مع الحركة الإسلامية في الدول العربية
تأليف الدكتور عبد الله أبو عزة
الكويت:دار القلم للنشر والتوزيع
1986 (الطبعة الأولى)
الإهداء
إلى الأحبة الذين نعمت بصحبتهم في ربيع العمر وذروة الشباب ، إلى الذين حملت وما زلت أحمل لهم أصدق عواطف المحبة رغم افتراق الدروب ، أهدي هذه الصفحات ، راجيا أن يكون فيها قبس ، او بصيص من نور يساعدھم على رؤية الدرب في سفرھم الشاق الطويل .
مقدمة
في سنة 1952 م سعيت إلى الإنتساب للإخوان المسلمين وأنا أتوھج عاطفة ، وأندفع حماسة ، تحدوني آمال كبيرة لهذه الأمة الإسلامية من خلال ھذه الجماعة.
وبعد تجربة استمرت أكثر من عشرين سنة وجدتني ولا ھم لي إلا سلخ نفسي من عضوية الجماعة والابتعاد عن كل الظروف التي يمكن أن تربطني بها.
ولم تكن ھذه الرغبة في الابتعاد ، ناتجة عن خوف ، إذ أن انسحابي كان في أواخر سنة 1972 م في فترة رخاء، حيث ارتفع عن رقاب الإخوان سيف المحنة ، وبدأوا يستردون أنفاسهم ؛ وإنما كانت من جراء ما عرفته من ضعف الجماعة وعجزها وتحجرها ، وعدم قدرتها على تجديد نفسها.
لقد عملت مع التنظيم الفلسطيني في غزة أولا ، ثم مع المكتب التنفيذي للإخوان في البلاد العربية، الذي كان بمثابة قيادة على مستوى العالم العربي ، وكنت متفرغا للعمل مع ھذا المكتب التنفيذي؛
ثم صرت عضوا فيه ، حيث تعرفت على كثير من القيادات ، وأطللت على الحركة كلھا من ربوة عالية وإذ تكشف لي الخلل المريع حاولت الإصلاح من الداخل ، لكن جھودي كلھا تحطمت على صخرة القداسة التي خلعها الإخوان على الأشكال والمقولات التي صنعها روادھم.
وفي الصفحات التالية يجد القارئ قصة ھذه التجربة التي تحكي مشاھدات المؤلف بجانب محاولة للتحليل والتقييم نرجو أن يجد فيها الإسلاميون ما يساعدھم على رؤية الطريق بشكل أفضل ، والله من وراء القصد .
الفصل الأول:مع الإخوان المسلمين في قطاع غزة
لماذا وجد ذلك الشاب الذي كان يعبر عامه الحادي والعشرين نفسه مسوقا إلى مقر المكتب الإداري للإخوان المسلمين ليطلب من المسئول قبوله عضوا في تلك الجماعة؟ وھل استحضر ذلك الشاب في وعيه وشعوره آنذاك دوافعه وأھدافه؟
من المؤكد أن الدوافع كانت في صدره وفي عواطفه، حيث أحس بها أكثر مما وعاها بعقله ، فقد كانت جوانحه تنطوي على بركان من الأحاسيس ھو يخطو نحو المكتب الإداري ، وكان يشعر أنه مقبل على مرحلة من الحياة جديدة ، وكان فيما يقدم عليه الكثير من الإثارة والسحر والأحلام والآمال .
ولعل مما يلقي بعض الضوء على الإجابة التي نبحث عنها أن صاحبنا ذھب من تلقاء نفسه ، لم يدعه أحد ، بل إنه فوجئ عندما طلب منه سكرتير المكتب الإداري أن يحصل على تزكية من عضوين من أعضاء الجماعة في حين أنه لم يكن له أصدقاء من الإخوان في غزة لهم من المعرفة به ما يمكنهم من تزكيته؛
لأن التزكية في تقديره كانت آنذاك وما زالت كذلك مسئولية كبرى تقتضي الأمانة ألا تمنج جزافا. لذا خرج مھموما يبحث عمن يزكيه ، بيد أنه حمد الله إذ لم يجد صعوبة في الحصول على التزكية في اليوم التالي، وأصبح عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، في شعبة المكتب الإداري بغزة في يوم ما من شهر ما من أواخر عام 1952 م.
وعندما يحاول الكاتب الحالي ، وھو في الحادية والخمسين من عمره، أن يبحث عن دوافع ذلك الشاب ذي الواحد والعشرين ربيعا فإنه لا يجد صعوبة في تحديدها.
لقد نشأ ذلك الفتى في بيت قروي متدين ، ولذا فهو يحترم اسم الإسلام وتاريخه وتمتلئ نفسه بالفخر بأمجاده وبطولات رجالاته؛فإذا كان في ھذا العصر من يتصدى لحمل راية الإسلام ويعمل على استعادة مكانته فإنه يصبح أسوة وقدوة ومثالا يحتذى، ويصبح العمل معه شرفا وأمنية تبعث السعادة والاطمئنان.
وبجانب ذلك فإن صاحبنا الذي كانت جروح كارثة فلسطين عميقة في قلبه، وكانت صفحات فصولها ما زالت في منتصفها كان يعرف أن للإخوان دورا بطوليا في فلسطين، وأنهم أبدوا اھتماما بها منذ وقت مبكر؛
فقد عرف عندما كان في أشبال منظمة النجادة الفلسطينية في يبنا شيئا من ھذا الاھتمام عندما استمع إلى خطاب للمرحوم الرائد محمود لبيب في مدينة يافا ، كذلك فقد قرأ في الصحف شيئا من أخبار جهاد الإخوان ومظاھر اھتمامهم بإنقاذ فلسطين.
كل ذلك جعله يتأكد آنذاك أن ھؤلاء ھم الذين سينقذون فلسطين من براثن الصهيونية، وسيرفعون الطغيان الاستعماري عن جميع البلاد الإسلامية .
ومما يجدر ذكره ھنا أن الفتي لم يكن أسيرا لوطنية ضيقة يسعى لرفع شأنها، إذ لم تكن في ذھنه أو في وجدانه وعواطفه أية فواصل بين الإسلام والوحدة العربية وفلسطين ؛
فهذه الأفكار أفكار الوطنية الضيقة كانت أعلى من المستوى الذي وصل إليه آنذاك. لقد كان الفتى قرويا فاته قطار التعليم عند السادس الابتدائي، لكنه عاد وأمسك به في تلك السنة حيث بدأ يدرس للشهادة الإعدادية .
وتجدر بي الإشارة ھنا والتنويه بفضل من شجعني على استئناف الدراسة وھو الشيخ محمود طافش ، رحمه لله رحمة واسعة وطيب ثراه؛ وكان علمني في مدرسة يبنا الابتدائية.ولذا فإني ظللت أحفظ له مشاعر التقدير والامتنان، وأعتقد زيادة على ذلك أنه كان ذا صفات فاضلة، وأنه وآل طافش من محتد كريم، ومن أكرم الٍأسر اليبناوية.
وكان انتسابي لحركة الإخوان التي كانت تضم أغلبية من الطلبة الجامعيين والثانويين، وأعدادا من المدرسين ، نقلة إلى وسط أرقى وأعلى من المستوى الذي كنت فيه من قبل؛ ذلك كان شعوري في الأشهر الأولى التي قضيتها وانا أتعرف على البيئة الجديدة .
لقد كانت نفس الفتى ، عبدلله أبو عزة تفيض رضا وحماسة وإخلاصا وتوقا إلى الانطلاق ، كما كان يريد أن يقدم كل ما يستطيع من جهد وتفكير ، خاصة بعد أن حصل على الشهادة الإعدادية، وصار يحسب في عداد المتعلمين ، في تلك الفترة التي لم يكن التعليم قد انتشر فيها على نطاق واسع بين اللاجئين الفلسطينيين؛
ثم حصل على وظيفة كاتب طابع، بعد أن مر بدورة تعلم لاستخدام الآلة الكاتبة ، بعد ما يقرب من سنة من انضوائه تحت لواء الحركة ، وھكذا بدأ يشعر بالسعادة أن يساھم بالقليل من المال في حدود استطاعته.
لم يكن الغرض من ھذا الحديث جعل الفتى وحياته ودوره محورا لهذه الرواية، وإنما كان الغرض أن نشير إلى بعض نواحي الجاذبية التي تراءت بها حركة الإخوان له ولأمثاله، ولمن ھم في نفس ظروفه . ولا جرم في أن ھناك عوامل أخرى لمن اختلفت ظروفهم ، لسنا بصدد تعدادھا في ھذا المقام.
وھذه الجواذب والدوافع جميعا ھي التي جعلت حركة الإخوان المسلمين أكبر حركة إسلامية ، وجعلت تجمعها يضم أكبر عدد من مختلف مستويات الناس، من المتعلميين والطلبة والحرفيين.
لقد كانت أولى الخطوات العملية في حياته الحزبية أنه أصبح عضوا عاملا في "أسرة" من أسر الإخوان؛ كان ذلك في سنة 1982م وفي ھذه الأسرة وجد مشاعر ومعاني من الأخوة لم يعرفھا من قبل بين الشباب .
وعلى الرغم من أن "الأسرة" الإخوانية قد استعير لها اسمها من العائلة ، فقد وجد أن الطاقة الروحية والوجدانية التي كانت تمده بها الأسرة الإخوانية أكبر من كل ما يمكن أن تفعله العائلة التقليدية لابنها.
فهاهنا في صفوف الإخوان لا مجال للأثرة، ولا مجال للمنافسة أو الصراع على المصالح الذاتية .. والعلاقة بين أفراد االأسرة .. والأحاديث التي تدور بينهم .. والأحلام التي يتعاونون لجعلها حقيقة ملموسة .. أو يسيرون نحو تحقيقها ، أو يظنون ذلك، كلها أھداف سامية نبيلة .. لا تخص واحدا منهم؛
وإنما تخصھم جميعا .. لا تقتصر على تحقيق أمانيهم الوطنية ورغبتهم في أن يعيش شعبهم في أمان .. مثل بقية الشعوب، بل تجمع خير الدنيا والآخرة ، وتجمع مثل الوطنية والعقيدة في إطار واحد .. تجعل الفرد عاملا في سبيل أھله وبلده ووطنه، وسائرا في الوقت ذاته فيما يرفعه في ميزان لله إلى منزلة المجاھدين، إن فيها خير الدنيا والدين على السواء .
وضع الإخوان في قطاع غزة في أوائل الخمسينات
وقد تتساءل أخي القارئ عما إذا كانت ھذه الصورة المثالية ھي الصورة الحقيقية للعمل الإسلامي في غزة، وما إذا كان أعضاء الحركة وقادتها قد عاشوا كلهم في هذه الأجواء بالفعل.
إن الوقت ما زال مبكرا للإجابة على هذا التساؤل في سياق دراستنا هذه وسنجيب عنه في المكان المناسب في الفصول التالية من ھذه الدراسة إن شاء لله تعالى ، ويكفي أن أقول هنا إن ھذه الصورة هى التي كانت تملأ خيال وأحاسيس صاحبنا ، عبدلله أبو عزة ، وتشعل نشاطه وتهيج عاطفته .
ولم يلبث سوى بضعة أشهر حتى كان يلقي أول محاضرة مكتوبة في شعبة المكتب الإداري لقطاع غزة ، وتابع ذلك ببعض النشاط في المساجد.كان قطاع غزة يضم ثماني شعب للإخوان المسلمين ھي شعب: المكتب الإداري حي الرمال ،حي الشجاعية ، وثلاثتها في مدينة غزة.
أما الشعب الثلاثة الأخرى فهى: شعبة مخيم النصيرات ،شعبة مخيم البريج ، شعبة دير البلح ، شعبة رفح. وكانت الشعب كلها تتبع المكتب الإداري في غزة، بطبيعة الحال.
وكانت المناھج الدراسية والتربوية ھي تلك الممتبعة في مصر، وكان المركز العام للإخوان في القاهرة قد استأنف نشاطه أول الخمسينات، وأخذ يصدر سلسلة من الرسائل، ويوجه الدعاة إلى مختلف الجهات. (1)
وكانت ثمة صلة قوية مع الإخوان في العريش، وفي رفح المصرية. ومما قوى ھذه الصلات وزاد من أھميتها أن الأستاذ كامل الشريف رحمه لله كان إحدى الشخصيات المرموقة لدى القيادة العليا للإخوان في القاهرة.
ونظرا لأنه سبق له أن قاد قوات الإخوان المسلمين في حرب فلسطين فقد كانت له صلات شخصية وثيقة بعدد من رجالات القطاع، أعني شخصيات من غير الإخوان ومن الإخوان على السواء. وسنرى أن ھذه الصلة سيكون لها أثر كبير في الأحداث في فى سنوات تالية.
وكان قرب العريش من قطاع غزة،جغرافيا،عاملاً حيوياً فى تقوية ذلك التأثير والصلات،و في الشهور الأولى من عام 1953 م كان وضعي ما زال وضع عضو جديد في الجماعة ، لم أكن معروفا لكثيرين أو حتى لقليلين من أعضاءها من قبل، وكانت حماستي وأحلامي وتصوراتي تحجب عني رؤية بعض الأوضاع غير السارة، كما كانت حداثة صلتي بالجماعة تحجبني عن بعض الأنشطة ذات الأھمية الخاصة.
لقد شملت أنشطة الإخوان المحاضرات العامة في الشعب ، وخطب المساجد ، واجتماعات الأسر والكتائب،والمعسكرات الكشفية الخاصة بالجوالة ، والأنشطة الدعوية من خلال الاتصال الشخصي.
وبجانب ھذه الأنشطة العلنية كان ھناك نشاط سري يعنى بالناحية العسكرية من تدرب على استعمال السلاح ومن جمع مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة ، وذلكم ھو الجانب الذي خفي عني في السنة الأولى من عضويتي في الجماعة؛ (2)
ولم ينكشف عنه الحجاب إلا بقدر ضئيل في أواخر عام 1952 م وأوائل سنة 1954 ، وھي الفترة التي انفجر فيھا الصراع العلني بين السلطة والإخوان في مصر.
كذلك ضمت الحركة أقساما للطلبة والعمال، وكان القسم الأكبر والأنشط من أعضائھا القسم الطلابي وقد ضم قسم العمال أعدادا من كبار الموظفين الحكوميين، وأعدادا أكبر من المدرسين لمختلف المراحل ، بالإضافة عدد أقل من العمال الحرفيين، وعدد أقل من التجار.
وبعد الأشهر الستة الأولى من مخالطتي للإخوان ومشاركتهم أنشطتهم بدأت الصورة تتغير ، فغدت أقل بهاء ، وأبعد عن المثالية التي ملأت خيال العضو الجديد.فقد ظهرت له أمثلة من المنافسات والصراعات بين بعض الأفراد ، وظهرت له فيها تيارات وتباينات لم تكن جديدة لكن الجديد كان إدراكه لوجودها .
وكان من أبرز المنافسات والصراعات ما كان يحدث بين أفراد ذوي مؤهلات قيادية بمقاييس الجماعة وربما ذوي طموح أيضا ، جعلهم يتنافسون على البروز والتفوق؛ وقد ظھرت أمثلة من ھذا التنافس في قسمي العمال والطلاب على السواء ، واقترب في بعض المواقف من اللجوء إلى العنف .
بيد أن ھذه الحقائق المتبدية لم تفت في عضد صاحبنا ، بل استطاع أن يتقبلها على أنها إحدى إفرازات الضعف البشري الذي يظل جزءا من حقيقة وجودنا الإنساني؛ وفي الوقت نفسه أعطته ثقة أكبر في نفسه ، وشجعته على أن يكون له دور أكبر، باعتبار أنه لم يلوث بهذه الأنانيات ، ولم ينغمس في حمأة تلك المنافسات.
وبدلا من أن يكون مجرد العضو جديد يتتلمذ للجميع ، ويشعر بأنه أدنى مستوى ، ينتظر من الآخرين التوجيه الإرشاد والقدوة ، أصبح يشعر أن عليه واجب معارضة الانحرافات الصغيرة وتصحيح الخلل ، في إخلاص كامل للمفاھيم المثالية التي جذبته للجماعة.
بيد أن هذا الجانب من الخلل لم تكن فيه أية خطورة في الحقيقة ، ولم يتعد تنافسا عاديا لا يستغرب حدوثه في أية جماعة مھما بلغت مثالية مبادئھا؛ بيد أن إحساس الشباب يتسم في الغالب بالمبالغة في تضخيم الصور الإيجابية والسلبية.
كان قسم الطلاب في واقع الأمر ھو أھم الأقسام وأنشطها في الجماعة كما ذكرنا ، وكان يتحول إلى خلية نحل أثناء الإجازات الدراسية الجامعية ، عندما يعود الطلاب الجامعيون من مصر، ويلتف حولھم طلاب الثانويات لسماع أخبار النشاط الإسلامي ، والقصص الطريفة ، والصور المشرقة التي يأتي بها الطلاب الجامعيون عن ھذا النشاط
خاصة ما يتعلق منها بالصراع بين الطلاب الإسلاميين والطلاب الشيوعيين، لإثبات الوجود أولا ، وللسيطرة على رابطة الطلاب الفلسطينيين ثانيا. وكان الشباب يطربون خاصة لأخبار المعارك التي كانت تستخدم فيها اللكمات والكراسي في بعض الأحيان .
لقد ظهر في محيط طلاب الإخوان تكتلان، التف أحدھما حول الطالب الجامعي سليم ديب الزعنون، بينما التفت المجموعة الأخرى حول الطالب الجامعي حسن عبد الحميد صالح رحمه لله.
ولست أذكر الآن أية أسباب عملية حقيقية بررت ذلك التمايز، وإن كنت أعتقد أنها كانت مجرد تطور طبيعي لا ينطوي على أية مضامين تخدش الإخلاص والنقاء، ولا تعدو الاختلاف في المذاھب والقدرات والاجتھادات، بل لقد كانت مبرأة من أي إسراف في طلب الزعامة والقيادة .
وقد تجمعت حول السيد سليم الزعنون مجموعة من الطلاب اطلقت على نفسها اسم "كتيبة الفداء" ، انضموا جميعا إلى حركة فتح فيما بعد ، التي كان سليم الزعنون أحد مؤسسيها الأوائل.
أما المرحوم الدكتور حسن عبد الحميد صالح فقد اختار أن يكون أكثر ولاء للكيان الإخواني الرسمي القائم ، ومؤاخذة الطرف المقابل باعتبار أن تكتله خروجا على النظام. وقد شكلت مجموعة حسن عبدالحميد "كتيبة الحق".
وكان الخلل الأكبر الذي صدم به كاتب ھذه السطور ما دار حوله الهمس طعنا في كثير من القيادات الإخوانية الرسمية، وتشكيكا في إخلاصها واستقامتها.
ولعل من المناسب أن أشير في ھذا المقام إلى أن الفترة الزمنية الممتدة من منتصف سنة 1952 إلى أوائل سنة 1954م كانت فترة بالغة الأھمية في تاريخ حركة الإخوان كلها.
أثر حل حركة الإخوان في مصر
من المعروف ان تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري أطاح بالحكم والنظام الملكي في 23 تموز (يوليو) 1952 وجاء بحكومة يسيطر عليهاالعسكريون.
والأحداث التي ولدتها تلك الفترة معروفة بما يغنينا عن الاستطراد في روايتها. والذي يرتبط بموضوعنا منها ھو تلك العلاقة الخاصة التي بدت ودية وحميمة بين جماعة الإخوان المسلمين من جهة ورجال الثورة من جهة أخرى، خاصة قبل اصطدامهما العلني سنة 1954 .
ونتيجة لتلك العلاقة فقد اعتقد كثيرون أن حركة الجيش ، وتغيير نظام الحكم، كانا من صنع الإخوان ، أو ما يقرب من ذلك؛ ولذا فقد تدافع نحو دور الإخوان كثيرون من علية القوم ومن كبار الموظفين لكي ينالوا الحظوة لدى السلطة؛
واختلطوا بمن كانوا التحقوا بالدعوة قبلھم اقتناعا بشعاراتها ومناهجها ، وإيمانا بالإسلام ودوره، حتى لقد أصبح معظم رؤساء الشعب وأعضاء إداراتها من ھذا الصنف الذي جاء متسارعا ، إذ أن فتح معظم الشعب تزامن مع بداية عهد الثورة.
وما أن انفرط العقد ، واتخذ الإخوان والثورة مواقف حاسمة تجاه بعضهما البعض حتى تسارع الانتهازيون ينسلخون عن الجماعة. وعندما أعلنت حكومة جمال عبد الناصر حل جماعة الإخوان المسلمين في منتصف كانون الثاني (يناير) 1954؛
وأصدرت بذلك بيانا ضدھم ضمنته اتهامات خطيرة بالعمالة والخيانة ومحاولة قلب نظام الحكم ، كان من أوائل الذين انسحبوا من الإخوان رئيس المكتب الإداري للإخوان المسلمين في قطاع غزة ، الذي كان يشغل في الوقت نفسه منصب رئيس البلدية بالتعيين ، وكان معمما.
وقد أصدر بيانا أعلن فيه تأييده لحكومة الثورة في القاھرة، ولكل إجراءاتها ضد الإخوان. وھكذا انتهى أمر الشعب ، وغابت أكثر الوجوه المتزعمة، ما عدا قليلين من قيادة فترة الرخاء ، كانوا يتسمون بالإخلاص، وظلوا على ولاءهم للدعوة قبل قرار الحل الذي صدر حوالي منتصف كانون الثاني (يناير) 1954 م؛نذكر منهم أسعد حسنية، والحاج صادق المزيني، والحاج زكي السوسي، والشيخ ھاشم الخازندار ، رحمهم لله جميعا.
وفي مدينة غزة بالذات، التي كانت فيها ثلاث شعب للإخوان، لم يزد عدد الأفراد الذين بقوا على ولائھم للدعوة من أعضاء اللجان الإدارية لم يزد عن أصابع اليد الواحدة .
ولقد اقتصر نشاطهم على أن يكونوا من أنفسهم أسرة أخوانية تجتمع سرا ، بشكل دوري أسبوعيا ، كما درج الإخوان في مختلف بلدانھم ، يمارسون فيها القراءة والعبادات في أجواء الأخوة الحميمة والممتعة، لكن ھذه المجموعات القيادية السابقة لم تكن تتصل بغيرھا، أو تمارس أي نشاط توجيهى أو قيادي.
وقد كانت تتوقف عن هذه اللقاءات في الفترات التي يشتد ضغط الأجهزة الأمنية.ولعل مما كان يقوي عزم أولئك الإخوان على الاستمرار وجود المستشار مأمون حسن الهضيبى معهم ، يشاركهم اجتماعاتهم ، رغم أنه لم يكن عضوا في أية شعبة في غزة ، وإنما كان جاء إلى قطاع غزة واحدا من موظفي الإدارة المصرية حيث كان عضوا في المحكمة العليا في القطاع.
وقد تولى الأستاذ مأمون رحمه لله منصب المرشد العام للإخوان المسلمين بعد سنوات من عودته إلى مصر .
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن موقف السلطة ورجال الأجهزة الأمنية تجاه الإخوان في قطاع غزة كان يسير في خط مواز ، أو تابع ، للخط الذي كانت تسلكه السلطات في مصر.
لقد كان قطاع غزة تحت سلطة إدارة مصرية، وكانت المراكز الرئيسية في أجهزة الإدارة والأمن بأيد ضباط من الجيش والمخابرات والمباحث المصرية.
وقد تعرض الإخوان في قطاع غزة للملاحقة والضغط ومحاصرة الأنفاس ، كما تعرضت بعض العناصر ذات النشاط الظاھر للإستجواب والحجز والمنع من السفر والاضطھاد في الوظيفة في كثير من الحالات.
لا مراء في أن الإخوان العاملين قد صدموا وحزنوا لما حل بإخوانهم في مصر ، كما أنهم صدموا وحزنوا لحل شعبهم وحظر نشاطهم في قطاع غزة ، ولكن كثيرين منھم اعتبروا أن تلك المحنة لم تخل من فوائد ، وانطلق الذين كان لديهم بعض الوعي منھم يرددون القول بأنهم اعتبروا تلك المحنة منحة من لله، وعددوا الفوائد التي مثلت تلك المنحة؛
وكان من بينها التخلص من الانتهازيين والمتسلقين الذين يكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع أولئك الذين زحفوا إلى دور الإخوان توقعا لأن يقربهم زحفهم ذاك إلى أرباب السلطان زلفى، وأن تمكنهم صلتهم بالحصول على المناصب التي تعطيهم الجاه والمال والتحكم في رقاب الناس .
ولا مراء في أن الذين انكفأوا هاربين مبرئين أنفسهم من الصفة الإخوانية قد أصيبوا بالحزن والصدمة والخوف كذلك ، ولكن لأسباب تختلف عن أسباب الإخوان العاملين ، صدموا بتبخر أطماعهم وآمالهم.
وھكذا لم تعد للإخوان شعب ، ولا مكاتب إدارية، ولم تعد جوالة الإخوان تقوم باستعراضاتها ورحلاتها ، ولم يعد في مقدور الإخوان أن يقيموا المعسكرات والمهرجانات وأحاديث الثلاثاء ، الأنشطة التقليدية للإخوان في الظروف العادية العلنية.
ومع ذلك فقد بقيت لهم الأسر والكتائب وروح المخاطرة ، والإلتذاذ بركوب الصعاب والمخاطر في سبيل لله. لقد أصبح العمل يمثل روح الإخوان الحقيقية بعد أن زالت المظاھر التي أغرم بها وحرص عليها المتسلقون تمتعا بالتبهرج والتعالي.
أما كاتب هذه السطور فقد كان ، حتى ذلك الحين ، يعيش فورة العاطفة التي بدأت بانضوائه تحت لواء الجماعة، وكان حبه لها وتصوره لدورها السابق ودورھا المقبل يجسد فيها كل الآمال المشرقة ، ليس لفلسطين والعرب والمسلمين فحسب ، بل للمجتمع الإنساني كله ، للمجتمعات البشرية في العالم المتقدم "الملوث بالرجس" في الغرب والشرق ، وفي العالم المتخلف المطحون تحت عجلات الفقر والجهل والاستغلال والتسلط الأجنبي.
لذا ، فإن صدمته في سنة 1954 ، على أثر حل جماعة الإخوان المسلمين ، كانت أقسى في عمقها وتأثيرھا مما تركته في غيره ، حتى لقد كاد يصاب بانهيار جسدي ونفسي.
وكان قدأ بدأ يتابع جهوده في تعويض ما فاته من التعليم الثانوي ، حيث التحق بالدراسة المسائية في مدرسة الإمام الشافعي التي كانت آنذاك أكبر المدارس الثانوية في مدينة غزة ، بينما يتابع العمل نهاراً في وظيفته في مكاتب وكالة ھيئة الإمم المتحدة (الأونروا).
لقد كان دوره في تنظيم الجماعة في المرحلة التي انتهت بإغلاق الشعب دورا ثانويا ، إذ كان في أدنى درجات السلم التنظيمي ، فضلا عن افتقاره إلى صفة السبق، أو قدم العضوية ، التي كانت لبعض الأعضاء الآخرين.
وبانحلال الهيكل التنظيمي الرسمي والعلني للحركة ، وھرب الكثيرين، اقتضت الضرورة أن يعاد تشكيل البقية الباقية ، أو الأعضاء الحقيقيين "المخلصين" لتستمر مسيرة الدعوة نحو أھدافها ، ولتحقيق شعاراتها.
وھكذا بدأ صاحبنا يأخذ وضعا جديدا ، ويضطلع بواجبات تشير إلى أنه أصبح موضع ثقة وتقدير أكبر. ومع تتابع السنين وجد نفسه يدفع إلى شغل مواقع توجيهية متعددة ومتتالية، لم تنحصر مكانيا في قطاع غزة ، ولا في نطاق التنظيم الفلسطيني للإخوان المسلمين ، وذلك من غير سعي منه ولا حرص على المناصب القيادية.
وفي الفترة التي تلت قرار الحل مباشرة امتدت أساليب تنظيم "الجهاز السري" الإخواني في مصر ، أو "النظام الخاص" لتمارس ضمن من بقي ثابتا من الإخوان في قطاع غزة ، بما في ذلك أخذ البيعة من جديد، في غرفة مظلمة ، مع القسم على المصحف والمسدس.
ومن الطريف أن الأخ الذي أخذ مني القسم في ھذا الموقف ھو الأخ خليل إبراھيم الوزير ، أبو جهاد رحمه لله.لقد تأثر حجم الأسر بالوضع الجديد، فقد ساد اتجاه لتصغير حجم الأسرة لتصبح مكونة من ثلاث أعضاء بما فيهم النقيب بدلا من خمسة كما كانت الحال في المرحلة العلنية.
ولقد ظهرت في تلك الفترة أزمة نقباء ، ذلك لأن الذين ظلوا على ولاءهم للجماعة وحافظوا على اھتمامهم بالانتماء لها تنظيميا كادوا ينحصرون في العناصر الطلابية ، وعدد قليل جدا من المدرسين والموظفين والعمال.
وفضلا عن ذلك فإن الجو النفسي والحركي الذي ساد الجماعة بعد قرار الحل اتسم بشعور عام مفاده أن الحركة تعيش معركة شرسة مع السلطة في مصر ، وأن ذلك الموقف يمتد إلى قطاع غزة بالتبعية.
وكان الإخوان عامة يحسون بأن الأيام القليلة القادمة آنذاك، كانت حبلى بأحداث ومفاجآت ضخمة ؛كانت للحركة في اعتقادھم قوة أسطورية ، لا تقاس بها قوة رجال الثورة في مصر، بكل أدوات النظام الحاكم ، من قريب أو بعيد ، وكان الإسلاميون الغزيون يتوقعون أن ينتفض المارد الإسلامي فجأة فيقلب الموازين كلها.
وكانت القصص عن بطولات الإخوان واستهانتهم بالسلطة وتحديهم لها تثير حماسة وخيال الشباب الصغير. وفي هذا الجو لم تكن مسألة الدور التربوي والتثقيفي للأسر تحظى بالاھتمام الأول ، وإنما كانت تلك الأولوية متروكة للمجابهة والصدام مع السلطة ، التي يجب أن تكون الشغل الشاغل والوحيد .
وكان طبيعيا أن يزداد الاهتمام بجمع السلاح والذخيرة والتدريب العسكري الذي كان موجودا من قبل ، باعتبار حركة الإخوان حركة جهادية، وباعتبار الدور العسكري للإخوان في حرب فلسطين إحدى العلامات البارزة التي يفخر بها الإخوان في قطاع غزة ، الذين كانوا يعيشون تحت وطأة الطغيان الإسرائيلي ويصطلون بنار اعتداءاته المتكررة على قطاع غزة .
تطور الأحداث في المنطقة وأثره على الإخوان في غزة
شهد قطاع غزة في النصف الأول من عقد الخمسينات من القرن الماضي عددا من التطورات التي كانت مقدمة لتطورات لاحقة ذات أبعاد عربية ودولية بالغة الأھمية، خاصة بالنسبة للصراع العربي الصهيونى.
فبعد مرور ما يقرب من سنة وبعض سنة على ثورة 23 يوليو اتضح أن الإخوان والثورة يسيران في خطين متباعدين ويوشكا أن يغدوا متصادمين.وكما وضح ھذا في مصر فقد وضح أيضا في غزة.
فبينما أخذت حكومة الثورة المصرية تسعى للتخفف من ثقل مسئولياتها في القطاع شرع الإخوان ينظمون عمليات شبه عسكرية ضد العدو الصھيوني عبر حدود الأراضي المحتلة، وكان من أبرز أمثلتها زرع الألغام ضد وسائل النقل الإسرائيلية ، ونسف بعض المنشآت، وتخريب خطوط المياه والكهرباء.
ومهما كان حجم تلك العمليات صغيرا نسبيا فقد كان المؤثر الأكبر في انفجار الاشتباكات على الحدود بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة على نطاق واسع.
وقد أدت ردود الفعل الإسرائيلية المتغطرسة وقصفھا الوحشي للأسواق والأحياء السكنية والمستشفيات، والغارات المتكررة على نقاط الحدود المصرية الصغيرة ، أدى كل ذلك إلى إدخال أعداد كبيرة من الحرس الوطني المصري إلى القطاع ، كما أدى إلى تنظيم عمليات فدائية يقوم بها فلسطينيون داخل الأراضي المحتلة ، برعاية السلطات المصرية في قطاع غزة ، وبإشراف مدير المخابرات ، المرحوم مصطفى حافظ .
ولقد كان الإخوان بعيدين عن ذلك النشاط الحكومي بطبيعة الحال ، بل لقد كانوا يتعرضون للمطاردة والملاحقة لأن السلطة لم تكن تريد أن يجرھا أحد إلى الصدام مع إسرائيل .
وكانت ذروة تلك المطاردة اعتقال الأخ خليل إبراھيم الوزير، أبو جهاد، رحمه لله ، الذي كان المحرك الرئيس لكل ھذا النشاط الإخواني ، حيث لقي من التعذيب أهوالا في دائرة المباحث في سرايا غزة ، وقد أفرج عنه بكفالة مالية ، بعد أكثر من أسبوع من الاعتقال ، وكان تابع عملية الإفراج عنه وكفالته ھو الشيخ هاشم الخازندار رحمه لله. وفي تلك الفترة كان خليل الوزير في نهاية المرحلة الثانوية.
والحقيقة أن الدافع الرئيس لهذا النشاط الإخواني العسكري لم يكن لمجرد توريط السلطة المصرية المعادية للإخوان ، بل إنه كان يرمي إلى ھدف أبعد من ذلك وأھم.
فمن المعروف أن حركة الجيش في مصر وقيادتها التي كانت في السلطة آنذاك كانت تعقد آمالا كبارا على الولايات المتحدة الأميركية ، وظلت تلك الآمال تراودھا منذ مطلع الثورة حتى عام 1955 م.
والحقيقة أن تحرير فلسطين لم يكن من أهداف الثورة المصرية التي عبر عنها الجيش ، وإنما كان هدفها الرئيس تغيير الأوضاع المصرية. ولعل حديث جمال عبد الناصر عن لقاءاته بالضباط الإسرائيليين وأسئلته لهم أثناء حصار الفالوجة يشير إلى ذلك بوضوح.
وقد ورد الحديث الذي أشرت إليه ھنا في الطبعة الأولى منكتاب فلسفة الثورة . ومن ھنا نستطيع القول إن حكومة الثورة كانت ميالة في سني حكمها الأولى إلى تصفية الجزء الذي يخصها من القضية الفلسطينية ، أي مشكلة إدارة قطاع غزة وتكدس اللآجئن فيه .
مشروع توطين اللاجئين في سيناء
وأثناء شهر العسل المصري الأميركي في أوائل النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي تداول الطرفان خطة لإسكان اللاجئين الفلسطينيين في سيناء لتصفية جزء من المشكلة الفلسطينية .
وقد توصلا إلى اتفاق وشرعا في التنفيذ . وقد تم توقيع التعاقد الرسمي بين الحكومة المصرية من جهة وبين وكالة هيئة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين من جهة أخرى .
والحقيقة أن المشاريع التي طرحت من أجل تصفية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لم تنقطع منذ نكبة عام 1948م. وقد ركزت تلك المشاريع على محاولات توطين اللاجئن خارج فلسطين، غير أنها ووجهت بمعارضة شديدة من جانب اللاجئين أنفسهم الذين اعتبروھا من وسائل تصفية قضيتهم ودفن أملهم في العودة إلى فلسطين إلى الأبد.
وقد خصص القسم الأكبر من مشاريع التوطين إلى لاجئي قطاع غزة ،وذلك نظرا لصعوبة أوضاع سكان القطاع، حيث كان عدد اللاجئين ضعف عدد السكان الأصليين تقريبا ، وحيث الموارد الإقتصادية ووجود اللاجئين بتلك الأعداد والنسبة الكبيرة يثير مشاكل وأعباء ھائلة للحكومة المصرية المشرفة على القطاع .
وبعد قيام الثورة في مصر واستقرار الحكم نسبيا استؤنفت "المحاولات التي كانت قد بدأت قبل ذلك لتوطينهم" ، وقد استفادت المحاولات اللاحقة من التجارب السابقة الفاشلة بعد أن تأكد المعنيون أن قضية التوطين ليست بالأمر السهل الذي يمكن تنفيذه ببساطة.
ومن ھنا اتسمت المشاريع المطروحة بطابع أكثر تنظيما وعمقا ، ومن هنا اتسمت المشاريع المطروحة فى مرحلة 1952-1955 بطابع أكثر تنظيماً وعمقاً كما تقول دراسة نشرها مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. (3)
وكان من أھم هذه المشاريع مشروع توطين اللاجئين في شمال غرب سيناء الذي ووجه بردود فعل تفيض بالسخط والقلق من جانب الفلسطينيين في قطاع غزة.
وقد حاولت الإدارة المصرية تنفيس ذلك السخط ، فأصدرت لهذه الغاية بيانين ،أولهما في الثامن والعشرين من أيار (مايو) سنة 1953 وثانيهما في التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) 1953.
وقد خاطب نائب الحاكم العام أهالي قطاع غزة قائلا:
- "كانت بعض الصحف المحلية قد نشرت خلال شهر مايو سنة 1953، أن ھناك محاولات لإسكان اللاجئين خارج فلسطين، مستندة في ذلك إلى ما نشر في بعض الصحف الخارجية حول مشروع تقدمت به ھيئة الإغاثة الدولية التابعة لهية الأمم المتحدة لتشغيل وإسكان اللاجئين في شبه جزيرة سيناء ، وغزة ، مما دعانا إلى أن نصدر بياننا المؤرخ في 28/5/1953 نعلن فيه أنه قد أرجئ البحث في ھذا الموضوع.
- ولما كان ھذا المشروع قد أصبح شاغلا للأھالي ومدار حديثهم ، ولما تعلمه ھذه الإدارة التي دأبت جاهدة على العمل لما فيه الخير والرفاھية للجميع ، وتحقيقا لرغباتهم ليسرھا أن تعلن لأھالي ومهاجري المنطقة جميعا ، بأنه قد تمت مقابلة بين السيد قائد عام القوات المسلحة والسيد الحاكم الإداري العام للمنطقة الخاضعة لرقابة القوات المصرية بفلسطين ، بخصوص ھذا الموضوع؛
- وقد انتهت بالموافقة على أن إسكان اللاجئين ھو محل إعادة نظر السلطات المختصة في الوقتت الحاضر،ولن تتخذ فيه أية إجراءات أو خطوات إلا بما يحقق أماني الفلسطينين ومصالهم. ولذلك نلفت النظر إلى أن الحديث حول ھذا المشروع قد أصبح غير ذي موضوع. "حسين أبو النمل ، قطاع غزة ... ، ص84 –85"
ويعلق مؤلف الدراسة التي نشرھا مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية على البيان الذي أصدره نائب الحاكم الإداري لقطاع غزة بقوله:
- "كان نائب الحاكم الإداري لا يقول الحق ، لأن الحكومة المصرية كانت قد اقترحت اعتبار نهر النيل كمصدر لمياه الري للأراضي الواقعة مباشرة شرق قناة السويس.
- ونتيجة لهذا الاقتراح أتمت الوكاالة في 30 يونيو عام 1953 إتفاقية برنامج مع الحكومة المصرية أتاحت الاحتفاظ بمبلغ 30 مليون دولار لأغراض أبحاث المشروع في شبه جزيرة سيناء وغزة والباقي ليستعمل في الإنشاء والاستيطان ، إذا ما أثبتت الدراسات الأولية أن ھناك مشروعات عملية يمكن القيام بها.
- أي أن تخوف اللاجئين والأھالي في القطاع كان له ما يبرره. وبجانب ذلك فقد اتفقت الحكومة المصرية ووكالة الغوث على إسناد المسئولية المشتركة عن إدارة الأبحاث والدراسات الخاصة بالمشروع ، المحدد في الاتفاقية، إلى المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي، ممثلا للجانب المصري، وإلى مكتب وكالة الغوث في القاهرة ممثلا للوكالة .
- وقد تم ھذا الاتفاق خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1953 ، أي بعد ما يقرب من شهر من صدور بيان الحاكم الإداري الأخير المشار إليه آنفا.
- ويمكن لنا اعتبار ھذا المشروع ، الذي أعد خصيصا لتوطين لاجئي قطاع غزة من أكثر المشاريع خطورة ، لأنه يطرح تصورا شاملا لكيفية تنفيذ المشروع "كذا" ؛ كما أنه يعكس من الناحية الثانية الجدية الفائقة لوكالة الأمم المتحدة وللحكومة المصرية لتنفيذ ذلك المشروع ." "المصدر نفسه ص 85 "
وقد رمى المشروع إلى زراعة خمسين ألف فدان في الشمال الغربي لسيناء لتوطين اللاجئين فيها ليتولوا زراعتها ، وليعيشوا حياة عادية معتمدين على أنفسهم وعلى إنتاجهم.
كما اقترح قيام نوع من الحكم المحلي ، مع أخذ التجمعات التي انتظم اللاجئون على أساسھا بعين الاعتبار، بحيث يكون أبناء العشيرة الواحدة والقرية الواحدة في مستوطنة واحدة . "المصدر نفسه، ص 86" ، وانظر ص 87 كذلك للإطلاع على مزيد من التفاصيل.
وأستطيع أن أضيف إلى ما ذكرته دراسة مركز الأبحاث الفلسطيني أنني رأيت بنفسي "ملف مشروع سيناء" عندما انتقلت للعمل في مكتب المدير العام لعمليات وكالة الأمم المتحدة للإغاثة والتشغيل سنة 1958 ، بيد أنني لم أتمكن من الاطلاع على جميع محتوياته ، لأنه لم يكن في عهدتى ، وإنما كان في عهدة سكرتيرة المدير .
إن هذا يؤكد وجود قدر كبير من التفاھم المشترك بين السلطات المصرية ووكالة الغوث من أجل تصفية القضية الفلسطينية ، أو على الأقل تصفية الجزء الذي اضطلعت الحكومة المصرية بمسئوليته منها ، من خلال إدارتها لقطاع غزة ، وقد تجاوز مرحلة التفاھم إلى مرحلة الاتفاق الرسمي،وتخصيص الأموال بتفاصيل واضحة لتفي باحتياجات المشروع ومكملاته لفترة طويلة.
لذا فإن الأعمال الفدائية التي كان ينفذھا الإخوان كانت تهدف إلى تخريب ما جرى من اتفاقات وما تبعها من ترتيبات لتنفيذها ، وما ينطوي عليه مشروع سيناء من خطوات لتصفية القضية الفلسطينية.
وقد أعطى ھذا النشاط الإخواني ثماره المرجوة ، فعلى أثر كل عملية كان يتبعها رد إسرائيلي سريع ، يتراوح بين أن يكون ھجوما بريا أوجويا ، أو أن يجمع بينهما في نفس الوقت، وبحجم لا يتانسب مع حجم العمل الفدائي إذ كانت إسرائيل ترد بغارات جوية وحشية ومسرفة على النقاط العسكرية الصغيرة المتناثرة على خط الهدنة الذي كان يفصل قطاع غزة عن فلسطين المحتلة ، وقد تحرك قوة برية كبيرة لتهاجم الموقع ، أو المواقع التي تحددھا لتوجيه الرد .
وقد جرت العادة أن يعقب الهجوم الإسرائيلي في صباح اليوم التالي صدور بلاغ عسكري في القاھرة يعلن أن القوات الإسرائيلة هاجمت موقع كذا، وأن القوات المصرية تصدت لها وقامت بهجوم مضاد ، وأجبرت العدو على الفرار.
وغالبا ما يكون محتوى البيان مغايرا تماما لما جرى على الأرض ؛ فقد كنت أعيش في مدينة غزة ، وفي إحدى المرات كان الموقع الذي تعرض للهجوم لا يبعد أكثر من ثلاثمئة متر عن البيت الذي كنت أسكنه ، وقد شاھدت بنفسي؛
كما شاھد غيري، في صباح اليوم التالي كيف كان موقع الحامية المصرية محطما بشكل كلي، ولا يظھر فيه سوى أثار القنابل والانفجارات والرصاص والحطام والتفجير بالألغم، وقد ھجر تماما من جنود الحامية المصرية الصغيرة.
وھكذا صار البيان المصري العسكري المتكرر مجرد غطاء لحفظ ماء الوجه. وقد أدى تكرار ھذه الحوادث إلى إحراج كبير لحكم جمال عبد الناصر، فبدأت الدولة تھتم بتقوية الدفاعات في قطاع غزة، وأنشأت الكتيبة الفلسطينية وجعلت قاعدتھا قرب رفح، على حافة سيناء، قرب الحدود المصرية الفلسطينية.
ومع استمرار التسلل وضرب الأھداف الإسرائيلة بالمتفجرات ازدادت ردود الفعل الإسرائيلية عنفا. وفي مساء 28 شباط (فبراير) 1955 قامت إسرائيل بهجوم كبير على موقع صغير للقوات المصرية قرب غزة ، ووضعت كمينا على طريق غزة رفح، إلى الشمال قليلا من مخيم البريج للاجئين ، ليعترض أية نجدة تأتي من قاعدة الكتيبة الفلسطينية المعسكرة في رفح.
وعندما جاءت النجدة في الوقت المتوقع ووصلت إلى المصيدة فجر الإسرائيليون في طريقها براميل تحتوي على مواد حارقة وضعوھا في عرض الطريق المسفلت. فلما وقفت (اللوريات) الناقلة للجنود الفلسطينيين وحاولت الاستدارة لتفلت من الكمين بادرھا الجنود الصهاينة بإلقاء القنابل الحارقة على حمولتها من الجنود، فقتلوا وأحرقوا جميعا.
وهكذا دمر الإسرائيليون حامية محطة غزة، ومركز ضخ وتوزيع المياه الذي كان بجانب موقع الحامية ، كما دمروا القوة المنجدة التي جاءت من رفح ، على بعد أربعين كيلو مترا تقريبا للمشاركة في صد الهجوم. (4)
وفي اليوم التالي عرف حجم الهجوم الإسرائيلي وما نجم عنه من خسائر، فتوترت النفوس،وانفجر القطاع بمظاھرات غاضبة امتدت في طول القطاع وعرضه ، وكانت الهتافات الرئيسية تتهم جمال عبد الناصر بالتقصير والخيانة معا. وبجانب ذلك تردد ھتاف : "فليسقط مشروع سيناء".
وكان من الملفت للنظر أن يتعاون الإخوان المسلمون والشيوعيون لأول مرة في تحريك المظاھرات وقيادتها. وما زلت أذكر كيف دخل الراحل معين بسيسو من قادة الشيوعيين ومعه جملة من رفاقه إلى المسجد العمري الكبير في غزة لأداء الصلاة ، ولا أتذكر الآن إن كانت صلاة الظهر أو صلاة الجمعة.
ولم يكن معين بسيسو ورفاقه من رواد المساجد ، بل كان يجاھرون دوما بعدائهم للإسلام، وكانت المجابهة بين الإخوان والشيوعيين شديدة على الدوام، قبل ھذه الأحداث التي نسجل طرفا من أخبارها ، كذلك كان الشيوعيون يجاھرون دوما بالدعوة إلى الصلح مع إسرائيل .
ودلالة هذه المشاركة أن حالة الغضب العام لم تكن تسمح لأي فئة من مكونات الطيف السياسي أن تتخلف عن موقف الشعب الفلسطيني كله.
ولا مراء في أن الدوافع الحقيقية لكل من الطرفين الإسلامي والشيوعي كانت مختلفة، بل متناقضة، وسنرى أن ھذا اللقاء كان قصير العمر ،إذ سرعان ما انحاز الشيوعييون إلى نظام جمال عبد الناصر وصاروا أھم حلفائه على الصعيد الشعبي، سواء في مصر وفي قطاع غزة وفي غيرھما من البلاد العربية .
رد الفعل من قبل جمال عبد الناصر بالنسبة لقطاع غزة
لقد تصدت القوات المصرية للمظاھرات في قطاع غزة بعنف بالغ، فقتل وجرح عدد من الأفراد، وجرى اعتقال بضع عشرات من الإخوان المسلمين ومن الشيوعيين، وحملوا بالقطار إلى القاھرة وأودعوا السجون والمعتقلات فيها.
وكان معظم المعتقلين من المدرسين وطلاب الثانويات ، ولم يكن كاتب ھذه السطور من المعتقلين، إذ لم يكن له أي دور قيادي في المظاھرات ، بل كان واحدا من بين عشرات الآلاف من المشاركين.
وإذا كان الحكم في القاھرة قد قابل ھذا الانفجار الشعبي المفاجئ بإجراءات عنيفة ، أو حازمة، فقد اضطر على ما يبدو إلى اتخاذ خطوتين إيجابيتين:
- أولاھما صرف النظر عن مشروع سيناء لإسكان اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم.
- ثانيتهما إدخال قوات كبيرة من الحرس الوطني المصري إلى قطاع غزة.
وبهذا الإجراء غدا من الصعب على القوات الإسرائيلية أن تقوم بغارات سريعة وتحقق أھدافها وتنسحب دون عقاب أو خسائر. وهكذا دخلت المناوشات الحدودية طورا جديدا وصارت تجري على صورة مبارزة بمدافع الهاون الثقيلة، مع تبادل الرمايات بالرشاشات الخفيفة والثقيلة بين القوات المتواجهة .
ولا جرم أن تأثير ھذه الاشتباكات على المدنيين أصبح أكثر إيذاءا وأوسع تدميرا. ففي المرحلة الأولى كانت الضربات توجه لبعض الأھداف العسكرية والحيوية، أما الآن ، أي في المرحلة التي دخلتها من خلال أحداث سنة 1955 ، فقد صار القصف المدفعي الكثيف يوجه أحيانا إلى أحياء مدينة غزة المكتظة بالسكان ، أو إلى بعض المدن الأخرى ومخيمات اللآجئين في القطاع.
وأن نسيت فلن أنسى ذلك اليوم المشئوم الذي وجه فيه الإسرائيليون قصفهم إلى شارع عمر المختار،وبجانبه سوق الخضار والحي القديم من غزة،(حارة الدرج) وذلك في بفترة ما بعد العصر، حيث يكون الشارع وسوق الخضار والأزقة المؤدية إليه في أشد حالات الزحام.
وخلال نصف ساعة من القصف سقط عشرات الضحايا، وقد تناثرت أشلاء الآدميين والتصقت بالجدران ، وظلت رائحة تلك الأزقة تغثي النفوس حتى بعد انقضاء بضعة أشهر على الحادث نتيجة لما التصق بها من أشلاء ودماء الآدميين، ولم يكن من السهل تنظيفها. ولم تسلم المستشفيات من القنابل المتساقطة.
ولعل ھذه الحادثة هى التي دفعت إدارة المخابرات إلى تنظيم قوة فلسطينية خاصة جاءت ببعض عناصرها من السجون، وأطلعتهم على المناظر البشعة الناتجة عن القصف الإسرائيلي إثارة لروح الانتقام فيهم.
وهكذا تفاعلت الأحداث طوال عام 1956 إلى أن انتهت بالاجتياح الإسر ائيلي لقطاع غزة وسيناء في أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1956 ، من خلال مشاركتها في مؤامرة العدوان الثلاثي المعروفة .
العدوان الثلاثي والاحتلال الإسرائيلي
لم تكن للإخوان المسلمين في قطاع غزة أية قوة عسكرية مهما صغرت يمكن أن تساھم بأي قدر يستحق الذكر في مقاومة الهجوم الإسرائيلي الذي تم به للإسرائيليين احتلال القطاع ؛ فلم تكن لهم أية مجموعات مدربة تدريبا جيدا ، لأن التدريب الذي تحدثنا عنه آنفا كان بسيطا ومحدودا للغاية.
ومن ناحية أخرى فإن المطاردات التي تعرض لها الإخوان من قبل المخابرات وغيرھا من أجهزة الأمن المصرية في السنتين السابقتين لم تدع مجالا لاقتناء أي سلاح مهما صغر وقل شأنه.
حتى ولو غامر بعض الأشخاص واحتفظوا ببعض البنادق والرشاشات الخفيفة، فما عساھا أن تغني في وجه ھجوم تم بأرتال الدبابات وأسراب الطائرات النفاثة ؟ وكان الأخ خليل الوزير رحمه لله قد غادر قطاع غزة قبل سنة من الاجتياح الإسرائيلي للإلتحاق بالجامعة في مصر، وقد التحق بالفعل بجامعة الإسكندرية لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع بكلية الآداب.
وكان غير خليل الوزير من القياديين القلائل قدغادروا القطاع كذلك ، إما للعمل في الخليج ، أو لمتابعة الدراسة في الجامعات المصرية.والخلاصة أن وضع الإخوان كان في غاية الضعف في الفترة التي تلت حل الجماعة في مصر سنة 1954 حتى سقوط غزة وسيناء في يد الاحتلال الإسرائيلي.
لقد انفض رؤساء وأعضاء إدارات الشعب، وذوو الأسماء والوزن العلمي أو الاجتماعي إثر قرار الحل ولم يبق سوى أعداد قليلة من الشباب الصغار الذين كان معظمهم من الطلبة ، وبعض المدرسين والعمال، كما أشرنا في الصفحات السابقة.
ولست أذكر بالضبط متى بدأ الإخوان ينظمون أنفسهم بعد الاحتلال. ففي فترة الأسبوعين الأولين كان التوتر على أشده، وكانت عمليات الإرهاب الصهيونية وحشد الناس في الساحات العامة بغرض التفتيش والإذلال معا ، وعمليات القتل الوحشية عند حدوث أبسط حركة تنم عن استنكار أو عدم خضوع واستسلام مطلق، بل ومن غير أي استفزاز، كان كل ذلك من الأمور المألوفة.
وفي ظل ھذه الأجواء لا تبقى أية فسحة مهما صغرت، لأي تحرك يهدف إلى إعادة التنظيم. لكنه ما أن خف التوتر قليلا حتى بدأ الإخوان يتصلون بعضھم ببعض من أجل تنظيم صفوفهم ، والنظر فيما يمكن أن يفعلوه في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الغشوم.
وقد أثمرت هذه الاتصالات سواء على نطاق مدينة غزة ذاتها أو على نطاق قطاع غزة كله ، فصار لهم تنظيم يشمل القطاع كله، كما أصبح لهم تنظيم في كل المدن والمخيمات والأماكن الرئيسية، ووجد كاتب ھذه السطور نفسه رئيسا للتنظيم، ولم يكن قد تولى أية رئاسة من قبل ، حتى على مستوى الأسرة .
ولقد تم ھذا الترتيب من غير شك بطريقة شورية،إذ لم أكن أملك ما يكره أو يغري الآخرين على اختياري أو السكوت على ذلك ، كما أنني لم أسع لهذه الرئاسة. وقيام التنظيم الشامل في قطاع غزة لا يعني أنه ضم أعدادا كبيرة ، ذلك أن الإخوان كانوا قد فقدوا الكثير من الأعضاء .
ولست أستطيع أن أعطي رقما لعدد الإخوان الذين ضمھم التنظيم الجديد ، بيد أن بإمكاني القول باطمئنان أن ذلك العدد لم يزد على مائتي عضو بحال من الأحوال ، أعني في بداية عودة التنظيم.
وإذ شعر الإخوان بأن أمورھم انتظمت أخذوا يفكرون في واجبهم العام تجاه التخلص من نير الاحتلال. لم يكن ثمة مجال للأوهام، فقد أدرك الإخوان محدودية قدراتهم، كما أدركوا شدة الأسوار والعقبات التي تحيط بهم وتسد مسارب العمل أمامهم.
فصغر عددھم لم يعوضه أي تميز في النوعية والقدرات، من حيث رصيد من الخبرة أو التدريب العسكري السابق ، بغض النظر عن وجود أفراد قلائل ممن تلقوا بعض ألوان التدريب البسيط.
كذلك فإن القطاع من الناحية الجغرافية والطوبوغرافية كان رقعة وشريطا صغيرا من الأرض لا يزيد طوله على خمسة وأربعين كيلو مترا، ولا يزيدعرضه عن سبعة كيلو مترات محاصر بالبحر من الغرب، وبالأراضي المحتلة من الشرق والشمال،وبصحراء سيناء المحتلة ايضا، من ناحية الجنوب.
ولم يكن من السهل الحصول على أية إمدادات أومساعدات من الخارج، سيما وأن علاقات الإخوان بنظام الحكم في مصر لم تكن مما يشجع على توقع أية مساعدة.
أما القوى السياسية المحلية الأخرى فقد كان الشيوعيون ھم القوة السياسية الأخرى الوحيدة والمنظمة ، بجانب الإخوان. وربما كان عدد الشيوعيين أقل من عدد الإخوان في تلك الفترة ، لكنهم كانوا أكثر تنظيما وخبرة ، ومن المرجح أن قياداتهم كانت أكثر كفاءة كذلك.
بيد أن المشكلة الكبرى في التعامل مع الشيوعيين تمثلت في أنهم رحبوا بقيام إسرائيل، ودعوا عرب فلسطين إلى مشاركة الصهاينة في مقاومة تدخل الدول العربية في فلسطين سنة 1948 ؛
وقد ظل ھذا ھو موقفهم حتى قيام العلاقات المصرية السوفيتة الودية بعد دخول السوفييت نطاق المنافسة في الساحة المصرية مع الولايات المتحدة حيث عرضوا تبني مشروع بناء السد العالي، وتزويد مصر بالسلاح بعد امتناع الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من العداء المستحكم بين الإخوان والشيوعيين من الناحيتين العقيدية (الأيديولوجية) والتوجهات السياسية فقد قرر الإخوان دراسة إمكان التعاون مع الشيوعيين بكل جدية وإخلاص ؛ وتم الاتفاق على لقاء بين الفريقين ناب عن الإخوان فيه كل من : غالب إبراھيم الوزير ،وسعيد المزين رحمه لله، وكمال عدوان رحمه لله.
لم يكن يخطر ببال الإخوان أي سبيل لمقاومة الاحتلال سوى الكفاح المسلح ، وكان ذلك ھو التصور الذي طرحه ممثلوھم في لقائهم مع الشيوعيين. غير أن الطرف الآخر كان قد جاء يحمل وثيقة مكتوبة تضمنت ما رأوه من خطة العمل ومجال التعاون؛
وقد صدم الإخوان وندموا وخاب أملهم إذ قرأوا تلك المقترحات لكن ھذا اللقاء عرفهم بحقيقة موقف الشيوعيين الذين تضمن برنامجهم المقترح ما يلي:
- تشكيل جبهة وطنية تنظم العمل الوطني.
- المطالبة بحرية الصحافة والاجتماعات والحريات العامة.
- التعاون مع الشرفاء داخل إسرائيل لإسقاط حكومة بن غوريون.
- التمسك ببقاء القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة في القطاع إلى أن يتم التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية ، ورفض عودة الإدارة المصرية .
لم يكن لدى الإخوان ثمة اعتراض مبدئي على البند الأول ، لكن البنود الثلاثة الأخرى لم تكن مقبولة إطلاقا لدى الإخوان ؛ فقد رأوا أن المطالبة بحرية الصحافة والاجتماعات العامة تغيب الهدف الأول والأھم، وھو التخلص من الاحتلال الإسرائيلي وضرورة رحيله؛
كما رأوا أن الحديث عن حريات الصحافة والاجتماع ينطوي ضمنا على القبول، أو الترحيب بالاحتلال إذا وفر لنا بعض الحريات الجزئية والشكلية في ظل الاحتلال، كما رأى الإخوان أن ذلك الطرح ينظر إلى سكان القطاع وكأنهم صاروا جزءا من المجتمع الإسرائيلي، ويتطلعون إلى استكمال حرياتهم السياسية ضمن دولة إسرائيل ،ويقر بأننا صرنا جزءا من الدولة الصهيونية، وأننا لا نعترض على ذلك.
أما التعاون مع الشرفاء داخل إسرائيل فقد أدرك الإخوان أن من خلعت عليهم صفة الشرفاء إنما ھم الشيوعيون من الصهاينة ومن العرب سواء. أما البند الرابع الخاص بالتمسك ببقاء القوات الدولية
فكان ينطوي على عدة مخاطر،منها:
- سلخ القطاع من الجسم العربي، واستبعاد مصر وتفضيل الإدارة الدولية. وعلى الرغم مما كان في حلوق الإخوان من مرارة من جراء المطاردات الأمنية الذي تعرضوا له في ظل الإدارة المصرية، والبطش والاضطهاد الدموي الذي تعرض له إخوانهم في مصر ، ورغم اقتناعهم ومعرفتهم بما ران على الإدارة المصرية من فساد فقد رأوا أن عبء ذلك كله يهون في سبيل الحفاظ على معنى الوشائج والأخوة العربية والإسلامية من خلال الإصرار على حفظ الرابطة مع مصر الدولة ، ومصر الثقافة والرصيد الروحي والتاريخي والتراثي، بغض النظر عما يمكن أن يجره ذلك على الإخوان في المستقبل .
- أن تدويل القطاع سوف يجعله مركزا للتهريب والجاسوسية الإسرائيلية والدولية ، ومباءة لكل المفاسد الخلقية والاجتماعية التي يمقتها الإخوان ويحاربونها بكل قوتهم،
- وقد قدر الإخوان كذلك أن الإدارة الدولية ستفتح القطاع أمام الإسرائيليين والمؤسسات الصهيونية العالمية للسيطرة على الاقتصاد والأعمال التجارية والسياحية والترفيهية وملحقاتها ،
- كما قدر الإخوان أن القطاع سيغدو بوابة تلج منها إسرائيل إلى العالم العربي ، وجسرا تعبر عليه البضائع الإسرائيلية .
لهذا كله ، رفض الإخوان التعاون مع الشيوعيين ، ورفضوا إقامة أية علاقات معه ،لاسيما وأنهم استعادوا في ذاكرتهم موقف الشيوعيين من قيام إسرائيل اتباعا لسياسة الاتحاد السوفييتي، حين دعوا إلى أن يتحد الشعب الفلسطيني كله يعنون بذلك العرب والصهاينة سواء ، لمقاومة الغزاة والرجعية ، أي الجيوش العربية والقوى الفلسطينية والعربية المعارضة للمشروع الصهيونى وقيام الدولة الصهيونية .
ولما نبذھم الشعب الفلسطيني ودخلت الجيوش العربية إلى الأراضي الفلسطينية وهى ما زالت في أيدي أھلها ھرب زعماء الشيوعيين الفلسطينين إلى إسرائيل، أي الجزء الذي أقام فيه الصهاينة دولتهم ، وصار بعضهم، أي الشيوعيين ، أعضاء في الكنيست.
وسمحت لهم إسرائيل بقيام حزب شيوعي بصورة قانونية (5) وإذ تعذر على الإخوان أن يعتمدوا على مشاركة الشيوعيين في مقاومة الاحتلال وزعزعة وجوده نظرا لتوجهات الشيوعيين ومواقفهم التي أشرنا إليها فقد بدا واضحا أن عليهم أن يعتمدوا في جهادهم بعد لله على قوتهم الذاتية وحدها؛
وأن يعملوا على تنميتها وتطويرها.وفي ضوء نقص الضروريات والإمكانات المحلية رأوا اللجوء إلى ألوان أخرى من المقاومة لاتستلزم توافر السلاح والذخيرة في المرحلة الأولى ، لكنها تمهد السبيل لاستخدامها في مرحلة تالية،حين توفرھا .
وھكذا أخذ الإخوان ينشطون في تحذير الشعب من فكرة التعايش مع الاحتلال ، ومن المشاركة في المطالبة بالتحسينات الشكلية والهامشية التي تجمل وجود العدو بين أظهرنا وتخفف من بشاعة طغيانه، مثل تلك دعا الشيوعيون إلى المطالبة بها.
كذلك أخذ الإخوان يحذرون من فكرة تدويل القطاع ، ويعددون للناس مخاطرها ويسلطون الأضواء على أبعادھا وما يمكن أن ينتج عنها وبعد مضي ما يقرب من شهر على بداية الاحتلال دعا الإخوان الشعب إلى إضراب عام احتجاجا على استمرار الاحتلال وعلى ممارساته.
ومن أجل ذلك تم إعداد منشور يستفز حماسة الشعب ويستنهض ھمم أبنائه ليشتركوا في المقاومة؛ وقد جرى توزيعه على نطاق واسع في الاسبوع الأخير من شهر كانون الثاني (يناير) 1957م. وقد نفذ الإضراب بالفعل مما أثار الإسرائيليين ، فلجأوا كعادتهم إلى كسر أبواب المتاجر وفتحها وإغراء الصبية بمحتوياتها ، وذلك لإجبارأصحابها على إعادة فتحها.
ويبدو أن بعض المنشورات قد ضبطت، وجرى تتبعها فقاد ذلك إلى مصدر التوزيع وضبط الطابعة والناسخة. وھكذا ألقي القبض على سعيد المزين وغالب الوزير وأخضعا للتعذيب الشديد فورا؛
ويبدو أن أحدھما أو كلاھما لم يقو على التحمل فاضطر إلى الاعتراف على عدد من الأفراد كنت من بينھم، فاستيقظت في الساعة الثالثة من فجر يوم 27/1/1957 وكشافات جنود الأشخاص العدو المحتل تبهر عيني.
لقد تسلقوا حائط المنزل، وأيقظوني ووالدي وأخي من الفراش،وأعطوني دقيقة واحدة لارتداء ملابسي. وإذ خرجت وجدت معهم غالب ، وسعيد ، وسمعتهم يسألونهما عن بيت منير عجور . وفي السيارة بدأ الضرب ولي الأيدي والأصابع والتهديدد بالقتل بتصويب السلاح.
وفكرت في الأمر على عجل، فتوصلت إلى قرار لست أدري مدى صحته، لقد كان إلحاحهم على معرفة مكان الآلة الكاتبة والشخص الذي طبع النص، وفكرت أن وصولهم إلى ذلك ربما أغلق الدائرة.
وبدا لي أن استمرار التحقيق قد يوسع نطاق الاعتقالات، سيما وأن إدارة المباحث في عهد الإدارة المصرية قد تركت سجلاتها التي تضم أسماء معظم العناصر الحزبية المعروفة لهم، وكل ما جمعوه من معلومات عنها ، بما في ذلك الإخوان .
وقد استولت قوات الاحتلال على كل ذلك مما استولت عليه من سجلات الإدارة المصرية. وهكذا اعترفت على الطابع الأخ داود خليل أبو جبارة ، رحمه لله، وكان آنذاك في حوالي الثامنة عشرة من عمره. وداود كان ذا جسم قوي وصحة، وإيمان وعناد ، فرفض أن يعترف بعلمه بشئ، فتعرض لضرب عنيف.
وكان جميع الذين تعرضوا للإعتقال من الإخوان جميعا ھم:
- داود أبو جبارة ، سعيد المزين ، عبد الله أبو عزة ، غالب الوزير، محمد أبو دية ، منير عجور ، وهاشم الخازندار. كذلك ألقى الصهاينة القبض على السيد عيد جبر، والد الأخ فوزي جبر ، رحمهما لله ، حيث تمكن الإبن من الهرب فقبضوا على والده العجوز وألقوه في السجن .
ولم تكن للشيخ هاشم ، رحمه لله، علاقة بتنظيم الإخوان بعد حل الشعب ، وإنما كان معروفا في فترة العمل العلني قبل حل الإخوان في مصر ، وقد ظل على ولائه للدعوة معلنا ذلك .
لقد استمر التحقيق المصحوب بالتعذيب أربعة أيام، فأتاح ذلك لكثيرين من الإخوان فرصة الهرب ، خاصة بالنسبة للإخوان الذين كانوا متصلين بنا مباشرة في موضوع المنشورات ، حيث غادروا القطاع تسللا إلى العريش، التي كان الإسرائيليون اضطروا إلى الانسحاب منها بقرار من مجلس الأمن، وتسلمتها منهم القوات الدولية .
وقضينا في الاعتقال ما يقرب من أربعين يوما إلى أن أفرجت عنا القوات الدولية بعد دخولها وتسلمها قطاع غزة قبيل منتصف آذار (مارس) 1957.
قوات الأمم المتحدة وعودة الإدارة المصرية
خرجنا من الاعتقال وقطاع غزة كله يموج بالمظاھرات التي شارك فيها جميع السكان رجالا ونساء وأطفالا ، وكلهم يتفجرون فرحا وسعادة برحيل كابوس الاحتلال.
وكان الحديث في المحافل الدولية يشير إلى أن الترتيبات كانت متجهة إلى إبقاء قطاع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة ،بموجب قرار مجلس الأمن الدولي ، وذلك يعني عدم عودة الإدارة المصرية.
لذا فقد قرر الإخوان رفع شعار عودة الإدارة المصرية مطلبا شعبيا ، فأصبح المطلب ھتافا شعبيا يتردد في كل مكان،وعلى كل لسان، فلم يجرؤ الشيوعيون على معارضته ، فانساقوا معه مكرھين .
ولست أزعم أن ذلك كان مطلبا إخوانيا فقط ، بل كانت أكثرية الناس تريد ذلك، بما فيهم الناشطون السياسيون غير الشيوعيين. وقد استمرت المظاهرات في طول القطاع وعرضه أسبوعا كاملا ، وسقط بعض الشهداء برصاص القوات الدولية وھم يرفعون العلم المصري على مركز قيادتها.
وأمام ھذا الإصرار الشعبي وافقت الأمم المتحدة على مجئ إدارة مصرية مدنية ، واستبدل اسم الحاكم العسكري بلقب الحاكم الإداري، ولم يسمح لأية قوات عسكرية مصرية بدخول القطاع ، بل اعتبر وجود القوات الدولية بديلا مناسبا ، مع وجود الشرطة المحلية مسئولة عن الأمن المدني الداخلي.
وبعودة الإدارة المصرية بدأت مرحلة جديدة ، سواء بالنسبة لتنظيم الإخوان المسلمين أو في حياة سكان قطاع غزة بشكل عام. فبالنسبة للإخوان صار واضحا أن عليهم أن يواجهوا متطلبات المستقبل بأنفسهم من غير انتظار لتغير مفاجئ في مصر ، ودون توقع حدوث انتصار مدو يرفع إخوان مصر إلى سدة الحكم ، إذ أن فترة السنوات الثلاث التي تلت نهاية الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة سنة 1957 كانت أمجد السنوات بالنسبة لعهد جمال عبد الناصر .
ففي ھذه السنوات اندحر العدوان الثلاثي على مصر، ولقيت بريطانيا وفرنسا ھزيمة منكرة ، إذ كانت إسرائيل ھي الرابح الوحيد من العدوان ، وفي نفس الفترة تمت الوحدة بين مصر وسوريا أوائل سنة 1958م ، وارتفعت شعبية عبد الناصر في العالم العربي إلى قمة لم تبلغها من قبل أو من بعد.
وعلى الرغم من أن الكيان الإخواني السري الذي أعيد تكوينه بدأ بطريقة سليمة سنة 1957 فإنه لم يحصل على موافقة الكبار بالمقاييس المحلية، لأن أولئك الكبار كانوا خارج القطاع قبل وأثناء الاحتلال، إما للعمل في الخليج أو لمواصلة التعليم العالي في الجامعات المصرية. وكان إولئك الكبار ھم ھاني بسيسو ، وخليل الوزير ، ومحمد أبو سيدو ، رحمهم لله جميعا.
وقد طرح اقتراح بأن يتولى المسئولية في القطاع اثنان، أحدھما يختص بالإدارة والأسر والتربية والدعوة ، بينما يختص الآخر بالناحية العسكرية ؛ وقد كان شق المقترح أن يكون الكاتب الحالي، مؤلف ھذا الكتاب ، مسئولا عن الإدارة والتربية والأسر وتوابعها ، فسارعت بالرفض ، وبينت ما في الإزدواجية من مخاطر، ثم قدمت استقالتي من المسئولية، وأصررت على ذلك، واخترت أن أكون عضوا فردا في أسرة ، أي في أدنى مستويات السلم التنطيمي .
وقد تم ذلك ، من غير أن يؤثر على مستوى نشاطي، والجهد الذي كنت أقدمه ، ودون تدخل فيما يعتبر من أمور الإدارة ، مع الالتزام بالانضباط التام . وقد ظللت بعيدا عن مراكز السلطة في الجماعة حتى سنة 1962 ، حين أنشئ أول مجلس للشورى، فكنت عضوا فيه.
وكنت قد حصلت على الثانوية العامة سنة 1957 . وتقدمت في نفس الصيف لمواصلة الدراسة الجامعية في قسم التاريخ بجامعة القاهرة، وأنهيت الدراسة وحصلت على درجة الليسانس في حزيران (يونيو) 1961 ، وبعد ذلك عملت مدرسا لمدة سنة في مدرسة الرمال الإعدادية في غزة، قبل أن انتقل إلى البحرين .
وكانت دراستي الجامعية وفق نظام الانتساب ، حيث كنت أتلقى المحاضرات مطبوعة تقوم بها بعض المكاتب المرخصة رسميا،وأسافر إلى القاهرة مرتين خلال العام الجامعي لأقدم الامتحان في نهاية الفصل الأول من السنة، ثم في نهاية الفصل الثاني.
وقد تعاقدت في سنة 1962 مع إدارة التربية في إمارة البحرين (مملكة البحرين حاليا) للعمل في التدريس ھناك. وقد كانت ظاھرة الاغتراب للعمل في بلدان الخليج نافذة جديدة خففت من ندرة فرص العمل في القطاع المكتظ بالسكان، مع شح الموارد الإقتصادية ، وضيق مساحة القطاع ، وغير ذلك من معوقات ومثبطات الوضع الاقتصادي.
ذروة المد الشيوعي في القطاع
بعد رجوع الإدارة المصرية إلى غزة أطلقت السلطات نشاط الشيوعيين من عقاله، وذلك انسجاما مع العلاقة الجديدة التي قامت بين الحكومة في القاهرة وبين الإتحاد السوفييتي ودول الكتلة الإشتراكية.
وقد لقي الشيوعيون محاباة في التعيين في الوظائف ذات السلطة، مثل وظائف نظار المدارس ومفتشي التربية والتعليم ، وأصبح النشاط الشيوعي علنيا في إطار برامج للمحاضرات والندوات والمهرجانات الشعبية ، ناھيك عن تنظيم الخلايا الشيوعية بين صفوف الطلاب في المدارس الثانوية.
ولست من أنصار حجب الحرية عن الشيوعيين أو غيرھم من أصحاب العقائد السياسية والاجتماعية ، ولكن موقف الرفض يتجه لإفساح الحرية غير المحدودة لفريق معين ، ذا ثقافة ورؤية أجنبية ذات بعد سياسي لا يمكن التغاضي عن خطورته ، بينما تمنع الحرية عن غيرھم.
وكان النشاط الشيوعي ينطلق من قاعدة قوية من الدعاية السياسية التي كانت تصدر من أبواق الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية من القاهرة ، مشيدة بالاتحاد السوفييتي والدول الإشتراكية التابعة له ، كما تستند إلى الدعم السوفييتي لمصر وسورية ، ابتداء من صفقة الأسلحة الشهيرة التي عقدت بين مصر والسوفييت سنة 1955 ، وامتدادا إلى اتفاقية بناء السد العالي، وإنذارات خروتشوف لدول العدوان الثلاثي .
وخلال ھذه الفترة كان الصراع على أشده في المدارس والإدارات بين الإخوان والشيوعيين ، حتى أن مدرسا من الإخوان نقل ثلاث مرات ، من مدرسة إلى ثانية ثم إلى ثالثة خلال عام دراسي واحد. (6)
وكانت عملية النقل الأخيرة في الشهر الأخير من العام الدراسي ، لأنه كان يحرص على أن يصلي الظهر في الفسحة المدرسية في مكان مفتوح وخال من ساحة المدرسة، فينضم إليه في أداء الصلاة أعداد من الطلاب تلقائيا؛
وھذا المدرس ھو الأستاذ والمربي الفاضل محمد أحمد أبو دية الذي كانت تقديرات أدائه المهنى في مستوى الامتياز دائما، فلم يتمكنوا من نقله بتهمة ضعف الأداء. وقد بلغ من تمادي الشيوعيين في التضييق على المتدينين من المدرسين والطلاب أنھم قرعوا جرس انتهاء الفسحة قبل الموعد بخمس دقائق ، وجاء المدرسون المناوبون منهم لينهالوا على الطلبة ضربا وھم يؤدون الصلاة على حصير في زاوية من ساحة المدرسة .
ومن الطريف أن الأستاذ معين بسيسو ، الشاعر والزعيم الشيوعي المعروف ، تعرض لأحداث ھذه الفترة في مقال كتبه ونشره سنة 1977 ، فوضع المكانة التي حصل عليها الشيوعيون في غزة في صورة أنهم تصدوا "لقيادة النضال السياسي في القطاع" بعد رحيل القوات الإسرائيلية ، مع الادعاء بأن "الجبهة الوطنية" ، وھي التسمية التي أطلقها الشيوعيون على تحركهم ، الذي لم يشاركهم فيه أحد ، كانت ھي القوة الرئيسية في قطاع غزة ؛
وھذا الادعاء بعيد عما حدث ، أما الحقيقة فهى أن الشيوعيين ركبوا موجة الدعاية الناتجة عن التقارب والتعاطف العربي مع السوفييت إبان أزمة العدوان الثلاثي على مصر، وإفساح السلطة لهم في مجال التحرك كما ذكرنا؛
وقد تصادف أن جاءت مجموعة من قدامى الشيوعيين ھاربة من الأردن على أثر حوادث 1957 المعروفة في الأردن ، فكانوا رفدا اما لقوة شيوعيي غزة بخبرتهم في تنظيم المظاھرات والمناورات السياسية .وقد أتقن الشيوعيون استخدام عدد من الانتهازيين الذين يسارعون إلى التعلق بأذيال الموجات السياسية المفاجئة .
بيد أن اتجاه الأمواج السياسية لم يبق على حاله ، إذ سرعان ما حول جمال عبد الناصر غضبه على الشيوعيين عندما عارضوا قيام الوحدة بين مصر وسوريا أوائل سنة 1958 ، وبذلك فقدوا البساط الذي وقفوا عليه ، والمساند التي ارتكزوا إليها ، وأدوات الإعلام الرسمي التي أعطوا حرية استخدامها بشكل احتكاري فترة من الزمن .
ومن العجيب أن معين بسيسو بلغت به الجرأة على الحقيقة أن يزعم أن الشيوعيين كانوا "أول من قاد التظاھرات في قطاع غزة ، تأييدا لها " ، أي تأييدا للوحدة (7) وسرعان ما حل البعثيون محل الشيوعيين ، واستأثروا بالحظوة لدى السلطان في القاهرة ، وعين المدرسون المبتدئون منھم نظارا للمدارس ومفتشين ، وتحول الانتهازيون من موكب الشيوعيين إلى موكب البعثيين ، وتعرض الشيوعيون لموجة من الاضطھاد الحكومي والغضب الشعبي.
وقد كانت النقمة الشعبية ضدھم ھي الأكثر تدميرا ، وذلك بما جروه على أنفسهم من التظاھر بالإلحاد وتحدي مشاعر عامة الناس بكل تبجح . ثم جاءت أعمال العنف والقتل التي قام بها الشيوعيون العراقيون في ظل حكم عبد الكريم قاسم لتزيد الغضب الشعبي ضد شيوعيي غزة ضراما، وذلك ما استغله البعثيون والناصريون، والانتهازيون المسارعون إلى التحول، ضد الشيوعيين.
ومن الطريف أن الراحل معين بسيسو الذي طارده طلاب مدرسته بعد أن دفعوه إلى الشارع خارج سورھا، ولاحقوه في الأزقة حتى اضطر إلى الالتجاء إلى بيت الدكتور صالح مطر أبو كميل في حارة الدرج ، لم ينس ولم يتردد في أن ينسب ما حل بالشيوعيين في غزة في تلك الفترة إلى الإخوان المسلمين ، ناسيا بأن الإخوان كانوا وقتذاك وقبله وبعده يتعرضون لقمع واضطهاد مستمر من قبل السلطة في القاهرة.
أما الذين ساھموا في ضرب الشيوعيين واستولوا على مناصبهم وفازوا بالحظوة فهم البعثيون، الذين تحالفوا مع نظام جمال عبد الناصر في مطلع فترة الوحدة المصرية السورية ، ثم أخذ القوميون العرب نفس الدور بعد انفراط الوحدة ودور البعثيين في إحداث الانفصال وتأييده .
ورغم كل ذلك فإن السيد معين بسيسو تجنب الإشارة إلى البعثيين أوالقوميين بالإسم ، لأنهم كانوا في الفترة التي نشر مقالته فيها (8) وھو في بيروت سنة 1977 ، كانوا حلفاء للشيوعيين .
لم تكن للبعثيين أية جذور في قطاع غزة ، ففي سنة 1956 كانت بداية ظھورھم ، ولم يكن عددھم عندئذ يزيد على أصابع اليد الواحدة . وقد نفروا من الشيوعيين أثناء الاحتلال بسبب تفضيلهم البقاء ضمن إسرائيل ، أو قبول التدويل ، كما أشرنا من قبل.
وهكذا تحالف البعثيون مع الإخوان، تحالفا مؤقتا، عن طريق اتصال الأستاذ وفا الصايغ بالأخ معاذ عابد ، الذي تولى قيادة الإخوان بعد حادث الاعتقال الذي تعرضنا له.
وقد ظهر هذا التحالف والتعاون بجلاء في الأسبوع الذي تلا الانسحاب الإسرائيلي (7/3-14/3/1957) ، حيث انضموا إلى مظاھرات الإخوان الذين أتاحوا لأفرادھم القلائل فرصة البروز كمشاركين في قيادة التظاھرات.
وكان من الهتافات التي لفتت النظر: "قرآنية إنجيلية لا شرقية ولا غربية" الذي أطلقه وفا الصايغ المسيحي الغزي البعثي. بيد أن الموقف البعثي لم يلبث أن تغير بعد عودة الإدارة المصرية ، إذ انتهت حاجة البعثيين لجماھير الإخوان من ناحية ، ومن ناحية ثانية لم تكن السلطات المصرية لتتسامح مع الإخوان أو تتغاضى عن نشاطهم ومن يتحالف معهم ، على الرغم من إصرارھم وجهودھم الكبيرة من أجل عودة الإدارة المصرية 1.
كذلك فإن تحالف جمال عبد الناصر وحزب البعث ،وتقاربه مع الشيوعيين العرب بعد العدوان الثلاثي تبعه بالتالي تحالف البعثيين والشيوعيين في قطاع غزة ، ذلك التحالف الذي لم يطل أكثر من سنة ، بسبب معارضة الحزب الشيوعي وزعيمه خالد بكداش لقيام الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة، كما أشرنا من قبل .
وقد استمر التحالف الناصري البعثي حتى وقوع الانفصال سنة 1961 وتأييد البعثيين علنا لحركة الانفصال ومشاركة زعمائهم في الحكومة السورية التي أفرزها الانقلاب الانفصالي ، ثم اشتبك البعثيون في معارك دعائية مع القاهرة؛
وإذ صار من الطبيعي أن يفقد البعثيون حظوتهم في غزة لدى السلطة وأجهزة المخابرات والمباحث ليفسحوا المجال لقادم جديد ، وحلفاء جدد تؤثرهم أجهزة السلطة بمحاباتها ودعمها ، وكان ھذا القادم الجديد ھو حركة القوميين العرب.
وكانت ھذه الحركة نبتا جديدا أيضا ، بالنسبة لقطاع غزة ، بل وفي الساحة العربية عامة. وكان على الإخوان أن يتعاركوا مع كل ھؤلاء فرقة بعد فرقة ، ويتعرضوا لتسلطھم وطغيانهم.وكان لهذا الضغط المتتابع من غير شك أثر في حمل الكثيرين منھم على الخروج من القطاع ،بجانب الدافع الإقتصادي.
لقد أخذ التنظيم الفلسطيني للإخوان يتطور بعد جلاء القوات الإسرائيلية عن قطاع غزة كما ذكرنا وكان من أھم خطوات ذلك التطور مد مظلة التنظيم لتشمل مجموعات الإخوان المسلمين الفلسطينيين خارج قطاع غزة .
لقد كان للتنظيم فرع في مصر يضم طلاب القطاع من الإخوان الدارسين في الجامعات المصرية. وكان ھؤلاء الطلاب يعودون إلى قطاع غزة أثناء العطلات الصيفية الجامعية، ويضفون بما ينقلونه من أخبار حركة الإخوان بصفة عامة روحا جديدة ، بغض النظر عن مقدار الدقة في تلك الأخبار.
أما الإخوان الفلسطينيون خارج قطاع غزة ومصر فقد كانوا جزءا من تنظيمات الأقطار التي يعيشون فيها. وفي سنة 1960 م نضج لدى قيادة التنظيم الفلسطيني تصور جديد بشأن ربط مجموعات الإخوان الفلسطينيين في إطار تنظيم واحد، أنى وجدت؛
وذلك انطلاقا من الوضع الخاص والمتماثل الذي يواجهه الإخوان الفلسطينيون من حيث مشاعرھم تجاه ضياع وطنهم ، وتجاه العمل من أجل تحريره، فضلا عن معاناتهم لكونهم فاقدي الهوية والجنسية ، مما يعرضهم لمتاعب لا حصر لها في حالات التنقل والسفر، وفي الإقامة والوظيفة وفرص العمل ، مهما كانت مؤھلاتهم الأكاديمية وخبراتهم العملية عالية .
وفي تلك السنة ، أي سنة 1960 م ، ولد التنظيم الفلسطيني العام أثناء اجتماع عقد في القاھرة ، ضم قيادات فلسطينية إخوانية من قطاع غزة ومصر وسورية والأردن ومنطقة الخليج العربي .
وقد تقرر آنذاك ترك الإخوان الفلسطينيين في الأردن ضمن التنظيم الأردني، على أساس أنهم يعتبرون أردنيين من الناحية القانونية ، ولأن الإخوان دعاة وحدة لا تفريق، وھم لم يكونوا ليقبلوا أن يشاركوا في فصم وحدة قائمة ، بغض النظر عما شاب ويشوب الوحدة القائمة، سواء في طريقة التأسيس أو في الممارسات التالية .
وقد عقد ذلك الاجتماع التأسيسي الذي شاركت فيه، في شقة الدكتور عدنان علي رضا النحوي، وكان آنذاك طالبا في كلية الهندسة في جامعة القاهرة ، وھو وأسرته ممن لجأوا إلى سوريا سنة 1948 .
وبطبيعة الحال فقد شارك عدنان في الاجتماع ، وشارك فيه أيضا المهندس نادر الحاج عيسى، الذي كان ممن هاجروا إلى سوريا،والمهندس إبراهيم غوشة، وكان طالبا آنذاك، فضلا عن مشاركين آخرين لم أعد أذكر أسماءھم.
ولعل أھم الدوافع التي حملت الفلسطينيين على التفكير في إقامة الصورة التنظيمية الجديدة ھو حاجتهم لمواجهة خطر جديد ھدد وجود تنظيم الإخوان الفلسطينيين تهديدا كبيرا ، حيث تعرض لضغوط ذات طبيعة مختلفة عما اعتادوا على مواجهته من قبل ، وذلك من أجل إغراء أفراد الإخوان بترك التنظيم الإخواني والانضمام إلى ذلك التنظيم الجديد.
وكان ھذا الضغط يلاحق الإخوان أينما حلوا، في قطاع غزة، وفي مصر، وسوريا، والأردن والعراق ، وأقطار الخليج العربي. وكانت الجهة التي تلاحق الإخوان تعرف عناصر الإخوان، وأماكن وجودھم على الرغم من السرية التي أحاطوا بها نشاطھم تتابعهم وتتصيدھم وتنصب لهم الشباك في كل مكان.
لذا فقد كان ھذا الخطر أھم ما شعرت به القيادات الإخوانية الفلسطينية، وما أھمها طوال بضع سنوات بين سنتي 1957-1961 ، واستغرقت محاولات درئه وحماية أنفسهم منه جل جهودهم.
وبحلول عام 1961 م بدأوا يشعرون بشئ من الأمان والاستقرار بعد أن اقتنعوا بأن أسوارھم أصبحت وثيقة ومنيعة بحيث لا تمكن المغيرين ممن اقتحامها ،وأن أفرادھم اكتسبوا المناعة الكافية لمواجهة ذلك الخطر بثبات . وسنعود لهذا الموضوع بعد صفحات قليلة لإلقاء الضوء على ما غمض من خبره .
المنهج التثقيفي للتنظيم الفلسطيني
لم يكن للتنظيم الفلسطيني منهج خاص به طوال فترة العمل العلني وصدرا من مرحلة العمل السري. وكانت النشرات التي يصدرها المركز العام في القاھرة ترد إلى قطاع غزة حيث تستعملها الأسر وتتبع ما كان يرد فيها من توجيهات وتعليمات، وتدرس المواد المقررة للدراسة . وكانت رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ھي الزاد الأساسي.
وبجانب ذلك كانت ضمن المنهج أيات وسور أو أجزاء من القرآن الكريم تحدد إما للدراسة والتفسير، أو للتلاوة، أو الاستظھار غيبا، أو جمع كل ذلك بالنسبة لسورة أو مقدار معين من الكتاب الكريم.
وكان يضاف إلى ذلك عدد من الأحاديث النبوية الشريفة ، مع بعض الكتب التي يؤلفها الكتاب البارزون من الإخوان. وكان على الأخ أن يتلو ويحفظ من الأوراد والأدعية يوميا ، خاصة تلك التي جمعها الإمام حسن البنا في رسالة المأثورات.
أما الاجتماعات التربوية التي عرفت باسم: "الكتائب " فلم تكن منتظمة بدقة، وإن كان ھناك حرص أكيد على تشويق الإخوان وتحميسھم لإقامتها والمشاركة فيها.
والكتيبة في برامج التربية الإخوانية لقاء يقصد به شحذ الروح والوجدان ، وتزويد النفوس بطاقة روحية جديدة كما ھو معروف حيث يندمج الإخوان بكل أحاسيسهم في تلاوة القرآن الكريم ، والاستماع إلى آيات منه مرتلة أومجودة ، فضلا عن قراءة الأوراد والاستماع إلى مواعظ تهدف إلى ترقيق القلوب بالإضافة إلى صلوات التطوع والنوافل تقربا إلى الله سبحانه وتعالى .
لقد كان ھذا البرنامج يهدف إلى تحقيق أغراض رئيسية:
- أولها: تقوية ارتباط الأخ قلبيا ووجدانيا وعاطفيا باالله سبحانه وتعالى
- ثانيا: تقوية ولاء الأخ للفكرة الإسلامية ممثلة في دعوة الإخوان المسلمين ومجسدة فيها.
- ثالثا: بث روح الجهاد في مفهومه القتالي في نفوس الإخوان، وتقوية اندفاعهم وتحفزھم للقتال، واستعدادھم للتضحية بالنفس والمال،
- رابعا: التوجيه الأخلاقي حسب مفهومه الإسلامي.
ومع ما في ھذه الأھداف من سمو ، وبجانب أھميتها لأفراد المسلمين العاديين من غير الإخوان، إلا أنها كانت أدنى بكثير مما كان يحتاجه عضو عامل في حركة الإخوان المسلمين التي أعلنت أن من أھدافها الرئيسية تغيير أوضاع العالم الإسلامي تغييرا شاملا،واستعادة عزة المسلمين ، ثم تغيير العالم كله إلى حال أفضل.
ونحن لا ندرك مدى ھذا القصور إلا إذا تذكرنا أن أعضاء الجماعة ھم أداتها لتحقيق ھذه الأھداف ، وليس الشخصيات القيادة وحدھا ، وھم المكون الأكبر لكيانها وحياتها ، وتذكرنا الظروف المحلية ، المصرية والعربية والإسلامية ، والظروف على الساحة العالمية وما تنطوي عليه من تعقيدات ومشاكل ، وما يتحرك في الميدان من قوى وخبرات وقدرات .
وإذا كان الإخوان الفلسطينيون لم يدركوا ھذا القصور بوضوح خاصة في أواخر عقد الخمسينات وعقد الستينات من القرن العشرين إلا أنھم أحسوا بضرورة إضافة بعض المواد الجديدة للمنهج.
وربما كان قياديوھم قد أدركوا بصورة مباشرة ما يعتور شخصيات إخوانهم الأفراد من حيث حصيلتهم الثقافية؛ وھنا رأوا علاج المنهج بإضافة بعض الموضوعات الغريبة عما اعتاده الإخوان سابقا
وھذه بعض الأمثلة:
- دراسة كتاب في موضوع النظريات السياسية
- الاھتمام بإعطاء الأخ فكرة واضحة عن الحركة الشيوعية عالميا وعربيا ، من حيث تطور النظرية وتطور التطبيق
- دراسة كتاب في علم الإدارة الحديثة ،وثمة مثل طريف وھو تقرير دراسة كتاب:كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في النا س وكان الإخوان ينبهون أن دراسة الكتب غيرالإسلامية لا يعني تبني كل ما تدعو إليه من أفكار أو ما تقره من آراء ومسلمات. ولعل من الجديد أيضا فيما أدخله الإخوان الفلسطينيون في مناهجهم دراسة كتب أصول الفقه ، وعلوم القرآن ، وعلوم الحديث .
ولا مراء في أن ھذه الإضافات بشقيها لو أنها استخدمت بكفاءة وعمق لشكلت تحسينا نوعيا في شخصيات الأفراد من حيث قدراتهم الفكرية ، وما يترتب عليها من قدرة على اختيار الموقف الأفضل والتأثير في التيار العام والمسار الجماعي بصورة أفضل.
ولكن، على الرغم مما كان ھناك من قصور مؤكد في كفاءة الاستخدام أو عمق الفهم فإن ھذا التطوير لم يخل من فائدة. وفي اعتقادي أن بعض التحسين النوعي قد تحقق بالفعل ، وإن اختلف مقداره من فرد إلى آخر ، وذلك حسب الاستعداد الفطري ، ونوع التعليم الذي تلقاه كل فرد ، وكذلك أثر البيئة العائلية ، نسبة إلى عائلته.
الشوري في التنظيم الفلسطيني
بعد إغلاق الشعب سنة 1954 في قطاع غزة نكص معظم القادة الرسميين وبقي أقلهم على الولاء للدعوة كما ذكرنا ، كما بقي عدد من قياديي الطلاب وأسر العمال ، وھم قياديون بحكم الواقع العملي لا بحكم الواقع التنظيمي أو الاختيار.
وعلى أثر سفر بعضھم كانت تخلفهم قيادات أخرى ، إذ كان السابق يختار من يخلفه ، وكان ھذا الإجراء يلقى قبولا عاما من الإخوان.
ثم جاء التغيير في أوائل الستينات ؛ فقد اقتنع قياديو التنظيم بما للشورى من فوائد تتخطى مجرد مساعدة المسئول في تكوين الرأي الصحيح واتخاذ القرار السليم إزاء كل مشكلة؛
حيث أنها تشعر الإخوان بواجب المشاركة في صياغة السياسات وتحديد المواقف واتخاذ القرارات ، وما يتبع ذلك من تحمل المسئولية أمام لله وأمام الضمير الذاتي ، وأمام الإخوان والناس ، وما يستلزمه ذلك من بذل الجھد في التفكير والحوار،والمراقبة والمحاسبة .
وقد أخذ قياديو التنظيم مسألة الشوري مأخذا جديا ، واعتبروا تبنيها التزاما مقدسا ، يكتسب قداسته من قداسة العقيدة ، وقداسة النص القرآني ، وقداسة الغاية التي يعمل لها الجميع.
ولقد قامت الشوري في التنظيم الفلسطيني على عدد من الأسس والركائز:
- نظام أساسي مكتوب، ولائحة مالية معتمدين.
- تكوين مجلس تمثيلي.
- إعطاء المجلس سلطة مراقبة اللجنة التنفيذية ومحاسبتها ، وإعطاؤه قبل ذلك حق اختيار رئيسها وأعضائها، وحق تغييرھم .
وكانت مشكلة التمثيل إحدى المعضلات التي واجهت قياديي التنظيم وھم يخططون ھذه القواعد الإساسية، إذ برز أمامهم هذا السؤال:ھل تنتخب القاعدة أي الأفراد من أعضاء التنظيم المجلس الذي يجسد عملية الشوري ، وھل ينتخبون أعضاء المجلس لكي يمثلوھم فيه ؟؟ ذلك ھو ما تفعله بعض الأحزاب العادية المؤمنة بالمثل الديمقراطية ، ولكن الأمر مختلف بالنسبة لحزب ، وحركة عقائدية.
فالأحزاب العادية تلتقي على شعارات ومبادئ عامة وخطوط عريضة تجمعها ؛ وقد كانت ھذه المبادئ العامة والخطوط العريضة ھي التي أقنعت العضو باختيار الانضمام إلى الحزب .
وفي ضوء ذلك فإن أي عضو في الحزب قد استوعب تلك الشعارات والمبادئ العامة والخطوط العريضة ،ولذا فهو يستطيع أن يدرك ويكتشف أي انحراف عنها ، وبذلك يمكن أن يطالب وأن يشارك في العمل على تصحيح الانحرافات ، أو تسليط الأضواء عليها بشكل علني ليتعاون جميع الأعضاء أو أغلبيتهم في الجهد التصحيحي .
أما الحركات العقائدية فإن أفراد القاعدة ھم أضعف جزء فيها من ناحية النوعية والكفاءة والقدرة على التفكير والاختيار ، بما في ذلك القدرة على اختيار الحلقات القيادية العليا.
وتزيد خطورة الخطأ حين تكون الحركات العقائدية مضطرة للعمل تحت ستار السرية ، حيث تسود العتمة ، إذ يقترن ذلك بضعف الوعي ، وتزداد الخطورة إن اقترن ذلك بضعف الإخلاص والولاء ، وھنا تتكون الطامة الكبرى.
وكان الحل الذي توصلت إليه قيادة الإخوان وھي منهمكة في التمهيد والتقعيد لتأسيس وتثبيت ممارسة الشوري، ھو حصر التمثيل وحق وواجب المشاركة في الانتخاب في نقباء الأسر ومن ھم أعلى منهم مرتبة؛أما من عدا ھؤلاء من الأفراد فقد استبعدوا من ھذه العملية ، اللهم إلا أن يكون ھناك أخ ذو سابقة وكفاية وإخلاص لا يترك مجالا لأي تساؤل؛
ومع ذلك حالت ظروف خاصة دون تكليفه بمسئولية نقيب أسرة أو ما ھو أكبر من مهمة النقيب؛وفي مثل تلك الحالات القليلة كان الأخ يشارك في العملية الانتتخابية بكل مستوياتها ، ويعطى الحق في أن ينتخب وينتخب .
وقد حدد النظام الأساسي مدة ولاية اللجنة التنفيذية رئيسا وأعضاء ، ومدة ولاية مجلس الشوري كذلك بعدد من السنوات يصار بعدها إما إلى التجديد أو إلى استبدال الأشخاص بآخرين.
وأعتقد أنه في ظل الظروف الموضوعية والواقعية التي عاشها إخوان التنظيم الفلسطيني فإن ھذه الترتيبات كانت أقصى ما يمكن عمله لتأسيس وتثبيت الشوري، مبادئ وممارسة .
ولكي نتأكد من ذلك علينا أن نتذكر أن إخوان التنظيم الفلسطيني كانوا موزعين في عدة دول ، بعضها متقارب مكانيا وبعضها متناء بعيد ؛ ولكل دولة نظمها وقوانينها وأجراءاتها الأمنية، وموقفها من حركة الإخوان المسلمين.
وقد نجح الإطار الشوري في الحفاظ على تماسك التنظيم وتمكينه من الصمود لأشد الضغوط في الظروف الحرجة التي واجهها الإخوان الفلسطينيون في علاقاتهم مع إخوان البلاد العربية.
وقد اعترف غير واحد من قياديي الإخوان غير الفلسطينيين ، ومن مختلف الأقطار ، بأن المجموعة الفلسطينية ھي الأفضل تنظيما والأكثر تماسكا بين تنظيمات الإخوان جميعا .
الفصل الثاني:ولادة حركة فتح وعلاقتها بالإخوان
في يوم من أيام شهر تموز من سنة 1957م لا أستطيع تحديده بالضبط جاءني إلى البيت الأخ الأستاذ هاني مصطفي بسيسو رحمه لله ، يحمل مذكرة مكتوبة في بضع ورقات من الورق المسطر من حجم (الفولسكاب) ...
وقال: إن الأخ خليل الوزير قدمها إليه ، وفيها مقترحات تقدم مشروعا لنشاط إخواني كي يتبناه التنظيم ، وطلب الأستاذ هاني أن أدرس المذكرة وأعطيه رأيي فيها .
وقد كنت آنذاك ، وفي ذلك الأسبوع بالذات ، أعيش فترة اختبارات شهادة الثانوية العامة ، إذ كانت إدارة التعليم قد أخرت موعد الامتحان في تلك السنة بسبب ما تعرض له القطاع من ظروف الاحتلال الإسرائيلي.
لذا فإنني لم أشعر بأنني أستطيع إعطاء المذكرة حقها من الدراسة ، فضلا عن عدم تصوري آنذاك لما يمكن أن يكون لمحتواھا من أھمية في المستقبل ؛ فاعتذرت للأخ ھاني بظروفي تلك ، وأعدت المذكرة بعد أن ألقيت عليها نظرة سريعة .
كانت المذكرة تدعو إلى أن يتبنى الإخوان الفلسطينيون إقامة تنظيم خاص بجانب تنظيمهم بحيث لا يحمل لونا إسلاميا في مظھره وشعاراته بل يحمل شعار تحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح ، وأن يتولى التنظيم الجديد الإعداد لهذا الكفاح ، وأن يبدأ بممارسته متى توفرت له الإمكانات في حدها الأدنى الضروري .
وعلى الذين ينضمون إلى التنظيم ، سواء كانوا من الإخوان ، أو من الذين ستوجه لهم الدعوة من خارج صفوف الإخوان ، أن يخلعوا ثيابهم الإخوانية أو الحزبية ويلبسوا بدلا منها ثيابا فلسطينية؛
كما أن عليهم أن يمتنعوا عن الدعوة لأية عقيدة أو أيديولوجية حزبية ، وأن لا يقفوا مع أو ضد أية حكومة عربية، بل عليهم أن يحرصوا على الاستقلال عن كل الحكومات والحركات والأحزاب.
وقد نوھت المذكرة بأن التنظيم الجديد سوف يفتح الأبواب المغلقة ، بين الإخوان والجماھير ، ويفك عنهم طوق الحصار الناصري الذي لايرحم.
وفضلا عن ذلك فإن العمل المسلح سوف يبقي القضية الفلسطينية حية، ويقطع الطريق على محاولات تصفيتها،كما أنه سيجبر الدول العربية على خوض الحرب ضد الكيان الصهيوني.
الاختلاف حول مشروع فتح
لم أر المذكرة بعد ذلك .. ويبدو أن ھانئ ومن تداول الأمر معهم لم يأخذوها مأخذ الجد، وشابه شعورھم في ذلك شعوري . بيد أن المجموعة التي كانت وراء الفكرة ، والتي ظھر فيما بعد أن الأخ خليل الوزير كان متعاونا معها، تابعت الخطة منفردة ، وأخذت تلح على أفراد الإخوان ، من وراء ظهر قيادتهم، لإقناعهم بالمشروع ، وثابرت على ذلك؛
فأحدث نشاطها أقدارا من البلبلة في صفوف الإخوان شغلتهم ما يزيد على ثلاث سنوات ، إلى أن توصلوا إلى فهم واضح ورأي حاسم ومحدد حيال التطور الجديد ، ولكن بعد أن فقدوا أعضاء كثيرين من أنشط عناصرھم.
ولم يبق السيد خليل الوزير في القطاع فترة طويلة بعد تقديم المذكرة ، بل غادر غزة عائدا إلى مصر قبل انتهاء العطلة الصيفية الجامعية.
والذي أرجحه أن مذكرة الأخ خليل الوزير لم تكن خطوته الأولى ، ولم يكن قصده من ورائها أن يحصل على الموافقة فعلا لكي يمضي في الطريق الذي تراءى له ، بل ظني أنه وآخرين كانوا قد قطعوا شوطا في مناقشاتهم ،وأنهم أرادوا تقريب الإخوان إلى المدى الذي وصلوا إليه، وربطهم بمشروعهم .
ومع عدم استجابة الإخوان واصلت المجموعة متابعة الفكرة إلى أن ولدت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في عام 1958 ، كما قال السيد كمال عدوان رحمه لله في مقابلته مع السيد طاهر عبد الحكيم (9) ومضت بضعة أشهر قبل أن يواجه الإخوان بأفراد من داخل صفوف تنظيمهم في قطاع غزة يدعونهم إلى الفكرة الجديدة.
وكان من الذي تصدوا لنشر الفكرة بين صفوف الإخوان ومحاولة إقناعهم بها في ھذه المرحلة الأخ سعيد المزين ، والأخ غالب الوزير ،وھو أخ أصغر لخليل ؛ ومن المرجح أن أشخاصا غيرھما تحركا نحو إخوان من أعضاء التنظيم الفلسطيني المقيمين خارج قطاع غزة .
وأتذكر الآن وأنا أخط ھذه السطور أسماء عدد من الإخوان الذين اشتھرت أسماؤھم فيما بعد أنھم انضموا إلى "فتح" ، بينما ظلوا في المرحلة الأولى يظھرون أنهم على ولائهم للإخوان، وأذكر من ھؤلاء: السيد أسعد السفطاوي رحمه لله ، والسيد سليم الزعنون ، والسيد صلاح خلف رحمه لله.
وكان هؤلاء قد أنهوا دراستهم في الجامعات المصرية وتوظفوا في غزة، حيث عمل صلاح وأسعد مدرسين في مدرسة خالد بن الوليد الثانوية في منطقة النصيرات ، بينما عمل سليم في وظيفة وكيل نيابة (10) ولقد حرص تنظيم الإخوان في وضعه الجديد على إبقاء ھذه العناصر بعيدة عن أي وضع تنظيمي بحجة أنها عناصر مكشوفة ، وأن انضمامها للتنظيم الإخواني الجديد في وضعه السري ينطوي على خطر كبير . ومع ذلك فقد كنا نلتقي بهم ، ونزورھم في بيوتهم في المناسبات العامة، ونتداول معهم قضايا الإخوان.
وكانت لأسعد وصلاح مواقف إسلامية معروفة في مدرستهم وبين طلابهم ، خاصة في فترة الصراع مع الشيوعيين التي تلت نهاية الاحتلال الإسرائيلي بما لا يدع مجالا للشك في انتمائهم لفكرة الإخوان، بيد أنھم جميعا حسب اعتقادي كانوا يمرون بفترة انتقال وتردد بين القديم والجديد ، ويبدو أن سنة 1958 على وجه التقريب كانت الوقت الذي اتخذ فيه صلاح موقفا حاسماومكشوفا .
وبالتدريج أخذ الإخوان يشعرون بحجم المشكلة لأن عناصرھم في قطاع غزة وفي مصر وبلدان الاغتراب في الخليج أخذت تتعرض لضغط شديد يتخذ شكل حوار يستهدف حك وإثارة ضمير الأخ وجرحه، كما يستهدف إحراجه،
وكان الحوار يأخذ الشكل التالي:
- ألسنا فلسطينيين؟
- بلى
- ألسنا إسلاميين؟
- بلى.
- أليس من واجبنا أن نعمل لتحرير فلسطين؟
- بلى .
- بلى.
- إذن ، لماذا لا نؤدي الواجب؟ ولماذا يمتنع الإخوان عن القيام بفريضة الجهاد؟ ومن ذا ننتظر أن يحرر لنا فلسطين؟
- ھل لو انتظرنا عملا من الدول العربية، أو من المنظمات الدولية ، أو الدول الكبرى، ھل يمكن أن تفعل لنا شيئا يعيدنا إلى وطننا ؟
- كلا.
- إذن .. فلم الانتظار؟ وإلام التخاذل؟
- وإلى متى ، ومن أجل أي سبب تقف قيادة الإخوان متفرجة؟
والمحصلة النهائية: هلم إذن إلى التنظيم الجديد ، فمؤسسوه من تعرف، ورجاله من تعرف من خيرة الإخوان ، وھم لن يتخلوا عن الإسلام ، بل إن العمل من أجل التحرير سوف يوسع شعبيتنا ويكثر أنصارنا والمتعاطفين معنا .. كل ما في الأمر أن الظروف تفرض علينا أن نرفع شعار فلسطين وحده ، وأن نحدد مواقفنا من مختلف القوى على أساسه ، مع تجنب الدخول في الخلافات العربية أو التبعية لأي من الأنظمة العربية.
وكان أفراد الإخوان يحتاجون إلى أجوبة مقنعة تبرر عدم الاستجابة لهذه الدعوة ، وإذا لم يجد الأخ الأجوبة المقنعة فإنه لا بد وأن ينساق إلى الانضمام إلى التنظيم الفلسطيني الجديد الذي لم يكن قد أعلن اسمه في تلك المرحلة المبكرة .
وفي اللقاءات العديدة التي جرت بين أفراد النخبة من الإخوان أنفسهم، وتلك التي تمت بين ممثليهم من ناحية، وممثلي التنظيم الجديد من ناحية أخرى كان النقاش ينصب على الجزئيات ، لكن لم تجر مناقشة منهجية شاملة ، ولم يتوصل الإخوان أنفسهم إلى تصور واضح للقضية ، ولم يحددوا منها موقفا واضحا ومبررا إلا بعد مضي سنوات ثلاث.
وقد فقدوا خلال ھذه الفترة أفرادا من أفضل عناصرھم. ولعل مما ساعد على ذلك وجود أعداد كبيرة من الإخوان الفلسطينيين مبعثرة في أقطار متفرقة، بحيث يصعب على القيادة الاتصال بها وتوجيهها بشكل منتظم، في فترات متقاربة؛
ومن ناحية أخرى فإن كون معظم رجال الحركة الجديدة من الإخوان ، وكون معظم قادتهم شخصيات إخوانية وقيادية معروفة لا يشك في سابقتها وإخلاصها وولائها ، كل أولئك سهل على التتنظيم الجديد اقتناص أفراد كثيرين وممتازين من الإخوان ، كما ذكرنا .
وغني عن القول أن الإخوان لم يكونوا يعترضون على الهدف الرئيسي والفكرة الرئيسة باعتبار ذلك واجبا وھدفا لكل الفلسطينيين يتوقون إلى تحقيقه ويشعرون بأن الجهاد
من أجل ذلك أعظم الجهاد ، إذ أن التحرير والجهاد من أھم أھدافهم ، بل ومن أھم دوافعهم التي ساقتهم للانضمام إلى الإخوان المسلمين منذ البداية حيث كانت سابقة حركة الإخوان في مصر لنصرة القضية الفلسطينية ودورها الجهادي في فلسطين على رأس ھذه الدوافع ؛وكان دور الإخوان المسلمين المصريين في حرب فلسطين...
وفي دعم القضية الفلسطينية منذ سنة 1935 ھو الذي دفع بالشباب الفلسطيني نحو حركة الإخوان (11) لقد اعترض الإخوان الفلسطينيون على الخطة والأسلوب في مشروع "فتح" إذ اعتبروھا تقوم على توقعات افتراضية خيالية، بعيدة عن الممكن ، لذلك لن توصل إلى ھدف التحرير، أو قريبا منه ؛ كما رأوا إنشابا لمعركة من غير أن تكون القوى الأساسية للأمة مهيأة لها .
وبناء على الدرس الذي استفدناه من عدوان سنة 1956 فإن ھناك احتمالا كبيرا لإقدام إسرائيل على احتلال غزة والضفة الغربية، فيما لو تطورت اشتباكات الحدود إلى حرب مفتوحة لم تهئ الدول العربية لها نفسها ؛ وبذلك تكون القضية قد انتكست، ويكون ھدف التحرير قد صار أبعد وأصعب منالا .
وعندما وضعت فتح موضع التنفيذ حدث كل ذلك وأبعد منه ، وصار البكاء الآن والمحاولات تتركز على المطالبة باستعادة الضفة الغربية ، ورفع الحصار عن غزة. وحتى ھذه المناطق التي لم تكن محتلة، ولم يتصور مؤسسو فتح أنها ستصبح محتلة يوما ، صارت استعادتها بعيدة المنال ، أو شبه مستحيلة .
أما مقولة مؤسسي فتح بأن الدول العربية الثورية ستسمح للتنظيم الفلسطين المقترح بالنشاط فوق أرضها ، فإن ھذه الدول ستحرص كذلك على إخضاعه لسياستها وانسجامه مع تلك السياسة ، وستقف مخابراتها وأجهزة أمنها تراقبه وتحصي عليه أنفاسه، وستحصر نشاطه فوق أرضها فيما دون مرحلة القتال.
أما إذا أراد أن ينطلق لمهاجمة العدو قتاليا فلن تسمح له بذلك من حدودھا ، بل ستوجهه للانطلاق من حدود دولة عربية أخرى مجاورة ، ليس لأن تلك الدولة أقدر على مواجهة رد الفعل الإسرائيلي ، بل لمجرد إحراج وتوريط السلطة في تلك الدولة .
أي أن قضية التحرير ستظل في إطار المهاترات الرخيصة بين عدد من زعماء الدول العربية. ولو افترضنا أن التنظيم حاول الخروج على تعليمات الدولة المضيفة فإنها في ھذه الحالة ستبطش به وتوقف نشاطه وتعلن الحرب عليه ؛
وھي في حربها على التنظيم لن تعلن أنها تقاوم جهوده الرامية إلى تحرير فلسطين، بل ستتهمه بأنه يتآمر مع جهة أجنبية ، ويعمل ضد أھداف وأماني الأمة العربية.
ثم جاءت الأحداث خلال العشرين سنة التي تلت انطلاقة نشاط فتح (1965-1983) وأكدت كل ذلك الذي توقعته قيادة تنظيم الإخوان المسلمين الفلسطيني ؛ وقد جاء تأكيد ذلك على لسان السيد ياسر عرفات رحمه لله؛
فقد ذكر أبو عمار أن بعض الأنظمة "التقدمية" رددت الإتهام بأننا نريد توريط الدول العربية ..وقيل إننا كعملاء لحلف السنتو نتآمر لإحراج الأنظمة التقدمية لإسقاطها فوق ساحة القضية الفلسطينية.
وبعد 5 حزيران قيل لنا "والكلام ما زال كلام ياسر عرفات":إذا أطلقتم رصاصة واحدة اعتبرناكم مجرمين وخونة .. إن عملكم غير المسئول الآن سيؤدي إلى تدمير الأمة العربية. (12)
ولو جارينا مقولة فتح الإفتراضية بأن التنظيم الفتحاوي نجح في تجميع أعداد من الأنصار، وصار له وزن سياسي ، ولو بمقياس صغير ، فإنه سيصبح من غير شك ھدفا للأحزاب العقائدية التي ستعمل على التسلل إلى صفوفه للسيطرة عليه.
وإذا كان التنظيم يقبل ويشجع الحزبيين مشترطا أن يخلعوا ثيابهم الحزبية على عتبة مدخله ، فما الذي يضمن ، وما الذي يجعلنا نتأكد أن ھذا الشيوعي أو البعثي السابق قد تخلى بالفعل عن انتمائه السابق قلبيا لا مظھريا وخداعا فقط ، حتى يتسنى له الدخول والقبول ؟
أما القول بأن التنظيم سيفتح الأبواب المغلقة بيننا وبين الجماھير ويزيل الحواجز التي أقامتها الدعاية الناصرية ضد الإخوان المسلمين، فإن ھذه المقولة لا تثبت أمام النقاش كذلك ، فلو افترضنا جدلا أن تنظيم فتح نجح واجتذب أعدادا كبيرة من الأعضاء والأنصار؛
وقد تحقق ھذا بالفعل ، فإن ھذا التأييد الشعبي لن يكون للإخوان أو للإسلام ،بل لفكرة تحرير فلسطين ، إذ أن مؤسسي فتح حرصوا على إبعاد كل ما يشير إلى الإسلام من قريب أو بعيد، وقد حمل ذلك كثيرين منھم على التظاهر باللا إسلام ليصدقهم الحكام المتشككون .
في ضوء ذلك فإن هذه النقطة المسوقة على أنها مؤيدة لفكرة انخراط الإخوان في تنظيم فتح تسقط من الحسبان ، وعلينا أن نزن الأمور بعد اسقاطھا واستبعادها، وبذلك يثبت أن افتراض إيجابية ھذه النقطة في الموازنة تصبح غير ذات موضوع.
لقد تمت دراسة وتحليل العرض الذي قدمه رواد حركة فتح وواصلوا عرضه وترديده أمام أفراد الإخوان الذين كانوا يحاولون اقتناصھم ، في مذكرة مطولة تبلغ حوالي عشرين صفحة من حجم (الفولسكاب) .
وفيما يلي تلخيص لما تضمنته تلك المذكرة من محاججة وأفكار:
- أولا: إن الإخوان الفلسطينيين على استعداد لتجميد نشاطهم الإسلامي وتحويل جهود تنظيمهم إلى العمل من أجل تحرير فلسطين ، مع استبعاد أية مظاهر قد تربطهم بالإخوان أو بالنشاطات الإسلامية ، بشرط واحد فقط ، ھو أن تكون الخطة مقنعة من الناحية المنطقية والعملية وبأنها ستؤدي إلى تحقيق ھدف التحرير.
- فإذا لم يتوفر ھذا الشرط بدرجة يقينية ، فليس أقل من أن يتوفر بدرجة ترجيحية؛ أما أن يطالبوا بالتخلي عن حركتهم وأھدافهم لمجرد تصورات عاطفية خيالية يستحيل تحقيقها في عالم الواقع فذلك ما لا يرضونه؛
- وقد توصل الإخوان إلى الاقتناع بأن مشروع فتح سيواجه بعدد من العقبات الكأداء التي لا يمكن تجاوزها،وأنه ينطوي على مخاطر لا تؤدي إلى ضياع الجهد والوقت والأرواح والمال فحسب ، وإنما ترجع بالقضية الفلسطينية نفسها إلى الوراء وتؤخر عملية التحرير وتحطم كل الآمال .
ثانيا: العقبات:
- (أ) معارضة الحكومات العربية: إن الشعب الفلسطيني يعيش ظروف غير طبيعية ، حيث استولت الهجمة الصهيونية على معظم أراضيه ، ويترتب على ذلك أن نشاطه العسكري من أجل التحرير سيجري في أراضي الدول العربية ثم ينطلق من تلك الأراضي لمهاجمة العدو.
- وأكثر الدول العربية ، خاصة تلك المحيطة بفلسطين المحتلة، تحكمها أنظمة لاينتظر منها أن تسمح بأي نشاط سياسي أو عسكري غير صادر عنها، أو غير موحى بها منها على أرضها ثم إن ھذه الحكومات تخشى من أي تحرك سياسي على أرضها، حتى لو لم يشارك فيه شعبها، لأن أي نشاط من ھذا النوع ستنتقل عدواه إلى أفراد شعبها.
- وبجانب ذلك ، فإن ھذه الحكومات ترتعد فرقا من رد الفعل الإسرائيلي ، وتفتقر إلى الثقة بقدرتها على مواجهته ، وتطلب السلامة بتجنب إثارته أو السماح به والسكوت عنه ، وتكتفي بالتصريحات الكلامية عن التحرير .
- ومن هنا فإن المقاتلين الذين سيتجهون إلى مهاجمة المواقع الإسرائيلية سيصطدمون بجنود الدولة العربية المضيفة التي يمرون في أراضيها قبل أن يصلوا إلى الحدود الفلسطينية .
- وإذا تمكنوا من الإفلات ووصلوا فإن جنود الدولة العربية سوف يترصدونهم في طريق عودتهم ، أو في طريق انسحابهم إذا اضطروا إلى الانسحاب . وستزداد شراسة الأنظمة بتزايد العمليات الإنتقامية الإسرائيلية.
- (ب) أما القول بأن تحرير فلسطين يمكن أن يتم بالطريقة التي تحررت بها الجزائر فقد تبين من خلال المناقشة أنه مستوحى من نظرة سطحية؛ فالوضع القانوني لفرنسا في الجزائر ، من وجهة نظر القانون الدولي غير الوضع القانوني للصهيونية في فلسطين، وأھداف فرنسا في الجزائر تختلف عن أھداف الصهاينة من القدوم إلى فلسطين.
- فرنسا في الجزائر دولة مستعمرة،أما الصهيونية في فلسطين فيعتبرها المجتمع الدولي والقانون الدولي دولة مستقلة تقوم على الأرض التي خصصتها لها الأمم المتحدة ، بغض النظر عما يثار من انتقاد للإجراءات والمقدمات والقرارات الأممية. لذا فإن كيان الدولة الصهيونية الذي قام على الاغتصاب والظلم يبدو ويعتبر كيانا شرعيا يحميه القانون الدولي .
- ثم إن الصهاينة أرادوا فلسطين وطنا لا وطن لھم غيره ، أما فرنسا فقد أرادت استعمار الجزائر واستعمرتها، بينما الوطن الفرنسي الأصلي يقبع قريبا عبر البحر في الجهة المقابلة من ناحية الشمال..،
- والمستعمرون الفرنسيون في الجزائر لديهم وطنهم الأم يستطيعون العودة إليه والإقامة فيه في أي وقت، والأمر ليس كذلك بالنسبة للصهاينة في فلسطين. والتأييد الذي تلقاه الصهيونية في فلسطين لا تلقاه فرنسا في استعمارھا للجزائر .
- والشعب الجزائري يعيش في أرضه كلها، بكامل حدودها ، بينما الشعب الفلسطيني يعيش معظمه خارج وطنه ، ولذا فإن الشعب الجزائري يحارب من داخل أرضه ، بينما الشعب الفلسطيني سيحارب من خارج أرضه .
- ثم مساحة الأراضي الجزائرية الضخمة لا تقارن بمساحة الضفة الغربية التي لا تزيد عن ستة آلاف كيلو متر مربع. وبينما لا تجرؤ فرنسا على إعادة احتلال الأراضي التونسية أو المغربية التي كان يستخدمها الجزائريون في بعض عملياتهم العسكرية الكبيرة ، فقد أقدمت إسرائيل على احتلال قطاع غزة وسيناء سنة 1956 . وقد تكرر ذلك سنة 1967 واحتلت ما ھو أكثر من غزة وسيناء.
- (ت) إن مواجهة إسرائيل لا يمكن أن تتم بجزء صغير من قوة أمتنا، قد لا يصل إلى واحد في الألف ، بل ينبغي أن تحشد للمواجهة كل قوى الأمة ، وربما لا نكون قادرين على حشد قوة توازن قوة العدو إن لم تفقها.
- وھذا النقص في القدرة لا ينبغي أن يبرر لنا السكوت والتخاذل ، ولا يبرر لنا الاندفاع العاطفي الأعمي، بل الواجب واللازم أن نحشد كل ما لدى الأمة من طاقات، ثم ننطلق واثقين من نصر الله سبحانة وتعالى لحقنا .
- وإذا كانت الحكومات التي تحتكر السلطة ومعظم عناصر القوة ترفض توظيفها للمعركة ، صراحة أو مداورة ، فإن علينا أن نغير ھذا الوضع عن طريق إقناع الحكومات بأن تغير موقفها ، أو بالضغط عليها بالعصيان المدني، وغير ذلك من الوسائل المناسبة .
- وفي ضوء ھذه المناقشة التي اكتفيت بتقديم خلاصتها يتبين أن جميع الأھداف التي وردت في مشروع فتح التأسيسي لم تكن قابلة للتحقيق العملي المؤدي إلى التحرير.
ثالثا:الحل البديل كما تصوره الإخوان:
- وإذ تبين أن مشروع فتح التأسيسي المقترح مسرف في أوھام التمنيات بعيد عن التوقعات العملية فإن على الإخوان أن يضاعفوا جهودھم في نصرة دعوتهم ورفع شأن حركتهم ، لأن حركة الإخوان حين تنتصر ھي التي ستحرر فلسطين.
- وعندما يأخذ الإخوان أهبتهم للتحرير فلن يكون الفلسطينيون وحدھم المضطلعين بالمهمة ، بل ستشاركهم الأمة الإسلامية في كل أقطارھا. وھذه بالشعوب والأقطار الإسلامية كلها .
- وهكذا حسمت ھذه المذكرة كل تردد ، ووضعت تنظيم الإخوان الفلسطينيين في موقف واضح ،فتوقف تساقط الأعضاء وتحصن أفراده ضد الإحراج والتشكيك . وتلك كانت قناعات قيادة التنظيم الإخواني الفلسطيني ، وذلك ھو ما عملت على إيصاله إلى الأعضاء المنضوين تحت لوائه سنة1960 م.
المواجهة بين تنظيم فتح وتنظيم الإخوان في قطر
لم تنته المشكلة بهذا الحسم الذي توصل إليه الإخوان أو ظنوا ذلك سنة 1961 ؛ لقد انتهت من جانب إحدى الفريقين المتقابلين، داخل الصف الإخواني ، بيد أنها لم تنته بالنسبة للفريق الآخر الذي ظل ھدفه قائما ، وھو ضم الإخوان إلى تنظيم فتح بأية طريقة مع الاستمرار في الهجوم ومواصلة الضغط .
بل إن مشكلة الإخوان الفلسطينيين بالنسبة للموضوع نفسه عادت إلى الظهور سنة 1965 وتفجرت في إطار آخر ، إخواني وغير فلسطيني سنؤجل الحديث عنه الآن. وھكذ ظل الإخوان الفلسطينيون في موقف دفاع عن تنظيمهم ، لكنه دفاع لم يتزعزع.
وقد حصر الإخوان ردود فعلهم في ھذا الإطار الدفاعي إنطلاقا من أنهم لم يكونوا يعارضون ھدف فتح الرئيسي ، هدف التحرير ، أويعارضون أشخاص قادتها ، بل كانوا غير مؤمنين بالخطة الرئيسية ، بالاستراتيجية المتبعة للوصول إلى ذلك الهدف الرئيسي.
ومعنى ذلك أن المعركة مع فتح ، بالصورة التي وصفنا ، لم تكن خيارا إخوانيا، بل كانت خيارا ومبادرة عدوانية فتحاوية . ولقد استمرت ھذه المواجهة في كل دولة تصادف فيها وجود مجموعات من الفريقين الإخواني والفتحاوي ، وكانت أوضح ما تكون في قطر (1962-1969)؛
نظرا لظروف خاصة تميز الوضع فيها ھناك بالمقارنة بما كانت عليه الحال في البلاد العربية الأخرى ؛ وسأحاول في الصفحات التالية وصف تلك المواجهات المؤسفة، التي تظل صغيرة في حجمها، على الرغم من أنها تبعث على الأسف .
لم تكن المعلومات تصل إلي في صورة إشاعات أو روايات للتسلية ، بل كانت تصلني باعتباري عضوا في اللجنة التنفيذية للتنظيم الفلسطيني ،وعضوا وممثلا في المكتب التنفيذي لقيادات الإخوان المسلمين في البلاد العربية، الذي كان مقره في بيروت.
كان للإخوان المسلمين وضع خاص في قطر يعود منشؤه إلى عام 1954 عندما قدمت عناصر مصرية إخوانية، مضطرة للفرار على أثر اندلاع المعركة بين جماعة الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر أواخر سنة 1954 .
وكان من بين من قدموا في ذلك الوقت من مشاھير الإخوان الشيخ عبد المعز عبد الستار ، والأستاذ عبد البديع صقر الذي كان قد صدر بحقه حكم بالإعدام ؛ ھذا فضلا عن كثيرين غيرھما ، منهم الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ أحمد العسال ، وكانا في مطلع شبابھما، ولم يكن الدكتور القرضاوي قد وصل إلى مرحلة الشهرة في ذلك الوقت المبكر .
وكان يرأس دائرة المعارف شيخ من الأسرة الحاكمة. وبعد مجئ الأستاذ عبد البديع صقر ، رحمه لله ، إلى قطر تم تعيينه مديرا للمعارف (أي دائرة التربية والتعليم) ، فتزايدت فيها أعداد الإخوان بالتدريج ، جاءوا من أقطار وجنسيات متعددة؛
ثم أبعد عبد البديع صقر عن التربية وعين لإدارتها قيادي بعثي سوري مشهور ھو الدكتور عبد الله عبد الدايم ، ومع ذلك بقيت للإخوان فيها مواقع مهمة ، حتى بالرغم مما حصل بين الإخوان من تنافس ارتفعت وتيرته إلى مستوى الصراع.
وقد أطاح ذلك الصراع بمدير التربية الإخواني السوري الحلبي ، الدكتور عبد الرحمن عطبة ، الذي حل محل الدكتور عبد الله عبد الدايم ، المدير البعثي.
وحين ظھرت فتح في الساحة كانت معظم المناصب الرئيسية في التربية يشغلها منتسبون للإخوان ، من جنسيات متعددة؛ فالأستاذ كمال ناجي، مدير دائرة التربية ، والأستاذ رفيق النتشة ، أبوشاكر ، كان مديرا لمكتب الشيخ رئيس الدائرة؛
والسيد محمد يوسف النجار، رحمه لله ، كان سكرتيرا للسيد رفيق النتشة، والدكتور أحمد رجب عبد المجيد الأسمر كان مديرا لمنطقة أم صلال التعليمية ، والدكتور عز الدين إبراهيم ، رحمه لله ، كان مسئولا عن التوجيه الفني؛
والأستاذ عبد الحليم محمد أبو شقة ، رحمه لله ، كان مديرا للمدرسة الثانوية؛ ھذا بالإضافة إلى أعداد أخرى من مديري المدارس والفنيين والإداريين ، وأعداد كبيرة من المدرسين ، فضلا عن فنيين وموظفين في إدارات أخرى غير التربية ؛
وكان من بين ھؤلاء المهندس كمال عدوان رحمه لله ، الذي كان ھو ومحمد النجار من قادة فتح البارزين ، كما ظھر واشتهر فيما بعد. وقد تبين أن رفيق النتشة، صار من مؤيدي فتح ومنتسبيها، كما كان محمد يوسف النجار.
أما بالنسبة للإخوان المصريين فقد كانوا يعتبرون "فتح" حركة إخوانية ؛ ولذلك لم يحاولوا تفهم واستيعاب موقف الإخوان الفلسطينيين والمحاذير التي أملت على التنظيم الفلسطيني موقفه.
ولقد دأبت العناصر الموالية لفتح والمؤيدون لها من غير الفلسطينيين على الضغط الشديد على العناصر الفلسطينية الرافضة لفكرة الانضمام إلى فتح ، واستخدم الإداريون منهم في التربية سلطاتهم الإدارية في ذلك.
وزاد الطين بلة، والموقف تعقيدا أن ھذه المواجهة اختلطت بصراع حاد نشب في نطاق الإخوان العاملين في التربية من أجل الاستئثار بالمناصب الرئيسية والسلطة، فأنهيت خدمات بعضهم، واضطر بعضهم إلى الاستقالة ومغادرة البلد نهائيا ، هربا من جو الصراع الخانق.
وكان من ھذه العناصر التي أبعدت أو ابتعدت الدكتور عز الدين إبراهيم، والأستاذ عبد الحليم أبو شقة ، رحمهما لله ، والأستاذ عدنان سعد الدين.
وقد شملت إجراءات التضييق على الإخوان الفلسطينيين الملتزمين الحرمان من الترقيات، وإيقاف العلاوات السنوية المنتظمة، والنقل التعسفي ، والتهديد بالفصل من العمل ، ومحاولات الإغراء بالمنافع الوظيفية والمادية.
وبينما صمدت عناصر للإضطهاد والحرمان ، واستقالت عناصر أخرى وغادرت البلد اختارت فئة أخرى من الإخوان أن تمسك بالعصا من منتصفها ، إذ حرصت على تجنب الاضطهاد والحرمان، كما حرصت على تحصيل المنافع الوظيفية والمادية ، كما حرصت في الوقت نفسه على ارتباطھا بالإخوان .
وقد كان مسلك ھذه الفئة الأخيرة مصدر إرباك ومشاكل للتنظيم المحلي وقيادته، ولقيادة التنظيم الفلسطيني العام ، لدرجة استدعت تدخل اللجنة التنفيذية بإيفاد أحد أعضائها إلى قطر أكثر من مرة ، فضلا عن مناقشة الموضوع أثناء اجتماعات اللجنة التنفيذية ومجلس الشوري.
وقد ظل ھذا الوضع قائما إلى وقت انسحابي من الإخوان نهائيا عام 1973 ، ولست أدري عنه شيئا بعد ذلك. وكان الضغط على أعصاب الإخوان المسئولين شديدا لدرجة أن رئيس اللجنة التنفيذية، المرحوم عبدالبديع عثمان صابر لم يقو على التحمل إذ هده المرض ، واشتد عليه ارتفاع ضغط الدم، فقدم استقالته قبل انتهاء ولايته بسنتين، فلم يقبلها مجلس الشوري؛
بل اعتبره في إجازة مرضية ،على أن يتولى نائبه سلطاته إلى حين إبلاله من مرضه. والذي أرجحه أن الوضع الإداري الرسمي في دائرة التربية قد انتهى بتسلم العناصر القطرية المواطنة والمتعلمة للسلطات الإدارية الفعلية .
وقد كان طبيعيا في ھذا الجو المحموم أن يحدث تطرف في مواقف بعض الإخوان من فتح ردا على تطرف عناصر فتح في اضطهاد أفراد الإخوان. وھذا ما يفسر تجاوز بعض الإخوان لحدود الموقف الرسمي الذي حددته قيادة التنظيم الفلسطيني سنة 1961؛
والذي نص على:
- "أن الإخوان لا يعادون فتح ولا يحاربونها ، ولكنهم غير مقتنعين بمخططها و (استراتيجيتها) ولا يتعاونون معها ؛ وإذا تعرضوا للهجوم من قبل عناصرها فإن عليهم أن يردوا الهجوم في أضيق نطاق، وفي حدود حماية أنفسهم وتنظيمهم ، وليس بهدف الانتقام."
ولا أستطيع أن أختم الحديث عن المواجهة بين الإخوان وفتح في قطر قبل أن أتناول بالتعليق واقعة "فصل" أبي يوسف، محمد يوسف النجار، من الإخوان ، تلك الحادثة التي كان أشار إليها ھو نفسه ، في مقابلة صحفية سبقت استشهاده بوقت قصير . (13)
لقد ذكر أبو يوسف ، رحمه لله ، في تلك المقابلة أن الإخوان فصلوه من تنظيمهم عقوبة له على انضمامه لمنظمة فتح . لقد اتخذت قيادة التنظيم الفلسطيني بالفعل قرارا بحق السيد محمد النجار ، وذلك خلال اجتماع لأول مجلس شورى للإخوان في قطاع غزة ، وذلك قبل أن توضع للمجلس لائحة، وقبل أن يسمى مجلس الشوري.
لقد انعقد ذلك المجلس في صيف سنة 1962 في خانيونس ، وفيه استعرض الإخوان علاقتهم بفتح ، وفي ھذا السياق استعرضوا موقف الأخ محمد يوسف النجار. والقرار الذي صدر بحقه لم يكن قرارا بفصله من الجماعة ، بل كان قرارا نص على اعتباره تاركا للجماعة ، مستنكفا عن استمرار عضويته فيها.
وقد بني ھذا القرار على مبدأ تنظيمي تبناه التنظيم الفلسطيني ينص على عدم جواز الجمع بين الانتماء إلى الإخوان والانتظام إلى تنظيم سياسي أو عقائدي آخر في الوقت نفسه.
وقد يثير هذا التوضيح تساؤلا عن عدم صدور قرارات مماثلة بشأن أشخاص آخرين تركوا الإخوان وانضموا إلى حركة فتح أو شاركوا في تأسيسها، ومنهم السيد خليل الوزير ، والسيد أسعد السفطاوي ، والدكتور رياض الزعنون ،والسيد سليم الزعنون ، وغيرھم كثيرون.
الحقيقة أن الأمر كان مختلفا بالنسبة للسيد أبو يوسف النجار. وبغض النظر عن الاختلاف في الرأي والاختيار فإنني أقدر الشهيد أبو يوسف رحمه لله ، وقد عرفته منذ الصغر ، فهو ابن بلدتي يبنا، وھو زميل دراسة في مدرستها الابتدائية؛
وقد باعدت الهجرة بين دارينا، فصار ھو من سكان رفح بينما كنت أنا من سكان غزة. ثم جمعنا انتماؤنا للإخوان المسلمين وأخوتنا في إطارھا من أوائل سني الخمسينات.
ونقطة الاختلاف بينه وبين التاركين الآخرين أنه ظل يظھر تمسكه بالانتماء للإخوان ، بينما الآخرون انكمشوا، أو انقطعوا عن الاتصال بالجماعة بأية صورة. فالسيد صلاح خلف، مثلا، رغم أن التنظيم الإخواني تجنب إعادة إدخاله بعد انتهاء دراسته في الأزھر وعودته إلى غزة؛
فقد ظللنا نتصل به ، ونزوره في بيته في المناسبات من حين لآخر ، وظل ھو يتعاون مع مدرسي الإخوان وطلبتهم ، وكثيرا ما تصدى لخصوم الإخوان في مواقف علنية معروفة، إلا أنه قطع ھذه الصلة تماما بعد أن اقتنع بمشروع فتح ، لدرحة أنه عندما قابلني في أحد الشوارع ورآني من بعيد ، وذلك في خانيونس عام 1961 ، أشاح بوجهه عنى كأنه لم يرني .
أما الأخ محمد النجار فقد ظل يظهر أنه متمسك بالإخوان ، مخفياعلاقته بفتتح ، إلى أن سافر مرة لحضور اجتماع لفتح وبرر سفره بأنه ذاھب لزيارة أخيه، ثم تبين أنه سافر لحضور الاجتماع. وعلى . ھذا الأساس كان قرار الإخوان باعتباره تاركا لجماعتهم. (14)
الفصل الثالث:مع الإخوان في البلاد العربية
أولا:مع الإخوة في البحرين
قطاع غزة الصغير كان يضيق بسكانه الفلسطينيين، الأصليين منهم واللاجئين، الذين وصل عددھم أوائل الستينات من القرن العشرين إلى أربعمئة ألف نسمة .
وكانت يحيط به البحر والعدو من جهات ثلاث؛ أما الجهة الرابعة الحدود المصرية عند حافة سيناء فكانت محرمة ومغلقة ، ويستلزم عبورھا إجراءات متعبة ، ھذا بالنسبة للناس العاديين. أما للعناصر المثقفة والمتعلمة فقد كان الوضع أكثر صعوبة ، إلا أذا كانوا من الفئات الموالية للسلطة.
وكان حكام القطاع ضباطا عسكريين في منطقة ليس فيها ضباط غيرھم ، وكانت بأيديهم سلطة شبه مطلقة ، فكان الضابط الذي يتحلى برتبة ملازم يشعر بأنه فوق ھؤلاء الناس جميعا ، وأن بإمكانه التحكم فيهم من غير أن تكون لأي منھم قدرة على الاحتجاج أو المقاومة .
وزاد الطين بلة أن قطاع غزة بعد سنة 1957 أي بعد مجئ القوات الدولية صار يحيا فترة ازدھار نسبي، وازدھار اقتصادي سطحي مصطنع ، وصار الضباط وكبار الموظفين الذي يرسلون من القاهرة من المحظوظين الواصلين المحسوبين المسنودين ، الذين تعطى لهم الفرصة "عشان يتنفعوا".
لذا فإن طغيان أكثر ھؤلاء لم يكن يعرف حدودا ، حيث أمنوا العقاب. وقد كان ضعف قطاع غزة بمجمل أوضاعه، خاصة من حيث الوضع الديمغرافي، وحالة الحرب المزعومة يجعله ويجعل الإدارة فيه أكبر قابلية للفساد، ومزيد من التعفن.
وعندما يتعلق الأمر بالعناصر المعارضة التي تتجرأ على إبداء عدم رضاها بأية درجة يصبح تعرضھم للضغط والمعاملة الطغيانية ھو المتوقع ابتداء.
وفي ظل ھذه الظروف صار الخروج من القطاع للعمل في بلدان الاغتراب ليس مطلب المتطلعين إلى فرصة عمل، أو دخل أفضل وحياة أيسر فحسب ، بل إنه أصبح مطلبا للذين يختنقون من شدة الضغط الأمني ، ومن تحطم الأعصاب من طول المكث في ھذا السجن الكبير.
ولذا فقد تزايد خروج الشباب في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين ، وكان ممن خرجوا كاتب، ھذه السطور بعد أن تعاقد مع ممثل مديرية التربية البحرانية ، الأستاذ عبد الملك الحمر رحمه الله للعمل في التدريس ، ابتداء من شهر أيلول سنة 1962 م.
وكنت قد حصلت على درجة الليسانس (الدرجة الجامعية الأولي) من جامعة القاھرة سنة 1961 ، وعملت مدة سنة مدرسا في مدرسة الرمال الإعدادية في قطاع غزة.لم أكن أعرف أحدا في البحرين ، ولم يصل إلى علمي أن ھناك نشاطا للإخوان المسلمين في ذلك البلد الصغير القابع في أقصى مشرق العالم العربي .
ولكن لم تمض بضعة أسابع حتى لقيت أخا فلسطينيا ممن درسوا في جامعة دمشق، وجاء للتدريس في البحرين كذلك ، وسرعان ما تعارفنا وتآلفنا ، خاصة بعد أن وصلتني رسالة من غزة توثقه . والإخوان ، شأنھم شأن غيرھم من الحزبيين ، لا يكاد الواحد منھم يصل إلى بلد حتى يبدأ في البحث عن إخوان له في العقيدة والمبدأ.
وقد علمتني التجربة والاحتكاك بالحزبيين غير الإسلاميين أن الإخوان في أغلب الأحوال أصدق وأعمق وأحر عاطفة تجاه بعضهم ، نظرا لتربيتهم الروحية، فضلا عن أنهم أبعد عن الأسباب التي تثير التنافر والتحاسد والتباغض والتشاحن في داخل الصف ، وإن لم يكونوا مبرئين من ذلك تماما.
ولست أقول ھذا الآن دفاعا عن الإخوان المسلمين أو دعاية لهم ، فقد فقدت إيماني بحركتهم قبل ما يقرب من أربعين سنة، وبينت ذلك في نقد علني صريح ومنشور منذ أن انسحبت ، وسأكرره في فصول تالية من هذا الكتاب كلما كان التكرار مفيدا أو لازما؛
إنني أعلن قول الحق، أو ما أظن أنه الحق، ولا أسمح لنفسي بأن أغمط الإخوان حقهم عند مقارنتهم بغيرھم من الأحزاب والحركات السياسية. وقد أخبرني الأخ سليمان عبد القادر أن هناك حركة للإخوان المسلمين في البحرين ، وأن طالبا من أعضاء الجماعة كان زميلا له أثناء الدراسة في جامعة دمشق، وزوده باسم وعنوان أحدھم.
وهكذا ذهبت بصحبة الأخ سليمان نسأل عن الأخ جاسم يوسف الشيخ إلى أن اهتدينا إليه في باب البحرين. ولقد فرح الأخ قاسم بنا ورحب أيما ترحيب، ثم زارنا في سكننا. وفي المرة التالية جاءنا ومعه الأخ عبد الرحمن الجودر،رحمه لله. وھكذا بدأت صلتي ومعرفتي بالإخوان البحرانيين.
وكان الأخ عبد الرحمن الجودر ھو الأكثر اتصالا بي وحرصا على لقائي ، بينما كان الأخ جاسم ملتزما بالمداومة في عمله في متجر للعائلة في سوق باب البحرين. ومع ذلك فإن عبد الرحمن كان ناظر المدرسة الابتدائية في قرية عراد، القريبة من المحرق التي كان فيها بيته ، كما كان زوجا، وأبا لعدد من البنين والبنات.
وكان من مظاھر نشاطه الفائق الجهد الذي صار يبذله في تجميع الإخوان للإلتقاء، حيث يستعير سيارة من أحد أخوانه يسوقها ويجمع بها إخوانه بعد صلاة العشاء من بيوتهم المتناثرة في أربعة من مدن وقرى البحرين ، فإذا انتهى لقاؤھم أعاد كلا إلى بيته ؛ وقليلا ما كان يتركهم يعودون وحدھم.
وقد تبين لي من خلال احتكاكي بإخوان البحرين أنهم كانوا منقسمين في مجموعتين ،إحداھما نشطة، يثابر على تحريكها عبدالرحمن الجودر، والأخرى لا ترى التحرك والعمل، لأن الظروف حسب تقديرھم لا تسمح بذلك.
وھذه المجموعة، إن جاز لنا أن نطلق عليها هذه الصفة، لم يكن لها رأس، أو محرك ، ولم يكن بين أفرادھا اتصال منظم ومتتابع، اللهم إلا في مقر نادي الإصلاح في المحرق ، وھو ناد ثقافي له قصة سوف نتعرض له سريعا فيما بعد.
بيد أن أفراد المجموعة الساكنة كان يربطھم بدعوة الإخوان استمرار إيمانهم وولائهم لها وتوھج عاطفتهم نحوھا، واعتزازھم بهذه النسبة. وكانت بذرة دعوة الإخوان المسلمين عن طريق بعض المدرسين المصريين من الإخوان، وكذلك عن طريق ذھاب بعض الطلبة إلى مصر.
والبحرين من أكثر وأعرق بلدان الخليج العربي تحضرا ، إذ كان في البحرين علماء ومؤلفون وتعليم في كل العصور الإسلامية ؛ ولعل ذلك يعود إلى حياة الاستقرار التي يسرھا توافر المياه العذبة بكميات للشرب والزراعة والري.
ومما ساعد على تحضرھا كذلك كون الجزر التي تتكون منها دولة البحرين الحالية تبعد عن سواحل الجزيرة العربية بما يقرب من ثلاثين كيلو مترا ، وذلك ما قلل إمكان واحتمال تعرضها لهجمات البدو القادمين من الصحراء ؛ كما ساعدھا موقعها البحري القريب من الساحل على القيام بدور تجاري ھام طوال العصور.
وقد أنشئت أول مدرسة حديثة في البحرين أوائل القرن العشرين ، وهى مدرسة الهداية الخليفية، وقد عملت بها في السنة الأولى من بداية عملي التدريسي في البحرين.
وقد وجدت بها مدرسا من الإخوان ، من أھل المحرق، تنيف سنه على ستين ، وھو من خريجي المدرسة نفسها، واسمه عبدالرحمن رزبة ، رحمه لله وإيانا أحياء وأمواتا. غير أن البحرين كانت تعج بالمدارس التقليدية قبل ھذا التاريخ، أعني تاريخ إنشاء المدرسة الأولى الحديثة ؛
وقد قرأت وصفا أورده الدكتور زويمر، القس والمبشر الأميركي المشهور الذي زار البحرين سنة 1905م عرض فيه صورة حية للدراسة في مدرسة (كتاب) للبنين وأخرى للبنات.
وكانت البحرين تردد صدى ما يحدث في العالم الإسلامي ، حتى منذ أيام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه لله، ومجلته المنار التي كان لها بعض المشتركين في البحرين،.
يكتبون لها بعض الرسائل أحيانا (15) وقد علمت من الإخوان هناك أن اسم الإخوان المسلمين ظل مرفوعا في البحرين ، وظل أنصارھم كثيرين إلى أن حدث الانفصام بين جمال عبد الناصر والإخوان سنة 1954 ، ذلك الصدام الذي تبعه اھتمام القاهرة بمد ذراعها الدعائي الإعلامي إلى العالم العربي ردا على احتجاج جهات عربية كثيرة خارج مصر على حملة القمع التي تعرض لها الإخوان.
وكان من القضايا التي اھتم بهاالإعلام الصادر من القاهرة مشكلة الاستعمار البريطاني في الخليج العربي وجنوب الجزيرة العربية، خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 ، وارتفعت شعبية عبد الناصر في الخليج إلى ذروة تماثل مستوى ارتفاع شعبيته في الأردن وسوريا ولبنان؛ ومنذئذ بدأت المتاعب تطل برءوسها لإخوان البحرين.
ولم تكن شعبية جمال عبد الناصر وعداوة أنصاره للإخوان ھي السبب الوحيد في نشوء حالة الحصار التي وجد الإخوان أنفسهم ضحايا لها، بل كانت ھناك أسباب أخرى ؛ فسكان البحرين ينقسمون من الناحية المذھبية إلى سنة وشيعة ، ويدعي كل فريق منهم أنه يشكل الأغلبية ، ولكن ربما كان الفريقان متقاربين ؛ والأسرة الحاكمة سنية المذھب ، بدأت حكمها سنة 1783 .
وكما ينقسم البحرانيون مذهبيا إلى سنة وشيعة فإنهم ينقسمون أيضا من الناحية العرقية ، بين الأصول العربية أو الفارسية ؛ بل إن (16) السنة كانوا ينقسمون بين العربية والفارسية ، ومثلهم الشيعة.
وفي مطلع خمسينات القرن العشرين ظهرت في البحرين حركة سياسية شعبية اتخذت موقف المعارضة من الأسرة الحاكمة ، ومن التسلط والسيطرة والاحتلال البريطاني. وقد كان في البحرين شيوعيون وبعثيون عندما وصلتها ، فضلا عن وجود المتحمسين المتجاوبين مع الدعاية الناصرية.
وكانت تصدر في البحرين بعض الصحف التي رفعت شعارات ومطالب إصلاحية ، وتجاوب بعضها مع التيارات الشعبية ، وبذلك صارت في موقف مناوئ للحكومة.
وكان مما عقد الأمور أن فتنة طائفية اندلعت في البحرين في شهر محرم سنة 1373 ه سبتمبر 1953 م ، حيث نشبت الصدامات بين السنة والشيعة أثناء ممارسة الشيعة لطقوس الحداد في الأيام العشرة الأولى من محرم، وما يتخللها من شتائم توجه للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي لله عنهما ، واختلطت المطالب السياسية بالمشاعر الدينية ، وتطرف كل فريق في طريقة تعبيره عن مشاعره.
وقد حاولت مجموعة من الشباب التي أصدرت صحف البحرين جمع الصفوف وإزالة أسباب الصدام، إلا أن المهمة لم تكن سهلة . ومن خلال ھذه الأزمة تحول التيار الشعبي ضد الإخوان ، ذلك أن الحركة الشعبية بدأت بمطالب أزعجت الحكومة.
وكان شيعة البحرين أيضا في موقف المعارضة ، انطلاقا من أن الأسرة الحاكمة تنتسب إلى المذھب السني ، وأنها قدمت إلى البحرين واستولت عليها سنة 1783 م. وقد تحدث لي عدد من الشيعة عن "اضطهادات مريرة تناقلتها أجيالهم المتعاقبة، قاسوھا على أيدي الفاتحين."
ومن غير نفي أو إثبات لا يملك الباحث الحالي أدلته، يظل الإتهام من جانب واحد لم أجد ما يعززه ويؤيده ؛ كما أن نفي الطرف الآخر لا يكفي لحملنا على استبعاده.
ومهما يكن من أمر فإن العصبية العمياء كانت سائدة ، وما زالت بقايا منها موجوده على الرغم من أن الغلاة في العصبية والحقد يحاولون إخفاء خبيئة نفوسهم.
ومن المرجح أن يكون قد حدث اضطهاد متبادل، في فترات قوة الدولة الصفوية في إيران ، وربما كانت العصبية والاضطهاد تحرك من هناك ، فاذا ضعفت في ھذا فإنها سترتفع من الجانب الآخر ؛ تلك كانت المسارات السائدة .
والذي يعنينا هنا أن الحركة الشعبية وجدت نفسها تنساق إلى مواجهة مع الحاكم، وتقف معها الأغلبية من الشيعة، وبعض السنة، على الرغم من أن كثيرين من السنيين بدأوا متشككين في نوايا الشيعة ، إلا أن جمهرة الناس التفت حول المطالب التي نادت بها الحركة الشعبية.
وكانت الحركة قد كونت لنفسها "ھيئة تنفيذية عليا" ترأسها سني، لتقود النضال في مواجهة سلطة الأسرة الحاكمة التي تساندھا قوة الإحتلال البريطاني. وكان من مطالب الهيئة السماح بتكوين نقابة للعمال وسن قوانين مدنية وجنائية عادلة، وتشكيل مجلس تشريعي، بالإضافة إلى مطالب أخرى.
وقد تزامنت ھذه الأحداث التي شهدتها البحرين مع قيام "ثورة 23 يوليو " في مصر، واصطدام الثورة بالإخوان ، ووقوع العدوان الثلاثي ، فصار إخوان البحرين في الجانب المعادي لعبد الناصر ، الجانب الحكومي ومن ورائه الجانب البريطاني.
وقد ملأت شخصية عبد الناصر ودعاية نظامه خيال البحرانيين، فاحتل فيه مكان القداسة التي تقارب قداسة الأنبياء، وتبنت الحركة الشعبية والصحف التي تصدر عنها الاتجاه الناصري بكل حماسة وإصرار ، وھكذا تحدد مكان الإخوان في الجانب الخطأ ، دون أن تكون لهم حرية الاختيار ، بحكم انتمائهم الإخواني، والعداوة المستعرة في مصر بين الإخوان وجمال عبد الناصر.
ومن خلال أحاديثي ومناقشاتي مع إخوان البحرين، ومع شباب السنة الناصريين، وبعض الشيعة، عرفت أن الحركة الشعبية كانت تتهم الإخوان بالعمالة للحكومة وللإنكليز، بينما كان الإخوان من جانبهم يتهمون الحركة بأنها انساقت لتصبح سلما لأغراض الشيعة الرامية للسيطرة على مقدرات البلد .
ولم يكن ھذا التخوف وقفا على الإخوان وحدھم ، بل إنه كان في نفوس كثيرين من السنيين أومعظمهم.، حسب ما روى أبرز زعماء الحركة الشعبية السني عبدالرحمن الباكر. (17)
ولكن الحال تغيرت كما ذكرنا وانساق جمهور الناس مع مطالب الحركة الشعبية ضد الحكومة والوجود البريطاني ، ونسوا قضية الخلاف المذھبي والمخاوف التي ترددت بشأن أھداف الجانب الشيعي ، كما وصفناھا في السطور السابقة ، وظل الإخوان وحدھم يرددون الاتهامات نفسها.
ولم تقف اتهامات الإخوان لخصومھم عند ھذا الحد ، بل لقد ذھبوا إلى اتھام بعض زعماء الحركة الشعبية بالعمالة للإنكليز ، يتصرفون بتوجيههم وبوحي منهم ، وأن الزعماء الآخرين مغفلون منساقون فيما يريده الإنكليز.
وقد فسروا ذلك بأن الإنكليز يستخدمون الحركة الشعبية لتخويف الحاكم ، لحمله على الرضوخ لهم والتمسك بهم ، والتسليم لهم ببعض المطالب التي رفض الحاكم التسليم بها، وببقائهم في البحرين.
ولم يكن ثمة سبيل لمثلي ومن كان في وضعي، أن يتحقق من صحة أي من ھذه الأقوال والإتهامات المتبادلة. بيد أنني من خلال معرفتي بإخوان البحرين أعتقد أنهم أناس أنقياء مخلصون لشعبهم وبلدھم ومبادئهم المعلنة ، ولا يمكن أن يكونوا عملاء لأحد ، بيد أن الظروف العامة التي أوجزنا رسمها فرضت عليهم خيارھم ؛
ومع ذلك فقد كان في مقدورھم أن ينزووا من ساحة الأحداث ، ولكنھم برروا لأنفسهم الدور النشط الذي قاموا به استنادا لمعرفتهم "بعمالة الطرف الآخر للإنكليز".
وربما كان افتراضهم لهذا الاتهام وصحته مبنيا على بعض "الحقائق" التي عرفوھا بشكل مؤكد، ومنها مثلا:
- أن جيمس بلغريف المستشار البريطاني ، وممثل السلطة البريطانية ، والحاكم بأمره في البحرين، والذي كانت كراهية البحرانيين تتركز ضد شخصه بالذات ، ھو الذي توسط لدى الحاكم ليوافق على إصدار جريدة للحركة الشعبية.وقد كان بلغريف نفسه، في ذات الوقت ، عضوا في جمعية المساھمين في المجلة ، وعضوا في ھيئتها الإدارية أيضا ، ومسئولا عن الدعاية والنشر فيها. (18)
- قيام الإنكليز بدور الوسيط بين الھيئة التنفيذية العليا التي كانت تقود الحركة الشعبية من ناحية، وبين حاكم البحرين ، الشيخ سلمان من ناحية أخرى.. وقد ذكر السيد عبدالرحمن الباكر، أمين الهيئة التنفيذية وأبرز زعماء الحركة الشعبية ، أن الإنكليز كانوا يبدون عطفهم على القضية بأن معظم المطالب عادلة ، وأن ذلك يحتاج إلى وقت طويل.(19)
- ومما يؤكد براءة إخوان البحرين في نظر مواطنيهم أن أيا من الإخوان لم يحصل على منفعة مادية من تلك الأحداث ، مثل بعض المتزعمين في الحركة الشعبية الذين تبين أنهم كانوا على صلة سرية بالسلطات من وراء ظهر الحركة، فلما انجلت الأمور انكشفوا على حقيقتهم، وسرعان ما غدوا من أصحاب الملايين ، وقد ذكر أمين الحركة الشعبية أثنين من أولئك المليونيرات بأسمائهم .
ولقد كنت أحدث الإخوان في البحرين عن ضرورة تبني نهج التفاھم وبناء جسور الثقة مع الشيعة في بلدھم، منطلقا من أن الخلافات التاريخية لا ينبغي أن تحول دون اللقاء.
وكنت أھون من شأن الخلافات العقائدية في حدود ما كنت أعرفه آنذاك، ولم تكن معلوماتي كبيرة ، وأركز على أن الإسلام في خطر، وعلى أن كلمة "لا إله إلا لله" ذاتها مهددة في وجودھا ، أفلا ينبغي أن توجه الخصومة إلى أعداء الإسلام الذين يحرصون على تحطيم أمتنا وتقطيع أوصالها، توطئة لازدرادها قطعة إثر قطعة.
وكان الإخوان يردون بأنهم يودون ذلك ، ولكنهم لا يطمئنون لما يقوله الشيعة بسبب مسألة "التقية" عندھم ، أي عند الشيعة ؛ وكنت أرد على ذلك بأن التقية موجودة عند معظم الناس، حتى بالنسبة للسنة ، وأن لله سبحانه وتعالى ذكرھا في كتابه الكريم:" ... إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم لله نفسه ...)
فكانوا يقولون إن الشيعة يتوسعون فيها بإفراط. ولقد ذكر لي عبدالرحمن الجودر أن تعامله مع الشيعة ينبع من موقف متسامح من جانبه ، خاصة مع أھل عراد، التي كان يعمل مديرا لمدرستها ، وھم شيعة ، ولكنهم يقدرون له ذلك ، وله بهم صلات طيبة.
كذلك أشار إلى أن ھناك قلة من العقلاء من الشيعة ، وأن له بهم صلة وصداقة ، وذكر من ھؤلاء السيد تقي البحارنة والحقيقة أن المشكلة لم تكن بالبساطة التي تصورتها آن ذاك ، فالشكوك كانت وظلت متجذرة عبر القرون ، وما زالت كذلك.
وحرصا على اكتشاف الحقيقة، أو الاقتراب منها فقد بذلت كل جهد ممكن للإلتقاء المتكرر بنفر من الشيعة المتعلمين، وبعدد من الناصريين ، وطرقت في أحاديثي معهم كل المموضوعات، بما في ذلك موضوع الإخوان المسلمين في البحرين؛
وبطبيعة الحال لم أكن أظهرھويتي الحزبية ، بيد أنني كنت مؤمنا بكل كلمة قلتها، من حيث الرغبة في إزالة الخلافات المذھبية أو تحييدها ، والتعاون من أجل تحقيق كل الأھداف المتفق عليها ، مما يفيد البلاد ، أي بلاد من بلادنا العربية الإسلامية.
ولقد حرصت على أن أرافق بعض أصدقائي الشيعة إلى احتفالات "المأتم" ، وھو عبارة عن مبنى يجتمع في الشيعة في المناسبات الدينية ، وھو الذي يعرف في العراق ب "الحسينية"، لأستمع إلى الخطب والعظات التي كان يلقيها نفر من كبار وعاظهم الذين كانوا يحرصون على أن يجلبوھم من العراق .
ولقد كانت الشكوك عند الناصريين والشيعة تجاه الإخوان أكبر وأكثر حدة مما هى لدى الإخوان تجاه خصومهم. ومع ذلك فإنني لم أقطع علاقتي بأي من الفريقين ، لكن صلتي بالإخوان كانت أكبر وأكثر وثاقة وعمقا، بطبيعة الحال.
ويبدو أن بعض المواقف والإجراءات المتعلقة بالإخوان في البحرين فسرھا خصومهم تفسيرا سلبيا مبالغا فيه وھي لا تحتمل ذلك ، فقد سمح لهم بإنشاء ناد ثقافي أطلقوا عليه اسم "نادي الإصلاح الخليلفي" ، وكان رئيس النادي ھو الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة؛وبجانب ذلك فقد رقي اثنان من الإخوان العاملين في التربية فصار أحدھم مدير التعليم الإبتدائي ، بينما صار الثاني سكرتيرا لمدير التربية .
والواقع أن مثل ھذه الواقائع لا يمكن أن تثير أي شكوك في الأحوال العادية ؛ فالشيخ عيسى بن محمد آل خليفة آمن بفكرة الإخوان قبل إنشاء النادي بسنوات طويلة،وذلك عندما كان يدرس الحقوق في جامعة القاھرة ، وبعد عودته صار يعمل في إدارة العدل قاضيا.
أما الأخ الذي رقي إلى منصب مدير التعليم الإبتدائي فكان عمره أكثر من خمسين سنة قضى الجزء الأكبر منها في سلك التعليم، وقد نسيت اسمه. أما الأخ حسن السيد علي فقد كان رجلا مثقفا، في الثلاثينات من عمره ، وكان يدرس منتسبا لجامعة دمشق للحصول على درجة الماجستير في القانون بعد حصوله على "الإجازة" الأولى، أي درجة الليسانس.
والذي أراه ، ويمكن أن يراه أي إنسان يتوخى العدالة، أن ھذه الحالات الثلاثة لا تبرر أية تقولات أو تشكيك ؛ وفي اعتقادي أنه لو تولى ھذه المراكز أشخاص من الناصريين أو الشيعة لهم ظروف الإخوان الثلاث لما تعرض وضعهم للتشكيك .
وقبل مغادرتي البحرين في الخامس والعشرين من أيار (مايو) 1965 ، كان الإخوان قد بدأوا يستعيدون بعض عناصرھم التي كانوا فقدوھا في مطلع موجة المد الناصري ، كما أخذوا يكتسبون عناصر جديدة من الطلبة والشباب.
وقد علمت فيما بعد أن ھذا النمو ظل يتزايد ، خاصة على أثرخفوت وھج زعامة جمال عبد الناصر ، وما أصاب نظامه من هزائم طامنت من غلواء أنصاره.
أما عن سبب تركي للبحرين فهو أنني تلقيت تعليمات من قيادة التنظيم الفلسطيني تطلب مني الاستقالة من العمل، ثم التوجه إلى بيروت للعمل متفرغا لدى المكتب التنفيذي لقيادات الإخوان في البلاد العربية .
وقد تم ذلك بالفعل ، وغادرت البحرين إلى بيروت . والواقع أنني ظللت أحمل ذكريات طيبة لفترة عملي في البحرين ، ليس فقط لإخوان البحرين الذين أحببتهم وأحبوني، وعاملوني بكل مظاھر التكريم ، وإنما ظللت أحمل ھذه الذكريات لشعب البحرين عامة ، بمختلف قطاعاته .
ثانيا:المكتب التنفيذي لقيادات الإخوان المسلمين في البلاد العربية
كان المكتب التنفيذي يمثل القيادات العليا للإخوان المسلمين، وكان يتشكل من رئيس، ونائب رئيس، وأمين عام ، وأمين مالي، وأعضاء . أما صفات الأشخاص الذين كانوا يشغلون هذه المناصب فهم رؤساء التنظيمات الإخوانية في الأقطار العربية ، أو أن ذلك كان المفروض على الأقل .
وكان ذلك ھو الحاصل بالنسبة للسوريين والأردنيين واللبنانيين ، فكان الأستاذ عصام العطار ھو المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا ، وصار بجانب ذلك رئيسا للمكتب التنفيذي ، بينما كان الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة ، رحمه لله ، المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن،
وصار بجانب ذلك نائبا لرئيس المكتب كما صار الدكتور فتحي يكن رحمه أمينا عاما للمكتب التنفيذي، بينما ھو في لبنان يشغل منصب الأمين العام للجماعة الإسلامية .
أما الكويت والسعودية والسودان وتنظيم المصريين المقيمين خارج مصر فكان القادمون منها يتغيرون بين حين وآخر. فمن الكويت كان يأتي السيد عبدلله العلي المطوع ، أو السيد عبد الله العقيل ؛
ومن السودان جاء ممثلون كانوا يتغيرون من مرة إلى أخرى، أكثرھم ترددا كان الدكتور حسن عبد لله الترابي ، والسيد محمد صالح عمر، رحمه لله، والسيد عثمان خالد مضوي، وكان ممن جاء أيضا الدكتور جعفر شيخ إدريس ، والسيد عبد الرحيم حمدي، والسيد ياسين عمر الإمام ، وغيرھم.
فإذ وصلنا إلى العراقيين نجد لهم طريقا أخرى ، إذ كانت ظروف العراق في عقد الستينات من القرن العشرين صعبة ودائمة التوتر وتكرار الانقلابات العسكرية وسفك الدماء ، ولكل ذلك كان الإخوان العراقيون متحفظين بالنسبة لإظهار شخصيات مندوبيهم ، وكثيرا ما كانوا يستعملون أسماء غير حقيقية، أو مجرد ألقاب .
وقد عرفت بعضا منهم فيما بعد، أي بعد انتهاء عملي في المكتب التنفيذي، وتغير ظروف حياتهم. أما تنظيم الإخوان المصريين المقيمين خارج مصر، فقد كان يمثلهم أشخاص يتغيرون أيضا ، كان منھم الدكتور محمد توفيق الشاوي، رحمه لله ، وآخرون اختلطت علي أسماؤھم بعد تعاقب السنين.
ولم يكن التنظيم الفلسطيني ممثلا في المكتب التنفيذي في بداية عملي مع المكتب، إذ كنت مجرد متفرغ للقيام بأعمال بحثية ، أو ما أكلف به غيرها ؛ وقد تغير ذلك سنة 1966 فصرت عضوا في المكتب ممثلا للتنظيم الفلسطيني ، بجانب وضع التفرغ.
لم أكن قد التقيت بالإستاذ عصام العطار قبل وصولي إلى بيروت أوائل صيف عام 1965 فيما عدا لقاء قصير كان في أوائل أيلول 1964 بينما كنت في طريق عودتي من جنيف إلى البحرين، ولم يستغرق ذلك اللقاء اكثر من نصف ساعة ، في بيته في مصيف عاليه إلى الشرق من بيروت.
بيد أنني كنت أسمع به على البعد ، زعيما إخوانيا بارزا وشجاعا في مواجهة كل ظروف الطغيان. وبعد وصولي متفرغا توثقت صلاتنا بسرعة ، فقد لمست فيه الأدب الجم، الأدب بمعنييه، والدماثة والكرم، والنخوة والشهامة المعروفة عن كرام السوريين.
ومضت أيامنا تقوي من ارتباطي به وتقديري له، فقد كنا نلتقي يوميا في العادة وربما التقينا أكثر من مرة في اليوم الواحد ، وكانت أكثر اللقاءات في بيته، وأقلها في بيتي، وكان البيتان متقاربين في رأس بيروت ، ھو في حي قريطم وأنا في حي الصنوبرة.
وأحيانا كنا نخرج لنتمشى سيرا على الأقدام إلى ساحل الروشة ، فنمضي ساعة أو ساعتين ثم نعود . وكان السوريون يترددون على الأستاذ عصام كثيرا ، ولم يكن زواره من الإخوان فحسب دائما ، بل ومن غيرھم أيضا من الزعماء السياسيين.
وفي جو هذه العلاقة المفعمة بالثقة كان .يصارحني أحيانا بمشاكله مع مسئولي الإخوان من الأقطار العربية ، ويتحدث عن انطباعاته عن الأشخاص والمجموعات. أما عن قيادي الإخوان السوريين الذين كانوا يأتونه من سوريا فقد كانوا يعاملونه باحترام وتقدير شديدين .
عملي لدى المكتب التنفيذي:
- كان عملي لدى المكتب التنفيذ يكاد ينحصر في مهمتين: أولهما رصد الأحداث التي تهم الحركة الإسلامية وجمع المعلومات عنها من الصحف والمجلات والمكتبات العامة ، وبالتالي تكوين أرشيف بالتدريج ؛
- أما المهمة الثانية فتمثلت بالقيام بأبحاث ودراسات حول بعض القضايا التي تهم الحركة وذلك من خلال المعلومات التي أجمعها عنها ، سواء من الصحف والمجلات ، أو من المكتبات العامة التي كنت ألجأ إليها لاستكمال المعلومات.
- والواقع أن كل الأبحاث التي كتبتها كانت حول القضايا المهمة من وجهة النظر الإخوانية مثل الانقلاب الذي قام به هواري بو مدين رحمه الله ضد السيد أحمد بن بلا رحمه لله، وتغير به وضع الحكم في الجزائر؛
وسقوط أحمد سوكارنو في إندونيسيا ، وحادثة اغتيال الحاج أحمد بللو ، رحمه لله رئيس وزراء نيجيريا الشمالية في كادونا بنيجيريا ، وموضوعات أخرى مما يهم الإخوان ، بما في ذلك أخبار مصر وما يجري للإخوان. فيها. وقد استمر عملي على ھذا النحو حتى يوم 12 آذار (مارس) 1966
بعض القضايا التي شغلت المكتب التنفيذي
- في شهر آب (أغسطس) 1965 بدأت السلطات في مصر حملة اعتقالات طالت أعدادا كبيرة من منتسبي الإخوان المسلمين ، وأصدرت بيانات اتهمتهم فيها بالشروع في إعداد مؤامرة ضد نظام الحكم ، وأتبعت ذلك باتهامهم بأنهم على علاقة مع دول أجنبية، وغير ذلك من الاتهامات المعروفة في مثل ھذا السياق. وقد سالت الصحف المصرية أنهارا بالتقارير والبيانات والصور لتأكيد الاتهامات ، ولتشرح كيف تمكنت أجهزة الأمن من القبض عليهم وإفشال خطتهم.
وقد وجدت هذه الحملة صدى واسعا في البلاد العربية ، خاصة بين مسلمي لبنان ، الذين كان كثيرون منهم يضعون جمال عبد الناصر في مصاف الأنبياء ، ويرون نظامه بين المقدسات التي لا ينبغي أن يقترب منها أحد بسوء .
وإذ كان مقر رئيس المكتب التنفيذي في بيروت فقد نشط الإخوان في العاصمة اللبنانية ،المقيم منهم والزائر القادم من الخارج ، كما اجتمع المكتب لدراسة ما يمكن عمله ، وأصدر بيانا نفى فيه أن يكون الإخوان في مصر قد قاموا بأية مؤامرة ، أو جمعوا أية أسلحة أو قاموا بأي عمليات تدريب كما ورد في بيانات أھل الحكم في مصر .
وكان مما قاله البيان الإخواني:
- "إن الإخوان المسلمين في مصر لا علاقة لهم البتة بأية مؤامرة أو سلاح مختزن ولسوف يكشف عن ذلك بصورة قاطعة أي تحقيق نزيه عادل". (20)
وقد كثر تردد الإخوان البارزين على بيروت في تلك الفترة ، ممن نشطوا وانهمكوا في الرد على حملات النظام في القاھرة، وأخذوا يوزعون ويعدون البيانات والنشرات، وينظمون حملة مضادة تعاونهم فيها الجهات المتعاطفة مع الإخوان.
ويبدو أن هذا النشاط قد لفت نظر السفارة المصرية، وعناصر المخابرات المصرية خاصة، والتيار المؤيد لجمال عبد الناصر في لبنان ، فنشطت الصحافة اللبنانية الناصرية واليسارية بشكل عام في القيام بحملة إثارة وتخويف ضد الإخوان المسلمين.
وقد بلغت الحملة وتأثيرھا على الرأي العام بين مسلمي لبنان درجة أشعرت بعض الشخصيات الإسلامية أن الخطر تخطى مرحلة الكراهية إلى احتمالات التعرض للهجوم الجسدي، حتى أنني سمعت السيد زهير الشاويش، وهو من الشخصيات الإخوانية السورية البارزة ، ومن دمشق، ومن حي الميدان العريق ، سمعته يقول للأخ عصام بأن يتخذ شيئا من الحيطة ، ويحذره من الخروج في الشارع العام دون اتخاذ الاحتياطات المناسبة؛
وكان مما قال له:
- " أخي ممكن أي واحد من المسلمين السنة المتعصبين لعبد الناصر أن يهاجمك وھو يشعر أنه سيتقرب إلى لله بقتلك."
والظاهر أن مصر ضغطت على لبنان لحمله على إيقاف النشاط الإخواني المعادي الذي اتخذ من بيروت ساحة نزال ، ولم يسع لبنان إلا الاستجابة، وذلك لاعتبارات كثيرة.
بيروت تعتقل بعض الشخصيات الإخوانية:
وهكذا قامت قوات الأمن اللبنانية في الثاني عشر من شهر آذار (مارس) 1966 باعتقال كل من الأستاذ عصام العطار ، والدكتور محمد توفيق الشاوي ، والأستاذ عمر بهاء الأميري ، كما اعتقلت الأستاذ زيد بن علي الوزير، وھو يماني لم يكن من الإخوان، بل كان من قادة ما سمي ب "القوة الثالثة" في اليمن ، ثالثة بعد الجمهوريين، وبقايا النظام الإمامي.
وكانت القوة الثالثة امتدادا للحركة التي أطاحت بالإمام يحيى حميد الدين سنة1948 التي أيدها الإخوان المسلمون في مصر، وأرسلوا وفدا إلى صنعاء وقتئذ تعبيرا عن ھذا التأييد .
ويبدو أن عملية الاعتقال في بيروت قصد بها أن تكون ضد عدد من الشخصيات الإخوانية البارزة التي يمكن أن يرضي اعتقالها الجهة الضاغطة، ولم أكن كذلك، فلم أعتقل، وإنما اكتفي بتفتش بيتي مرة عند الفجر ، بحجة البحث عن شخص ذكروا لي اسمه ، وأظن أن الإسم والشخص كان وھميا ، وأن العملية قصد بها تحذيري ،والتأكد من عدم وجود شئ يحذر منه داخل البيت .
وبعد ما يقرب من ثلاثة أيام من اعتقال الأستاذ عصام وصحبه جاءت إلى بيتنا زوجته، السيدة بيان، أم أيمن رحمها لله ، وأخبرت زوجتي أن أبا أيمن ، عصام، يطلب أن أغادر لبنان.
والواقع أنني لم أجد من المروءة أن أغادر وھو رھن الاعتقال ، سيما وأنني متأكد من عدم وجود أية مخالفات من جانبي ولا من جانبه ، كما أنني لم تكن لدي معلومات سرية أو خطيرة يخشى عليها أو منها ؛ ولذا فإنني لم أغادر.
ولكن عندما عادت أم أيمن بعد يومين تؤكد التعليمات غادرت متجها إلى الأردن. وقبل مغادرتي قامت عدة ضغوط من داخل لبنان وخارجه لإقناع السلطات اللبنانية بالإفراج عن المعتقلين ، فأفرج عنهم في الثلاثين من آذار 1966 ، أي بعد أكثر من أسبوعين من اعتقالهم ،ورحلوا من لبنان ، باستثناء الأستاذ عمر بهاء الأميري رحمه لله الذي خضع لعملية جراحية؛
وقد زرته في مستشفى البربير ، ووجدت عنده زائرا آخر سبقني وھو سماحة الحاج أمين الحسيني ، الزعيم الفلسطيني التاريخي المعروف ، رحمه لله . وبعد مغادرته لبنان استقر الأستاذ عصام العطار في عمان، في الأردن . أما الأستاذ الأميري، السفير،والشاعر الكبير فقد غادر لبنان بعد أبل من أثر العملية، واستقر في المغرب.
ثانيا:فكرة التعاون مع فتح:
- وكان ذلك أيضا في أواخر عام 1965 ، وجرى في اجتماع المكتب التنفذي الذي عقد في بيروت حوالي شهر تشرين الأول (أكتوبر)، أو قريبا من ذلك .
- لقد طرح موضوع التعاون مع فتح من قبل تنظيم الإخوان المسلمين المصريين في الخارج. ولم أكن وقتئذ عضوا في المكتب، بل كنت مجرد متفرغ للقيام ببعض الأعمال التي أشرت إليها في غير هذا المكان.
- ولكن لأن الموضوع كان يتعلق بفتح والعمل الفدائي فقد طلب إلى الأستاذ عصام أن أشارك في الاجتماع لأوضح وجهة نظر الإخوان الفلسطينيين وموقفهم ، ولم يكن التنظيم الفلسطيني ، حتى ذلك الوقت ، قد انضم إلى المكتب التنفيذي.
- كان الإخوان المصريون ، يشاركھم الإخوان الكويتيون، يعتقدون أن حركة فتح إخوانية. وبينما كانت العلاقة بين الإخوان الفلسطينيين وفتح تتسم بالتوتر دائما للأسباب التي بينت من قبل كانت علاقة فتح مع كثير من قيادات التنظيمات الإخوانية الأخرى،ومع بعض الشخصيات الإخوانية المعروفة البارزة ، على النطاق الفردي، علاقات ودية، بل يمكن القول إنها كانت حميمة في كثير من الحالات ، ومن جانب واحد ھو الجانب الإخواني دائما .
- لقد ظل عدد من الإخوان غير الفلسطينيين بما في ذلك إخوان أردنيون من أصل فلسطيني ينظرون إلى فتح باعتبارھا حركة إخوانية، ويحتفظون لكل من قادتها بلقب "الأخ" الذي كانوا يشيرون إليه به أيام انتمائه للإخوان. بل لقد كانوا يصرون على اعتبار السيد ياسر عرفات نفسه أخا مسلما ، أي من الإخوان المسلمين.
- وكان من الطبيعي والمنطقي أن يحرص الفتحاويون على استمرار ذلك الاعتقاد ، مادام في الإمكان ألا يكلفهم أي التزام ، إذ أنهم لم يكونوا ملزمين بأن يتطوعوا بإفهام الإخوان غيرالفلسطينيين بعدم التزامهم بأھداف حركة الإخوان المسلمين، لسبب واضح ، وھو أنهم لا يسعون إلى ضم الإخوان غير الفلسطينيين إلى حركة فتح ، في تلك الفترة المبكرة على الأقل.
- إن كل ما تأملوا أن يحصلوا عليه آنذاك هو الدعم المادي والمعنوي، ولقد كانوا يحصلون من أولئك الإخوان ، أو بواسطتهم ووساطتهم على مساعدات كبيرة بالنسبة لوارداتهم في تلك الأيام. وقد كانت المساعدات بالمال أحيانا ، وبالنفوذ والتوسط أحيانا أخرى ، من أجل حل بعض المشكلات والمآزق التي واجهتها فتح .
- ولعل من أبرز الأسماء الإخوانية التي عاونت فتح بصورة أو أخرى خاصة في سنيها المبكرة السيد عبدلله العلي المطوع من الكويت؛ والدكتور عزالدين إبراهيم ، والدكتور محمد توفيق الشاوي من مصر ، والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري من سوريا ، والسيد محمد خيضر رحمه لله من الجزائر ، وغيرھم كثيرون.
- ولقد أخبرني الدكتور عز الدين إبراهيم رحمه الله أن محمد خيضر عرض أن يحول إلى حركة "فتح" المبالغ المالية التي كانت في عهدته من أموال جبهة التحرير الوطني الجزائرية منذ الأيام السابقة على استقلال الجزائر.
- وقد جرى العرض بعد اضطرار محمد خيضر إلى الخروج من الجزائر على أثر خلافه مع بومدين ، وقبل فترة قصيرة من اغتياله . تلك ھي الخلفية التي ارتكزت عليها العلاقات مع فتح بالنسبة لتنظيمات الإخوان غير الفلسطينيين .
- لقد أوضحت موقف التنظيم الفلسطيني من العلاقة مع "فتح" شفويا أثناء اجتماع المكتب التنفيذي ، ذلك الاجتماع الذي انعقد في تشرين الأول (أكتوبر) 1965 ، مع تفسير مقتضب بالقدر الذي سمح به الوقت لأن الموقف الفلسطيني كان يبدو مستغربا..
- سيما عندما يتهامس كل من التنظيمات الإخوانية غير الفلسطينية مع ذاته:"نحن نريد أن نساعد الفلسطينيين والإخوان الفلسطينيون لا يريدون ذلك !" ولذلك (21) كان شرح الموقف الفلسطيني يحتاج أن يكون مقترنا بالحيثيات والمبررات.
- ثم إنني ما لبثت أن قدمت للاجتماع في يوم انعقاده الثاني مذكرة مكتوبة فيها شرح أوفى، مع عدم الاطناب في التفاصيل. ولم يبد غير ممثل الإخوان المصريين حماسة للفكرة المطروحة، لكن الممثل الأردني اقترح تأجيل الموضوع لاجتماع قادم قائلا : "حددوا موعد آخر كي نتمكن من إحضار بعض خبرائنا العسكريين لشرح المضامين التي ينطوي عليها الموضوع من الناحية العسكرية" .
- والحقيقة أن موقف الإخوان الأردنيين من نشاط "فتح" حتى ما قبل حزيران 1967 اتسم بالاستخفاف الشديد المصحوب بالتندر والتهوين من شأنها ؛ وكان من مظاھر التندر قولهم:إن ھؤلاء يستأجرون بعض المهربين ليطلقوا بعض الطلقات النارية ، أو لينسفوا أنبوب مياه ، ثم يعملون من الحبة قبة.
- ثم توقف الحديث عن الموضوع في اجتماعات المكتب التنفيذي ولم يلق اھتماما إلا بعد أشهر من ھزيمة حزيران (يونيو) 1967 م. ومع ذلك بقيت صلات "فتح" بمن كانت تتصل بهم من الإخوان غير الفلسطينيين ، إلا أنني لم أطلع على ما كان يدور فيها؛
- ولم أحاول أن أستكشف ما دار ، حتى عندما رأيت السيد خليل الوزير، رحمه لله ، يأتي لزيارة الأستاذ عصام العطار في بيته في رأس بيروت ، وكنت إذ ذاك عند الإستاذ عصام في بيته، وقابلت أبا جهاد عند خروجي ودخوله ، فتصافحنا ، ومضيت إلى بيتي ، ولم أحاول أن أسأل الأستاذ عصام بعدها عن الموضوع، كما أنه لم يتحدث عنه من جانبه.
- وفي زيارة أخرى للأستاذ عصام التقيت عنده صديقنا الدكتور احمد صدقي الدجاني رحمه لله؛ وأبو الطيب كان من الإخوان في سوريا ، ثم انضم إلى فتح، وكنت قد التقيته أول مرة حوالي سنة 1961 عندما حضرت مناقشة أطروحته لرسالة الماجستير في جامعة القاهرة، ولعل موضوعها كان حول الزوايا السنوسية في ليبيا ؛ ثم تكررت لقاءاتنا في السبعينات والثمانينات ، خاصة في اجتماعات المجلس الوطني والمجلس المركزي الفلسطيني.
عودة إلى موضوع الجهاد والعلاقة بفتح بعد 1967
- بعد أشهر من ھزيمة حزيران برزت فتح عند كثيرين من العرب, وليس الفلسطينيين فحسب ذبالة أمل وسط جو الانهيار والإحباط النفسي الشامل، الذي خيم على عالمنا العربي . وما لبثت فتح والعمل الفدائي الذي جسدته ورمزت إليه ، أن أحرز مكانة عالية في خيال ووعي الجماھير العربية.
- وقد فرض الفدائيون أنفسهم على العالم العربي، المفلس والعاجز سياسيا وعسكريا ، مستفيدين في بادئ الأمر من وجود الفلسطينيين الذين ھجروا إلى الأردن في ظروف كارثتي 1948 و 1967 وعندما طفح الوعاء في الأردن على النحو المعروف سنة 1970 م اضطروا للإنتقال إلى لبنان مستفيدين من وضع التركيبة السياسية القلقة والمعروفة بالقدر الذي يغنينا ، أو يعفينا ، من شرح أي من تفاصيلها.
- ولسنا هنا في مجال الحديث عن العمل الفدائي أو عن المقاومة الفلسطينية وإنما يعنينا أن (22) تتبع أثر ھذا التطور على حركة الإخوان المسلمين العامة وعلى رد فعلها تجاهه ، ليس في إطارھا الفلسطيني، بل في إطارھا العربي..
- لقد أدى التطور الذي تبع انهيار 1967 إلى تغير كثير من المواقف، وكان مما غشيه التغيير واجتاحه مواقف بعض التنظيمات الإخوانية من حركة المقاومة الفلسطينية من حركة فتح بالذات.
- ولا مراء في أن الظروف التي استجدت على الساحة الأردنية كان لها أبعد الأثر في إحداث التغيير بالنسبة للإخوان، فقد أصبحت الأراضي الأردنية تعج بالمنظمات الفدائية الفلسطينية التي بلغ عددھا ما يقرب من عشرين منظمة .
- وكانت فتح أقوى المنظمات دون منازع ، ولكن حركات عقائدية وأحزاب وأنظمة حاكمة حرصت على أن لا تترك "فتح" مستقلة عن الأحزاب والحكومات، كما تصور مؤسسوھا، بل سعى كل ھؤلاء لفرض نفسھم على الساحة حتى لا تسير الأحداث من غير أن يكون سنة 1957 لهم تأثير فيها.
- وقد حرصت على أن يكون لها وجود بشري مسلح في الساحة الأردنية بالذات ، الميدان الرئيس لنشاط فتح والعمل الفدائي. وبدا في أفق الأردن ، وفي تصور بعض المراقبين، وكأن السلطة الحكومية الرسمية قد انحسرت إلى حد كبير وتحولت القوة الفعلية إلى أيدي منظمات المقاومة التي لم يتردد أكثرھا في إظھار التحدي للسلطة الأردنية، أو في التدخل الفوقي في حياة المجتمع والأفراد،استنادا إلى ما حازته بعض المنظمات من مظاھر وأدوات القوة .
- وكان موقف السلطة يبدو وكأنها اختارت موقف المداراة وقبول الأمر الواقع ؛ واعتقد كثيرون متوھمين أن السلطة الفعلية في البلد صارت في أيدي المنظمات الفدائية، وأنه لن يمضي وقت طويل حتى تئول السلطة من الناحية الشكلية أيضا إلى حركة المقاومة. (23)
- وفي ھذا الجو انطلقت موجة اھتمام بعض تنظيمات الإخوان المسلمين غير الفلسطينين بحركة المقاومة، وأصبح موضوع العمل الفدائي الشغل الشاغل لاجتماعات المكتب التنفيذي للإخوان في البلاد العربية، ولمؤتمر قادة الإخوان في البلاد العربية.
- وكانت الفكرة باختصار تدعو لأن يقام وجود عسكري للإخوان المسلمين في الأردن، وأن يقوم الإخوان بإنشاء معسكرات لهم للتدريب أولا ، ثم لمباشرة العمل الفدائي.
- والذي حمل لواء الدعوة لذلك باندفاع ظاھر وحماسة وقوة ھم الإخوان الأردنيون، والسودانيون، والمصريون (خارج مصر)، والكويتيون. أما الباقون، فقد وقف السوريون واللبنانيون والعراقيون موقفا غير واضح، بينما اعترض الفلسطينيون على المشروع لأسباب عملية وموضوعية شرحوھا في مذكرة مطولة جرى توزيعها على قيادات الإخوان في البلاد العربية.
وقد تضمنت تلك المذكرة مناقشة للمشروع يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- لم يكن اعتراض الإخوان الفلسطينيين على المبدأ ، فهم يؤمنون بأن قتال العدو المعتدي المحتل الغاصب فرض ديني، وواجب وشرف وطني لا يصح التقصير فيه أو التقاعس عنه.
- لقد رأى الإخوان الفلسطينيون أن الصراع القتالي ضد الغزاة في تلك المرحلة لا بد أن يسير في خطين أو مسارين متوازيين ، وذلك بحكم الواقع المادي والعملي: فهناك مقاومة الاحتلال من الداخل ، أي من قبل سكان المناطق المحتلة ، مع ما يستلزمه ذلك من إمداد بالسلاح والذخيرة ، والتموين ، وكل أنواع الدعم التي تعين على الصمود والاستمرار في الضغط على المحتل وإرباكه وتعريضه لخسائر متصاعدة باستمرار، . وھناك التحرك من الخارج لمھاجمة العدو عبر الحدود وإخراجه بالقوة .إن كلا من ھذين المسارين لا بد له من قدر من الإعداد الضروري والمستلزمات التي تجعل تنفيذه ممكنا. وإذا كانت المقاومة الداخلية عملا تلقائيا لا تحتاج إلا إلى المساندة والإمداد ، وذلك لأن وجود الاحتلال نفسه يشكل استفزازا دائما للناس المقهورين تحت وطأة ھذا الاحتلال ، فإن المسار الثاني ، أعني التحرك من الخارج ، يحتاج إلى إعداد أكبر ، وخطة أكثر إحكاما ووثوقا. وأول خطوات الإعداد لا بد أن تتجسد في توحيد القوى الموجودة في الجانب العربي من ساحة المعركة ، على أية صورة كان ذلك التوحيد. فالمهم أن يتوفر الحد الأدنى منه حتى لا نقدم على الاشتباك مع العدو ونحن ممزقون فنهيئ له الفرصة لاجتياحنا وفرض مزيد من الإذلال علينا. لقد كان الإخوان الفلسطينيون مقتنعين بأن المسار الثاني في عملية المواجهة ينبغي أن يأخذ شكل معركة عربية شاملة. فإذا حشد العرب لها كل، أو جل طاقاتهم، وعضدوا ذلك بإخلاص النية وإتقان الأسلوب، واعتمدوا قبل ذلك وبعده على لله تعالى وطلبوا منه النصر، تحقق لهم ذلك بإذن لله.فإذا لم يتوفر الحشد العربي الشامل، فلا أقل من أن تكون القوى الموجودة في الساحة الأردنية متحدة متفاھمة، ولو في الحد الأدنى الضروري من التفاھم ، حتى يكون بإمكانها أن توجه طاقاتها وكل اھتماماتها لمقارعة العدو ؛ أما أن نصطدم بالعدو ونحن عبارة عن كتل صغيرة يتربص بعضنا ببعض، وتنتظر كل واحدة من القوى الصغيرة ساعة غفلة من قوة أخرى تقف معها في نفس الخندق كي تفاجئها بالانقضاض عليها، فإننا لن نحصد في ھذه الحالة سوى الفشل والبوار. وإذا كان الاصطدام بالعدو في ھذه الظروف سوف يسبب له بعض الإزعاج والخسائر، إلا أنه في الوقت نفسه سوف يهئ الفرصة لهذا العدو لكي ينزل بنا خسائر أكبر، ويغتصب منا مزيدا من الأرض ، ويصيبنا بمزيد من اليأس والإحباط .
- ولقد أغرقت بعض الأنظمة العربية الحاكمة، والأحزاب العقائدية المسنودة من دول عربية أوأجنبية ، والمغامرون والمشبوھون ، كل أولئك ، أغرقوا ساحة العمل الفدائي في الأردن بالمنظمات التي لا ھم لكثير مهم سوى أن تكون موجودة لتمثل مركز قوة لهذه الحكومة أو ذلك الحزب، وتنفيذ خطة مشبوهة لتفجير الصراعات الداخلية البينية ، أو لوضع حركةالمقاومة في مأزق، وجرھا إلى الصدام مع السلطة؛ وھذه لعمر الحق أسوأ صورة من صور التمزق، صورة طافحة بالأنانية الضيقة، والنظر القصير ، والكيد والتربص بالأخ قبل العدو .. التربص بمن يفترض فيهم أن يكونوا إخوة السلاح.
- إن الجو العام في العالم العربي ، الرسمي والشعبي ، معاد للإخوان امتدادا لمعاداة جمال عبد الناصر ونظامه لهم ، على الرغم من ھزيمة حزيران. ثم إن حركات اليسار العربي الممثلة بالجبهة الشعبية بتفرعاتها، ومنظمة الصاعقة المدعومة من حزب البعث السوري ، وجبهة التحرير العربية المدعومة من حزب البعث العراقي، كلها معادية للإخوان ، وستبذل كل ھذه القوى جهودھا دون كلل ، أجل تحطيم الإخوان ومنعهم من أن تصبح لهم قوة عسكرية، أو وجود سياسي مؤثر؛ ھذا فضلا معاداة الدول الأجنبية شرقية وغربية، لحركة الإخوان المسلمين.
- إن كل الإرهاصات والدلائل التي يوحي بها تصرف السلطة الأردنية وسلوك المنظمات الفدائية تنذر بأن الصدام واقع لا محالة بين الجانبين؛ خاصة وأن عددا من المنظمات لا تخفي دعوتها الصاخبة وسعيها المحموم لضرب الوضع الأردني القائم والقضاء عليه، كي يتحقق شعارھا "كل السلطة للمقاومة" ، ذلك الشعار الذي حملته مئات الملصقات التي كان يراھا المار في شوارع عمان الرئيسية، وقد رأيتها وغيري عندما كنت آتي للمشاركة في الاجتماعات . فإذا حدث الصدام الشامل الحاسم فإن النتيجة لن تكون في صالح الجهاد المخلص والمقاومة الحقة، سواء انتصر ھذا الجانب أو ذاك ؛ لأنه حتى في حالة انتصار الممنظمات فإن أول أعمالها بعد "النصر" ستكون مباشرة عملية تصفية واسعة بعضها ضد البعض الآخر، مشجعة من القوى الخارجية المختلفة التي تدعمها وتوجهها، وسيكون الإخوان أول ضحايا عملية التصفية. وحتى لو افترضنا أن إحدى المنظمات ستنتصر فإن ذلك سيكون نهاية العمل الفدائي، إذ لا بد من سلطة واحدة في البلد، وستغرق تلك السلطة في مسئوليات الإدارة والتموين وتوفير الضروريات المختلفة للشعب ومؤسسات الدولة ، كما أنها ستصبح ملزمة بالأعراف والقوانين والأنظمة التي يقرها المجتمع الدولي ؛ فإن لم تفعل وظلت تتبع طريق المنظمات فإن الأرض عندئذ ستصبح مباحة ليس لإسرائيل وحدها ، بل ولكل القوى المعادية لأمتنا ، وقبل ذلك لقطبي القوى الكبرى التي تتنازع السيطرة على العالم ؛ وعندئذ سيقف حاجز التوازن الدولي دون حصول القوى العربية على الدعم السوفييتي المعنوي أو المادي.
- ولقد تضمنت المذكرة الفلسطينية مقارنة بين نضال الفييتناميين ضد احتلال أميركا لبلادھم ونضال الفلسطينيين المنتظر ضد الاستعمار الإستيطاني الصهيوني، وخلصت المقارنة إلى القول بأن ما يمكن تحقيقه في فيتنام لا يمكن تحقيق مثله في فلسطين، وذلك لاختلاف الحقائق الواقعية من النواحي الجغرافية والسياسية والعسكرية بين الحالتين.وكان سبب تعرض المذكرة لموضوع فييتنام أن بعض الداعين لتبني إنشاء المعسكر وقوة إخوانية فدائية كانوا يشيرون إلى النجاحات والأنجازات الفييتنامية ، ويظنون في أنفسهم القدرة على فعل الشئ نفسه.وقد تعرضت المذكرة لحملة شديدة من جانب المتحمسين لتأسيس المعسكر والقوة المقاتلة من الإخوان ، كما تعرض كاتب ھذه السطور لحملة شخصية ، نظرا لأنه أعد المذكرة، ولأنه كان يمثل التنظيم الفلسطيني الذي يتبنى الموقف الذي عبرت عنه. وعنما حاولت تحليل المواقف، والبحث عن الأسباب والدوافع تبين لي أن أخواننا المسلمين في الأردن كانوا متخوفين على أمنهم الذاتي، وكانوا يتوجسون شرا وشيكا.
وھذه النظرة لم تكن تشاؤمية أو خيالية ، بل كانت أقرب إلى فهم الواقع القائم في الميدان، وإلى استشفاف تطوراته المقبلة ؛ وكان الحق في ذلك معهم، بيد أنهم استنكفوا أن يعلنوا ھذه المخاوف، وفضلوا وضع خطة وأدوات مواجهتها في سياق آخر؛ ولو أن المشكلة ووجهت تحت عنوانها لتناقصت نقاط الخلاف.
والفرق العملي في ھذه الحالة التي تعرض على مائدة البحث أن أھداف الممارسة وحدودها واضحة، مما لا يوقع الجميع والقضية في متاھة لا حدود لها، وستكون له عواقب أخرى عند اكتشاف الخطأ في تحديد الأھداف.
وأنا لا أملك دليلا ماديا أو موثقا على صحة ھذا التحليل ، لأن كل ما استندت إليه ھو بعض فلتات اللسان، بالإضافة إلى معطيات الواقع القائم على الأرض؛ وقد أشرت إلى ھذا الاستنتاج أثناء الاجتماعات؛
فتساءلت عما إذا كانت المشكلة والهدف المقصود يتوفر في قوة تحقق الأمن للإخوان في الأردن، وقلت إنها إن كانت كذلك فيجب علينا أن نناقشها ضمن ھذا الإطار وعلى أساسه ، مع التأكيد بالتزامنا جميعا بتحقيق ھذا الهدف؛ غير أن إشارتي تم تجاھلها واستمر التناول والبحث تحت العنوان الآخر .
ولم ينتظر أنصار المشروع موافقة المترددين والمعارضين، بل أنشأوا معسكرا للتدريب جاعلينه تحت راية واسم منظمة "فتح" وليس تحت اسم أو شعار إسلامي.
وعلى الرغم من الموقف المبدئي للتنظيم الفلسطيني إلا أنه قد ساھم بدعم مالي، في حدود ما توفر له من مال آنذاك، مصدره اشتراكات أعضائه الشهرية، وتبرعات من كانت لديه قدرة على التبرع، وذلك للتأكيد على معنى الرباط والتعاضد الأخوي، ولكن مع التمسك المعلن بوضوح بموقف المعارضة ، وبعدم المشاركة العملية بأي عنصر من أعضائه.
وكان العضو الفلسطيني الوحيد الذي شارك بنفسه في القتال، ونال الشهادة، ھو الأخ إبراھيم عاشور رحمه لله، إذ كان في العراق لفترة طويلة منقطع الصلة والمعرفة بموقفنا، وهو من أهل بلدتي يبنا، وكان من سكان مخيم رفح ، ولقد اضطر لهجرة ثانية إلى العراق بعد أحداث سنة 1955 وعمليات التسلل لمهاجمة مواقع العدو ، وما جرى من اعتقال خليل الوزير رحمه لله، من قبل قوات الأمن في قطاع غزة، وتعذيبه، كما أشرنا في فصل سابق. وعندما سمع إبراھيم بإنشاء المعسكر في الأردن جاء والتحق به.
لم يتوقف إلحاح أنصار مشروع المعسكر وضغطھم على المترددين (العراقيين والسوريين) ،فانعقد مؤتمر جديد في عمان حضره ممثلون عن جميع الأقطار الممثلة في المكتب ، وكان المفروض أن يمثل كل تنظيم بثلاثة ممثلين، وقد شارك معي من التنظيم الفلسطيني الأخ الدكتور المهندس عدنان النحوي، متعه الله بالصحة والعافية، وأخ آخر أنسيت اسمه، غير أن بعض الأقطار مثلت بشخص واحد فقط .
ولست أذكر على وجه الدقة التاريخ الذي انعقد فيه ذلك المؤتمر لكن التاريخ الذي أرجحه أنه كان في الربع الأول من سنة 1969 . وقبل بداية الجلسة الأولى انتحى بي الأستاذ عصام العطار جانبا، وأكد لي أنهم يتفقون معنا في كل ما جاء في مذكرتنا، وكان يتحدث باسم التنظيم السوري من موقع المراقب العام للإخوان في سوريا
"ولكننا نريد أن نحافظ على وحدة الإخوان، وأن لا نترك إخواننا وحدھم حتى لا تضل بهم السبل"، ثم طلب مني، وبأدبه الجم، في صيغة رجاء، أن ألتزم الصمت خلال الاجتماعات، وأترك له علاج الموقف بأسلوبه الخاص؛ وقد وعدته ووفيت.
وعقدت الجلسة الأولى، وأعلن الأردنيون والسودانيون والعراقيون والكويتيون واللبنانيون أنهم موافقون على الخطة، وأعلنت تمسك الفلسطينيين بموقفهم الذي بينوه في الاجتماع السابق، من غير إطالة.
وبدا الإخوان الأردنيون والكويتيون سعيدين بهذه النتيجة، وأبدوا حرصهم على إنهاء النقاش في الموضوع ، وكان الحرص ينم عن تخوف من تفلت بعض التنظيمات فيما لو استمر النقاش؛
ولذلك فقد اعترض ممثلو التنظيمين عندما انبرى المندوبان السودانيان، الأستاذ محمد صالح عمر رحمه الله ،والأستذ عثمان خالد مضوي، وأخذا يطالبان كل وفد بأن يبين بجلاء مقدار المساھمة التي ينوي تقديمها، من الرجال والمال.
وقد أصر الإخوان على تلقي إجابات واضحة، وكأنھما كانا متشككين في جدية الموافقة ، ھذا بينما حرص الآخرون على إنهاء النقاش، والاكتفاء بما تم إعلانه.
ومع أصرار الممثلين السودانيين اتجها إلى الأستاذ عصام طالبين منه الإفصاح عما سيقدمه التنظيم السوري. ويبدو أنه وضع في زاوية مغلقة ، فبذل محاولة للتخلص لم تكلل بالنجاح، فاضطر إلى إجابة واضحة فقال بشأن المال : "إن في مدينة حلب مائة معتقل من الإخوان، وأن الجماعة مثقلة بالصرف على عوائلھم، وقد تلقت مساعدة من التنظيم الكويتي لسد العجز"، واستشهد بممثل الكويت المشارك في الجلسة.
أما عن عدد الرجال، فقال:
- "لقد صدر في سوريا مؤخرا قانون يحظر على أي سوري السفر إلى الأردن إلا إذا أثبت أن له فيها أصولا أو فروعا من الأقارب؛ وعلى ذلك فمن المستحيل عمليا أن نتمكن من استقدام أي إخوان من سوريا."
- وهنا ثار جميع المتحمسين لمشروع المعسكر ، محتجين بشدة ومتسائلين عن مدى جدية الموافقة ، مع غياب أية مساھمة مالية أو بشرية.
وقد رد الأستاذ عصام:
- "الحقيقة أن إخواننا في الداخل "يقصد في داخل سوريا" غير موافقين على خطة تبني العمل الفدائي المقترحة ، ولكن "أنا بمون عليهم (24) "، وسنستقدم عددا من العناصر، على أن يكون ذلك بغرض التدريب ، وأن لا يتم الانتقال إلى مرحلة العمليات الهجومية ألا بعد موافقة جديدة من المكتب التنفيذي."
ولم يكن أمام أنصار المشروع إلا أن يقبلوا على مضض بما تعهد به الأستاذ عصام . وسنرى في الصفحات التالية أن ذلك التصرف الانفرادي من المراقب العام للإخوان في سوريا قد أدى إلى انشقاق حاد بين الإخوان السوريين.
وجاء دور العراقيين: وكان أحد المندوبين العراقيين قد انتحى بي جانبا في إحدى فترات الاستراحة ليؤكد لي أن تنظيمهم مقتنع بمار ورد في مذكرة التنظيم الفلسطيني تمام الاقتناع، وبالحرف، ولكن .. نريد أن نحافظ على وحدة الصف الإخواني، وذلك ھو ما حمل قيادة التنظيم العراقي على إظهار القبول بالطرح الآخر.
ووجه عثمان خالد مضوي ومحمد صالح عمر السؤال ذاته إلى العراقيين: كم ستقدموا من المال والرجال؟ فرد العراقيون: "ليس من سياسة التنظيم أن يرسل رجالا إلى معسكر الإخوان في الأردن، ولكن إذا تقدم أحد الإخوان من تلقاء نفسه ورغب في المشاركة فلن نمنعه، وقد نقدم له بعض المساعدة." وتكاد هذه الكلمات أن تكون هى ما تلفظ به الإخوان العراقيان حرفيا.
أما بشأن المال فقد قالا : لقد قدمنا بالأمس ، بعيد وصولنا إلى عمان، مبلغ ثلاثمئة دينار عراقي، وسلمناھا للإخوان المشرفين على أنشطة المعسكر، لكي تنفق على عوائل الشهداء؛
فتساءل أنصار المعسكر: ولماذا تحددون وجهة الصرف وأنتم تعرفون أن وجوه الصرف في ميدان الجهاد كثيرة ، تشمل شراء الأسلحة والذخيرة والأطعمة ووسائل النقل والمواصلات، والمواد الطبية، وغير ذلك كثير،ثم احتياجات عوائل الشهداء ؟ فرد الإخوان العراقيان : إن ذلك الشرط وضعه المتبرعون بالمبلغ !
ومن ھم؟ فرد المتحدث العراقي: إنهم أناس مسلمون من أصدقاء الإخوان، لكنھم ليسوا أعضاء في الجماعة، رغم أنهم يحبونها ويثقون فيها، وقد قدموا المبلغ على ھذا الأساس، مشترطين أن ينفق على عوائل الشهداء.
وھنا أيضا تميز أنصار مشروع المعسكر غيظا وعلقوا قائلين: إذن أنتم أيها العراقيون لا تلتزمون لا بتقديم الرجال ولا بتقديم المال، فماذا تعني موافقتكم على المشروع، وما هى جدية ھذه الموافقة ؟ غير أن ھذا الاحتجاج لم يفلح في زعزعة العراقيين عن موقفهم، كما حدث بالنسبة للسوريين، فسكت أنصار المعسكر على مضض.
- ثم توجهت الأنظار إلى الإخوان اللبنانيين ، فتعهد الأستاذ فتحي يكن بإرسال عدد من الرجال للمشاركة في المعسكر. وقد علمت بعد ذلك أن إخوانه في لبنان اعترضوا على تعهده.
- لم أتابع أنشطة المعسكر ما دمنا لم نوافق عليه إذ لم نقبله فكرة ، ولا مشروعا وخطة ، بيد أن بعض المعلومات كانت تصلني عن طريق بعض الإخوة بصفة شخصية.
وأول ما يلاحظه المتابع أن الإخوان لم يستطيعوا أن يقيموا المعسكر باسمهم، وأنما باسم "فتح"، وتحت رايتها أي تحت حمايتها وإن كان من المعروف أن ذلك المعسكر كان للإخوان، "معسكر الشيوخ"، وذلك بحكم وجود الشخصيات الإخوانية القيادية فيه، من أمثال الدكتور إسحاق الفرحان، ومحمد صالح عمر (السودان) رحمه لله، وعثمان خالد مضوي (السودان)، والدكتور عصام الشربيني رحمه لله (مصر)، وغير ھؤلاء.
وقد حدث أكثر من مرة أن تحفزت إحدى المنظمات اليسارية، ولعلها الجبهة الشعبية، للإنقضاض على المعسكر "الرجعي لتصفيته". لكن الأمر تدورك في آخر لحظة في إحدى ھذه التحفزات.
وقد حدث أن تبرع بعض الإخوان الكويتيين بسيارتين (لاندروفر) جديدتين للمعسكر، وفي يوم كانتا تفقان على مدخل جمعية المركز الإسلامي الخيرية، في وسط عمان، فجاء شباب الجبهة الشعبية وأخذوھما في وضح النهار وانتهى أمرھما.
وعلى الرغم من ھذا الضعف البين فقد قام مقاتلوا الإخوان ببعض العمليات العسكرية الناجحة، ومنها عملية الحزام الأخضر، واستشهد في ھذه العمليات عدة من المجاھدين الإسلاميين.
وبعد ما يقرب من سنتين على قيام المعسكر حدث ما توقعناه وقلناه وكتبناه ودخلنا في مناقشات مطولة بشأنه، فوقع الصدام بين الجيش الأردني والمنظمات الفدائية، وتفاقمت الأحداث المؤسفة، وسقط آلاف الضحايا، ووجد الإخوان أنفسھم في مأزق كما توقعنا ، ولكنھم آثروا الانسحاب على الانغماس في ھذا القتال الكارثي، فطووا خيامهم وارتحلوا ظانين أنهم سيسلمون من الملامة فلم يسلموا من تهمة الخيانة التي وجهتها لهم منظمات الفدائيين.
ثم جاء تعيين الدكتور إسحاق الفرحان في منصب وزاري بعد هذه الأحداث مباشرة ففسر ذلك على أنه علامة التواطؤ، وبأن المنصب كان مكافأة على الانسحاب.
وقد عمدت قيادة الإخوان الإعلان عن "فصل الدكتور اسحاق من الجماعة بسبب قبوله المنصب دون استشارتهم، ودون موافقتهم." والذي علمته من المصادر الإخوانية أنه استشارھم فعلا، وأن بعضهم أيد فكرة قبول المنصب بينما عارض ذلك البعض الآخر.
والذي أعتقده أن موقف الإخوان لم يخرج عن إطار توجهات قيادات إخوان الأردن، خاصة في تلك الظروف الدقيقة والمعقدة التي لطختها دماء كثيرة.
والذي أعتقده من خلال معرفتي المباشرة بالدكتور إسحاق بأنه رجل نظيف، وھو ليس ممن يمكن أن يركضوا وراء المناصب، أو المنافع الشخصية. وبعد ظهور الطبعة الأولى من ھذا الكتاب التقيت بالدكتور إسحاق ، وسألته عن رأيه فيما كتبت؛
وعما قيل من أنه كان من بين دوافعه لقبول المنصب أن يعين الإخوان في المناصب الإدارية والتوجيھية المھمة في وزارة التربية ليتمكن خبراء التربية منھم أن يصوغوا المناھج التربوية وفق رؤية إسلامية ؛
وسألته بجانب ذلك عما قيل عن محاباة طلاب الإخوان في البعثات الدراسية ، فنفى ذلك ، وقال إن كل ما كان يمكن أن يفكر فيه ويفعله ھو إنصاف الموظفين الإخوان ذوي التأھيل العالي المميز وذوي الخبرة والمقدرة ممن تعرضوا لتمييز ظالم سنوات طويلة ، وأن ينصف الطلاب المتفوقين من الإخوان من التجاھل والظلم الذي وقع ويقع عليھم ، وتقديم من ھم أدني منهم في الدرجات عليهم ، بشكل صارخ، لمجرد انتمائهم الإسلامي.
وبغض النظر عن اختلاف الرأي ، وبغض النظر عن الحصيلة غير الإيجابية التي نتجت عن ھذا الجهد الإخواني في ميدان العمل الفدائي، فإنني أرى لزاما علي أن أنوه ھنا بالدرجة العالية من الإخلاص، والاستعداد للبذل والتضحية للذين عمل بهما أكثر الإخوان الذين اشتركوا في المعسكر، كما نقل إلى ممن أثق في صدقهم.
وھذا التقدير يشمل الإخوان الأردنيين جميعا ، من أي الضفتين كانت أصولهم ؛ومن غير الأردنيين الشهيد صلاح حسن الذي كان قائد المعسكر، وھو من مصر، والأستاذ محمد صالح عمر ، رحمه لله ، وھو استاذ جامعي سوداني، والأستاذ عثمان خالد مضوي ، وھو قاض سابق ومحام من السودان؛
والدكتور عصام الشربيني رحمه لله، طبيب أستشاري كبير، ومن المجاھدين الذين شاركوا في مقاومة الوجود البريطاني في منطقة قناة السويس (1950)، وھو من مصر؛ والأخ إبراهيم عاشور رحمه لله، وھو من بلدتي يبنا ، وممن لقي الشهادة أثناء مشاركته في المعسكر
قضية المكتب التنفذي أمام المكتب التنفيذي
قد يبدو ھذا العنوان غريبا وغير مفهوم ، ولذا لزم الإيضاح. والقضية ھنا تتركز على مدى سلطة المكتب التنفيذي ومدي نفاذ قراراته ، وما إذا كانت القرارات تحكم مختلف التنظيمات.
وھل العلاقة بين المكتب وبين التنظيمات القطرية علاقة سلطة فوقية حاكمة يتوجب على القيادات القطرية تنفيذھا قراراتها أم أنها قرارات للاستئناس والاسترشاد ، بينما تنفيذھا والالتزام بذلك يقع في دائرة الاختيار بالنسبة للقيادات القطرية ؟ وقد وضعت ھذه القضية أحيانا تحت عنوان : "الإلتزام والتنسيق".
- ھل كان للمكتب التنفيذي دستور، أو قانون ، أو نظام داخلي؟
- لم أسمع طوال السنوات الخمس التي عملت خلالها مع المكتب التنفيذي أية إشارة إلى نظام داخلي، أو لائحة داخلية، أو أي نوع من النص الذي يرجع إليه في تقنين عمل النظام ومتابعته ومعرفة مصيره .
وحتى عندما طرح الموضوع للبحث والتساؤل عما إذا كانت قرارات المكتب ملزمة لقيادات التنظيمات القطرية فإن أحدا لم يشر إلى وجود مرجعية مكتوبة.
والذي توصلت إليه في نهاية المطاف أن المكتب لم يكن له ما يمكن أن يسمى نظاما أو لائحة أو دستورا ، وأن إنشاء المكتب وبدايته لم تقترن بتنبه إلى أھمية "النظام" المكتوب سواء بالنسبة للإجراءات التنظيمية ، أوالتنفيذية. وھنا يصطدم الباحث ب غياب المضمون في عبارة (المكتب التنفيذي).
ھذه العبارة توحي بأن مهمة ھذا المكتب الرئيسية التنفيذ أو متابعة التنفيذ ، وكأن ھناك سلطة أعلى تصدر القرارات، وأن وظيفة المكتب تنفيذھا ومتابعة تنفيذها.
ولقد ورد ذكر: "مؤتمر قادة الإخوان في البلاد العربية"، وھذا العنوان يوحي بأن مؤتمر عقد في شهر ما، في سنة ما، وأنه أنشأ مكتبا ليتابع تنفيذ قراراته.
وفكرة وجود المؤتمر، ووجود المكتب التنفيذي، توحي بأن المؤتمر دوري ، بمعنى أنه ينعقد في مواعيد محددة بمدة زمنية ، كأن نقول: إنه يعقد كل سنة مرة، أو كل سنتين أو أربع ، وأن المكتب وحدة عمل مكونة من أشخاص لكل منهم وضع محدد، بل ومسمى وظيفي، وأن متابعته لتنفيذ قرارات الهيئة الأوسع والأعلى سلطة ، عملية مستمرة.
ويبدو لي أن مؤتمرا انعقد لا استطيع تحديد تاريخه ، ولم تحفظ نصوص قراراته مكتوبة، أو أنها طواھا النسيان ولم يعد أحد يذكرها أو يشير إليها أو يستدعيها لتأييد موقف أو إجراء أو اقتراح. ھل ھذا الذي أتحدث عنه اكتشاف ؟ إن كان كذلك فهو اكتشاف مذھل.
ھذا الإسم الكبير "المكتب التنفيذي"، أو "المكتب التنفيذي لمؤتمر قيادات الإخوان في البلاد العربية" كيف يكون بهذه الضبابية ، وبهذا الوضع الذي لا أوتاد له ولا مساند ولا مرتكزات ! كيف حدث ھذا ؟ كيف مضى ھذا الفراغ عبر السنوات دون أن يتنبه إليه أحد ؟ ثم يطرح موضوع "المكتب التنفيذي في المكتب التنفيذي" ، وأثناء البحث والمناقشة لا يشير أحد إلى : "نظام مكتوب، أو لائحة ..."
المهم.. أن بعض القيادات الإخوانية رغبت بأن يحدد معنى لما يتخذ من قرارات أثناء اجتماع المكتب، ھل ھي قرارات اتخذت ليلتزم الجميع بتنفيذھا، أم أنها توصيات ينفذھا من شاء ويهملها من شاء ؟
لقد انقسمت القيادات بين مؤيد لمبدأ إلزامية القرارات، بمعنى أنه عند اتخاذ القرارات يغدو تنفيذھا ملزما للجميع، بينما رأي آخرون أن لا تربط بشرط الإلزامية ، وبذلك تكون مجرد توصيات.
وكان الإخوان الأردنيون ھم الذين تبنوا شعار الالتزام، وربما سايرھم في ذلك الكويتيون ، بينما حمل السودانيون لواء وشعار تبني مبدأ التنسيق، وأن يكون ما يصدر عن المكتب مجرد توصيات يعنى بتنفيذھا من وافقوا عليها ، بينما تكون بالنسبة للآخرين مجرد رأي، أو خيار مطروح لا يلزم أحدا.
وھذا الإنقسام كان أحد الأسباب التي أدت إلى انفراط المكتب التنفيذي ، والسبب الآخر ھو موضوع معسكر الجهاد في الأردن. لقد كان الفلسطينيون، والسودانيون والعراقيون يرون أن قرارات المكتب لا ينبغي أن تتجاوز معنى التوصيات، والتنسيق، بينما رآي الآخرون إلزاميتها.
لقد استند المنادون بأن تكون قرارات المكتب توصيات الغرض منها تنسيق المواقف بقدر الممكن وليس الإلزام ، استندوا على عدد من الأسباب الواقعية، وھي أن كل تنظيم تحدد سلوكه ظروف خاصة ، وأھمها القوانين الوطنية،والسياسات الوطنية التي تحددها وتتبناها الدولة؛
والتي تختلف من دولة إلى دولة، والتي يستحيل تجاوزھا على مواطني البلد المعني، لأن تجاوزها يؤدي إلى مشاكل مع السلطة. ومن ناحية أخرى فإن لكل تنظيم قدراته وظروفه الخاصة التي لا يستطيع أحد من إخوان الأقطار الأخرى أن يقدرھا حق قدرھا سواھم .
ولو أن مجموعة من الأشخاص الذين تنقصهم المعلومات أعطوا سلطة اتخاذ قرارات تلزم مجموع الإخوان في كل قطر أن يقوموا بعمل معين، أو يتخذوا موقفا معينا فإن مثل ھذه القرارات ستكون كارثية، بمعنى أنها ستجلب الكوارث.
هاهنا تبرز معضلة تناقضية ؛ فإذا كانت القرارات غير ملزمة، ولا تنفذ فلم الاجتماعات إذن ؟ ولم الاھتمام بالإعداد لها والجدية في مناقشتها، ولم تضييع الوقت ومشقات السفر للإتيان إلى الاجتماع ؟ أم ھو لقاء أخوي، مع ما في لقاء الإخوة من عواطف الحب وبهجة اللقاء ، وأنه يمكن أن يعتبر فسحة وإجازة ، على أقل تقدير ؟
يقابل ذلك ، أن القرارات الفوقية التي يتوصل إليها بشئ من الضغط المعنوي والتخجيل، أو بقوة الإقناع لجهة ليست لها القدرة على المناقشة ھذا النوع من القرارات ، يمكن يسير أثرھا في اتجاھين:التنفيذ وجلب الكوارث، لأنها لم تبن على معلومات صحيحة ووافية وتقدير سليم ؛ الإھمال وعدم التنفيذ.
والحل: أن يلتزم بتنفيذ القرارات من وافقوا عليها ولا يلزم غيرھم ، مع أن ينتظر ممن لم يلزموا بإن يعيدو النظر ويبحثوا عن مداخل جديدة على أرض الواقع.
وبعد انفراط المكتب التنفيذي سنة 1969 ببضع سنوات أنشأ الإخوان المسلمون قيادة سموھا القيادة الدولية ، أو ما يدخل في معنى ھذه العبارة، وقد قامت ھذه الدعوة على مبدأ إلزامية القرارات، فلم تحل المشكلة؛
وإنما جلبت لبعض الحركات الإخوانية مشاكل على المستوى القطري، لأن بعض الأنظمة الحاكمة لم تقبل أن يكون جزء من مواطنيها ملزما بقرارات وسياسات قد تتعارض مع السياسات الوطنية ، ومن ثم "تهدد الأمن الوطني."
الفصل الرابع:تقويم المواقف بالنسبة لقضية العمل الفدائي
إن أية محاولة لتقويم المواقف في نطاق ھذه الدراسة لا بد أن تشمل مواقف ثلاثة:
- أولها: موقف الإخوان الفلسطينيين المتحفظ وغير المتعاون مع مؤسسي منظمة فتح.
- ثانيهما: موقف الإخوان الفلسطينيين المتحفظ ، وغير المتعاون بالنسبة لتأسيس منظمة جهادية (فدائية) إخوانية تعمل في الساحة الأردنية، يكونها الإخوان المسلمون في البلاد العربية
- ثالثهما: موقف منظمة فتح من حيث الأھداف والمنطلقات الأولى ، وما طرأ عليه من تعديل وتبديل ، ومقدار ما جناه الشعب الفلسطيني من فائدة إن كان قد تحققت له أية فوائد ومقدار ما حل به من خسائر ، ومقدار ما أحرزته قضيته من تقدم أو ما أصابھا من تأخر بالقياس إلى الأھداف التي أعلنتها فتح عند إنشائها بعد عام 1957 ، واستمرارا بعد ذلك.
ھل يمكن الوصول إلى تقويم صحيح ؟:
- يجري تقويم المشروعات والخطط في العادة إما قبل تبنيها أي في نهاية مرحلة الدراسة ، أو بعد تنفيذھا وتطبيقها عمليا ؛ بيد أن التقويم يمكن أن يجري أيضا في مرحلة ما قبل إتمام الخطة تنفيذيا ، خاصة إن واجه التنفيذ عقبات كأداء ، أو تبينت استحالته.
- والتقويم المسبق، أي الذي يجري قبل تبني الخطة ، يقوم على كثير من الافتراضات والتوقعات ، وعلى الثقة بدراسات واستنتاجات الخبراء ؛ ولذلك فإن نتائجه تظل افتراضية إلى أن تتحقق ، أو لا تتحقق في عالم الواقع ، وبالأدلة المادية والعملية بعد الإتمام والتنفيذ .
- أما التقويم اللاحق فإنه يستند في معظمه إلى الحقائق المادية والعملية التي وقعت بالفعل ، إذ تكون أمامه الأھداف والخطط والمقولات الافتراضية ، وتكون أمامه بجانب ذلك ومعه نتائج محاولات التطبيق ، والتطبيق الكامل.
- ولذا ، فإن التقويم اللاحق يكون ھو الأقرب إلى الحق ، سيما عندما تحكم الموضوعية عملية التقويم . وعملية التقويم التي سنقوم بها الآن من النوع الثاني ، التقويم اللاحق ، الذي يضع أمامه الأھداف والمنطلقات والخطط والوعود ثم يقارنها بما تم في عالم الواقع.
- لقد مضى الآن ما يقرب من نصف قرن منذ بداية انطلاق مؤسسي فتح في مشروعھم أول مرة، سنة 1957 ، وظهرت نتائج محاولاتهم وجهودهم ، كما ظھر ما أصابهم أنفسهم وحركتهم من تغيير، خاصة بعد اجتياح إسرائيل لبيروت سنة 1982م ، ثم اضطرارھم للجوء إلى تونس واستقرارھم فيها. ابتداء من سنة 1983
موقف الإخوان الفلسطينيين من "فتح"
لقد أوردنا في فصل سابق خلاصة للمذكرة التي بلور الإخوان الفلسطينيون من خلالها موقفهم وعددوا فيها حيثياته بما يغنينا عن تكرارھا هنا ولذا فسنكتفي بالإشارة إلى النقاط الرئيسية من تلك الخلاصة :
- (أ) فقد بين الإخوان أنهم لا يعارضون الفكرة من حيث المبدأ ، بل إنھم يؤمنون بضرورة تحرير فلسطين ، وأن التحرير لا يمكن أن يتم إلا؛
- (ب) الجهاد القتالي ، وأن شعب فلسطين يجب أن يكون في مقدمة المقاتلين ،رأى الإخوان أن خطوات مشروع "فتح" التحريري تقوم في معظمها على افتراضات وھمية لا يمكن تحقيقها عمليا في عالم الواقع؛ ومن ھذه الافتراضات إمكانية التحرك العسكري الفلسطيني التي ستشلها قوة من الجيش العربي لتلك الدولة قبل أن تصل إلى حدود فلسطين؛ كما كان من تلك الافتراضات الوھمية إمكان الحياد بين الدول العربية ، والتعامل معها جميعا بما يخدم قضيتنا؛
- وافتراض أن الدول العربية ستدخل المعركة بعد أن يبدأها وينشبها الفلسطينيون ويفرضوھا على الجميع ؛ ثم افتراض أن الدول العربية ستكون قادرة على على رد العدوان،وھزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين. كما أن الإخوان لم يصدقوا أن العمل تحت شعارات غير حزبية يمكن أن يعطي الإخوان كسبا شعبيا ،.
- (ج) وقد أشار الإخوان إلى عدد من الأخطار التي يمكن أن يجلبها مشروع "فتح" على القضية الفلسطينية، فضلا عن تلك الأخطار التي تهدد التنظيم نفسه ؛ فقد رأوا أن الحزبيين سيتسللون إلى التنظيم من خلال التظاھر الكاذب بالتخلي عن حزبيتهم، ثم يحاولون السيطرة عليه ، وبجانب ذلك فإن الأنظمة العربية نفسها ستحاول استخدامه ضد من تعتبرھم خصومها من الدول العربية الأخرى .والأخطر من ذلك كله أن مشروع "فتح" سيسهل لأسرائيل احتلال الضفة وقطاع غزة ، وإلى تراجع القضية الفلسطينية إلى الوراء بدرجة كبيرة، تراجعا لا يمكن تداركه؛
- (د) وأخيرا فقد أكد الإخوان الفلسطينيون إيمانهم بأن تحرير فلسطين لا يتم إلا بالطريقة الإسلامية، على أيدي الإخوان المسلمين وحسب تصورھم ، من خلال معركة إسلامية جهادية كبرى.ولقد كان مما أكدته الأحداث والتطورات العملية خلال نصف القرن الماضي أن تقويم الإخوان للمشروع سنة 1960 كان صحيحا تماما، بالنسبة للفقرتين (ب) و (ج) وما ورد فيھما من تحفظات.
أما بالنسبة للفقرة (د) فلم يكن وھم الإخوان بشأنها بأقل من أوھام مؤسسي "فتح". لقد كانوا على خطأ تماما ؛ ولست أدري إن كان الإخوان قد اقتنعوا الآن أنهم كانوا على خطأ ، أم أنهم ما زالوا ضحية لذلك الوھم. ولا مراء في أن الموقف قد اختلف بعد سنة 1967 وما حملته من ھزيمة.
لقد كان مشروع "فتح" قبل سنة 1967 عبارة عن دعوة لإنشاب معركة لم يستعد لها الجانب العربي ولم يوطن نفسه على خوضها ؛ بل لقد كانت محاولة لفرض خوض المعركة على الدول العربية غير الراغبة في خوضها.
وكان من رأي الإخوان أن تلك المحاولة خطأ ينطوي على أخطار جسيمة . وقد تمت المحاولة، ونشبت المعركة، ووقعت الأخطار التي تمثلت في ھزيمة حزيران 1967 وما ترتب عليها من احتلال الضفة وغزة وسيناء والجولان .
أما بعد هزيمة حزيران ، وقد وقع المحذور ، فقد أصبح استمرار الكفاع المسلح وتصعيد ھذا الكفاح ضد المحتلين أمرا حتميا ، فكان طبيعيا ، والحالة ھذه، أن يختلف حكم الإخوان على عمل فتح في المرحلة اللاحقة عنه في المرحلة السابقة.
غير أنه كان يستحيل على حركة الإخوان نفسھا أن تضطلع بأي دور تحت اسمها وشعاراتها ، لأن القوى التي كانت مسيطرة على ساحة العمل السياسي العربي ضدھا، ولأن القوى التي كانت مسيطرة على قاعدة العمل السياسي في الأردن ضدھا أيضا ، سيما وأن هذا العمل كان يتم من خلال واقع تعدد المنظمات واستزلام معظمها وارتباطها بأيديولوجيات سياسية،وبدول وقوى محلية وخارجية معروفة.
ولم يكن ممكنا للإخوان أن يلغوا تنظيمهم وحركتهم لينضموا ل "فتح" لأنهم كانوا يؤمنون وما زالوا أن لهم رسالة كبرى يشكل تحرير فلسطين جزءا أساسيا منها، فضلا عن أنهم كانوا يحملون "فتح" شطرا من مسئولية ما حدث ، بل كان العاطفيون منھم يحملونها كل المسئولية ، ويجدون في حلوقهم مرارة شديدة من ممارساتها.
وعدا عن ذلك فقد رأى الإخوان آنئذ أن "فتح" أصبحت مرتهنة لتحالفاتھا السياسية مع اليسار العربي والدولي ، كما صار للشيوعيين قدر كبير من السيطرة على بعض مراكز القيادة ، فضلا عن السيطرة شبه الكاملة على الإعلام.
موقف الإخوان الفلسطينين من مشروع معسكر الجهاد في الأردن
من مراجعة ما سبق أن قلناه في بيان موقف الإخوان الفلسطينيين عند بحث الموضوع في المكتب التنفيذي يتضح لنا أن اعتراض الإخوان انطلق من الاعتبارات التالية:
- أنھم لم يكونوا يعترضون على إقامة المعسكر ولا على مباشرة الجهاد من حيث المبدأ
- لم تكن إمكانات الإخوان في البلاد العربية تسمح لهم بالقيام بأي دور فعال يوصل إلى الهدف ،من حيث القدرة المالية، أو من حيث الحصول على الأسلحة والذخائر
- كانت كل القوى الموجودة في الساحة الأردنية، والقوى المسيطرة على الساحة العربية معادية للإخوان ، تتربص بهم وتنتظر سانحة للبطش بهم
- لم يكن أي من التنظيمين العراقي أو السوري جادا في تنفيذ شئ مما توقعه الإخوان الآخرون منهم ، وإنما كان اقتناعهم وما يلتزمونه عمليا ھو عكس ما تظاھروا به. وقد اعترفوا بذلك مباشرة.
- كانت التنظيمات الأخرى على درجة كبيرة من قلة الوعي، بحيث كانت تفتقر إلى فكرة واضحة عن الأھداف العملية، وعن الأدوات اللازمة، ولم تبد اهتماما بدراسة احتياجات المشروع.
- وقد أدرك الإخوان الفلسطينيون أن المعركة كانت وشيكة بين السلطة الرسمية في الأردن وبين المنظمات الفدائية ، وقد رأوا أن نتيجة المعركة مهما كانت سوف تؤدي إلى خسائر كبيرة من البشر ، وإلى خسائر أكبر بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية.
وقد بينت الأحداث التي وقعت في أيلول 1970 وما بعده ، وكذلك مستوى عمل الإخوان في معسكرھم قبل ذلك كل هذا بين أن حسابات الإخوان الفلسطينيين كانت صحيحة.
موقف "فتح" بين الافتراضات الوھمية والنتائج المرة
كل ما نود أن نسلط الضوء عليه هنا ھو ھدف فتح عند تأسيسها والمرحلة الأولى من انطلاقها، ثم نحدد أھم عناصر خطتها ، ثم نقيس مقدار ما تحقق من الهدف الأساسي ، أو ما اقتربت أو ابتعدت منه أو عنه ، وما إذا كانت قوة الحركة نفسها في صعود واندفاع نحو الهدف ، أم أنها في حالة تداع وذبول ، مع فقدان الرؤية وضياع الهدف نفسه ، وسنحرص أن تكون هذه المراجعة باختصار شديد.
كان هدف فتح عند انطلاقها واستمر بعد ذلك لسنوات هو تحرير فلسطين بكامل حدودها ، من النهر إلى البحر؛ وكان ھذا الطرح يمثل تطلعات الشعب الفلسطيني عندئذ، ولم يكن أحد يقبل أقل منه سوى من يحملون الأيديولوجية الشيوعية. وقد ظلت فتح تؤكد ھذا الهدف بعد مرحلة التأسيس في أواخر الخمسينات من القرن الماضي مرات ومرات.
وعلى سبيل المثال، أكدت "فتح" عبر مجلة فلسطيننا الناطقة باسمها:
- "أن الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن شبر من أرضه، فلا قرارات الأمم المتحدة ترضي طموحه ، ولا أية مشاريع دولية أخرى ؛ إن تحرير كامل تراب فلسطين ھو الهدف، وكل من يقول غير ذلك خائن للشعب الفلسطيني.
- "إننا ھنا نعلن رفضنا لفكرة التقسيم الاستعمارية ، ونعلن شجبنا للتقسيم ، ونعلن استعدادنا لأن نتهم كل فرد يعمل للتقسيم بالخيانة العظمى والمروق ".
وفي أوائل نيسان (أبريل) 1965 أصدرت "فتح" بيانا تحت عنوان:
- "بلاغ القيادة العامة لقوات العاصفة رقم 9 " ، وقد نشر البلاغ في جريدة البعث الدمشقية السورية صباح يوم 4 نيسان 1965 ، وكان موضوعه استنكار تصريح للرئيس التونسي السابق بورقيبة الذي نادى فيه بقبول قرار التقسيم الصادر سنة 1947 ، فجاء رد الفعل عنيفا ، سواء من جانب "فتح" أو من جانب غيرها.
وبيان "فتح" طويل ، يحملنا طوله على الاكتفاء باجتزاء بعض عباراته:
- "... لقد حملت لنا الأيام الأخيرة نغمة خيانة جديدة سماھا أصحابھا واقعية سياسية ، ما هى في الحقيقة إلا سياسة الأمر الواقع التي عملت الصھيونية جاھدة ، يسندھا الاستعمار العالمي، على تكريسها ..."
- "إن القيادة العامة لقوات العاصفة، التي كرست فكرة الكفاح المسلح طريقا لاجتثاث الكيان الصهيونى من وطننا السليب ، والتي باشرت أعمالها الفدائية في ربوع أرضنا الحبيبة ... لا يسعها، أمام هذا التهريج الخائن إلا أن تعلن بأن ھذه الدعوة المدروسة كانت طعنة في ظهور جميع العاملين في سبيل" تحرير فلسطين ، وفي طليعتھم فدائيو العاصفة... (26)
تصور فتح لمسيرة التحرير
كان مؤسسو فتح يتصورون منذ عام 1957 أن الحركة الفدائية ستبدأ القتال، وأن إسرائيل سترد بعنف مفرط ، وأن الجيوش العربية ستشتبك معها إلى أن تحرر فلسطين.
وقد أكدت فتح ھذا التصور أكثر من مرة فيما بعد ؛ ففي شهر كانون الأول (ديسمبر) 1960 قالت فتح عبر مجلتھا الناطقة باسمھا فلسطيننا: "... إن الشعب الفلسطيني سيقاتل ، ولكن الأرض العربية ستتلقى الضربات ، وعليها أن تستعد لذلك." (27)
وفي شهر أيار (مايو) من سنة 1961 قالت "فتح" عبر مجلة فلسطيننا:
- "... إن خطة العمل يجب أن تتخذ شكل الحركة الفدائية التي تنطلق من جميع الأراضي المحيطة بفلسطين المحتلة ، وبمجرد بدء العمليات علينا أن نتوقع رد فعل وحشي على الحدود العربية ؛ ولهذا يجب أن تكون الجيوش العربية جميعها في حالة يقظة لتأديب". العدو عند محاولته القيام بعمليات ثأرية على حدودنا. (28)
علاقة "فتح" مع الدول العربية
لقد تصور مؤسسو فتح أنه سيكون بمقدورھم التصرف بحرية كاملة في مواقفهم وقرارتهم بحيث لا تتأثر تلك المواقف والقرارات بضغوط الدول العربية ؛ وظنوا أنه سيكفيهم أن لا يتدخلوا في شئون الدول العربية، وأن ھذه الدول سوف تعاملهم بالمثل وتمتنع عن التدخل في شئون "فتح"؛ وقد أكدوا ھذا الفهم وذلك التوقع مرارا.
وبجانب ذلك فقد كانوا يعتقدون أنهم سيتمكنون من استقطاب الشعوب العربية بحيث " ... أن الشعب العربي في الأقطار العربية سيكون القاعدة الثورية التي تحول ". دون الفئات الحاكمة والتمادي في صراعها أو معاداتها للثورة الفلسطينية. (29)
وهكذا نجد أن مشروع فتح انطلق من فهم مغرق في السطحية ، وتفاؤل مسرف في كل الاتجاهات، لم يكن ثمة ما يسنده من واقع الأنظمة والشعوب العربية، ومن مواقف القوى الدولية المؤثرة. ونتطلع اليوم إلى موقع "فتح" والفصائل التي كانت تعد من حركة المقاومة الفلسطينية؛
وما تنادي به قيادة "فتح" وتطالب به وتبذله فنجد البون شاسعا ، حتى لقد صارت حدود قرار التقسيم المرفوض ، وحدود أول حزيران 1967 صارت من الأحلام البعيدة المنال ، والذي يبذله الجانب الفلسطيني في سلسلة تنازلاته المتتابعة ، منذ مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني الثامن عشر، كل ذلك صار معروفا.
ويبدو أنه كلما انخفض سقف المطالب التي تعلنها قيادة "فتح" قائدة منظمة التحرير تلاشت طبقات الإحلام واحدة بعد الأخرى، لتحل محلها أحلام أكثر تواضعا. أما الواقع المر فهو الاحتلال الصهيوني وما يطفح به من القمع والضغط المستمر الذي يستهدف إخلاء الأرض ممن بقي من سكانها، فضلا عن ضم القدس، وحشو الضفة بالمستوطنات لدرجة الخنق ، وضم الجولان ؛ وأن المخبوء من الأطماع الصهيونية أكبر من كل ھذا بكثير، وإنما ينتظرون الفرص السانحة في المستقبل.
وبدلا من أن تؤدب الجيوش العربية الدولة الصهيونية وتطامن من اندفاع قادتها بازدراء ظاھر لكل العرب والمسلمين، ولكل التهديدات الجوفاء الخالية من أي مضمون حقيقي ، وظفت معظم الدول العربية جيوشها وقواتها الأمنية وأسلحتها في قمع شعوبها ، وإسكات كل صوت يعترض على التقصير المريع، ويحتج على الفساد والقمع الأكثر ترويعا.
وبدلا من أن تسمح الدول للفدائيين بحرية الحركة منعهم أكثرها من التحرك من حدود دولها، وبكل صرامة ، خاصة الأصدقاء الثوريون.أما الدولتان اللتان تمكن الفدائيون من العمل عبر حدودھما ولم تكونا معدودتين من من أصدقاء الثورة فقد اضطروا للخروج منهما بعد سلسلة من الأخطاء الكارثية في التعامل مع الناس العاديين من شعبيهما، فضلا خيارات خاطئة في التعامل مع السلطات الرسمية.
وبدلا من أن تمتنع الحكومات والأنظمة العربية التي كانت توصف بأنها الحليفة والصديقة عن التدخل في شئون الثورة ، وعن محاولات الوصاية عليها، فقد جاء التدخل صارخا وفظيعا ، خاصة من "الأصدقاء والحلفاء" المتوھمين بفتح الهاء؛
ولم يكن تدخل ھذه الدول بمجرد الضغط السياسي والمالي ، وإنما تعداه إلى التآمر، وتجنيد ضعاف النفوس لإحداث الانشقاقات، وتكوين منظمات تأتمر بأوامر مموليها، بل تعدى التدخل ذلك إلى استخدام عناصر صارت معروفة للقيام بتصفيات جسدية ...
ثم إن بعد الأنظمة الثورية العربية "الحليفة والصديقة" لم تكتف باتهام "فتح" بمحاولة توريطها ، بل تعدت ذلك إلى اتهامها بالخيانة والعمالة ؛ وليس أدل على صحة ما نقوله ، مما ورد في كتاب دليل المقاومة من تصريحات قادة "فتح" وبيانات حركة المقاومة نفسها ؛
وفيما يلي أمثلة قليلة فقط:
- "... كانت الدول العربية تحاول تطويق وضرب حركة التحرر الوطني الفلسطيني عند انطلاقها ، وتثير الصحافة العربية حولها حملة تشكيك وتشويه ...
فوجهت "فتح" مذكرة إلى ملوك ورؤساء الدول العربية في 7 أيلول (سبتمبر) 1965 تطالب فيها:
- الكف عن ملاحقة قوات العاصفة في مختلف الدول العربية المجاورة أو غير المجاورة لفلسطين ، وإطلاق سراح المعتقلين دون تردد
- إلغاء الحظر المضروب حول نشر أنباء العاصفة في كثير من الدول العربية
- عدم التعرض لرجال العاصفة أثناء قيامهم بعملياتهم الفدائية أو أثناء اضطرار قوات العاصفة في الأرض المحتلة للإلتجاء إلى الدول العربية نتيجة لظروفهم الصعبة. (30)
ويلاحظ هنا أن حركة "فتح" قد اضطرت إلى توجيه ھذه الرسالة إلى الملوك والرؤساء العرب بعد ثمانية أشهر فقط من بدء انطلاق عملياتها في أول سنة 1965 ، وذلك يعني أيضا أن الأعمال العدائية المشكو منها كانت تصدر عن الدول العربية قبل الشكوى بوقت طويل أي مع البدايات الأولى.
ولننظر إلى ما قاله السيد ياسر عرفات، رحمه لله:
- "... قبل 5 حزيران 1967 كنا نتهم بأننا نريد توريط الدول العربية في حرب هى غير مستعدة لها، وقيل إننا كعملاء لحلف السنتو نتآمر لإحراج الأنظمة التقدمية تمهيدا لإسقاطها فوق ساحة القضية الفلسطينية.
- وبعد 5 حزيران قيل لنا: إذا أطلقتم رصاصة واحدة اعتبرناكم مجرمين وخونة ... إن عملكم غير المسئول ، الآن سيؤدي إلى تدمير الأمة العربية؛ فاهدأوا وكفوا عن عبثكم وإلا. (31)
إذن .. هذه المطاردة، وھذا المنع والحجر الذي تعرضت له حركة المقاومة جاء من الحلفاء المنتظرين ، من الأنظمة التقدمية ، وكان مصحوبا بابشع التهم التي يمكن أن توجه لأي وطني شريف : تهم : العمالة ، والخيانة ، والتبعية للأحلاف ، والسعي لتدمير وتخريب وتوريط الدول العربية التقدمية !!
وماذا عملت "فتح" والمقاومة ؟ لقد ذھبت إلى أراضي الدول العربية الأخرى ، غير المصنفة بين الدول "التقدمية"، بل المصنفة حسب الصفات التي ألصقها حكام الدول التقدمية بحركة فتح ، فعملت فتح وحليفاتها من المنظمات بكل أطيافها فترة تزيد على ثلاث سنوات ، وطفت على السطح المنظمات الصغيرة المشبوهة المتطرفة، والعناصر المتطرفة في فتح...
فوجدت أنه مما يكمل ثوريتها حقا فإنها تحتاج إلى تسخين الأجواء مع السلطات في الأردن، وصارت بعضها تملأ جدران شوارع العاصمة الأردنية بالملصقات التي تعلن:"كل السلطة للمقاومة "، ولم تجد عقلاء يوقفونها عند حدها، كما ذكر خالد الحسن رحمه لله، في كتابه عن الاتفاق الأردني الفلسطيني ، وانتهى وجود المقاومة كما ھو معروف ...
ثم انتقلت فتح والمقاومة إلى الأراضي اللبنانية ، دولة عربية أخرى غير مصنفة في قائمة الدول التقدمية ، وصارت فتح والمقاومة دولة فوق الدولة ، وظلت كذلك حتى سنة 1982 ، وبقية القصة معروفة ...
ولقد مرت على "فتح" وحركة المقاومة بصفة عامة أوقات تصوروا فيها أنهم شبوا عن الطوق، وأن أحدا لا يمكنه أن يوقف تحركاتهم، أو أن يحولها عن بعض مساراتها ، ولكن الفرق شاسع بين الأمس واليوم ، حيث بدأ الانحدار نحو الهاوية منذ سنة 1983 ليستمر بعد ذلك في ھبوطه الصاروخي؛ وما يجري الآن في سنة 2010م خير برهان .
الاستقالة من العمل لدى المكتب التنفيذي
في أواخر عام 1968 قدمت استقالتي إلى المكتب التنفيذي من عملي لديه ، وذلك خلال اجتماع للمكتب عقد في عمان. وقد شفعت كتاب الاستقالة بمذكرة بينت فيها الأسباب التي حملتني على ذلك ، والتي يمكن تلخيصها بأنها "الخلل الذي اعتور بنية الإخوان المسلمين ولازمها .
واعترف جميع أعضاء المكتب بوجود الخلل الذي تحدثت عنه ، والذي كان من أھم مظاھره اختلاف المفاھيم من قطر إلى قطر ، بل وعدم وجود مفهوم موحد أو مفاهيم موحدة بين أفراد الإخوان في داخل القطر الواحد.
وطلب منى االمكتب أن أقدم مقترحات مكتوبة لخطة الإصلاح التي أراها ، فقدمتها لهم في اليوم التالي ،وحددت فيها المسائل الأساسية التي تختلف حولها مفاھيم الإخوان، وهي:
- مفھوم الإخوان لطبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرھم:
- (أ) في إطار العلاقات الدولية
- (ب) في داخل المجتمع الإسلامي
- مفهوم ومنطلق الاختيار بين الدعوة السلمية واللجوء إلى العنف.
- مفهوم ومنطلق الاختيار بين السرية والعلنية في العمل الإسلامي
- مفهوم الشوري في الحركة الإسلامية وفي نظام الحكم الإسلامي.
وقد اقترحت أن يقوم كل قطر ببحث ھذه الموضوعات ومناقشتها عمليا، ثم يكلف لجنة محلية بوضع دراسات تعين على تكوين فهم موحد للموقف الإسلامي من تلك المسائل؛
وبعد وصول إخوان القطر إلى تكوين هذه المفاهيم تقوم قيادتهم بإرسالها إلى الأمانة العامة للمكتب التنفيذي ، لتقوم الأمانة بدورها باستنساخها وتوزيع نسخ منها على قيادات الإخوان في أقطارها، ليتمكن كل قطر من دراسة فهم وتصور الأقطار الأخرى.
وبعد ذلك تحدد الأمانة االعامة موعدا لمؤتمر عام يرشح للمشاركة فيه عدد من المفكرين، فإذا تم ذلك عرضت النتائج على مؤتمر قادة الإخوان في البلاد العربية ، ومن ثم على المكتب التنفيذي من أجل إقرارها وتبنيها من قبل جميع التنظيمات. وقد اقترحت أن ينعقد المؤتمر الفكري بعد سنة كاملة تتم خلالها الاستعدادات والتحضيرات التي اقترحتها.
وقد وافق المكتب التنفيذي على مقترحاتي بكل تفاصيلها، باستثناء نقطة واحدة ھي المتعلقة بالتوقيت؛ لقد استكثروا فترة السنة، واعتبروھا طويلة جدا ، وقرروا بدلا من ذلك أن يتم اللقاء بعد شهرين.
وبعد أنقضاء الشهرين لم يكن قد تم أي إعداد ولم تحضر أية أبحاث أو دراسات. وعندما انعقد اللقاء لم يكن لدى أحد من المشاركين ما يقوله في الموضوع، فجرى تأجيله إلى موعد آخر بعد سبعة أشهر ، ومع ذلك لم تتلق الأمانة العامة أية أبحاث أو دراسات.
وحين تم اللقاء في الموعد المحدد جاء ممثلون قياديون من الكويت والأردن ليقولوا:
- نحن أتينا لبحث موضوع الجهاد ، فمن أراد أن يدرس ھذا الموضوع معنا جلسنا معه وواصلنا البحث ولو استمر شهرا ؛ أما الموضوعات الفكرية والفلسفية فلا رغبة لنا في بحثها ، ولا وقت لدينا نضيعه في مثل ھذه الأمور.
- ومما يؤسف له أن ھذه الموضوعات الحيوية ما زالت في المنطقة الضبابية من فكر جماعة الإخوان المسلمين عامة ، بغض النظر عن وجود اجتهادات فردية في الموضوع.
- وھكذا انفرط عقد المكتب التنفيذي ، وكان ذلك آخر اجتماع له أحضره. وقد ساعدت الخلافات الداخلية في التنظيم السوري ومغادرة الأستاذ عصام العطار للمنطقة وإقامته في ألمانيا ، ساعدت كلها على انفراط المكتب في تلك المرحلة.
مخلفات الأزمة:إنشقاق التنظيم السوري
لم يقتصر أثر الخلافلات في المكتب التنفيذي على انفراط عقد المكتب، بل لقد أدت الخلافات التي شهدها المكتب التنفيذي إلى حدوث أزمات داخلية في تنظيمات بعض الأقطار، وكان أشدها انشقاق في التنظيم السوري.
كان التنظيم السوري من عقد الستينات في القرن الماضي بقيادة الأستاذ عصام العطار، يعاونه مجلس قيادة ونظرا لأن الأستاذ عصام صار مجبرا على الإقامة خارج سوريا فقد كان نائب المراقب العام ينوب عنه في الداخل.
وعندما طرح موضوع تبني الإخوان لأنشاء معسكر للتدريب والمشاركة في العمل الفدائي في الأردن لم يكن من سياسة التنظيم الإخواني السوري أن يسير في ھذا الطريق؛
وقد أشرنا من قبل إلى أن الأستاذ عصام ذكر خلال المناقشات التي جرت في المكتب التنفيذي أنه ليس من سياسة التنظيم السوري أن يشارك في المعسكر الإخواني، وذلك بعد أسئلة ومناقشات اضطرته إلى البوح بهذه الحقيقة؛ ومع ذلك فقد قال إن له دالة على إخوانه، وأنھم سوف يوافقونه، وأنه يتعهد بالمشاركة في إنشاء المعسكر المذكور .
وعندما وصلت أخبار التعهد الذي قدمه الأستاذ عصام كان رد الفعل على غير ما توقع ؛ فقد جاء نائب الأمين العام، الأستاذ أمين يكن، رحمه لله، من حلب إلى بيروت ، كي يتمكن من الاتصال بالأستاذ عصام في الأردن ليبلغه أنهم لا يستطيعون الوفاء بما تعهد به؛
وذلك حسب ما ذكر لي الأستاذ أمين نفسه ، حيث زارني بعدما أجرى المكالمة مع الأستاذ عصام ، وقال إنه طلب إلى الأستاذ عصام في تلك المكالمة أن يتنصل مما كان وعد به لاستحالة استطاعتهم الوفاء به.
ومن ھنا بدأ التصدع في التنظيم السوري. وعلى الرغم من أنني لم أكن أعرف الكثير من أخبار التنظيم داخل سوريا إلا أنني علمت فيما بعد من بعض الإخوة اللبنانيين أن الأستاذ عصام وممن تعاطفوا معه حاولوا الخروج من المأزق بتجميع عدد من السوريين الفارين خارج سوريا وإرسالهم إلى الأردن للمشاركة في المعسكر.
ويبدو أن نائب المراقب العام ومن معه من إخوان الداخل اتخذوا موقفا حازما، فما كان من الأستاذ عصام إلا أن غادر الأردن وذھب للإقامة في ألمانيا، وھناك كتب بيانا باستقالته ، ونسخ بيان الاستقالة، ووزعت نسخ منه بالبريد لتصل إلى الإخوان، فوصلتني إحداھا. وكان سبب اختياره لألمانيا وجود عدد كبير من الطلاب السوريين فيها، ومنھم كثرة من المعجبين به والموالين له.
وقد تطورت الأمور من سئ إلى أسوأ داخل التنظيم السوري، وحدثت مواقف وصراعات مؤسفة كنت أسمع بها من مصادر ثقة، لكنني لم أهتم بتذكرها، خاصة بتذكر أسماء أشخاص لا أعرفهم ممن دخلوا حلبة الصراع، ومواقف كل منهم وكان مما حملني على الحذر والابتعاد شعوري بأن الأستاذ عصام يجد في نفسه شيئا تجاھي، أو بتعبير آخر زعلان مني لأنني حسب ظنه أثرت في موقف القيادة الداخلية للإخوان في سوريا !!
والحقيقة أن ھذا الموقف الذي وقفه الأستاذ عصام مني كان صدمة لي ؛ فالمشكلة نشأت على النحو الذي ذكرت؛ ولم يكن لي طريق إلى سوريا بحيث تكون ھناك صلة مع الإخوان فيها، خاصة مع شدة الإجراءات الأمنية فيها.
بل إن السيد أمين يكن رحمه لله ، عندما خرج من سوريا ليتصل هاتفيا اعتبر ذلك مخاطرة كبيرة. ومعرفتي به كانت عندما شارك مرة أو مرتين في اجتماعات المكتب التنفيذي ، ليس غير.
وقد انتابني الحزن وخيبة الأمل نتيجة لانهيار الثقة والعلاقة الشخصية المتينة مع الاستاذ عصام عبر سنوات طويلة منذ انتقالي إلى بيروت سنة 1965. ولقد شاركت مع مجموعة أخرى من قيادي الإخوان ، مرتين، في لقاءات عقدت في بيروت من أجل رأب الصدع في التنظيم السوري ، بيد أن الفجوة بين المواقف كانت كبيرة .
صحيح أنني أنا الذي أعددت المذكرة المعبرة عن موقف الإخوان الفلسطينيين من موضوع إقامة المعسكر في الأردن، لكن عملي ذاك لم يكن بصفتي الشخصية ، ولم يكن سرا مكتوما عن قيادات الإخوان.
لقد قمت بتسليم نسخ منها إلى جميع القيادات القطرية، بما في ذلك الأستاذ عصام نفسه، وإلى الأمين العام الدكتور فتحي يكن رحمه لله. كما أنني لم أخف على الأستاذ عصام أنني أرسلت نسخة إلى نائبه.
ثم إن قبول إخوان القيادة السورية لم ينشأ من الاطلاع على مذكرة التنظيم الفلسطيني ، بل كان موقفا تحدد قبل ذلك، أي قبل اجتماع المكتب التنفيذي الذي نوقش فيه الموضوع وكان ما ورد في المذكرة الفلسطينية يتفق مع الموقف السوري ، ولم ينشئه أو يساعد في تكوينه ابتداء .
وإذا كانت قيادة التنظيم السوري قد رفضت الوفاء بالالتزامات التي تعهد بها فإن ذلك الرفض نتج عن قرار سابق شارك الأستاذ عصام نفسه بالتوصل إليه ، وكان مقتنعا به، و ھو قرار أخذ إمكانات ومقدرة التنظيم السوري بعين الاعتبار، وكذلك إمكانات التنظيمات الإخوانية الأخرى في البلاد العربية.
مشاكل التنظيم العراقي
لا اعتقد أن الأزمة التي واجهها التنظيم العراقي بانشقاق عدد من الإخوان المعروفين كان لها صلة بمشكلة "المعسكر" والعمل الفدائي في الأردن ، بل الذي أرجحه أن الخلاف كان يتعلق بطريقة عمل القيادة.
والحقيقة أنني لم تصل إلي أية تفاصيل ، وكل ما وصلني كان نشرة صادرة عن قيادة التنظيم العراقي تحذر من أن يقوم بعض الشخصيات القيادية في التنظيم من الالتقاء والتداول في أمور التنظيم باعتبار ذلك يدخل في إطار "النجوى" المذمومة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف .
ولقد كنت كتبت في مجلة الشهاب عن أھمية الشوري وضرورتها ، وذلك خلال سنة 1968 ؛ ويبدو أن فتح ھذا الموضوع وتناوله بالبحث والمناقشة سبب انزعاجا لقيادة الإخوان العراقيين ، ثم بعد ذلك بأشهر ظهر منه انزعاج عند بعض قياديي الإخوان في الأردن.
والذي وصل إلى علمي يقينا، عن طريق المجلة، أن القيادة العراقية الإخوانية اتصلت بالشهاب، وطلبت إيقاف النشر في الموضوع.
وعندما استمر تناول الموضوع في العدد التالي ، عاودوا الاتصال بالمجلة ، وكانت الرسالة:
- "إذا لم توقفوا الكتابة في الموضوع فأوقفوا أرسال الشهاب إلى العراق." فلما ظهر الاستمرار في العدد التالي مرة أخرى ، أرسلوا برقية تطلب:"أوقفوا إرسال الشهاب."
ويبدو أن رئيس التحرير ، الذي كان مقتنعا بفائدة الاستمرار في بحث الموضوع على صفحات المجلة الناطقة باسم المكتب التنفيذي ، رأى أن الأمر وصل إلى بداية قطيعة ، ولذا فقد قرر إيقاف النشر ، وأخبرني بما جرى ، وتوقفت عن الكتابة ؛ وكان ما يرسل إلى العراق ألف نسخة من كل عدد ؛ وذلك كان أكبر كمية يجمعها اشتراك واحد.
وبعد ذلك جاء إلى بيروت أحد الإخوان العراقيين القياديين يحمل موقف التذمر من ممارسة قيادة التنظيم العراقي، ومعه نسخة من نشرة أصدرتها تلك القيادة تحذر من "النجوى" وتضعها في إطار مفهوم يضيق بالرأي الآخر...
ويستنكر أي حديث بين الإخوان بشأن ممارسات القيادة وقراراتها إلا مع القيادة ومن خلال القيادة ، باعتبار ما يجري خلاف ذلك داخلا في مفهوم النجوى، "(إنما النجوى من الشيطان ...)"
واستخدمت القيادة في تلك النشرة نص الآيات 8 و 9 و 10 ، من سورة المجادلة:
- (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به لله ، ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا لله بما نقول ، حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير. يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ،ومعصية الرسول ، وتناجوا بالبر والتقوى ، واتقوا لله الذي إليه تحشرون. إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارھم شيئا إلا بإذن لله ، وعلى لله فليتوكل المؤمنون).
ويبدو أن قيادة التنظيم العراقي لم تجد حرجا في أن تضع نفسها في مستوى قيادة الرسول (صلوات لله وسلامه عليه) ، أو أن سهوا قد حدث فتسربت منه المقارنة الضمنية.
وعندما نعود إلى أسباب النزول (32) نجد أن رئيس التنظيم العراقي استخدم الآيات في غير موضعها، وكان استخدامه ينم عن ميل شديد إلى الاستبداد ، والنجوى التي أشارت إليها الآيات باستنكار كانت متعلقة بعمل رسول لله صلى لله عليه وسلم وھو يبلغ الرسالة عن لله تعالى ، ولييس بعمل رئيس تنظيم، وذلك ما أصابني بالدهشة والحزن والألم والغضب معا، لأن سمعة التنظيم الإخواني العراقي كانت أكبر من ذلك بكثير .
وكانت ھذه المشاعر حاضرة في خاطري عندما تناولت موضوع الشوري في مقالات نشرت في مجلة المجتمع الكويتية سنة 1971 ، وتناولت فيها بالنقد بعض مقولات وآراء الدكتور عبد الكريم زيدان.
الفصل الخامس:مع الإخوان السودانيين
قام التنظيم السوداني للإخوان المسلمين بدور نشط في اجتماعات المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين في البلاد العربية .وعلى الرغم من بعد السودان الجغرافي عن أماكن اجتماع المكتب ، في بيروت ، وفي عمان فإن الإخوان السودانيين لم يتخلفوا عن اجتماع واحد فيما أعلم.
ومن ھنا جاء اتصالي بالتنظيم السوداني واحتكاكي بعدد من قياداته ما بين عامي 1965 و 1969 . كذلك فقد أطللت على نشاط التنظيم السوداني من خلال متابعتي لجريدة الميثاق الإسلامي التي كانت تصدر في الخرطوم وتصلني بانتظام.
من ھنا فقد رأيت أن ھذا الجانب من تجربتي قمين بالتسجيل ، مع ما أكون قد أجلته في خاطري من أفكار حول اجتهادات الحركة الإسلامية السودانية ومنطلقاتها وممارساتها ، وتبدل مواقفها من حال إلى حال.
ظهر التنظيم السوداني للإخوان المسلمين على مسرح الأحداث بشكل بارز أول مرة في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1964 م ، عندما انفجرت الثورة الشعبية السودانية ،إذ انطلقت شرارتها من جامعة الخرطوم يوم 22 تشرين أول من تلك السنة ، ثم امتدت لتشمل جماھير الشعب السوداني الذي ھب لإسقاط الحكم العسكري.
وقد كانت ثورة السودان تلك هى أول ثورة شعبية في العالم العربي تنجح في إسقاط حكم عسكري دكتاتوري ؛ ولعلها الأخيرة حتى الآن ولا مراء في أن تلك الثورة تعد نقطة مضيئة في تاريخ الشعب السوداني ، على الرغم من فشلها في المرحلة التالية ، مرحلة البناء . لقد كانت الجامعة أھم معاقل حركة الإخوان ، وانطلاق الثورة منها جعل لهم دورا قياديا في تفجيرھا وتوجيهها.
وقد واجهت الثورة في أيامها الأولى مقاومة من جانب العسكريين ، حيث أصدر وزير الداخلية السوداني اللواء محمد أحمد عروة بيانات اتهم فيها عناصر مدسوسة وتخريبية غير مسئولة بالتسبب في الحوادث؛
ثم إنه حذر من أنه سيتخذ الإجراءات التي تضع حدا لتلك الأعمال. بيد أن العسكريين لم يجدوا مناصا من النزول عند إرادة الشعب. وھكذا أصدر الفريق إبراھيم عبود بيانا للتھدئة يوم 25/10/1964
ثم أصدرت القوات المسلحة السودانية والجبهة الوطنية الموحدة بيانا مشتركا أعلن اتفاق الطرفين على إعادة دستور سنة 1956 وتشكيل حكومة انتقالية.
وبعد أسبوعين من ھذا الإتفاق حاولت مجموعة من الضباط إن تقاوم الثورة وتعيد الحكم العسكري ، وتولى سلاح الدبابات وسلاح الخدمة كبر ھذه العملية ، غير أن الجبهة الوطنية الموحدة أذاعت بيانا من راديو أم درمان دعت فيه الشعب إلى النزول إلى الشوارع ، وتسيير مظاھرات ضد تحرك العسكريين ، وھكذا نجحت الثورة الشعبية وثبتت أقدامها.
وقد كان منتظرا والحالة ھذه أن يكون للإخوان دور بارز في المشاركة في الحكم يتناسب مع دورھم في تفعيل الثورة وفعلها ، ولكن تشكيل الحكومة أعطى الإسلاميين مركزا هامشيا.
لقد شاركت في الثورة خمس جماعات سياسية رئيسية، هى:
الإخوان المسلمون، الحزب الشيوعي، حزب الأمة، ثم الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي.وقد مثل الإخوان في الحكومة الأولى التي شكلها سر الختم خليفة بوزير واحد ، وكذلك كان الحال في حكومة سر الختم1965 خليفة الثانية التي تشكلت في 23/2/1965 .
ثم أجريت الانتخابات في شمال السودان يوم 21/4/1965، وكان من نتيجتها أن حصل حزب الأمة على 75 مقعدا ، وحصل الحزب الوطني الاتحادي على 54 مقعدا ، وحصل المستقلون على 15 مقعدا ، والشيوعيون على 11 مقعدا ، ومؤتمر قبائل البجة على عشرة مقاعد ، والإخوان المسلمون (جبهة الميثاق الوطني) على 5 مقاعد ، بينما نجح ثلاثة نواب من حزب الشعب الديمقراطي بصفة مستقلين ، إذ أن حزبهم قاطع الانتخابات.
وقد شارك الإخوان بشكل قوي في الضغوط التي جرت لإجبار حكومة سر الختم الأولى على الاستقالة من أجل إبعاد الوزراء الشيوعيين ، كما قاموا بدور رئيسي في تنظيم واستمرار الحملة التي استهدفت طرد ثمانية من النواب الشيوعيين من الجمعية التأسيسية؛
بينما استثني النواب الثلاثة الباقون المحسوبون على الحزب الشيوعي إذ اعتبروا مجرد متعاطفين مع الحزب الشيوعي فقط، وأن تأييد الشيوعيين لهم في الانتخابات كان على ھذا الأساس . وقد تم في سياق الحملة مهاجمة مقر الحزب الشيوعي وإتلاف محتوياته، كما كان من نتائح الحملة الإخوانية اعتقال عدد من الزعماء الشيوعيين .
وما لبثت أن تشكلت حكومة ائتلافية من الحزبين الكبيرين الذين حصلا على أكبر قدر من المقاعد النيابية، حزب الأمة، والحزب الوطني الاتحادي ، وبذلك أصبح الإخوان كتلة معارضة صغيرة الحجم خفيفة الوزن، لا تستطيع أن تحدث أي أثر في توجيه الحياة السياسية في البلاد؛
وقد ظل الأمر كذلك إلى أن انهار الا ئتلاف من الداخل ، من جراء خلافات بين الحزبين ، ثم من جراء انشقاق قاتل داخل حزب الأمة نفسه . وھكذا ھيأت الأنانيات الحزبية والشخصية القصيرة النظر البلاد لعودة خطر الغول العسكري المتربص.
وفي ھذه الأثناء كان الإخوان المسلمون السودانيون غافلين عن الوحش الذي كان ينمو في أحشاء المؤسسة العسكرية. وأذكر أنني سألت الدكتور حسن الترابي أثناء زيارته لي في بيتي في بيروت، في شتاء سنة 1969 ، عن احتمال قيام الجيش السوداني بانقلاب عسكري ...
فأجاب مستبعدا ھذا الاحتمال بشكل قاطع ، وأكد أن الجيش أخذ العبرة من ثورة أكتوبر وسقوط الدكتاتورية العسكرية لنظام الفريق إبراھيم عبود ، وأن الجيش لن يفكر في القيام بمحاولة انقلاب طوال الخمسين سنة القادمة.
بيد أن الأحداث لم تلبث أن أثبتت أن ھذا التفاؤل المسرف الذي أبداه الدكتور الترابي لم يكن يستند إلى فهم للواقع ، إذ لم تمض أربعة أشهر على حديثة ذاك إلا وقد قام الجيش السوداني بانقلاب عسكري جديد في شهر أيار (مايو) 1969 فأطاح بالحكم المدني ، وتولى العسكريون الحكم متحالفين مع الشيوعيين.
وقد وقع الانقلاب بينما كان عثمان خالد مضوي ومحمد صلح عمر، رحمه لله، موجودين في الأردن،في معسكر الإخوان.
وكان رد الفعل الإخواني تجاه الانقلاب مفرطا في عاطفيته كذلك ، فقد نظروا إلى الضباط الذين قفزوا إلى سدة الحكم باستخفاف شديد. وأذكر أن الأستاذ عثمان خالد مضوي قال في آخر اجتماع للمكتب التنفيذي انعقد في بيروت بعد الانقلاب العسكري السوداني بفترة قصيرة: "إننا نعتبر ھذا الانقلاب منحة من لله ، وفرصة أعطانا إياها لنقضي على الشيوعيين وھم متلبسون بالجريمة التي تبرر تصفيتهم."
وقد قال غير عثمان مضوي من قياديي الإخوان السودانيين مثل قوله تقريبا، حتى لقد قال أحدھم : إن القبيلة التي أنتمي إليها وحدها تستطيع أن تمنع استقرار الأمن يوما واحدا في مساحة تمتد ألف كيلو متر، من الخرطوم إلى الجنوب .
ولقد أسفت أن يكون الإستاذ عثمان خالد بهذه العاطفية ، مع أنه مثقف وقارئ جيد، وقد أمضى سنوات يعمل في سلك القضاء ، وكيل نيابة، ثم قاض، ثم محام، وھو فوق ذلك لماح شديد الذكاء ، ولكن "من مأمنه يؤتى الفطن" كما تقول الحكمة العربية القديمة؛
بمعنى أن الشخص اللماح السريع الإدراك، إن لم يقرن ھذه الصفة بالتأني في التفكير، قبل الحكم على الأشياء، فإنه يبني فهمه على ملاحظة سريعة لأحدى جزئيات المشكلة التي بين يديه ويقفز عن مكوناتها الأخرى في سياق ثقته المفرطة بذكائه، وبذلك يقع في خطأ يمكن أن يتجنبه شخص آخر أقل ذكاء، وبدرجة كبيرة. إن البطء في التفكير ، والبطء في الفهم، قد يكون صفة أفضل أنتاجا واستنتاجا.
عاد محمد صالح عمر إلى السودان، وأخذ الإخوان وحزب الأمة والأنصار يستعدون للمواجهة مع العساكر من غير ما احتفال بالكتمان والسرية، بل على العكس من ذلك اتسمت تحركاتهم بالتحدي والاستفزاز، وانعقد لواء القيادة للإمام الهادى، زعيم الأنصار الذي لم يكن ينقصه الإفراط بالتفاؤل، بل كان ينقصه الإدراك السياسي، كما تنقصه القدرة على فهم المتطلبات العسكرية، أو متطلبات القوة المادية في مثل المواجهة الوشيكة التي كان مقبلا عليها.
ويبدو أنه تمترس خلف اعتماد وھمي بأن العساكر لن يتجرأوا على المس بإمام الأنصار. ولذلك فقد أخذ يجمع الأسلحة، ويحشد الأتباع، ويطلق التصريحات، وذھب بأتباعه ليتخذ جزيرة صغيرة في نهر النيل جزيرة "أبا" قاعدة له ، وأخذ يعلن أنه سيقضي على حكم العساكر.
وكانت ھذه الجزيرة أنسب مصيدة وضع فيها نفسه وأتباعه وحلفاءه ليكون ھدفا للقصف المدفعي والجوي، وقد تم القضاء عليه وعلى كثيرين مما ساروا خلفه خلال ساعات، وكان من ضمن الذين لقوا حتفهم في هذه المذبحة محمد صالح عمر .
وبعد ذلك ظل جعفر نميري يحكم السودان أكثر من ستة عشر عاما بعد استيلائه على السلطة عام 1969 م. وقد ألقي بأعداد كبيرة من الإخوان في السجون، ومنھم الدكتور حسن عبدلله الترابي، واضطر آخرون للخروج من السودان؛
بحثا عن العمل والأمان، وتحالفت قيادة الإخوان الطليقة مع بقايا حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي، وشاركوا في التحالفات السياسية والمحاولات القتالية ضد الحكم العسكري الذي كان على رأسه جعفر نميري، وتعاونوا مع نظام معمر القذافي في ليبيا.
وبعد ھذا السفر الطويل، وسنوات طوال قضاھا الترابي رھن الاعتقال إذا به يتصالح ، ومعه إخوانه، مع نظام جعفر نميري، وشاركوا في الحكم، وفي أجهزة السلطة ، مثل الاتحاد الاشتراكي وغيره ، وأصبحوا جزءا من النظام.
ثم إن النميري أعلن إسلامية نظامه، فصار الترابي وأنصاره المقربون يدعون إلى مبايعة نميري بالخلافة، أو الإمامة للمسلمين جميعا، وحاولوا إقناع الإخوان المسلمين خارج السودان بفكرة مبايعة جعفر نميري.
ولقد صدمت عندما أخبرني بذلك أخ عراقي قيادي عرفته منذ كنت أعمل لدى المكتب التنفيذي، وكان يشارك في اجتماعاته، ثم اضطر للخروج من العراق وعمل سنوات في أحدى دول الخليج العربي، والتقينا، وكنا نتزاور مع معرفته بإنني تركت الانتماء للإخوان، لكنه كان يأتي لزيارتي وينتهز الفرصة للتنفيس عن بعض ما يملأ صدره حزنا وغضبا وحيرة معا. أما دور الترابي بعد ذلك بسنوات فقد كان أكثر خطورة وأوغل في الابتعاد عن الجادة.
وأذكر أن قيادات المكتب التنفيذي كانت ناقشت في أحد الاجتماعات قضية مشاركة الإخوان في الحكم مع قوى وتيارات أخرى غير إسلامية، وكان رد الدكتور حسن الترابي : "ولله يا إخواننا احنا لو صح لينا نص وزير أو حتى ربع وزير مش حنرفض. "
وذلك على اعتبار أن السلطة ستمكن الإخوان من تنفيذ الإصلاح الذي يريدون. ويرى الكثيرون أن هذا السلوك لا يعدو أن يكون نوعا من الانتهازية ، بغض النظر عما يساق لتبريره.
في الكويت
في أوائل عام 1970 كنت أعمل مدرسا في قطر عربي ذھبت إليه بعد مغادرتي بيروت ،بيد أنني لم ألبث أن ضقت ذرعا بالأجواء العامة في البلد ، مع أن ظروف عملي في التدريس كانت مقبولة.
ومما زاد في ضيقي أن عددا من الشخصيات الإخوانية المعروفة كانت مرتبطة بالسلاطين،وحاولت جذبي إلى دائرتها ، على الرغم من أنني لم أكن مرتبطا معهم بأي رباط تنظيمي ، وھم لم يكونوا من التنظيم الفلسطيني .
وقد دفعني ھذا الضيق إلى قبول عرض من الإخوان في الكويت للعمل لديهم متفرغا للمكتب الإقليمي وقد أكد لي الإخوان أنني لن أواجه شيئا من المتاعب التي واجهتها أثناء تفرغي للعمل لدى المكتب التنفيذي في بيروت وذلك بفضل توافر انسجام أكثر في علاقات مكونات المكتب الإقليمي في الكويت.
وقد امتدت فترة عملي الجديدة من شهر آب 1970 إلى شهرر أيلول من سنة1971 . غير أنه لم تمض بضعة أشهر على مباشرتي لعملي الجديد إلا وقد اقتنعت باستحالة استمراري فيه، واتجهت للعمل الحكومي ، فاستقلت فعلا توطئة للعمل الحكومي مدرسا في معهد التربية للمعلمين، (لعل اسمه هكذا) التابع لوزارة التربية (1971-1972)
وكان العمل لدى المكتب الاقليمي في الكويت أيضا عبارة عن رصد الأخبار والأحداث التي تهم الحركة الإسلامية وكتابة دراسات أو تحليلات لبعض القضايا المهمة. وقد واكب ھذا النشاط الوظيفي بطبيعة الحال نشاطي في التنظيم الفلسطيني العام الذي كنت نائبا لرئيسه.
وعندما حللت في الكويت كان يرأس التنظيم الفلسطيني المحلي هناك الأخ عمر أبو جبارة رحمه لله الذي اختطفته يد المنون بعد ذلك بثلاث سنوات.وكان يعمل مدرسا للكيمياء في إحدى المدارس الثانوية ھناك. وقد سارع الأخ عمر بالتنازل لي عن رئاسة التنظيم الفلسطيني المحلي تطبيقا لما نص عليه النظام الأساسي .
وقد شهدت تلك السنة أحداثا جساما ، وكانت بمثابة محطة كبيرة ظهرت ومرت من خلالها تلك الأحداث التي ھزت عالم الإسلام ، وكان لبعضها تأثير بالغ على حركة الإخوان؛
فلم أكد أبدأ العمل حتى اندلعت أحداث أيلول الأسود المعروفة في الأردن، ولم يكد ينصرم ذلك الأيلول الأسود حتى غاب جمال عبد الناصر عن المسرح غيابه النهائى.
ومن الأحداث التي شهدتها تلك الفترة كذلك انفجار الموقف في باكستان والتمزق الذي أصاب تلك الدولة الإسلامية الكبرى ، وبجانب ذلك كله ما حدث في ساحة الصراع العربي الصهيونى، خاصة طرح مبادرة روجرز وقبول جمال عبد الناصر لها تلك كانت القضايا التي شغلت فكر الإخوان في تلك الفترة ، وھي التي كانت مدار منافشات المكتب الإقليمي في الكويت وكانت مشغلتي بالدرجة الأولى .
رحيل جمال عبد الناصر
وقد جاءت وفاة جمال عبد الناصر في المرحلة النهائية لأحداث أيلول في الأردن ، حيث توفي رحمه الله في 28 أيلول (سبتمبر) 1970 .
وهكذا استمر الإخوان في معاناة جو التوتر والترقب ،ومحاولة استكناه المخبوء في أحشاء المستقبل الذي كان يتراءى لهم شديدة القتامة ، بسبب نظرة عامة ران عليها تشاؤم ثقيل مثبط ، ولدته سنون طويلة من الاضطهاد والملاحقة، والشعور بالقهر والعجز معا.
ولقد كان تصور الإخوان لمرحلة ما بعد عبد الناصر بداية لاصطدامي ببعض القياديين في المكتب الإقليمي ، وبالتالي استقالتي من تفرغي للعمل الحركي ، وانتقالي للعمل في وزارة التربية والتعليم.
لم أكن متعاطفا مع جمال عبد الناصر في يوم من الأيام منذ توليه الحكم عام 1954 وحتى وفاته. ولقد شعرت كما شعر غيري من الإخوان بالظلم والقهر، وأدركت القساوات التي مارسها نظامه على جميع معارضيه ، خاصة ضد الإخوان المسلمين.
ومع ذلك ، فإنني لم أغل في الخصومة مثل أولائك الذين صوروه بأنه مجرد ألعوبة ، في أيدي الدول الاستعمارية ، أو أولئك الذين أقنعهم شعورھم المعادي له بأنه يهودى.
والواقع أن الأثر الفوري الذي تركه نبأ وفاة عبد الناصر في نفسي ونفوس كثيرين من الإخوان كان مزيجا من الارتياح والحزن معا. لقد جاء الارتياح من التوقع العقلي لأن يتلو ذلك توقف محنة الإخوان أو تطامنها على الأقل.
أما الحزن فقد جاء من عدة روافد:
- أولها أن المتوفى إنسان كان في ذروة السلطان والعز والقوة بغض النظر عن هزيمة حزيران 1967 ثم ذوى وأفل نجمه فجأة بعد أن كان يملأ الدنيا صخبا وضجيجا ويحرك الأحداث الكبار.
- أما الرافد الثاني: فقد تمثل بجو الحزن العام الذي خيم على العالم العربي ، والذي زاده الندب والنحيب الذي انفلت من الإذاعات والصحف وسائر وسائل الإعلام
- وأما الثالث: فقد كان شعورا بيتم ھذه الأمة التي اتخذته أبا وقائدا أوحد ونبذت كل من عداه ، ثم فقدته فجأة في ليلة ليلاء ، وباتت تنتحب يأسا وذعرا.
لقد قضى جمال عبد الناصر على جميع الزعامات في داخل مصر وفي معظم فضاء الأمة العربية، ولم يبق في الساحة من يخلفه ويملأ الفراغ الذي تركه. لقد حرص طوال عمره على أن يكون عملاقا بين أقزام ، وكان له ما أراد إلى حد كبير فلما رحل كان لا بد أن تشعر أسرته الكبيرة باليتم .
وقد انتقل ھذا الشعور إلى كثيرين من خصومه ولست أزعم أن ھذا الموقف الوجداني كان موقف الإخوان جميعا أو أكثرھم ، بل لقد فرح الأكقرون، خاصة أولئك الذين نالهم قسط أكبر من التعذيب والمطاردة والغربة عن الأھل والوطن، وكذلك من لحقهم أذى غير مباش أو مخفف ؛ وموقف كل ھؤلاء أمر طبيعي في حياة البشر.
أما رد الفعل العملي بالنسبة لي فلم يغرق في العاطفة والانفعال ، ولم يصبه شيء من البطء والتواني . فبمجرد سماعي بالنبأ أدركت ضخامة الآثار التي سيتركها الحدث ، وبدأت أعد مذكرة موجزة ركزت فيها على بضعة أفكار أساسية من غير إسهاب في التحليل أو الاستقصاء ، مؤجلا ذلك إلى دراسة لاحقة .
وقد غطت ھذه المذكرة الموجزة صفحتين أو ثلاثا. وفي صبيحة اليوم التالي كنت أجري اتصالات من أجل عقد اجتماع غير عادي للجنة الإقليمية لبحث الموقف الجديد ، وما يمكن أن يستدعيه من عمل. وقد بدا موقفي أمام الآخرين كأنه مندفع أو متعجل ، بيد أن اللقاء قد تم ، حيث وزعت نسخا من المذكرة على المشاكين .
خلاصة تصوري لللموقف:
- لقد رأيت أن وفاة عبد الناصر قد حددت نهاية عهد مضى وبداية عهد وقفنا على عتبته. وقد بنيت ذلك الفهم على أساس أن عهد عبد الناصر قام على عدد من العناصر والركائز التي يستحيل تكرارھا ، لأنني لا أومن بالمقولة التي تزعم أن التاريخ يعيد نفسه. (33)
- وأول ھذه العناصر والركائز شخصية عبد الناصر، شخصيته الأصلية التي ظھرت عام 1954 م وشخصيته المكتسبة التي أضاف إليها وقواها خلال ثمانية عشر عاما من نشاطه السياسي والقيادي .
- وسواء كان رئيس الجمهورية المؤقت ، السادات ، يمثل مرحلة انتقالية قصيرة، بضعة شهور مثلا ، أو كان سيتمكن من تثبيت نفسه ، فإن الزعامة الجديدة سوف تكون غير جمال عبد الناصر ، شكلا وموضوعا.
- أما العنصر الثاني فهو الظروف السياسية التي سادت العالم العربي في الخمسينات ، ونجح عبد الناصر في التعامل معها على النحو الذي بوأه مكانة الزعامة على الصعيد العربي العام ، وھي ظروف لا يمكن أن تتكرر ، مثل معركة الأحلاف ، ومعركة الجلاء ، والعدوان الثلاثي، والتنافس الهاشمي السعودي، وحركة عدم الانحياز، والثورة الجزائرية، وتأميم قناة السويس، وصفقة الأسلحة الروسية، والوحدة المصرية السورية. كل ھذه الأحداث كان لها الأثر الكبير في بناء زعامة عبد الناصر العربية.
- أما على الصعيد الداخلي في مصر فقد اسنفد عبد الناصر كثيرا من التجارب، أعني استنفد بريقها واستهلك وهجها ، كما استهلك كل الشعارات.وثالث هذه العناصر كون مصر تعيش مرحلة ھزيمة وقهر، حيث يحتل الصهاينة جزءا كبيرا من أرضها ، ويفرضون عليها القهر والإذلال .
- وهذه الحقيقة سوف تفرض على جميع القوى الفاعلة في مصر وهى تحاول إعادة تشكيل الوضع الجديد ، نهجا جديدا في التعامل مع يكون أقرب إلى الموضوعية في التعامل مع المشكلات ومع الناس.
- رابعا: إن خصومة عبدالناصر مع الإخوان كانت شخصية في أحد جوانبها، كانت ھناك مرارة شخصية في نفسه تجاه الإخوان لسبب تحديهم المستمر لحكمه ومحاولاتهم المتكررة لإنهائه ، ومرارة في نفوس الإخوان تجاه شخصه نظرا لما لحقهم ، لحق أشخاصهم ولحق بلدھم على يديه وباسمه؛ وقد زال ھذا العنصر الشخصي الآن (1970) بوفاة عبد الناصر، إلى حد كبير .
- وأضفت: أنه حتى لو اعتبر العهد الجديد نفسه استمرارا لعهد عبد الناصر ، فإن على حركة الإخوان أن تعمل على إقناعه بأنه عهد جديد ، وأن تأخذ زمام المبادرة في ھذا الاتجاه بتصميم ثابت ومتواصل.
- ومضيت أوكد بأن مصر تمثل مركز الثقل في العالم العربي والإسلامي ومطبخ الأحداث المهمة. وقد استبعد الإخوان منها وعليهم أن يعودوا إليها ، حتى لا يظلوا يصرخون خارج أسوارها صراخا يتبدد في الفراغ.
إن على حركة الإخوان المسلمين أن تستعيد أرضها في مصر لكي لا تصنع الأحداث في حال غيابها الذي طال حتى بلغ قرابة عقدين من الستين.
وكان مما أشرت إليه أن حركة الإخوان بما لها من رصيد شعبي وتاريخي تستطيع أن تساھم في حشد قوى الشعب المصري لمواجهة الصلف الإسرائيلي الرابض على حافة قناة السويس، كما تستطيع أن تساھم في توجيه السياسة المصرية وفي حمايتها من الانحراف
لو أنها رعت دروس الماضي القريب وعملت كما تضمنه من عبر؛ وكل ھذا لن يتحقق إلا إذا عادت الحركة إلى العمل في العلن ، وبكل ثقلها، في ظل حد أدنى من الثقة المتبادلة مع نظام الحكم تفرضه الضرورات الوطنية الآنية الملحة.
ولم تكن رؤيتي تستند إلى ثقة في أي من الأشخاص أو القوى التي كانت تتحفز لوراثة عبد الناصر ، بل كانت تستند إلى العناصر الأربعة التي ذكرت.
أما موقف الإخوان الآخرين فقد تراوح بين المخالفة والاعتراض الشديد لمقترحاتي، وبين الموافقة الكلية أو الجزئية المتحفظة؛ بينما كان هناك من لم يستطع تكوين رأي، ولم يجازف بقل شئ أواتخاذ موقف.
وكان المتشددون أسرى لنظرة تشاؤمية مسرفة ، صرفتھم عن إدراك عمق التغيير المقبل؛ وقد حاججوا بأن ورثة عبد الناصر، سواء كان السادات أو غيره ، قد شاركوا في سفك دماء الإخوان، كما شاركوا في صنع المصائب التي حلت بالإخوان وبالبلد.
وعلى ذلك فإنهم جزء من النظام السابق، كما أنهم جزء من النظام حاضرا ومستقبلا. تلك كانت البداية في مواجهة الموقف فور وفاة عبدالناصر. ولم تمض أسابيع قليلة حتى أحضر الممثل المصري في المكتب ، الدكتور سالم، تقريرا عن وضع القوى المتنافسة في مصر ، وكان التقرير يحمل مسحة من التفاؤل ، ويتفق مع ما ذھبت إليه ، إلى حد كبير.
وقد قوبل الأخ المصري بتعليقات عنيفة من جانب السيد عبدلله العقيل، الذي كان يمثل الجانب المتشائم، وجرت مشادة بينهما خلال الاجتماع ، حتى أن الأخ سالم ما لبث أن انقطع عن المشاركة في اجتماعات المكتب الإقليمي، وحل محله الدكتور محمد طلبة زايد.
وقد مضيت من جانبي في الإلحاح على ضرورة أن يتخذ الإخوان قرارا بالعمل من أجل إعادة موقع الحركة في مصر إلى حالة ووضع الشرعية ، أو العمل المسموح به على الأقل من جانب السلطة.
ولم يلبث أنور السادات أن تمكن من تثبيت نفسه من خلال أحداث شهر مايو المعروفة ، ثم بدأ يمارس سياسته الخاصة لكسب الولاء، أو التعاطف الشعبي، وفي ھذا السياق صار يخفف الضغط على الإخوان ويفرج عن المسجونين منھم قبل أن يكملوا مدة الحكم، وذلك ليوازن بھم قوة خصومه اليساريين والشيوعيين على الصعيد الشعبي.
كذلك بدأت السلطات المصرية تشجع الإخوان الفارين من مصر على العودة إليها. وكنت أعتقد أن على الإخوان أن يعودوا لا ليؤيدوا السادات ، بل لتعود مصر قاعدة كبرى للحركة الإسلامية والعمل الإسلامي. وكنت أرجو أن تتجنب الحركة أخطاء الماضي، وتثبت وجودھا ، بحيث تستطيع أي سلطة أن تتجاهلها.
وأذكر أنني كنت في جلسة نقاش مع بعض الإخوة المصريين حول ضرورة العودة إلى مصر، مشيرا إلى الموقف الحكومي المشجع، فعلق أحدھم بقوله:إن السادات يريد أن يشجعنا على العودة ، حتى إذا صرنا جميعا في قبضته علقنا على أعواد المشانق !وصاحب هذا التعليق يحمل درجة الدكتوراة فى الكيمياء من جامعة غربية!!
إلى ھذا الحد كان التاشنج والانفعال مسيطرا على نفسيات الإخوان بحيث حرمهم من القدرة على التفكير السديد والسلوك السوى . كان ذلك في بداية عهد السادات وقبل أن تظهر بوادر سياسات كامب ديفد بسنوات طويلة.
فلما وثقوا بعد زمن من أنه كان جادا فعلا في إيقاف حملة العنف ضدھم، من أجل كسب ولائهم تحول الموقف المتشنج إلى عكسه.
الأحداث الباكستانية
وفي ھذه الفترة الكويتية جاءت أحداث باكستان الحاسمة التي انقشعت عن فصم الوحدة بين جناحي ھذه الدولة الإسلامية الفتية. ويرجع اهتمام الإخوان المسلمين الشديد بأحداث باكستان إلى ثلاثة عوامل أساسية:فباكستان دولة إسلامية ، وباكستان دولة إسلامية غير عادية ، لأنها قامت باسم الإسلام، وانفصلت عن شبه القارة الهندية بعد معاناة طويلة من المذابح الطائفية المتكررة ، فأراد شعبها أن ينفصل ليعلي من شأن ھويته الإسلامية ويثبتها.
أما العامل الثالث فيتعلق بوضع الجماعة الإسلامية، (جماعتي إسلامي باكستان) التي ينظر إليها الإخوان وكأنها امتداد لحركتهم، وذلك لوجود تقارب كبير في رؤية الحركتين، على الرغم من النشأة المستقلة لكل منھما.
وكانت الجماعة الإسلامية قد قررت المشاركة في الانتخابات النيابية عندما اضطر الدكتاتور يحيى خان إلى إجراء الانتخابات تحت ضغط الأحزاب والحركات السياسية.
وكانت توقعات الجماعة وتوقعات الإخوان مسرفة في التفاؤل، لأن الجماعة كانت ھي الأقوى، سواء على مستوى المثقفين، أو اتحادات الطلاب، دون منازع ؛ كما كانت تسيطر على مجالس بعض الاتحادات العمالية.
ولست أنكر أنني كنت أسيرا لهذه النظرة التفاؤلية المسرفة، إذ لم تكن لدي معرفة مباشرة ، كما كانت التحليلات التي جاءت بها الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ما زالت آنذاك مغيبة في رحم المستقبل البعيد.
وكانت معلوماتي الخاصة عنها مستقاة من تقارير الإخوان، خاصة أن صديقي المرحوم عبد الحليم أبو شقة كان قد قام برحلة استطلاعية إلى باكستان قبل الانتخابات ببضعة أشهر ، وسمعت منه تقريرا شفهيا موجزا، تبين فيما بعد أن كثيرا من الحقائق كانت قد فاتته في زيارته القصيرة العابرة .
وقد تبين لي فيما بعد أن تقارير الإخوان العاطفية الرغائبية جهلت أن الشريحة المثقفة والمتعلمة في مجتمعات باكستان كانت قشرة رقيقة جدا ومحدودة المساحة في امتداداتها أيضا، وأن القطاعات الكبرى من الشعب الباكستاني كانت ومازالت أسيرة الأمية الضاربة في أعماق الماضي؛
بينما الولاءات القبلية العرقية والإقليمية، وتوجهات وأطر الطرق الصوفية والزعامات الدينية التقليدية، وكثرة من المشعوذين في مسارات ھذه المسارب، ما زالت ھي المسيطرة على عقليات الكثرة الكاثرة من الجماهير، تجرها خلفها في مسارب متشعبة مضيعة.
وقد كنت أحاول تتبع أخبار الانتخابات عن طريق الصحافة ، خاصة جريدة " Young Pakistan " التي كانت تصدر في دكا ، عاصمة الجناح الشرقي من باكستان آنذاك، (بنغلادش) حاليا، وكذلك صحيفة (راديانس) التي كانت تصدر في دلهى (أو دھلي) العاصمة الهندية،وكلا الصحيفتين كانتا تعبران عن وجهة نظر إسلامية.
وقد جاءت نتيجة الانتخابات فوزا ساحقا لحزب عوامي، وحزب الشعب ، أو تحالف مجيب الرحمن وعلي بوتو. وكان الشيخ مجيب الرحمن وحزبه قد حصلا على أغلبية المقاعد، وكانت الأصول الدستورية تفرض أن يسند إليه منصب رئاسة الوزارة.
غير أن الدكتاتورية العسكرية الممثلة في الجنرال يحيى خان ، قائد الجيش ورئيس الدولة ، أرادت أن تسير بالبلاد في اتجاه آخر.ولسنا معنيين ھنا بسرد تاريخ تلك الفترة من حياة باكستان ، وإنما الذي يعنينا ھو استعراض رد الفعل عند الإخوان المسلمين ، خاصة في المكتب الإقليمي الكويتي.
دارت المناقشات في المكتب الإقليمي في باكستان، وجرى الحديث عن شعارت الشيخ مجيب الرحمن المنادية بالفدرالية. وقد علقت على ذلك بقولي : إن على يحيى خان أن يكلف الشيخ مجيب برئاسة الوزارة ، وفي ذلك يكمن الأمل الوحيد لصرف الزعيم البنغالي عن ميوله الاستقلالية؛
وقد أضفت: أنه إذا أصر الشيخ مجيب على إبدال الوحدة باتحاد فدرالي فإن على الباكستانيين الغربيين أن يقبلوا ذلك، على الرغم من تخوفهم من أن تكون الفدرالية مقدمة للانفصال.
وقلت: إن الفدرالية خير من وحدة يبقيها بحر من الدم، ويكون استمراره شرطا لازما لبقائها؛ بل وإن الانفصال مع بقاء وشائج الأخوة الإسلامية خقر من سيطرة مفروضة بالحديد والنار من جانب الجيش الذي يسيطر عليه الغرب الباكستاني.
وقد أبرزت في حديثي المخاطر والصعوبات التي تهدد كيان باكستان في حالة اندلاع الحرب الأھلية بين الجناحين. وكان مما نبهت إليه أن مسافة ألف وستمائة كيلو متر من الأراضي الهندية المعادية تفصل بين جناحي باكستان الشرقي والغربي مع ماينطوي عليه ذلك من صعوبة في نقل القوات والمعدات والتموين، بالإضافة إلى احتمال التدخل العسكري من جانب الهند.
ورغم إسهابي في تحليل ملابسات الأزمة ومخاطرھا فقد انبرى لي الأخ المهندس مصطفى الطحان وكان يمثل الاتحاد العالمي للطلاب المسلمين قائلا : "وماذا تركت للمخابرات الأميركية" ، وكان يقصد بذلك أن ما قلته ودعوت إليه ھو نفس ما تقوله وتدعو إليه المخابرات الأميركية "المعادية للإسلام."
ولم تكد تمضي أشهر قليلة حتى اندلعت الحرب الأھلية، وتصرف الجيش الباكستاني بقيادة (تيكا خان) بعنف شديد ضد الثورة الشعبية، فزادت الثورة والعداوة ضراما ، وما عتمت الهند أن تدخلت مباشرة بقواتها، وانتهت الحرب بمأساة ، بل مآس مضاعفة !
فبجانب أنهار الدم وعشرات الآلاف من الضحايا انفصمت الوحدة التي أراد المتطرفون الجهلة المحافظة عليها بالعنف والإكراه والدماء ، ووقع تسعون ألفا من جنود الجيش الباكستاني في الأسر كما ھو معروف ، وتحققت كل المحاذير التي نبهت إليها ، بل وأكثر منها؛
وكانت كلها أمور واضحة يمكن أن يفهمها الإنسان العادي البسيط الثقافة، غير أن فهمها يتعذر على من تطغى الشعارات الرغائبية على عقولهم المحنطة في الأنفاق القديمة، وذلك ما صيرھم في عداد الأميين ، على الرغم من شهاداتهم الجامعية الحديثة.
وقد أخبرني الأخ عمر أبو جبارة رحمه لله أنه ذكر الأخ الطحان بحديثي في تلك الجلسة بعد أكثر من سنة وبتعليقه العدائي:
- "وماذا تركت للمخابرات الأميركية ؟" وسأله عمر عن رأيه بعد كل التطورات، فلم يحر جوابا.
المهم في الأمر أن ھذه الحادثة ، أعني حادثة المناقشات في الشأن الباكستاني والتهجم الذي تعرضت له زادت من اقتناعي بأنني أسير في الطريق إلى الانسحاب والانفصال النهائى من حركة الإخوان المسلمين .
ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير حين كتبت ثلاث مقالات حول الشوري في مجلة المجتمع الكويتية الناطقة باسم الإخوان وتعرضت لهجوم عاصف ، وتحيزت إدارة المجلة بشكل واضح، إذ حرمتني من الرد، بينما سمحت لي بالاستمرار في الكتابة في الموضوع دون الانعطاف إلى الرد, إلا أنني امتنعت ما لم يسمح لي بحقي في الرد.
لقد كان موضوع الشوري واحدا من الموضوعات التي تشغل ذھني ، لاعتقادي أنها إحدى أھم الدعائم الضرورية لنهضة أي شعب، وھي لذلك ضرورية لنهضة أمتنا، بجانب كونها أصلا إسلاميا مهما أكده القرآن الكريم وأكدته السنة.
وقد سبق لي تناولها في مقالين نشرتهما في مجلة الشهاب البيروتية في شهر أيلول 1968 . وكان الذي أشعل الحديث عن الشوري مقال نشر في مجلة المجتمع ادعى مؤلفه أن القيادة في الإسلام فردية، وأن الأمير غير ملزم بكيفيتها ولا بنتيجتها.
وفي ھذا السياق تعرضت لبعض ما كتبه الدكتور عبد الكريم زيدان في معرض نفيه لإلزامية الشوري. وھنا ثارت ثائرة عبدالله العقيل الذي لم يتردد في استعمال ألفاظ تجريحية ضدي مناصرة لآراء الدكتور عبد الكريم زيدان.
وبجانب ذلك انبرت إدارة المجلة تنشر عناوين مؤلفات الدكتور عبد الكريم زيدان بجانب مقالات السيد عبدالله العقيل.
وعلى هامش قضية الشوري أذكر أن الأخ الدكتور محمد طلبة زايد أصبح رئيسا للإخوان المصريين وممثلا لهم في المكتب الإقليمي بعد أن ترك سلفه ، الدكتور سالم نجم اجتماعات ذلك المكتب على أثر اصطدامه بالسيد عبد الله العقيل.
وقد أعلن الدكتور طلبة في نهاية أول اجتماع حضره أنه لا يؤمن بالمجالس، ولا بالتصويت بل يؤمن بأن تترك الاختيارات والقرارات للأمير يبت فيها بحزم وحسم. وعندما تطرق الحديث معه إلى الشوري أعلن أن نتيجتها لا تلزم الأمير؛ وأضاف بأنه ھو الذي صاغ مصطلح "معلمة" و "ملزمة" بالنسبة للشورى.
وأضاف أنه في حالة وفاة الخليفة تقوم بانتخابه مجموعة من أھل الحل والعقد ، وفي أي مدينة من مدن الدولة الإسلامية ، ليس بالضرورة أن تكون العاصمة. وإذا قصر أو انحرف فإنه لا يجوز عزله.
وعندما سئل "وكيف تتحمل الأمة نتيجة تقصيره أو انحرافه؟ " رد بالقول : "ياخدوا على دماغهم ، مش ھم اللي اختاروه !" بهذه العقلية كان يفكر أخ قديم ومتعلم ممن صاحبوا حسن البنا منذ أربعينات القرن العشرين.
والدكتور طلبة طبيب ومتخصص في طب الأطفال؛ وعندما سألته عن قراءاته قال إنه لا يقرأ إلا في تخصصه، كما يقرأ القرآن الكريم، وصحيح البخاري .
وفي أواخر صيف 1971 انتقلت للعمل في وزارة التربية مدرسا بعد استقالتي من التفرغ لشئون المكتب الإقليمي، واقتصر نشاطي الإخواني على شئون التنظيم الفلسطيني ، وعلى المشاركة في اجتماعات المكتب الإقليمي ؛ غير أنني لم ألبث أن انقطعت عن التعامل عن مع المكتب اكتفاء بمشاركة الأخ عمر أبو جبارة ، رحمه لله.
وفي داخل التنظيم الفلسطيني فرع التنظيم في الكويت كنت أحرص على إثارة الموضوعات الإصلاحية مع من تتسع له عقولهم من نقباء الأسر لمثل تلك القضايا.
وعلى الرغم مما كنت أجده من تقدير الإخوان ومحبتهم لي شخصيا ؛ فإن ولاءھم لتراث جماعة الإخوان المسلمين بقضه وقضيضه، سواء في ذلك الأفكار والتجارب والممارسات الصالحة وعكسها ، كل ذلك بدا لي غير قابل للتغيير الإيجابي.
كان يمكنني التأثير على البعض لكنني لم أكن راغبا في إحداث انشقاق، ولا في إنشاء حركة جديدة. وهنا توصلت إلى اقتناع تام بأن محاولة الإصلاح من الداخل غير ممكنة ولا مجدية ؛ وقررت الانسحاب ، ولم أندم على ذلك في يوم من الأيام، ولا للحظة واحدة.
وما دمت قد قررت الانسحاب دون تردد ، فقد كان من المناسب أن أجهر بآرائي بشأن المشكلات التي عانت وتعاني منها حركة الإخوان لسد الباب في وجه أية تأويلات تبتعد عن الحقيقة؛ وفي ھذا السياق تناولت أكثر القضايا إثارة وحساسية ، فإما أن يقبل رأيي وإما أن أترك لأختار طريقي وأمضي فيه.
لقد تناولت فكر حركة الإخوان من أساسه ، ثم انعطفت إلى فكر سيد قطب رحمه لله ، في صورته الأخيرة، كما بلوره في كتاب معالم في الطريق وناقشت مرتكزاته ومنطلقاته بصراحة وموضوعية. وتتابعت مقالاتي، وجاءت ردود الفعل غاضبة وعنيفة ،لأن فكر سيد قطب خلعت عليه درجة من القداسة لا سند لها.
وكنت قد غادرت الكويت في يوم الرابع من تموز (يوليو) 1972 حيث تلقيت عرض عمل في بلد خليجي آخر، قبلته بعد تردد ، لكي أبتعد عن تجمعات الإخوان ، وصدر قرار تعييني بعد وصولي، في اليوم نفسه.
وبعد بضعة أشهر مر بي الأخ عمر أبو جبارة رحمه لله يدعوني للمشاركة في اجتماع مجلس الشوري المنوي آنذاك عقده في الكويت ، فاعتذرت إذ لم أكن أنوي المشاركة، فاستنكر ذلك مصرا على حضوري.
فقلت له: إنني لم أعد من الإخوان ولم أعد أومن بفكرھم ولا بأدائهم ، فكيف تريدونني أن أظل واحدا من قادتهم؟ فتلجلج رحمه لله قليلا ثم سلم بمنطقي الواضح.
وقد ظل بعض الإخوان لا يعترفون بواقعي الجديد، ويبدو أن المعلومات بشأن انسحابي قد حجبت عنھم أكثرھم، وظل الأمركذلك بالنسبة لبعضهم ثلاثين سنة ، حتى سنة 2002 م إذ اتصل بي اثنان منهم يحدد كل منهما موعدا لزيارتي في بيتي، فلما علم ذلك أخبروھما بانفصالي فابتعدا ولم يعتذرا.
وحاولت الاتصال بهما وتركت رسالة في كل حالة، دون جدوى. ففهمت السبب .وفي ھذه الثلاثين سنة حاولت أكثر من شخصية إخوانية من الفلسطينيين وغيرھم أن تقنعني بالعودة إلى الإخوان فلم ينجح أحد في ھذا المسعى .
وفي سنة 1987 حاولت قيادة الإخوان استرجاعي عن طريق جعلي ممثلهم في المجلس الوطني الفلسطييني. وقد جرى الاتصال معي هاتفيا من االكويت. ويبدو أن الشخص الذي كلف بالاتصال بي استخدم لنفسه اسما حركيا لم أعرفه (أحمد ابو حسين) فلم أرغب في مواصلة الاتصال.
فذكر لي اسم السيد سليم الزعنون، نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وفهمت من حديثه أن ھناك دعوة لحضور افتتاح المجلس في دورته السابعة عشرة، وانقطع الحديث عند ھذا الحد. ومع حيرتي فإنني لم آخذ الموضوع مأخذ الجد.
وفي صباح اليوم التالي دق جرس باب منزلي، وأذا بموظف من مكتب منظمة التحرير في أبو ظبي يسلمني بطاقة دعوة وتذكرة سفر ، وصار الأمر جدا وحقيقة. وترددت في الذھاب ثم توصلت لاقتناع على أساس حضور حفل الافتتاح. وبعد الوصول إلى الجزائر والفندق ... الخ.
التقيت بالسيد أبو الأديب الزعنون، فأفهمنى أن النية متجهة لتعييني عضوا في المجلس ممثلا للإخوان، مع عضو آخر ھو السيد عبد الرحمن الحوراني، أبو خالد. فقلت للسيد أبوالأديب إن ھذا غير ممكن بالنسبة لي ، لأنني انسحبت من الإخوان وقطعت عضويتي في جماعتهم منذ سنوات طويلة.
قال:
ولكنهم ھم يريدونك، وقد رشحوك ممثلا لهم. قلت: لكن ھذا غير ممكن من الناحية العملية، لأنكم تريدون ممثلا له صلة عضوية وثيقة بالإخوان يكون حلقة اتصال فعلية، وأنا لست كذلك، ولا أستطيع أن أكونه، والذي أستطيعه ھو أن أغادر غدا وأن أدفع للمنظمة قيمة تذكرة السفر التي جئت بها. فطلب ألا أغادر، حتى يبحث الأمر.
وفي اليوم التالي أبلغني أنني سأعين عضوا "مستقلا" غير ممثل لأي فصيل، وتم ذلك يوم 24 نيسان (أبريل) 1987 فيما أذكر. ثم أضيفت لي عضوية المجلس المركزي فيما بعد.
ولم تطل عضويتي أكثر من سنة وثلاثة أشهر، إذ وجدت الفساد المستشري في المنظمة يمنعني من الاستمرار، سيما وأنني تأكدت من أن العضو المستقل لا يستطيع فعل شيئ مؤثر في تلك الغابة، وكتبت استقالتي وسلمتها إلى عضو أمانة المجلس، أبو خالد الحوراني وانسحبت بهدوء.
وقد ظل بعض الإخوان لايعترفون بالتغيير ويعتبرون ابتعادى مجرد أزمة عارضة قد تزول يوماً وظل كثيرون منهم يحاولون إقناعى بضرورة العودة إلى الصف وفضلاً عن ذلك فقد حرص الإخوان على الاحتفاء بى وتكريمى كلما مررت فى بلد لهم فيه تجمع كبير؛
وأنا أقدر لهم ذلك وأحتفظ لهم للأفراد لاالجماعة بعاطفة ومحبة أكيدة تعمقت جذورها فى أزهى سنى العمر، هذا الحب وتلك العاطفة لاتقوم على مجرد الذكريات، وإنما تستند أيضاً إلى تقدير للأخلاق الفردية العالية التى يتمتع بها أكثر الإخوان، مما لايتوفر فى الجماعات والأحزاب الأخرى بنفس الدرجة والكثافة.
أما من جانب الإخوان فقد أخبرونى أنهم يقدرون لى أننى لم أحاول شق جماعتهم أو اقتطاع أفراد منهم كما حدث فى تنظيمات إخوانية أخرى، وأننى لم أخرج عن مقتضيات عفة اللسان، والترفع عن الدنايا فى الحوار، وإننى أعلنت مواقفى بصراحة ووضوح ودون مواربة، ومن غير أن أشفعها بمحاولات فى الخفاء.
ولست أدرى ماسيكون عليه موقفهم بعد أن سجلت أخبار هذه المسيرة، وبعد أن يقرأوا ما سأكتبه من تشريح ونقد لأفكار حركتهم، ولخط سيرها التنظيمى والحركى، ثم لخط سيرها السياسى، وعندما أصدر عليها أحكاماً شاملة وقاسية تفوق كل ماقلته من قبل فى دراسة قادمة مستقلة!
سيعز على أن يتغير رأيهم فى، ولكن الحق أحق أن يتبع وهذا مايؤكده قول الله سبحانه وتعالى:"اعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا..."
ملحق
إن الإخوان المسلمين فى البلاد العربية والإسلامية ينظرون بكثير من الأسف إلى الاعتقالات التى جرت فى الجمهورية العربية المتحدة وشملت عدداً من الإخوان المسلمين، فى الوقت الذى يحتاج العرب والمسلمون إلى رص صفوفهم، وحشد جهودهم لمواجهة الاستعمار ومخططاته ومؤامراته وتحركاته، ومجابهة خطر إسرائيل المحدق وأطماعها التوسعية التى لاحد لها.
والإخوان المسلمون بما توفر لديهم من معلومات يؤكدون أن الإخوان المسلمين فى مصر لاعلاقة لهم البتة بأية مؤامرة أوسلاح مختزن، ولسوف يكشف عن ذلك بصورة قاطعة أى تحقيق نزيه عادل.
والإخوان المسلمون حريصون فى هذه المرحلة الدقيقة التى تجتازها الأمة والبلاد، على معالجة الأمور بالشكل الذى يكشف الحقائق،ويساعد على وضع الأمور فى نصابها، ويقطع الطريق على كل دس واستغلال، ويفوت الفرصة على دوائر الاستعمار وأعداء الأمة والبلاد،فى الخارج والداخل، فى هذه الظروف الدقيقة بالذات، التى تتكاتف فيها قوى الصهيونية والاستعمار، وتبذل غاية جهدها فى تحقيق أهدافها الإجرامية، وتنفيذ مخططاتها المرسومة بمختلف الأساليب.
والإخوان المسلمون،انطلاقاً من عقيدتهم ومبادئهم ومصلحة أمتهم وبلادهم، وبدافع من تقديرهم العميق للأوضاع، وشعورهم بالمسئولية الضخمة فى هذه الظروف،يدعون السلطات المختصة فى مصر إلى تقدير مايقدرون، وإلى سلوك الطريق الذى يفوت على الأعداء، ويؤدى إلى إحقاق الحق ورفع الظلم،وتحقيق مصلحة البلاد، وتوجيه كل القوى إلى خدمتها وحمايتها.
سؤال وجواب:
ومع البيان تلقت"النهار" هذا السؤال والجواب:
- سُئل مرجع مسؤول فى الإخوان المسلمين عن البيان الذى نشرته بعض الصحف وقالت إنه ورد إليها من أوربا من الإخوان المسلمين فقال:
- "إن هذا البيان لم يصدر عن أى منظمة أو مصدر مسؤول فى الإخوان. وسئل المرجع المذكور عن الوصف الذى وصفت به بعض الصحف الدكتور سعيد رمضان من أنه الأمين العام لحركة الإخوان المسلمين فقال:إن الدكتور سعيد رمضان ليس له فى حركة الإخوان صفة من الصفات،ولامسؤولية من المسؤوليات".
المراجع
- من الدعاة الذين استقبلهم قطاع غزة مبعوثين من الأزهر في أوائل خمسينات القرن الماضي:الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد الأباصيري، والشيخ علي جعفر ، والشيخ محمود عيد ، وغيرھم ، رحمھم لله جميعا .
- والحق أن ھذا التدريب لم يكن فيه غناء ، لأنه كان تدريبا بسيطا يتم معظمه داخل غرفة مغلقة، ويقتصر على معرفة أولية بالأسلحة البسيطة، يتم معظمه في غرفة مغلقة ، ويتصر على معرفة أولية باستخدام المسدسات ، والندقية ، ورشاش ستن ، و برن والقنابل اليدوية.
- حسين أبو النمل ، قطاع غزة 1948 ،1967، تطورات إقتصادية وسياسية واجتاعية وعسكرية (بيروت:مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية ، نيسان أبريل 1979 ، ص 82 –85)
- وللاطلاع على تقرير آخر عن الحدث أنظر Lieutenant General E.L. Burns, Between Arab and Israeli, Beirut Institute for Palestine Studies, pp., 17‐18, وانظر كذلك حسين أبو النمل ، ص 90-91 . وقد ذھب حسين أبو النمل في تحليله إلى أن الفارة الإسرائلية كانت بھدف الضغط على الحكومة المصرية لخملھا على القبول بسياسة الانضمام إلى التحلف مع الغرب، لأن إسرائيل كانت أداة تخويف ضد العرب. لكنني أرى أن تحليل حسين أبو النمل غير صحيح لأن اعتداءات إسراشيل كانت تحدث وتتكرر قبل الدعوة إلى الأحلاف. كذلك فإن الاعتداءات التي تعرض لها الأردن سنة 1953 ، أي قبل ظھور الدعوة لحلف بغداد بأكثر من سنة لم تكن أقل من تلك التي تعرض لها قطاع غزة؛ والأردن كان وقتذاك على تفاھم تام مع حكومة بغداد الملكية الهاشمية ، فضلا عن أن الجنرال غلوب باشا، كان على رأس الجيش الأردني يعاونه عدد من الضباط البريطانيين، ولم يغادر إلا بعد أزمة سنة 1957 . ولم يكن الأردن آنذاك معارضا لحلف بغداد. والذي أثبتته الوقائع في السنوات الأخيرة أن معظم الادارات الأميركية والسياسيين الأميركيين أدوات في يد إسرائيل والصهيونية العالمية ، وليس العكس.
- حول موقف الشيوعيين من قيام إسرائيل وتأييدھم لذلك أنظر : "موسى خليل ، "الحزب الشيوعي الفلسطيني، 1919- 1948 "، مجلة شئون فلسطينية العدد 39 ، تشرين الثاني (نوفمبر) ، 1974 ، ص 135 – 136 ، وانظر كذلك :الصفحات 126-136
- معين بسيسو ، "دفاتر فلسطينية 4 " ، مجلة شئون فلسطينية ، العدد 77 ، كانون الأول (ديسمبر) 1977 ، ص 107
- المصدر نفسه ص109
- لقد نوھت وكالات الأنباء خلال ذلك الأسبوع بدور الإخوان في المظاھرات المطالبة بعودة الإدارةالمصرية ، ونشرت بعض الصحف المصرية (الأھرام والأخبار والجمھورية) تصريحات لبعض من كانوا يقودون المظاھرات الإخوانية، ومنھم الشيخ هاشم الخازندار رحمه لله، حول إصرارھم على عودة الإدارة المصرية.ويؤسفني أن ھذه الصحف ليست تحت يدي الآن بينما أكتب ھذه السطور، لكن من أراد أن يتحقق يستطيع ذلك ببذل بعض الجهد ، سيما عندما يكون في دولة تتوفر ھذه المصادر في مكتباتها
- كمال عدوان في حديث مع طاهر عبد الحكيم ، "فتح الميلاد والمسيرة .. حديث مع كمال عدوان" ، مجلة شئون . فلسطينية ، العدد 17 ، كانون الثاني (يناير) 1973 ، ص 47
- أسعد السفطاوي لم يستطع أن يكمل دراسته ليحصل على الدرجة الجامعية الأولى لأن السلطات المصرية أبعدته بسبب انتمائه للإخوان. وقد كان أسعد من المجموعة التي شكلت كتيبة الفداء بزعامة سليم الزعنون، قبل نشأة "فتح" بسنوات، كما أشرنا في الفصل الأول من ھذا الكتاب.
- لقد زار فلسطين وفد إخواني ضم عبد الرحمن البنا (شقيق المرشد المؤسس)، ومحمد أسعد الحكيم سنة 1935 ، أنظر : الإمام الشهيد حسن البنا ، مذكرات الدعوة والداعية بيروت:الطبعة الثانية 1966 ، ص 138/192
- أنظر طلال سلمان ، مع فتح والفدائيين (بيروت: دار العودة، 1969) ، ص 11-12 ففيه النص الكامل لحديث ياسر عرفات
- ورد حديث السيد محمد يوسف النجار عن ھذه النقطة في مقابلة أجرتھا معه السيدة بيان نويهض الحوت، ونشرت في مجلة شئون فلسطينية ، العدد 33 ، أيار (مايو) 1974 ، ص 17-18 بعنوان : أبو يوسف ، "حياته .. مسئولياته ومعتقداته السياسية."،
- التقيت السيد أبو إياد ، صلاح خلف رحمه لله في اجتماع حضرته بعد دخولي في عضوية المجلس الوطني، والمجلس المركزي الفلسطيني سنة في نيسان (أبريل) 1987 ، فلما رآني تقدم وصافحني بحرارة وقال: " أھنئك على عمل ھذا الكتاب العظيم" ، أي ھذا الكتاب الذي بين يدي القارئ ، وقد اعتبرت ما قاله نوعا من المجاملة، فشكرته ؛ لكن الأھم من المجاملة أنه لم يثر أي اعتراض أو تعليق سلبي بالنسبة للكتاب ، وكان يستطيع ذلك بكل تأكيد لو أراد .
- أنظر [[مبارك الخاطر] ، الكتابات الأولى الحديثة لمثقفي البحرين 1875– 1925 (البحرين:1978 ، ص 39 - 55) وقد بدأوا يراسلون المنار منذ سنة 1903
- أنظر عبد الرحمن الباكر ، من البحرين إلى المنفى (بيروت: ذار مكتبة الحياة) ، ص 59-65
- أنظر عبد الرحمن الباكر ، ص 60
- الذي أكد وجود ھذه العلاقة ھو السيد عبد الرحمن الباكر نفسه ، أمين لجنة الهيئة الشعبية العليا ؛ أنظر نفس كتابه ، 41-43
- أنظر عبد الرحمن الباكر ، ص 99 . ومعنى ذلك أن الإنكليز حرصوا على أن لا يظھروا بمظھر المعارض لبعض المطالب الشعبية التي تبدو مقبولة ، وربما كان يسرھم أن يشعر الحاكم أنه بحاجة إليھم، فتركوا التوتر يتفاقم ، ولم يتدخلوا إلا عندما اتجهت الأحداث إلى الخروج عن نطاق السيطرة .
- نشر البيان في جريدة النهار البيروتية الصادرة في 3/9/1965 مذيلا بتوقيع عصام العطار
- كان استعمال تعبير "خبراؤنا العسكريون" مما لم أرتح لسماعه ولم أقو على ابتلاعه ، وقد تأكد لي صدق شعوري فيما بعد ، إذ تبين أن تنظيمات الإخوان ھي الأخرى كان يهول بعضها على أحيانا ويخفي حقيقة قدراته وإمكاناته
- لقد انضم بعض هذه التنظيمات واحتفظ عدد آخر باستقلاله ساعيا للسيطرة والغلب على الساحة مما اوجد حالة من الصراع غير المحمود وعن أسماء المنظمات وأفكارها أنظر: غازي خورشيد دليل حركة المقاومة الفلسطينية ،منظمة التحريرالفلسطينية مركز الأبحاث ، 1971 ، ويستغرق التعريف بالمنظمات كل صفحات الكتاب .
- أنظر خالد الحسن ، الاتفاق الأردني الفلسطيني ، ص 56
- هذا تعبير بالعامية الدارجة،المستخدمة في الأقطار الشامية الأربعة، يعني : أن لي عليهم دالة تحملهم على الاستجابة.
- مجلة فلسطيننا ، العدد 13 ، كانون الثاني (يناير) ، 1961
- جريد البعث الصادرة في دمشق صباح يوم 4/4/1965
- فلسطيننا ، العدد 12 ، كانون الأول (ديسمبر) 1960
- المصدر نفسه ، العدد 17 ، أيار 1961
- دليل حركة المقاومة الفلسطينية (إعداد غاززي خورشيد) ص 22-23 والدليل من إصدار مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير ، (بيروت : آذار (مارس) 1971)
- المصدر نفسه ، ص 38
- طلال سلمان ، مع فتح والفدائيين (بيروت) دار العودة ، 1969 ، ص 11-12والكتاب عبارة عن تسجيل لمجموعة مقابلات سبق نشرھا في جريدة الأنوار البيروتية . وطلال سلمان صحفي صار وما زال رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية.
- أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ، أسباب نزول القرآن ، تحقيق السيد أحمد صقر ، لجنة إحياء التراث الإسلامي، ( لا ت.، لا م. ) ،. دار الكتاب الجديد ، ص 436
- لا مراء في أن بعض عناصر ومظاھر الحدث التاريخي تتكرر أحيانا ، وقد تكررت بالفعل ، وھناك أمثلة كثيرة حفظتھا لنا كتب التاريخ ، ييد أن التكرار والتشابه جزئي فقط ، وقد لا يتعدى المظھر والشكل الخارجي إلى الجوھر؛ ذلك لأن الحدث التاريخي لا يقع في فراغ ، وإنما يقع متشابكا مع كثير من الوقائع والحوادث والعناصر ، متأثرا بكثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وھذه العناصر لا يمكن أن تتكرر كلھا مجتمعة دفعة واحدة . لذا فإن اختلاف عدد من العناصر المكونة للحدث ، والوقائع المؤثرة فيه، حتى ولو كان عددھا قليلا ،سيجعل التشابه جزئيا وشكليا ، كما ذكرنا .