، وأرهقتني غاية الإرهاق ، وقد أخذت من هذا الدرس عبرة وعظة حيث كنت في الماضي حينما يجئ وقت الغذاء ويتأخرون في تقديم الطعام وكان يقال لي إن سبب التأخير هو غسل الأواني فكنت لا أقر ذلك وأثور في غضب ، والآن بعد هذه التربية الإخوانية أصبحت لا أتسرع الأمور وأتجمل بالصبر والأناة وبذلك أسعد ويسعد من معي .

ومما هو جدير بالذكر .. تعود الإخوان المعسكرين صلاة الجمعة في مسجد القرية وعندما قام فضيلة إمام المسجد ليصعد المنبر لأداء خطبة الجمعة – تعرض له في تحمس أخ ليمنعه وليمكن الإمام الشهيد من أداء الخطبة ، فما كان من الإمام الشهيد إلا أن وقف ونهي الأخ ونهره في غضب وأجلسه .. وقال له : نحن هنا مأمومون ولسنا آمين والآداء من حق فضيلة الإمام الراتب .. فسر لذلك إمام المسجد ، وأعلن لجمهور المصلين أن ينتظروا بعد الصلاة لسماع موعظة من الأخ الأستاذ / حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين ، فاستجاب المصلون – وجلسوا يستمعون فيرغبة وتطلع إلي الموعظة وتعرفوا علي مبادئ الإخوان وتعاطفوا معهم ، وكانت جلسة مباركة أعطت أطيب الثمرات . وهكذا التصرف السليم الذي يتسم بالحكمة للداعية المثالي الذي يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يفتت ... وعلي هذه المبادئ ينجح الأفراد وتقوم الجماعات .

الإخوان والإنجليز

في أوائل الأربعينيات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، طلب مني وكيل بنك باكليز فرع منفلوط دفع مبلغ من المال كتبرع للجندي المجهول أسوة بالأعيان وأصحاب الرتب وكبار التجار ، فرفضت أن أدفع مليما واحدا في مشروع أو عمل تقوم عليه الحكومة البريطانية ، فسألني لماذا ؟ قلت له : إن انجلترا وفرنسا كانتا قد وعدتا في لجنة مشتركة بالجلاء عن سوريا و لبنان بعد انتهاء الحرب ولم تف بوعدها .. كما أنها لم تستجب لطلب رفعة النحاس باشا رئيس الحكومة في هذا الشأن .

فقال لي وكيل البنك هذا كلام خطير ولا داعي لذكره – فقلت : نعم إنه كلام خطير لكني أتحمل المسئولية .

وبعد أسبوع من هذا الحديث فوجئت بزيارة ضابط مخابرات انجليزي يدي (باترك) ومعه مراسل الأهرام بأسيوط كمترجم ، وبعد أن شربنا القهوة سألني الضابط : هل لكم رأي معين في السياسة التي تنتهجها الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط ؟ فقلت له : إن هناك موقف يمكن لبريطانيا أن تستغله لإثبات حسن نواياها وصدق وعودها – وهو أن تقوم بالضغط علي حكومة فرنسا للجلاء عن سوريا و لبنان فورا ، ثم سألني : هل هناك من يري رأيكم من الإخوان المسلمين ؟ فقلت له : إن جمهور مائة شعبة للإخوان المسلمين بمديرية أسيوط تطالب بتحقيق هذا المطلب .

فقال إن حكومته يهمها أن تعرف مطالب الشعوب الصديقة ، لتبني علاقتها معهم علي أساس من هذه السياسة .. وإنني أعدك أن أرفع هذا المطلب إلي المسئولين في السفارة . وانصرف . وبعد أسبوع من تلك الزيارة وصلني خطاب من الضابط (باترك) يشكرني فيه ويخبرني أن (الميجر لاندل) مبعوث السفارة البريطانية يرغب في زيارتك ويطلب تحديد الموعد وعلي ذلك أرسلت خطايا إلي الإمام الشهيد علي اعتبار أنه قائد الجماعة والمسئول عن سياستها شرحت له ما دار في الزيارة المذكورة ، فرد علي هاتفيا بموافقة فضيلته علي اللقاء وأفهمني أنه سيبعث إلي برسالة مفصلة ، وقد وصلتني الرسالة مرفقا بها خطاب من صورتين أحداها كتب بالعربية لتلقي في الحفل ، والأخرى بالانجليزية تسلم (للميجر لاندل) .

ومما يذكر أنه قال لي في الرسالة إن هذا الباب أراد الله أن يفتح علي يديكم ويهمني أن تعرف كل الشعوب ، - والحكومات حقيقة دعوة الإخوان المسلمين .

وعليه تحدد موعد اللقاء مع (الميجر لاندل) وكنت قد دعوت لتناول الغذاء معه نخبة من رؤساء الأديان وكبار الموظفين والأعيان بمنفلوط وعندما دلف الميجر لاندل إلي حجرة الاستقبال رأي صورة الإمام الشهيد حسن البنا فوقف أمامها ينظر مليا ومعه المترجم فسألني ؟ : صورة من هذه ؟ قلت إنها صورة المربي الروحي الأستاذ حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين .

قال : وما هي مكانة المربي الروحي عندكم ؟ قلت : إنه يأمر فيطاع دون تردد ، وما أسمع (الميجر لاندل) هذا حتى رفع قبعته إجلالا لصاحب هذه الصورة . ، وبعد أن تناولنا طعام الغذاء سلمت (الميجر لاندل) صورة الخطبة المكتوبة بالانجليزية وألقيت صورتها العربية ، ومن أهم ما جاء بالخطبة أن الإخوان المسلمين يعلنون حقيقة مبادئهم وطريقة إصلاحهم ووسائلهم وأوضح أنهم يعملون علي تربية النشء علي مبادئ القرآن الكريم ويرحبون بأن ينشَّئَ أصحاب الأديان الأخرى أبناءهم علي مبادئ الانجيل والتوراة وبذلك يوجد في العالم المجتمع المتدين ، والمجتمعات المتدينة لا يقع فيما بينها حروب كما هو قائم الآن بين الشعوب التي باعدت بينها وبين حقيقة أديانها وأصبحت الحرب الضروس التي أتت علي الأخضر واليابس ، فلا رحمة ولا عدالة ولا مساواة .

وقد حيَّا الحاضرون المعاني التي تضمنتها الكلمة بالتصفيق والارتياح ، واختتم الحفل وانتهي بكلمة شكر من (الميجر لاندل) لصاحب الدعوة والمدعوين ، وما أن وصل (الميجر لاندل) دار السفارة البريطانية بالقاهرة حتى أرسل إليَّ خطابا يشكرني ويبدي رغبته في اللقاء معي في القاهرة ، وأثناء وجودي بالقاهرة ألتقيت به بعد استئذان الإمام الشهيد وإذنه لي بالزيارة ، وفي اللقاء سألني – (الميجر لاندل) ما رأيكم في الجلاء عن مصر ؟ قلت له : إن الأمة جميعها تطالب بالجلاء فورا ، ثم قال : ماذا لو جاء الروس واحتلوا مصر ؟ قلت : عندئذ نتعاون كأصدقاء وليس كأتباع . قال : وما رأيكم في مشكلة فلسطين ؟ قلت : تترك لأهلها ينظمون شئونهم بطريقتهم متعاونين ومتحدين كشعب واحد .

وانتهي اللقاء وقد نقلت إلي فضيلة الإمام الشهيد الحديث فاستحسنه ، وبعد أيام قليلة مضت علمت أن الوزير البريطاني المسئول عن الشرق الأوسط ومعه سفير بريطانيا في مصر ووقد من دار السفارة زاروا المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة وتقابلوا مع الإمام الشهيد / حسن البنا وعرضوا معونة مالية كبيرة والمساهمة في تقديم سيارات وتبرعات أخرى للجماعة ، لكن فضيلة الإمام الشهيد رفض كل هذه العروض بصلابة وحزم .. قائلا لهم : إن مجهودات الإخوان تقوم بعد فضل الله تعالي علي القروش القليلة التي يدفعها الإخوان من جيوبهم الخاصة ، ونحن نرفض أي معونة من أية حكومة أو من أية دولة ونحن في طريقنا لعرض مبادئنا بكل ما نستطيع من قوة وإرادة – وانتهت المقابلة .

والجدير بالذكر وجود أرشيف لجماعة الإخوان المسلمين في دار – السفارة البريطانية وصورة للإمام الشهيد / حسن البنا ، وكتب تحتها (عبارة : أخطر رجل في الشرق الأوسط) .

الإخوان والأقباط

في منتصف الأربعينيات تقريبا قررت وزارة سري باشا نفي الإمام الشهيد حسن البنا إلي قنا حتى يبعد نشاطه عن القاهرة – فاجتمع مكتب الإرشاد وقرر الاتصال بنواب البلاد وشيوخها لتقديم استجواب لرئيس الحكومة عن أسباب هذا الإجراء ، وضرورة المطالبة بإطلاق سراحه ، ولما كان معالي توفيق باشا دوس نائبا عن دائرة منفلوط وهو زعيم قبطي كبير ومحام مشهور ووزير مواصلات سابق ويتمتع بشخصية جريئة وفذة وقد لعب دورا هاما في أوائل الحركة الوطنية وهو من أبناء مدينة أسيوط ، فقد أرسلت إليه خطابا في هذا الشأن وسجلت فيه ملامح لشخصية الإمام الشهيد الأستاذ / حسن البنا ، وأهداف دعوته وأسلوبه في تحقيقها ، وشرحت ذلك قائلا : إن الإمام الشهيد / حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين يقوم علي تربية الشباب تربية إسلامية ويرسخ في نفوسهم معاني الخلق الكريم ، ويطالب علي المدى البعيد بتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد ، وما أن وصلت معالي الباشا رسالتي حتى تسلمت رده السريع ويرحب بعرض هذه القضية علي مجلس النواب .

وفي الأسبوع التالي قرأت في جريدة الأهرام في أخبار مجلس النواب أن الأستاذ / توفيق باشا دوس قدم استجوابا لرئيس الحكومة عن سبب نفي الشيخ / حسن البنا – رئيس جماعة الإخوان المسلمين ، وما لبث طويلا حتى أفرج عن فضيلته وعاد إلي القاهرة ، وقد فضَّلت الحكومة ذلك عن الحديث عنه وعن دعوته وجماعته تحت قبة البرلمان حتى لا يكبر أمره ويعظم شأنه ، وما إن علمت بالإفراج عن فضيلته الإمام الشهيد حتى شخصت إلي القاهرة مهنئا ، وقد قصصت علي فضيلته ما دار بيني وبين معالي الباشا وما نشر عن تقديمه الاستجواب ، وما انتهي إليه الأمر بالإفراج وأخبرته رغبتي لزيارة معالي الباشا لشكره فرحب فضيلته بذلك ، وعليه اتصلت بالباشا هاتفيا فحدد موعد الزيارة ودعاني لتناول الغذاء معه فاعتذرت لكن معاليه أصر .

وفي اليوم التالي توجهت إلي السراي بالزمالك ، وبعد تناول الغذاء وأثناء شرب القهوة دار بيني وبين معاليه حديث بدأه بأنه تعود علي السفر كل عامين لبلاد أوروبا حيث يقضي الصيف هناك .

وذكر لي أنه عندما كان يزور بعض المدن الساحلية بها لا يغيب بصره عن ملاحظة حقائبه خشية أن تتناولها يد اللصوص التي تكثر في تلك البلاد علي غير الحال لما هو قائم في السعودية فإن المرء هناك إذا وجد شيئا ملقي علي الأرض يبلغ عنه ولا يستطيع أن يلمسه خشية انزال العقاب عليه ، وذلك لتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية في تلك البلاد .

ثم انتقل معاليه بالحديث عن أقباط مصر وأبرز حديثه أواصر المحبة وروابط الأخوة بين الأقباط والمسلمين من قديم الزمن ، ثم تحدث عن نسبة عدد المتعلمين والأثرياء من الأقباط في مصر وتناولنا تقييم وضعهم بالتقدير وذكر معاليه أن أول من يستفيد من تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر هم الأقباط فإنها تحفظ لهم أموالهم وأرواحهم ، لكن معاليه عقب قائلا : ليس في إمكان أحد من رجالات مصر الآن أن يطبق الشريعة الإسلامية ، ولم يكن هذا متوفر إلا في سعد زغلول حيث إنه الزعيم الوحيد الذي أجمعت الأمة علي حبه والولاء له .

وهنا قلت : إنها حقيقة الماضي – أما في المستقبل فسينعقد إجماع الأمة علي فضيلة الأستاذ حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين فقال في تعجب – وهل هذا سيكون ! قلت نعم إن شاء الله تعالي – قال : عندها يؤيد أقباط مصر تطبيق الشريعة الإسلامية – وانتهي الحديث وودعني كما استقبلني بالإجلال والاحترام كممثلل للإخوان المسلمين .

علي هامش زيارة توفيق باشا دوس

وبهذه المناسبة نذكر أنه عندما نقلت إلي فضيلة الإمام الشهيد حسن البنا هذا الحديث دعا أعضاء مكتب الإرشاد الذي قرر تشكيل لجنة سياسية عليا برئاسة وكيل الجماعة وعضوية : سكرتير الجماعة وعضو من أعضاء مكتب الإرشاد وثلاثة من كبار الأقباط هم : الأستاذ / وهيب بك دوس المحامي ، والأستاذ / لويس فانونس عضو مجلس النواب ، والأستاذ / كريم ثابت الصحفي الكبير – وقد انعقدت هذه اللجنة مرة واحدة بدار المركز العام للإخوان المسلمين وكان من أهدافها عرض فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية وشرح ذلك بواسطة هؤلاء الأعضاء حتى يطمئن ويتفهم جميع المصريين سماحة وعدالة تطبيق الشريعة الإسلامية ، لكن الأحداث الهوج التي بدأت بحل جماعة الإخوان المسلمين – وانتهت باستشهاد الإمام الشهيد / حسن البنا لم تمكن اللجنة من مواصلة استكمال أعمالها . ولعل تحالف الوفد والإخوان المسلمين يعمل علي تطبيق الشريعة الإسلامية – وبذلك يعود الأمن والأمان ويعم الازدهار والرخاء لشعب مصر العريق .

حول تنازل الإمام الشهيد عن ترشيح نفسه عن دائرة الإسماعيلية

في سنة 1942 م عندما أعلن الإمام الشهيد / حسن البنا ترشيح نفسه نائبا عن دائرة الإسماعيلية بناءً عن رغبة الإخوان بها – طلب رفعت النحاس باشا رئيس الحكومة في ذاك الوقت من فضيلته النازل عن الترشيح استجابة لضغوط الانجليز ثم قال له : إنه من الأوفق لك كصاحب دعوة وفكرة أن تترك الترشيح الآن وتنطلق تشرح دعوتك إلي الناس في أنحاء القطر .

ولما طرح هذا الأمر علي الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين مجتمعة تبلور الحوار عن وجهتي نظرا إحداها عدم التنازل ويمثل الأغلبية والآخر ترك الأمر لفضيلة الإمام الشهيد علي اعتبار أنها مسألة شخصية ، وعلي ذلك فقد تصرف الإمام الشهيد علي هذا الوضع الأخير وآثر التنازل ، فأحدث ذلك اضطرابا في صفوف الإخوان فمنهم الموافق ومنهم المعارض وعمت هذه الموجة الغاضبة جميع الإخوان داخل القطر مما اضطر مكتب الإرشاد إرسال بعض أعضائه إلي الأقاليم لعرض المسألة وشرحها بما يطمئن النفوس ، فكان أن زارنا في الصعيد الأستاذ المرحوم / عبد الحكيم عابدين – سكرتير عام الجماعة وعقد لذلك اجتماعا لنواب الإخوان في دارهم بأسيوط ، وأعطيت الكلمة للأستاذ / عبد الحكيم عابدين فتناول الموضوع بالشرح والإسهاب وانتهي به الأمر إلي أن التنازل مسألة خاصة بفضيلة الإمام الشهيد ولا يصح أن تكون موضع قلق أو اضطراب الإخوان ، وبعد ذلك عقبت في كلمتي قائلا : إن التنازل مسألة انتهت ولا يصح تضييع الوقت في الكلام فيها ، لكني أرجو من الأستاذ / عبد الحكيم عابدين علي فضيلته أن ينزل مستقبلا علي رغبة الأغلبية مهما كانت النتيجة ، وما أن سمع الأستاذ / عبد الحكيم عابدين كلامي حتى وقف معقبا وأعلن أن هذا معناه عدم الطاعة لفضيلة مرشد الجماعة والتمرد بل هو الخروج علي مبادئ الجماعة ، وصور ذلك فيقوة شديدة وثورة عارمة - - وعلي أثر ذلك انصرفت من الاجتماع محتجا ، ومن ثم عدت إلي منزلي بمنفلوط وقضيت بقية الليلة أكتب رسالة مطولة لفضيلة الإمام الشهيد أشرح فيها ما حدث في الاجتماع موضحا رأيي بصراحة ووضوح وموقف الأخ الأستاذ / عبد الحكيم عابدين نحوي وكررت طلبي النزول علي رأي الأغلبية مستقبلا ، وما أن وصل خطابي إلي فضيلة الإمام الشهيد حتى اتصل بي هاتفيا من القاهرة معتذرا عما حدث من الأستاذ / عبد الحكيم عابدين ووعدني بأنه سوف يأخذ بما أشرت في خطابي من احترام قرارات الهيئة مهما كانت الظروف وأكبر فيَّ هذا المعني الصريح فسعدت بهذا أيما سعادة وفهمت أن الدعوة الإسلامية بين يدي رجل يعشق الحرية ويحترم الرأي الآخر مهما تعارض مع ما أصدر من قرارات .

فشكرت لفضيلته روح التفاهم العالية وسماحة قلبه الكبير بتصحيح الأوضاع وإرساء قاعدة الشورى واحترامها والعمل بها حفاظا علي وحدة الكلمة وجمع الصف . وفي هذا قوة الجماعات .

الإخوان والأحـزاب

في أوائل الأربعينيات عندما بدأ نجم الإخوان يعلو وكثر عدد من ينتسبون إليهم من جماهير الشعب المختلفة من الطبقة الوسطى والفقيرة بدأ الصراع عنيفا بينهم وبين أكبر حزب سياسي في مصر تولي حكم البلاد علي فترات أكثر من ربع قرن ، وكانت تتمثل قوته في العديد من اللجان والتشكيلات الشبابية المنتشرة في طول البلاد وعرضها وهو الوفد المصري ، حيث أسسه الزعيم الأكبر / سعد باشا زغلول – ومن بعده تولي رئاسته الزعيم رفعة / مصطفي النحاس باشا – وبدأ تاريخ نشاط هذا الحزب وتعلق الأمة به منذ ثورة 1919 – التي قامت تطالب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام ، والذي انسلخ منه بعد ذلك حزب السعديين ورأسه / أحمد ماهر باشا ثم محمود فهمي النقراشي باشا ثم تلاه إبراهيم عبد الهادي باشا ، وكان اسمه حزب السبعة ونصف نظرا لقصر أحد أعضائه ، ثم أخيرا انسلاخ الكتلة الوفدية التي أسسها الزعيم الوطني الكبير / مكرم عبيد باشا ، ولم تكن هذه الانسلاخات بسبب اختلاف في مبادئ الأحزاب العامة لكنه الصراع والتنافس الذي استغله الانجليز والقصر ، وكان ذلك حساب تمزق وحدة أمتهم وضياع شعبهم الأصيل الذي اصطلحت عليه أغراض الاستعمار وأهواء القصر .

وكان الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم الأول : ( مصطفي كامل باشا – ومحمد فريد بك ) الذي لم تكن له شعبية بعد ثورة 1919 وقد ورث مكانته حزب الوفد بعد وفاة مؤسسه . وأخيرا حزب مصر الفتاة الذي أسسه الزعيم الشاب الثائر المرحوم / أحمد حسين الذي جمع أعوانه من بين صفوف شباب الأمة المثقفين .

وقد بدأ الصراع بين الوفد والإخوان المسلمين وذلك بسبب كثرة من خرجوا من الوفد ، وانضموا إلي صفوف الإخوان من الشباب والعمال ومختلف جماهير الشعب ، ولا سيما بعد أن كثرت الصراعات العنيفة بين رجال الأحزاب علي اختلاف اتجاهاتهم فذهب ريحهم وضعفت مكانتهم ولم يبق في الساحة سوي القوتين الشعبيتين الوفد والإخوان ، وقد كثرت حالات الاصطدام بين شباب الإخوان وشباب الوفد في كثير من البلدان ، نذكر منها (بور سعيد – ودمنهور – والمنصورة) وعرضت كثير من القضايا علي المحاكم وكان يقوم بالدفاع عن الإخوان المحامي القدير والمجاهد الكبير الأخ الأستاذ / عمر التلمساني " تغمده الله برحمته " ، ومن أبرز هذه الاصطدامات ما حدث في منفلوط بين لجنة الوفد المركزية وشبابها التي كان يرأسها المرحوم / سعادة محمد الحفني الطرزي باشا عضو الوفد المصري من جانب وشعبة الإخوان المسلمين من جانب آخر فقد حاول الجانب الوفدي حرق دار شعبة الإخوان بوضع فتيل مشتعل في بابها ، كما حاول إشعال النار في مخازن المحاصيل الملحقة بمنزلي أثناء غيابي – بل وصل الأمر إلي إطلاق النار عليّ ليلا أثناء ركوبي سيارتي وأنا في طريقي إلي حقلي الزراعي (الجرون) للمبيت بها وقد دافعت عن نفسي بإطلاق النار من مسدسي المرخص (موزر) علي الجهة الضاربة فسكت الضاربون وانتهي الأمر بسلام .

ومنها الاصطدام الذي وقع للمجتمعين من الإخوان المسلمين في مسجد أبو النصر بمنفلوط (صورة) حيث عقد مؤتمر من أجل قضية فلسطين بحضور السكرتير العام للإخوان المسلمين وبعض كبار قادة الإخوان وكان الاعتداء من الشباب الوفدي بإلقاء الطوب والحجارة علي المسجد ومن فيه وكاد أن يقع اشتباك لولا أن رأي الإخوان تأجيل الاجتماع للمساء ، وقبل بدء الاجتماع نظم الإخوان مظاهرة كبيرة مرت بشوارع المدينة تقودها الهتافات الإخوانية وتحميها الطلقات النارية ، وانتهت بوصولها المسجد ، وقد انضم إليها الكثير من أهالي البلد وتم انعقاد المؤتمر حيث تبودلت الخطب واتخذت القرارات التي تدعو إلي الجهاد من أجل فلسطين المقدسة .

وفي جو هذه الاصطدامات والتحديات أشاع الوفدي ما تناقله الناس من أن الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين سيهاجم مدينة منفلوط علي رأس قوة من الإخوان مسلحة بالمدافع والرشاشات والقنابل اليدوية ، وما أن انتشر هذا الخبر بين الناس حتى نصبت الكمائن في مداخل البلد وملأها الشباب الوفدي بالسلاح واعتلت النساء والأطفال أسطح المنازل مزودين بالطوب والحجارة ، وتصادف ذلك يوم سوق البلد الذي يحضره الكثير من أهالي القرى المجاورة – كل ذلك ليدافعوا عن البلد الذي قيل إن حسن البنا و الإخوان سينسفونها ، وحقيقة الأمر ليس الغرض من هذه الحرب النفسية الدفاع عن منفلوط بل وضع بذور الحقد والكراهية للإمام الشهيد ودعوته .

وأثناء هذه الزوبعة اندفع نحو منزلي بعض فتيان منفلوط يسألونني متحمسين أين حسن البنا ؟ فقلت لهم : منهمكا إنه موجود داخل السلاملك فدخلوا يبحثون عنه فلم يجدوه ، وفي هذه اللحظات اقتحم منزلي معاون بوليس المركز وقال : كيف تدعو الشيخ حسن البنا من غير أن تحظر إدارة المركز بذلك ؟ فقلت له : مكررًا المعاني السابقة من أن هذه إشاعة كاذبة ومقصودة ، الغرض منها إثارة الشعور العام ضد الإخوان المسلمين ومرشدهم .

وعند ذلك كان التوتر قد وصل إلي أقصاه والنفوس امتلأت بالحماس والاستعداد لهذه الحرب المزعومة ، وفي هذا الجو المشحون بالتأهب والترقب سمعوا صباحا وجلبة وغوغاء وسمعوا من قال إن حسن البنا جاء من الجهة البحرية من البلد بكتيبة إخوانية فهزول الجميع – صوت الأصوات المرتفعة لاستطلاح الخبر ومواجهة الأمر فكان الواقع مؤسفا ومجزيا والحقيقة مرة إذ علموا أن أحدهم اشتري بعرورا (جملاً صغيرًا) فر من قبضته وصال وجال في شوارع المدينة المزدحمة بالناس فحدث الهرج والمرح والرعب وظن الأهالي أنها كتيبة الإخوان جاءت تقاتلهم في عقر دارهم .

وهكذا كانت الأحداث مستمرة لا تنقطع وقد أفرد الوفد المصري في جرائده اليومية بابا تحت عنوان " هذه الجماعة تهوى " كله طعن وسباب وقد خصوا مرشد الإخوان المسلمين بالكثير منه وقد استفاد الإخوان الكثير من هذا الصراع فقد ازداد انتشارهم وقويت شوكتهم .

وفي أواخر الأربعينيات بدأ الهدوء يأخذ طريقه بين حزب الوفد و الإخوان ونشأت علاقة طيبة كانت أبلغ صورة لهذه العلاقة الحفل الذي أقيم بدار الإخوان المسلمين بالحلمية لأعضاء وزارة الوفد والذي تبودلت فيه الخطب ، وكان مما قاله السيد/محمد فؤاد سراج الدين سكرتير عام حزب الوفد آنذاك :

( إنني دخلت دار الإخوان وزيرا وخرجت منها جنديا لخدمة مبادئ الإسلام ) ، وقبل ذلك مما يجدر ذكره من الأحداث السابقة التي كانت تحمل معاني الاستهانة والتحقير من شأن الإخوان في نظر حزب الأحرار الدستوريين الذي أطلق عليه الانجليز (حزب أصحاب المصالح الحقيقية في مصر) أنه عندما أجرت حكومة السعديين – بالاتفاق مع حزب الأحرار الدستوريين – انتخابات ثم ترشيح سبعة من الإخوان ومنهم فضيلة المرشد ، وقد لوحظ تدخل الحكومة بالتزوير ، والضغوط المختلفة لإسقاط مرشحي الإخوان ، وكان طبيعيا أنه لم ينجح منهم أحد ، وفي دائرة منفلوط التي كنت مرشحا عنها ، كان المنافس عن هذه الدوائر مرشح حزب الأحرار الدستوريين ، وكان شقيق المرحوم معالي رشوان باشا محفوظ – وزير الزراعة سابقا ، ووكيل حزب الأحرار الدستوريين آنذاك ، وكان التنافس شديدًا ، ووصل ذروته عندما حاول أحد أعوانه آل محفوظ الاعتداء عليَّ بإطلاق الأعيرة النارية عند مروري علي لجان الانتخاب ، وكان من نتائج هذه المحاولة تضافر الكثير من أهالي بندر منفلوط حتى أنهم سهروا إلي منتصف الليل أثناء هذه الانتخابات التي كانت تصادف شهر ديسمبر القارص ، للوقوف بجانبي وتأييدي ، ولما أحسست الحكومة برجحان كفتي في الأصوات ضغطت علي القرى المجاورة لإعطاء مرشح الدستوريين أصواتهم ، وفاز بهذه الطريقة غير الشرعية ، بالرغم من تأييد غالبية بندر منفلوط ، وبعض القرى المجاورة ، مما كان سببا في استردادي تمين الترشيح .

وقد علق فضيلة الإمام الشهيد علي هذه النتيجة بقوله : (إن حكومة النحاس باشا كانت صادقة ، وصريحة حين طلبت مني التنازل عن الترشيح عن دائرة الإسماعيلية لظروف سياسية رأتها ، لكن حكومة السعديين برئاسة أحمد ماهر باشا فضلت التزوير والخداع في تحقيق رغبة المستعمر التي كانت من وراء هذه الإجراءات التعسفية لمرشحي الإخوان المسلمين) .

ومن الوقائع التي تذكر وتدل علي كراهية النقراشي باشا ، للإمام الشهيد ، وحقد حكومة السعديين علي جماعة الإخوان المسلمين ، الحوار الذي دار بينهما إذ استدعي رئيس الحكومة النقراشي باشا ، الإمام الشهيد في مكتبه ، وجاء في الحديث أن قال النقراشي باشا لفضيلة الشهيد : (إن مصر بلدي وتريد أن تأخذها مني يا حسن ..) فرد الإمام الشهيد قائلا : (إن مصر بلدنا جميعا ، وليست ملكا لأحد) وانتهت المقابلة بالتوتر والجفاء .

كما حدث في إحدى المظاهرات الإخوانية ، طلب حكمدار القاهرة اللواء سليم زكي من – الإمام الشهيد ، وقد كنت بصحبته أن يستقل معه السيارة ليفض المتظاهرين ، خشية أن يتفاقم الأمر ، فاستجاب فضيلته ، وركب ثلاثتنا السيارة نحو المتظاهرين ، وأخذ فضيلة الإمام الشهيد يشير إلي المتظاهرين بالانصراف في هدوء شاكر لهم – وفي هذه الأثناء أطلق عيار ناري أصاب يد الإمام الشهيد ، وعلي أثره أسعف في قسم بوليس الموسكي بحضور اللواء سليم زكي – حيث أخرج الرش من يده وهو يبتسم قائلا : الحمد لله لقد تقبل الله عملنا ، فقد أصبنا في سبيله تعالي ، وقد أشيع بعدها أنها محاولة لاغتيال الإمام الشهيد .

ولما نشأت العلاقة الطيبة بين الوفد و الإخوان ، والتي ترجمتها حفلة الشاي التي أقامها الإخوان لوزارة الوفد ، والتي سبق أن ذكرناها آنفا ، كانت تلك العلاقة الجديدة سببا من أسباب تضامن القصر وحزب السعديين وتوافقهم علي بغض جماعة الإخوان المسلمين ، والعمل علي حلها – وإذا أضفنا إلي ذلك تخطيط القصر الذي كان يرأس ديوانه إبراهيم عبد الهادي باشا عضو حزب السعديين لافساح الطريق للهيئة السعدية للتخلص من جماعة شعبية كجماعة الإخوان المسلمين .

ومن المعلوم أن اتسعت حرب فلسطين وكثر متطوعو الإخوان المسلمين وشراء الأسلحة اللازمة لهؤلاء المتطوعين وغيرهم من الفلسطينيين وبدأت محاولة حكومة السعديين في التمهيد للهدنة واقتراح سفراء بعض الدول الأجنبية حل جماعة الإخوان المسلمين وأخذت حكومة السعديين تجمع الأسباب لتحقيق هذه الرغبة ووضعتها في مذكرة ضافية كتبها وكيل وزارة الداخلية في حكومة السعديين السيد / عبد الرحمن عمار ، وكان القرار العسكري المشئوم فحلت الجماعة وأغلقت دورها وصودرت أملاكها ووضعت الحراسة علي أملاك بعض أعضائها وملئت السجون والمعتقلات بالأكثرية من شبابها وشيوخها ، وكان أن أعلنت حكومة النقراشي باشا الهدنة في حرب فلسطين وكانت هذه الهدنة بمثابة طعنة للجيش المصري الباسل علي أرض فلسطين فلقي مصرعه وتولي من بعده الأستاذ / إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الديوان الملكي رئاسة حكومة السعديين – حيث نكل بجماعة الإخوان المسلمين وفي جو هذا التنكيل بأعضاء الجماعة وملاحقتهم في كل مكان للاعتقال والمحاكمة أخذ يختلق لهم الاتهامات وتحاك لهم القضايا الوهمية لسجن قيادات الإخوان .

ففي منفلوط فوجئت بهجوم رجال البوليس علي منزلي وتفتيشه وكنت أحرز مسدسا مرخصا به للدفاع عن النفس ووجدت بجواره طلقة من نوعه فتم تحريز المسدس والطلقة وقدمت للمحاكمة بعد مبيت ليلة في السجن ، وفي اليوم التالي عرضت علي النيابة العسكرية التي قررت الإفراج عني بكفالة مالية قدرها عشرون جنيها وفي اليوم المحدد للجلسة أصدرت المحكمة حكمها ببراءتي .

وخططت الدولة متمثلة في سلطان القصر والحكومة اغتيال الإمام الشهيد وتم ذلك بواسطة رجال وزارة الداخلية أمام المركز العام للشبان المسلمين بالقاهرة . هذه بعض صور الحرب الشعواء التي كانت تعلنها الأحزاب السياسية في مصر ضد جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الشهيد – وانتهت الأحداث بحل الجماعة واغتيال مرشدها رحمه الله تعالي .

الإخوان و فلسطين

الإمام الشهيد حسن البنا بين د. مصطفي السباعي وعمر بهاء الدين الأمير في فلسطين

في سنة 1936 قرر الإخوان جمع التبرعات من كافة أنحاء البلاد من أجل قضية فلسطين وبالفعل وصل إلينا الدفاتر الخاصة بجمع هذه التبرعات والشارات اللازمة وانطلق الإخوان في الصعيد يجمعون ويوزعون الكتب والمنشورات التي تعلن الظلم الفاحش الواقع بإخواننا عرب فلسطين وظلت تعقد المؤتمرات وتبث الدعايات لهذه القضية حتى جاءت سنة 1947 ودعيت من فضيلة الإمام الشهيد لحضور اجتماع في دار المركز العام للهيئة التأسيسية وقد وقف فيه خطيبا الأخ الأستاذ / محمد صبري عابدين سكرتير الهيئة العربية للدفاع عن فلسطين وشرح القضية بإسهاب وطالب الإخوان أن يمدوا أيديهم للمجاهدين الفلسطينيين بالمال والسلاح وأكد في حديثه أن قضية فلسطين تعتبر قضية الإخوان المسلمين لأنها الهيئة الوحيدة التي تعمل الآن من أجل الإسلام والعروبة وعلي أثر ذلك قام المام الشهيد وحثنا جميعا علي تزويد المجاهدين بالمال والسلاح وجددنا البيعة علي هذه المعاني الكريمة ، وتنفيذا لهذا القرار كلفت بعض التجار العرب ممن يقطنون بجوار منفلوط وطلبت إليهم أن يقدموا لي ما يستطيعون جمعه من الأسلحة ، وبعد قليل من الوقت اشتري أحد العرب قافلة كاملة من الأسلحة والذخيرة : حوالي 40 بندقية لانفيلد ، 10 رشاشات ، 20 مسدس ، 20000 طلقة) وبعض الأسلحة الحربية الخاصة بالميدان وفي هذه الأثناء هجم البوليس علي القافلة وقبضوا علي شيخ العرب الحاج / محمد حمد شيخ عرب بني شعران وقدم للنيابة وما أن علمت حتى اتصلت بفضيلة الإمام الشهيد وأخبرته وأعلمته الخير وقلت له إنني مضطر أن أتقدم لزكيل النيابة وأخبره الحقيقة فوافق فضيلته وتقدمت لوكيل النيابة وقلت له إن هذا السلاح ملكي وطلبت إلي الرجل شراءه من أجل فلسطين وما عليك إلا أن تتصل بالمسئولين بالقاهرة ورئيس الحكومة النقراشي باشا والسيد / أمين الحسيني مفتي فلسطين وكنت قد اتفقت مع المام الشهيد علي هذا ليتم الاتصال بهما عن طريقه فقال لي وكيل النيابة إن هذا التعرض من جانبك يجعلك في مركز حرج يضطرني بسببه أن أقبض عليك فقلت لا مانع وفي الحال اتصل بالتليفون برئيس نيابة أسيوط والنائب العام بالقاهرة وتم الاتصال بالجهات المسئولة واطمأن وكيل النيابة واستدرك قائلا لم لم تقولوا هذا قبل أن نقبض علي الرجل ونقدمه للمحاكمة وما أن تحدد ميعاد الجلسة لمحاكمة الرجل حتى أرسل المركز العام للإخوان بالقاهرة الأخ المجاهد الأستاذ محمد طاهر الخشاب المحامي رحمه الله – فحضر معه وترافع في هذه القضية بقوة البرهان ووضوح الحجة علي أن هذا السلاح من أجل الدفاع عن فلسطين الأرض المقدسة فحكمت المحكمة ببراءة شيخ العرب الحاج / محمد حمد مما نسب إليه فدوت قاعة المحكمة بالهتافات الإخوانية وبالتصفيق وكان يوما مشهودا في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين وهي تعمل من أجل فلسطين .

وأرسل السلاح جميعه إلي القاهرة وما أن نشرت هذه الأخبار في الجرائد وكانت قد قدرت جريدة الأهرام السلاح الذي ضبط بحوال 4000 جنيه ، وبناء علي هذا الإفراج قدمت إليَّ أسلحة كثيرة وكنت أتجول في المنيا وبني سويف لجمع الأسلحة وكان يحضر إليَّ الأخ المجاهد / أحمد أبو حسنين ومعه أحد الإخوان فيحملونها في عربات نقل ، وبينما كنت أقوم بشراء كمية كبيرة من السلاح والذخيرة من قرية (صندفا الفار) أن تعرض لي مأمور مركز بني مزار في ذلك الوقت فأهمته بأن هذا السلاح من أجل فلسطين واتفقنا علي ارساله إلي المسئولين بالقاهرة وكانت كل هذه الأسلحة وغيرها تصل إلي المجاهدين عن طريق الحكومة وإن كنا قد علمنا فيما بعد أن الحكومة استولت عليها ولم ترسلها كما كنا نفهم .

ومن أنشطة الإخوان من أجل فلسطين أن فتحوا دورهم في أنحاء البلاد لاستقبال المتطوعين . ففي منفلوط قامت شعبة الإخوان بجمع المال والسلاح وإرسال المتطوعين وكانت دارهم تستقبل المتطوعين من شباب منفلوط والقرى المجاورة ونخص بالذكر شعبة الإخوان ببني مجد ، وقد تولي أحد الأطباء القيام بإجراء الكشف الطبي علي المتطوعين وكنا قد جهزنا مجموعتين من المتطوعين من مركزمنفلوط للسفر إلي فلسطين عن طريق المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة لكن فضيلة الإمام الشهيد رأي تأجيل السفر وانتظار تعليمات أخرى .

ومما يذكر أن حكومة السعديين بدلا من أن تقدر للإخوان جهادهم ونضالهم في سبيل فلسطين المسلوبة لفقت لهم قضية سميت بقضية السيارة الجيب والتي طلب الدفاع فيها شهادة وكيل الجماعة العسكري المجاهد الكبير الأخ الصاغ المرحوم / محمود لبيب – رحمه الله الذي كان يتولي الإشراف علي تجهيز المجاهدين ، وقد أدلي بشهادته أمام المحكمة موضحا دور الإخوان في معركة فلسطين وأنهم كانوا الهيئة المجندة للدفاع عن فلسطين بقوة حماس وشجاعة نادرة وتقديم أغلي المهج والأرواح مما كان مضرب الأمثال ، كما طالب الدفاع أيضا بشهادة نائب الإخوان بمنفلوط فأدليت بشهادتي ببيان حقيقة جمع السلاح الذي توليته وأنه كان من أجل فلسطين الجريحة وذكرت الأنواع الكثيرة من الأسلحة والذخيرة التي أرسلت للمجاهدين علي أرض فلسطين والجهد الضخم الذي بذل في هذا السبيل والأموال الطائلة التي انفقت من جيوب الإخوان في هذا المضمار المقدس العظيم وبعد أن سمعت المحكمة أقوال الشهود حكمت ببراءة الإخوان المتهمين في قضية السيارة الجيب وفي مقدمتهم الأخ المجاهد الأستاذ / مصطفى مشهور – وهكذا انتصر الحق وتوجت أعمال الإخوان بالذكر الحسن بالفخر والاعتزاز بما سجلته حيثيات الحكم القضائي العظيم في قضية السيارة الجيب وكان يرأس المحكمة المستشار العظيم الأستاذ / أحمد كامل – رحمه الله .

وأثناء معارك فلسطين وكنت وقتها بالقاهرة وقد انتشر خبر إحراق المنظمات الإرهابية الصهيونية للمسجد الأقصى ومحاولة إسقاط مدينة القدس في أيديهم – وأن زار فضيلة الإمام الشهيد / حسن البنا وكان لي شرف صحبته سماحة السيد / أمين الحسيني مفتي فلسطين رحمه الله في منزله وذلك للتدبر في الأمر بعد انتهاء هذه الزيارة التي استغرقت حوالي الساعة رأيت وجه الإمام الشهيد مكفهرا ويبدو عليه الاهتمام وقال فضيلته في حزم لابد من قيام الإخوان بجمع أكبر قوة ممكنة منهم ويزودون بالسلاح الكافي ويذهبون إلي القدس وأكون في مقدمتهم للدفاع عنها مهما كلمني الأمر .. فقلت له : إن المهمة التي تريد أن تسافر من أجلها وهي الدفاتع عن فلسطين تحتم عليك البقاء في القاهرة لتشرف بنفسك علي تصريف الأمور ويكفي أن ترسل مجموعات المتطوعين المزودة بالسلاح – لكنه صمت المدبر يرغب الشهادة في سبيل الله وبالفعل سافر إلي أرض المعركة في فلسطين وأدي واجبه رحمه الله رحمة واسعة

هكذا أدي الإخوان واجبهم من أجل فلسطين ولو كان الأمر استمر بجهاد المتطوعين – لكان الحال غير الحال – ولما تقدمت الجيوش العربية بحل هذه القضية والتي كللت بالفشل التام لفساد الأسلحة التي قاتل بها الجيش المصري العظيم ، وبالهدنة المزرية التي أعلنها محمود فهمي النقراشي باشا رئيس حكومة السعديين الذي لقي حتفه ضربا بالرصاص بسبب إعلانه لهذه الهدنة المشئومة .

علي هامش ذكر معركة فلسطين

إنني كنت في صحبة الإمام الشهيد / حسن البنا رحمه الله حينما التقي بالمجاهد الكبير الأستاذ / عبد الرحمن عزام – أمين الجامعة العربية رحمه الل في المفوضية العراقية التي كانت تستقبل المعزين في وفاة المرحوم / تحسين العسكري – وزير العراق المفوض – وقد انتحي المرحوم المجاهد الكبير الأستاذ / عبد الرحمن عزام بفضيلة الإمام الشهيد رحمهما الله ناحية وأسروا كلاما – وبعد أن انتهي الحديث ركبت مع فضيلة الإمام الشهيد سيارته وذكر لي أن الأستاذ / عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية وضع مذكرة رفعت إلي الملك تعتبر تقريرا عن زيارته للدول العربية وانشغالها بمعركة فلسطين وقد سجل فيها ثناء ملوك ورؤساء هذه الدول وشعوبها موقف الإخوان المسلمين الذين أبلوا بلاءً حسنا في فلسطين وبذلوا أرواحهم سخية في هذا السبيل – وعندما قرأ الملك هذه المذكرة طلب من أمين الجامعة العربية أن يطلب من الإخوان المسلمين الاشتراك في حكومة النقراشي باشا بثلاثة وزراء بشرط أن يغيروا اسم جماعة الإخوان المسلمين ويكونوا وزراء تحت أي اسم آخر – وطلب فضيلة الإمام الشهيد من السيد أمين الجامعة العربية إعطاءه مهلة لعرض الأمر علي مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين – وحينما اجتمع المكتب قرروا بالإجماع رفض الاشتراك في الحكم بسبب تغيير الاسم – وانتهي الأمر برفض الإخوان الاشتراك في الحكم .

وهكذا يثبت التاريخ أن الإخوان المسلمين ليسوا طلاب حكم ولا دعاة وزارة – لأن الأمر عندهم أجل وأعظم فهو ربطهم بماضيهم الخالد ودينهم العظيم ليأخذوا مكانهم العالمي تحت قرص الشمس .

التطلع إلي من يملأ مكانة الإمام الشهيد حسن البنا

رحل الإمام الشهيد / حسن البنا إلي الرفيق الأعلى وجماعة الإخوان المسلمين في أشد الحاجة إلي من يملأ مكانته فإن الإمام الشهيد قد تبوأ قمة الاخلاص وتذوق عذوبة الإسلام وارتبط وجدانه الحي بالشعوب المغلوبة وبأفراد جماعة الإخوان المسلمين علي مستوي العالم الإسلامي ، لذلك كان في قلوب الإخوان ملء السمع والبصر والفؤاد ، ومن هنا هداني تفكيري الخاص أن أملأ هذا المكان بسماحة العالم المجاهد الكبير السيد / أمين الحسيني – مفتي فلسطين لمكانته الإسلامية الكبرى ، ولما أعلمته عن صلته الوثيقة ورباطه الخاص بالإمام الشهيد في كثير من الميادين ، والذي حمل لواء الجهاد من أجل الأرض المقدسة وكان قد حكم عليه الانجليز بالإعدام فذهبت إلي فضيلة الشيخ / محمد صبري عابدين سكرتير الهيئة العربية لكنني علمت بغيابه عن القطر .

وهكذا كانت الحيرة تتملكني والقلق يساورني علي من يقود هذه الجماعة التي هي أكبر حركة إسلامية في الشرق الأوسط .

وفي هذه الأثناء زار مصر الدكتور مصطفي السباعي رئيس الإخوان المسلمين في مصر فاعتذر قائلا إن في إخوان مصر من يصلح مرشدا للإخوان المسلمين .

ونرجع قليلا إلي أوائل سنة 1949 حيث كان يتولي شئون الإخوان فضيلة الشيخ / أحمد حسن الباقوري الذي أسند إليه الإمام الشهيد تولي شئون الإخوان في هذه المرحلة سيما وأنه كان ممكن يعيشون في رضا إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس حكومة السعديين حيث سبق التقاؤه بحزب السعديين في مجال الانتخابات .

وقد اتفق علي اتخاذ مكتب الأستاذ فهمي أبو غدير المحامي بميدان فاروق بالعباسية لموالاة قضايا الإخوان الكثيرة التي كانت منظورة في ذاك الوقت ومنها قضية السيارة الجيب وكان يشاركه في هذه الأعمال القضائية الأخ المجاهد الأستاذ / محمد المسماري المحامي رحمه الله والأخ المجاهد الأستاذ / الشهيد إبراهيم الطيب المحامي – تقبله الله في الشهداء ، والأخ المجاهد الأستاذ المرحوم / حسن العشماوي المحامي والأخ المجاهد الأستاذ المرحوم / منير أمين دله – المستشار بمجلس الدولة وأمين صندوق الجماعة ومن هذا المكتب كانت تجمع التبرعات من إخوان الأقاليم وتدرس شئون الإخوان وتعان أسر المعتقلين . وظل الحال علي هذا حتى أفرج عن الأستاذ صالح العشماوي وكان اختبر وكيلا للجماعة علي عهد الإمام الشهيد ، وعندئذ اتجهت أنظار كثير من الإخوان إلي الأستاذ / صالح عشماوي ، وسلم الشيخ الباقوري العهدة إليه واتخذ الأستاذ / صالح مكتبا لمجلة الدعوة كان ملتقي أغلب الإخوان وذلك بجوار وزارة الداخلية بالشارع الذي يربط الوزارة بميدان الحلمية وميدان عابدين أمام مسجد عبد الدايم .

وكان نشاط المكتب إصدار مجلة الدعوة واستقبال الإخوان الوافدين والتصرف في شئون الجماعة وإعانة أسر الإخوان التي أضيرت ، وذلك من الأموال التي كان بعضها يأتي باسم الاستاذ / صالح عشماوي بصفته وكيلا للجماعة وبعضها الآخر باسم الأستاذ / منير أمين دله بصفته أمينا للصندوق .

وتطلع الإخوان يبحثون علي من يقودهم فاتجهت أنظارهم إلي إخوانهم الكبار عسي الله أن يجعل في أحدهم من يملأ مكانة الإمام الشهيد .

فمنهم من رأي في فضيلة الشيخ / أحمد حسن الباقوري علي اعتبار أن الإمام الشهيد أسند إليه شئون الجماعة في أيام محنة حكم السعديين ، ومنهم من اتجه نحو الأستاذ / صالح عشماوي علي اعتبار أنه وكيل الجماعة وصاحب امتياز مجلة الدعوة ومنهم من رأي في فضيلة الأستاذ / عبد الرحمن البنا علي اعتبار أنه أحد مؤسسي الجماعة وشقيق الإمام الشهيد ، ومنهم من رأي في الأستاذ / عبد الحكيم عابدين لدوره المعروف الممثل في هيمنته علي جميع الشعب وإدارة شئون الإخوان ومرافق الجماعة علي اعتبار أنه سكرتير عام الجماعة ، ولا ننسي المرحوم المستشار الأستاذ / منير أمين دله الذي كان أمين الصندوق الجماعة وعلي صلة تامة بالأسر المنكوبة والأفراد المأزومين وبكل ما يعزز كيان الجماعة بالمال والرجال .

وإني أستطيع أن أسمح لنفسي أن أسجل هذه الاتجاهات المتنوعة التي تعبر علي آمال تجيش بنفوس أصحاب هذهلا الاتجاهات ، والتي كانت تضطرب بسرعة كلما قربت السفينة لشاطئ الأمان ، وهذا أمر طبيعي بين أفراد تقاربوا في السن والثقافة وتحمل أعباء الجماعة وكان لابد من كهف تلتجئ إليه هذه الاتجاهات فتأوى إليه وتحتمي به فتنجو بذلك دعوة الإسلام الممثلة في الإخوان المسلمين ، وكان الإخوان يترقبون الوقت الذي فيه تهدأ الأمور وتتجمع القلوب وتستوي السفينة علي بر الأمان .

وظلت حالة الإخوان في بحر الحيرة المضطرب وأخذت هذه الحيرة تدب في نفوس القادة والجنود جميعا وكان كلما اشتد بهم الحال تمنوا علي الله القائد الذي يجمع شملهم ويوحد كلمتهم ويأخذ بالسفينة إلي بر النجاة وكانت مثل هذه المعاني تجول في خاطر الأخ الأستاذ / منير دله فجمع الإخوان الأربعة المشار إليهم في منزله وعرض عليهم حالة الإخوان وما هم فيه من قلق واضطراب وحاجتهم الملحة إلي قائد ومرشد يلتقون عليه وعرض عليهم أيضا أن يختاروا أحدهم مرشدا حتى لا تضيع الجهود وتتفرق الأيدي .

فابتدئ بالشيخ أحمد حسن الباقوري وعرضت عليه قيادة الإخوان .. فقال إنني لاست كفأ لهذا المركز ولا أسعي إليه ، ثم عرضت القيادة علي الأستاذ عبد الرحمن البنا الذي كان قد غير اسمه من الساعاتي إلي البنا تيمنا بالإمام الشهيد .. فقال عندما عرضت عليه أنا من أهلها وأحق الناس بها وإذا عرضت عليَّ أقبلها واستعين بالله علي مهامها ، أما الأستاذ عبد الحكيم عابدين .. فقال أنا لا أسعي إليها ولكن إذا – عرضت علي فأنا جدير بها وكفء لها ، وأخيرا قال الأستاذ صالح عشماوي .. إن هذه المسألة مسألة الإخوان وهم أصحاب الحق الأول وأنا في الوقت نفسه وكيل الجماعة فلا – أستطيع أن أنزل عن هذا الحق إلا إذا رأت الهيئة التأسيسية غير ذلك . من هذا الحديث تبين للأخ الأستاذ / منير دله أن الأربعة الكبار لم يتفقوا علي – أحدهم وكانت الظروف تحتم بإيجاد حل لهذه المشكلة وتوحيد الكلمة لاختيار مرشد للجماعة فاقترح الأستاذ منير دله اسم الأستاذ المستشار / المربي حسن الهضيبي ويظهر أن وجود – الأستاذ حسن الهضيبي ضمن أسرة القانون والقضاء التي كان ينتمي إليها الأستاذ منير دله جعلته – يعرف مكانة الرجل وكفاءته وصلاحيته لمثل هذا المركز العظيم فتقبل هذا الاقتراح الأستاذ الباقوري وقال : إن الأستاذ حسن الهضيبي رجل فاضل ومسلم كريم يصلح لهذا ، وقال – الأستاذ عبد الحكيم عابدين إن الأستاذ حسن الهضيبي كان من الأشخاص القلائل الذين يثق فيهم الإمام الشهيد وأنه كثيرا يلتقي به الإمام الشهيد إذا حزبه أمر ، وأما الأستاذ عبد الرحمن فقال ما معناه إن الذي يختاره الإخوان مرشدا لهم بالإجماع فأنا مستعد للسير وراءه ، لكن الأستاذ صالح قال ما معناه إن هذا الأمر موكول كله للهيئة التأسيسية لأنها صاحبة الرأي الأول والأخير في ذلك . هذا مختصر ما علمته بالسماع .

ومن ثم بدأ انتشار اسم الأستاذ المستشار / حسن الهضيبي في صفوف الإخوان مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين وتقبل جمهور الإخوان اسم هذا المستشار العظيم والقاضي العادل والقانوني المعروف ليكون علي رأس هذه الجماعة ليدفع ما قيل وأذيع عنها من أنها جماعة إرهابية فأخذوا يزورونه أفرادا وجماعات راجين منه قبول هذا المنصب وكان الرجل كثيرا ما يعتذر عن حمل هذا العبء لكبر سنه وضعف صحته ويقول : إنني تحت أمر الدعوة الإسلامية أزجي لأصحابها المشورة الصادقة بعيدا عن الأضواء .

ولكن الإخوان والوا زيارته وأخذت الرسل تنتشر في الأقاليم تحمل اختيار الإخوان الكبار لفضيلته وبالفعل جاءنا في أسيوط الأخ المجاهد الأستاذ / فريد عبد الخالق يحمل معه عريضة كتبت وموقعا عليها من إخوان كثيرين من أعضاء الهيئة التأسيسية لاختيار الأستاذ المستشار / حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين ، وعندما قدم إلي الأخ الأستاذ فريد عبد الخالق العريضة وطلب مني الاطلاع عليها والتوقيع بالموافقة كان لي موقفا أري من الأمانة أن أسجله ، وهو أنني رفضت التوقيع مع أن أغلب أعضاء الهيئة قد وقعوا سيما الممثلين لمنطقة محافظة أسيوط وهم الأستاذ / فهمي أبو غدير المحامي والأخ المجاهد المرحوم الشيخ / أحمد شربت ، والأخ المجاهد المرحوم الأستاذ / حامد شربت والأخ المجاهد الحاج / هاشم خليل وكان رفضي لأسباب واضحة بينَّتها للأخ الأستاذ / فريد وهو أنني لم يسبق لي شرف التعرف بفضيلة الأستاذ المرشد وأن هيئة الإخوان المسلمين هيئة تعمل لدعوة إسلامية وليست كحرب سياسي يختار رئيسها كيفما كان ، بل نظام هذه الجماعة البيعة والميثاق علي تحقيق أهداف الدعوة الإسلامية ، ومن المعروف وجوب التزام العضو بقرارات الهيئة ومرشدها مهما تكلف الإنسان من بذل نفس ومال وإن هذا يقتضي المعرفة الشخصية بل الإيمان العميق بالقيادة حتى تكون الثقة قائمة بين أفراد هذه الجماعة ومرشدها وقلت له بحزم إن الأمانة تقتضي أن أتعرف إلي كل دقيقة من دقائق حياة مرشدنا لأنه ممثل الدعوة الإسلامية وليس كأي أحد من الناس ، ولما كنت كما قلت لم يسبق لي التعرف علي شخصية الأستاذ المرشد فأرجو إعفائي مؤقتا فقال إن أغلبية الإخوان وقعوا فقلت لا بأس علي بركة الله وإني سأظل خادما للدعوة الإسلامية متابعا الأمور عن كثب فإذا اطمأننت وصرت جديرا بإعطاء الكلمة فإنني سأتقدم بنفسي إلي فضيلة الأستاذ المرشد مبايعا ولا أبالي .

وظللت في منفلوط إلي أن تهيأت الظروف لاجتماع الهيئة التأسيسية فوجهت إلي الدعوة لأول اجتماع لها بعد محنة حكم حزب السعديين وحضرت وكان ذلك بمنزل الأخ الأستاذ / منير دله وعرضت فيما عرض مسألة اختيار المرشد وقيل لنا إن فضيلته قبل هذا المنصب ، وطلب بعض المجتمعين حضور فضيلته الاجتماع فاعتذر عن الحضور لمرضه ، وعقب الانتهاء من الاجتماع استقل بعض الإخوان سيارتهم إلي منزل الأستاذ المرشد في الروضة لزيارته فذهبت حتى باب المنزل وبقيت في السيارة الجيب لا أبرحها ولم أجد في نفسي دافعا للصعود مع بقية الإخوان حيث يجلس الأستاذ المرشد الجديد وتحدثت مع نفسي قائلا لها كيف أقابل رجلا لم أوقع باسمي بموافقتي علي اختياره وجلست في السيارة حتى انتهي الإخوان من زيارتهم ونزلوا جميعا وتوجه كل منهم إلي داره وتوجهت إلي منفلوط ، وبعد شهور قليلة وقد سمحت الحكومة بإعادة الإخوان اتخذ الإخوان دارا هي دار الأستاذ صالح عشماوي في حي الظاهر ، وأخذ الإخوان يفدون إليها ويجتمعون فيها كل ليلة سيما يوم الثلاثاء حيث يلقي درس الثلاثاء وكان أن زار الأستاذ المرشد الدار في أول درس من دروس الثلاثاء وقد وجه فضيلته للإخوان قال فيها : (أرجو أن يكون كل واحد منكم قرآنا يسير علي الأرض بالتخلق بأوامره والانتهاء عن نواهيه) وعقب ذلك اجتمعت الهيئة التأسيسية في نفس هذه الدار الاجتماع الأول برئاسة الأستاذ / حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين ورحب الإخوان به وشكرهم فضيلته ودعا الله للجميع بالتوفيق والسداد .

وعرضت مسألة إدراج اسم الأخ الأستاذ الشهيد / عبد القادر عودة ضمن أعضاء الهيئة التأسيسية فاعترض بأنه لم يمض علي عضويته خمس سنوات حسب شروط قانون الهيئة لكنه رحمه الله قدم للهيئة خطابا من الإمام الشهيد يزكيه ويثبت صلته بالجماعة لمدة تزيد عن خمس سنوات فاقتنعت الهيئة بضمه إلي عضويتها .

وفي نفس الجلسة في أواخر ديسمبر سنة 1950 انتخبت هيئة مكتب الإرشاد الجديد في عهد فضيلة الأستاذ المرشد / حسن الهضيبي من :

الأخ الأستاذ الشهيد / عبد القادر عودة.......وكيلا للجماعة

الأخ الأستاذ المجاهد / منير أمين دله........أمينا للصندوق

الأستاذ / عبد الحكيم عابدين............. سكرتيرا عاما للجماعة

الأستاذ / صالح عشماوي.............عضــوا

فضيلة الشيخ / أحمد حسن الباقوري............. عضــوا

فضيلة الأستاذ / عبد الرحمن البنا............عضــوا

فضيلة الشيخ / محمد الغزالي ............عضــوا

الأستاذ الدكتور / عبد العزيز كامل ............ عضــوا

الأخ الأستاذ الدكتور / حسين كمال الدين .........عضــوا

الأستاذ / فهمي أبو غدير المحامي................ عضــوا

الأستاذ الدكتور / محمد خميس حميدة ...........عضــوا

الأخ الأستاذ / مختار عبد العليم المحامي ............. عضــوا

وفيما بعد ضم المكتب إلي هيئته حسب القانون الأخوين :

الأخ المجاهد الأستاذ / فريد عبد الخالق

الأخ المجاهد الأستاذ / الحاج حسني عبد الباقي

ويلاحظ من نتائج انتخاب أعضاء المكتب الجدد أن انتقلت بعض العناصر المهمة من مراكزها التي اشتهرت بها مثل مركز وكيل الجماعة الذي كان يشغله الأستاذ / صالح عشماوي – فقد اختبر بدلا منه الأخ الأستاذ الشهيد / عبد القادر عودة وتخلف الكثير ممن كان لهم شأن في تنظيم الجماعة في عهد الإمام الشهيد الذين كانوا أعضاء بصفتهم رؤساء الأقسام المشرفة علي نشاط الجماعة الإداري .

ومن ثم نشأ تعاطف بين بعض المتخلفين والأستاذ / صالح عشماوي الذي كان وكيلا للجماعة فضلا عن ارتباطه الوثيق ببعض – قيادات التنظيم الخاص الذي له دور فعال في أنشطة الجماعة المختلفة .

ومن هنا اتخذت في المكتب سياسة معارضة كان يتزعمها الأستاذ / صالح عشماوي استقالة فضيلة الأستاذ المرشد لدي صحيفة المصري ، وقد وجه إليه اللوم بسبب هذا التصرف ، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فقد كانت شقة الخلاف تزداد يوما بعد يوم بين الأستاذ / صالح عشماوي وبين الأغلبية الملتزمة مع فضيلة الأستاذ المرشد العام كقائد للجماعة ، ووقعت كثير من الحوادث تؤيد هذه الحالة المؤسفة في أول أيام قيام حركة الضباط .

الإخوان وحركة الضباط

وجاءت حركة الضباط في يوليو سنة 1952 – وقبل أن نتناول مثل هذه الأمور التي كانت موضع خلاف بين قيادة الحركة والإخوان .. لابد لنا من وقفة نذكر شيئا من مراحل انتشار دعوة الإخوان داخل صفوف الجيش .

ففي أواخر الثلاثينيات حيث كانت تلقي الدروس في دار المركز العام للإخوان المسلمين كان يحضرها خليط من أفراد الشعب ومن هؤلاء الكثير من جنود الجيش الذين تأثروا بمعاني الدروس والتوجيهات التربوية التي تدعو إلي الإقدام والتضحية في سبيل العقيدة والوطن ، وكان هؤلاء الجنود توزع عليهم مجلة الإخوان المسلمين التي – كان يحملونها بدورهم إلي داخل الوحدات فكان يطلع عليها بعض الضباط الذين أعجبوا بما ينشر فيها من مقالات وما تناقشه من قضايا تمس الوطن كالاحتلال البريطاني لمصر والبلاد العربية فتغرس في نفوس الضباط والجنود معاني التضحية والفداء وحفظ الكرامة وما إلي ذلك من فضائل الأخلاق التي يجب أن يتحلي بها الجندي ، ولما كانت الوحدات العسكرية تحتفل بالمناسبات الدينية مثل ذكرى الهجرة ، والمولد النبوي الشريف وغيرها من المناسبات التي كان يحتفل بها والتي كان يدعي لها العلماء والوعاظ من رجال الدين ومن بينهم الإمام الشهيد / حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين الذي تميز بأسلوبه العذب وطريقته السهلة في تناول الموضوعات وتوجيهاته الرقيقة في علاج النفوس وجمع القلوب علي الخير ومكارم الأخلاق ، ومن ثم برزت العناصر المتحمسة والتي تمثلت في كثير من الجنود والضباط الذين حرص الإمام الشهيد علي إلحاقهم بجماعة الإخوان المسلمين وضمهم في تنظيمات الجماعة الخاصة تحت إشراف الأخ المرحوم الصاغ / محمود لبيب – الذي تعرف بالإمام الشهيد حوالي سنة 1936 وهو محارب قديم اشترك مع المرحومين اللواء / صالح حرب باشا – وعبد الرحمن عزام باشا في قتال الاستعمار الايطالي علي أرض ليبيا .

ومما يذكر أن الأخ المرحوم الصاغ محمود لبيب كان يوالي أنشطة نشر الدعوة داخل صفوف الجيش ويغذيها بالمنشورات التي كان يقوم علي تحريرها الإخوان المسلمون والتي كانت تناهض الاستعمار وتبث في الجنود روح اليقظة والشجاعة ، وكانت تصدر أولا تحت اسم (الجنود الأحرار) ثم تغيرت إلي إخفاء دورهم ونشاطهم داخل الجيش .

ومن أسبق الإخوان الضباط الذين اندمجوا في صفوف الجماعة الأخ اللواء / أبو المكارم عبد الحي متعه الله بالصحة والعافية وهو يمتاز بقدرته العلمية وكفاءته العسكرية وكذلك الأخ اللواء طيار / عبد المنعم عبد الرءوف رحمه الله الذي ضبط في أثناء هروبه مع القائد الفريق عزيز المصري قبيل واقعة العلمين فحكم عليه ثم أفرج عنه بعد انقضاء مدة الحكم ، وهذا الحادث ألقي ضوءا قويا علي شخصية الطيار كشاب وطني جرئ .

وعلي أثر ذلك في أوائل سنة 1945 التقي بالإمام الشهيد / حسن البنا في المركز العام للإخوان المسلمين بحضور الأخ المرحوم الصاغ / محمود لبيب وكيل جماعة الإخوان المسلمين العسكري ، وقد كان استعداد الأخ الطيار لاستقبال دعوة الإخوان المسلمين طيبا كريما وأخذ علي عاتقه أن يجمع عليها الضباط ، وقد بايع الإمام الشهيد وصدق بيعته وبر بها والحمد لله ، وبعد فترة استطاع الأخ اللواء / طيار عبد المنعم عبد الرءوف أن يكون أسرة من الإخوة الضباط :

جمال عبد الناصروصلاح خليفةوحسين حمودةوخالد محيي الدينوكمال الدين حسينوعبد الحكيم عامروسعد توفيق .

وهؤلاء الضباط كثيرا ما كانوا يلتقون بالإمام الشهيد / حسن البنا جماعات وأفرادا بحضور الأخ الصاغ / محمود لبيب .

ولما رأي فضيلة الإمام الشهيد في هؤلاء الضباط من حماس وتطلع للاستعداد أن يؤدوا البيعة فتوجهوا إلي منزل الأستاذ / صالح عشماوي بالصليبة بحي الخليفة بالقاهرة فأخذوا منه البيعة الخاصة نيابة عن الإمام الشهيد ثم استقبلهم الأستاذ / عبد الرحمن السندي المسئول عن النظام الخاص للجماعة وهنأهم لعقد البيعة .

ومن الضباط الذين انضموا وبايعوا علي دعوة الإخوان المسلمين علي فترات مختلفة الإخوة : حسن إبراهيموحسين الشافعيوصلاح سالموعبد اللطيف البغداديوفؤاد جاسروجمال ربيعوالإخوان الأخيران ومعهما الأخ / حسين حمودة حكم عليهم في قضايا الإخوان سنة 1954 وأمضوا فترة طويلة في السجن تحملوا فيها كثيرا من الشدائد والمحن .

أما " الضابط أنور السادات " فلم يكن معروفا في صفوف الإخوان ومبلغ صلته بالإخوان المسلمين نشأت عندما أتهم في اشتراكه في اغتيال أمين عثمان فقد ذهبت السيدة حرمه الأولي إلي فضيلة الإمام الشهيد في المركز العام للإخوان المسلمين وقدمت إليه أسورتها الذهبية وطلبت منه أن يقرضها مبلغا من المال ، لكن فضيلته رحمه الله رد إليها أسورتها وأعطاها المبلغ المطلوب وقدره سبعون جنيها ، وقرر لها ولأبنائها راتبا شهريا من خزينة المركز العام للإخوان المسلمين ، وقد بدأ نشاط بعض هؤلاء الضباط مع قسم الوحدات العسكرية بقيادة الأخ الضابط الأستاذ / صلاح شادي بالقيام بسلسلة من الأعمال الفدائية قصد منها إقلاق المستعمر وإعلان البغض والكراهية له فقد نفذ هؤلاء الإخوان بعض العمليات نذكر منها :

حادث تفجير فندق الملك جورج في الإسماعيلية – وحادث القطار الانجليزي – الذي كان يحمل الجنود البريطانيين من مصر إلي فلسطين – وحادث محاولة تفجير اللغم في قناة السويس .

كما نسق بعض ضباط الإخوان مع إخوانهم الفدائيين من الإخوان المسلمين قتال الجمعيات الإرهابية الصهيونية مثل : شتيرن والهاجاناه وأرجون وغيرها علي أرض فلسطين المقدسة تحت قيادة الأخ الشهيد فضيلة الشيخ محمد فرغلي – الذي كان يقود المقاومة ضد قوات الاحتلال في خط القناة فأرغب الانجليز وأقلق بالهم حتى أنهم رصدوا مبلغا كبيرا من المال لمن يأتي برأس الشهيد فرغلي حيا أو ميتا ، كما كان يقوم الضابط جمال عبد الناصر – بتكليف من الأستاذ عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص في جماعة الإخوان المسلمين بتدريب بعض الأفراد من المتطوعين الذي كانت ترسلهم جماعة الإخوان المسلمين للقتال في فلسطين .

وكادت القوات المصرية الباسلة تحرز النصر علي قوات العدو الصهيوني في فلسطين لولا أن حكومة النقراشي باشا أمدتها بالأسلحة الفاسدة فكانت الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية . ثم أعقب ذلك إعلان الهدنة المشئومة .

وفي موجة الغليان التي كانت تجري في عروق هؤلاء الضباط علي أثر تلك الخيانة فكروا في عمل تغيير الحكم في البلاد .

وعلي أرض المعركة كان أول اجتماع لدراسة هذه الفكرة في خيمة فضيلة الشيخ فرغلي قائد الفدائيين من الإخوان المسلمين ، ثم استؤنفت اللقاءات والاجتماعات عند عودة الجميع إلي أرض الوطن . .. ولكن ما لبث الحال طويلا فقد عمت البلاد موجة عارمة من الحوادث والاضطرابات فحلت جماعة الإخوان المسلمين وأغلق دورها واعتقل الكثير من شبابها وازدادت الأحوال سوءًا باغتيال حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا الإمام الشهيد حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ، فضلا عن العديد من قضايا الإخوان المنظورة أمام المحاكم وانشغال الإخوان باختيار مرشدهم الجديد .

كل تلك الأحداث الضخمة لم تصرف الإخوان في ضرورة القيام بعمل تغيير في البلاد بل سارعت في تنفيذ الفكرة لإصلاح الفساد الذي استشري وعم . وهنا يحسن بنا أن نرجع إلي أواخر سنة 1950 قبل وفاة الأخ المرحوم الصاغ / محمود لبيب – المسئول عن ضباط الإخوان في الجيش وقبل اختيار المرشد الجديد ففي تلك الفترة لاحظ اللواء طيار عبد المنعم عبد الرءوف أن الضابط جمال عبد الناصر يجمع زملاءه علي اختلاف مبادئهم وآرائهم علي القيام بالحركة تحت اسم حركة الضباط الأحرار فاعترضه الأخ عبد المنعم عبد الرءوف قائلا له : (إنها بيعة يجب أن تظل للإخوان و الإسلام) ولذا يلزم أن يكون الضابط جمال عبد الناصر لم يوافق علي ذلك فاختلفا ، واتفقا علي عرض الأمر علي الأخ الصاغ محمود لبيب الذي كان طريح الفراش يشكو مرض الموت ، فذهبا إليه وعرضا الأمر عليه فحاول أن يوفق بينهما فلم يستطع فخرجا مختلفين متمسكا كل منهما برأيه محتفظا به ، وهنا لم يَفُتْ الأخ المرحوم الصاغ محمود لبيب أن يذكَّر الضابط جمال عبد الناصر بيعته للإخوان المسلمين .

والجدير بالذكر أن الضابط جمال عبد الناصر حاول بعد ذلك أن يثني الأخ اللواء طيار عبد المنعم عبد الرءوف عن موقفه الحازم فأرسل إليه الضابط عبد الحكيم عامر لإقناعه بالعدول عن رأيه ، لكنه أصر وأكدا علي ضرورة أن تكون الحركة باسم ( الإخوان المسلمين ) .

وفي أواخر سنة 1951 تم اختيار الأستاذ / حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين وعندئذ بدأت جماعة الإخوان المسلمين في مزاولة نشاطها ، فدب من جديد نشاط الإخوان داخل الجيش بالتجمع والارتباط علي تنفيذ فكرة التغيير ، وفي خارج الجيش استأنفت اللقاءات بين ضباط الإخوان وأخوانهم من المدنيين فكانت هذه الاجتماعات تتم تارة في منزل الأخ الأستاذ / عبد القادر حلمي ، وتارة أخري في منزل الأخ الأستاذ / منير دله – أمين صندوق جماعة الإخوان المسلمين وكان يحضر هذه الاجتماعات معهم بعض الإخوة المسئولين مذكر منهم : الأخ الأستاذ / صلاح شادي المسئول عن الوحدات العسكرية في جماعة الإخوان المسلمين ، والأخ الأستاذ / حسن العشماوي المحامي ، والضابطك جمال عبد الناصر بصفته أحد المسئولين عن ضباط الإخوان في الجيش ، وكانت هذه المجموعة تربطها أواصر الإخوة والمحبة لتعاونهم في بعض العمليات الفدائية السابقة التي عمقت هذه العلاقة .

وقد روعي في اختيار هؤلاء الإخوة قلة العدد وسرية الاجتماع لعظم المهمة وخطورتها ومتطلباته ويناقشون مراحل تنفيذه ويبحثون جميع الجوانب التي يشملها التغيير من القضاء علي الفساد في البلاد والتخلص من الاستعمار وأعوانه والإطاحة بالملك رأس الفساد في البلاد ، وإصلاح الحالة الاجتماعية وتحرير اقتصاد البلاد من أيدي المستعمر ، وإقامة حياة نيابية سليمة تقوم علي دعامتها مبادئ الحق والعدل والمساواة بين الناس في ظل مبادئ الإسلام الحنيف ووضعوا كل الخطوط العريضة لأوجه التغيير في كيفية الحكم واحتمال تدخل الدول الأجنبية وبحثوا ذلك بالتفصيل ، علي أن يعتمدوا في تنفيذ هذه الحركة وما يصحبها من تغييرات علي شعبة الإخوان المسلمين .

ولما تهيأت الظروف المناسبة وتجمعت للقيام بعمل التغيير المنشود ، توجه الضابط جمال عبد الناصر إلي الأخ الأستاذ / صلاح شادي في منزله وأخبره بضرورة سرعة التنفيذ خوفا من اكتشاف أمرهم .

فأمهله الأخ الأستاذ / صلاح شادي حتى يستطيع رأي فضيلة المرشد الموجود بالإسكندرية ، وأثناء وجود الضابط جمال عبد الناصر بمنزل الأخ الأستاذ / صلاح شادي حضر الأستاذ / عبد الرحمن السندي ومعه بعض الإخوة ليخبر الأخ صلاح شادي ببوادر الاستعداد لحركة داخل الجيش فأخفي عنهم وجود الضابط جمال عبد الناصر معه إمعانا في السرية التامة والكتمان لخطورة الأمر وجسامته .

وعلي أثر مغادرة الضابط جمال عبد الناصر المنزل اتفق الأخ الأستاذ / صلاح شادي مع الأخوين الأستاذ / حسن العشماوي المحامي ، والأستاذ / عبد القادر حلمي أن يسافر فورا إلي فضيلة المرشد ليحملا إليه الخبر ويشرحاه له . .. فحذرهم ونصحهم بتمركز الإخوان علي خط القنال تحسبا من انقضاض القوات البريطانية لإحباط الحركة ، ووافق علي تنفيذها وصدق عليها مؤكدا ضرورة الالتزام بما سبق الاتفاق عليه معهم من تحكيم شرع الله ، وفوضهم في إصدار التعليمات – اللازمة لجميع الإخوان في داخل الجيش وخارجه لتنفيذ ما يصدر إليهم من أوامر .

وعند عودة الأخوين من الإسكندرية بعد مقابلة فضيلة المرشد العام ، حضر الضابط جمال عبد الناصر لمنزل الأخ الأستاذ / صلاح شادي يستطلع الخبر ويتعرف علي رأي فضيلة المرشد فأخبروه بكل ما حدث ونقلوا إليه تأكيد فضيلة المرشد علي تحكيم شرع الله ، وموافقته علي تنفيذ الحركة وتصديقه عليها . وهنا ذكَّر الأخ الأستاذ / صلاح شادي الضابط جمال عبد الناصر بما سبق أن اتفقوا عليه بضرورة تنفيذ شرع الله وقرأ معه فاتحة الكتاب وأشهدوا الله علي ذلك .

وفاء يقابل بنُكث !

وفي يوم 23 من يوليو سنة 1952 الميعاد المحدد والمتفق عليه للتنفيذ صدرت الأوامر لشعب الإخوان في القاهرة للمحافظة علي المنشآت العامة وكذلك صدرت الأوامر لضباط الإخوان في الجيش بتنفيذ ما يصدر إليهم من أوامر وتعليمات وقد تم كل ذلك بحماس ، ترجم ذلك في المظاهرات الضخمة التي كان يقودها الإخوان في أنحاء القاهرة استقبالا للحركة وتأييدا لها .

وبذلك نجحت الحركة وظهرت . ومما يذكر أن الضابط جمال عبد الناصر أول من هنأ الأخ المرحوم الأستاذ / حسن العشماوي المحامي بنجاح الحركة – وطلب إليه أن يرسل أحد الإخوان إلي منزله ليطمئن أسرته .

وبعد نجاح الحركة أرسل فضيلة المرشد إلي الضابط جمال عبد الناصر يطلب إليه ضرورة إخراج الملك من البلاد ، وفي الحال استدعي الأخ اللواء طيار / عبد المنعم عبد الرءوف من العريش وكلف بناء علي رغبة فضيلة المرشد بإخراج الملك من البلاد فتوجه علي رأس قوة لمحاصرة قصر رأس التين لإجبار الملك علي مغادرة البلاد – وكان ذلك في يوم 26 من يوليو سنة 1952 – وفي ذلك التاريخ نشرت جريدة الأهرام توديع بعض ضباط الحركة برئاسة اللواء / محمد نجيب للملك أثناء مغادرته البلاد من ثغر الإسكندرية علي اليخت الملكي (المحروسة) وقد سجلت جريدة الأهرام ما جاء علي لسان الملك قوله إلي الضباط : (إن مهمتكم شاقة وإنني أعلم أن الذين قاموا بهذه الحركة شرذمة من الإخوان المسلمين) .

وفي الأسبوع الأول من قيام الحركة التي استقبلها الشعب بحماس بالغ وارتياح منقطع النظير ، حضر فضيلة المرشد للقاهرة وتم أول لقاء بينه وبين الضابط / جمال عبد الناصر – المسئول عن ضباط الإخوان داخل الجيش وقائد الحركة في منزل الأستاذ / صالح أبو رقيق ، وبحضور الأخ الأستاذ / حسن العشماوي المحامي وبعد تبادل التهنئة بنجاح الحركة قال فضيلة المرشد للضابط جمال عبد الناصر يحسن أن تقوموا ببعض الاصلاحات السريعة التي تدعو إليها مبادئ الإسلام خصوصا والحركة الآن في أولي خطواتها وأوج نجاحها ، وفي مثل هذه الحالة يزداد التفاف الشعب حولكم ولا يستطيع أحد أن يعترض طريق الإصلاح ، وفي الوقت نفسه تكونون قد أديتم للبلاد والعباد أجل الخدمات .. فرد الضابط جمال عبد الناصر قائلا : طبعا سنقوم بعمل إصلاحات كثيرة – لكن تدع ما يتصل بالإسلام الآن . فقال فضيلة المرشد : أليس في نيتكم خدمة البلاد بمنهج الإسلام كما اتفقتم مع إخوانكم من قبل ؟! فرد الضابط جمال عبد الناصر : أنا لم أتفق مع أحد علي هذا .

وهنا سأل فضيلة المرشد الأستاذ / حسن العشماوي المحامي ألم تتفقوا علي ذلك يا حسن ؟ فأجابه : نعم فقد اتفقنا جميعا علي ذلك – وسرد من الوقائع ما يثبت ذلك .. لكن الضابط جمال عبد الناصر نفي ذلك بتاتا قائلا : نحن لا نقبل وصاية علينا من أحد – فتعجب فضيلة المرشد في حزن وقال حيث إنكم لم تتفقوا علي شيء فيحسن عدم الكلام ، وختم علي هذا اللقاء الأول صمت عميق .. وانتهي اللقاء بفتور بالغ .

غـدر وخـداع !

وتركت هذه الزيارة انطباعاتها المؤلمة علي نفس فضيلة المرشد ومن معه من الإخوان فاحسوا بخيبة الأمل عندما تنكر الضابط جمال عبد الناصر عن ارتباطه تنفيذ ما سبق أن اتفق عليه .. وكانت الصدمة عنيفة عندما شعروا لأول مرة يتخلي قائد الحركة عن مبادئ الجماعة التي كان يلتزم بها من قبل . .. وكان هذا اللقاء الأول المفجع بين فضيلة المرشد والضابط جمال عبد الناصر الذي شرد أخيرا من حضانة الإخوان المسلمين . ... وهكذا اعتبر هذا اللقاء بمثابة عصا التحويل التي بها انطلق قطار الحركة مسرعا لا يلوي علي شيء تاركا العاصمة الضخمة الرابضة علي أرض الوطن محط الأمل ومسئول الرجاء – الممثل في مبادئ جماعة الإخوان المسلمين .

وعقب مغادرة الضابط جمال عبد الناصر مكان اللقاء ذكر فضيلة المرشد للإخوان الحاضرين أن هذه الحركة لا تعمل في ظل الإسلام ، ونصح بالتعاون معها في سبيل مصلحة البلاد ، وحذر من تصدع وحدة الصف خوفا من تدخل الانجليز وعودة الملك .

ولم يشأ فضيلة المرشد أن يذيع ذلك بين صفوف الإخوان . من هنا بدأ الضابط جمال عبد الناصر يخطط للتخلص من رباط الإخوان المسلمين تدريجيا بل وقرر تصفية الجماعة نهائيا علي مراحل ، استجابة لعقدة الذنب بعد تحلله من البيعة – وتطمينا للمستر كافري الذي أيد الحركة في ساعات ميلادها الأولي أملاً في تنفيذ سياسة أمريكا في الشرق الأوسط .

ومما يجب ذكره في سرد هذه الوقائع أن الضابط جمال عبد الناصر كافأ هؤلاء الإخوة الذين خططوا وشاركوا معه في الإعداد للقيام بالحركة ، وعلي رأس هؤلاء جميعا فضيلة المرشد الراحل الأستاذ / حسن الهضيبي – قاتئد الجماعة الذي تمت كل هذه الخطوات علي يديه وتحت رعايته وبموافقته ، فقد حكم عليه بالإعدام واستبدل به السجن المؤبد ، وكذلك الأخ الأستاذ / صلاح شادي صاحبه في الجهاد والذي وضع الضابط جمال عبد الناصر أسرار الحركة في ذمته .. فقد حكم عليه بالإعدام وبدَّل بالأشغال الشاقة المؤبدة ، وكذلك الأخ الأستاذ / حسن العشماوي المحامي أحب الإخوان إلي نفسه والذي اختاره الضابط عبد الناصر ليبلغ أهل منزله بنجاح الحركة ويطمئنهم عليه لثقته فيه ولقربه منه .. فقد حكم عليه بالإعدام وشاءت إرادة الله أن يهاجر البلاد ويلقي ربه بعيدا عن الوطن ، وكذلك الأخ اللواء طيار المرحوم / عبد المنعم عبد الرءوف والذي كان له فضل الحاق الضابط عبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمين والذي أجبر الملك علي الخروج من البلاد بشجاعته النادرة وجرأته الفائقة .. فقد حكم عليه بالإعدام فخرج من البلاد وذاق مرارة الغربة وحمل مشاقاتها واشتركت عليه الأمراض رحمه الله تعالي ، وكذلك الأستاذ / صالح أبو رقيق الذي فتح بيته لاستضافة الضابط جمال عبد الناصر في أول لقاء بفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين بعد نجاح وقيام الحركة بأسبوع .. فقد حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة .

هكذا رد الضابط جمال عبد الناصر الجميل لقائده مرشد الجماعة ولإخوانه – وبهذه الخسة عاملهم متنكرا للشرف العسكري مطيحا بمبادئه .

والآن بعد أن ذكرنا نبذة عن تاريخ انتشار دعوة الإخوان المسلمين في صفوف الجيش ومتى اعتنق ضباط الحركة مبادئ [[جماعة الإخوان المسلمين]] وبايعوا عليها وكيف انخرطوا في تشكيلاتها الخاصة . ... نعود فنقول جاءت حركة 23 يوليو سنة 1952 وحالة الإخوان في داخلهم كما وصفنا آنفا . واستقبل الإخوان قادة وجنودا الحركة بتفاؤل وتأييد لإحساسهم العميق بصورة الفساد المستشري في أنحاء البلاد والاضطهاد الشديد الذي أصاب جماعة الإخوان المسلمين في العهود الماضية وأودت بحياة مرشدها الإمام الشهيد / حسن البنا أملا في إصلاح الحالة وتغيير طريقة الحكم في البلاد ، ولكن القدر لم يمهل البلاد طويلا فما لبث هذا الأمل أن ضعف في نفوس الإخوان عندما سمعوا من الضابط جمال عبد الناصر قائد الحركة الحقيقي في خطبته في الحوامدية قولته : ( لا تكونوا كالببغاوات ترددون مالا تعقلون ) موجها كلامه إلي جماهير الشعب الذين كانوا يستقبلونه بهتافات الإخوان المعروفة : (الله أكبر .. ولله الحمد .. الله غايتنا .. والرسول زعيمنا .. والقرآن دستورنا) وبهذا التصريح ألقي قائد الحركة القفاز في وجه الإخوان المسلمين ، وبعد صدور هذه البادرة السيئة من قائد الحركة وقعت كثير من التحديات سنتناولها فيما بعد .

والمتابع المنصف لمجري الأحداث يسجل علي الضابط جمال عبد الناصر أنه كان يتعامل مع الإخوان المسلمين مستوحيا مبادئ (ميكيافيللي) التي لا تقيم وزنا للشرف والنزاهة والصدق .. بل عنده أن الغاية تبرر الوسيلة – بينما كان الإخوان يتعاملون معه من منطلق مبادئ الإسلام السمحة مع الصدق وحفظ الكرامة تاركين لله عاقبة الأمور ، وسيتضح هذا الأسلوب من خلال كثير من الأحداث التي وقعت بين قائد الحركة والإخوان ، سنذكر البعض منها علي سبيل المثال وليس علي سبيل الحصر .

فمثلا أولي تلك الأحداث هي طلب قائد الحركة اشتراك الإخوان في الوزارة وكل ما دار حول ذلك المطلب لا أذكره بالتفصيل لأنني لم أكن وقتها عضوا بمكتب الإرشاد الأول للإخوان المسلمين في أول عهد فضيلة المرشد الراحل / حسن الهضيبي - رحمه الله .. ولكن يحكم موقعي في جماعة الإخوان المسلمين ومتابعتي للأحداث عن كثب أستطيع أن أقول إن عرض مسألة اشتراك الإخوان المسلمين في الوزارة لم يكن إلا عرضا صوريا .. إذ أن ذلك لم يكن من الضابط عبد الناصر عن حسن نية ولا صدق طوية لأنه يعلم تماما من خلال مشاركته للجلسات التحضيرية التي سبقت الإعداد للقيام بالحركة أن الإخوان لا يرغبون الاشتراك في الحكم لأن ذلك قد يشكل خطرا علي الحركة وهي في مهدها .. إذ أن مريكا التي أبدت الحركة قبل مولدها تحقيقا لأهداف سياسية معينة ، لا ترضي عن ذلك .

ولكن حقيقة الأمر أن الضابط جمال عبد الناصر أراد الإغراء بالتلويح للاشتراك في الحكم لأنه في حاجة إلي تأييد السواد الأعظم من الشعب الذي يتعشق مبادئ الإخوان المسلمين .

وهو يريد من وراء ذلك أن تبقي صورة العلاقة الحسنة بينه وبين الإخوان حتى يحين الوقت للانقضاض عليهم للتخلص منهم .. كما وأن الأسلوب الذي اتبع في هذا الذي اتبع في هذا الشأن كان غير سليم – فبينما طلب الضابط عبد الناصر من الإخوان اشتراكهم في الحكم لم يتمهل وينتظر رد الإخوان الممثل في قرار مكتب الإرشاد بل استعجل وألح في ضرورة سرعة الرد ، فالوقت عنده لا يحتمل التأخير ، يبغي من وراء ذلك إحراج فضيلة المرشد .. فاضطر فضيلة المرشد إلي ترشيح الأخوين الأستاذ / حسن العشماوي المحامي والمستشار الأستاذ / منير دله المستشار بمجلس الدولة ، وكان فضيلة المرشد في هذا الاختيار رجلا حصيفا ومتعاونا صادقا فالأخ الأول من أحب وأقرب الإخوان إلي قلب الضابط جمال عبد الناصر ، والأخ الثاني كان العنصر الهام في اللقاءات الأولي الطويلة للتحضير للحركة – فقد كان منزله كعبة للضابط عبد الناصر وزملائه من الضباط – وهكذا كانت العلاقة بينهم جميعا وثيقة والصلة عميقة .

ومن الطبيعي أن يرشح فضيلة المرشد العناصر المناسبة – للاشتراك في تحمل مسئولية الحكم لأن فضيلته أعرف الناس بكفاءات الإخوان المختلفة وأنه هو المسئول عن كل ذلك .

وقد تأسي فضيلة المرشد في ذلك برسول الله صلي الله عليه وسلم حينما بعث وهو في المدينة بسيدنا عثمان بن عفان إلي مكة يسترجع آمانات المسلمين المودعة لدي زعماء قريش ، وعاد بها سالما ، وكان هذا – الاختيار من رسول الله صلي الله عليه وسلم مناسبا ومحققا للغرض – فقد كان سيدنا عثمان ينتسب إلي بني أمية ذات القوة والمتعة التي يحسب لها حساب في مكة . ... وبذلك فقد نجحت سفارته وكلل عمله بالنجاح – وذلك بفضل وضع الرجل المناسب في المكان المناسب . ... وفي هذه الأثناء اتخذت فيها هذه الخطوات الإيجابية من جانب الإخوان اتصل الضابط عبد الناصر مباشرة بفضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري وتم اللقاء بينهما وأخبره باختياره له وزيرا فقبل فضيلته المنصب شاكرا (لواهب الفضل ومجري النعم) .

تبعا لهواه وجريا وراء لعاعات الدنيا دون الرجوع إلي مرشد الجماعة الذي طالما قبل يديه الكريمتين صباح مساء ، وبذلك خلع فضيلة الشيخ بيعة الإخوان المسلمين وحل الربقة من رقبته ، وأسدل علي فعلته هذه ستار الاستقالة من جماعة الإخوان المسلمين ، ورغم هذه التضحية الكبرى لم يسلم الشيخ من إيذاء الضابط عبد الناصر له – وهكذا من شحذ سيف البغي قتل به .

ولما أعلنت الاستقالة في الصحف ، وكان ذلك علي غير رغبة الإخوان ، ودار حولها ما قيل من أن الإخوان لا يتعاونون مع الحركة زار فضيلة المرشد وبعض كبار الإخوان الشيخ الوزير في مكتبه ليبددوا ما أثير . ... في الوقت نفسه رفض الضابط عبد الناصر ترشيح الأخوين الأستاذ حسن العشماوي المحامي هذا التناقض فاضطر لاتخاذ قراره برفض الاشتراك في الحكم . ... بهذه الخدعة الماكرة عرض الضابط عبد الناصر مسرحية اشتراك الإخوان في الحكم ، وهذه هي الحقيقة المجردة .

الإخوان وقانون الأحزاب

والمسألة الثانية الخاصة بقانون حل الأحزاب واستبعاد تطبيقه علي جماعة الإخوان المسلمين هي لكي يوهم الضابط عبد الناصر جمهور الإخوان أنه مازال منهم أو علي الأقل عطوفا عليهم ليظل الخيط الرفيع الذي يربطه بالإخوان المسلمين قائما إلي أن تتجمع أمامه الظروف وتتهيأ ليتخلص من هذا الخيط نهائيا . ... وثالثة هي مسألة التفاوض مع الانجليز وما قيل حولها من لقاء فضيلة المرشد بالمستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية دون علم الضابط عبد الناصر .

وحقيقة هذه المسألة التي يعرفها جميع أعضاء قيادة الحركة قبل غيرهم هي : عندما رغب الضابط عبد الناصر عقد اتفاقية الجلاء مع الإنجليز والتي رحب بها الإنجليز بناءً عن ضغوط من أمريكا التي تعمل علي اتساع سيطرة نفوذها في الشرق الأوسط ، فلما رؤى تنفيذ هذه الرغبة اتصل الانجليز بالإخوان المسلمين لمعرفة رأيهم في هذا الشأن ، علي اعتبار أنها الهيئة التي تمثل القاعدة العريضة من الشعب ، وعلي ذلك طلب الإنجليز تحديد ميعاد للقاء فضيلة المرشد بالمستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية فكلف فضيلته علي بينة من الأمر .

وفي 20 من فبراير سنة 1953 حضر إلي منزل فضيلة المرشد الضابط عبد الناصر وتحدثا سويا فيما يجب أن يقال للمستر إيفانز حول موضوع الاتفاقية بالتفصيل وأوضح فضيلة المرشد رأي الإخوان في الجلاء بدون قيد أو شرط ، واتفقوا علي ذلك . ... وفي 23 من فبراير سنة 1953 أي بعد يومين من لقاء فضيلة المرشد بالضابط عبد الناصر تم اللقاء بين فضيلته والمستر إيفانز بمنزل فضيلة المرشد ، وأخبره رأي الإخوان في الجلاء عن البلاد وذلك بدون قيد أو شرط ، وكان رأي فضيلة المرشد في أمر الجلاء حاسما ليدعم موقف المفاوض المصري ، وكان يمكن للمفاوض المصري أن يستفيد من هذا الموقف !! . ... والعجيب أن الضابط عبد الناصر يعلن بعد ذلك أن لقاء فضيلة المرشد بالمستر إيفانز تم من وراء ظهر قيادة الحركة – ليصور أن الإخوان علي صلة سرية بالانجليز لتشويه سمعة الإخوان المسلمين والتشهير بمرشدهم . هذه الجماعة التي سجلت مواقفها التاريخية بالدماء ضد الانجليز علي أرض فلسطين وفي خط القناة .

هكذا كان الضابط عبد الناصر يغير الحقائق ويقلب الأوضاع ترجمة لما تحمله حنايا نفسه وسويداء قلبه من الحقد والبغض الشديدين للإخوان المسلمين وذلك بسبب عقدة الذنب من يوم أن تحلل من بيعته وتنكر لدعوتهم .

ومن المؤسف أن هذه المغالطات التي كان يعلنها الضابط عبد الناصر وأبواقه كان لها صدي في التأثير في بعض نفوس الإخوان قليلي التجربة في الميادين السياسية ، هذه النفوس الضعيفة التي لم تقو علي تحمل أعباء الدعوة وفي حاجة إلي المزيد من الصبر وجهاد النفس والعزوف عن بريق الدنيا وجاه السلطان ، وكانت هذه المغالطات يصحبها الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فكثيرا ما كان يعلن الضابط عبد الناصر : (أننا لا نريدها ثورة عرجاء بل تريدها حمراء) . كل هذه المعاني كانت تلقي ضلالا من الخوف والرعب والفزع من هول – ما يتهددها ، وظهر هذا جليا في الإخوة الذين كانت تربطهم بجهاز الحكومة وظائف العيش والرزق والمنافع الشخصية .. فقد كانوا يروجون لحساب الحكومة ويشيعون ما تردده أبواق الضابط عبد الناصر في وسط الإخوان مع تظاهرهم بالولاء للجماعة إمعانا في التضليل وبث روح الحيرة والقلق في نفوس الإخوان .. .. ولو أنهم ثبتوا ورجعوا إلي قيادتهم لكان خيرا لهم .

مكتب الإرشاد الثاني

فلما أجريت انتخابات مكتب الإرشاد الثاني في عهد فضيلة المرشد الراحل الأستاذ / حسن الهضيبي في ديسمبر سنة 1953 – أظهرت نتيجة الانتخابات معاني كامنة في نفوس أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين ، وكانت هذه المعاني تؤكد وجوب ربط العناصر القوية في شكل جماعي تحت قيادة المرشد العام للجماعة بشكل طمأن النفوس وطوح بكل فكرة تقول بضد هذا الاتجاه – وكانت النتيجة الطبيعية لهذا إبعاد هؤلاء عن عضوية مكتب الإرشاد – حيث أسفرت نتيجة الانتخاب علي اختيار الإخوة :

الدكتور / محمد خميس حميدة وكيلا للجماعة

الأستاذ / عبد الحكيم عابدين .................. سكرتيرًا

الدكتور / حسين كمال الدين................ أمينا للصندوق


الأستاذ / عبد القادر عودة.............. عضـوا

الدكتور / كمال خليفة.............. عضـوا

الأستاذ / عمر التلمساني ........... عضـوا

الأستاذ / عبد الرحمن البنا.............. عضـوا

الأستاذ / عبد المعز عبد الستار............. عضـوا

فضيلة الشيخ / أحمد شريت .............. عضـوا

فضيلة الشيخ / محمد فرغلي ...............عضـوا (عن منطقة القناة والجزء الشرقي من الدلتا)

الأستاذ / عبد العزيز عطية..................... عضـوا (عن وسط وغرب الدلتا)

الشاهد علي الطريق / محمد حامد أبو النصر...........عضـوا (عن الوجه القبلي)

وبحكم اللائحة الداخلية للهيئة التأسيسية ضم المكتب إلي عضويته كلا من الإخوة .

الأستاذ / منير أمين دله

الأستاذ / صالح أبو رقيق

الأستاذ / البهي الخولي

وابتدأ المكتب يؤدي عمله في ثقة واطمئنان ، ورغم الأحداث التي وقعت بين المكتب السابق وقيادة الحركة والتي أحدثت توترا بسبب رفض الإخوان الاشتراك في الحكم وغيرها من الأمور – فقد رأي الجانبان بمناسبة انتخاب المكتب الجديد أن تبدأ صفحة جديدة حافلة بروح المودة والرباط الصادق من أجل مصلحة البلاد ، وكانت الحكومة في حاجة إلي مثل هذه المعاني استعدادا لدخول المفاوضات مع الانجليز .

لقاء أبناء أسيوط في منزل عبد الناصر

وكان من بواكير اللقاءات التي تمت هي دعوة الضابط عبد الناصر قائد الحركة لفضيلة الشيخ محمد فرغلي ومعه (الشاهد علي الطريق) محمد حامد أبو النصر لتناول الإفطار في منزله بمنشية البكري، وفي الساعة السادسة صباحا الميعاد المحدد لهذا اللقاء – توجهنا إلي منزله فوجدناه في انتظارنا في حجرة الاستقبال وبعد قليل جلس ثلاثتنا حول مائدة صغيرة أعدت بإفطار مبسط عادي وأذكر أن دارت بيننا أحاديث بدأها الضابط عبد الناصر – من أهمها :

- العمل علي إزالة آثار العوائق التي وقعت بين قيادة الإخوان وقيادة الحركة ، كما كانت مسألة إصلاح الأزهر الشريف منار الإسلام وما يجب أن يكون عليه من كفاءة حتى يؤدي رسالته .. وهنا لوح الضابط عبد الناصر بإشارات خفيفة حول إسناد مشيخة الأزهر لفضيلة الشيخ فرغلي ، كما تناول الحديث إرسال بعثات إسلامية من الإخوان المسلمين إلي جنوب أفريقيا لحاجة شعوبها إلي الإسلام وقد لاحظت علي هذا اللقاء أمرين :

أحدهما : أن الدعوة كانت موجهة لفضيلة الشيخ فرغلي ولي علي اعتبار أننا جميعا من أبناء محافظة أسيوط – وبهذا كان يريد الضابط عبد الناصر بدعوته لنا هو استقطاب إخوان أسيوط حوله . وهذه صورة أقل ما يقال عنها إنها نعرة قبلية جاهلية ...

والآخر : هو عندما طلبت دخول دورة المياه لقضاء بعض حاجتي وأثناء خروجي وبينما كنت أتوضأ لاحظت الضابط عبد الناصر يدخل الدورة ويفتشها بدقة وهذا أمر كان له وقع سيء علي نفسي إذ ظن أنني أخفيت له شيئا ما ، وهذا إن دل علي شيء إنما يدل علي ريبته في الإخوان وسوء ظنه بهم .

ولما انتهت الزيارة وركبت مع أخي فضيلة الشيخ فرغلي السيارة ذكرت له هذه الواقعة الأخيرة فضحك كثيرا وقال معلقا : (أصلك انت راجل خطير يا عم) وأخذ يكرر هذه العبارة ونحن نتبادل التعليق والضحك والأسف الشديد . ... ومما يذكر أن هذه الواقعة لم أذكرها لأحد في حينها ولا يعلم بها سوي فضيلة الشيخ فرغلي والدافع لهذا الكتمان هو تهيئة الجو لتوثيق الرابطة وجمع الشمل . ... ومما هو جدير بالذكر أنه رغم وجود الروابط التي كانت تربطنا بالضابط عبد الناصر .

وأولاها : رابطة الإخوة في جماعة الإخوان المسلمين .

وثانيها : رابطة الانتماء إلي أسيوط حيث الموطن الذي يجمعنا .

وثالثها : رابطة الاجتماع علي طعام واحد (العيش والملح) .

ورغم هذه الروابط الثلاث القوية فقد حفظها الضابط عبد الناصر ورعاها فأعدم فضيلة الشيخ فرغلي شنقا – وحكم علي بالأشغال الشاقة المؤبدة .

-وبينما كان المكتب الجديد يعمل علي تقريب وجهات النظر بين الإخوان وقيادة الحركة في تلكم الفترة إذ شغل بوقوع حادث مقتل الأخ الشهيد سيد فايز قد تضاربت الأقوال حول هذا الحادث المؤسف – وأذكر أن الأستاذ عبد الرحمن السندي ذكر لي أن حادث مقتل سيد فايز قام بتنفيذه الضابط أنور السادات بغية إشعال الفتنة في وسط صفوف الإخوان .. فقلت له وما دليلك علي ذلك – قال إن شئت أقرأ أوصاف القاتل الذي أحضر طرد الحلوى وما يحتويه من متفجرات إلي منزل الشهيد سيد فايز – كما وصفته شقيقته – فهي تنطبق تماما علي أوصاف الضابط أنور السادات ، وأقسم لي بالطلاق علي صدق قوله ، وكتمت الخبر في نفسي حتى أتحقق من مطابقة الأوصاف التي ذكرها لملامح صفحة وجه الضابط أنور السادات . وأتحقق بذلك من صدق هذه الرواية التي يتحمل أمانتها السندي .

في منزل عبد الحكيم عامر

ودعا الضابط عبد الحكيم عامر قائد القوات المسلحة وعضو مجلس قيادة الحركة فضيلة المرشد ومعه أعضاء مكتب الإرشاد الجديد لتناول الشاي في حديقة منزله بثكنات العباسية ، وفي الموعد المحدد للدعوة حضر أغلبية أعضاء المكتب فيما بعد عدا فضيلة الشيخ أحمد شريت – إذ اعتذر لوجوده في أسيوط ، والدكتور كمال خليفة لوجود اجتماع معه مع خبير أجنبي ، وقد لاحظت أن أعضاء مجلس قيادة الحركة كانوا جميعا موجودين – عدا اللواء محمد نجيب ، والضابط أنور السادات ، وكان الأخير موضع اهتمامي لرؤيته ، وبسؤالي عنه رد الضابط عبد الناصر أنه مشغول في جريدة الجمهورية ، وكان الدافع لسؤالي عنه هو التحقق من الملامح والأوصاف التي ذكرتها شقيقة الأخ الشهيد سيد فايز ، كما أخبرني الأستاذ عبد الرحمن السندي والتي قيل إنها تنطبق علي ملامحه .

وكنا نتوقع أن يبتدئ أحد أعضاء مجلس قيادة الحركة في عرض الموضوعات التي تضايقهم من تصرفات الإخوان حتى يمكن تجليتها وتصفيتها وتستأنف العلاقات الطبيعية التي تقوم علي الاحترام والتقدير من أجل مصلحة الوطن ، لكن الذي حدث أن الضابط صلاح سالم وقف وقال : نريد أن نتحدث في الأمور – وقبل أن يتم كلامه أشار إليه الضابط عبد الناصر بيده في حزم قائلا : لا .. لا .. لا ... خلينا كده كويس .. وكان هذا كافيا لإسكات الضابط صلاح سالم عن إتمام حديثه ، كما أسكتت كل من كانت له رغبة في الكلام ، كما جعلت فضيلة المرشد و إخوان المكتب في حرج ، واكتفي الحاضرون بالجلسات الجانبية تناولوا فيها أحاديثهم الخاصة . ( كما هو واضح من الصور الملحقة بآخر الكتاب ) . ... ولوحظ أن فضيلة المرشد كان يجلس بجوار الضابط جمال سالم – الذي جلس بجواره الضابط خالد محيي الدين ، وكنت أجلس بجوار الضابط زكريا محيي الدين وبعد قليل طلب الضابط عبد الناصر استحضار كرسي بجواره واستدعاني للجلوس بجانبه ، وكان يجلس معنا في هذه الجلسة الخاصة الجانبية فضيلة الشيخ فرغلي ، ثم انضم إلينا الأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وابتدأ الضابط عبد الناصر يشكو من نظام الأسر الموجود داخل الجيش من الإخوان ، وكنا نشترك معه في الحديث نحن الأربعة ، وقد طلب منه الأستاذ عبد الحكيم عابدين ذكر أسماء الذين يتصرفون تصرفات لا تريحهم فقال الضابط عبد الناصر : أنا لا أذكر أسماء ، وسأضطر لتقديمهم للمحاكمة إذا لم يمتنعوا عن مزاولة هذا النشاط .. فطمأنه الأستاذ عبد القادر عودة – بأن نظام الأسر نظام تربوي إسلامي ليس فيه ضرر وحاول الأستاذ عابدين أن يعرف منه أسماء الأشخاص لكنه رفض ذكر الأسماء ، وقال : إن لم يرجعوا فسأضطر لتقديمهم للمحاكمة ، والشيخ فرغلي يعرف كل حاجة – فقلت له : ليس من صالحك تقديم الإخوان في الجيش للمحاكمة فهم عون الحركة فقال : أنا لا أفعل ذلك إلا مضطرا .

وكان قد حدث علي أثر انتهاء حفلة الشاي بالحديقة أن اختليت بالضابط عبد الناصر مدة حوالي ربع ساعة في الحديقة ودار بيني وبينه حديث في عودة التعاون بين قيادة الإخوان وقيادة الحركة خصوصا وأن مكتب الإرشاد الجديد يرجو في بداية عهده أن تكون العلائق طيبة ومثمرة في سبيل مصلحة البلاد ، فابتدأ يذكر لي كيف قامت الحركة وكيف استشير الإخوان في كل شيء ، وكنا نأمل أن الصلة تقوي وتتحسن فقلت له : علي كل حال الماضي انتهي – والمطلوب هو أن تنظروا لفضيلة المرشد كوالد للجميع يجب إجلاله واحترامه ، ولا بأس من تكوين لجنة من أعضاء المكتب يكونون موضع ارتياحكم ، وفي الوقت نفسه يكونون موضع ثقة فضيلة المرشد ليقربوا وجهات النظر ويوحدوا خطوات الجميع ، وأفهمته أن فضيلة المرشد موضع ثقة الإخوان جميعا ، ولا يمكن لأحد أن يقوم بأي عمل نافع يساند الحركة إلا إذا كان يباركه فضيلة المرشد فأرجو وألح في الرجاء أن تعملوا علي تحسين العلاقة معه شخصيا حتى يتم التجاوب بينكما ، وفي أثناء الحديث فوجئنا بالأستاذ عابدين وهو يقول : ما هذه الخلوة (الصعايدة اتلموا علي بعض) وضحكنا جميعا .

وحان وقت صلاة المغرب فطلبت أن أتوضأ فأخذني الضابط عبد الناصر – وبينما كنت أتوضأ سألت الضابط عبد الناصر : هل أنت متوضئ لصلاة المغرب ؟ قال : لا فطلبت منه أن يتوضأ فأبدي عدم رغبته في الصلاة – فقلت له : إن الإخوان ينظرون إليك نظرة كبيرة ولهم فيك أمل عظيم ، فكيف بك تبدد هذه النظرة فابتسم وأظهر استجابته لدعوتي له ، لكني لم أره يتوضأ أمامي ، وعند الصلاة اصطف الجميع في صفين خلف إمامة فضيلة المرشد .

( كما هو واضح من الصور الملحقة بآخر الكتاب ) ... ثم ذهبنا إلي حجرة الاستقبال حيث اجتمعنا سويا علي الوجه المذكور آنفا ولاحظت أن الضابط عبد الحكيم عامر لم يشارك في الحديث ، كما كان قليل الجلوس معنا في الحجرة ، وبعد انتهاء الحفلة ونحن في طريقنا إلي منزل الأستاذ عبد القادر عودة – ذكرت لفضيلة المرشد الحديث الذي دار بيني وبين الضابط عبد الناصر حول التقريب وتحسين العلاقات واقتراحي بتشكيل لجنة لتحقيق هذا الغرض . وفي منزل الأستاذ عبد القادر عودة حيث تحدث مع فضيلة المرشد عما دار في حديث الضابط عبد الناصر عن نظام الأسر داخل الجيش وعن تصرفات بعض الإخوان – فسأله فضيلة المرشد : هل ذكر لكم أسماء ؟ قال: لم يذكر .. فقال فضيلة المرشد : إذن بماذا نهتدي لهؤلاء الإخوان الذين يضايقونه حتى نمنعهم – وهنا تدخل فضيلة الشيخ فرغلي قائلا : عندي كلام في هذا الموضوع سأقوله لفضيلتكم في وقت آخر .

في منزل فضيلة المرشد

وقد رأي فضيلة المرشد دعوة قيادة الحركة بتوجيه دعوة خاصة للضابط عبد الناصر ورفاقه لتناول طعام العشاء بمنزله ، وكان حتى ذلك التاريخ الأمل كبيرا في إيجاد جو من التفاهم وتوثيق الروابط ، وفي الموعد المحدد لبي الضابط عبد الناصر الدعوة كان يصحبه الضباط : عبد الحكيم عامر ، وزكريا محيي الدين ، وعبد اللطيف بغدادي وصلاح سالم ، وكذلك حضر جميع أعضاء مكتب الإرشاد عدا الدكتور كمال خليفة فقد اعتذر .. وبعد تناول الجميع العشاء جلسوا جلسات متفرقة ... ( كما هو واضح من الصور الملحقة بآخر الكتاب ) ودار الحديث بينهم في أمور عامة كنت ألاحظ أن هناك تعمدا في عدم التحدث في الأمور التي تهم الجانبين ، وكان ذلك التعمد يبدو من ضباط الحركة ، وطبيعي أن الإخوان كانوا يرحبون بافتتاح الكلام . ... لكنهم فقدوا الأمل عندما أحسوا من الحفلة السابقة برغبة الضابط عبد الناصر في عدم التحدث ، خصوصا وأنه سبق أن نهر زميله الضابط صلاح سالم عن الكلام .

وقد لاحظت في كلتا الحفلتين أن الروح السائدة غير طبيعية ، وكنت أتوجس خيفة ولا أدري مصدر هذا التوجس إلا أنه شعور داخلي ، لأنني لم ألمس الانطلاق الذي يكون في مثل هذه الحفلات . ... وهكذا تمت اللقاءات جميعا دون أن تأتي بالثمرة المرجوة ، من التقارب والتفاهم والصلح . وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن . ومما يذكر أن الضابط عبد الناصر أمر بعدم نشر صور تلك اللقاءات في الصحف .

حـول النظام الخاص

صنع الإمام الشهيد حسن البنا شباب الإخوان علي عينه ، وأعطاهم من نفسه كل الحب والعاطفة ويقول إنهم حبات القلوب ، وكان الشباب يبادله هذا الشعور بالتقدير والإجلال ، يستجيبون له ويأتمرون بأمره ، وكان الأستاذ عبد الرحمن السندي من أقرب الإخوان إلي الإمام الشهيد في ذاك الوقت ، فأسند إليه الإشراف علي النظام الخاصة للجماعة الذي أسس لتجهيز المتطوعين من الفدائيين لقتال الصهاينة في فلسطين ، وإقلاق الانجليز في القناة ، وقد عرف هؤلاء الإخوة الفدائيين بالشجاعة والإقدام وأبلوا في هذا المضمار بلاء حسنا مما جعل رئيسهم والمشرف عليهم عبد الرحمن السندي يتيه بالعجب والخيلاء ، فجره هذا الغرور بالخروج علي مبادئ الجماعة ، وعدم التزامه بالسمع والطاعة لفضيلة مرشدها – يضاف إلي ذلك التصرفات غير المسئولة التي وقعت في عهد الإمام الشهيد التي ضاق بها فضيلته ، والتي بسببها صورت الجماعة بصورة مفزعة .. وهكذا نشأت بؤرة الخلاف في العلاقة القائمة بينهما ، واتسعت . ومن ثم .. كانت تلك التصرفات موضع أسف وحزن فضيلة الإمام الشهيد ظل يعاني منها حتى لقي ربه – رحمه الله رحمة واسعة .

ويجئ بعده فضيلة المرشد الراحل الأستاذ حسن الهضيبي – رحمه الله تعالي ، وقد بايعه جميع الإخوان في شعب وتنظيمات الجماعة ، وبدأت عجلة الجماعة تؤدي رسالتها لخدمة مبادئ الإسلام ، لكن لوحظ أن السندي كعضو من أعضاء هذه الجماعة لم يتجاوب مع أوامر فضيلة المرشد الراحل فقد أساء الظن زحدثته نفسه أن فضيلة المرشد يعمل علي حل نظام الخاص مع اعتقاده أنه شخصيا الباعث الوحيد لأمجاده هذه الجماعة ، وقد تعمقت هذه المفاهيم الخاطئة في نفس السندي فظهر ذلك في كثير من المواقف التي كان يجابه فيها فضيلة المرشد ،ومن أبرزها عندما توجه إلي فضيلة المرشد في بلدته بعرب الصوالح ومعه بعض أعوانه ، ووجه إلي فضيلة المرشد ألفاظا نابية وعبارات قاسية كانت تحمل معني التهديد ، وفهم أيضا من هذا رغبته في الهيمنة علي فضيلة المرشد وإخضاع تصرفاته تحت إرادته ، وقد تكررت هذه المواقف البغيضة في كثير من اللقاءات التي كانت تجمع بين فضيلة المرشد والسندي وأعوانه . ومن ثم تعذر التعاون بينهما ، وانتشر في وسط الإخوان خبر تصرفات السندي وتطاوله علي فضيلة المرشد ، فبدأ التفكير في ضرورة النظر في إعادة تنظيم قيادات النظام الخاص والقائمين عليها ، ومن هنا رأت الجماعة إبعاد أربعة من القائمين علي هذا النظام هم : عبد الرحمن السندي ، وأحمد زكي ، ومحمود الصباغ ، وأحمد عادل كمال ، وقرر مكتب الإرشاد فصلهم ، واعتمدت الهيئة التأسيسية قرار الفصل كما تقرر أيضا سحب جميع الأوراق المودعة طرفه وتسلم المتعلقات الخاصة بالنظام ، لكنه أبي واستكبر وركب رأسه أن ينفذ هذا القرار ، وكان فصل هؤلاء الأربعة قد أثار تساؤلات عند بعض قيادات النظام في القاهرة ، فعلي أثر هذا القرار توجهت مجموعة من الشباب إلي منزل فضيلة المرشد بالروضة رغبة في استرضاء فضيلته وطلب العفو منه عن الأربعة المفصولين ، لكن فوجئوا أن انبري أحدهم في رعونة واسمه محمود فرغل ووجه إلي فضيلة المرشد ألفاظا نابية ، وطلب منه كتابة استقالته فورا من الجماعة بسبب فصل هؤلاء الأربعة ، عندئذ فضل فضيلة المرشد ترك منزله لهؤلاء النفر استنكارا لتصرفهم ، فما كان من هؤلاء الشباب الأبرياء المغرر بهم أن فهموا حقيقة إلا أن أخذوا يعتذرون لفضيلة المرشد ويرجونه في دخول الشقة .. وهنا تقدم الأخ بطل المصارعة المرحوم محمود زينهم وحمله إلي داخل الشقة ، وانصرفوا جميعا آسفين نادمين .

والأمر لم ينته عند هذا الحد فقد توجهت مجموعة أخري إلي المركز العام بالحلمية واعتصمت بحجراته لنفس الغرض وهو العفو عن الأربعة المفصولين . ... وهناك اكتملت فصول هذه الرواية المؤسفة بحضور الإخوة الأساتذة :

صلاح عشماوي – وكيل الجماعة الأسبق ، وعضو مكتب الإرشاد السابق ، والشيخ محمد غزالي – عضو مكتب الإرشاد السابق ، وكانا قد أبعدا في انتخابات المكتب الأخيرة ، وأحمد عبد العزيز جلال رئيس قسم الطلاب ، والدكتور / محمد سليمان – عضو مكتب سابقا . فقد انتهز هؤلاء الإخوة الكبار فرصة خلو الدار من الإخوان ، وعقدوا اجتماعا مع الإخوة المفصولين وأسموه مؤتمرا وكتبوا كلاما واسموها قرارات ، وتمخض الجبل فلم يلد فأرا وإنما ولد قرارات هزيلة .. وكانوا قد رتبوا دعوة بعض مندوبي الصحف وأرادوا بذلك أن يضخموا أمر المفصولين ويعطوه أكثر من حجمه ، ونشرت وقائع هذا السفه في الصحف ، وكان مما نشر أن المرشد قدم استقالته ، وأن المكتب أوقف عن العمل ، وأعلنوا عن تشكيل لجنة لإدارة شئون الجماعة ، كل هذا كان له وقعه السيء في نفوس جمهور الإخوان . ... ولم يستفد من كل هذا الأمر إلاّ من يتربصون بالإخوان الدوائر ، وقد كان الضابط عبد الناصر من وراء هذه الأحداث ، إذ كان يوليها اهتماماته ويغذيها بتوجيهاته وينفذها بأوامره .

الإخوان يستنكرون :

ومن هذا الموقف تغير رأيي في الأستاذ صالح عشماوي وزملائه ، وفهمت أن الخلاف في الرأي لم يكن وسيلة لإصلاح الأخطاء وإنما اتخذ سببا للتشهير بالجماعة والعمل علي تمزيق وحدتها .. وهل ينال أعداء الإسلام من هذه الهيئة التي تعتبر أكبر حركة إسلامية في العالم بمثل ما نال منها هؤلاء الآبقون ؟؟ ... وبعد اتخاذ هذه القرارات كان قد علم كثير من الذين لم يرقهم هذا العمل المشين فحضروا من كل حدب وصوب يعلنون تذمرهم واستياءهم من هذه التصرفات المعيبة ، وكادوا يوسعون هؤلاء النفر ضربا لولا حكمة بعض بعض الإخوان وتدخلهم الذي كان السبب المباشر في فض الاجتماع بالحسنى دون أن تقع فيه حوادث ، وتفرق المجتمعون وخلت الدار منهم .

وفي اليوم التالي فجر الجمعة استدعيت من منفلوط لعقد اجتماع فوري لمكتب الإرشاد ، فوصلت القاهرة بالسيارة ظهرا ، وفي المساء صحيت فضيلة المرشد من منزله إلي دار المركز العام حيث احتشد الإخوان في ميدان الحلمية والطرقات المؤدية إليه ، وقد علا البشر وجوههم ، وملأ الإخلاص والولاء قلوبهم لمرشدهم وأخذوا يحيونه بهتافاتهم (الله أكبر ولله الحمد) وكانت السيارة تشق طريقها في صعوبة ، وأمام باب المركز ترجل فضيلة المرشد ووجهته المنصة .. وهنا كنت تري مزيجا من الفرح والبكاء المتبادل بين فضيلة المرشد وجمهور الإخوان المستقبلين ، وتبودلت الخطب المناسبة وكانت تدور حول تجديد البيعة لفضيلة المرشد العام ، وقد رد فضيلته بالشكر للإخوان الذين أعلن فضيلته الصفح عنهم ، وترك للجماعة مؤاخذة المسئولين عن ذلك ، واجتمع المكتب وبحث مسألة توجه بعض الشباب إلي منزل فضيلة المرشد كما بحث أيضا مسألة الاجتماع في المركز العام ، واتخاذ قرارات وإعلانها في الصحف في غيبة من المسئولين من أعضاء الهيئة التأسيسية ، ومكتب الإرشاد . وتقرر تشكيل لجنة من فضيلة الشيخ محمد فرغلي ، والأستاذ عمر التلمساني ، والشاهد علي الطريق ، للتحقيق في مسألة توجه بعض الشباب إلي منزل فضيلة المرشد ومؤاخذة المتورطين وعرض الأمر علي المكتب ، كما قرر المكتب استدعاء الإخوة الأساتذة صالح عشماوي ، والشيخ محمد غزالي ، و أحمد عبد العزيز جلال ، والدكتور محمد سليمان للتحقيق معهم فيما اتخذوه من قرارات وإعلانها في الصحف بتوقيعاتهم ، فلبي الدعوة وحضر لدي المكتب كل من الشيخ محمد الغزالي ، وأحمد عبد العزيز جلال ، وفي اليوم التالي حضر الدكتور محمد سليمان ورفض الحضور الأستاذ صالح عشماوي .

وبعد أن استمع المكتب لأقوال هؤلاء الثلاثة حوَّلهم ومعهم الأستاذ صالح عشماوي إلي لجنة تحقيق العضوية بصفتهم أعضاء في الهيئة التأسيسية – لإعادة التحقيق معهم واتخاذ القرار المناسب ، وذلك وفقا لنظام اللائحة الداخلية للجماعة ، وكانت اللجنة برئاسة الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم وعضوية بعض إخوان الهيئة . وقد رفضوا الحضور أمام لجنة العضوية ، لكن هذا لم يمنع اللجنة من سماع أقوال بعض أطراف القضية وأصدرت قرارها بإدانتهم وفصلهم من الجماعة ، وقد وافق المكتب علي قرار الفصل مع اعطائهم حق الاعتراض أمام الهيئة التأسيسية مجتمعة . وبالفعل تحدد موعد لعقد الهيئة التأسيسية وحضر جميعهم عدا الدكتور محمد سليمان ، الذي كان رؤي الاكتفاء باعتذاره ولو أنه لم يستقر علي هذا بل أعلن مرة أخرى في الصحف تشبثه بموقفه السابق . واستمع أعضاء الهيئة التأسيسية لكلام الأستاذ صالح عشماوي وإخوانه ، وكان دفاعا ضعيفا واهيا لم يقنع الهيئة .. ووافقت أغلبية الهيئة علي قرار الفصل . ... ومما هو جدير بالذكر أنني حاولت في بادئ الأمر أن اقنع الأستاذ صالح عشماوي وإخوانه بضرورة المثول لدي المكتب ولجنة العضوية وعدم نشر شيء في الجرائد ، لكنهم رفضوا . ... وقد كانت لي محاولات أخرى مع الأربعة المفصولين في إقناعهم بالتزام الهدوء والتريث في مواجهة الأمر :

أما الأخ الأستاذ أحمد زكي – فقد أعلن في جريدة الأهرام أنه قبل قرار الفصل وأنه سينصرف لأعماله الخاصة داعيا للهيئة بالتوفيق والسداد ، وكان لهذا الإعلان وقع حسن في نفوس الإخوان مما ساعد علي اقتراح رجوعه مرة أخري إلي حظيرة الإخوان . ... وأما الأخ الأستاذ أحمد عادل كمال فكثيرا ما كان يحضر في دار المركز العام رغم فصله ، ويبكي ويندم ويعلن أسفه لما حدث منه وأنه لا حياة له إلا في رحاب الجماعة . ... وأما الأخ الأستاذ محمود الصباغ فلم أره مطلقا ، ولم أتعرف عليه ، ولكن وصلتني منشوراته التي أذاعها ضد الهيئة والمرشد ، وقد كانت تصرفاته هذه سببا قويا في عدم التفكير في إرجاعه مرة ثانية إلي صفوف الجماعة .

وكان لي مثل هذا الموقف مع الأخ الأستاذ عبد الرحمن السندي – علي اعتبار أننا كنا طالبين زملاء في التعليم الثانوي بمنفلوط ويجمعنا موطن واحد حيث بلدته قرية بني سند التابعة لمركز منفلوط بهذا الرباط طلبت منه ضبط النفس ، والتزام الهدوء ، وعدم اتخاذ مواقف جديدة تضاعف من الأزمة ، وعليه أن يستجيب ويقدم ما لديه من أوراق ومتعلقات خاصة بالجماعة ، وقد طمأنته بامكان العودة مرة أخري إلي صفوف الجماعة كأخ استجاب لقيادته وحرص علي أسرار جماعته ، لكنه كان دائما يواجه مثل هذه النصائح بغطرسة وعدم اكتراث ، ورفض بكل الاعتداد والصلف وذرابة اللسان قائلا : (إنني أن الذي بنيت صرح هذه الجماعة لبنة .. لبنة .. وأنا سأهدمها لبنة .. لبنة) . وأسدل الستار علي هذه المأساة .. وكان الضابط عبد الناصر يتابع هذه الأحداث ويرعاها .

الإخوان وهيئة التحرير

وقد سبق أن أعد الضابط عبد الناصر وسيلة أخري لمحاولة تصفية الجماعة بهدوء إصابة نشاط جماعة الإخوان المسلمين عندما اقترح إدماج حركة شبابها في هيئة التحرير التي ولدت لكي تموت ، لكن الإخوان وقد صدقوا مع الله في دعوتهم تنبهوا لهذا الشرك ورفضوه بل وداسوه وظلوا كما هم القوة المرابطة لنصرة الإسلام وحماية الوطن حتى اليوم .

ومن ثم نشأت منافسة بين الهيئتين تطورت إلي احتكاكات وصراعات ، وكان لابد من هذا إذ أن ميلاد هيئة التحرير وظهورها في المسرح السياسي مع وجود هيئة الإخوان المسلمين الهيئة التي لها تنظيماتها وتجمعاتها وجمهورها الخاص الذي كان محل إعجاب وتقدير السواد الأعظم من الشعب ، علي عكس هيئة التحرير التي ليس لها ركيزة من الشعب ، وليس لديها تنظيمات من الشباب .. وقد ظهر هذا التنافس عند مناوشة الانجليز في القناة ؛ إذ كانت هيئة التحرير علي لسان المسئولين فيها يطلبون من الشباب أن يتقدموا كفدائيين في هذا الميدان فاستجاب الإخوان لهذا فكان كثيرا ما يقع خلاف وتنافس بين شباب الهيئتين في ذلكم الميدان ، ولما تكوَّن الحرس الوطني انضم إليه كثيرا من شباب الإخوان علي اعتبار أن ذلك واجب وطني ، ولكن القائمين علي هذه التنظيمات من رجال هيئة التحرير كانوا يطلبون اشتراكات مالية من المنتسبين فكان الإخوان يرفضون دفع هذه الاشتراكات وكان هذا يحز في نفوس القائمين علي هيئة التحرير ، وغن كان الإخوان كثيرا ما كانوا يساهمون في الاشتراك معهم في المظاهر الاجتماعية العامة كأسبوع تحسين الصحة ومعونة الشتاء علي اعتبار أنها مسائل عامة يجب أن يشترك فيها الإخوان بجهدهم وما لهم . وكان من نتيجة هذا التنافس كثرة الاصطدامات وظهر هذا جليا في خطب الضابط عبد الناصر في مؤتمر العمال عندما أشار إلي الإرهاب والرجعيين ، وكان يقصد بذلك الإخوان المسلمين ، ثم نحا نحوه القائمون علي هيئة التحرير فكانوا يتعرضون للإخوان بصراحة في خطبهم مثل وحيد رمضان ، والصاغ الطحاوي ، وقد تطور الأمر عندما عرَّض وحيد رمضان بالإخوان ومرشدهم في حفل بإحدى قرى البحيرة فانبري له معترضا أحد الإخوان من الطلبة فصفعه وحيد رمضان علي وجهه فثار الأهالي من هذا التصرف محاولين الفتك به ، وكانت أن تقع معركة لولا حكمة الإخوان فقد تذرعوا بالحلم والصبر .

وتكررت هذه التحديات وانتشرت أخبارها لدي جمهور الإخوان فتأسفوا من هذا المسلك وانتقدوه وعلقوا عليه بمرارة ، وكان خطباء الإخوان يحتجون بشدة من فوق المنابر علي تصرفات الحكومة وقيادات هيئة التحرير لاضطهادهم للإخوان والتشهير بهم وبمرشدهم . وقد حدث اعتداء علي الأخ حسن دوح – زعيم الطلبة وخطيب الإخوان في مسجد الروضة – وفي هذا الحادث قامت معركة بين البوليس والإخوان ، وكان هذا الحادث بمثابة الشرارة الأولي ، فأخذوا يقبضون علي زعماء الطلبة والخطباء النشطين من الإخوان ويرجون بهم في غياهب السجون . ... وأبرز هذه الأحداث والاصطدامات ما وقع في جامعة القاهرة ، عندما أراد الإخوان الاحتفال بذكري شهداء القناة من إخوانهم الطلبة وذلك في صباح يوم 12 يناير سنة 1954 ، وكان ضيف الشرف في هذا الحفل الزعيم الإيراني المسلم الشهيد نواب صفوي الذي سلمه عبد الناصر بعد ذلك لشاه إيران المخلوع الذي أعدمه شنقا . وقد حدث أثناء الاحتفال الذي كان يسير في نظام وهدوء إجلالا للذكرى واحتراما للضيف الكريم : أن اقتحم الاجتماع مجموعة من هيئة التحرير وقد استقلت سيارة جيب عسكرية يعلوها ميكروفون وأخذوا يرددون هتافات مختلفة بغية التشويش علي المجتمعين والعمل علي فض الحفل فغضب المحتفلون من هذا التحدي السافر ، واعترضوا السيارة لكن الضابط المنوط بحراستها تسرع فأشهر مسدسه في وجه المعترضين ، فثاروا وأحاطوا السيارة إحاطة السوار بالمعصم ، وانهالوا علي ركابها ضربا ، وتطور الأمر فاشعلوا النار فيها .

وعلي أثر هذا الحادث الذي اعتبرته الحكومة تحديا لها قررت حل جماعة الإخوان المسلمين وذلك في 13 يناير سنة 1954 ، وأخفت إعلان هذا القرار لمدة ثلاثة أيام ، استطاعت خلالها اعتقال فضيلة المرشد وبعض أعضاء مكتب الإرشاد ممن اعتبرتهم الحكومة موالين لفضيلة المرشد ، نذكر منهم الإخوة الأساتذة . الدكتور خميس حميدة – وكيل الجماعة ، وعبد الحكيم عابدين – سكرتير الجماعة ، وحسين كمال الدين – مين الصندوق ، وفضيلة الشيخ أحمد شريت ، وفضيلة الشيخ محمد فرغلي ، وترك باقي أعضاء مكتب الإرشاد ، كما اعتقل بعض الإخوان البارزين والذين اعتبرتهم الحكومة في نظرها (بطانة المرشد) نذكر منهم الإخوة الأساتذة : منير أمين دله ، وحسن العشماوي ، وصالح أبو رقيق ، وفريد عبد الخالق ، وصلاح شادي ، وعبد القادر حلمي وغيرهم من أعضاء الهيئة التأسيسية وأودعوا جميعا في زنازين السجن الحربي . ... وكان قرار الاتهام أن المرشد (وبطانته) يعملون لحساب الانجليز وفي النية تقديمهم للمحاكمة ويشيرون بذلك إلي الاجتماع الذي كان قد تم بين فضيلة المرشد والمستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية ، وسبق أن أشرنا إلي حقيقته آنفا .

واستقل جمهور الشعب هذا القرار بوجوم لأنهم يعتقدون أن الإخوان هم سند الحركة ، ولا شك أن هذا التصرف زعزع ثقة الشعب في قيادة الحركة ، وقد أشاعت أبواق الحكومة أن المقصود بهذا الاجراء المرشد ومن معه وردد ذلك المفصولون المتذمرون من الإخوان ، وأن الإخوان موضع ثقة الحكومة ويضيفون علي ذلك أن التعاون بين الحركة والإخوان قائم ، وأرادوا أن يثبتوا هذه المغالطة للرأي العام بافتعال زيارة قبر الإمام الشهيد حسن البنا يوم ذكراه في 12 فبراير سنة 1954 – وذهب بعض أعضاء مجلس قيادة الحركة وعلي رأسهم عبد الناصر وبصحبتهم بعض الإخوان المغرر بهم – بينما كان فضيلة المرشد وبعض أعضاء مكتب الإرشاد وكثير من قيادات الإخوان في شفخانة السجن الحربي . وسجلت عدسات المصورين هذه الزيارة ونشرت صورها في الصحف ومعها خطبة عبد الناصر أمام القبر التي أعلن فيها ولاءه لمبادئ الإمام الشهيد حسن البنا ، مجددا العهد له ، مؤكدا إيمانه بمبادئه والسير عليها والعمل علي تحقيقها ، وكان يقصد من وراء هذه الدعاية إبهام جمهور الإخوان أنه مازال متمسكا ببيعته ، ملتزما بمبادئ الإمام الشهيد حسن البنا وبذلك وضع بذور الفتنة ، وأوجد جو من الصراعات الداخلية في صف الإخوان توطئة لضرب الجماعة وتصفيتها ، كما نبأت به الأيام .

قيادة الإخوان

أثناء اعتقال فضيلة المرشد ووكيل الجماعة :

وقد لوحظ أنهم لم يعتقلوا بقية أعضاء مكتب الإرشاد علي اعتبار أنهم ألين جانبا وأقرب استجابة ، مع أن الأحداث الجسام أثبتت عكس ذلك فقد كانوا إخوانا مستجيبين لدعوتهم ، مخلصين لمرشدهم ، صادقين مع إخوانهم .. فلم تلن لهم قناة أو تضعف لهم عزيمة ، وتحملوا المحنة في ثبات وصبر إيمانا واحتسابا لوجه الله تعالي .

وكان عدم القبض علي هؤلاء الإخوة وفق خطة موضوعة قصد منها التخلص من فضيلة المرشد ، ووضح ذلك جليا من المفاوضات التي أجريت بين الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة والضابط عبد الناصر بحضوري شخصيا ، وتفصيل ذلك : أنه علي أثر إعلان قرار الحل وكنت مازلت مقيما بالقاهرة ، فقد دعاني الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة للاجتماع به مع بقية أعضاء مكتب الإرشاد بمكتبه أمام مبني الأوبرا ، وبالفعل استجبت له ، وحضرت الاجتماع مع الأخوة الأستاذ عمر التلمساني ، والدكتور كمال خليفة ، والأستاذ عبد الرحمن البنا ، والأستاذ البهي الخولي ، والشاهد علي الطريق (محمد حامد أبو النصر) – أما فضيلة الأخ الشيخ / عبد المعز عبد الستار والأستاذ عبد العزيز عطية كانا غاتئبين عن الجلسة ، واستعرض الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر أحوال الجماعة بعد قرار الحل واعتقال فضيلة المرشد ومن معه من الإخوان الأوفياء الصادقين .

كما ذكر أنه سبق قبل هذه الجلسة أن اجتمع هؤلاء الإخوة الأعضاء في غيابي والأستاذ / عبد الرحمن البنا ، وقرروا اختيار الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة مسئولا عن الإخوان ، ويقوم مقامه أثناء غيابه الأستاذ عمر التلمساني ، ثم الدكتور كمال خليفة ، كما تقرر الاتصال بجميع الإخوان المسئولين في أنحاء القطر بلزم الهدوء حتى يتم التفاهم مع الحكومة ، وإعادة الأمور إلي مجراها الطبيعي ، كما بحث أيضا ضرورة جمع تبرعات لأسر الإخوان المقبوض عليهم ، كما تقرر الاتصال بالضابط عبد الناصر لحل المشكلة ، وكان أن تمت مقابلة بشأنها قبل ذلك بين الشهيد عبد القادر عودة وبين الضابط عبد الناصر عقب قرار الحل للوقوف علي معرفة الأسباب التي دعت الحكومة أن تصدر قرار الحل والقبض علي فضيلة المرشد والإخوان ،ومحاولة العمل علي حلها .

ولما سئل الشهيد عبدالقادر عودة عما تم بينه وبين الضابط عبد الناصر في المقابلة الأولي .. قال : إنه لم يصل معه إلي شيء سوي الأماني الطيبة في ضرورة حل المشكلة ، وفي نهاية الاجتماع قرر المجتمعون تكليف الأستاذ الشهيد عبد القادر بالاتصال بالضابط عبد الناصر لتحديد ميعاد للقاء أعضاء المكتب المجتمعين به . وبالفعل اتصل الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة تليفونيا بالضابط عبد الناصر أثناء وجودنا مجتمعين معه وعرض عليه رغبة إخوان المكتب في اللقاء به ، لكنه رفض – فقال الشهيد عبد القادر أحضر بعضهم .. فسأل عبد الناصر : مثل من ؟ فذكر له الشهيد عبد القادر أسماء الحاضرين .. فقال له : احضر معك الأخ حامد أبو النصر .

المقابلة الثانية للشهيد عبد القادر عودة مع الضابط عبد الناصر

وفي الموعد المحدد توجه الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة ، وكنت بصحبته فوجدناه جالسًا مع زميله الضابط عبد الحكيم عامر في حديقة منزله بمنشية البكري يرتديان اللباس العسكري . ... بدئ الحديث من وقت حضورنا ، واستغرق أربع ساعات (من 4-8) . ... وكان الحديث طويلا ، وإني اسجل الجانب الهام منه :

وبدأ الضابط عبد الناصر الحديث بالسؤال مع السخرية .. هيه يا شيخ عبد القادر عايزين إيه ؟ فقال الشهيد عبد القادر : نتحدث في مشكلة الإخوان ونحلها قال الضابط عبد الناصر : طيب قول يا شيخ عبد القادر .. رد الشهيد عبد القادر : سيادتكم تتكلمون أولا .. قال الضابط عبد الناصر : دي مشكلتكم وأنا لم أدعكم للحضور لحل مشكلتكم . فأجاب الشهيد عبد القادر : إحنا اتفقنا في الجلسة الماضية علي حل المشكلة .. فرد الضابط عبد الناصر : أنا اتفقت معك ؟ ... ؟ ثم أردف قائلا : في سخرية عالية النبرة طيب يا شيخ عبد القادر .. اتكلم يا شيخ عبد القادر .. وكان يتخلل حديثه بابتسماته الساخرة بين لحظة وأخرى ، عندما يذكر أسماء بعض الإخوان ، وقصد بذلك نقل الحديث عن مشكلة حل الجماعة واعتقال فضيلة المرشد وقيادات الإخوان إلي التعريض بالتجريح ، وخص الأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير الجماعة بالنصيب الأوفر ، وقد رددنا عليه بما يحفظ غيبة إخواننا وكرامتهم ، فلما رأي منا ذلك صرف الحديث عنهم وتناول فضيلة المرشد ، فأخذ يتحدث عن اتصال فضيلته بالانجليز ، وأنه اتفق معهم علي تشكيل الوزارة ، وأن يمثل الجيش بعض الوزراء من الضباط ولا يكون جمال عبد الناصر من بينهم .. فاعترضت قائلا : إن فضيلة المرشد لا يقول بذلك .. فرد الضابط عبد الناصر : أنا سمعت هذا الكلام من أحد العاملين في دار السفارة .. فقلت له : إن صح هذا فالقصد منه الوقيعة بيننا ، ولكنه لم يقتنع بتوضيحي ، وتابع حديثه قائلا : أنا ليس بيني وبين الإخوان أي شيء .. وأنه يمكن رجوع حالتهم إلي ما كانت عليه ، وما عليهم إلا أن يبعدوا الهضيبي عن قيادة الجماعة ، فلما طفَّ الكيل بتلك الاتهامات لفضيلة المرشد عن الاتصال بالانجليز ، ووصفه بأنه رجل انجليزي .. نفذ صبري .. واستأذنت الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة في الحديث وتوضيح الأمور ، ثم قلت للضابط عبد الناصر : إن مسألة اتصال فضيلة المرشد بالانجليز فيمكنكم أن تقدموا فضيلته للمحاكمة للتحقق من هذا الاتهام : إذ أن العدل يقضي بذلك ، وأظن أن هذا ليس من المفيد لكم لأنه لو قدم للمحاكمة لا يخرج الحكم عن أمرين : إما الإدانة ، وإما أن تبرأ ساحته ، فإذا حكم عليه اعتقد الناس أن اتهامكم ملفق وحكمكم باطل .. لمكانة الرجل وتاريخه الناصع وإذا برأت ساحته ، كان ذلك أيضا ضد مصلحتكم لأنكم جرحتم الرجل وأعلنتم اتهامه .

وعندئذ يفقد الشعب الثقة فيكم .. وفي كلا الأمرين أنتم الخاسرون .. والأفضل أن تتركوه لنا نحن الإخوان نتبين من فضيلته حقيقة الأمر ، فإذا صح ما تقولون .. كان للإخوان معه رأي . وهنا تدخل الضابط عبد الحكيم عامر قائلاً : لماذا لا نقدمه نحن للمحاكمة .. أنا والله قدمت ضباط إخواني وحاكمتهم وبكيت عليهم بالدموع . فقلت له : لكن محاكمة فضيلة المرشد بخلاف ذلك . فقال : يعني الإخوان يغتالوني .. أنا مستعد وأضع رأسي علي كفي .. فابتسم الضابط عبد الناصر ابتسامة صفراء وقال : ضربة بضربة .. وإن زادوا زدنا . ... والعجيب أن الضابط عبد الحكيم عامر ظل طوال الجلسة صامتا لا يتكلم – وهكذا : سكت دهرا ونطق كفرا .. وخيم علي الجلسة صمت عميق – قطعته بأن قلت : الظاهر أن سيادتكم أفهمتم أننا نحن الإخوان منقسمون علي هذا الرجل ، لكن الحقيقة أننا جميعا علي قلب رجل واحد مع هذا الرجل ، ففتح عينيه وقال : أنت تقول هذا .. ؟! – قلت : نعم إنه وإن كنا قد اختلفنا في الرأي في داخل الجماعة ، فليس هذا معناه الخروج علي الجماعة وعدم الولاء لمرشدها ، كما وأنه ليس من خلق الرجال أن نتخلي عن الرجل في هذا الموقف ونحن نعلم أنه مظلوم . ثم استطرد قائلا : تقصد من أفهمني هذا .. ؟ اتعني صالح عشماوي .. إنني لم اتصل به ، . اتعني الباقوري .. ؟ أم تعني عبد الرحمن البنا .. ؟ ليس أحدًا من هؤلاء قال لي شيئا . قلت له : إنني لم أذكر شخصا باسمه أو فردا بعينه ، بل أقول إن المعلومات عند سيادتكم أننا نكره الرجل ، والحقيقة غير ذلك فأنا شخصيا مستعد أن أموت فداءً للدفاع عن المرشد فنظر إلي نظرة فاحصة – وقال : كيف تقول هذا أنت ؟! قلت : إنه مرشد الجماعة وإيماننا بدعوتنا يقضي علينا أن نكون منه كذلك .. هل تريد أن تغير المرشد !! وأن يكون مرشد الجماعة من صنع يديك تثبته متى تشاء وتخلعه متى تريد .. إنه مرشد الإخوان المسلمين ليس في مصر فحسب ، وإنما هو مرشد الإخوان المسلمين في العالم الإسلامي أجمع . فقال بعد أن أطال النظر : إنني أحترم صراحتك ، وياريت الإخوان إلي اتصلوا بي كانوا زيك وفي وضوحك . ثم قلت له : إذا كان هذا الكلام مني لسيادتكم يستدعي أنكم تعتقلونني فلا بأس .. إنني أبقي هنا وحقيبة ملابسي في لوكاندة جراند أوتيل بشارع فؤاد . فابتسم ابتسامة صفراء ثم قال : ليس في النية اعتقالك .. هل اعتقلت في عهد إبراهيم عبد الهادي ؟ - قلت : لا .. قال : إذا كان إبراهيم عبد الهادي لم يعتقلك – فهل أعتقلك أنا .. ؟! فقلت له : يستحسن سرعة الإفراج عن الإخوان وضباط الحركة شيء واحد ، وقد صدم الشعب بقرار حل الجماعة والقبض علي مرشدها ، وللتحقق من ذلك يمكنكم أن تتخفي سيادتكم وتنزل إلي الشارع لتسمع ما يقوله عنك إنك مثل كمال أتاتورك وأنك ستقود البلاد إلي ما قاد كمال أتاتورك تركيا إليه .. فقال : يا سلام ... !! إنني رجل مسلم . فقلت إن اعتقاد الناس في الإخوان أنهم دعاة الإسلام وحملة لوائه ومن يحاربهم يكون عدوا للإسلام . فقال : لا إنني مسلم ومن الإخوان وتربيت في أسر الإخوان وعشت معهم ، .. وهنا حان وقت الغروب ، فانتقلنا إلي (حجرة الصالون) ، وكان قد وجبت صلاة المغرب فأقمت الصلاة وقدمت الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر فأمني ، وبعد أن فرغنا من أداء الصلاة نظرنا فإذا بالضابط عبد الناصر وصاحبه يجلسان ينظران إلينا وهما يدخنان – وقد وضع كل منهما ساقه علي الأخرى .

ثم استأنف الشهيد عبد القادر الحديث قائلا : هلا انتهينا إلي شيء ؟ قال الضابط عبد الناصر : أنا مستعد أن تذكر لي أسماء من تريدون الإفراج عنهم من المعتقلين ؟ ثم قال : هل ترغبون في الفراج عن عبد العزيز كامل .. وما رأيك فيه ؟ فرد الشهيد عبد القادر : لا بأس . فنظر إليّ الضابط عبد الناصر وقال : ما رأيك يا أخ أبو النصر في عبد العزيز كامل ؟ قلت : إن مبلغ علمي أنه مدرس ولا أعرف عنه أكثر من ذلك . ثم قال إنني سأفرج عنه .. فقلت له : يستحسن أن تعطينا تصريحا لزيارة إخواننا المعتقلين . فقال : إن شاء الله ..

وبالفعل أعطي التصريح للشهيد عبد القادر عودة ، وقام بزيارة فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين ثم انفض الاجتماع من غير أن تنتهي معه علي شيء .. وعندما هممنا بالانصراف سأل الشهيد عبد القادر عودة الضابط عبد الناصر : هل ترغبون سيادتكم في حضورنا مرة أخري – قال الضابط عبد الناصر : أنا لا أطلبكم لأن الأمر لا يهمني .. فقال الشهيد عبد القادر عودة : يعني سيادتكم بتطردنا ؟ فرد عبد الناصر : لا أنا بيتي مفتوح لك ولغيرك .. فقال الشهيد عبد القادر : إذا أحببتم سيادتكم أن أحضر فسيحضر معي السيد أبو النصر .. لأن ده حبيبك وبلدياتك .. فضحكنا جميعا .. فقلت : إنني لا أحضر إلا إذا رحب بنا السيد جمال كل الترحيب وما أظنه إلا كذلك . وعند مغادرتنا وأثناء توديعنا عند باب الحجرة قدمني الضابط عبد الناصر علي الشهيد عبد القادر .. لكنني تداركت في الحال ، فتأخرت خطوة وقدمت الأخ الشهيد عبد القادر عودة لكي يتقدمني في الخروج .. فبدا علي وجه عبد الناصر علامة الاستغراب من هذه الحركة التي تحمل معني الاحترام والتقدير . وبعد مغادرتنا منزل عبد الناصر ، وفي الطريق تعاهدنا وأشهدنا الله تعالي أن نقف سويا مع الإخوان في محاربة فكرة عزل المرشد لأن ذلك ضد مصلحة الجماعة وفيه تصفيتها والقضاء عليها نهائيا – وهذا ما يهدف إليه عبد الناصر تحقيقا لاتجاهات سياسية عليا . واستوقفنا تاكسي إلي مكتب الشهيد عبد القادر عودة .

اجتماع المكتب بعد اللقاء بعبد الناصر

وهناك التقينا مع بقية أعضاء المكتب الإخوة الأساتذة : عمر التلمساني ، والدكتور كمال خليفة ، وعبد الرحمن البنا ، والبهي الخولي ، واجتمعنا وعرض الشهيد عبد القادر عودة ما دار بيننا وبين الضابط عبد الناصر في هذه المقابلة ، واقترح أحد الإخوة الأعضاء دعوة الهيئة التأسيسية للاجتماع وعرض ما دار في اللقاء بعبد الناصر . فواجه هذا الاقتراح معارضة شديدة لغيبة فضيلة المرشد ، ولا بأس من الاجتماع بحضور فضيلة المرشد بعد الإفراج عنه ، واستغرق النقاش حول الاقتراح وقتا طويلا وانتهي الاجتماع بتأجيل النظر في الموضوع ، فما أن علم جمهور الإخوان في مناطق القاهرة بفكرة دعوة الهيئة التأسيسية للاجتماع في غيبة فضيلة المرشد ، حتى رفضوا خشية أن تتدخل الحكومة بفرض إرادتها بأسلوب أو بآخر لعزل فضيلة المرشد ، فعقدوا الاجتماعات في مناطق القاهرة المختلفة في العباسية ، ومصر الجديدة ، وشبرا وأخذوا يتدارسون الأمر ويؤكدون العزم للحيلولة دون اجتماع الهيئة التأسيسية ، والتمسك بفضيلة المرشد مهما كلفهم الأمر .. فماتت الفكرة وقضي عليها .

الاجتماع بالمفصولين

وفي ذلك الجو الملبد بالغيوم استدعاني الأخ الشهيد عبد القادر عودة من منفلوط للحضور للقاهرة ، فلما تقابلت معه استوضحته عن زيارة قبر الإمام الشهيد حسن البنا مع رجال الحركة – فقال إنني فوجئت بالدعوة ، وقلت لعلها تكون سببا من أسباب تقريب وجهات النظر فيتم الإفراج عن فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين كما سألته عما نما إلي علمي من أنه يستقبل الإخوان المفصولين في مكتبه مثل : الأستاذ صالح عشماوي ، والشيخ محمد الغزالي ، والأستاذ عبد العزيز جلال ، والأستاذ عبد الرحمن السندي ، وهل حقيقة أنه يجتمعون بك ويتفاهمون معك في شئون الجماعة قال : لا ، كل ما في المسألة أن الأستاذ صالح عشماوي ، والأستاذ عبد الرحمن السندي حضرا إلي وأبديا استعدادهما لتقديم أي خدمة فتكسرتهما ، ومع ذلك فسيزورانني الليلة في منزلي الساعة السابعة مساءً ، ويحسن أن تحضر لتسمع وتري كل شيء .. قلت : سأحضر إن شاء الله ، وفي الموعد المحدد ذهبت إلي منزله فوجدته جالسا في حجرة المكتب – ويحيط به الإخوة الأساتذة : صالح عشماوي ، الشيخ سيد سابق ، والشيخ محمد الغزالي ، وعبد العزيز جلال ، وعبد الرحمن السندي والحاج محمد جودة ، وبدأ الحديث الأستاذ صالح عشماوي فقال موجها الكلام للأستاذ عبد القادر عودة .. لا بأس عندما تريد زيارة منطقة من المناطق أن أحضر معك هذا اللقاء . فقلت للأستاذ صالح : أنت مفصول يا أستاذ صالح فكيف تذهب معه هذه اللقاءات . فرد قائلا : نحن نريد أن نؤدي أي خدمة للجماعة ، وأن نتعاون في التفاهم مع الحكومة حتى تزول هذه المحنة . ورد الشيخ سيد سابق في حماس قائلا : إذا كانت هناك أي شخصية تقف حائلاً دون رجوع الجماعة والعمل للدعوة .. فيجب أن تضحي بهذه الشخصية وننحيها عن الطريق – لأن هذه دعوة وحرام نضيع الدعوة من أجل شخص واحد . فقلت له : تقصد من هذا الواحد يا شيخ سيد ؟ قال : أنا أضرب مثلا .. قلت : يعني تقصد ننحي المرشد . قال : ولم لا .. قلت له : إنه من المستحيل الاستغناء عن هذا الرجل وإن في بقائه الآن بقاءً للدعوة والتشبث به تشبثاً بالدعوة زاصرف النظر عن موضوع تنحية المرشد . أوعي يدور هذا في خلدك ..

مظاهرة ميدان عابدين الكبرى

في أواخر فبراير سنة 1954 قامت مظاهرة شعبية ضخمة لتهيئة اللواء محمد نجيب بمناسبة رجوعه رئيسا للجمهورية ، فانتهز الإخوان فرصة مرور المظاهرة بشوارع القاهرة وتجمعها في ميدان عابدين ، فالتقت جموع الإخوان واستحضروا سيارة جيب بميكروفون وأخذ الأخ عبد المنعم مالك يردد الهتافات الحماسية بضرورة الإفراج عن فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين ، وعودة الجماعة . ... ومن الطريف أن المرحوم الأخ الحاج إبراهيم كروم فتوة السبتية المعروف كان يمتطي صهوة جواده ، ويقبض بيده علي مسدسه ويطلقه ذات اليمين وذات الشمال وبذلك هيمن الإخوان هيمنة تامة علي المظاهرة ، فبدت بمظهر قوي جبار لا تستطيع أي قوة أن تقف في سبيلها ، وخشي رجال الحكومة تطور الأمر ، وحاول اللواء محمد نجيب أن يصرف المتظاهرين فلم يستطع ، وهنا بدت فكرة استحضار الأخ الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة – لكي يعمل علي تهدئة الحالة ، ويصرف المتظاهرين – فسرعان ما ذهب بعض الإخوان إلي مكتبه بالأوبرا بسيارة ، ورجوه أن يذهب معهم فورا إلي ميدان عابدين لمحاولة تفريق المتظاهرين ، وما أن أن وقع نظر اللواء محمد نجيب عليه في وسط الميدان حتى استدعاه في الشرفة ، وطلب إليه أن يصرف المتظاهرين ويشكرهم ، فوقف الشهيد عبد القادر وخطب خطابا حماسيا ، وقد أثاره منظر الدماء التي أريقت من دم الأخ السحرتي – الذي كان يشترك في المظاهرة التي اصطدمت بقوات الجيش ، ثم شكر الإخوان وطلب إليهم الانصراف في هدوء ،وما أن سمع المتظاهرون ذلك حتى امتثلوا لأمره وبادروا بالانصراف في هدوء .. حتى لقد تعجب اللواء محمد نجيب وقال :

هكذا يكون الإخوان المسلمون .. حماسا .. ونظاما .. وطاعة .. وكان هذا الموقف سببا في اعتقال الشهيد عبد القادر عودة في مساء اليوم ، كما اعتقل معه الأخ الأستاذ عمر التلمساني المحامي – عضو مكتب الإرشاد ، والأخ الأستاذ المرحوم طاهر الخشاب المحامي – عضو الهيئة التأسيسية ، والأستاذ المرحوم أحمد حسين رئيس حزب مصر الفناة ، وبعض الإخوان لا أتذكر أسماؤهم ، وسبقوا جميعا إلي قشلاق البوليس الحربي ، وهناك ضربوا ضربا مبرحا ، وأهينوا إهانات بالغة من ضباط البوليس الحربي وعلي رأسهم أحمد أنور ، ومحمد نصير .

وقد تردد بين الكثير من المتظاهرين أنهم رأوا الضابط جمال عبد الناصر مختبئا في دواسة إحدى السيارات وقد وزعه ما رأي وهاله منظر المظاهرة ، ومن ثم استقر في نفسه وعقد العزم علي سرعة التخلص من الإخوان المسلمين ، واللواء محمد نجيب والشهيد عبد القادر عودة ، وقد حقق رغبته فحاكم الجماعة ، وعزل محمد نجيب ، وأعدم الشهيد عبد القادر عودة .

اجتماعات البقية من أعضاء المكتب

وكما قلنا سابقا بعد اعتقال الشهيد عبد القادر عودة علي أثر مظاهرة عابدين ومعه الأخ الأستاذ عمر التلمساني بقي من أعضاء المكتب الأستاذ عبد الرحمن البنا ، والدكتزر محمد كمال خليفة ، والأستاذ البهي الخولي ، وكنت معهم (الشاهد علي الطريق) لكن الأستاذ البهي الخولي انقطع عن حضور جلسات المكتب . ... وفي أوائل مارس سنة 1954 – اجتمعنا نحن الثلاثة في منزل الأستاذ عبد الرحمن البنا في الحلمية لتنظيم الاتصال بالإخوان من جانب ، والحكومة من جانب آخر لمحاولة إقناع الحكومة لحل القضية ، وكان قد اختير الدكتور كمال خليفة في جلسة سابقة بحضور الأخوين الشهيد عبد القادر عودة ، والأستاذ عمر التلمساني ليتولي مسئولية الإخوان بعدهما . وفي أثناء الاجتماع قال الدكتزر كمال خليفة : أنا مشاغلي كثيرة في إدارة مصلحة الطرق والكبارى ووقتي ضيق جدا . فقال الأستاذ عبد الرحمن البنا : إنه يلزم أن نحدد المسئول عن الإخوان حتى نستطيع أن نوجه اقتراحًا جديدَا عرض علي بواسطة الحاج محمد جودة – والمسألة عايزة همة وحركة ونشاط لحل هذه الأزمة فما رأيكم ؟ فقال الدكتور كمال خليفة حقيقة إن المشكلة مهمة وتحتاج إلي نشاط ومتابعة وعمل مستمر ، وأنا كما تعلم مشغول ووقتي لا يسمح ، ويستحسن أن يكون الأستاذ عبد الرحمن – الرجل المسئول في هذه الظروف ، فقال الأستاذ عبد الرحمن : أنا مستعد يا فندم لأأن اتحمل كل المسئولية علي شرط أن نضع ميثاقا لهذا العمل ، وقام إلي مكتبه وكتب شهادة أو إقرارا يحتوي علي أنه هو المسئول الآأن عن الإخوان المسلمين ، وطلب مني ومن الدكتور كمال خليفة التوقيع علي هذه الوثيقة ، فما كان من الدكتور كمال إلا أن قال : لا بأس أعطني قلمك ووقع علي هذه الورقة وطلب إلي التوقيع عليها فرفضت وقلت : لا أوقع ، وهنا غضب الأستاذ عبد الرحمن وقال : لماذا لا تثق وترتاب – فقلت له : إذا كنت تريد مني أن أوقع علي هذه الورقة فأضف بندًا آخر ، وهو أنك لا تتصرف أي تصرف إلا بحضورنا معك زيبلغ هذا لجمهور الإخوان . فقال الدكتور كمال خليفة : جالك الكلام يا دكتور أهو السيد حامد لا يطمئن إليَّ وفي ريب مني ، فطلب مني الدكتور كمال التوقيع فرفضت وأصررت علي عدم التوقيع ، وكنت قد تذكرت قصة : (طلب سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الولاية من رسول الله صلي الله عليه وسلم – فرفض عليه الصلاة والسلام وقال : إنك امرؤ فيك ضعف ...) ولم يدر في خلدي النيل من الأستاذ عبد الرحمن البنا ، كما لا أطعن في خلقه ودينه ، ويكفي أنه شقيق الإمام الشهيد رحمه الله . فسألني الدكتور كمال : إذن ما رأيك في توقيعي – فقلت له : أنا لا أعرف ماذا سيقول التاريخ عنك ، وهنا صاح الأستاذ عبد الرحمن قائلا : التاريخ .. التاريخ .. إنه في ريب مني .. وكأني سأبيع الإخوان المسلمين ، وفي عصبية قدم الورقة إلي الدكتور كمال خليفة – وقال : أنا يرضيني يا دكتور أن تحتفظ بها عندك .

وهنا حمدت الله علي هذه النتيجة ...ومن هذه الجلسة ضاق الرجل بي ، ولكن ماذا أستطيع أن اعمل بها أمانة المسئولية .. وإنني خشيت أن يورط الجماعة بمفرده فيما لا يحمد عقباه ، ثم انتقل الأستاذ عبد الرحمن بالحديث عن مقابلة الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي لمعاونتنا في حل الأزمة وأردف قائلا : تعال معي يا دكتور لحضور هذه المقابلة – فقال الدكتور كمال : أنا مش فاضي – يروح معك السيد حامد وابتسم ، قلت لا بأس أذهب معه تحصليَّ البركة فأحرج الأستاذ عبد الرحمن وقبل الصحبة . وفي أثناء هذا الاجتماع عرض الأستاذ عبد الرحمن اقتراحًا سبق أن حمله إليه الحاج محمد جودة ، وهو أن تجتمع الهيئة التأسيسية ويحضرها السيد جمال عبد الناصر ورجال الحركة ويتحدثون إلي أعضاء الهيئة كيف نشأ الخلاف بينهم وبين الإخوان ، وبذلك يلتقي رجال الحركة مع أعضاء الهيئة التأسيسية وتحل المشاكل ، فقلت للأستاذ عبد الرحمن : هذا اقتراح جميل ، ولكن يجب أن يحضر الاجتماع فضيلة المرشد وأعضاء الهيئة المعتقلين ، وبذلك يصبح الصلح شافيا – وبينما إذ نحن في الحديث دخل الحجرة الأخ الأستاذ شكري عبد المجيد وقال : إن الأإخ الحاج محمد جودة في الخارج ويريد اللقاء بكم ، فقلنا لا بأس وقابلناه ، وكان بعض الإخوان مودجودًا منتظرين مقابلة الأستاذ عبد الرحمن ، وقال الحاج محمد جودة : عندي اقتراح هو أن – الإخوان والسيد جمال عبد الناصر يحضروا عندي في المنزل ، وهو يطرش اللي عنده – والإخوان يطرشوا اللي عندهم والعايب نعيبه ، واللي مايرضاش بكده يبقي ابن ... وانتهينا من أننا سندرس كل شيء وطمأناه ، ولاحظنا أن كلامه كان يحمل معني – التهديد .. والوعد .. والوعيد .. في هياج شديد ، فقلنا بالطيف .. وفهمنا الفولة .. واستأذنا في الانصراف من الأستاذ عبد الرحمن علي أن ألتقي معه ونذهب سويا لمقابلة الصاغ صلاح سالم .

مقابلة الصاغ صلاح سالم

وفي اليوم التالي ظهرا اتصل بي الأستاذ عبد الرحمن البنا – وقال : إنني سأتقدمك إلي وزارة الإرشاد القومي في قصر عابدين – فحلقت به هناك ، وتقابلنا في حجرة مكتب الأستاذ جمال السنهوري سكرتير الوزير ، وبعد قليل استدعينا لمقابلة الصاغ صلاح سالم فما أن دلف الأستاذ عبد الرحمن مكتبه حتى وقف ناهضا وعانقه عناقا حارا ، أما أنا فاكتفيت بمصافحته باليد ، وترك الصاغ صلاح سالم مقعده وجلس في ركن من الحجرة وإلي يساره – الأستاذ عبد الرحمن وأنا بجواره وبجانبي الأستاذ جمال السنهوري ، وابتدأ حديثه : لماذا هذا الشقاق بيننا وبين الإخوان ، نحن نريد أن نوحد جهودنا وهاهو محمد نجيب قد أرجعناه بعد أن عزلناه ، لأن مصلحة البلاد تقتضي ذلك ، فإذا كان الأستاذ حسن الهضيبي يكرهنا فما الذي يمنع أن نتعاون من أجل مصلحة البلاد .

وقص قصة يندي لها جبين الشرف حول ما يشاع عن اتهامه في علاقته الخاصة المشبوهه بمحمد نجيب ، ثم قال : ومع ذلك تعاونت معه . فقلت له : إن الإخوان استقبلوا الحركة استقبالا حماسيًا كريما وكانوا يحيُّون قادة الحركة في الاجتماعات العامة بهتافاتهم المعروفة ، ومع ذلك رفض قائد الحركة السيد جمال عبد الناصر هذه التحية – وقال : للإخوان في زيارته للحوامدية – لا تكونوا كالببغاوات ترددون مالا تعقلون ، وبذلك أفسد جو العلاقة الطيبة بين الإخوان وقيادة الحركة ، وخيب آمالهم ، وقنل شعورهم الصادق نحوكم – فرد الوزير قائلا : يا أخ أبو النصر أصل المقصود من هذه الهتافات ليست التحية ، إنما القصد منها هو إفهام الناس أن الإخوان هم الذين قاموا بالحركة ورجال الحركة بتوعنا – قلت : والله الإخوان في حيرة إن حيُّوكم تقولوا إن نيتهم سيئة ، وإن لم يشتركوا في استقبالكم وتحيتكم ترموهم بالحقد هتافاتنا هي الحركة مش للجميع . فقلت : يحضروا اجتماعاتنا ويهتفوا هتافاتنا هي الحركة مش للجميع .

فقلت : هذا يصعب علي الإخوان إذ معني ذلك أنهم تخلوا عن مبادئهم ، ثم إنهم لم يعتادوا أن يهتفوا باسم أحد ، ثم قلت له : هل يرضيك ما صنع البوليس الحربي بالاعتداء بالضرب والإهانة علي الأخوين الكريمين فضلا عن أنهما من أكفأ رجالات القانون . فرد قائلا : يا خويا أبو النصر الأستاذ عبد القادر عودة كان ماشي كويس ومعتدل في آرائه فإذا به يقف في ميدان عابدين ويخطب ويحمس الجماهير ويلوح بمنديل ملوث بالدماء فيثير الجماهير ضدنا .. هل هذا يصح ؟ ومع ذلك فالضباط الذين فعلوا هذا لم يرقنا عملهم ولم نسترح له ، وتألمنا جدا من هذا التصرف – ثم عقب قائلا : نحن نريد أن نترك الماضي ودعنا منه وهيا نتعاون من جديد ، ولماذا لا نلتقي بالإخوان ونتفاهم ونجتمع بأعضاء الهيئة التأسيسية ؟ وعندئذ قال الأستاذ عبد الرحمن : أي نعم .. أي نعم .. هذا الاقتراح حمله إلينا بالأمس الحاج محمد جودة ، وأظنه رغبة السيد جمال ونحن نرحب به ونعمل له .

فقلت للسيد صلاح : هل تريد أن تعرف الحقيقة ؟ قال : نعم إنك رجل صريح وأحب أن أسمع منك كل شيء . قلت له : لو حصل أن رجال الحركة وأحب أن أسمع منك كل شيء . قلت له : لو حصل أن رجال الحركة اجتمعوا في مكان ما ودعوا أعضاء الهيئة التأسيسية فلن يلتقي بكم أحد سوي الأستاذ عبد الرحمن ، والكلام الذي يقال غير هذا لا يعبر عن الواقع ، وإذا كنتم تريدون الالتقاء بأعضاء الهيئة التأسيسية حقيقة فما عليكم إلا أن تفرجوا عن فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين ، ويحضروا اجتماع الهيئة ويكون علي رأسها فضيلة المرشد العام – عندئذ يلتقي الإخوان برجال الحركة ويتفاهموا ويقرروا ما يعود علي الجميع بالخير . فعقب السيد صلاح سالم قائلا : والله كلامك صريح وواضح وكتر خيرك أرحتني .. وانتهيت المقابلة دون الاتفاق علي شيء .

قيادة الدكتور كمال خليفة للإخوان

وفي اليوم التالي لهذه المقابلة وقد تبين لي وجهة نظر الأخ الأستاذ عبد الرحمن البنا في تمسكه بدعوة الهيئة التأسيسية للاجتماع بقادة الحركة في غيبة فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين ، توجهت إلي المنزل الأخ الدكتور محمد كمال خليفة واكتفيت باللقاء به علي اعتبار الأخ المسئول عن الجماعة والذي وقع اختيار المكتب عليه بعد الأخوين الأستاذ عبد القادر عودة ، والأستاذ عمر التلمساني ، وشرحت له كل ما حدث بالأمس في اللقاء بالصاغ صلاح سالم ، واتفقنا أن نتعاون سويا ، وقررنا إحباط كل محاولة لاجتماع الهيئة التأسيسية بأي صورة في غيبة فضيلة المرشد . وعمل ما يمكن عمله ، وبذل كل الجهد للإفراج عن فضيلة المرشد والإخوان والمعتقلين ، وتعاهدنا علي ذلك ، واستضافني الأخ الدكتزر كمال خليفة في منزله طيلة هذه الفترة حتى نتمكن من مواصلة إنجاز العمل لضيق الوقت ولمتابعة سرعة الأحداث .

محاولة الاجتماع في عيادة الدكتور إبراهيم أبو النجا

كنت قد علمت أن الأستاذ عبد الرحمن السندي ومن معه من المفصولين ، اتصلوا بالدكتور إبراهيم أبو النجا ، وطلبوا منه عقد اجتماع الهيئة التأسيسية في عيادته ، فذهبت بنفسي إلي الدكتور في عيادته بجوار وزارة الأوقاف ، وعندما قابلته – ابتسم وقال : إنك ستطلب مني عدم اجتماع الهيئة هنا ، وقبل أن تحدثني أبادرك أنا بالحديث .. إنني سوف لا أسمح لأحد بالاجتماع في عيادتي ، وسأغلقها بيدي ، وكن في غاية الاطمئنان وثق في كلامي ، فشكرت له ذكاءه ، والتزامه الحفاظ علي وحدة الجماعة ، وشربت القهوة وانصرفت . ... وفي اليوم التالي ذهبت بنفسي في الميعاد المحدد للاجتماع فلم أجد أحدا ، ووجدت باب العيادة معلقا ، فشكرت الله لأخي صدقه وحسن صنيعه .

زيارة جلالة الملك سعود لمصر

ومرت الأيام حتى طالعتنا الصحف خبر قرب زيارة المرحوم جلالة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية لمصر ، فاتفقت والدكتور كمال خليفة علي إرسال برقية لجلالته يوم قدومه نرحب به ونعتذر عن غياب جماعة الإخوان المسلمين عن الاشتراك في استقبال جلالته لوجود مرشد الجماعة والإخوان داخل السجون . وبالفعل حررنا برقية بهذه المعاني باسمي واسم الأخ الدكتور كمال خليفة ، وذهبت بها إلي مكتب تلغراف محطة مصر وقدمتها للموظف المختص ، فما أن قرأها حتى اتصل بالتليفون بجهة لم أعرفها ثم عاد بالبرقية فردها إليّ ورفض استلامها ، وبعد نقاش قال لي : مافيش داعي من النقاش في موضوع معروف .. وأنت عارف .. وأنا عارف .. فرجعت إلي الدكتور كمال خليفة وشرحت له ما حدث في شأن البرقية .

مساعي جلالة الملك سعود في الإفراج عن الإخوان

بعد فشل محاولة إرسال البرقية عرضت علي الدكتور كمال خليفة فكرة تقديم مذكرة باسم الإخوان بموضوع الخلاف القائم بين الإخوان والحكومة للتوفيق بينهما لتوحيد الصف ، ولالتعاون لمصلحة البلاد ، وطلب تدخل جلالته في الإفراج عن فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين ، فوافقني وكتبنا المذكرة ووقعنا عليا سويا .

موقف المفتي الأكبر الشيخ حسنين مخلوف في قضية الإخوان

بعد كتابة المذكرة والتوقيع عليها بحثنا فيمن يقوم برفعها إلي جلالة الملك سعود ، فاتفقنا علي أن يقوم برفعها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ حسنين محمد مخلوف – مفتي الديار المصرية سابقا ، لمكانته الرفيعة عند جلالة الملك ، وفي العالم الإسلامي ، ثم حددنا موعدا لمقابلة فضيلة المفتي الأكبر ، وفي الموعد المحدد اعتذر الأخ الدكتزر كمال خليفة لمشاغله ، فذهبت بمفردي ، وتقابلت مع فضيلة المفتي الأكبر ، وشرحت له موضوع المذكرة فرحب بها وأخذها مني ووعدني خيرا .

اللواء نجيب يتهرب

وبعد مضي يومين ذهبت إلي فضيلة المفتي الأكبر للتعرف علي النتيجة فأخبرني فضيلته أن المذكرة رفعت إلي جلالة الملك ، وجلالته مهتم بالموضوع ، وتحدث مع اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية الذي أبلغ جلالة الملك أن هذه المسألة في يد السيد جمال عبد الناصر .

وعود عبد الناصر العرقوبية

عند مقابلة الضابط عبد الناصر لجلالة الملك سعود حدثه جلالته في ضرورة الإفراج عن المرشد والإخوان المعتقلين ، فوعده جمال ، ولكن لم تظهر نتيجة لهذا الوعد ، فلما علمنا بذلك تحدثت مع فضيلة المفتي الأكبر في ضرورة تحريك الموضوع مرة أخري ، لأنه ربما جمال يقصد المماطلة في حل المشكلة حتى يغادر جلالة الملك البلاد ، وتظل المشكلة قائمة ، ويزداد التوتر بين الإخوان والحكومة ، وتتعقد الأمور أكثر ، فما كان من فضيلة المفتي الأكبر حفظه الله إلا أن عاود طرق الموضوع مرة أخري ، فتحدث جلالة الملك سعود مرة ثانية مع جمال وقال له : أريد أن يصلي الإخوان الجمعة معي في الأزهر الشريف ، فأخرج عبد الناصر ، ووعد بتحقيق هذه الرغبة الملكية .... وكان هذا في يوم الأربعاء 24 من مارس سنة 1954 .

الإفراج عن المرشد والإخوان

وفي اليوم التالي 25 من مارس سنة 1954 تم الإفراج عن فضيلة المرشد والإخوان المعتقلين . كلمة حق تقال : ونري لزاما علينا أن نسجل بكل الإعزاز والإجلال المساعي الحميدة التي بذلها المرحوم جلالة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية الملك المسلم الذي كانت يهمه أمر المسلمين – رحمه الله رحمة واسعة .

كرامة المفتي الأكبر

ومما هو جدير بالذكر أن المرحوم رفعة علي ماهر باشا – رئيس الحكومة المصرية سابقا كان قد مد خدمة المفتي الأكبر الشيخ حسنين محمد مخلوف لمدة ثلاث سنوات أخري . فلما جاءت حكومة الحركة أرادوا فصله من عمله كمفتي للديار المصرية .. هكذا قال لي المرحوم الشيخ أحمد حسن الباقوري – وزير الأوقاف الأسبق ، وطلب مني لما يعرفه من العلاقة الوثيقة بيني وبين فضيلة المفتي الأكبر أن أشير علي فضيلته بتقديم الاستقالة خير من أن تعزله حكومة الحركة ، وعلي ذلك أبلغت فضيلة المفتي الأكبر ما قاله الشيخ الباقوري ، فرفض المفتي الأكبر الاستقالة قائلاً : أنني سأظل أعمل في منصبي أؤدي واجبي لخدمة الإسلام والمسلمين ، وعلي الحكومة أن تفعل ما تشاء . وهكذا كان الرجل شجاعا أبيا حافظا لكرامة العلم والعلماء ...

من المتناقضات العجيبة عبد الناصر أول المهنئين

ولما حان موعد الإفراج ، اتصل الأستاذ محمود فؤاد جلال بالدكتور كمال خليفة ، الذي اتصل بدوره بي ، والتقينا في مقهي مطل علي النيل ، وهنأنا بقرار الإفراج ، وقال : هيا بنا نزور فضيلة المرشد ، وإن شاء الله سيخرج الليلة ، وركب ثلاثتنا سيارة الدكتور كمال خليفة وذهبنا إلي إدارة المخابرات حوالي الساعة السادسة مساءً ، وهناك التقينا بالسيد زكريا محيي الدين – وزير الداخلية وقال لنا : مبروك هيا علي السجن الحربي ، فقلت له : يا تري زائرين أم مقبوض علينا ؟ قال : لا زيارة ، وضحك الجميع ، وذهبنا إلي السجن الحربي في صحبة أحد الضباط ، وفي الطريق أسر عليَّ الضابط بضرورة العمل علي سرعة عودة فضيلة المرشد إلي منزله ليتمكن السيد جمال عبد الناصر من تهنئته قبل أي حد ، وعندما وصلنا كانت مفاجأة سارة لنا وللإخوان حيث قابلنا فضيلة المرشد فتبادلنا العناق : ليخرج الإخوان أولا .. قلت لفضيلته إن الإخوان سيلحقون بنا حالا إن شاء الله ، المهم خروج فضيلتك أولا – لأن الضابط المرافق لنا أسر إليَّ بضرورة سرعة ذهابك إلي منزلك حتى يتمكن السيد جمال عبد الناصر من تهنئتك قبل أن يلقاك أي إنسان ... !! فصمت فضيلته – وقال : طيب يا سيدي وركبنا سيارة الدكتور كمال خليفة مع فضيلة المرشد حيث توجهنا إلي منزل فضيلته ، وعندما دلفنا الشقة المتواضعة وجدنا أهلها في انتظاره في هدوء ، وكانوا قد علموا بخبر الإفراج من الدكتور كمال خليفة تليفونيا ، وما أن جلسنا حتى حضر الضابط جمال عبد الناصر ومعه الضابط صلاح سالم ، فتقدما بالتهنئة في حرارة متكلفة ، وشكرهما فضيلة المرشد وجلس الضابط عبد الناصر بجوار فضيلة المرشد في صمت عميق كاد أن يطول لولا تبادل – الحديث المتقطع .. وانتهت الزيارة التي لم تستغرق أكثر من عشرة دقائق – بعدها انصرف عبد الناصر وزميله صلاح سالم ، وودعهما فضيلة المرشد حتى باب الشقة وودعتهما حتى السيارة .

عبد الناصر يطلب لقاء حسن العشماوي

ونحن في طريقنا إلي السيارة التي كانت في انتظار الضابط عبد الناصر ، والضابط صلاح سالم أمام المنزل ، طلب إلي الضابط عبد الناصر أن أبلغ تحياته وتهنئته إلي الأخ الأستاذ حسن العشماوي المحامي ، ورجاءه في زيارته فهو مشتاق إليه ، ويرغب في رؤيته فقلت له : أليس هذا هو حسن العشماوي الذي خبأت أسلحتك وذخيرتك في عزبة والده ثم نشرت عنه في الصحف أن هذه الأسلحة ملكه ليستخدمها الإخوان ضد الحركة .. فضحك وقال : إنني عملت له دعاية تساوي اثنين مليون جنيه ..

فضيلة المرشد يستقبل المهنئين

أخذت جموع الإخوان ، ورجال الصحافة يتوافدون علي منزل فضيلة المرشد لتهنئته بالإفراج ، ومن أبرز الشخصيات التي حضرت للتهنئة سماحة مفتي فلسطين السيد أمين الحسيني ، وفضيلة الإمام الأكبر الشيخ تاج الدين شيخ الجامع الأزهر ، كما اتصل تليفونيا اللواء محمد نجيب مهنئا بسلامة الوصول ، وعند مقابلتي مع الأخ الأستاذ حسن العشماوي أبلغته رغبة السيد جمال عبد الناصر في زيارته له ، لكنه رفض هذه الدعوة ، وبعد إلحاح مني وافق ووعد بتلبية الدعوة – رحمه الله رحمة واسعة .

انعقاد المكتب برئاسة فضيلة المرشد

وفي مساء اليوم الذي أفرج فيه عن فضيلة المرشد ، اجتمع مكتب الإرشاد برئاسة فضيلة المرشد في منزله ، وتقرر تشكيل لجنة من الإخوة الأساتذة فضيلة الشيخ محمد فرغلي والدكتزر كمال خليفة ، وصالح أبو رقيق ، للاتصال بالحكومة للتفاهم علي تسوية المسائل وحل الخلافات من أجل مصلحة البلاد ، لكن هذه اللجنة لم تتمكن من الاجتماع بعبد الناصر لتهربه من اللقاء بها ، كما تقرر أيضا أن يقوم فضيلة المرشد برد زيارة السيد جمال عبد الناصر وفي أثناء الاجتماع تم الاتصال تليفونيا بالسيد جمال عبد الناصر في منزله فرحب بالزيارة في الحال ، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الثانية عشرة بعد منتصف الليل .

فضيلة المرشد يرد زيارة عبد الناصر

ولما هم فضيلة المرشد للقيام بالزيارة قال هيا بنا ، وتعالَ معنا يا صالح ، وركبنا سيارة الدكتور كمال خليفة ، وذهبنا نحن الأربعة إلي منزل عبد الناصر ، وهناك كان في انتظارنا ومعه السيد جمال سالم ، واستقبل فضيلة المرشد استقبالا كريما ، وجلس عبد الناصر أمام فضيلة المرشد جلسة الطالب أمام أستاذه ، ومما هو جدير بالذكر أن هذه الليلة كانت هناك صراعات بين الضباط داخل الجيش ، وكان تمرد ضباط سلاح الفرسان علي أشده بسبب الخلاف القائم بين عبد الناصر واللواء نجيب .. وبعد تبادل كلمات الترحيب نظر فضيلة المرشد إلي الضابط عبد الناصر قائلا له : البلد في حاجة ماسة إلي وحدة الصف مش عايزين انقسامات ، وصراعات خصوصا في الجيش ، لأن هذا ستكون له عواقب وخيمة ، وبلاش المظاهرات المفتعلة التي يفوم بها بعض الغوغاء بحجة الاحتجاج علي قرارات رجوع الأحزاب ، فرد عبد الناصر إن هذه المظاهرات يقابلها ضغط شديد من داخل الجيش ، بضرورة إلغاء قرارات رجوع الأحزاب ، فقال فضيلة المرشد : علي كل حال كل شيء يمكن أن توجد له حلول ، والأفضل أن تبحث مواضع الخلاف وتسوي ، وقال جمال : " أنا ماعنديش مانع " ومافيش حاجة في نفسي ، وبابذل كل جهدي لتهدئة الموقف " .

عبد الناصر يطلب من الإخوان وضع مشروع لحل المشاكل

ويتابع عبد الناصر حديثه قائلا : يا حبذا لو أن الإخوان قدموا لنا مشروعا لحل هذه المشاكل لتهدئة الحالة ، والرجوع بالبلاد إلي حالتها الطبيعية – فرد فضيلة المرشد قائلا : اعطنا فرصة 48 ساعة نقدم لك الحل (لكنه في اليوم التالي وقبل مضي المدة المحددة صدرت قرارات بإلغاء قرارات 25 مارس ..) وهنا رن جرس التليفون فرد عبد الناصر ، وبعد لحظات قال لنا : الملك سعود يطلبني ، ويظهر أن محمد نجيب رايح يشتكي له مني .. خايف مني قوي .. فقال فضيلة المرشد : الحمد لله ربنا يوفق الملك سعود لتسوية الخلاف .

جمال سالم يقول :

الرشوة انتهت .. الفساد انتهي .. الحالة تحسنت .. !!

وفي أثناء الحديث علق السيد جمال سالم علي أنه ليس من صالح البلد الانقسامات خصوصا أن الثورة في طريقها إلي الإصلاح العام ، والرشوة انتهت .. والفساد انتهي .. والحالة تحسنت .. !! فقال فضيلة المرشد : إنت متهيئ لك .. الحالة مش طيبة .. والرشوة زي ماهية .. والفساد زي ماهوه .. والإصلاح عاوز مجهود جبار .. ثم هم فضيلته قائما للانصراف .

عبد الناصر يُلح علي فضيلة المرشد في الانتظار

بينما كان فضيلة المرشد يهم بالانصراف إذ كان عبد الناصر يتهيأ للذهاب لمقابلة جلالة الملك سعود ، عندئذ طلب عبد الناصر في إلحاح من فضيلة المرشد أن ينتظر قليلا ربما الأمر يحتاج إليه . فرد فضيلة المرشد قائلا : إذا احتاج الأمر إليّ أديني تليفون . وهنا دخل الصاغ صلاح سالم ومسك بيد فضيلة المرشد وألح عليه في البقاء ، لكن فضيلته اعتذر – قائلا : أنا تعبان والليل تأخر ، فودع الجميع فضيلة المرشد حتى السيارة .


فضيلة المرشد يشكر اللواء محمد نجيب :

وزفي صباح اليوم التالي استدعانا فضيلة المرشد أنا والدكتور كمال خليفة لزيارة اللواء محمد نجيب – رئيس الجمهورية لشكره علي تهنئته له بالإفراج ، وفي الموعد المحدد ذهبنا إلي منزل اللواء نجيب ، حيث استقبلنا ، ورحب بنا ، وكرر تهنئته لفضيلة المرشد وأخرج من جيبه المصحف الشريف ، وأقسم عليه أنه ما كان هو السبب في حل الإخوان ، - وقال : صحيح أنا كان رأيي حل الإخوة في المرة الأولي ، لكن جمال وإخوانه رفضوا ، والحقيقة إن أنا كنت خايف من حكاية قطع يد السارق .. فرد فضيلة المرشد عليه قائلا : لغاية دا الوقت مش فاهم متى تقطع يد السارق .. ؟! أنا قلت نوفر للفرد مأكله .. ومشربه .. ومسكنه .. ومطيه يركبها .. ثم إذا سرق بعد ذلك تقطع يده ، وهذا ما يقرره الشرع ، فأجاب اللواء نجيب قائلا : دا احنا نعدمه .. مش نقطع إيده وبس .. وقال : أنا لا أنسي فضل الإخوان ، ومعجب بدعوتهم ، وكثيرا ما حضرت درس الثلاثاء ، ونوه عن الخلاف القائم في الجيش – وقال : الأولاد (يقصد الضباط) خذوني مرة بعد الاستقالة في الصحراء وهددوني بالسلاح .. وقلت لهم : اضرب يابني بالرصاص .. موتني .. أنا عايز أستريح من رئاسة جمهوريتكم المهيبة دي .. ولكن للأسف ماكنش فيهم راجل .. وأعمال صبيانية كثير .. حتى قرار رجوع الأحزاب الذي أعلن أول أمس ، واللي قالوا إني موافق عليه ، هذا كذب والله .. ولم يؤخذ رأيي فيه .. هم عملوا القرار وصوتوا جميعهم ضدي ، وأنا لا أعرف لماذا أرجعوا الأحزاب .. ؟! ولم يكلموني قبل الجلسة في هذا الموضوع ، فقال فضيلة المرشد : المهم احنا عايزين مصلحة البلد ، ومش عايزين خلافات ، لأن الخلاف في الجيش عواقبه خطيرة علي البلد ، ولازم الموضوعات تسوي لتجنبوا البلاد مخاطر الانقسامات ، فقال اللواء نجيب : والله ياريت فضيلتك تتدخل وأنا أرحب . فرد فضيلة المرشد : أنا مستعد إذا طلبتوني ، فقال اللواء نجيب : أنا أود ما عليّ ، لكن إذا لم تستدع يبقي جمال هو السبب ، فقال فضيلة المرشد : إن شاء الله ربنا يوفق الملك سعود لتسوية الخلافات ، وإصلاح ذات البين . فقال اللواء نجيب : إننا بالأمس كنا مع جلالة الملك سعود ، ولكن أهو كلام .. ماحدش عارف ما الذي سيحدث .. ولم يشأ فضيلة المرشد أن يسأله في شيء بعد ذلك .. واستأذن في الانصراف ، وعدنا إلي منزل فضيلة المرشد .. وكتب الدكتور كمال خليفة ملخصا لما دار في هذه الزيارة ، وعرضه علي فضيلة المرشد ..

فضيلة المرشد في حضرة جلالة الملك سعود

وفي اليوم التالي ذهب فضيلة المرشد وكنت في صحبته إلي قصر الطاهرة ، حيث ينزل جلالة الملك سعود ، وسجلنا أسماءنا في سجل تشريفات جلالة الملك ، وفي المساء طلب جلالة الملك فضيلة المرشد لمقابلته ، وكانت مقابلة عربية كريمة .

جلالة الملك سعود يجتمع بقادة الحركة

وقد علمنا بعد مقابلة جلالة الملك سعود لفضيلة المرشد ، أن اللواء محمد نجيب والضابط عبد الناصر ، قد اجتمعا بحضرة جلالة الملك ، وتباحثوا في الصلح ، واضطر جلالة الملك أن يؤخر سفره يوما لتسوية الخلاف ، وكان يحضر هذا الاجتماع السيد الأستاذ عبد الرازق السنهوري – رئيس مجلس الدولة حينئذ ، وطلب منه جلالة الملك أن يدلي برأيه لحل المشكلة فاقترحبتشكيل وزارة من بعض رجال الثورة كمدنيين ، ومعهم الإخوان المسلمون ، ويعود الجيش إلي ثكناته ، وتكون مهمة هذه الوزارة إعادة الحياة النيابية والعودة بالبلاد إلي حالتها الطبيعية – فسر جلالة الملك بهذا الاقتراح .

الاعتداء علي الأستاذ السنهوري

وقد قيل إن هذا الاقتراح كان السبب المباشر في الاعتداء بالضرب علي الأستاذ السنهوري إذ اقتحم عليه بعض الضباط مكتبه في مجلس الدولة وأوسعوه ضربا .


الأستاذ السنهوري يرفض زيارة عبد الناصر

وكان لحادث الاعتداء علي الأستاذ السنهوري وقعه السيء ، وموضع أسف وحزن الكثير من طبقات الشعب لما يتمتع به من مكانة عظيمة ، فهرع كبار رجال القانون إلي مستشفي مظهر لزيارته والاطمئنان علي صحته ، والعجيب أن زاره الضابط عبد الناصر ، وطلب مقابلته للاطمئنان عليه ، لكن الأستاذ السنهوري رفض رؤيته ، فخرج عبد الناصر مكتفيا بالسؤال علي صحته .. وهكذا حقق القول القائل : (يقتل القتيل ويسير في جنازته) .

فضيلة المرشد يزور الأستاذ السنهوري

وفور سماع فضيلة المرشد بالحادث ، قام بزيارة الأستاذ السنهوري في المستشفي يرافقه سماحة السيد أمين الحسيني – مفتي فلسطين ، وكنت في صحبتهما ، وما أن علم الأستاذ السنهوري بمقدمهما للسؤال عنم صحته حتى طلب رؤيتهم ، وما أن دلفنا حجرته حتى حييناه ، وسألنا عن صحته ، ثم تقدم فضيلة المرشد وقبله وهو علي فراش المرض ، وقد غطت الأربطة الطبية جميع أجزاء جسده ، ودعونا له بعاجل الشفاء ، وشكرنا ثم انصرفنا .

اللواء نجيب يطلب مقابلة فضيلة المرشد في الخفاء

وفي خضم هذه الأحداث اتصل بي أخ كريم موثوق به ، وهو قريب لأحد سكرتيري اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية ، وقال أرجو إبلاغ فضيلة المرشد أن الرئيس محمد نجيب يرغب في مقابلة فضيلته في مكان وزمان لا يعلم بهما أحد ، وعلي ذلك قابلت فضيلة المرشد وأبلغته رغبة الرئيس نجيب في مقابلته في مكان وزمان لا يعلم بهما أحد فقال :

كيف هذا ؟!!


إذا كان هو رئيس الجمهورية وخايف يقابلني .. فماذا أقول له ؟!! ...

فضيلة المرشد يتقدم بمذكرة بأوجه الإصلاح

إبراءً لذمته ، وأداءً لواجب النصيحة ، وضع فضيلة المرشد مذكرة ، وكلفني والأستاذ صالح أبو رقيق بتقديمها إلي السيد جمال عبد الناصر – رئيس الحكومة في غرة رمضان سنة 1373هـ الموافق 4 من مايو سنة 1954 ، وكان أهم ما جاء في هذه المذكرة : إلغاء الإجراءات الاستثنائية والأحكام العرفية ، وإعادة الحياة النيابية ورفع الرقابة علي الصحافة ، وإطلاق حريات المعتقلين والمحكوم عليهم من المحاكم الاستثنائية وغير ذلك من أوجه الإصلاح ، مما يستوجب جمع الكلمة وتوحيد الصف سيما وقد أستأسدت إسرائيل علينا في الآونة الأخيرة ، ونريد إخراجها من فلسطين ، ولا تزال الحرب بيننا وبينها قائمة ، وإن كنا في هدنة ، وبالفعل توجهت والأستاذ صالح أبو رقيق إلي مدير مكتب عبد الناصر ، وفقدمنا له هذه المذكرة بعدما اتخذنا محاولات عدة للقتء بعبد الناصر ، وقدمنا له هذه المذكرة بعدما اتخذنا محاولات عدة للقاء بعيد النظر لكن دون جدوى ، وكان الهدف من المقابلة شرح ما جاء بالمذكرة ، وتوضيح بنودها ، لكن شيئا من هذا لم يتم ، وكان تعليق عبد الناصر علي المذكرة أنها : (إنذار علي يد محضر) حيث أن أفكارها التقت إلي حد كبير من الآراء الكثيرة التي تنادي بإطلاق الحريات ، وإعادة الحياة النيابية ، ومنها اقتراح المرحوم الأستاذ عبد الرازق السنهوري ، فثارت ثائرة عبد الناصر ، واشتاط غضبا ، وقلب ظهر المحن ، وبدأ رئيس الحكومة يوالي ضرباته الانتقامية للإخوان المسلمين ، فلم يفرج عن ضباط الإخوان بل أخذ يقدم بعضهم إلي محاكمات عسكرية سرية ، مثل محاكمة الأخ المرحوم اللواء طيار عبد المنعم عبد الرءوف ، وأخذ الرقيب الصحفي يضيق الخناق علي جريدة الإخوان التي كان يرأس تحريرها الأستاذ الشهيد سيد قطب ، واتسعت شبكة مراقبة أفراد الإخوان ، وأصبح الجميع يشعر بملاحقة الحكومة له في كل مكان ، وشتت كبار الإخوان الموظفين بنقلهم إلي أقاصي الصعيد ليخلو الجو ، تمهيدا لبدء المفاوضات مع الانجليز ، وأخذت تشيع في صفوف الإخوان أن من يحاول إحباط هذه المفاوضات أو نقدها سيقبض عليه وينكل به ، واتخذ عبد الناصر الإخوان المفصولين أداة للدعاية للمفاوضات ، وضرورة تأييد الحكومة في موقفها ، واعتبار الإفراج عن الإخوان المعتقليم ، وإلغاء قرار الحل (مكرمة) من الحكومة ، يجب أن يقدرها الإخوان .

سفر فضيلة المرشد إلي الأقطار العربية

وفي هذا الجو الصاخب ، رأي فضيلة المرشد أن يغادر مصر في زيارة إلي الأراضي المقدسة ، وقد أوصي الإخوان المسئولين في الجماعة بالهدوء ، وكلفهم بالتفاهم مع الحكومة في المشاكل القائمة لعل الأمور تحل وتسير في مجراها الطبيعي ، وقد قصد فضيلته بهذا السفر إعطاء الفرصة كاملة لتذليل الصعاب والعقبات التي تحيط بالإخوان .. ... ولما عزم فضيلة المرشد زيارة الأراضي المقدسة ، ومقابلة جلالة الملك سعود لشكره علي مساعيه الحميدة في أزمة يناير ، أخذ فضيلته في الإعداد للسفر ، ورغب أن يصحبه في هذه الزيارة بعض الإخوان ، لكن الحكومة رفضت ذلك بتاتا ، وإن كان قد استطاع الأخ الأستاذ صالح أبو رقيق ، بوسائل خاصة عن طريق الجامعة العربية السفر قبل فضيلة المرشد ، حيث التقي فضيلته في الحجاز ، وكان رفض الحكومة السماح بسفر بعض الإخوان مع فضيلة المرشد سببا من أسباب تألم جمهور الإخوان من تصرفات الحكومة ضد مرشدهم ، وكان لهذه الزيارة وقع حسن في الأقطار العربية الشقيقة عامة ، وفي السعودية خاصة ، حيث استقبل فضيلته استقبالا كريما ، ووضع جلالة الملك سعود تحت تصرف فضيلته طائرة خاصة لينتقل بها إلي المزورات المقدسة النائية وكانت لفضيلته مع جلالة الملك سعود جلسات تحدثا فيها عن أحوال المسلمين ، وضرورة توحيد الجهود للخير العام ، وقد حضر جانبا من هذه الاجتماعات الأخوان الأستاذ صالح أبو رقيق ، والأستاذ سعيد رمضان ، ، وقد أتم فضيلة المرشد رحلته بعد ذلك فزار سوريا ، والأردن ، وكان في هذه الأقطار محل تقدير والإجلال من ملوك هذه البلاد ورؤسائها وشعوبها وكانت أحاديثهم تعبر آمالهم في دعوة الإخوان المسلمين ، في انقاذ هذه الشعوب والنهوض بها .

إعلان توقيع الاتفاقية مع الانجليز

ومن المؤسف اليوم اجتمع مكتب الإرشاد وقرأ نصوص الاتفاقية ، فلما رأي أنها ليست في صالح البلاد قرر معارضتها ، وشكل لجنة لدراسة بنودها والرد عليها .

المرشد يطلب رأي الإخوان في الاتفاقية من سوريا

وفي هذه الأثناء اتصل هاتفيا الأخ الأستاذ كامل الشريف من القدس بتكليف من فضيلة المرشد الذي طلب إليه الاتصال بالقاهرة لمعرفة رأي الإخوان في الاتفاقية لإبلاغه إلي فضيلته الموجود في سوريا ، حيث تعذر علي فضيلته الاتصال بالقاهرة من هناك ، .. فرد عليه الدكتور محمد خميس حميدة – وكيل الجماعة ، الذي كان مقيما بدار المركز العام ، وقد – أجاب الدكتور في صراحة ووضوح للأخ الأستاذ كامل الشريف موقف الإخوان من الاتفاقية هو موقف المعارض ، فقام الأخ الأستاذ كامل الشريف بتبليغ ذلك لفضيلة المرشد في سوريا .

رأي فضيلة المرشد في الاتفاقية

وفي اليوم التالي 28 من يولية سنة 1954 ، بعد أن علم فضيلة المرشد رأي الإخوان في الاتفاقية أراح الصحفيين الذين ألحوا عليه في طلب رأي فضيلته في الاتفاقية فصرح بنقدها لأنها في غير صالح مصر ، وقد أثار هذا التصريح رئيس الحكومة إذ أنه أساء الفهم لهذا النقد ، واعتبره طعنة نجلاء لحكومته ، وتضخمت علي أثر ذلك الأزمة ، وازدادت الأمور سوءًَا ، فاشتد الاضطهاد للإخوان مما ضاتعف من حدة التوتر بين الإخوان والحكومة ، وتوالت جلسات اللجنة المشار إليها ، والمشكَّلة برئاسة الأخ الأستاذ عبد القادر عودة ، وبعض القانونيين من الإخوان ، واشترك معهم الدكتور عبد الله رشوان ، وعكفوا علي دراسة بنود الاتفاقية لمدة أسبوع ، انتهوا إلي صياغة مذكرة توضح أسباب رفض الإخوان للاتفاقية ، حيث إنها لا تضمن الاستقلال التام ، والجلاء الحقيقي عن البلاد ، واعتبار مصر في حالة حرب إذا ما اعتدي علي تركيا ، وتقديم النصيحة والمشورة بأخذ رأي الشعب في الاتفاقية بالطرق الدستورية السليمة ، حتى تكون الاتفاقية معبرة عن رأي الأمة ، ومحققة لآمالها .

المكتب يقر مذكرة رفض الاتفاقية

ولما انتهت اللجنة من إعداد المذكرة اجتمع مكتب الإرشاد واطلع عليها ، وأقرها وكلف الأخوين الدكتزر خميس حميدة ، ومحمد حامد أبو النصر (الشاهد علي الطريق) لتقديمها إلي مكتب رئيس الحكومة . ... وأثناء جلسة المكتب الأخيرة لإقرار المذكرة استأذن في الخروج الأستاذ عبد الرحمن البنا ، فحاولنا إقناعه بالبقاء حتى يقوم قراءة المذكرة ، سيما وأنه حضر الجلسات السابقة وأقر مبدأ معارضة الاتفاقية ، ووضع مذكرة بهذا الخصوص ، لكنه اعتذر بأن لديه ميعادا سابقات ، ومع الأسف الشديد علمنا في الليلة التالية أنه كان مجتمعا بالصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي ، فكان لذلك وقعه السيء في نفوسنا ، كما حدث في الاجتماع ذاته أن الدكتور خميس حميدة ، طلب من المكتب الإذن ، لأن لديه موعدا مع أحد الأشخاص فرفض المكتب ، لأن الظرف دقيق ، والمكتب في حاجة لوجوده ، خصوصا وأنه وكيل الجماعة ، ورئيس الجلسة ، فلما أحرج اضطر أن يستأذن في مغادرة الجلسة بعض الوقت ، وبالفعل غاب الدكتور خميس حميدة عن الاجتماع حوالي نصف ساعة ، ثم رجع ، واستأنفنا قراءة المذكرة ، والانتهاء منها .

اجتماع الدكتور خميس ، بالصاغ صلاح سالم من وراء المكتب

وفي اليوم التالي ، علمنا أن الموعد الذي خرج من أجله الدكتور خميس حميدة ، أثناء اجتماع المكتب ، كان لمقابلة الصاغ صلاح سالم أيضا ، والجدير بالذكر أن لا – الأستاذ عبد الرحمن البنا ، ولا الدكتور خميس حميدة - ، أحاطا علم إخوانهم أعضاء المكتب بحقيقة المقابلة بالصاغ صلاح سالم ، مع أن واجب الأخوة يقضي بإخبار إخوان المكتب بكل ما حدث لعل المكتب يستنير فيعدل ، أو يثبت بعض أفكاره بما يعود علي الجماعة وعلي البلاد بالخير ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث !! .

الدكتور خميس يحاول تأجيل تقديم المذكرة

وفي 2 من أغسطس سنة 1954 ، حضرت للمركز العام ، وطلبت من الدكتور خميس حميدة القيام لتقديم المذكرة تنفيذا لقرار المكتب ، لكنه تباطأ ، وقال : يحسن الانتظار ، ولا داعي للاستعجال ، خصوصا وأن فضيلة المرشد أعلن في سوريا معارضة الإخوان للاتفاقية ، فيكفي هذا .. فقلت له : إذن أصبح من الضروري أن تسارع بتقديم المذكرة إلي رئيس الحكومة حتى يكون تصريح فضيلة المرشد متفقا مع ما قرره المكتب من معارضة الاتفاقية ، لكنه أصر علي تأجيل تقديم المذكرة محاولا اقناعي .. وأثناء وجودي معه ، وحديثي إليه في ضرورة سرعة القيام لتنفيذ قرار المكتب بتقديم المذكرة ، حدث أن اتصل به أحد الاشخاص تليفونيا ، فلاحظت عليه الارتباك ، وأخذ يسترسل في إقناعي بضرورة التأجيل ، والذي استنتجته من المكالمة أن المتحدث هدده وأبان له مغبة قيامه بتقديم المذكرة ، ، فلما رأيت هذه الحالة تألمت وقلت له : إنني لا أوافق علي التأجيل ، ويؤسفني أن تقف هذا الموقف ، وقد كان في استطاعتك والمكتب مجتمع ليلا برئاستكم أن تقولوا ولو كلمة واحدة يفهم منها معني التأجيل ، وهنا كان قد بلغ النقاش حدته ، وإذ بالأخ الأستاذ محمد مهدي عاكف يدخلب الحجرة ، فرجوته أن يكلف من يستحضر لنا تاكسي ، فقال : سيارتي تحت أمركم ، وركبنا السيارة إلي مبني رئاسة مجلس الوزراء ، وهناك قابلنا كبير التشريفات الأستاذ صلاح الشاهد ، فقال له الدكتور خميس نريد أن نقدم هذه المذكرة إلي السيد رئيس الحكومة ، فأجابه الأستاذ صلاح الشاهد : إن الرئيس مشغول الآن في استقبال وفد أسيوط ، ولا أدري متى ينتهي من مقابلته ، فإذا أردتم الانتظار فلا بأس ، فتشاورت مع الدكتور خميس ، واتفقنا علي تسليم المذكرة للأستاذ صلاح الشاهج ، لإيداعها رئاسة مجلس الوزراء .

عبد الناصر يريد إحراج فضيلة المرشد

وحقيقة اللقاء الذى تم بين الدكتور خميس حميدة ، والأستاذ عبد الرحمن البنا مع الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومى ، أثناء نظر المذكرة وتقديمها ، هو أن الحكومة كانت تعمل جاهدة للحيولة دون تقديم المذكرة وأ علانها ، بقصد إظهار أن فضيلة المرشد الذى أعلن في سوريا نقد الاتفاقية ، كان معبرا عن رأيه الخاص ، وأن الإخوان على غير ذلك

الرقيب يمنع نشر المذكرة

وقد حاولت جريدة الإخوان نشر صورة المذكرة على صفحاتها فمنع الرقيب ذلك . فكان عدم نشرها عاملا هاما من عوامل اتساع انتشارها ، وقد طبع الإخوان أعدادا كثيرة منها ، وزعت في أنحاء البلاد .. واستغل أعداء الحكومة معارضة الإخوان للاتفاقية ، فإخذوا يوزعون منشورات مناهضة للحكومة ، تحمل معنى التجريح والتهديد ، مما زاد الطين بلة .. ولوأن الحكومة أفسحت مجال النقد واسمحت بوجود الرأى الآخر ، واستغلت موقف المعارضة للتخلص من قيود الالتزامات الضارة بصلحة البلاد ، لتحسن الحال .. ولكنها عالجت بأسلوب عشكرى متسلط يقول : (إذا لم تكن معى فأنت عدوى) .

عودة فضيلة المرشد واستقبال الإخوان له

وفي يوم استقبال الإخوان لمرشدهم عند عودته منرحلته لبعض الإقطار العربية ، وضح ضيق الحكومة وغضبها ، فمنعت كثيرا من دخول المطار ، كما منعت سيارات المستقبلين من الوقوف حول المطار حتى لاتتجمع في شكل موكب خلف سيارة المرشد ، لكن الإخوان استطاعوا أن يجاروا رجال البوليس في الاستماع إلى تعليماتهم ،وما أن وصلت سيارة فضيلة المرشد أول شارع اللكة مازلى حتى تدفقت سيارات الإخوان من كل حدب وصوب ، وساروا في شكل موكب منظم أمام وخلف سيارة فضيلة المرشد ، وكان موكبا عظيما انتزع إعجاب الجمهور وتصفيقة ، وبهذا الصورة اخترق الموكب شوارع القاهرة حتى وصل الى الحلمية الجريدة ، حيث دار المركز العام للإخوان المسلمين . ... وهناك أخذت سيارة فضيلة المرشد تسير ببطء ، وتشق طريقها بصعوبة حتى وصلت إلي باب الدار حيث استقبله الإخوان بهتافاتهم المعروفة ، استقبالا حماسيا كريما وتبودلت كلمات الترحيب ، وختم فضيلة المرشد الحفل ، فتحدث عن رحلته إلي الأقطار العربية الشقيقة ، وشكر لملوك ورؤساء وشعوب هذه البلاد كريم ضيافتهم ، كما شكر للإخوان حسن استقبالهم ، وفتح باب الأمل للمستقبل العظيم الذي ينتظر دعوتهم ، وحثهم علي الثبات عليها والتحلي بمكارم الأخلاق ، والتخلق بخلق القرآن وانتهي الحفل ...

التهديد باغتيال فضيلة المرشد

وحضر فضيلة المرشد من رحلته ، والجو وسط الإخوان ملئ بالتهديدات من الحكومة ، وكان مما قيل وانتشر بين صفوف الإخوان ، أن المرشد لو حضر فسوف يغتال مثلما اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا ، كل هذه الأقاويل كان يرددها الإخوان المفصولون ، ولذا نشأت فكرة إرسال من يبلغ فضيلته بالبقاء خارج مصر خوفا علي حياته وحتى تهدأ الحالة وكانت هذه الأخبار قد وصلت إلي سوريا ، فأشار عليه كثير من أصدقائه بضرورة البقاء في سوريا حتى ينجلي الموقف ، لكن فضيلته أثر الرجوع إلي مصر ليبقي مع الإخوان يشاركهم محنتهم ، وليحاول تخفيف وطأة الشدة العصيبة عنهم .

فضيلة المرشد يرأس جلسات المكتب

وفي هذا الجو الملبد بالغيوم القاتمة ، اجتمع مكتب الإرشاد عدة جلسات برئاسة فضيلة المرشد ، تحدث فيها فضيلته عن نتائج رحلته إلي بعض الأقطار العربية الشقيقة ولقائه بزعماء هذه الأقطار التي مر بها ، لعقد أواصر الأخوة وروابط المحبة بين شعوبها .. كما عرضت في الجلسة الأمور المتعلقة بالجماعة خصوصا مسألة إغلاق الجريدة ، المجهودات التي بذلت مع رئيس الحكومة ، من أجل حل المشاكل القائمة ، ومنها الإفراج عن الإخوان الباقين في المعتقلات . ... لكن للأسف لم تكلل مساعية بالنجاح ، وازدادت الحالة سوءا ، سيما وقد قويت إشاعة اغتيال الحكومة لفضيلة المرشد ، بحجة أنه يتزعم المعارضة ضد الحكومة في رفض الاتفاقية ، مما يشكل زعزعة الثقة في الحكومة لدي أمريكا ، وانجلترا ، فتضعف قبضة الحكومة في حكم البلاد ، ومن ثم يخشي علي النظام الحاكم أن ينهار .

اجتماع خاص بين فضيلة المرشد ووكيل الجماعة

ولما تكلل مساعي الدكتور خميس حميدة – وكيل الجماعة بالنجاح لدي الحكومة استدعاه فضيلة المرشد للاجتماع به في جلسة خاصة في مكتبه ، كنت معهما ، وسأل فضيلة المرشد الدكتور خميس : ما رأيك يا دكتور خميس في الحالة – أنا شايف أن الأمور تعقدت بيننا وبين الحكومة – فهل عندك من رأي .. ؟ أجاب الدكتور خميس : أنا ليس عندي رأي .. فضيلتك مرشد الجماعة وتصرف بما تري ! قال فضيلة المرشد : كيف ذلك .. ؟! أريد مشورتك ، رد الدكتور خميس : ليس عندي رأي ... فتدخلت قائلا : يا دكتور خميس – أنت وكيل الجماعة ، وفضيلة المرشد كان غائبا في رحلته ، وقد اتصلت بالمسئولين في الحكومة مرات ، وانت علي علم بكل شيء ، وصاحب رأي ... فيجب أن تشير بما تري .. وتبدي رأيك بصراحة .. فرد قائلا : لا .. ليس عندي رأي .. هو مرشد الجماعة ، ويتصرف كيفما يشاء .. فقلت له : هذا موقف سلبي لا يليق بك وأنت وكيل الجماعة ، خاصة والإخوان تحيط بهم الشدائد في هذا الوقت العصيب .. فلم ينبس ببنت شفة .. وخيم علي الجلسة صمت عميق قطعه علينا دخول أحد الإخوان الحجرة ..

تعذر حضور فضيلة المرشد جلسات المكتب لمرضه

وبعد هذه اللقاء السابق ، بين فضيلة المرشد ، ووكيل الجماعة غادرت – القاهرة إلي منفلوط ، وأثناء وجودي في بلدتي قرأت خبر اصطدام البوليس بالإخوان المصلين في مسجد شريف بمنبل الروضة ، علي أثر انتقاد أحد الإخوان اللاتفاقية ، كما تكررت مثل هذه الحوادث في كثير من المساجد التي كان يخطب فيها الإخوان مثل مسجد عزيز فهمي بطنطا وغيرها ، وأخذ طابع العنف يستشري في خطب الإخوان ، كما أخذت روح الانتقام من جانب الحكومة تسري ، فقد أعلن أحد ضباط الحرس الوطني أن من يحضر رأس أحد الإخوان فله مكافأة مجزية ، وكانت مثل هذه التصريحات المثيرة تغزي التوتر وتزيده التهابا . ... وفي هذا الجو المضطرب ، كنت لازلت في منفلوط أزاول أعمالي الزراعية الخاصة إذ وصلتني دعوة من الدكتور خميس حميدة – وكيل الجماعة لحضور اجتماع المكتب ، فذهبت إلي القاهرة تلبية للدعوة ، وحضرت جلسة المكتب ، ولاحظت غياب فضيلة المرشد ، فسألت الدكتور خميس ، فقال : ن فضيلة المرشد غير موجود ، فلم أشأ أن أستوضحه لعلمي بأنه لن يزيد علي إجابته الأولي شيئا ، وبعد الجلسة سألت الشهيد عبد القادر عودة ، قلت له : لِمَ لَمْ يحضر فضيلة المرشد ؟ قال : إن فضيلته مريض ، وفي حاجة إلي الراحة ، فقلت له : أريد أن أعوده ، فقال : لا بأس .. إن شاء الله ، وفي اليوم التالي ذهبت إلي الشهيد عبد القادر في مكتبه وصحبته لزيارة فضيلة المرشد ، وتقابلنا مع فضيلته ، وفي أثناء الزيارة سأل فضيلة المرشد الشهيد عبد القادر ، عما دار في جلسة المكتب فأخبره بكل ما عرض من موضوعات ، وما اتخذت بشأنها ، وكان أن رأي فضيلة المرشد أن يعين الأستاذ محمود عبدة رئيسا لمكتب إداري القاهرة بدلا من الأستاذ محمود البراوي ، ولم نمكث طويلا حرصا علي راحته ، فانصرفنا بعد أن دعونا الله له بالشفاء .

مطالب عبد الناصر

وبعد تلك الزيارة عدت إلي منفلوط لكثرة مشاغلي الزراعية وقرب انتهاء الموسم الزراعي ، وفي أواخر سبتمبر سنة 1954 ، استدعيت بالتليفون من الدكتور خميس لحضور اجتماع المكتب ، فسافرت في التو إلي القاهرة ، واجتمع المكتب برئاسة الدكتور خميس وعرض علينا المطالب التي يطلبها عبد الناصر – رئيس الحكومة ، منه بصفته وكيل الجماعة وكذلك من الإخوان الذين كانوا يتصلون به ويزورونه في منزله بناءً علي دعوته الخاصة بواسطة الإخوان المفصولين ، وأهم تلك المطالب : حل النظام الخاص ، وإصدار بيان يفهم منه عدم معارضة الإخوان للاتفاقية ، فتدارسنا هذه المطالب وما يحيط بها ، وقرر المكتب إيفاد الإخوة الدكتور خميس حميدة ، والأستاذ عمر التلمساني ، وفضيلة الشيخ ، لمقابلة رئيس الحكومة للتفاهم ، وتقريب وجهات النظر ، أملا في حل المشاكل لتسير الأمور في مجراها الطبيعي ، وبالفعل توجه هؤلاء الإخوة الثلاثة ، والتقوا برئيس الحكومة في منزله ودار الحديث في المشاكل القائمة ، وبعد ذلك اجتمع الإخوة بأعضاء المكتب مجتمعين ، ونقلوا إلينا طلبات عبد الناصر ، ومما قيل إنه تعرض لمسألة الاتفاقية ، واشتراك مصر في الحرب في حالة الاعتداء علي تركيا .

الدكتور خميس يقصر في مواجهة عبد الناصر بالحقيقة

وعند مواجهة عبد الناصر للدكتور خميس قائلا له : أما تحدثنا في هذا كله يادكتور مع المرشد وأخوانكم عند منير وواقفتم عليه بحضورك ، قال الدكتور خميس : نعم .. مما أثار استعجاب فضيلة الشيخ أحمد شريت أمام إخوان المكتب ، وموضع الاستعجاب هو أن الدكتور خميس لم يذكر هذا لأعضاء المكتب أثناء كتابة مذكرة معارضة الاتفاقية . وحقيقة الأمر أن مسألة تركيا عرضت في اجتماع عبد الناصر مع فضيلة المرشد ،بعض الإخوة في منزل الأخ المرحوم الأستاذ منير دله ، ولم يوافق عليها ، لكن تجاهل الدكتور خميس لهذا الحقيقة وصمته أمام عبد الناصر ، هو الذي أوجد هذه البلبلة ، إذ وضع فضيلة المرشد والإخوان في حرج ، كما طلب عبد الناصر كذلك إصدار بيان من المكتب يفهم منه عدم معارضة الإخوان للاتفاقية ، فقيل : إن هذا غير ممكن ، ورأوا : أن يعرض الأمر على الهيئة التأسيسية عند اجتماعها المقبل .

اجتماع الهيئة التأسيسية

وبعد جلسة المكتب الأخيرة ، وما عرض فيها من مطالب عبد الناصر ، كانت الهيئة التأسيسية مدعوة للأجتماع للنظر في تعديل قانون الهيئة ، واجتمعت الهيئة برئاسة الدكتور خميس حميدة ، واعطيت الكلمة للحاج محمد جودة ، الذى ألقى خطابا مكتوبا حمل فيه على الإخوان حملة شعواء ، وردد مايقوله رئيس الحكومة ، وانحى باللائمة على الإخوان بأسلوب قاس ولاذع ، مما أثار الإخوان المجتمعين عليه ، واطلبوا حذف هذا الكلام ، وأمام هذه المعارضة العنيفة من الإخوان اضطر الى وقف هذا الأسلوب المرفوض ، وخلاصة ما يوصف به هذا الخطاب أنه كتب في دار هيئة التحرير الحكومية .. وقصد منه وقوع الفتنة بين الإخوان ، وإحداث اضطراب في اجتماعهم ، وبهذا التصرف الأهوج أساء الحاج محمد جودة إلي الحكومة بعكس ما كان ينبغي أن يكون .

فمثله كالدبة التي أرادت أن تهش الذباب عن وجه صاحبها فقتلته .. ثم طلب بعد ذلك الكلمة الأستاذ صالح أبو رقيق ، ففند الاتهامات التي وجهتها الحكومة للإخوان علي لسان الحاج محمد جودة ، فأوضح أن الإخوان كانوا دائما علي استعداد للتعاون مع الحكومة في سبيل مصلحة البلاد ، وأن الإخوان من أول يوم قامت فيه الحركة قدموا أجل المساعدات ، وعقَّب أن الإخوان دائما مستعدون للتعاون مع الحكومة ثم تعرَّض أيضا لمسألة اتهام فضيلة المرشد وبعض الإخوان ، واتصالهم بالانجليز ، ومسألة الاتفاقية وما جاء فيها عن تركيا ، وذكر ما قيل بهذا الخصوص ، ووجه الكلام للدكتور خميس قائلا فيها : ألم يحدث في مسألة تركيا أننا عارضناها ، ولو نوافق عليها قال الدكتور خميس : نعم .. (كما سبق أن قال نعم أمام عبد الناصر .. وهكذا أرضي الطرفين ، مما أفسد العلاقة بينهم ..) ثم تحدث الأستاذ عمر التلمساني وتلاه فضيلة الشيخ أحمد شريت ، فيما قال رئيس الحكومة في مقابلتهم الأخيرة له ، وعرضوا فكرة إصدار بيان هادئ من الهيئة التأسيسية ، بخصوص الاتفاقية ، لكن لم يمكنوا من تنفيذ اقتراحهما المجمع لوجهات النظر السليمة ، واستعجل الإخوان الأستاذ عبد العزيز كامل ، والشيخ عبد المعز عبد الستار بتقديم بيان معد من قبل ومكتوب يصف الحكومة بالوطنية ، وأن الاتفاقية خطوة في طريق الجلاء ، وأن الإخوان ما قصدوا من المعارضة إلا الصالح العام ، لكن كان يفهم من مدلول البيان تراجع الإخوان في معارضتهم للاتفاقية ، لذلك ثار اعضاء الهيئة علي البيان ، وهنا تقدم الأخ المرحوم الأستاذ محمد عبد الرحمن نصير ، بفكرة تكوين لجنة من أعضاء الهيئة لوضع بيان يلاحظ فيه ظروف الإخوان والحكومة ، ويجمع بعض المعاني الموجودة في بيان الأخوين الأستاذ عبد العزيز كامل ، والشيخ عبد المعز عبد الستار ، بما لا يتعارض مع معارضة الإخوان للاتفاقية لأن هذه المعارضة في صالح البلاد .

نشر بيان لا يعبر عن قرارات الهيئة التأسيسية

وبالفعل تشكلت لجنة من بعض الإخوان ، .. والعجيب أن البيان المرفوض أخذه الحاج محمد جودة ، وقدمه في مساء نفس اليوم إلي رئيس الحكومة ، علي أنه قرار من قرارات الهيئة ، وفي صباح اليوم التالي نشر البيان في الصحف علي ما به من ضعف ونقص ، لا يتفق وسياسة الهيئة ، كما لا يتفق مع قرار الهيئة التأسيسية لجنة لإصدار بيان مناسب للظروف والملابسات ، فكان لهذا النشر وقعه السيء لدي جمهور الإخوان ، وأضر بالعلاقات بين الإخوان والحكومة التي كان ينشد تحسنها الجميع . ... واستمرت الجلسة ، وعرضت مواد القانون وعدل بعضها ، وقد عرض مواد القانون الأخ الشهيد عبد القادر عودة ، وكان أهم مواده هو اعتبار فضيلة المرشد ، مرشدا مدي الحياة ، وانتهت جلسات الهيئة التي استمرت يومين . ... وكان أن سأل بعض الصحفيين الشهيد عبد القادر عودة ، عن أهم قرارات الهيئة فأجاب : إن أهم ما اتخذ من قرارات هو اعتماد المادة الخاصة بفضيلة المرشد ، مرشدا مدي الحياة ، فنشرت الصحف هذا التصريح فغضب لذلك عبد الناصر ، ورفض مقابلة اللجنة التي كانت قد شكلت لوضع بيان مناسب بين الإخوان والحكومة .

محاولة أخري لإبعاد فضيلة المرشد

وبعد هذا الاجتماع شعرت الحكومة بفشل خطتها التي فرضتها ، وشجعت بعض أعوانها أثناء انعقاد اجتماع اهيئة التأسيسية ، وبالضغط علي أعضاء الهيئة – لإصدار بيان يبارك الاتفاقية ، ويثني علي الحكومة ، فاضطرت بعد ذلك إلي حيلة أخرى ، فأوعزت إلي ثلاثة من الإخوان الذين يعملون بوزارة الأوقاف .

جمع التوقيعات علي عريضة مزورة

حمل هذه العريضة ثلاثتهم ، وتجولوا بها في أنحاء القطر ، وأخذوا يهددون الإخوان أعضاء الهيئة التأسيسية ، ويلزمونهم بضرورة التوقيع عليها ، وكان إذا أبدي أحدهم أي اعتراض هددوه بسلطان الحكومة بالفصل من وظيفته والاعتقال ، والاضطهاد ، والتنكيل ، والتعذيب ، وكان أن حصلوا علي بعض توقيعات الأعضاء وزوروا البعض الآخر ، وأضافوا إليها أسماء المفصولين ، والمستقبلين من عضوية الهيئة وذلك إمعانا في التضليل ، حتى يقتنع الأخ بأن الأغلبية تري ذلك ، لكن الغالبية من أعضاء الهيئة ظنهم وردوهم ردا غير كريم ، ولما علم بذلك إخوان المكتب كلفوني ، والدكتور خميس ، لإقناع هؤلاء الإخوة بالعدول عن هذا التصرف المعيب وسحب العريضة منهم ، ودعوتهم للاجتماع بهم في المركز العام ، فذهبنا إلي وزارة الأوقاف ، والتقينا بالأستاذ عبدة قاسم ، وطلبنا منه تسليم العريضة ، ولا داعي لنشرها ولا بأس من التفاهم في أي مقترحات لتوحيد الصف وجمع الكلمة ، فقال : إن هذه العريضة مهمة ، فقلت له : لكن الطريقة التي استعملت في المرور بها علي الإخوان غير قانونية وكان من الأفضل أن تعرض أية مقترحات علي الهيئة التأسيسية مجتمعة ، وفق قانون الهيئة فقال : هذه الطريقة هي نفس الطريقة التي اختير بها المرشد بتاعك .. فقلت له : إن العريضة في الحالة الأولي كان اجتماع الهيئة متعذرا في وقتها بسبب حل الجماعة وشتان بين الحالتين ، قال لا يا فندم ، قلت : سيما وأن الوسيلة التي أخذت بها التوقيعات غير مشروعة ، فقال : لا إنها شخصيا لازم توقع عليها وإلا أنت عارف .. !! ، وأخيرا بعد إلحاح وعدنا أنه سيحضر في المساء إلي المركز العام ، ومعه بعض الإخوة ، ومعهم العريضة ، ثم ذهبنا إلي مكتب الشيخ سيد سابق ، فلم نجده ، وبالسئوال عنه علمنا أنه عند الوزير ، وسألنا عن الأستاذ البهي الخولي فلم نجده هو الآخر ، ثم توجهنا بعد ذلك إلي الحاج محمد جودة ، حيث التقينا به وكلمناه في مسألة العريضة ، فانتقل بنا بالحديث عن موقف المرشد والجماعة من الحكومة ، وأخذ يبرر تصرفات الحكومة ويدافع عنها ، ومكث لمن يخالف مطالب الحكومة ، وأخيرا قلنا له إن الأستاذ عبدة قاسم ، وبعض الإخوان سيحضرون الليلة في المركز العام ، ونرجو حضوركم كي نتفاهم في الأمور ، ونضع الحلول المناسبة لها ، فوعد بذلك ، وانتهي اللقاء .

لقاء حول تسليم العريضة

وفي المساء حضر الأستاذ عبدة قاسم ، والحاج محمد جودة ، والأستاذ البهي الخولي والأستاذ حلمي نور الدين ، والأستاذ عبد الرحمن البنا ، وفضيلة الشيخ محمد فرغلي ، والأستاذ عبد القادر عودة ، والدكتور حسين كمال الدين ، والشيخ عبد المعز عبد الستار – والدكتور محمد سليمان ، وكثير من كبار الإخوان . ... وتعرضنا لمسألة العريضة ، فقالوا إنها في الأقاليم فقلنا لهم يجب ألا تنشر في الصحف ، فوعد كل من الأستاذ البهي الخولي ، والأستاذ عبدة قاسم بذلك ، ثم تعرضنا الطريقة التي مرت بها العريضة ، وقلنا كان الأحرى أن تجتمع الهيئة ولكل عضو الحق في أن يبدي رأيه ، وتحدث الدكتور حسين كمال الدين فأوضح أن هذه الطريقة غير سليمة ، وتحالف قانون الهيئة ، وشرح هذه المسألة ، وذكر الأضرار التي تلحق بالجماعة من وراء هذا التصرف ، ولاحظنا أن الأستاذ عبدة قاسم ، خرج من الاجتماع ، واتصل بالتليفون بجهة لم نعلمها ، وظل الاجتماع حتى ساعة متأخرة ، حيث انفض في الساعة الرابعة صباحا .

القبض علي الدكتور حسين كمال الدين

وفي صباح اليوم التالي علمنا أنه علي أثر الاتصال التليفوني الذي تم بمعرفة الأستاذ عبدة قاسم ، أثناء الجلسة ، أن قبض علي الدكتور حسين كمال الدين أثناء دخوله منزله بعد خروجه من الاجتماع .

العريضة علي صفحات الجرائد

وفي صباح اليوم التالي فوجئنا بنشر العريضة في الصحف ، خلافا لما اتفقنا عليه بالأمس ، فكانت صدمة عنيفة لنا ، ومن هذا عرفنا أن الإخوة الذين التقوا بنا أمثال البهي الخولي ، ومن علي شاكلته ، كانوا غير جادين معنا في لقائهم بنا .

تجمهر مدبر في الدار

وبمجرد أن اطلعت علي الخبر في الجرائد ، ذهبت إلي دار المركز العام ، فوجدت في حجراته بعض الإخوان منتشرين في أرجائه ، ولاحظت أن هناك أشخاصا لم أرهم قبل في صفوف الإخوان ، ولكنهم موجودون بشكل تجمع في حجرة الاستقبال ، وكان يخطبهم الأستاذ البهي الخولي ، مع إنه كان قد استقال من الجماعة ، ولم يشارك في جلسات المكتب وفي أثناء ذلك سمعت من يهتف بحياة جمال عبد الناصر ، قيل إنه أحد شباب هيئة التحرير فانبري له أحد الإخوان ، وهتف بهتافات الإخوان المعروفة ، وردد معه الحاضرون ، وكاد بعض المجتمعين أن يشتبكوا بالأيدي ، ولاحظت أن الأستاذ عبد القادر عودة ، كان متألما غاية التألم ، للحالة التي تهيمن علي الدار في ذلك الوقت ، فكنت تري الإخوان المفصولين ينقلون في الحجرات بحركات استفزازية وكان الحاضرون يتوقعون أن يحدث أمرًا في الدار .

المكتب يجتمع في ظل الإرهاب ويضم إليه أعضاءا بالإكراه

وفي هذا الجو الصاحب طلب الدكتور خميس حميدة ، عقد اجتماع المكتب ، فاجتمع الإخوة الأستاذ عبد القادر عودة ، وفضيلة الشيخ محمد فرغلي , وفضيلة الشيخ احمد شريت , والاستاذ عمر التلمساني , والاستاذ عبد الرحمن البنا , والاستاذ صالح ابو رقيق , والشيخ عبد المعزعبد الستار , ومحمد حامد ابو النصر (الشاهد على الطريق) . ... والعجيب انة من الطبيعى ان يجتمع المكتب بأعضائه فقط , لكن الذى حدث أنة - كان معنا فى هذا الاجتماع الحاج محمد جودة , والمهندس عبد السلام فهمى ، والاستاذ حلمي نور الدين ، واقترح ضم الموجودين للمكتبة ، وكان هذا الاجراء غير قانونى ، لكن المساْلة كانت مدبرة , وقصد بها تحويل سياسية الجماعة لتحقيق اهداف الحكومة ، وقع كل هذا تحت ظروف الضغط والإكراة، وقبل ان ينتهى الاجتماع اقترح الحاج محمد جودة اصدار بيان من المكتب بتأييد الاتفاقية ، كما اقترح عودة الإخوان المفصولين إلي صفوف الجماعة ، فما كان من الاستاذ الشهيد عبد القادر عودة الاان ثار وقال بصوت مرتفع: (والله لا نقرر شيئا الان .. هى إملاء شروط وإلا ايه) وانتهى الاجتماع عند هذا الحد , .. واثناء خروجنا من الاجتماع انتحى بي – الأخ الأستاذ عبد القادر عودة ، ناحية وأسر إليَّ كلاما : (عندي إحساس أنني لن – أقابلك مرة أخري ، فربما أعتقل الليلة أو ماكر ، وقد أوصاني فضيلة المرشد أن أسلمك ما عندي مكن أوراق خاصة بالجماعة) .. فذهبت معه إلي مكتبه ، وطلب من الأخ الأستاذ إبراهيم الطيب ، أن يسلمني الأوراق ، وتسلمتها منه ، ثم غادرنا المكتب بعد ذلك ، حيث زرنا سويا الأخ المرحوم الأستاذ منير دله في منزله ، وقص عليه ما حدث في جلسة المكتب الأخيرة ، ثم زرنا فضيلة الشيخ محمد فرغلي في شقته ، فذكر له إحساسه فرد عليه فضيلة الشيخ فرغلي : (وأنا سألحق بك إن شاء الله ..) ، هكذا كانت أحاسيس القلوب الشفافة التي تري بنور الله .. وقد صدق إحساسهما فلم أقابلهما بعدها . ففي المساء اعتقل الأستاذ عبدالقادر عودة .

خاتمة جلسات المكتب

وفي اليوم التالي اجتمع المكتب في صورته الجديدة ، ولم يحضر الشهيد عبد القادر عودة ، بسبب اعتقاله بالأمس ، وحضر الاجتماع الإخوة : الدكتور خميس حميدة ، والأستاذ عمر التلمساني ، وفضيلة الشيخ أحمد شريت ، والأستاذ منير دله ، والأستاذ صالح أبو رقيق ، والدكتور كمال خليفة ، والأستاذ عبد الرحمن البنا ، ومحمد حامد أبو النصر (الشاهد علي الطريق) ، ومعهم الأعضاء المفروضون من أعوان الحكومة الأستاذ البهي الخولي ، والمهندس عبد السلام فهمي ، والأستاذ حلمي نور الدين . ... وابتدأت الجلسة بعرض البريد الوارد من الأقاليم ، وكان أحدها من الأخ – الأستاذ إبراهيم أبو الغار – نائب شبين الكوم ، حيث قال في رسالته إنه استعمل معه الضغط الشديد ، والإرهاب للتوقيع علي العريضة ، وأنه غير موافق علي ما جاء بها فانتهزت هذه الفرصة ولمت الأستاذ البهي الخولي علي أسلوب التهديد في الطريقة الغير مشروعة التي جمعت بها التوقيعات علي العريضة المزورة ، وقلت له : كنت ممثلا للحكومة في هذه العملية ، وعلي ذلك فأسلوب ضم الأعضاء الجدد للمكتب أيضا تم في جو من الضغط والإرهاب ، وأنا اعترض علي هذا الضم بهذه الطريقة ، فارتبك الأستاذ البهي الخولي ، ثم عقب الأستاذ صالح أبو رقيق ، فأخذ يندد بضم الأعضاء الجدد ويقول : أننا وافقنا على ضمهم تهدئة للجو ، وان هذا الاجراء لا يتفق إطلاقا مع قانون الجماعة ، لهذا ارى ان هذا الضم باطل ، وانسحبنا من الجلسة وفشل هذا الاجتماع . وبذلك أراد الله سبحانة وتعالى ان يحفظ دعوته وجماعته من عبث الحكام الظالمين ، الذين أرادوا أن يسيطروا عليها ، ويتخذوها أداة لتوطيد حكمهم الجائر ، فخذلهم تعالي ، وحرم أعوانهم وأتباعهم أحلاس الباطل من منزلة المجاهدين الصادقين ، فكانت هذه الأمواج الهائلة ، والتيارات العاصفة تمحيصا امتحن الله فيها المؤمنين الصادقين فأعدم الشهداء .. وشرد الغرباء .. وسجن المخلصون الأوفياء .. فكانت أرواح الشهداء قربانا لله تعالي ودماؤهم الزكية غذاءً لشجرة الإسلام الخالدة ، ويأبي الغرباء إلا أن يتم نوره في الأرض ، واتخذ السجناء من سجونهم كهوفا ، يعبدون الله في إخلاص وتجرد ، ويتدارسون قرآنه في فهم وتعمق ، ويترسمون خطي زعيمهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في ماضي دعوته ، وحاضر أمته ، ومستقبل أحبابه ، وبذلك تخرجوا جنودا للدعوة الإسلامية ، وقادة أكفاء لمسيرتها ، وابتلعت تلك الأمواج ، المارقين وابعدوا عن الجماعة وحرموا شرف الجهاد .

وعلي أثر هذا الاجتماع ، وما حاط به من الاضطرابات ، فكرت جديا في الاتصال بفضيلة المرشد ، وضرورة حضوره علي رأس اجتماع الهيئة التأسيسية ، الذي كان مقررا عقده يوم الخميس 28 من أكتوبر سنة 1954 ، لإجراء تجديد انتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية . ... وبالسؤال عن فضيلة المرشد علمت أنه في الإسكندرية ، فقررت السفر إليه وتحدد الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء 26 من أكتوبر موعدا للمقابلة ، وبينما كنت في طريقي للسفر إلي الإسكندرية ، قابلني الدكتور عبد القادر سرور ، وأخبرني إلي أن فضيلة المرشد يعتذر عن المقابلة لانشغاله اليوم ، وكنت في صباح ذلك اليوم قد التقيت بالأخ الشهيد إبراهيم الطيب ، وكان معه الأخ الشهيد يوسف طلعت في منزل أحد الإخوان بشبرا وتحدثت معهم في ضرورة حضور فضيلة المرشد علي رأس اجتماع الهيئة التأسيسية المحدد له يوم الخميس 28 من أكتوبر ، لتهدئة الحالة ، فقال الشهيد يوسف طلعت إننا فعلا نعمل جاهدين علي اجتماع الهيئة التأسيسية يوم الخميس إن شاء الله ، والمهم أن تقابل فضيلة المرشد ويحضر الاجتماع حتى تتم عملية انتخاب الهيئة في هدوء .

ولما لم أسافر إلي فضيلة المرشد ، توجهت إلي الأخ الشهيد يوسف طلعت مرة أهخري وقلت له : تعذر زيارة فضيلة المرشد اليوم ، فقال لابد من المقابلة في أول فرصة تتاح لك ، وانصرفت ولم نلتق بعد ذلك . وكان أن طلب مني الأستاذ إبراهيم الطيب كتابة بيان يوزع علي الإخوان بضرورة التزام الهدوء والسكينة ، فوعدته بذلك ، ولكن وقوع حادث المنشية في المساء حال دون ذلك .

إلي المحاكمـة

وبعد مضي ثلاثة أسابيع تقريبا من وقوع حادث المنشية غادرت القاهرة إلي أسيوط يوم الخميس 18 من نوفمبر سنة 1954 في القطار السريع الذي يصلها الثانية صباحا وركبت سيارة لمنزلي بمنفلوط وهناك بعد أن التقيت بأولادي فوجئت حوالي الساعة الخامسة صباحا من يوم الجمعة 19 من نوفمبر سنة 1954 بقوة كبيرة لا تقل عن خمسين جنديا وخمسة ضباط من قوات الجيش والبوليس يقتحمون منزلي وفتحت عيناي علي أحد الضباط الذي طلب مني القيام فوافقته وأخذ هو زملاؤه من الضباط في تفتيش حجرات المنزل والأماكن الملحقة به تفتيشا دقيقا كما أحيط المنزل من الخارج بالجنود المدججين بالسلاح ومنع المرور في الشوارع المحيطة بالمنزل ، وفي هذه الأثناء طلبت طعام الإفطار وتناولته والسيد مأمور المركز يجلس أمامي وقد عرض عليَّ الاستقالة من الجماعة وبذلك يمكن للسيد المحافظ أن يحول دون تقديمك للمحاكمة فرفضت بإناء وقلت له : (لا يمكن لأنني عندما التحقت بهذه الجماعة كنت رجلا موفور العقل وأعرف تماما العقبات التي سوف تحدث في طريق تحقيق مبادئ الإسلام ولازلت علي عهدي وصدق ارتباطي بالجماعة – والحمد لله) .

وانتهي التفتيش حوالي الساعة التاسعة صباحا وقبل أن نستقل السيارة طلبت إلي السيد المأمور الأستاذ / حسين أبو النيل أن أصلى لله ركعتين فوافق وقد لاحظت الدموع في عينيه رحمه الله رحمة واسعة ثم ركبنا وسارت خلفنا القوات إلى أن وصلنا إلى مركز شرطة منفلوط ، وبعد قليل حضرت قوة أخرى علمت أنها كانت في مزرعتى حيث قاموا بتفتيش الاستراحة وحجرات الماكينات الموجودة بالمزرعة بقرية كوم بوها قلبى وكان تفتيشا مفسدا أتلف الأخضر واليابس حيث شمل الغلال والزرع والمبانى – وارضية الحجرات ودورة المياه بحثا عن الأسلحة والمتفجرات التى يتوهم أننى أخبئها لكنهم لم يجدوا شيئا لأنه لا يوجد شىء من هذا القبيل . والعجيب أن القوة صادرت السلاح المرخص للخفراء لحراسة الماكينات والزراعة كما حدث مثل ذلك في المنزل حيث طلب منى السيد مأمور المركز تقديم سلاحى الخاص المرخص به للدفاع عن النفس فقدمته إليه في الحال وهو عبارة عن مسدس موزر 20 طلقة ، وبندقية خرطوش للصيد وقد سبق أن صادرتهما حكومة إبرهيم عبد الهادي باشا وردا إليَّ في عهد حكومة حسين سري باشا .

وفي حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا ركبت السيارة مع الضباط الذين كانوا علي رأس القوة إلي المديرية بأسيوط وأخري معي تحقيق مبدئي بمعرفة مفتش المباحث وأمر بإيداعي في غرفة الحفظ حتى المساء ليتم ترحيلي إلي القاهرة فأخذتني قوة أخرى وذهبت بي إلي مركز شرطة أسيوط قسم ثانٍ المحاور للمديرية حيث أودعت في زنزانة مفردة بها برش وجردل ، وفي منتصف الساعة الثانية عشرة تقريبا صباح يوم السبت 20 من نوفمبر سنة 1954 ثم ترحيلي إلي القاهرة وكنت في حراسة ضابط وثلاثة من الجنود مدججين بالسلاح ووضع حلقة من الكلابش في يدي اليمني والحلقة الأخرى في اليد اليسري لأحد الجنود فرجوت الضابط الملازم لي بأن يضع القيد جميعه في كلتا يدي فقال : إن هذا الوضع مع الجندي أكثر راحة لك – فقلت له : ولكن ما أطلبه فيه راحة لنفسي ، فابتسم الضابط ووافق وحقق رغبتي وأحاطني الجنود . شاهرين بالسلاح .

وفي السادسة من صباح السبت 20 من نوفمبر سنة 1954 وصلنا القاهرة حيث كان في انتظارنا لوري محمل بالجنود توجه بنا إلي المحافظة ومنها إلي وزارة الداخلية حيث تلقي الضابط المنوط بحراستي التعليمات بتسليمي لسجن الأجانب بمحطة مصر . ونحن في القطار مرّ بنا أحد كبار هيئة العلماء وكان صديقا عزيزا أبي أن يلقي عليَّ تحية الإسلام رغم نظرته الطويلة لي فكانت هذه الواقعة أولي المفارقات من كثير من الناس في تلك المحنة العارمة غفر الله لنا وله . وفي التاسعة من صباح اليوم وصلت إلي سجن الأجانب وتم تسليمي للسيد مأمور السجن حيث فك الكلابش من يدي وفتشت تفتيشا دقيقا وكذا حقيبة ملابسي وكان معي المصحف الشريف فسمح لي به وأدخلت زنزانة وهي عبارة عن حجرة صغيرة بما سرير وإبريق للمياه وترابيزة صغيرة وكرسي ، وقد يسأل سائل كيف يوجد مثل هذا الأثاث بداخل السجن وهو غير المألوف في سجوننا ، ولتوضيح الأمر فإن هذا السجن أسسه الانجليز أيام الاحتلال وجهز بهذا الشكل كمعتقل للسياسيين .

وفي حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرًَا أحضر الطعام ويحتوي علي خضار وأرز وقطعة لحم ورغيف وليمونة ، وطلبت من السجان أن أخرج لأجدد الوضوء فسمح لي بذلك وكان لا يسمح لنا بمغادرة الزنزانة ليلا أو نهارا إلا إذا طلبت دخول دورة المياه أو أثناء تنظيف الزنزانة بواسطة المكلفين بذلك أو عندما يسمح لنا بالنزهة في حديقة السجن وهي لمدة ربع ساعة صباح كل يوم وعلي كل حال فقد كانت المعاملة هناك مهذبة وإن كانت غاية في الانضباط ، وأذكر أنه كان من نزلاء السجن الأستاذ فؤاد سراج الدين سكرتير الوفد المصري الذي كان معتقلا في زنزانة بالدور الثاني في السجن ، وكثيرا ما كنت أراه أثناء النزهة اليومية بحديقة السجن فكان يشجعني ويحييني – أطال الله عمره – وكنت أبادله التحية والشكر وكان معتقلا معه الأستاذ إبراهيم فرج الوزير الوفدي كما كان بعض الضباط المحكوم عليهم عسكريا ، وكنت ألاحظ أنه مسموح لهم بقراءة الصحف وسماع المذياع ، وقد آنس كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فسمح لي بذلك وكان عاملا مهما من عوامل إراحة نفسي وهدوء بالي .

وفي السابعة من مساء يوم الخميس 25 من نوفمبر سنة 1954 فوجئت بالسجان يطرق علي باب الزنزانة وطلب مني الخروج معه حيث غرفة المأمور فوجدت بها الضابط النوبتجي ومعه الأستاذ عبد الرحمن صالح المدعي العام في محكمة الشعب ، وضابط آخر أظنه صلاح الششتاوي وجاويش تحت إبطه حقيبة وجلسوا جميعا جلسة المحققين – وسألني الأستاذ عبد الرحمن صالح عن اسمي وسني ومهنتي وبلدي – فأجبته . ثم سألني بعض الأسئلة أتذكر منها :

- هل أنت عضو في التنظيم السري ؟

أجبت : لا

- هل تعلم أن الجماعة لها تنظيم سري ؟

أجبت : لا ، إنما هو تنظيم خاص .

- هل سمعت بالحوادث التي وقعت في الماضي مثل اغتيال النقراشي ؟

أجبت : أعلم من خلال مطالعتي الصحف .

- منذ متى اخِتيَّرت عضوا في مكتب الإرشاد ؟ .. أجبت : من منذ أن اختبر ممثل للصعيد في عضوية مكتب الإرشاد في عهد الإمام الشهيد حسن البنا .

- هل اخترت في عهد حسن الهضيبي ؟

أجبت : نعم اخترت مرة واحدة في المكتب الأخير .

- لما لم تختر في المكتب الأول ؟

أجبت : الهيئة التأسيسية لم تختارني .

- ألم تعلم أن عبد الرحمن السندي هو رئيس التنظيم السري ؟

أجبت : أعلم أنه رئيس التنظيم الخاص للجماعة . وانتهي التحقيق معي ولم يستغرق أكثر من عشرين دقيقة ، وقبل أن ينصرف المحقق قال : أنت ليس عليك أي شيء لأنه ليس عليك أي دليل في اشتراكك في الحوادث الأخيرة لولا أن مجلس الثورة قرر تقديم أعضاء مكتب الإرشاد جميعهم للمحاكمة ما كنت قدمت .

ولكن تبرأ ساحتك المطلوب منك التبرؤ من هذه الجماعة وإسناد حادث المنشية إلي حسن الهضيبي . فقلت له :

كيف أقول ذلك وأنني أعلم أن الأستاذ حسن الهضيبي مستشار عظيم ولا يرضي عن مثل ذلك – وأما عن الجماعة فأنا افتتحت مع فضيلة الإمام الشهيد حسن البنا أغلب شعب الصعيد وليس من المروءة أن اتنكر واتخلي عن جماعتي – فرد علي : أنت راسك ناشفة واتفضل خذ الإعلان ويمكنك الاتصال بأحد المحامين للحضور معك ، والمحاكمة يوم السبت سبعة وعشرين . وانصرف المحققون وبقيت مع الضابط النوبتجي وحاولت الاتصال بأحد المحامين فلم أوافق ، وأخيرا اتصلت بمنزل أحد أقربائي فلما لم أجده طلبت من السيدة حرمه أن تكلفه بالتفاق مع الأستاذ حسين أبو زيد المحامي للحضور معي يوم الجلسة .

وبعد المكالمة دخل أحد الضباط وطلب من الضابط النوبتجي تسليمي له فورا فاستحضرت حقيبة ملابسي ووضع الكلابش في يدي وخرجت من سجن الأجانب يحوطني اثنان من الجنود شاهرين السلاح ، وركبنا السيارة إلي جهة كنت أجهلها ، ونحن في الطريق استفهمت من أحد الجنود عن وجهتنا التي سأذهب إليها فقال لي إنه السجن الحربي وأخذا يدعوان لي ويشجعانني ، فشكرتهما وسألتهما لم كل هذا الانزعاج والتأثر فقالا : إن السجن الحربي الذي ستذهب إليه هو الجحيم وربنا يستر عليك ، وربنا يجازي الظالم وفهمت كل شيء ، وصمتُّ . وكانت إشارتهم أبلغ من كل عبارة .

وفي حوالي الساعة التاسعة يوم الخميس 25 من نوفمبر سنة 1954 وصلنا إلي بوابة السجن الحربي وأمام باب السجن تحدث الضابط المرافق مع الشاويش النوبتجي علي البوابة بكلام لم أسمعه ، فاتصل الشاويش بالتليفون بمأمور السجن الموجود بداخل السجن وحدثه وسمعته يقول موجود بالبوابة معتقل ومعه حضرة الضابط وبعد ذلك أذن لنا بالدخول وحمل عني أحد الجنود حقيبة ملابسي وهناك داخل السجن الحربي التقينا بالضابط النوبتجي وسلمني الضابط المرافق له ثم انصرف وتركني ، وأخذ الضابط ينظر إليَّ نظرات طويلة فاحصة ثم قال للجندي : يللي واتجهت حيث أشار إليّ فقال لي شيل الشنطة يابن .. فحملتها علي كتفي وهنا ركلني يقدمه في ظهري وقال امش بسرعة يابن .. فقلت ، ثم قال : علي مهلك يابن .. هو أنا حاأرمح وراك يابن .. فسرت ببطء فقال علي يمينك يابن .. فسرت علي اليمين فقال : مش قوي يابن .. وركلني مرة أخري وقال لي : قف فوقفت وقفة عادية فضربني بمؤخرة البندقية وقال : قف وقفة عسكرية يابن .. حد اتنين فوقفت وقفة عسكرية ، ثم نادي علي : سريعا مارش فسرت إلي أن وصلت إلي باب السجن الكبير ، وهناك تلقفتني أيدي الزبانية وكان عددهم يزيد عن العشرة جنود وقالوا أهلا وسهلا ، وقال أحدهم إنه وجيه ابن .. وكنت ارتدي فوق ملابسي عباءه وأخذ كل منهم يضربني بقبضة يده ويركلني يقدمه وقال أحدهم باللغة الصعيدي يعني جايب شنطة يابن .. هو أنت رايح لندن ، وأخذ بقية الجنود يضحكون ويقهقهون وكنت عند ذلك قد انهكني التعب فوضعت الشنطة علي الأرض وأشار إلي أحد الجنود وقال : شيل الكانتين ده – (وهي عبارة عن بستلة كبيرة) مليئة فلما لم أستطع قال أحدهم : إن لم ترفعه سأصبه عليك وعندئذ انقذني أحد الصولات من الداخل ونادي بصوت علٍ كفاية كده هاتوه أهلا .. أهلا .. أهلا فظننت أنه سيحسن استقبالي فما أن قربت منه حتى ضربني بقبضة يده فوق أم رأسي فسقط الطربوش حتى أدني وقال : قف هنا فوقفت فقال : إيدك جنبك فوضعت يدي بجانبي وبعد قليل سمعت من ينادي من داخل الحجرة المجاورة هاتوه عندي ابن .. فأدخلت الحجرة دفعا من الخلف . فسألني : بتشتغل إيه يابن .. .. أجبته بيتك في شارع إيه يابن .. أجبته ، وأثناء ذلك كان يتولي أحد الجنود ضربي بالكرباج فوق رأسي بعد أن نزع الطربوش – وظللت أشكو آلام الضرب عدد سنين ، ثم فتشت الحقيبة فلما وجد بها المصحف الشريف وكتاب إحياء علوم الدين الغزالي قال منهمكا : إنه عالم زيّ أمي ، وأمر بي إلي الزنزانة وقال خذوه .

وقادني العسكري إلي زنزانة في الدور الثالث بالسجن وهي الزنزانة رقم 242 وعندما فتحت الزنزانة بواسطة السجان لدخولي قام كل من فيها بشكل مفزع (حركة انتباه) واستقبلوني بالصمت وقال لهم السجان : ده يبات معكم يا ولاد ال .. والتفت إليَّ وقال : فاهم يابن .. وتركنا وأغلق علينا بابها ، وهنا التفت حولي من كان بالزنزانة وهم جميعا من إخوان إمبابة وكان عددهم سبعة وأخذوا يهدئون من حالتي ويخففون عني ويشرحون أعضاء مكتب الإرشاد فبعضهم ربط بعروسة السجن وعذب ، وبعضهم وضع في الفلقة وضرب حتى سال الدم منه ، وبعضهم من جرد من ملابسه ووضع في حوض ملئ بالماء في ليالي البرد القارص ، وبعضهم علق في السقف منكسا تنوشه الكرابيج من كل جهة وجانب ، وبعضهم وضع علي رأسه طوق حديد وربط بالمسامير وعلق في السقف .

وهكذا قضيت الليلة الأولي في السجن الحربي يقظا لم أذق فيها طعم النوم فقد كان الجو شديد البرودة ، وفرشت الزنزانة ببطانية واحدة علي الأسفلت ووضع في أحد أركانها إناء صغير للبول والبراز ، والذي أزعجني وأقلق بالي أنني كنت أسمع طوال الليل أنات المضروبين وصرخات المعذبين وبكاء المتألمين وظل الحال كذلك حتى الصباح حيث أمرنا بالنزول فورا . وكانت ألسنة الكرابيج تلهب ظهورنا حيث طلب منا تنظيف الزنزانة والنزول إلي دورة المياه . وفي صباح اليوم التالي 26 من نوفمبر سنة 1954 أنزل جميع الإخوان المسجونين من الزنازين ووزعنا مجموعات ، وعلي رأس كل مجموعة عسكري ويرأس الجميع الصول أمين الجلاد المعروف فكان يأمرنا بالسير في شكل طوابير كما كان يأمرنا بالجلوس القرفصاء ثم ينادي علينا بالقيام ويتكرر ذلك مرات عديدة وإن ارتبك الأخ أو أخطأ في الحركة انهالت عليه الكرابيج بعنف وأمطر بوابل من الشتائم والسباب الفاحش ، واشد ما كان يؤلم النفس أن تري أحد الإخوان ممن تقدمت بهم السن وانهكه التعب فيغمي عليه فلا تري إلا الكرابيج عليه قم يابن كذا وكذا .. إنت عيان (وبتستموت) يابن ... أنت عاوز تبقي وزير يابن كذا وكذا .. ويستمر هذا الطابور أكثر من ساعتين وثلاثة وتتكرر هذه الطوابير كل يوم ، وكان يؤتي بفضيلة المرشد في وسط الطابور وقد ألبسوه بدلة زرقاء (عفريتة) حتى يكون ظاهرًا علي مرأي من جميع الإخوان ، وكان يشترك معنا حينما نؤمر بالجري رغم ضعف صحته وتقدم سنه وفي نهاية الطابور يوضع الميكرفون أمام المذياع وهو يردد غناء أم كلثوم وهي تنشد : (يا جمال يا مثال الوطنية) وإمعانا في التنكيل والانتقام يؤمر الإخوان بترديد بعض فقرات الأغنية بصوت مرتفع بينما يقف فضيلة المرشد واعضاء مكتب الإرشاد أمام الطابور يشيرون بأيديهم ذات اليمين وذات الشمال كما يفعل المايسترو أمام فرقته – وقد سجلت هذه المناظر علي شريط سينمائي عرض علي البكباشي جمال عبد الناصر في حديقة منزله كي يري ويمتع ناظريه ، ويسمع بأذنيه ، ويتلذذ ليشبع نفسه الشريرة المحبة للتشفي .

وهكذا تحمل الإخوان صنوف التعذيب وألوان التنكيل وكل ما يبدي له جبين الإنسانية في العصر الحديث . بل يلافظه الضمير الإنساني في كل الأزمان لدي كل البيئات والأجناس والأصقاع . والحق يقال إن الإخوان وعلي رأسهم فضيلة المرشد المجاهد كانوا يؤدون ما يؤمرون به وقلوبهم عامرة بالإيمان وألسنتهم تلهج باللعنة علي معذبيهم من الطغاة والظالمين ، هذه الصورة البغيضة عشتها في السجن الحربي لمدة أسبوع من دخولي . وفي يوم السبت السابع والعشرين 27 من نوفمبر سنة 1954 نادوني بصوت جهوري فأخذ الإخوان في الزنزانة يطرقون الباب بالقباقيب وبعد لحظة فتح الباب وقال لى السجان انزل - للمحاكمة - وهنا استحضروا حلاقا ولبست الطربوش الذى كان قد سحق بأحذية الجنود واخذ الشاويش " أمين " يتحدث إلي بأسلوب لم أعهده منه من قبل فقال لي بهدوء : النهاردة المحاكمة امسح الطربوش ونظف هدومك وامسح الجزمة فمسحتها بملابسي لأن المناديل منعت عنا ، وفي هذه اللحظة كان قد حضر بعض أعضاء المكتب وهم : الأستاذ / عمر التلمساني ، وفضيلة الشيخ : أحمد شريت ، والأستاذ / عبد العزيز عطية ووقفوا في شكل طابور ونودي للأمام سر فسرنا وهناك عند إدارة السجن وضع القيد (الكلابش) في أيدينا وركبنا السيارة في حراسة مشددة ومنعنا من التحدث إلي بعضنا البعض إلي بلغنا إلي مبني محكمة الشعب .

وهناك استقبلنا المصورون وأدخلنا حجرة خاصة ونزعت الكلابشات من أيدينا وجلس كل منا علي كرسي منفرد في ركن من الحجرة والحرس يحوطنا من كل جانب . وبعد هنيهه استدعينا للوقوف أمام المحكمة وكان قد استدعاني الأستاذ / حسين أبو زيد المحامي الذي كان يشغل منصب وزير المواصلات في عهد الحركة قبل المحاكمة ، وقد حضر معي للدفاع عني فجلست معه في حجرة خاصة وقال : ازي الحال يا سيد أبو النصر – قلت له : الحمد لله فقدم إليّ صورة من أصل الحديث الذي دار بيني وبين مندوب جريدة الأهرام الأستاذ محمد الليثي يوم 24 من أكتوبر ستنة 1954 أي قبل حادث المنشية بيومين وكان موقعا عليه من المندوب فقال المحامي : هذا حديث عظيم ويثبت أنك لم تشترك في الحادث . وكان خلاصة هذا الحديث :

ابتدئ بسؤال من مندوب الأهرام

-نري أن الجماعة في الفترة الأخيرة قد أغرقت نفسها في الأمور السياسية فهل لها أن تترك هذا وتشتغل بالأمور الثقافية والدينية ؟

قلت له : إن الإسلام نظام شامل وإنه يدعو إلي تثقيف الشعب وتربية الشباب وإسداء النصح للحاكم متى اقتضت مصلحة البلاد ذلك . تنفيذا لقول الله تعالي ( ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) ثم سألني :

-ما رأيكم في الاتفاقية ؟

قلت : إن الاتفاقية كما قال رئيس الحكومة لا تعتبر نجاحا كاملا وأنها بداية حسنة ، ويجب أن نكمل حتى يجئ الاستقلال كاملا غير منقوص ، وأن معارضة الإخوان – للاتفاقية تقوي مركز المفاوض المصري وبذلك يمكنه أن يأخذ من المستعمر أكبر قدر ممكن لمصلحة البلاد ، وبالفعل رأينا بعد ظهور معارضتها للاتفاقية أن تغيرت بعض بنودها إلي نحو أفضل ثم سألني :

-ما رأيكم في ضم المفصولين من الجماعة ؟

قلت : علي كل حال احنا كإخوان أسرة واحدة تحل مشاكلنا في ظل قوانيننا . ( وهنا انتهي ما أتذكره من الحديث) .

وقد أوصيت المحامي أثناء مرافعته للدفاع عني ألا يتعرض للجماعة ولا لفضيلة المرشد بسوء وأرفض أن تأتي براءتي بهذه الوسيلة ، واشترط المحامي عليَّ ألا أتحدث أثناء المحاكمة بحجة أن رئيس المحكمة رجل عسكري وطبعه شديد فيحسن أن تتركني معه في المرافعة فنفذ كل منا ما اتفق عليه . والعجيب أن المرافعة كانت غير موفقة وقد ذكرت له بعض ما وقع لي وللإخوان داخل السجن الحربي من تعذيب وتنكيل وإهانات وامتهان لكرامة الإنسان فكان ينصت ويستمع وهو في ذهول وكان تعليقه إنكم أنتم أصحاب دعوة ولابد أن تتحملوا في سبيلها كل شيء ، وكنت ألاحظ عليه أثناء حديثه معي أنه في غاية الحذر والخوف وكأنما عين الرقيب تلاحقه وتسجل عليه ، وقال لي هامسا : ماحدش قادر يتكلم برد أبدا . ثم بعد قليل استدعينا للوقوف أمام هيئة المحكمة وكانت مشكلة من :

-السيد / جمال سالم – رئيسا .

-السيد / محمد أنور السادات – عضو اليمين .

-السيد / حسين الشافعي – عضو اليسار .

فأخذنا رجال البوليس الحربي وأدخلونا قاعة المحكمة ، وكانت القاعة شاغرة تماما إلا من بعض الأشخاص لعلهم كانوا من ضباط المخابرات وبعض مراسلي الصحف والمصورين . وجلسنا والأستاذ / حسين أبو زيد المحامي في الصف الأول ، وكان بجواري الأستاذ / عبد العزيز عطية ، وفي الجانب الآخر في نفس عبد العزيز عطية ، وفي الجانب الآخر في نفس الصف المرحوم الشيخ / أحمد شريت ، والأستاذ / عمر التلمساني ، وبعدما أخذت لنا صور مختلفة دخلت هيئة المحكمة فوقف الجميع وبعد الجلوس : افتتح الجلسة : جمال سالم ورئيس المحكمة ونودي علي اسمي فوقفت فسألني :

فوقف الأستاذ / حسين أبو زيد المحامي وقال : أنا حاضر معه ، وترافع عني وقال : إن موكلي رجل مزارع ووقته كله مشغول بالزراعة وغير مشغول بالأمور السياسية وهنا قدم صورة من الحديث الذي كان قد دار بيني وبين مندوب الأهرام يوم : 24 من أكتوبر سنة 1954 أي قبل حادث المنشية بيومين ، وكان المحامي يريد بذلك أن يثبت للمحكمة أني لم أكن مناهضا للحكومة حتى آخر لحظة ، وكان هدفي التفاهم والتعاون مع الحكومة في سبيل مصلحة البلاد . فقال رئيس المحكمة : طيب نقرأ الحديث الذي أدل به لمندوب الأهرام علشان نعرف إذا كان رجل سياسي ويفهم في السياسة أم لا ، وأخذ نص الحديث عضو اليسار السيد / حسين الشافعي وبدأ يقرأه بصوت مرتفع ، وبعد قراءته :

قال جمال سالم – رئيس المحكمة للمحامي ده راجل مش سياسي ياسي حسين !! خلينا نشوف شغلنا ياسي حسين .. فامتقع وجه الأستاذ حسين أبو زيد المحامي وارتبك وأخذ يتراجع ويقول : لا يا فندم .. احنا نفتدي الثورة .. احنا بنعمل من أجل الثورة .. احنا مستعدين نخدم الثورة .. حاضر يا فندم حاضر يا فندم ، وكان عندما سمع جمال سالم عبارة إننا نسدي النصح للحاكم متى اقتضت مصلحة البلاد ذلك – كما جاء في الحديث ، صاح في ثورة : ده ينصح الحكومة !! ... ده ينصح الحكومة !! ده الفلاح يقتل جاره عشان كوز ذرة – فسكت المحامي ولم يرد . وانتهت المحاكمة وحدد يوم السبت التالي الموافق 4 من ديسمبر سنة 1954 للنطق بالحكم ثم رجعنا إلي جهنم العذاب – حيث عدنا أدراجنا إلي السجن الحربي .

وفي مساء يوم الجمعة الثالث من ديسمبر سنة 1954 – أي قبل جلسة سماع الحكم بيوم استدعاني الشاويش – أمين – بالمناداة بصوت عال اشتهر به ، فين الولد محمد حامد أبو النصر ، وكررها مرتين أو ثلاثة رد يابن .. خبط علي باب الزنزانة يابن .. ، فما كان من الإخوان الذين معي في الزنزانة إلا أن أنهالوا علي باب الزنزانة بالقباقيب بشدة وفزع إشارة إلي أنني موجود في هذه الزنزانة ، وبعد لحظات جاء السجان وقال : هنا الولد ؟ .. قالوا إيوه يا قندم ، فوقفت قال : اعمل التحية يابن .. ، فعملت التحية ، ثم قال : انزل قوام علي تحت وشبعني بالكرابيج تلاحقني من خلفي ، يلهب بها جسدي أينما هبطت فكنت عبثا أحاول تفادي بعض لهيبها متخطيا درجات السلم هكذا إلي أن بلغت الدور الأرضي ولا أكاد ألتقط أنفاسي بل أكاد أهوي إعياء إذ كان الألم يشتعل في كل جسدي ثم استقبلني الشاويش (أمين) .. إنت الولد اللي بنادي عليه قلت : نعم قال : مطلوب للتحقيق ، بكره جلستك ، إن شاء الله إعدام ، وانهال علي ضربا ، وأدخلوني حجرة بها شخص لابس مدني وآخر لابس عسكري (ضابط) فسألني الضابط :

اسمك – وسنك – ومهنتك – وبلدك ؟ فأجبته . ثم سألني : إنت عندك عربات ملاكي أرقام .. ، ... قلت نعم . ثم سألني : إنت عندك أطيان كيت وكيت ؟ قلت نعم . ثم سألني : إنت عضو في مكتب الإرشاد ؟ قلت نعم . ثم عقب قائلا : واحد مبسوط زيك غني وثري ماله ومال الإخوان ! ثم سألني : إيه رأيك في حسن الهضيبي ؟ قلت : مستشار عظيم فرد قائلا : يصلح أن يكون مرشدًا ؟ قلت : أكفأ واحد يصلح أن يكون علي رأس الجماعة . قال : يا سلام .. اكتب الكلام ده ! قلت : هذا رأيي فلاحظت أن وجهه أصفر وأذنيه أحمرت وعيناه زاغتا وقال : يا سلام .. ده أنت صادق قوي .. الصدق طالع من عنيك .. يبقي حسن الهضيبي اللي حاول قتل رئيس الحكومة يصلح أن يكون مرشدًا ؟! قلت : محصلش .. قال : يا سلام .. يا سلام .. يا سلام .. بكره حاتشوف .. بكره حاتشوف .. مادام حسن الهضيبي ينفع مرشد بكره حاتشوف .. (وهو يشير بذلك إلي جلسة باكر السبت 4 من ديسمبر سنة 1954 حيث النطق بالحكم) .

وكان التحقيق معي مرة ثانية بعد وقوفي أمام المحكمة في جلسة 27 من نوفمبر سنة 1954 ، وحضور الأستاذ / حسين أبو زيد المحامي معي كان الغرض منه إقناعي بالعدول عن تمسكي وارتباطي بالجماعة وفضيلة مرشدها توطئة لإخلاء سبيلي والإفراج عني . وكانت هذه هي المحاولة الأخيرة لإقناعي ، وبعد الانتهاء من إجراء هذا التحقيق القصير نادي المحقق علي الشاويش أمين قائلا له : خذوه ... ففهمت أنهم سيضربونني ، لكن الشاويش – أمين – سجني إلي خارج الحجرة حيث كان منشغلا بضرب أخ آخر منتشيا بذلك فضربني بكرباج علي ظهري وقال : علي باين .. وأمام الزانزانة استقبلني السجان وقال : خلصت تحقيق .. قلت : خلصت قال : فين التحية يابن .. فعملت التحية ، وفتح الزنزانة فدخلت وأغلق علينا بابها وأخذنا نتحدث أنا والإخوان حتى حان وقت صلاة العشاء فأممت الإخوان وقرأت بالجهر وصلينا جميعا العشاء وعقب الصلاة نبهني الإخوان بضرورة عدم الجهر في الصلاة مرة أخري حتى لا يترتب علي ذلك تكدير جميع الإخوان في الدور كله .

وكان لا يسمح لنا بدخول دورة المياه إلا مرة واحدة كل ثمان وأربعين ساعة بشرط ألا يزيد مكث الفرد عن دقيقة واحدة في التبرز وألا فتح عليه الباب وانهالت عليه بالكرابيج . وبمناسبة الكلام عن الصلاة في السجن تحضرني نادرة أنني والإخوان خرجنا ذات مرة في موعدنا إلي دورة المياه وعندما هممت بالدخول إلي المرحاض كما هي العادة صرخ الشاويش قائلا : توضأ الأول .. فحاولت أن أفهمه السنة المتبعة فأبي أن يستجيب وقال : إنت حاتعلمني الدين يا خاين الوطنية .. فحاولت عبثا أن أقنعه فرفض إلا أن أنفذ أمره ، فنفذت أمره وتوضأت ثم دخلت المرحاض وفي داخل المرحاض بعد أن قضيت حاجتي توضأت من الصنبور الذي بداخله . وهكذا كانت الأشخاص والعقول التي كنا نتعامل معها في داخل السجن .. ضلف .. وجهل .. وشر .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وفي صباح يوم السبت الرابع من ديسمبر سنة 1954 – استدعينا وو ضع الكلابش في أيدينا وتوجهنا في حراسة مشددة إلي مبني المحكمة لسماع الحكم ، وكان في مقدمتنا فضيلة المرشد الأستاذ / حسن الهضيبي . وهناك وضعنا في حجرتين كل في مقعد ونودي علي الشهداء : عبد القادر عودة – والشيخ / محمد فرغليوإبراهيم الطيب ويوسف طلعت – وهنداوي – ومحمود عبد اللطيف . وحكم علي هذه المجموعة الأولي بالإعدام شنقا .

ثم نودي علي : الأساتذة : فضيلة المرشد / حسن الهضيبي – الذي استبدل حكمه من الإعدام إلي المؤبد – وعبد العزيز عطية – والدكتور / كمال خليفة والدكتور حسين كمال الدينومنير أمين دلهوصالح أبو رقيقومحمد حامد أبو النصر (الشاهد علي الأحداث) . وحكم علي هذه المجموعة الثانية بالأشغال الشاقة المؤبدة . ثم نودي علي الأستاذ / عمر التلمساني – فضيلة الشيخ / أحمد شريت . وحكم عليهما بالسجن لمدة خمسة عشر عاما ثم عدنا إلي الحجرتين بعد صدور الحكم ، وهنالك أديت صلاة الظهر منفردا ولوحظ أنه اثناء تقدمنا لسماع الحكم أن يهرول الحرس بنا جريا كي نبدو وكأننا منزعجين . وفي هلع من الأحكام وفي هذه الأثناء يشيرون إلي المصورين لأخذ الصور علي هذه الحالة . ثم انتظرنا قليلا في الحجرات حتى انصرف الحاضرون ، ثم نقلنا من المحكمة إلي الشفخانة وإن شئت فقل سلخانة السجن الحربي .

ولما عدنا إلي السجن الحربي استقبلنا الشاويش – أمين – وسألنا عن الأحكام وسأل فيمن سأل الأخ المرحوم المستشار الأستاذ / منير دله – عضو مجلس الدولة قائلا له : أخذت كان سنة يا واد يا منير .. فقال له رحمة الله : أخذت مؤبد . ثم قال مبروك عليكم طرة .. هناك لوكاندة بالنسبة لعندنا . ومن هناك وزعنا حيث نقل الشهداء إلي سجن الاستئناف ، ونقل المسجونون إلي ليمان طره .

مشاهداتي في السجون

ليمان طرة :

وبعد أن سمعنا الأحكام ، وتوجهنا في الحال ومعنا حراسة مشددة إلي ليمان طرة . والسجون المصرية ، مشهورة بقسوتها وشدتها علي النزلاء ، منذ أن أسسها الانجليز في مصر ، وظللت هكذا ، في التضييق علي النزيل وسوء المعاملة له وتطبيق أقسي اللوائح والقوانين التي لا يمكن لأي دولة متحضرة أن تطبقها علي أي إنسان ، كهما كانت قدرته – وضعفه ، وهكذا دخلنا هذه السجون وهي علي هذا الشكل ، ولكن الله تبارك وتعالي – الرحيم بعباده والمنقذ للمظلومين ، جعل من هذا الضيق فرجا ، وكأنما قالت العناية الإلهية يا سجون كوني بردا وسلاما علي الإخوان المسلمين ، وفي مدخل الليمان جردنا من ملابسنا العادية العادية ، وقدم لنا الضابط المختص بدلا سوداء من صنع السجن كانت ممزقة ولا تستر أكثر من عورة الإنسان ، وكذلك أمر بالضابط بخلع الأحذية فدخلنا الليمان خفاة ووزعنا في عنبر واحد علي زنازين متفرقة ، وكان حظي السعيد وجودي مع فضيلة المرشد والأستاذ عبد العزيز عطية ، وقد سعدت بخدمتهم ، والقيام علي معاونتهم ، وهم في هذه السن المتقدمة ، ومن أكرم المشاهد التي رأيتها في هذا الليمان ، هو استقبال النزلاء للإخوان ، استقبالا كريما ، وقد قدم نزلا أسيوط إلي الإخوان وفضيلة المرشد كساوي جديدة ، بدلا من ملابس السجن التي وزعت علينا ، وهي ممزقة ومهلهلة ، وغير لائقة ، فجزي الله هؤلاء النزلاء الكرام خير الجزاء ، ثم بعد قليل صُنَّعَ الإخوان في مرافق السجن ، وكان أغلبهم في فرقة تكسير الحجارة بالحبل ، وقد قام الإخوان بمهمة تكسير الحجر خير قيام ، وكان بعضهم يرتل القرآن ، والبعض الآخر ينشدون الأناشيد الحماسية ، استعلاء علي الصعاب ، واستهانة بهذه الأعمال الشاقة ، فكانوا موضع التقدير والاحترام من النزلاء ، ومن بعض الموظفين بالسجن .

ومما هو جدير بالذكر أنني كنت اشترك مع النزلاء في لعبة العصي (التحطيب) وكنت أضع علي رأسي عمامة كبيرة كرجال الصعيد ، وقد رآني فضيلة المرشد وأنا في هذه الحلقة ، أتحرك يمينا وشمالا معتزا بهذه اللعبة التي لا يزاولها إلا الشجعان من الرجال فما كان من فضيلة المرشد رحمه الله إلا أن طلب مني استحضار عمامة كبيرة تشبهًا بنزلاء السجن وقد امتثلت لرغبته ، وأخذ العمامة ووضعها علي رأسه بطريقة خاصة كشفت عن حقيقته رجلا مكافحًا صلبًا يهزأ بالأحداث مهما كان ثقلها ، ويلين للحق في سبيل الحق ، وهكذا كانت هذه الفترة الأولي في حياة السجون ، .. وأذكر أن إدارة السجن قيدت الإخوان بقيد من الحديد ربط طرفه بوسط الجسم ، ووضع طرفه الآخر في الأرجل ، وذلك حتى لا يستطيع الأخ الجري أو الهروب ، وهذا تقليد قديم يوضع لعتاة المسجونين ، وأكابر المجرمين .

في سجن الواحات الخارجة :

وبعد مضى ستة شهور قضيناها في ليمان طرة ، رحلنا ومعنا مجموعة من النزلاء الحكومة عليهم في قضايا القتل الى سجن الخارجة ، في وسط الصحراء الغربية بعيدا عن أسيوط بحوالى 240 كيلومتر ، وهو عبارة عن خيام خصص بعضها لسكنى النزلاء ، والبعض الآخر لموافق السجن وإدارتها ، وقد أحيط قضيناها في هذا السجن أصدر مأمور السجن أمرا بتقييد الإخوان بالسلاسل الحديدية ، وربط كل مجموعة بعمود الخيمة ، حتى لا يستطيع أحد الإخوان التحرك أو الهروب ، لكن الإخوان رفضوا هذا الأمر وقرروا الوقوف ضد تنفيذه مهما كلفهم الأمر ، ولما تلبد جو السجن بالتمرد علي إدارته ، اتصل مأمور السجن بمحافظة الخارجة ، وقص الحالة ، فرد عليه المحافظ وقال لا داعي لهذا الإجراء ، فإن الإخوان في مكان ناء ، وبعيد عن الوادي والعمران وهم في صحراء شاسعة ، لو خرج أحدهم لا يستطيع أن يهتدي لأي مكان ، وقال مأمور السجن إنها أوامر صدرت إلي من وزارة الداخلية ، فاتصل المحافظ بوزير الداخلية زكريا محيي الدين ، وطمأنه بأنه المسئول شخصيًا عن وقوع أي حادث هروب ، وانتهت المشكلة عند هذا الحد ، وبعد ذلك قامت إدارة السجن بتنسيق مرافق السجن والخيام بمعاونة الإخوان والنزلاء ، ومن أبرز الأحداث التي وقفت في داخل هذا السجن ، هي فكرة تأييد عبد الناصر ، وبدأت هذه الفكرة ، عندما تقدم ضباط الإخوان المسجونون بعرض استعدادهم للقتال في صفوف الجيش المصري عند الاعتداء الثلاثي علي مصر وأخذت المباحث العامة من هذا العرض (قضية) لتأييد عبد الناصر ، فرسمت وخططت لها ، وأخذت تضغط بشدة علي أسر الإخوان في داخل السجن وخارجه ، تارة بالوعود المعسولة ، وتارة أخري بالتهديد ، والاعتداء ، والتجويع ، والاعتقال ، والتعذيب ، وهكذا عاشت الأسر في رعب ، وخوف ، وأفهموهم ضباط المباحث المرة ، والمرات – علي أسر الإخوان بالتهديد المخيف ، واستعمال أساليب البطش والتنكيل بهم حتى الزوجات أغروهن بإرسال عقود زواجهن لأزواجهن من الإخوان يطلبن الطلاق منهم ، وأما غالبية الإخوان ، فقد صبروا وصابروا ورابطوا في سبيل دعوتهم ، وتحملوا صنوف الضغط والإرهاب في داخل السجون وخارجها ، فما لانت لهم قناه ، ولا ضعف لهم عزم ، وظلوا يتحدثون الظالم في ثبات لا يعادله إلا ثبات الراسيات ، .. وهكذا حقق الإخوان المخلصون قول الله تبارك وتعالي : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) . صدق الله العظيم .

وكنت تراهم يواجهون هذه الصعاب بالنكتة اللاذعة ، والبسمة المشرقة ، وسجلت هذه الحالات في بعض المواقف ، فكان أن احتفل السجن بمولد النبي صلي الله عليه وسلم ، واشترك الإخوان في هذا المهرجان ، وأقاموا معرضا تجاريا لبيع الخردوات وعلقت فيه الفوط والبشاكير ،وما إلي ذلك ، وعندما مر مدير السجون ، ومدير المباحث العامة يتفقدون هذا المهرجان ، أستوقفهم قسم الإخوان الذي يعرضون فيه معروضاتهم ، وأمسك السيد مدير السجون بفوطة ، وقال : ما هذه .. ؟ وكان القائم علي المعرض أحد كبار الإخوان الأستاذ أحمد إمام ، فقال : في سرعة بديهة ، وطلاقة لسان هذه الفوطة عال .. تنشف الرأس كويس ، فضحك الجميع ، فهموا النكتة أنها إشارة إلي إصرار الإخوان علي عدم تأييد عبد الناصر ، وراسهم ناشفة . .. ومما يذكر أن فضيلة الأخ الأستاذ عمر التلمساني ، كان له الفضل في تثبيت الإخوان ، وذلك بفضل الدروس التي كان يلقيها وسط الإخوان ، مبينا الضرر الفادح – من تأييد الظالم ، وعلي ذلك رفض عبد الناصر الإفراج عنه بعد قضاء مدة السجن وقدرها خمسة عشر عاما ، وكتب علي أوراقه بالحبر الأحمر لا يفرج عنه ، ويبقي في الاعتقال وظل كذلك حتى أفرج عنه مع الإخوان بعد مضي عام من وفاة جمال عبد الناصر .

في سجن المحاريق :

وكانت الحكومة تتخوف من بقائنا في سجن الخارجة ، لأنه في نظرها سجن مفتوح ، - فقررت بناء سجن خاص في المحاريق ، وأنشأت به ثلاثة عنابر لجميع النزلاء ، ومبانٍ خاصة بالإدارة ، وكان يحوط السجن سور عال مبني بالأحجار ، وأقيمت عليه أبراج الحراسة ، وكانت جميع عنابر السجن ومرفقاته أبواب خشبية ضخمة مبطنة ومزودة بالحديد ، وفي وسط السجن أقيمت فيلا خاصة لسكن المأمور ، حتى لا يغادر السجن ليلا أو نهارا ، إمعانا في التحفظ علي الإخوان ، وخشية من هروبهم ، وقد أرادت الحكومة إجهاد الإخوان ، فعملت علي إنشاء مزرعة قريبة من السجن ، وكلفت الإخوان بإصلاح هذه الأرض ، فكان الإخوان كل يوم يذهبون إلي هذه الأراضي لاستصلاحها ، وهم لذلك يحملون علي أكتافهم الفؤوس والمقاطف في غدوهم ورواحهم ، وكانوا يؤدون هذا العمل بانطلاق ، غير مكترثين بهذه الصعاب ، بل كانوا يرتلون القرآن ويحفظونه ، وكانت فرصة طيبة للتزود بالقرآن الكريم ، ومن النوادر التي حدثت ، أن أحد الحراس ، قال لفضيلة الأخ الشيخ أحمد شريت ، مالك يا سيدنا الشيخ .. ,هذا التعب .. المثل يقول : (إن كنت في بلد تعبد العجل حش وارميله ..) فرد عليه فضيلة الشيخ شريت في غضب : (إزاي أرميله .. دانا أقطع راسه ..) وبلغ هذا الحدث عبد الناصر ، فما كان منه لا أن أشر ببقائه في السجن بعد انقضاء مدة العقوبة ، وقدرها خمسة عشر عاما ، وظل فضيلته في السجن حتى توفي بين جدرانه رحمه الله رحمة واسعة ، ورغم ما نحن فيه من إمتهان في هذا السجن فقد كنا نعيش داخل السجن في زنازين ليلا نهارا ، لا تخرج إلا عند الذهاب إلي الأرض لاستصلاحها ، فكانت رحمة الله تنزل بنا كلما اشتد الأمر ، فتتبدد هذه الشدائد ، ونذكر في هذا الصدد ، أن الشاويش النوبتجي ، ذهب لي الأخ المسئول عن الترزيه ، وقال له : أصلح لي هذه البدلة ، فقال له الأخ المسئول :

سأصلحها بعد أربعة أيام ، وتأخذ دورها في الترتيب ، فما كان من الشاويش عليه العساكر بالضرب المبرح ، وظل الإخوان يوضع الأخ في فلقة ، وانهال عليه العساكر بالضرب المبرح ، وظل الإخوان بعد أن سمعوا بهذه القصة ، يبتهلون إلي الله أن يرفع عنهم هذه الغمة ، وأن يدفع هذا البلاء ، وفي منتصف الليل ، طرق أحد السجانة باب زنزانة الأخ الكريم الدكتور علي شهوان ، طبيب الإخوان ورجاه أن يذهب معه إلي فيلا البيه المأمور ، لحالة مرضية مستعجلة ، ولما ذهب الأخ الطبيب إلي سكني المأمور ، وجد ابنه في حالة إعياء ، وقد أشرف علي الموت ، ولاحظ الأخ الطبيب أن المريض قد شرب دواء السيدة والدته خطأ ، فأجري له الأخ الطبيب العلاج المطلوب ، وشفي المريض بإذن الله ، وفي صباح اليوم التالي ، قص المأمور علي السيد وكيل السجن حادث ابنه المريض ، وقيام الأخ الطبيب بعلاجه ، فرد عليه وكيل السجن : إن الأخ الترزي الذي وضعته بالأمس في الفلقة ، وانهالوا عليه السجانة بالضرب ، ربما كان يحفظ من القرآن قصار السور ، فما بالك لو كنت أمرت بضرب أحد الإخوان الحافظين للقرآن جميعه ، فانزعج المأمور وقال لوكيل السجن : يالله بنا نزور الإخوان في العنبر ، وبالفعل تمت الزيارة بالاعتذار ، ثم أحسنت إدارة السجن معاملتنا بعد هذه الزيارة ، وهكذا كانت رحمة الله تتوالي علينا من حيث ندري ومن حيث ندري ومن حيث لا ندري ، ويسخر لنا الجبابرة الطغاة من غير سؤال منَّا ، ولا رجاء ، ولله الفضل والمنة .

في سجن قنا :

حاول أحد النزلاء في سجن المحاريق الهروب من السجن ، ففكرت الحكومة جديا في ترحيلنا إلي سجن قنا ، هذا السجن الضيق المحكم الحراسة المكتظ بالسجناء ، وهناك وزعنا علي زنازين ضيقة ، وليس بها إلا نافذة واحدة ، ولكن الإخوان بما عرفوا به من نشاط وقدرة علي العمل ، انبثوا في مرافق السجن ، وأحسنوا إدارتها ، مثل المغسل والمطبخ ، وهو أهم المرافق في السجن ، " والكانتين " ، وغير ذلك من المرافق التي تعتبر عصب السجن ، وفي هذا السجن ، أنشأ الإخوان قسما للرسم ، كان يديره مجموعة من الإخوان – الكرام بإشراف الأخ الأستاذ علي نويتو ، وقد أحدث هذا المرسم شهرة عظيمة للسجن فتوافد عليه الكثير من عشاق الفن ، لشراء بعض الرسوم الجميلة بثمن مناسب ، مما زاد من دخل إدارة السجن ، وكان هذا الرسم سببا من أسباب حسن معاملة إدارة السجن للإخوان والنزلاء ، كذلك أخذ الإخوان في هذا السجن ، يعاونون النزلاء في طلب العلم والحصول علي مؤهلات ، وكانت هذه فرصة طيبة لاتصال الإخوان بالنزلاء ، وكانت هنام لقاءات تشبه شعب الإخوان في الخارج ، وبذلك تم التعارف والتواد والترابط بين الإخوان وكثير من النزلاء .

ومما يجدر ذكره ، أن السادة الضباط المسيحيين كانوا يعاملوننا معاملة طيبة مليئة بالرأفة والرحمة ، نذكر منهم السيد المأمور منير كيرلس ، والسيد المأمور البير تادرس ، وهذا الأخير كان لاعبا مشهورا في كرة السلة ، علي مستوي الجمهورية ، ومن ثم كون فريقا رياضيا للاعبي كرة القدم ، وكان جميعه من الإخوان ، وهذا الضابط بالذات كان رقيقا ومهذبا ورحيما ، وقد سألناه ما هو الدافع لمعاملة سيادتكم لنا بهذا الأسلوب الطيب الكريم فكان يقول دائما ، أنتم ناس أصحاب مبادئ ، ويجب تقديركم وحسن معاملتكم ، فشكرنا له ، هذا الفهم السليم ، وهذه المعاملة الطيبة ..

سجن مزرعة طرة :

في عام 1970 رحلنا علي دفعات إلي سجن مزرعة طره ، توطئة للإفراج عنا ، وهذا السجن ، كانت حجراته واسعة ، تسع أكثر من عشرين سجينا ، وكانت المعاملة لا بأس بها وفي هذا السجن تم لقاء بين مجموعة من ضباط المخابرات وبين جميع الإخوان المسجونين في هذا السجن ، وكان لقاءً أشبه بالحوار المفتوح بين الإخوان ، وضباط المباحث ، فقد عرض الإخوان أفكارهم ودافعوا عن دعوتهم وجماعتهم بصراحة ووضوح ، ولم يجعلوا من أسوار السجن حائلا دون توضيح موقفهم ، وشرح رسالتهم من يوم أن أسست جماعتهم ، وأنهم سيظلون – حاملين راية الإسلام ، يدافعون عنها ، ويحمونها بأكرم ما يملكون من أعز المهج والأرواح ، وكان هذا الوضوح والبيان دون لف أو دوران محد إعجاب واستغراب ضباط المباحث وغرابتهم وانتهي اللقاء ، وبدأ الإفراج عنا علي دفعات .

عبد الناصر في المـرآة :

أري لزاما علي وقد اتصلت وتعاملت مع الضابط عبد الناصر ، أثناء مقدمات المحنة التي ابتلي الله بها الإخوان ، أن أكتب عن صورة عبد الناصر مما تكونت جوانبها وملامحها لدَّي من خلال لقاؤآتي ومن خلال كل الأحداث والوقائع والمواقف التي كانت في فترة حكمه . هذا الضابط الشاب الصغير الذي جاءت به الأقدار علي رأس حركة كان الشعب يتطلع إليها كمنقذ من تلك الحالة التي سيطر عليها حكم ملكي فاسد ، هذا الضابط الشاب الصغير ، كان رقيق الدين ، لم يتذوق حقيقة الإسلام بل ولا حقيقة أي دين من الأديان ، وقد دفعه طموحه إلي المجد الذاتي ، أن ينخرط في صفوف الإخوان مرة ، والشباب الوفدي ، والخلايا الشيوعية مرة خري ، وأخيرا استقر به المقام في جماعة الإخوان المسلمين ، علي اعتبار أنها الهيئة التي لها المستقبل في إصلاح البلاد ، لا ليعيش في مبادئ ، ولا ليتربي علي منهج ، بل هو مع الحصان الرابح أينما كان ، هذا الضابط الشاب الصغير ، تعشقت نفسه ، وأشربت روحه ، هو وبعض زملائه ، أمجاد مصطفي كمال أتاتورك ، الذي وصل إلي الحكم في تركيا ، بعد حروب مصطنعة انتصر فيها ، رفعته إلي القيادة ، وقد أتاحت له في الوصول إلي هذه المكانة جمعية الاتحاد والترقي الإسلامية في تركيا ، هذه الجمعية التي كانت أول ضحية فقد أعدم زعماءها وقضي عليها كمال أتاتورك ، كما قضي علي الخلافة الإسلامية التي كانت تمثل القيادة العامة العظمى للأمة الإسلامية جمعاء ، وبذلك مكن الاستعمار الغربي من ابتلاع العالم العربي والإسلامي ، وملئت نفس عبد الناصر ، وبعض زملائه بروحكمال أتاتورك الذي أعلن حربه علي الإسلام ، والقضاء علي اللغة العربية .

ألم يكن عبد الناصر ينهج هذا النهج نفسه حين كان يخاطب الجماهير باللغة العامية ، ألم يكن ببغض الأفكار الدينية والإسلامية منها علي وجه الخصوص ، وهل غاب عن ذاكرتنا كان يزري بمكانة الشيوخ ولعلنا نذكر جميعا كيف كان يمثل بمركز رجل الدين حينما كان يقول أمام الميكرفون مخاطبا الجماهير من أراد أن يحصل علي فتوى شرعية من شيخ أزهري فما عليه إلا أن يذبح له فرخة ويأخذ منه ما يشاء من الفتاوى والآراء .

هكذا كان يجرح علماء الدين ويمقتهم بقصد زعزعة الدين – والتهوين من شأنهم في قلوب الشعب المصري المتدين . وكذلك فعل الأزهر الشريف بحجة تطويره مع مقتضيات الحياة ، وبذلك ضاعت معالم الزهر الذي كان يخرج كبار العلماء ، الذين حفظوا للدين قوته وهيبته ، وهكذا صار الأزهر معهدا ككل المعاهد فلا يحسب له حساب ، ولا ينتفع به في توطيد أركان الإسلام ، وكذلك قصد من تطوير الأزهر إفساده ، ليقضي عليه ، كما قضي كمال أتاتورك علي الخلافة الإسلامية ، أما عن خلقه الشخصي ، فحدث ولا حرج ، فقد كانت تصرفاته تتسم بالتحلل من الكلمة والخداع ، وغير ذلك من المبادئ السيئة التي استمدها من كتاب الأمير لمؤلفه الفيلسوف (ميكافيلي) 14691527م والذي من أشهر مبادئه (أن الغاية تبرر الوسيلة) والتي تعني استخدام الخبث والدهاء والغدر والخيانة في السلوك والأخلاقيات وكل ألوان الشرور وقد كانت هذه الفلسفة السياسية أساساً بني عليه كثير من الساسة والملوك والحكام في الغرب آراءهم وأفكارهم إلي آخر عتاه الحكام الذين استبدت بهم سطوة الحكم وشهوة التسلط وغريزة التغلب ، فقهروا البلاد وظلموا العباد وتركوا صفحات حالكة الظلمة والسواد في تاريخ الإنسانية .. هكذا كان أسلوب عبد الناصر في الحكم يمقت مبادئ الإسلام ، ويباعد بينها وبين الحكم ونظام المجتمع ، بكل الصور والأساليب وأصدق ما يوصف به حكمه أنه كان (علمانيا) بحثا ، ومازالت البلاد حتى الآن ترزح تحت ظل مبادئ حكمه البغيض ، فقد أهمل الدين ، وضاعت الأخلاق ، وتبددت معاني الشرف ، وضُيق علي دعاة الدين ، الذي هو مصدر الأخلاق ، ولم تبق في البلاد إلا المادة الصرفة ، وما تحتضنه من وسائل وأساليب غير مشروعة تعوق النهوض بالبلاد ، وليس أدل علي ذلك من اضطراب نظم الاقتصاد ، رغم المجهودات الضخمة في العلاج ، بإقامة المصانع ، وتأسيس الجمعيات ، وما إلي غير ذلك ، وكذلك لا يصلح الله عمل المفسدين .

ومن ثم كان حتما وأمرا مقضيا أن يتخلص من جماعة الإخوان المسلمين ، كما تخلص كمال أتاتورك من جمعية الاتحاد والترقي الإسلامية . .. هذا بعض ما أشهد الله عليه في حقيقة عبد الناصر هذا الضابط الشاب الصغير ، الذي كان ولم يكن .. ، وأصبح في ذمة التاريخ ...

الخــاتــمـة

وقبل أن أختم رسالتي ، أسجل أنه ما دعاني لكتابة هذا الكتيب ، الذي أشهدت نفسي علي ما حدث في طريق الإخوان المسلمين ، ما قصدت به إلا إنارة الطريق للشباب – الذي هو الوارث الحقيقي لأمجاد هذه الأمة ، والذي تتعلق عليه كبار الآمال ، والذي أردت به أن أوضح كيف بني الإمام الشهيد جماعته ، بالصبر والتحمل ، ودعا للدعوة الإسلامية في رفق وتأنٍ ، وكيف واجه الأحداث والحكومات بالحلم وسعة الصدر ، ولأبين أيضا كيف استطاع فضيلة المرشد الأمين خليفته الأستاذ حسن الهضيبي ، أن يقف في وجه أكبر حركة طبقت صنوف الإرهاب والاضطهاد ، والتي تجردت في سبيل ذلك من كل معاني الرأفة والرحمة ، بل والإنسانية ، التي لطخت وجه العدالة بالدماء ، كما دمغتها أحكام القضاء العادل ، النزيه ، وهكذا افتضح أقبح حكم في تاريخ مصر الحديث ، .

وقد قصدت أيضا من كتيبي هذا أن أحذر الشباب الناهض من هؤلاء المنافقين الذين يندسون في حركاتهم المباركة ، فإن هؤلاء المنافقين أشد ضررًا وأبلغ تأثيرا علي كيان المجتمعات من العدو الظاهر اللدود ، أقول هذا ليظهروا صفوفهم من هذا اللون من الإمعات الذين أضروا بالعقيدة في كل زمان ومكان ، أقول وأسجل كل هذا ليكون لنا العبرة والعظة ، حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .

( والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) .


للمزيد عن الإخوان وثورة 23 يوليو

وصلات داخلية

كتب متعلقة

.

ملفات وأبحاث متعلقة

.

مقالات متعلقة

تابع وثائق متعلقة

وصلات خارجية

مقالات خارجية

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو